الْفَصْلُ الثَّالِثُ

(١) الطِّفْلَةُ الْمُحْسِنَةُ

لَقَدْ رَوَيْتُ لَكَ — أَيُّهَا الصَّدِيقُ الْعَزِيزُ — طَرَفًا يَسِيرًا مِمَّا مَرَّ بِي فِي حَيَاتِيَ الْمَاضِيَةِ. وَإِنَّي لَقَاصَّةٌ عَلَيْكَ طَائِفَةً مِنْ أَخْبَارِيَ الرَّاهِنَةِ لِأَصِلَ الْمَاضِيَ بِالْحَاضِرِ:

فَاعْلَمْ — أَيُّهَا الصَّبِيُّ الْبَارِعُ النَّشِيطُ — عَلِمْتَ الْخَيْرَ، وَسَلِمْتَ مِنْ كُلِّ ضَيْرٍ: أَنَّنِي قَدْ أَصْبَحْتُ مُرْتَاحَةً فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ مِنْ كُلِّ عَنَاءٍ. فَلَا يَجْهَدُنِي أَحَدٌ بِعَمَلٍ مُضْنٍ (مُمْرِضٍ) لِأَنَّنِي مَعْنِيَّةٌ بِتَرْبِيَةِ وَلَدِيَ الصَّغِيرِ: «زَادِ الرَّكْبِ» الَّذِي حَدَّثْتُكَ عَنْهُ. وَقَدْ قَالَتْ عَنْهُ «سُعَادُ» بِنْتُ صَاحِبِ الدَّسْكَرَةِ (بِنْتُ صَاحِبِ الْأَرْضِ الَّتِي نَعْمَلُ فِيهَا): إِنَّهُ يُشْبِهُنِي كَثِيرًا، وَفِي أَسْفَلِ وَجْهِهِ مِثْلُ تِلْكَ الْبُقْعَةِ الْبَيْضَاءِ الَّتِي تَمَيَّزْتُ بِهَا. وَإِنَّ «سُعَادَ» لَا تَخَافُنِي أَبَدًا، وَإِنْ كَانَتْ صَغِيرَةِ الْجِسْمِ جِدًّا، وَأَنَا كَبِيرَةُ الْحَجْمِ جِدًّا. وَهِيَ تَرَانِي أُقْبِلُ عَلَيْهَا كُلَّمَا جَاءَتْ إِلَى الدَّسْكَرَةِ (الْمَزْرَعَةِ). وَلَا عَجَبَ فِي ذَلِكَ فَإِنَّ يَدَيْهَا لَا تَخْلُوَانِ مِنْ حُفْنَةٍ (مِقْدَارِ مِلْءِ كَفَّيْهَا) مِنَ الشَّعِيرِ، أَوْ كِسْرَةٍ مِنَ الْخُبْزِ، أَوْ قَلِيلٍ مِنَ الْمِلْحِ، أَوْ حُزْمَةٍ مِنَ الدَّرِيسِ، وَمَا إِلَى ذَلِكَ مِنْ أَلْوَانِ الْأَطْعِمَةِ الَّتِي أُحِبُّهَا. وَهِيَ تُكْثِرُ مِنَ التَّوَدُّدِ (التَّحَبُّبِ) إِلَيَّ.

(٢) بَيْنَ «قَسَامَةَ» وَ«زَادِ الرَّكْبِ»

هَا هُوَ ذَا «شَفِيقٌ» قَادِمًا لِيُنَظِّفَنِي، وَيَحُسَّنِي (يَنْفُضَ التُّرَابَ عَنِّي) قَبْلَ أَنْ أَذْهَبَ إِلَى الْمَرْعَى. إِنَّهُ يَعْلَمُ كَمْ أَبْتَهِجُ حِينَ يَمْشُطُ شَعْرِي كُلَّ صَبَاحٍ، سَوَاءٌ فِي أَوْقَاتِ الرَّاحَةِ وَالْعَمَلِ. وَإِنَّ مُهْرِيَ الصَّغِيرَ لَتَمْتَلِئُ نَفْسُهُ مَرَحًا وَسُرُورًا كُلَّمَا خَرَجَ مَعِيَ إِلَى الْمَرْعَى. لَقَدْ نَمَا سَرِيعًا فِي زَمَنٍ قَصِيرٍ، وَطَالَتْ أَقْدَامُهُ بِالْقِيَاسِ إِلَى جِسْمِهِ. وَهُوَ فِي جِنِّ نَشَاطِهِ (عُنْفُوَانِهِ وَقُوَّتِهِ)، فَلَا يُطِيقُ أَنْ يُحْبَسَ فِي مَرْبَطِهِ دُونَ أَنْ يَجْرِيَ فِي الْمَرْعَى كَمَا يَشَاءُ.

وَقَدْ سَأَلَنِي ذَاتَ يَوْمٍ: «لِمَاذَا لَا يَتْرُكُونَنَا خَارِجَ الْإِصْطَبْلِ — لَيْلَ نَهَارَ — يَا أُمَّاهُ؟» فَأَجَبْتُهُ: «لِأَنَّ الْبَرْدَ — فِي هَذَا الْفَصْلِ — قَارِسٌ (شَدِيدٌ). وَمَتَى انْصَرَمَ (انْتَهَى) الْفَصْلُ، فَإِنَّنَا نَعِيشُ خَارِجَ الْحَظِيرَةِ لَيْلَ نَهَارَ.»

مَا أَعْجَبَ أَمْرَ هَذَا الطِّفْلِ، وَمَا أَشَدَّ وُلُوعَهُ وَشَغَفَهُ بِالْفَضَاءِ وَالْحَرَكَةِ. لَقَدْ سَمِعَ صَوْتَ السَّائِسِ — وَهُوَ يَفْتَحُ بَابَ الْحَظِيرَةِ — فَاسْتَوْلَى عَلَيْهِ الْمَرَحُ، وَتَمَلَّكَتْهُ الْبَهْجَةُ، وَظَلَّ يَقْفِزُ وَيَجْرِي مَسْرُورًا، وَيَرْفُسُ أَرْجُلَهُ — بَعْضَهَا بِبَعْضٍ — مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ.

(٣) أَبُو زِيَادٍ

ثُمَّ وَقَفَ فَجْأَةً — مِقْدَارَ لَحْظَةٍ — وَنَظَرَ وَرَاءَهُ مَدْهُوشًا. فَالْتَفَتُّ فَرَأَيْتُ «شَفِيقًا» يُخْرِجُ مِنَ الْإِصْطَبْلِ ذَلِكَ الْحِمَارَ الْمِسْكِينَ الَّذِي شُغِلْتُ بِأَمْرِهِ طُولَ لَيْلَتي. وَمَا كَادَ وَلَدِي يَرَاهُ حَتَّى سَأَلَنِي: «مَا اسْمُ هَذِهِ الدَّابَّةِ الْعَجُوزِ؟ وَهَلْ يُصِيبُنَا مِنْهَا ضَرَرٌ؟»

فَقُلْتُ لَهُ مُبْتَسِمَةً: «كَلَّا، أَيُّهَا الْأَبْلَهُ الْعَزِيزُ. إِنَّهُ ابْنُ عَمٍّ لَنَا، وَقَدْ لَقِيَ مِنْ سُوءِ الْمُعَامَلَةِ شَيْئًا كَثِيرًا، كَمَا يَبْدُو (كَمَا يَظْهَرُ) مِنْ هُزَالِ جِسْمِهِ وَضَعْفِ قُوَّتِهِ.»

(٤) حَيْرَةُ الضَّيْفِ

ثُمَّ مَشَيْتُ مُتَّجِهَةً إِلَى الضَّيْفِ حَتَّى دَانَيْتُهُ (قَارَبْتُهُ)، فَقُلْتُ لَهُ فِي تَلَطُّفٍ وَتَوَدُّدٍ: «سُعِدَ صَبَاحُكَ يَا «أَبَا زِيَادٍ»! لَعَلَّ صِحَّتَكَ الْيَوْمَ أَحْسَنُ مِنْهَا أَمْسِ!» وَكَأَنَّ هَذَا الْمَخْلُوقَ التَّاعِسَ لَمْ يَأْلَفْ مِثْلَ هَذَا التَّوَدُّدِ وَتِلْكَ الْمُلَاطَفَةِ، فَلَمْ يَعْرِفْ كَيْفَ يُجِيبُ، وَلَا مَاذَا يَقُولُ. فَاسْتَأْنَفْتُ قَائِلَةً: «أَخْشَى أَنْ تَكُونَ قَدْ لَقِيتَ مِنَ الْمَتَاعِبِ مَا أَعْجَزَكَ وَنَاءَ بِهِ احْتِمَالُكَ (مَا لَمْ تُطِقْ حَمْلَهُ)! أَلَا تُحِبُّ أَنْ تَنْتَحِيَ (تَقْصِدَ) بِنَا هَذِهِ النَّاحِيَةَ الْمُشْمِسَةَ، لِنَتَحَدَّثَ مَعًا، قَلِيلًا مِنَ الْوَقْتِ.»

فَتَوَقَّف لَحَظَاتٍ قَلِيلَةً يُفَكِّرُ، وَقَدْ بَدَتْ (ظَهَرَت) الْحَيْرَةُ عَلَى وَجْهِهِ، كَأَنَّمَا كَانَ يَتَرَدَّدُ فِي تَصْدِيقِ مَا سَمِعَ، وَيُرِيدُ أَنْ يَتَثَبَّتَ مِنْ صِدْقِ مَوَدَّتِي، وَيَسْتَوْثِقَ مِمَّا أَقُولُ. فَأَجَابَنِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ (مُسْتَحِيًا): «لَكِ مَا تُرِيدِينَ — يَا سَيِّدَتِي — فَمَا أَرَى بَأْسًا فِيمَا تَقْتَرِحِينَ!»

(٥) جَمَالُ الطَّبِيعَةِ

فَقُلْتُ لَهُ: «هَلُمَّ إِلَيَّ (أَقْبِلْ عَلَيَّ)، فَإِنَّ الْجَوَّ صَحْوٌ (إِنَّ سَمَاءَهُ صَافِيَةٌ لَا غَيْمَ فِيهَا). وَلَا شَكَّ فِي أَنَّ مِثْلَ هَذَا الصَّبَاحِ السَّعِيدِ كَفِيلٌ بِأَن يُدْخِلَ الْهَنَاءَ وَالْبَهْجَةَ فِي قَلْبِ أَشَدِّ الْكَائِنَاتِ حُزْنًا وَتَعَاسَةً. أَلَا تُصْغِي إَلَى الطُّيُورِ، وَهِيَ فَوْقَ الْأَغْصَانِ، وَفِي أَعْلَى السُّورِ؟ اسْتَمِعْ إِلَى صَوْتِ الْقُنْبُرَةِ فِي السَّمَاءِ. وَانْظُرْ إِلَى الْأَوْرَاقِ الْمُخْضَرَّةِ، وَهِيَ تَرْفَعُ رُءُوسَهَا، لِتُشْرِفَ عَلَى الْعَالَمِ مِنْ أَكْمَامِهَا الَّتِي تَفَتَّحَتْ. وَتَأَمَّلْ هَذِهِ الْأَزْهَارَ الْبَاسِمَةَ، وَإِلَى جَانِبِهَا الْوُرُودَ وَهِيَ تَفْتَحُ أَعْيُنَهَا مُبْتَهِجَةً لِتُحَيِّيَ الشَّمْسَ.»

(٦) سِنُّ الْفِطَامِ

فَلَمْ يُحِرْ (لَمْ يَرُدَّ) جَوَابًا، بَلْ قَفَزَ بِجِوَارِي. وَكُنْتُ وَاقِفَةً في زَاوِيَةٍ قَصِيَّةٍ (بَعِيدَةٍ) فِي الْحَقْلِ، حَيْثُ الْحَشَائِشُ اللَّذِيذَةُ قَدْ بَلَّلَهَا النَّدَى. فَقُلْتُ لَهُ: «الْآنَ نَبْدَأُ فَطُورَنَا، ثُمَّ نَرْقُدُ شَيْئًا (بَعْضَ الْوَقْتِ) رَيْثَمَا يَمْتَعُ (يَنْعَمُ) وَلَدِي «زَادُ الرَّكْبِ» بِالْجَرْيِ فِي هَذَا الْمَرْعَى الْخَصِيبِ! لَقَدْ غَذَوْتُهُ بِلَبَانِي قَبْلَ أَنْ أَخْرُجَ بِهِ مِنَ الْإِصْطَبْلِ.»

فَسَكَتَ «أَبُو زِيَادٍ». وَلَبِثْنَا شَيْئًا (زَمَنًا قَلِيلًا)، نَأْكُلُ فِي صَمْتٍ. وَهَمَمْتُ مَرَّةً أُخْرَى أَنْ أَدْفَعَهُ إِلَى الْكَلَامِ. وَلَكِنَّهُ ابْتَدَرَنِي (أَسْرَعَ إِلَيَّ) قَائِلًا: «كَيْفَ تُرْضِعِينَ هَذَا الْمُهْرَ، وَهُوَ — فِيمَا يَبْدُو لِي — قَدْ جَاوَزَ سِنَّ الرَّضَاعِ؟ كَمْ عُمْرُهُ الْآنَ؟»

فَقُلْتُ لَهُ: «سِتَّةُ أَسَابِيعَ فَقَطْ. وَيَظْهَرُ أَنَّهُ اسْتَمْرَأَ دَرِّي (اسْتَطَابَ لَبَنِيَ) الدَّسِمَ (الْكَثِيرَ السَّمْنِ)، فَقَدْ نَمَّاهُ لَبَنِي وَأَسْمَنَهُ. وَلَنْ أَفْطِمَهُ قَبْلَ أَنْ يُتِمَّ الشَّهْرَ الرَّابِعَ مِنْ عُمْرِهِ عَلَى الْأَقَلِّ.»

(٧) الْحَوَافِرُ وَالْأَظْلَافُ

فَقَالَ: «وَلِمَاذَا؟» فَقُلْتُ: «لَا بُدَّ أَنْ أُرْضِعَهُ حَتَّى يَسْتَبْدِلَ بِأَسْنَانِهِ اللَّبَنِيَّةِ أَسْنَانَهُ الْحَقِيقِيَّةَ، الَّتِي يَأْكُلُ بِهَا الطَّعَامَ الصُّلْبَ وَيَمْضُغُهُ. وَلَنْ يَتِمَّ لَهُ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ تَنْقَضِيَ تِلْكَ الْمُدَّةُ، مَا أَعْجَبَ سُؤَالَكَ، يَا أَبَا زِيَادٍ! لَقَدْ كُنْتُ أَحْسَبُكَ عَارِفًا تَفْصِيلَ هَذَا كُلِّهِ، لِأَنَّكَ تُنْسَبُ إِلَى أُسْرَتِنَا.»

فَقَالَ مُتَعَجِّبًا مِمَّا سَمِعَ: «أَكَذَلِكِ تَعْتَقِدِينَ؟ أَنْتِ فَرَسٌ! أَلَيْسَ كَذَلِكِ؟» فَقُلْتُ لَهُ: «صَدَقْتَ. وَأَنْتَ مَنْ تَكُونُ؟ إِنَّ الْفَرَسَ وَالْحِمَارَ يَنْتَسِبَانِ إِلَى أُسْرَةٍ وَاحِدَةٍ. وَحَسْبُكَ دَلِيلًا عَلَى صِدْقِ مَا حَدَّثْتُكَ بِهِ: أَنَّنَا جَمِيعًا مِنْ ذَوَاتِ الْحَافِرِ (الظِّلْفِ غَيْرِ الْمَشْقُوقِ). أَلَا تَرَى أَقْدَامَنَا لَيْسَ فِيهَا أَصَابِعُ. وَلَا كَذَلِكَ صَوَاحِبُنَا ذَوَاتُ الْأَظْلَافِ، أَعْنِي: ذَوَاتِ الْحَوَافِرِ الْمَشْقُوقَةِ: كَالنَّعْجَةِ وَالْبَقَرَةِ وَالْغَزَالِ وَالْمِعْزَى وَالْغَنَمِ وَالْجَامُوسِ.

figure

إِنَّ الْحَافِرَ لِأَبْنَاءِ أُسْرَتِنَا هُوَ بِمَنْزِلَةِ الظِّلْفِ الَّذِي تَمْتَازُ بِهِ أُسْرَةُ الْبَقَرَةِ وَالشَّاةِ وَالظَّبْي وَشِبْهِهَا. وَالْحَافِرُ وَالظِّلْفُ كِلَاهُمَا لِلدَّابَّةِ بِمَنْزِلَةِ الْقَدَمِ لِلْإِنْسَانِ. وَهِذِهِ الدَّوَابُّ تَشْرَكُنَا فِي أَكْلِ الْحَشَائِشِ وَتَخْتَلِفُ عَنَّا بِفَرْوَتِهَا.

أَمَّا ذَوَاتُ الْأَخْفَافِ كَالْجَمَلِ وَالنَّعَامِ، فَإِنَّ حَوَافِرَنَا تَمْتَازُ عَنْ أَخْفَافِهَا بِالصَّلَابَةِ، كَمَا تَمْتَازُ ذَوَاتُ الْأَظْلَافِ بِفَرْوَتِهَا عَنَّا وَعَنْ غَيْرِنَا مِنْ ذَوَاتِ الْأَخْفَافِ.

فَكَيْفَ جَهِلْتَ هَذِهِ الْبَسَائِطَ (الْمَعْلُومَاتِ الْأَوَّلِيَّةَ)، وَلِمَاذَا نَسِيتَهَا — يَا أَبَا زِيَادٍ — وَهِيَ لَا تَكَادُ تَخْفَى عَلَى أَحَدٍ؟»

(٨) أَسْنَانُ الدَّوَابِّ

وَمَا كَانَ أَجْدَرَكَ أَنْ تَعْرِفَ شَيْئًا عَنْ أَسْنَانِنَا — مَعْشَرَ الْخَيْلِ — فَإِنَّهَا تَتَبَدَّلُ فِي نَفْسِ الْأَوْقَاتِ الَّتِي تَتَبَدَّلُ فِيهَا أَسْنَانُكُمْ، فِي زَمَنِ طُفُولَتِنَا وَطُفُولَتِكُمْ عَلَى السَّوَاءِ.

فَقَالَ «أَبُو زِيَادٍ»، وَقَدْ تَمَلَّكَهُ الْعَجَبُ (اسْتَوْلَتْ عَلَيْهِ الدَّهْشَةُ): «أَكَذَلِكِ نَحْنُ وَأَنْتُمْ؟ مَا كُنْتُ لِأَعْلَمَ هَذَا مِنْ قَبْلُ. وَغَايَةُ مَا عَرَفْتُهُ: أَنَّهُ كَانَ لِي أَرْبَعُ أَسْنَانٍ حِينَ كَانَتْ سِنِّي خَمْسَةَ أَيَّامٍ، ذَلِكِ مَا حَدَّثَتْنِي بِهِ أُمِّي، وَلَوْلَاهَا مَا عَرَفْتُهُ.»

فَقُلْتُ لَهُ: «ذَلِكَ حَقٌّ لَا رَيْبَ فِيهِ: كَانَتْ لَكَ أَرْبَعُ أَسْنَانٍ — حِينَئِذٍ — كَمَا كَانَتْ لَنَا جَمِيعًا. وَلَكِنَّهَا لَمْ تَكُنْ إِلَّا أَنْيَابًا أَعْنِي: أَسْنَانًا مُدَبَّبَةً، لَا تُفِيدُ شَيْئًا، وَلَا تَصْلُحُ لِمَضْغِ الطَّعَامِ. وَمَتَى تَمَّ نَمَاؤُنَا أَصْبَحَ لِكُلٍّ مِنَّا سِتَّةُ أَضْرَاسٍ فِي آخِرِ فَكَّيْنَا. وَهِيَ نَافِعَةٌ لِلْقَضْمِ (لِتَكْسِيرِ الطَّعَامِ الْيَابِسِ بِأَطْرَافِهَا)، كَمَا أَنَّهَا نَافِعَةٌ لِلتَّقْطِيعِ، وَلَنْ نَسْتَطِيعَ أَنْ نَأْكُلَ طَعَامَنَا، إِذَا لَمْ يَكُنْ لَنَا تِلْكَ الْأَضْرَاسُ الْقَوَاطِعُ الَّتِي تَرَاهَا فِي آخِرِ الْحَنَكِ، وَبِغَيْرِهَا لَا نَسْتَطِيعُ أَنْ نَطْحَنَ الطَّعَامَ.»

(٩) حِوَارُ الصَّدِيقَيْنِ

فَقَالَ «أَبُو زِيَادٍ» وَهُوَ يَقْضُمُ الْحَشَائِشَ (يَكْسِرُهَا بِأَطْرَافِ أَسْنَانِهِ): «هَذَا حَقٌّ لَا رَيْبَ (لَا شَكَّ) فِيهِ! لَقَدْ مَرَّ بِي ذَلِكِ الْعَهْدُ. وَيَظْهَرُ لِي أَنَّكِ تَعْلَمِينَ كَثِيرًا مِنَ الْحَقَائِقِ الْمُمْتِعَةِ. فَخَبِّرِينِي — يَا ابْنَةَ عَمِّ — مَتَى جِئْتِ إِلَى هَذِهِ الضَّيْعَةِ؟»

فَأَجَبْتُهُ وَقَدْ دَهِشْتُ مِنْ سَذَاجَتِهِ: «لَقَدْ وُلِدْتُ فِيهَا. فَخَبِّرْنِي — يَا ابْنَ عَمَّ — مِنْ أَيِّ مَكَانٍ حَضَرْتَ؟»

فَأَجَابَنِي، وَهُوَ يَحُكُّ ظَهْرَهُ فِي أَحَدِ الْعَمَدِ الْمُثْبَتِ بِهَا سُورُ الْمَرْعَى: «ذَلِكِ مَا لَمْ أَتَثَبَّتْ مِنْهُ. لَقَدْ مَرَرْتُ بِمَوَاطِنَ وَبُلْدَانٍ كَثِيرَةٍ، فَلَمْ أَسْتَطِعْ — عَلَى التَّحْقِيقِ — أَنْ أَذْكُرَ: فِي أَيِّ مَوْطِنٍ وُلِدْتُ!

وَلَسْتُ أَدْرِي مِنَ الْمَعَارِفِ مَا تَدْرِينَ، وَلَا أَعْلَمُ مِنَ الْحَقَائِقِ مِقْدَارَ مَا تَعْلَمِينَ. وَلَكِنِّي — عَلَى ذَلِكِ — أَعْرِفُ أَشْيَاءَ أُخَرَ، مَا أَظُنُّكِ تَعْرِفِينَهَا؟ فَقَدْ رَأَيْتُ — لِتَعَاسَتِي — كَثِيرًا مِنْ بِقَاعِ الْأَرْضِ؛ وَأَدْرَكْتُ — لِشَقَاوَتِي — كَثِيرًا مِنْ حَقَائِقِ الْحَيَاةِ، وَدِدْتُ لَوْ جَهِلْتُهَا أَوْ نَسِيتُهَا.

(١٠) أَبُو تَوْلَبٍ

إِنَّ النَّاسَ يَصِفُونَنِي بِالْغَبَاوَةِ، وَلَعَلَّنِي كَمَا يَصِفُونَ. وَلَكِنَّنِي لَا أَحْسَبُنِي قَدْ وُلِدْتُ أَبْلَهَ أَوْ غَبِيًّا. فَكَيْفَ تَحْكُمِينَ يَا ابْنَةَ عَمَّ؟»

فَقُلْتُ لَهُ: «كَلَّا، بَلْ ظَلَمُوكَ يَا «أَبَا زِيَادٍ»، فَمَا أَنْتَ عَلَى التَّحْقِيقِ بِأَبْلَهَ وَلَا غَبِيٍّ. وَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّ جِنْسَكَ مَعْرُوفٌ — بَيْنَنَا — بِالذَّكَاءِ وَالصَّبْرِ عَلَى احْتِمَالِ الشَّدَائِدِ، مَوْصُوفٌ — عِنْدَنَا — بِدَمَاثَةِ الْخُلُقِ (لِينِ الطَّبْعِ) وَنَقَاءِ السَّرِيرَةِ (صَفَاءِ السِّرِّ الَّذِي يُضْمِرُهُ فِي نَفسِهِ). وَقَدْ حَدَّثَنِي أَحَدُ أَصْدِقَائِيَ الْقُدَمَاءِ، وَاسْمُهُ: «دَهْمَانُ» بِذِكْرَيَاتٍ مُعْجِبَةٍ قَصَّهَا عَلَيْهِ أَحَدُ أَبْنَاءِ أَعْمَامِنَا الْمُتَوَفَّيْنَ (الْمَيِّتِينَ) مِنَ الْحَمِيرِ، يُكْنَى: «أَبَا تَوْلَبٍ». وَمَا أَشُكُّ فِي أَنَّكَ لَوْ سَمِعْتَ قِصَّتَهُ وَخَوَاطِرَهُ، لَأَيْقَنْتَ أَنَّ هَذَا الْحِمَارَ، كَانَ أَذْكَى دَابَّةٍ عُرِفَتْ فِي تَارِيخِنَا — مَعْشَرَ الدَّوَابِّ — الْحَافِلِ بِالْغَرَائِبِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا. وَمَا أَحْسَبُ أَنَّ حِمَارًا، كَائِنًا مَا كَانَ، قَدْ لَقِيَ — مِنْ مَصَائِبِ الدُّنْيَا وَأَحْدَاثِهَا — مِثْلَ مَا لَقِيَ هَذَا الْحَيَوَانُ العَالِمُ الشَّقِيُّ.»

(١١) أُمُّ شَحَّاجٍ

وَلَا أَكْتُمُكَ أَنَّنِي طَالَمَا أَبْصَرْتُ سَائِسَنَا «شَفِيقًا» يُعْجَبُ بِأُمِّ شَحَّاجٍ الَّتِي فِي ضَيْعَتِنَا، وَطَالَمَا قَالَ عَنْهَا: «إِنَّهَا أَذْكَى دَابَّةٍ رَآهَا، وَأَفْطَنُ حَيَوَانٍ عَرَفَهُ. وَهُوَ يُؤْثِرُ رُكُوبَ هَذِهِ الْأَتَانِ (الْحِمَارَةِ) — لِوَدَاعَتِهَا وَطَوَاعِيَتِهَا — وَيُفَضِّلُهَا عَلَى دَوَابِّ الدَّسْكَرَةِ كُلِّهَا. وَهِيَ فِي ضَيْعَتِنَا مُوفُورَةُ الرَّاحَةِ، فَلَا تَرَى أَحَدًا يُرْهِقُهَا (يُجْهِدُهَا) بِالْأَثْقَالِ. وَلَيْسَ لَهَا مِنْ عَمَلٍ يَشْغَلُهَا إِلَّا مَرْكَبَةٌ صَغِيرَةٌ تَجُرُّهَا، يَسْتَقِلُّهَا (يَرْكَبُهَا) أَطْفَالُ صَاحِبِ الضَّيْعَةِ حِينَ يَذْهَبُونَ إِلَى الْمَدْرَسَةِ، وَحِينَ يَعُودُونَ.»

(١٢) شَكْوَى أَبِي زِيَادٍ

فَقَالَ «أَبُو زِيَادٍ» مُتَرَوِّيًا (مُتَأَنِّيًا مُفَكِّرًا): «إِنَّ حَظَّهَا أَسْعُدَ مِنْ حَظِّي. أَلَا شَدَّ مَا اخْتَلَفَ الْقِسْمُ (مَا أَبْعَدَ نَصِيبَ هَذَا مِنْ ذَاكَ). وَمَا أَغْرَبَ تَوْزِيعَ الْحُظُوظِ: حِينَ تُغْرِقُ بِالسَّعَادَةِ قَوْمًا، وَبِالشَّقَاءِ آخَرِينَ! أَمَا لَوْ عَلِمْتِ مَا تَعَرَّضْتُ لَهُ مِنْ كَوَارِثَ (مَصَائِبَ) وَأَحْدَاثٍ (أَحْوَالٍ وَشُئُونٍ)، لَعَجِبْتِ مِنْ طُولِ تَجَلُّدِي وَاحْتِمَالِي وَصَبْرِي عَلَى الْمَكَارِهِ، وَاسْتَوْلَى عَلَيْكِ الدَّهَشُ مِمَّا كَابَدْتُهُ (قَاسَيْتُهُ) مِنَ الْأَهْوَالِ وَالْفَوَاجِعِ!»

فَقُلْتُ لَهُ: «مِسْكِينٌ أَنْتَ يَا «أَبَا زِيَادٍ» الْعَزِيزُ! ارْقُدْ هُنَا، وَقُصَّ عَلَيَّ حَدِيثَكَ الْعَجِيبَ، دُونَ أَنْ تَنْقُصَ مِنْهُ شَيْئًا. فَلَعَلَّكَ تَشْعُرُ بِبَعْضِ الرَّاحَةِ وَالطُّمَأْنِينَةِ، حِينَ تُفْضِي إِلَيَّ (تُخْبِرُنِي) بِذِكْرَيَاتِكَ وَخَوَاطِرِكَ الْحَزِينَةِ.»

فَقَالَ «أَبُو زِيَادٍ»: «لَقَدْ شَوَّقْتِنِي — يَا أُمَّ «سَوَادَةَ» — إِلَى حَدِيثِ «أَبِي تَوْلَبٍ»: ذَلِكِ الْحِمَارِ الْعَالِمِ الذَّكِي. فَخَبِّرِينِي بِمَا قَصَّهُ عَلَيكِ صَاحِبُكِ: «دَهْمَانُ» مِنْ أَخْبَارِهِ، وَإِنِّي مُحَدِّثُكِ بِأَمْرِي، فِيمَا بَعْدُ.»

فَقُلْتُ لَهُ، وَقَدِ اشْتَدَّ شَغَفِي لِسَمَاعِ قِصَّتِهِ: «إِنِّي قَاصَّةٌ عَلَيْكَ مَا تُرِيدُ مِنْ أَنْبَائِهِ الْمُعْجِبَةِ، بَعْدَ أَنْ تُفْضِي إِلَيَّ بِدِخْلَتِكَ (تُخْبِرُنِي بِمَا تُخْفِيهِ فِي قَرَارَةِ نَفْسِكَ)؛ فَإِنِّي — لِسَمَاعِ قِصَّتِكَ — لَعَلَى شَوْقٍ شَدِيدٍ.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤