الجاحظ١

(١) نَسبه وكُنيته

هو أبو عثمان عمرو بن بحر بن محبوب الكناني بالولاء، وإنما لقبُ «الجاحظ» لجحوظ عينَيه؛ أي بروزهما، وقد يُقال له «الحدقي» لكِبَر حدقتَيه أيضًا.

وكان جده محبوب رجلًا أسود، وكان جمَّالًا لعمرو بن قلع، وكان هو مولًى للقَلمَّس بن عمرو بن قلع الكناني الفقيمي الليثي.

(٢) مَقامه ومنزلته

ويُعَد الجاحظ سيِّد كُتاب العربية بلا مُنازع، وشيخ أدباء العرب بلا مُدافع، وإمام ذوي اللَّسَن والبيان وأهل الفصاحة والكلام، وكان من محاسن الدنيا ومفاخر الإسلام.

(٣) مولده ومنشؤه

وُلِد بالبصرة حوالَي سنة ١٥٩ﻫ/٧٧٥م، ونشأ ببغداد، وأخذ علومه ومعارفه عن شيوخ البلدَين وجِلَّة علمائهما وصفوة أهل الكلام فيهما، وتخصَّص في مذاهب الاعتزال على أستاذه أبي إسحاق إبراهيم بن سيار النظَّام، وحدَّث عن يزيد بن هارون والسري بن عبدويه وأبي يوسف القاضي والحجاج بن محمد بن حماد بن سلمة، وعنه روى أبو بكر عبد الله بن داود السجستاني ومحمد بن عبد الله بن أبي الدلهاب وأبو العباس محمد بن يزيد المبرد ويموت بن المزرع ابن أخته؛ أعني ابن أخت الجاحظ.

(٤) معارفه

أتقن فنونًا كثيرة، ويظهر أنه تعلَّم الفارسية وأجادها، وقرأ كُتُب الفلاسفة من اليونان والفُرس والروم والهند، ونظر في علوم الأوائل، ولم يُنقَل كتاب حتى عهده إلى العربية في أي علم وفي أي فن إلا قرأه وتمثَّله. وكان كثير الحفظ، واسِع الرواية، قويَّ الحجة، ناصع البرهان. ملأت تصانيفه الآفاق، وانتفع بها الخلق، وعمَّت فوائدها حتى لقد قيل: مما فضَّل الله به أمَّة محمد على غيرها من الأمم: عمر بن الخطاب بسياسته، والحسن البصري بعلمه، والجاحظ ببيانه.

(٥) صُحْبته بابن الزيات

وكان مُنقطعًا إلى الوزير محمد بن عبد الملك الزيَّات، مُنحرفًا عن أحمد بن أبي دؤاد لِما كان بين محمد وأحمد من الشنآن، فلما قُبض على محمد بن الزيَّات هرب الجاحظ، فقيل له: لمَ هربت؟ فقال: خِفتُ أن أكون ثانيَ اثنين إذ هما في التنُّور.

يُشير إلى التنُّور الذي صنعه ابن الزيَّات، وجعل فيه مسامير ليُعذِّب به خصومه فعُذِّب هو فيه حتى مات.

(٦) الجاحظ وابن أبي دؤاد

ولما أُتيَ بالجاحظ إلى أحمد بن أبي دؤاد بعد موت ابن الزيَّات دخل عليه مغلول العُنق بسلسلة، مقيَّد الرِّجلَين، في قميصٍ سمِلٍ؛ فلما وقع نظر ابن أبي دؤاد عليه قال: والله ما علِمتُك إلا مُتناسيًا للنعمة، كَفورًا للصنيعة، مَعدِنًا للمساوي، وما قصَّرتُ باستصلاحي لك، ولكن الأيام لا تصلح منك لفساد طويَّتك، ورداءة دخلتك، وسوء اختيارك، وغالِب طبعك. فقال الجاحظ: خفِّضْ عليك أيَّدك الله؛ فوالله لأن يكون لك الأمر عليَّ خيرٌ من أن يكون لي عليك، ولأن أُسيئ وتُحسِن أحسنُ في الأُحدوثة عنك من أن أُحسنَ وتُسيء، ولأن تعفوَ عني في حال قدرتك أجملُ بك من الانتقام مني. فقال ابن أبي دؤاد: قبَّحك الله؛ فوالله ما علِمتُك إلا كثير تزويق اللسان، وقد جعلتَ بيانك أمام قلبك ثم اضطغنت فيه النفاق والكفر. يا غلام، صِرْ به إلى الحمَّام وأمِط عنه الأذى.

فنُزع عنه الغُل والقَيد، وأُدخلَ الحمَّام، وحُمِل إليه تخت من ثياب وطويلة وخُف، فلبس ذلك، ثم جاءه فصدَّره في مجلسه، ثم أقبل عليه، وقال: هاتِ الآن حديثك يا أبا عثمان.

(٧) مذهبه في الاعتزال

انفرد الجاحظ بآراءٍ خاصة في علم الكلام، واختصَّ بمذهب في الاعتزال، وصار شيخ فِرقة من فِرَق المعتزلة تُسمَّى «الجاحظية» نسبةً إليه. ومما تفرَّد به القول بأن المعرفة طَباع، وهي مع ذلك فِعل العبد على الحقيقة، وقوله في سائر الأفعال إنها تُنسَب إلى العِباد على أنَّها وقعت منهم طَباعًا، وأنها وجبت بإرادتهم، وليس بجائزٍ أن يبلغ أحد ولا يعرف الله تعالى. والكفار عنده بين مُعاند، وبين عارف قد استغرقه حبُّه لمذهبه وعصبيته؛ فهو لا يشعر بما عنده من المعرفة بخلافه.

وتحدَّث عن نفسه فقال: قلت لأبي يعقوب الخزيمي: من خلق المعاصي؟ قال: الله. قلت: فمن عذَّب عليها؟ قال: الله. قلت: فلِمَ؟ قال: لا أدري والله.

•••

وقد ثارت بينه وبين مُخالفيه في الرأي من الملاحدة والمُرجئة والرافضة مُناظراتٌ عنيفة ومحاولاتٌ حادَّة تناوَلوه فيها بكل أنواع الشَّنع، ولكن النصر كان من نصيبه، والظَّفر في جانبه، ولم تقِف هجمات خصومه عليه في حياته، بل استمرَّت واشتدَّت بعد وفاته، غير أن أنصاره تمكَّنوا من رد تلك الهجمات، ودحض هاتيك الخصومات؛ فهذا أبو الحُسين الخيَّاط روى في كتابه «الانتصار» مُهاجمات لابن الراوندي تناوَل فيها بالطعن الجارح عقيدة الجاحظ، وكيف عقَّب الخيَّاط على هذه المطاعن والمثالب بردِّها على صاحبها ابن الراوندي؛ فممَّا رواه الخيَّاط قوله: ثم قال (يعني ابن الراوندي):

وأما الجاحظ فإنه يقول: «إنَّه مُحالٌ أن يُعدم الله الأجسام بعد وجودها، وإن كان أوجدها بعد عدمها.» قال: ومتى استحال أن يُعدَم الجسم بعد وجوده، استحال أيضًا وجوده بعد عدمه. وهذا كذبٌ على الجاحظ عظيم؛ وذلك أن قول الرجل إنما يُعرَف بحكاية أصحابه عنه أو بكُتبه، فهل وُجِد هذا القول في كتاب من كُتُبه؟ فإن كُتُب عمرو الجاحظ معروفةٌ مشهورة في أيدي الناس، أو هل حكاه عنه أحد من أصحابه؟ فإذا كان الرجل ميتًا فكُتُبه وأصحابه تُخبِر بخلاف ما قرفه به هذا الماجن الكذَّاب؛ فقد تبيَّن كذبه وبَهْته وجهله. ومن بعد، فمن قرأ كتاب عمرو الجاحظ في الرد على المشبِّهة، وكتابه في الأخبار وإثبات النبوة، وكتابه في نظم القرآن، عَلِم أنَّ له في الإسلام غَناءً عظيمًا لم يكُن الله عز وجل ليُضيعه له.

قلت: لعَمْري إنَّ القول ببقاء المادة وعدم تلاشيها قد أصبح في عصرنا هذا مذهبًا معروفًا يسلِّم به ويَدِين بصحة أُسُسه الكثيرُ من أكابر العلماء وفُحولهم في أوروبا وغيرها، ولهم على صحته من الأدلة والبراهين العلمية المبنية على البحث والاستقراء ما لا سبيل إلى دفعه أو إضعافه، إلا إذا جاء الزمن من الاكتشافات بما لم يخطر على بال، فينتصر المذهب الروحي على المذهب المادي؛ فإذا كان الجاحظ قد ارتأى هذا الرأي كان له فضل السبق إليه والقول به منذ أحد عشر قرنًا.

ثم قال صاحب «الانتصار» فيما يردُّ به على ابن الراوندي: وأما رميُك للجاحظ ببُغض الرسول فهو دليل على أنَّك لا تعرف المُحِب من المُبغِض، ولا الوليَّ من العدو؛ لأنَّه لا يعرف المُتكلمون أحدًا منهم نصر الرسالة واحتجَّ للنبوة بلَغ في ذلك ما بلَغه الجاحظ، ولا يُعرَف كتاب في الاحتجاج لنظم القرآن وعجيب تأليفه، وأنه حجة لمحمد على نبوَّته، غير كتاب الجاحظ، وهذه كُتُبه في إثبات الرسالة وكُتُبه في تصحيح مجيء الأخبار مشهورة. وهل يُستدلُّ على حب الرسول والإيمان به وتصديقه فيما جاء به بشيءٍ أوكدَ مما يُستدلُّ به على حب الجاحظ للرسول وتصديقه إياه؟

(٨) ومما ثلبه به خصومه تقرُّبًا إلى العامة والحشوة

قال ابن قتيبة: ثم نصير إلى الجاحظ، وهو آخِر المُتكلمين والمعابر على المُتقدمين، وأحسَنُهم للحجة استثارةً، وأشدُّهم تلطفًا لتعظيم الصغير حتى يعظم، وتصغير العظيم حتى يصغر، ويبلغ به الاقتدار إلى أن يعمل الشيء ونقيضه، ويحتجُّ بفضل السُّودان على البِيضان، وتجده يحتجُّ مرةً للعثمانية على الرافضة، ومرةً للزيدية على العثمانية وأهل السُّنة، ومرةً يُفضِّل عليًّا رضي الله عنه ومرةً يؤخِّره، ويقول: قال رسول الله ، ويُتبعه قال الجماز، وقال إسماعيل بن غزوان كذا وكذا من الفواحش، ويُجلُّ رسول الله عن أن يُذكَر في كتاب ذُكِرا فيه، فكيف في ورقة أو بعد سطر أو سطرَين؟

ويعمل كتابًا يذكُر فيه حُجَج النصارى على المسلمين، فإذا صار إلى الرد عليهم تجوَّز في الحجة كأنه إنما أراد تنبيههم على ما لا يعرفون، وتشكيك الضعَفة من المسلمين. وتجده يقصد في كُتُبه للمضاحيك والعبث؛ يريد بذلك استمالة الأحداث وشُرَّاب النبيذ، ويستهزئ من الحديث استهزاءً لا يخفى على أهل العلم، كذِكره كبد الحوت وقرن الشيطان، وذكر الحجر الأسود، وأنه كان أبيض فسوَّده المشركون، وقد كان يجب أن يبيِّضه المسلمون حين أسلموا. ويذكُر الصحيفة التي كان فيها المُنزَل في الرضاع تحت سرير عائشة فأكلتها الشاة، وأشياء من أحاديث أهل الكتاب في تنادُم الدِّيك والغُراب، ودفن الهُدهد في رأسه، وتسبيح الضفدع، وطَوق الحمامة وأشباه هذا. وهو مع هذا من أكذب الأمَّة، وأوضَعِهم لحديث، وأنصَرِهم لباطل.

ورُويَ عن أبي عمرٍو أنه جرى ذِكر الجاحظ في مجلس أبي العبَّاس أحمد بن يحيى، فقال: أمسِكوا عن ذِكر الجاحظ؛ فإنه غير ثقة.

وقال الأزهري: كان الجاحظ روى عن الثِّقات ما ليس في كلامهم، وكان قد أُوتيَ بَسطةً في لسانه، وبيانًا في خطابه، ومجالًا واسعًا في فنونه، غير أنَّ أهل العلم والمعرفة ذمُّوه، وعن الصدق دفعوه.

وقال البديع الهمَذاني في المُقامة الجاحظية:

إنَّ الجاحظ في أحد شِقَّي البلاغة يقطف، وفي الآخر يقِف، والبليغ من لم يُقصِّر نَظمُه عن نثره، ولم يُزرِ كلامه بشعره، فهل ترَون للجاحظ شعرًا رائقًا؟ قلنا: لا. قال: فهلُّموا إلى كلامه؛ فهو بَعيد الإشارات، قريب العبارات، قليل الاستعارات، مُنقاد لعُريان الكلام يستعمله، نَفورٌ من مُعتاصه يُهمِله، فهل سمعتم له بكلمةٍ غير مسموعة، أو لفظةٍ غير مصنوعة؟

وقال المسعودي: وزعم الجاحظ أن نهر مُكران الذي هو نهر السند من النيل، ويستدلُّ على أنه من النيل بوجود التماسيح فيه، فلست أدري كيف وقع له هذا الدليل؟ وذكر ذلك في كتابه «الأمصار»، وهو كتاب في نهاية الغثاثة؛ لأنَّ الرجل لم يسلك البِحار، ولا أكثر الأسفار، ولا تعرَّف المسالك والأقطار، وإنَّما هو حاطِبُ ليلٍ ينقُل من كُتُب الورَّاقين.

قلت: ليس المسعودي من أولئك الذين أشَرْنا إلى أنهم إنَّما يقصدون بثلب الجاحظ القُربى إلى العامَّة والحشوة، ولكنه عالِمٌ ينظر فيما هو مخصَّص به من فروع العلوم والمعارف. ولا شكَّ في أنَّ الحق في هذه المسألة قد جانَبه. وقد أذكَرَتني طعنة المسعودي في الجاحظ طعنةً مِثلها للجاحظ في الخليل بن أحمد.

(٩) رأي الجاحظ في الخليل

قال الجاحظ: إنَّ الخليل بن أحمد من أجل إحسانه في النحو والعَروض، وضع كتابًا في الإيقاع وتراكيب الأصوات، وهو لم يُعالج وتَرًا قط، ولا مسَّ بيده قضيبًا قط، ولا كثُرَت مُشاهَدته للمغنِّين. وكتب كتابًا في الكلام، ولو جهد كلُّ بليغ في الأرض أن يتعمَّد ذلك الخطأ والتعقيد لمَا وقع له ذلك، ولو أن مَمْرورًا استفرغ قُوى مِرَّته في الهذيان لمَا تهيَّأ له مِثل ذلك منه، ولا يتأتَّى ذلك لأحد إلا بخذلانٍ من الله تعالى.

قلت: وهذا من طريف الاتفاقات، ولعل الله قيَّض المسعوديَّ ليقول في الجاحظ ما قال الجاحظ في الخليل بن أحمد، وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ.

(١٠) ومن آراء العارفين فيه

قال أبو العبَّاس محمد بن يزيد المُبرد: ما رأيت أحرص على العلم من ثلاثة؛ الجاحظ، والفتح بن خاقان، وإسماعيل بن إسحاق القاضي. فأما الجاحظ فإنه كان إذا وقع بيده كتابٌ قرأه من أوله إلى آخِره، أيَّ كتاب كان … إلخ.

وكتب الفتح بن خاقان إلى الجاحظ كتابًا يقول في فصل منه:

إنَّ أمير المؤمنين يَجدُّ بك ويهشُّ عند ذِكرك، ولولا عظَمتك في نفسه، لِعِلمك ومعرفتك، لَحالَ بينك وبين بُعدِك عن مجلسه، ولغصَبك رأيك وتدبيرك فيما أنت مشغول به ومُتوفر عليه. ولقد كان ألقى إليَّ من هذا عنوانه، فزِدتُك في نفسه زيادةً كفَّ بها عن تجشيمك؛ فاعرِفْ لي هذه الحال، واعتقِدْ هذه المِنَّة على كتاب «الرد على النصارى»، وافرغْ منه وعجِّل به إليَّ، وكُن ممن جدا به على نفسه، وتنال مشاهرتك. قد استطلقته لما مضى، واستسلفت لك لسنةٍ كاملة مستقبلة، وهذا مما لم تحتكم به نفسك. وقد قرأت رسالتك في «بصيرة غنام»، ولولا أني أزيد في مخيِّلتك لعرَّفتك ما يعتريني عند قراءتها، والسلام.

وكان الرئيس أبو الفضل ابن العميد من المُعجَبين بالجاحظ، المُتوفِّرين على كُتُبه ومصنَّفاته، المُغترِفين من بِحار علومه وآدابه، الذاهبين مذهبه في أسلوبه وكتابه، حتى لقد كان يُلقَّب أحيانًا ﺑ «الجاحظ الثاني». قال أبو القاسم السِّيرافي: حضَرْنا مجلس الأستاذ أبي الفضل ابن العميد الوزير، فجرى ذِكر الجاحظ، فغضَّ بعض الحاضرين منه وأزْرى به، وسكت الوزير عنه. فلما خرج الرجل قلت له: سكتَّ أيُّها الأستاذ عن هذا الرجل في قوله مع عادتك في الرد على أمثاله؟ فقال: لم أجِد في مقابلته أبلغَ من تركه على جهله، ولو واقَفتُه وبيَّنت له لنظر في كُتُبه وصار بذلك إنسانًا يا أبا القاسم؛ فكُتُب الجاحظ تعلِّم العقل أولًا، والأدب ثانيًا، ولم أستصلحه لذلك.

وقال القاضي ابن خلِّكان: الجاحظ صاحب التصانيف في كل فن، وله مقالة في أصول الدين. ومن أحسن تصانيفه وأمتعها كتاب «الحيوان»؛ فلقد جمع فيه كل غريبة، وكذلك «البيان والتبيين»، وهي كثيرة جدًّا. وكان مع فضائله مشوَّه الخَلق.

(١١) شيء من أخباره ونوادره

وللجاحظ أخبارٌ شائقة، ونوادر فائقة، وأحاديث رائقة، وكان مع جِده وجلالة مَقامه، وسُموِّ مَنزلته، ومع مواقفه المشهورة في الجدل والتناظر، ومع مُجالَدته خصومه بقوة لَسَنه، ومتانة بيانه، كان مع هذا كله ميَّالًا إلى المُلَح واللطائف، والنُّكت والطرائف، والتندُّر والعبث، والسخرية والهُزء، لا يُبالي أن يدوِّن النكتة وأن يرويَها ولو كان فيها ما يتناول سَمْته، ويمسُّ جلاله، ويأخذ من حُلى وقاره؛ فمن ذلك ما حدَّث به عن نفسه فقال:

ذُكِرتُ للمتوكِّل لتأديب بعض ولده، فلما رآني استبشع مَنظري، فأمر لي بعشرة آلاف درهم وصرَفني، فخرَجت من عنده، فلقيت محمد بن إبراهيم وهو يريد الانصراف إلى مدينة السلام، فعرض عليَّ الخروج معه والانحدار في حرَّاقته، وكنَّا بسُرَّ مَن رأى، فركِبْنا في الحرَّاقة، فلما انتهينا إلى فم نهر القاطول نصب ستارة وأمر بالغناء، فاندفعت عوَّادة فغنَّت:

كل يوم قطيعةٌ وعتابُ
ينقضي دهرنا ونحن غِضَابُ
ليت شِعري أنا خُصِصتُ بهذا
دُون ذا الخلق أم كذا الأحبابُ؟

وسكتت. فأمر الطنبورية فغنَّت:

وا رحمتا للعاشقينا
ما إنْ أرى لهمُ مُعِينا
كم يُهجَرون ويُصرَمو
نَ ويُقطَعون فيَصبِرونا

فقالت لها العوادة: فيصنعون ماذا؟ قالت: هكذا يصنعون. وضربت بيدها إلى الستارة فهتكتها، وبرزت كأنها فلقة قمر، فألقت نفسها في الماء، وعلى رأس محمد غلامٌ يُضاهيها في الجمال وبيده مِذبَّة، فأتى الموضع، ونظر إليها وهي تمرُّ بين الماء وأنشد:

أنتِ التي غرَّقتني
بعد القضا لو تَعلمينا

وألقى نفسه في أثرها، فأدار الملَّاح الحرَّاقة فإذا بهما مُعتنِقان، ثم غاصا فلم يُرَيا. فاستعظم محمد ذلك وهالَه أمرُهما، ثم قال: يا عمرو، لتُحدِّثني حديثًا يُسلِّيني عن فعل هذين وإلا ألحقتك بهما. قال: فحضرني حديث يزيد بن عبد الملك، وقد قعد للمظالم يومًا وعرضت عليه القصص، فمرَّت به قصة فيها: إن رأى أمير المؤمنين أن يُخرِج إليَّ فلانة حتى تغنِّيَني ثلاثة أصوات فعل. فاغتاظ يزيد من ذلك، وأمر مَن يخرج إليه ويأتيه برأسه، ثم أتبع الرسول رسولًا آخَر يأمره أن يُدخِل إليه الرجل، فأدخله، فلما وقف بين يدَيه قال له: ما الذي حمَلك على ما صنعت؟ قال: الثقة بحِلمك، والاتِّكال على عفوك. فأمره بالجلوس حتى لم يبقَ أحد من بني أميَّة إلا خرج، ثم أمر فأُخرجت الجارية ومعها عُودها، فقال لها الفتى: غنِّي:

أفاطمَ مهلًا بعضَ هذا التدلُّلِ
وإن كنتِ قد أزمعتِ صَرْمي فأجمِلي

فغنَّته. فقال له يزيد: قل. فقال: غنِّي:

تألَّق البرقُ نجديًّا فقلتُ له
يا أيُّها البرقُ إني عنك مشغولُ

فغنَّته. فقال له يزيد: قل. فقال: يا مولاي، تأمُر لي برطل شراب. فأمر له به، فما استتمَّ شربه حتى وثب وصعِد على أعلى قبَّة ليزيد، فرمى نفسه على دماغه فمات. فقال يزيد: إنا لله وإنا إليه راجعون، أتراه الأحمق الجاهل ظنَّ أني أُخرج إليه جاريتي وأردُّها إلى مِلكي؟ يا غِلمان، خُذوا بيدها واحملوها إلى أهله إن كان له أهل، وإلا فبيعوها وتصدَّقوا عنه بثمنها. فانطلقوا بها إلى أهله، فلما توسَّطت الدار نظرت إلى حفيرة في وسط دار يزيد قد أُعدَّت للمطر، فجذبت نفسها من أيديهم وأنشدت:

من مات عشقًا فليمُتْ هكذا
لا خيرَ في عشقٍ بلا موتِ

وألقت نفسها في الحفيرة على دماغها فماتت، فسُرِّي عن محمد وأجزل صِلتي.

وقال: أتيت منزل صديق لي فطرقت الباب، فخرجت إليَّ جاريةٌ سندية، فقلت: قُولي لسيِّدك الجاحظُ بالباب. فقالت: أقول الجاحدُ بالباب؟ على لُغتها. فقلت: لا، قُولي الحدقيُّ بالباب. فقالت: أقول الحلقي؟ فقلت: لا تقولي شيئًا. ورجعت.

وقال مرةً: ما أخجلني أحدٌ مِثل امرأتَين، رأيت إحداهما في العسكر، وكانت طويلة القامة، وكنت على طعام، فأردت أن أُمازحها، فقلت: انزلي كُلِي معنا. فقالت: اصعد أنت حتى ترى الدنيا. وأما الأخرى فإنها أتَتني وأنا على باب داري فقالت: لي إليك حاجة وأريد أن تمشيَ معي. فقمت معها إلى أن أتت بي إلى صائغٍ يهودي، وقالت له: مِثل هذا. وانصرفت، فسألت الصائغ عن قولها فقال: إنها أتت إليَّ بفصٍّ وأمرَتني أن أنقش عليه صورة شيطان، فقلت لها: يا سِتي ما رأيت الشيطان. فأتت بك وقالت ما سمعت.

وقال: دخلت ديوان المُكاتَبات ببغداد، فرأيت قومًا قد صقَلوا ثيابهم، وصفوا عمائمهم، ووشَوا طُرُزهم، ثم اختبرتهم فوجدتهم كما قال الله تعالى: فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً، ظواهر نظيفة، وبواطن سخيفة، فويلٌ لهم مما كتبت أيديهم، وويل لهم مما يَكسِبون.

وقال: وقفت يومًا على قاضٍ فأردت الولع به، فقلت لمن حوله: إنه رجلٌ صالح لا يُحبُّ الشهرة. فتفرَّقوا عنه. فنظر إليَّ وقال: حسبك الله.

وقال: قلت يومًا لعُبيد الكلابي: أيَسرُّك أن تكون هجينًا ولك ألف دينار؟ فقال: لا أحبُّ اللؤم بشيء. قلت: فإن أمير المؤمنين ابن أمَة؟ فقال: أخزى الله من أطاعه. قلت: نبيَّا الله إسماعيل ومحمد ابنَا أمَة؟ فقال: لا يقول هذا إلا قدريٌّ. قلت: وما القدري؟ قال: لا أدري، إلا أنه رجلُ سوء.

وقال: أتاني بعض الثُّقلاء فقال: سمعت أنَّ لك ألف جواب مُسكِت، فعلِّمني منها. فقلت: نعم. فقال: إذا قال لي شخص: يا زوج القَحبة، يا ثقيل الروح؛ أي شيء أقوله له؟ قلت: قل له: صدَقت.

وسأله بعضهم كتابًا إلى بعض أصحابه بالوصية به، فكتب له رقعةً وختمها، فلما خرج الرجل من عنده فضَّها فإذا فيها: كتابي هذا إليك مع من لا أعرفه ولا أُوجِب حقَّه، فإن قضيت حاجته لم أحمدك، وإن ردَدته لم أذمَّك. فرجع الرجل إليه فقال الجاحظ: كأنك فضضت الورقة؟ قال نعم. قال: لا يَضيرك ما فيها؛ فإنه علامة لي إذا أردت العناية بشخص. فقال الرجل: قطع الله يدَيك ورجلَيك ولعنك. فقال الجاحظ: ما هذا؟ قال: علامة لي إذا أردت أن أشكر شخصًا.

وقال: نزلت على صديق لي فلم آكل عنده لحمًا، فعرَّضت له. فقال: إني لا أُكثر من اللحم منذ سمعت الحديث: إن الله يكره البيت اللَّحِم. فقلت: يا أخي، إنما أراد البيت الذي تؤكل فيه لحوم الناس بالغِيبة، فلم يؤخِّر حضور اللحم من ذلك اليوم.

قلت: وهذه من مَعابث الجاحظ.

(١٢) نُخَب من رسائله الخاصة

كتب إلى محمد بن عبد الملك الزيَّات، وكان قد تنكَّر له:

أعاذك الله من سوء الغضب، وعصَمك من سرَف الهوى، وصرف ما أعارك من القوة إلى حب الإنصاف، ورجَّح في قلبك إيثار الأناة؛ فقد خِفتُ — أيَّدك الله — أن أكون عندك من المنسوبين إلى نزَق السُّفهاء، ومجانبة سُبُل الحكماء.

وبعد، فقد قال عبد الرحمن بن حسَّان بن ثابت:

وإن امرأً أمسى وأصبح سالمًا
من الناس إلا ما جنى لَسعيدُ

وقال الآخَر:

ومن دعا الناسَ إلى ذمِّه
ذمُّوه بالحقِّ وبالباطلِ

فإن كنتُ اجترأت عليك — أصلحك الله — فلم أجترئ إلا لأن دوام تغافلك عني شبيه بالإهمال الذي يُورث الإغفال، والعفو المُتتابع يؤمن من المكافأة؛ ولذلك قال عُيينة بن حصن بن حذيفة لعثمان رحمه الله: عُمَر كان خيرًا لي منك، أرهبني فأتْقاني، وأعطاني فأغْناني؛ فإن كنت لا تهبُ عقابي — أيَّدك الله — لخدمةٍ سلفت لي عندك، فهَبْه لأياديك عندي؛ فإن النعمة تشفع في النقمة، وإلا تفعل ذلك لذلك فعُدْ إلى حسن العادة، وإلا فافعل ذلك لحسن الأُحدوثة، وإلا فأتِ ما أنت أهله من العفو دون ما أنا أهله من استحقاق العقوبة؛ فسبحان من جعلك تعفو عن المُتعمد، وتتجافى عن عقاب المُصر، حتى إذا صِرتَ إلى مَن هفوته ذِكر، وذنبه نِسيان، ومن لا يعرف الشكر إلا لك، والإنعام إلا منك، هجمت عليه بالعقوبة.

واعلم — أيَّدك الله — أن شَين غضبك عليَّ كزَينِ صفحك عنِّي، وأن موت ذِكري مع انقطاع سببي منك كحياة ذِكري مع اتصال سببي بك. واعلم أن لك فطنةَ عليم، وغفلةَ كريم، والسلام.

وكتب إلى أحمد بن أبي دؤاد يستعطفه، فقال:

ليس عندي أعزَّك الله سبب، ولا أقدر على شفيع إلا ما طبعك الله عليه من الكرم والرحمة، والتأميل الذي لا يكون إلا من نتاج حسن الظن وإثبات الفضل بحال المأمول، وأرجو أن أكون من العُتقاء الشاكرين فتكون خير مُعتِب، وأكون أفضل شاكر، ولعل الله أن يجعل هذا الأمر سببًا لهذا الإنعام، وهذا الإنعام سببًا للانقطاع إليكم، والكون تحت أجنحتكم؛ فيكون لا أعظم بركةً ولا أنمى بقيةً من ذنبٍ أصبحت فيه، وبمِثلك — جُعلتُ فِداك — عاد الذنب وسيلة، والسيئة حسنة. ومِثلك من انقلب به الشر خيرًا، والغُرم غُنمًا.

من عاقَب فقد أخذ حظه، وإنَّما الأجر في الآخرة وطِيب الذِّكر في الدنيا على قدر الاحتمال وتجرُّع المرائر. وأرجو ألا أضيع وأهلك فيما بين عقلك وكرمك. وما أكثر من يعفو عمَّن صغُر ذنبه وعظُم حقُّه، وإنَّما الفضل والثناء العفو عن عظيم الجُرم، ضعيف الحُرمة. وإن كان العفو العظيم مُستطرفًا من غيركم فهو تِلاد فيكم، حتى ربما دعا ذلك كثيرًا من الناس إلى مخالفة أمركم، فلا أنتم عن ذلك تنكُلون، ولا على سالف إحسانكم تندمون. وما مثلكم إلا كمثل عيسى ابن مريم حين كان لا يمرُّ بملأ من بني إسرائيل إلا أسمعوه شرًّا وأسمعهم خيرًا، فقال له شمعون الصفا: ما رأيت كاليوم؛ كلما أسمعوك شرًّا أسمعتهم خيرًا؟ فقال: كلُّ امرئٍ يُنفق مما عنده. وليس في أوعيتكم إلا الخير، ولا في أوعيتكم إلا الرحمة، وكل إناء بالذي فيه ينضح.

وكتب يقول:

زيَّنك الله بالتقوى، وكفاك ما أهمَّك من الآخرة والأولى. من عاقَب، أبقاك الله تعالى، على الصغيرة عقوبةَ الكبيرة، وعلى الهفوة عقوبةَ الإصرار؛ فقد تناهى في الظلم. ومن لم يفرِّق بين الأسافل والأعالي، والأداني والأقاصي، فقد قصَّر. والله لقد كنت أكره سرَف الرضا مَخافةَ أن يؤدِّيَ إلى سرَف الهوى، فما ظنُّك بسرف الغيظ وغلبة الغضب من طيَّاشٍ عَجول فحَّاش، ومعه من الخُرق بقدر قِسطه من التِهاب المِرَّة الحمراء؟ وأنت رُوح كما أنت جسم، وكذلك جِنسك ونوعك، إلا أن التأثُّر في الرقاق أسرع، وضده في الغِلاظ الجُفاة أكمل؛ ولذلك اشتدَّ جزعي عليك من سلطان الغيظ وغلبته. فإذا أردت أن تعرف مقدار الذنب إليك من مقدار عقابك عليه، فانظر في عِلَّته، وفي سبب إخراجه من مَعدِنه الذي منه نجَم، وعُشِّه الذي منه درَج، وإلى جهة صاحبه في التسرُّع والثبات، وإلى حِلمه عند التعريض، وفِطنته عند التوبة. فكل ذنب كان سببه ضِيق صدر من جهة الفيض في المقادير، أو من طريق الأنَفة وغلبة طباع الحميَّة، من جهة الجفوة أو من جهة استحقاقه فيما زين له عمله أنه مقصر به في حقه، مؤخر عن رتبته، أو كان مُبلغًا عنه مكذوبًا عليه، أو كان ذلك جائزًا فيه غير مُمتنع منه، فإذا كانت ذنوبه من هذا الشكل فليس يقف عليها كريم، ولا ينظر فيها حليم. ولست أسمِّيه بكثرة معروفه كريمًا، حتى يكون عقله غامرًا لعلمه، وعِلمه غالبًا على طباعه. كما لا أسمِّيه بكفِّ العِقاب حليمًا، حتى يكون عارفًا بمِقدار ما أخذ وترك. ومتى وجدت الذنب بعد ذلك لا سبب له إلا البُغض المحض، والنِّفار الغالب، فلو لم ترضَ لصاحبه بعِقابٍ دون قعر جهنم، لعذَرَك كثير من العقلاء، ولصوَّب رأيَك عالمٌ من الأشراف. والأناة أقربُ من الحمد، وأبعدُ من الذم، وأنأى من خوف العجلة. وقد قال الأول: عليك بالأناة؛ فإنك على إيقاع ما تتوقَّعه أقدرُ منك على ردِّ ما قد أوقَعتَه. وليس يُصارع الغضبَ أيام شبابه شيءٌ إلا صرَعه، ولا يُنازعه قبل انتهائه [مُنازع] إلا قهره، وإنما يُحتال له قبل هيجه، فمتى تمكَّن واستفحل، وأذكى ناره واشتعل، ثم لاقى من صاحبه قدرة، ومن أعوانه سمعًا وطاعة، فلو استبطنته بالتوراة، وأوجرته بالإنجيل، ولدَدته بالزَّبور، وأفرغت على رأسه القرآن إفراغًا، وأتيته بآدم شفيعًا، لمَا قصَّر دون أقصى قوَّته، ولن يُسكِّن غضبَ العبد إلا ذِكرُه غضب الرب.

فلا تقِف — حفظك الله — بعد مُضيِّك في عِتابي التماسًا للعفو عني، ولا تقصر عن إفراطك من طريق الرحمة بي، ولكن قِف وقفةَ من يتَّهم الغضب على عقله، والشيطان على دينه، ويعلم أنَّ للكرم أعداءً، ويُمسك إمساكَ من لا يُبرئ نفسه من الهوى، ولا يُبرئ الهوى من الخطأ. ولا تُنكر لنفسك أن تزلَّ، ولعقلك أن يهفوَ؛ فقد زلَّ آدم عليه السلام وقد خلقه بيده. ولست أسألك إلا ريثما تسكُن نفسك، ويرتدُّ إليك ذهنك، وترى الحِلم وما يجلب من السلامة وطيِّب الأحدوثة، والله يَعلم، وكفى به عليمًا.

لقد أردت أن أفْديَك بنفسي في مُكاتَباتي، وكنت عند نفسي في عِداد الموتى وفي حيِّز الهَلكى، فرأيت أن من الخيانة لك، ومن اللؤم في معاملتك، أن أفْديَك بنفسٍ ميتة، وأن أُريَك أني قد جعلت لك أنفس ذُخْر، والذُّخر معدوم، وأنا أقول كما قال أخو ثقيف: مودَّة الأخ التالد وإن أخلقَ خيرٌ من مودَّة الأخ الطارف وإن ظهرت مساعدته، وراقت جِدَّته.

سلَّمك الله وسلَّم عليك، وكان لك ومعك.

وكتب إلى قليب المغربي يقول:

واللهِ يا قليب لولا أن كبدي في هواك مقروحة، ورُوحي بك مجروحة، لَساجَلتُك هذه القطيعة، ومادَدتك حبل المصارَمة، وأرجو أن الله تعالى يُديل صبري من جفائك، فيردُّك إلى مودَّتي وأنفُ القِلى راغِم؛ فقد طال العهد بالاجتماع حتى كِدنا نتناكر عند الالتقاء.

(١٣) نُبَذ من شعره

وشِعر الجاحظ وإن كان دون طبقته في البلاغة، ودون مَنزلته في الفصاحة، إلا أننا لا يُمكِننا أن نترك هذه الترجمة دون إثبات ما عثَرْنا عليه منه.

روى يموت بن المزرع هذه الأبيات للجاحظ يهجو بها الجمَّاز:

نَسبُ الجمَّاز مَقصُو
رٌ إليه مُنتهاه
تنتهي الأحسابُ بالنَّا
سِ ولا يَعْدو قفاه
يتحاجى مَن أبو الجمـ
ـازِ فيه كاتِباه
ليس يدري مَن أبو الجمـ
ـازِ إلا مَن يراه

وروى له أبو العيناء هذه الأبيات في الخضاب:

زُرتُ فتاةً من بني هلالِ
فاستعجلتْ إليَّ بالسؤالِ
ما لي أراكَ قانِيَ السِّبالِ
كأنما كرعتَ في جِريالِ
ما يبتغي مِثلُك من أمثالي؟
تنحَّ قدَّامي ومن حيالي

وقال:

يَطيبُ العيشُ إن تَلقى حكيمًا
غذاه العِلمُ والفَهمُ المُصيبُ
فيَكشفُ عنك حَيرةَ كلِّ جهلٍ
وفضلُ العلمِ يَعرفُه اللبيبُ
سَقامُ الحِرصِ ليس له شفاءٌ
وداءُ الجهلِ ليس له طبيبُ

وقال:

إنْ حالَ لونُ الرأسِ عن حالِهِ
ففي خِضابِ المرءِ مُستمتَعُ
هَبْ أنَّ مَن شابَ له حِيلةٌ
فما الذي تُحنى له الأضلُعُ؟

وروى له أبو الحسن البَرمكي:

وكان لنا أصدقاءُ مضَوا
تفانَوا جميعًا وما خُلِّدوا
تساقَوا جميعًا كُئوسَ المَنونِ
فماتَ الصديقُ وماتَ العَدُو

وله من أبيات في المدح:

بدا حين أثْرى بإخوانِه
ففلَّلَ عنهم شَباةَ العَدَمْ
وذكَّرَه الحزمُ صرْفَ الزمانِ
فبادَرَ قبلَ انتقالِ النِّعَمْ
فتًى خصَّه اللهُ بالمَكرُماتِ
فمازَجَ منه الحيا بالكَرَمْ

(١٤) مرضه وما قيل في سببه وما أحاط به

قال ابن أبي أصيبعة: نقلت من خطِّ المختار بن الحسن بن بطلان أن أبا عثمان الجاحظ ويوحنا بن ماسويه اجتمعا بغالب ظنِّي على مائدة إسماعيل بن بلبل الوزير (قلت: الأقرب إلى الصواب ما رواه جمال الدين بن نُباتة المصري في شرحه على رسالة ابن زيدون من أن اجتماعهما كان على مائدة أحمد بن أبي دؤاد)، وكان في جملة ما قُدِّم مَضيرة بعد سمك، فامتنع يوحنا من الجمع بينهما، فقال له أبو عثمان: أيها الشيخ، لا يخلو أن يكون السمك من طبع اللبن أو مضادًّا له؛ فإن كان أحدهما ضد الآخر فهو دواء له، وإن كانا من طبعٍ واحد فلنحسب أنَّا قد أكلنا من أحدهما إلى أن اكتفينا. فقال يوحنا: والله ما لي خبرة بالكلام، ولكن كُلْ يا أبا عثمان، وانظر ما يكون في غد. فأكل أبو عثمان نُصرةً لدعواه، ففُلِج في ليلته، فقال: هذه والله نتيجة القياس المُحال.

وقال أبو العبَّاس محمد بن يزيد المُبرد: عُدتُ الجاحظ فسمعته يقول: أنا من جانبي الأيسر مفلوج؛ فلو قُرِض بالمقاريض ما علمت، ومن جانبي الأيمن مُنقرس؛ فلو مرَّ بي الذباب لا لمت، وبي حصاة لا ينسرح لي البول معها، وأشد ما عليَّ ست وتسعون.

وقال يموت بن المزرع (وهو ابن أخت الجاحظ): وجَّه المُتوكل في السنة التي قُتِل فيها (٢٤٧) أن يُحمَل إليه الجاحظ من البصرة — وقد سأله الفتح بن خاقان ذلك — فوجده لا فضل فيه، فقال لمن أراد حمله: ما يُصنَع بامرئ ليس بطائل، ذي شقٍّ مائل، ولُعابٍ سائل، وفرجٍ بائل، وعقلٍ زائل، ولونٍ حائل؟

وقال أبو معاذ عبدان الخولي المُتطبب: دخلنا يومًا بسُرَّ من رأى على عمرو بن بحر الجاحظ نعوده وقد فُلِج، فلما أخذنا مجالسنا أتى رسول المُتوكل فيه فقال: وما يصنع أمير المؤمنين بشقٍّ مائل، ولُعابٍ سائل؟ ثم أقبل علينا فقال: ما تقولون في رجل له شِقَّان؛ أحدهما لو غُرِز بالمسال ما أحس، والشقُّ الآخر يمرُّ به الذباب فيغوث، وأكثر ما أشكوه الثمانون؟ ثم أنشدنا أبياتًا من قصيدة عوف بن محلم الخُزاعي. قال أبو معاذ: وكان سبب هذه القصيدة أنَّ عوفًا دخل على عبد الله بن طاهر، فسلَّم عليه عبد الله فلم يسمع، فأُعلم بذلك، فزعموا أنه ارتجل هذه القصيدة ارتجالات، فأنشده:

يا ابنَ الذي دانَ له المَشرِقانْ
طرًّا وقد دانَ له المَغرِبانْ
إن الثمانين وبُلِّغتَها
قد أحوجتْ سَمْعي إلى تَرجُمانْ
وبدَّلتني بالشِّطاطِ انْحِنا
وكنتُ كالصَّعدةِ تحت السِّنانْ
وبدَّلتني من زَماعِ الفتى
وهمَّتي همَّ الجبانِ الهِدانْ
وقارَبتْ منِّي خُطًا لم تكُن
مُقارَباتٍ وثنَتْ من عِنانْ
وأنشأتْ بيني وبين الورى
عَنانةً من غيرِ نسجِ العَنانْ
ولم تدَعْ فيَّ لمُستمتِعٍ
إلا لساني وبحَسْبي لسانْ
أدعو به اللهَ وأُثني به
على الأمير المُصعَبيِّ الهِجانْ
فقرِّباني بأبي أنتما
من وطني قبلَ اصفرارِ البَنانْ
وقبلَ مَنْعايَ إلى نِسوةٍ
أوطانُها حرَّانُ والرَّقمتانْ

وقال بعض البرامكة: كنت تقلَّدت السند فأقمت بها ما شاء الله، ثم اتصل بي أني صُرفت عنها، وكنت قد كسبت بها ثلاثين ألف دينار، فخشيت أن يفجأني الصارف فيسمع بمكان المال فيطمع فيه، فصُغْته عشرة آلاف إهليلجة، ولم يلبث الصارف أن أتى، فركبت البحر وانحدرت إلى البصرة، فخبرت أن الجاحظ بها، وأنه عليل بالفالج، فأحببت أن أراه قبل وفاته، فصِرتُ إليه، فأفضيت إلى باب دار لطيف فقرَعتُه، فخرجت إليَّ خادمٌ صفراء فقالت: من أنت؟ قلت: رجلٌ غريب، وأحبُّ أن أُسرَّ بالنظر إلى الشيخ. فبلَّغته الخادم ما قلت، فسمعته يقول: قولي له: وما تصنع بشقٍّ مائل، ولُعابٍ سائل، ولونٍ حائل؟ فقلت للجارية: لا بد من الوصول إليه. فلما بلَّغته قال: هذا رجل قد اجتاز بالبصرة، وسمع بعِلَّتي فقال أُحبُّ أن أراه قبل موته، فأقول قد رأيت الجاحظ. ثم أذِن لي فدخلت وسلَّمت عليه، فردَّ ردًّا جميلًا! وقال: من تكون أعزَّك الله؟ فانتسبت له، فقال: رحِم الله تعالى أسلافك وآباءك السمحاء الأجواد؛ فلقد كانت أزمانهم رياض الأزمنة، ولقد انجبر بهم خلقٌ كثير، فسقيًا لهم ورعيًا. فدعوت له وقلت: أنا أسألك أن تُنشدني شيئًا من الشعر. فأنشدني:

لئن قُدِّمت قبلي رجالٌ فطالما
مشيتُ على رِسْلي فكنتُ المُقدَّما
ولكنَّ هذا الدهرَ تأتي صُروفُه
فتُبرِمُ منقوضًا وتنقضُ مُبرَما

ثم نهضت، فلما قاربت الدهليز قال: يا فتًى، أرأيت مفلوجًا ينفعه الإهليلج؟ قلت: لا. قال: فإن الإهليلج الذي معك ينفعني فابعث لي منه. فقلت: نعم. وخرجت مُتعجبًا من وقوفه على خبري مع كتماني له، وبعثت له مائة إهليلجة.

وقال أبو طاهر: صِرتُ إلى الجاحظ ومعي جماعة، وقد أسنَّ واعتلَّ في آخر عمره، وهو في مَنظرة له وعنده ابن خاقان جاره، فقرعنا الباب فلم يفتح لنا، وأشرف من المنظرة وقال: ألا إني قد حوقلت، وحملت رُمَيح أبي سعد، وسُقتُ الغنم،٢ فما تصنعون بي؟ سلِّموا سلام الوداع. فسلَّمْنا وانصرفنا.

وشكا يومًا لطبيبه عِلَّته فقال: قد اصطلحت الأضداد على جسدي، إن أكلت باردًا أخذ برِجلي، وإن أكلت حارًّا أخذ برأسي.

وما زال في عِلَّته هذه إلى أن وقعت عليه مجلدات العلم، فمات، رحمه الله، في سنة ٢٥٥ﻫ/٨٦٨م.

(١٥) مؤلَّفاته

نُثبِت هنا ما أمكن العثور عليه من أسماء مؤلَّفاته:
  • كتاب الحيوان.

  • كتاب البيان والتبيين.

  • كتاب البُخلاء.

  • كتاب سلوة الحريف في مناظرة الربيع والخريف.

  • مجموعة رسائل تحوي:
    • رسالة الحاسد والمحسود.

    • رسالة في مناقب التُّرك وعامة جند الخلافة.

    • رسالة في فخر السُّودان على البِيضان.

    • رسالة في التربيع والتدوير.

    • رسالة في تفضيل النطق على الصمت.

    • رسالة في مدح التُّجَّار وذم عمل السلطان.

    • رسالة في العشق والنساء.

    • رسالة في الوُكلاء.

    • رسالة في استنجاز الوعد.

    • رسالة في بيان مذاهب الشيعة.

    • رسالة في طبقات المغنِّين.

  • أسماء ما ذكر منها في كتاب الحيوان:

    • كتاب حِيَل اللصوص.

    • كتاب غِش الصناعات.

    • كتاب المُلَح والطُّرَف.

    • كتاب احتجاج البخلاء (ويظهر أنه السابق ذِكره).

    • كتاب الصُّرحاء والهُجناء.

    • كتاب مُفاخَرة السُّودان والحُمْران.

    • كتاب الزرع والنخل والزيتون والأعناب.

    • كتاب أقسام فضول الصناعات ومراتب التجارات.

    • كتاب فضل ما بين الرجال والنساء.

    • كتاب القحطانية والعدنانية.

    • كتاب العرب والموالي.

    • كتاب العرب والعجم.

    • كتاب الأصنام.

    • كتاب المعادن.

    • كتاب فرق ما بين هاشم وعبد شمس.

    • كتاب فرق ما بين الجن والإنس.

    • كتاب فرق ما بين الملائكة والجن.

    • كتاب الأوفاق والرياضات.

    • كتاب الرسائل الهاشميات.

    • كتاب خلق القرآن.

    • كتاب الرد على المُشبهة.

    • كتاب أصول الفُتيا والأحكام.

    • كتاب الاحتجاج لنظم القرآن.

    • كتاب معارضة الزيدية.

    • كتاب الوعد والوعيد.

    • كتاب النصراني واليهودي.

    • كتاب الجوابات.

    • كتاب المسائل.

    • كتاب أصحاب الإلهام.

    • كتاب الحجة في تثبيت النبوة.

    • كتاب الأخبار.

    • كتاب بصيرة غنام المُرتد.

    • كتاب الرد على الجهمية.

    • كتاب فرق ما بين النبي والمُتنبي.

    • كتاب العباسية.

  • رسالة في مفاخرة المِسك والرماد.٣ ثلاث رسائل هي:
    • رسالة في الرد على النصارى.

    • رسالة في ذم أخلاق الكُتاب.

    • رسالة في القِيان.

  • عن كتاب الانتصار للخيَّاط بعد حذف المكرَّر:
    • كتاب أفعال الطبائع.

    • كتاب فضيلة المعتزلة.

  • عن كتاب التاج:
    • كتاب أخلاق الفِتيان وفضائل أهل البطالة.

  • ما نُسب إلى الجاحظ:
    • كتاب التاج في أخلاق الملوك. نَسَبه إليه أحمد زكي باشا.

    • كتاب تنبيه الملوك والمكايد. أشار زكي باشا إلى أنه مما نُسِب إليه.

    • كتاب المحاسن والأضداد.

هذا ما أعجل الوقت به من استخلاص ترجمة الجاحظ عن شتَّى الكتب ومختلِف الأسفار مما لم يسبقنا إليه سابق، ولله الحمد والمِنَّة.

حسن السندوبي
القاهرة في يوم الأحد
١٧ ربيع الثاني سنة ١٣٤٥
٢٤ أكتوبر سنة ١٩٢٦
١  عن الحيوان والبيان والتبيين للجاحظ، وتأويل مُختلِف الحديث لابن قُتيبة، ومُروج الذهب للمسعودي، والأغاني لأبي الفرج الأصبهاني، وأمالي السيد المُرتضى، وإعجاز القرآن للباقلَّاني، والمِلل والنِّحل للشهرستاني، والأمالي لأبي علي القالي، والأنساب للسمعاني، والفَرق بين الفِرق للبغدادي، والانتصار للخيَّاط، وسرح العيون لابن نُباتة المصري، ومعجم الأدباء لياقوت، ووفَيات الأعيان لابن خَلِّكان، وشرح الصلاح الصفدي على لامية العجم، وطبقات الأطباء لابن أبي أصيبعة، وزهر الآداب للحُصري، وبُغية الوعاة للسيوطي، وثلاث رسائل طُبعت حديثًا بالمطبعة السلفية، ومطالعات شتَّى في كُتُب الأدب والتاريخ.
٢  حوقلت: أكثرت من قول «لا حول ولا قوة إلا بالله»؛ لتتابُع الأمراض. وقوله «رميح أبي سعد»: هو رجل من العرب أسنَّ فاستعان بالعصا، وهو أول من فعل ذلك، فقيل لكل من شاخ أخذ رميح أبي سعد. وقوله «سقت الغنم»: كناية عن الهَرم؛ لأن سائق الغنم يُطأطئ من رأسه.
٣  أشار إليها الصلاح الصفدي في شرحه على لامية العجم، وقال: إنها رسالةٌ بديعة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤