هذا كتاب العصا

الحمد لله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وصلَّى الله تعالى على محمدٍ خاصَّة، وعلى أنبيائه عامَّة.

هذا أبقاك الله تعالى الجزء الثالث من القول في «البيان والتبيين»، وما شابَه ذلك من غُرَر الأحاديث، وشاكَله من عيون الخُطب، ومن الفِقَر المستحسَنة، والنُّتَف المتخيَّرة، والمقطَّعات المستخرَجة، وبعض ما يجوز في ذلك من أشعار المذاكرة، والجوابات المنتخَبة.

ونبدأ على اسم الله تعالى بذِكر مذهب الشُّعوبيَّة١ ومن يتحلَّى بِاسم التسوية، وبمطاعنهم على خُطباء العرب بأخذ المِخصَرة عند مناقلة الكلام، ومساجلة الخصوم بالموزون والمُقفَّى، والمنثور الذي لم يُقفَّ، وبالأرجاز عند المَتْح، وعند مُجاثاة الخصم، وساعة المشاولة، وفي نفس المجادلة والمحاولة، وكذلك الأسجاع عند المنافرة والمفاخرة، واستعمال المنثور في خُطب الحَمالة، وفي مقامات الصُّلح وسَلِّ السخيمة، والقول عند المعاقرة والمعاهدة، وترك اللفظ يجري على سجيَّته وعلى سلامته، حتى يخرج على غير صنعة، ولا اختلاف تأليف، ولا التماس قافية، ولا تكلُّف لوزن، مع الذي عابوا من الإشارة بالعِصِي، والاتكاء على أطراف القِسِي، وخدِّ وجه الأرض بها، واعتمادها عليها إذا استحفزت في كلامها، وافتنَّت يوم الحفل في مذاهبها، ولزومهم العمائم في أيام الجموع، وأخذ المخاصر في كل حال، وجلوسها في خطب النكاح، وقيامها في خطب الصلح وكل ما دخل في باب الحمالة، وأكَّد شأن المحالفة، وحقَّق حُرمة المجاورة، وخطبهم على رواحلهم في المواسم العظام، والمجامع الكبار، والتماسح بالأكُف، والتحالف على النار، والتعاقد على المِلح، وأخذ العهد المؤكَّد، واليمين الغموس، مثل قولهم: ما سرى نجم، وهبَّت ريح، وبلَّ بحرٌ صوفة، وخالفت جرةٌ درة؛ ولذلك قال الحارث بن حِلِّزة اليَشكُري:
واذكُروا حِلفَ ذي المَجازِ وما قُدِّ
مَ فيه العُهودُ والكُفلاءُ
حَذَرَ الخَونِ والتَّعدِّي وهل تَنـ
ـقُضُ ما في المَهارِقِ الأهواءُ
الخون: الخيانة، ويُروى: «الجور». وقال أوس بن حَجَر:٢
إذا استقبلتْه الشَّمسُ صدَّ بوَجهِه
كما صدَّ عن نارِ المُهوِّلِ حالِفُ٣

وقال الكُميت:

كَهُولةِ ما أوقَدَ المُحلِفونَ
لدى الحالِفِينَ وما هوَّلوا٤

وقال الأول:

حلَفتُ بالمِلحِ والرَّمادِ وبالنَّا
رِ وباللهِ تُسلِمُ الحَلَقةْ
حتى يظلَّ الجوادُ مُنعفِرًا
وتَخضِبَ النَّبْلُ غُرَّةَ الوَرَقةْ

وقال الأول:

حلَفتُ لهم بالمِلحِ والجَمعُ شُهَّدٌ
وبالنَّارِ واللَّاتِ التي هيَ أعظَمُ

وقال الحُطيئة في إضجاع القِسِي:

أم مَن لخَصمٍ مُضجِعِينَ قِسِيَّهم
صُعْرٍ خُدودُهمُ عِظامُ المَفخَرِ

وقال لَبِيد بن ربيعة في خدِّ وجه الأرض بالقِسِي والعِصِي:

نَشِينَ صِحاحَ البِيدِ كلَّ عَشيَّةٍ
بعُوجِ السَّراءِ عندَ بابِ مُحجَّبِ

ومِثله:

إذا اقتسمَ النَّاسُ فَضْلَ الفَخارِ
أطَلْنا على الأرضِ مَيلَ العصا

ومِثله:

حكَمَت لنا في الأرضِ يومَ مُحرِّقٍ
أيَّامُنا في الناسِ حُكْمًا فَيصَلا

وقال لَبِيد بن ربيعة في ذِكر القِسِي:

ما إنْ أهابَ إذا السُّرادِقُ عمَّه
قَرعُ القِسِيِّ وأُرعِشَ الرِّعديدُ

وقال كُثيِّر، في الإسلام:

إذا فَرَعوا المَنابِرَ ثُمَّ خطُّوا
بأطرافِ المَخاصِرِ كالغِضابِ

وقال أبو عُبيدة: سأل معاوية شيخًا من بقايا العرب: أي العرب رأيتَه أضخم شأنًا؟ قال: حِصن بن حُذيفة، رأيته مُتوكئًا على قوسه يَقسِم في الحليفَين أسد وغطفان.

وقال لبيد بن ربيعة في الإشارة:

غُلْبٌ تَشذَّرُ بالدُّحولِ كأنَّها
جِنُّ البَدِيِّ رَواسيًا أقدامُها
وقال مَعن بن أوس المُزني:٥
ألا مَن مُبلِغٌ عنِّي رسولًا
عُبَيدَ اللهِ إذ عَجِلَ الرِّسالا
تُعاقِلُ دُونَنا أبناءَ ثَورٍ
ونحن الأكثرونَ حَصًى ومالا
إذا اجتمعَ القبائلُ جئتَ رِدفًا
أمامَ الماسِحِينَ لك السِّبالا
فلا تُعطي العصا الخُطباءَ يومًا
وقد تَكفي المَقادةَ والمَقالا

فذكر عصا الخطباء كما ترى. وقال الآخر في حمل القناة:

إنِّي امرؤٌ لا تَخطَّاه الرِّفاقُ ولا
جَدبُ الخِوانِ إذا ما استُثنيَ المَرَقُ
صُلْبُ الحَيازيمِ لا هَذرُ الكَلامِ إذا
هزَّ القناةَ ولا مُستعجِلٌ زَهِقُ

وقال جرير الخطَفى في حمل القناة:

مَن للقَناةِ إذا ما عيَّ قائلُها
وللأعِنَّةِ يا عمرُو بنَ عمَّارِ

قالوا: وهذا مِثل قول أبي المُجيب الرَّبَعي حيث يقول: لا تزال تحفظ أخاك حتى يأخذ القناة؛ فعند ذلك يفضحك أو يمدحك. يقول: إذا قام يخطب فقد قام المقام الذي لا بد من أن يخرج منه مذمومًا أو محمودًا. وقال عبد الله بن رؤبة: سأل رجلٌ رؤبة عن أخطب بني تميم، فقال: خِداش بن بشر بن لبيد بن خالد. يعني البَعيث الشاعر، وإنما قيل له البعيث لقوله:

تَبعَّثَ منِّي ما تَبعَّثَ بعدَما
أُمِرَّت حِبالي كُلَّ مِرَّتِها شَزْرا

وقال أبو اليقظان: كانوا يقولون: أخطَبُ بني تميم البعيثُ إذا أخذ القناة فهزَّها ثم اعتمد بها على الأرض ثم رفعها. قال يونس: لعَمْري لئن كان مغلَّبًا في الشعر لقد كان غلَب في الخُطب.

وإذا قالوا غلَبَ فهو الغالب، وإذا قالوا مُغلَّب فهو المغلوب.

وفي حديث النبي أنه جاء البقيع ومعه مِخصَرة، فجلس فنكت بها الأرض، ثم رفع رأسه فقال: «ما من نفسٍ منفوسة إلا وقد كُتِب مكانها من الجنة أو النار.» وهو من حديث أبي عبد الرحمن السُّلَمي.

ومما يدلُّك على استحسانهم شأن المِخصرة حديث عبد الله بن أُنيس ذي المخصرة، وهو صاحب ليلة الجُهَني، وكان النبي أعطاه مخصرة، فقال: «تلقاني بها في الجنة.» وهو مُهاجرٌ عَقَبي أنصاري، وهو ذو المِخصرة في الجنة.

(١) مَطاعن الشعوبية على العرب بشأن العصا

وقالت الشُّعوبية ومن يتعصَّب للعجمية: القضيب للإيقاع، والقناة للقار، والعصا للقتال، والقوس للرَّمي، وليس بين الكلام وبين العصا سبب، ولا بينه وبين القوس نَسب. وهما إلى أن يشغلا العقل، ويصرفا الخواطر، ويعترضا الذهن، أشبَه. وليس في حملها ما يشحذ الذهن، ولا في الإشارة بها ما يجلب اللفظ. وقد زعم أصحاب الغناء أن المغنِّيَ إذا ضرب على غنائه قصَّر عن المغنِّي الذي لا يضرب على غنائه. وحمل العصا بأخلاق الفدَّادين أشبه، وهو بجُفاة الأعراب وعُنجُهيَّة أهل البدو، ومزاولة إقامة الإبل على الطُّرق، أشكَل، وبه أشبَه.

قالوا: والخطابة شيءٌ في جميع الأمم، وبكل الأجيال إليه أعظم الحاجة، حتى إن الزنج — مع الغثارة، ومع فرط الغباوة، ومع كلال الحد، وغِلظ الحس، وفساد المزاج — لتُطيل الخُطب، وتفوق في ذلك جميع العجم، وإن كانت معانيها أجفى وأغلظ، وألفاظها أخطأ وأجهل. وقد علمنا أن أخطبَ الناس الفُرس، وأخطب الفُرس أهل فارس؛ وأعذبَهم كلامًا، وأسهلهم مَخرجًا، وأحسنهم ولاءً، وأشدُّهم فيه تحنُّكًا، أهل مَرو؛ وأفصحَهم بالفارسية الدَّريَّة، وباللغة الفَهلوية، أهل قصبة الأهواز. فأما نَغْمة الهِربِذ ونغمة الموبذان فلصاحب تفسير الزمزمة. قالوا: ومن أحبَّ أن يبلُغ في صناعة البلاغة، ويعرف الغريب، ويتبحَّر في اللغة، فليقرأ كتاب «كاروَند». ومن احتاج إلى العقل والأدب، والعلم بالمراتب والعِبَر والمَثُلات، والألفاظ الكريمة، والمعاني الشريفة، فلينظر إلى سِيَر الملوك.

فهذه الفُرس ورسائلها وخُطبها، وألفاظها ومعانيها، وهذه يونان ورسائلها وخُطبها، وعِللها وحِكمها، وهذه كُتبها في المنطق التي قد جعلتها الحكماء بها تعرف السقم من الصحة، والخطأ من الصواب، وهذه كُتُب الهند في حِكمها وأسرارها، وسِيَرها وعِللها؛ فمن قرأ هذه الكتب عرف غَوْر تلك العقول، وغرائب تلك الحِكم، وعرف أين البيان والبلاغة، وأين تكاملت تلك الصناعة؛ فكيف سقط على جميع الأمم من المعروفين بتدقيق المعاني، وتخيُّر الألفاظ، وتمييز الأمور، أن يُشيروا بالقنا والعِصِي، والقُضبان والقِسِي؟ كلا، ولكنكم كنتم رُعاة بين الإبل والغنم، فحملتم القنا في الحضر بفضل عادتكم لحملها في السفر، وحملتموها في المدر بفضل عادتكم لحملها في الوبر، وحملتموها في السِّلم بفضل عادتكم لحملها في الحرب. ولطول اعتيادكم لمخاطبة الإبل جفا كلامكم، وغلظت مخارج أصواتكم، حتى كأنكم إنما تُخاطبون الصُّمَّان إذا كلَّمتم الجُلساء. وإنما كان جُل قتالكم بالعِصِي؛ ولذلك فخر الأعشى على سائر العرب فقال:

لَسْنا نُقاتِلُ بالعِصِيِّ
ولا نُرامي بالحِجارةْ
إلا عُلالةَ أو بَدا
هةَ قارحٍ نَهْدِ الجُزارةْ

وقال الآخر:

فإنْ تَمنَعوا منَّا السِّلاحَ فعِندَنا
سِلاحٌ لنا لا يُشترى بالدَّراهمِ
جَنادِلُ أمْلاءُ الأكُفِّ كأنَّها
رُءوسُ رِجالٍ حُلِّقَت بالمَواسِمِ

وقال جَندَل الطُّهَوي:

حتى إذا دارَت رَحًى لا تَجري
صاحت عِصِيٌّ من قنًا وسِدْرِ

وقال آخر:

دعا ابنُ مُطِيعٍ للبِياعِ فجِئتُه
إلى بَيْعةٍ قلبي لها غيرُ آلِفِ
فناوَلني خَشْناءَ لمَّا لمَستُها
بكفِّيَ ليستْ من أكُفِّ الخلائفِ
من الشَّثِناتِ الكُزْمِ أنكَرتُ مسَّها
وليستْ من البِيضِ الرِّقاقِ اللَّطائفِ٦
مُعاوِدةً حَمْلَ الهَراوى لقَومِها
فَرُورًا إذا ما كانَ يومُ التَّنائفِ

وقال آخر:

ما لِلفَرزَدقِ من عِزٍّ يَلُوذُ به
إلا بَنِي العمِّ في أيدِيهم الخَشَبُ

(٢) مطاعن الشعوبة على العرب بشأن آلات الحرب

قالوا: وإنما كانت رِماحكم من مُرَّان، وأسِنَّتكم من قرون البقر، وكنتم تركبون الخيل في الحرب أعراء؛ فإن كان الفَرس ذا سَرْج فسَرجُه رِحالة من أدَم، ولم يكن ذا رِكاب، والرِّكاب من أجود آلات الطاعن برمحه، والضارب بسيفه، وربما قام فيهما أو اعتمد عليهما. وكان فارسكم يطعن بالقناة الصمَّاء، وقد علِمنا أن الجَوفاء أخَفُّ محملًا، وأشد طعنةً. وتفخرون بطول القناة ولا تعرفون الطعن بالمطارد، وإنما القنا الطِّوال للرَّجَّالة، والقِصار للفُرسان، والمطارد لصيد الوحش. وتفخرون بطول الرمح وقِصَر السيف، فلو كان المُفتخِر بقِصَر السيف الراجل دون الفارس، لكان الفارس يفخر بطول السيف، وإن كان الطول في الرمح إنما صار صوابًا لأنه ينال به البعيد، ولا يفوته العدو، ولأن ذلك يدل على شدة أسْر الفارس وقوة أيده، فكذلك السيف العريض الطويل. وكنتم تتَّخذون للقناة زُجًّا وسِنانًا حين لم يقبض الفارس منكم على أصل قناته، ويعتمد عند طعنته بفخذه، ويستعين بحميَّة فَرسه. وكان أحدكم يقبض على وسط القناة ويخلِّف منها على مِثل ما قدَّم، فإنما طعنكم الدَّرْه والنَّهْزة، والخَلس والزَّج.٧ وكنتم تتساندون في الحرب، وقد عُلِم أن الشركة رديَّة في ثلاثة أشياء؛ في المُلك، والحرب، والزوجة. وكنتم لا تُقاتلون بالليل، ولا تعرفون البَيات، ولا الكمين، ولا المَيمنة، ولا المَيسرة، ولا القلب، ولا الجَناح، ولا الساقة، ولا الطليعة، ولا النفَّاضة، ولا الدرَّاجة. ولا تعرفون من آلة الحرب الرتيلة، ولا العرَّادة، ولا المجانيق، ولا الدبَّاب، ولا الخنادق، ولا الحَسَك. ولا تعرفون الأقبِية، ولا السراويلات، ولا تعليق السيوف، ولا الطبول، ولا البنود والتجافيف، ولا الجواشن، ولا الخُوَذ، ولا السواعد، ولا الأجراس، ولا الوَهق، ولا الرمي بالبَنجكان، ولا الزَّرق بالنِّفط ولا النيران. وليس لكم في الحرب صاحب عَلَم يرجع إليه المُنحاز، ويتذكره المُنهزِم. وقتالكم إما سلَّة وإما مزاحفة. والمزاحفة على مَواعد متقدِّمة، والسلَّة مسارقة وفي طريق الاستلاب والخُلسة.
قالوا: والدليل على أنكم لم تكونوا تُقاتلون بالليل قولُ العامري:٨
يا شَدَّةً ما شَدَدْنا غيرَ كاذبةٍ
على سَخِينةَ لولا الليلُ والحَرَمُ

ويدل على ذلك أيضًا قول الحارث بن ضِرار:

وعمرٌو إذ أتانا مُستمِيتًا
كَسَونا رأسَه عَضْبًا صَقِيلا
فلولا اللَّيلُ ما آبُوا بشَخصٍ
يُخبِّرُ أهلَهم عنهم قليلا

وقال أميَّة بن الأشكر:

ألمْ تَرَ أنَّ ثَعلبةَ بنَ سَعدٍ
غِضابٌ حبَّذا غَضَبُ المَوالي
ترَكتُ مُصرِّفًا لمَّا التَقَينا
صَرِيعًا تحتَ أطرافِ العَوالي
ولولا اللَّيلُ لم يَغلِبْ ضِرارٌ
ولا رأسُ الحِمارِ أبو جُفالِ

(٣) رد الجاحظ على الشعوبية

قلنا: ليس لكم فيما ذكرتم في هذه الأشعار دليل على أن العرب لا تُقاتل بالليل، وقد يُقاتل بالليل والنهار من تَحُول دون ماله المُدُن وهَول الليل، وربما تحاجز الفريقان وإن كان كل واحد منها يرى البَيات، ويرى أن يُقاتل إذا بيَّتوه، وهذا كثير. والدليل على أنهم كانوا يُقاتلون بالليل قول سعد بن مالك في قتل كعب بن مُزَيقِيا الملِك الغسَّاني:

وليلةَ تُبَّعٍ وخَميسِ سَعدٍ
أتَونا بعدَما نِمْنا دَبِيبا
فلمْ نَهدَأ لبأسِهمُ ولكنْ
رَكِبْنا حدَّ كوكبِهم رُكوبا
بضَربٍ تُفلَقُ الهاماتُ منه
وطَعنٍ يَفصِلُ الحَلَقَ الصَّلِيبا

وقال بِشر بن أبي خازم:

فأمَّا تميمٌ تميمُ بنُ مُرٍّ
فألفاهم القومُ رَوْبى نِياما

يقول: شرِبوا اللبن الرائب فسكِروا منه، وهو اللبن الذي قد أُخرجت زبدته.

وقال عِياضٌ السِّندي:

ونحن نَجَلْنا لابْنِ مَيلاءَ نَحرَه
بنَجْلاءَ من بينِ الجوانحِ تَشهَقُ٩
ويومَ بَنِي الدَّيَّانِ نالَ أخاهمُ
بأرماحِنا بالسَّبيِ مَوتٌ مُحدِّقُ١٠
ومنَّا حُماةُ الجيشِ ليلةَ أقبَلتْ
إيادٌ يُزجِّيها الهُمامُ مُحرِّقُ

وقال آخر:

وعلى شُتَيرٍ راحَ منَّا رائحٌ
بأبي قَبيصةَ كالفَتِيقِ المُقرَمِ١١
يَردِي بشِرْحافِ المَغادِرِ بعدَما
نشرَ النَّهارُ سَوادَ لَيلٍ مُظلِمِ١٢

وقال عياضٌ السِّندي:

لحِمامِ بِسْطامِ بنِ قَيسٍ بعدَما
جَنَحَ الظَّلامُ بمِثلِ لَونِ العِظلَمِ١٣

وقال أوس بن حجر:

باتُوا يُصِيبُ القومُ ضَيفًا لهم
حتَّى إذا ما ليلُهم أظْلَما
فرَدَّهم شَهْباءُ مَلمومةٌ
مِثلَ حريقِ النارِ أو أضْرَما
واللهِ لولا قُرْزُلٌ ما نَجا
وكان مَثْوى خدِّكَ الأخْرَما١٤
نجَّاكَ جيَّاشٌ هَزِيمٌ له
أحمَيتَ وَسْطَ الوَبَرِ المِيسَما
وبعدُ فهل قتل ذؤابٌ الأسدي١٥ عُتيبة بن الحارث بن شهاب إلا وسط الليل الأعظم حين تبِعوهم فلحقوهم؟ وكانوا إذا اجتمعوا للحرب دخَّنوا بالنهار، وأوقدوا بالليل. قال عمرو بن كُلثوم وذكر واقعةً لهم:
ونحن غَداةَ أُوقِدَ في خَزازى
رَفَدْنا فوقَ رَفدِ الرَّافِدِينا

وقال خَمْخامٌ السَّدوسي:

وإنَّا بالصُّلَيبِ ببَطنِ فَخٍّ
جميعًا واضِعِينَ به لَظانا
نُدخِّنُ بالنَّهارِ ليُبصِرُونا
ولا نَخْفى على أحدٍ أتانا

وأما قولهم: لا يعرفون الكمين، فقد قال أبو قيس بن الأسلت:

وأحرَزْنا المَغانِمَ واستبَحْنا
حِمى الأعداءِ واللهُ المُعِينُ
بغَيرِ خَلابةٍ وبغَيرِ مَكرٍ
مُجاهَرةً ولم يُخبَأ كَمِينُ

وأما ذِكرهم للرُّكُب، فقد أجمعوا على أن الرُّكُب كانت قديمة، إلا أن رُكُب الحديد لم تكن في العرب إلا أيام الأزارقة، وكانت العرب لا تعوِّد أنفُسها إذا أرادت الركوب أن تضع أرجلها في الرُّكُب، وإنما كانت تنزو نزوًا. وقال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: لا تخور قُوًى ما كان صاحبها ينزو ويَنزِع.

يقول: أي لا تنتكث قوته ما دام ينزع في القوس، وينزو في السرج، من غير أن يستعين بركاب.

وقال عمر: الراحة عُقلة، وإيَّاكم والسِّمنة فإنها عقلة.

ولهذه العلة قُتل خالد بن سعيد بن العاص حين غشِيَه العدو وأراد الركوب ولم يجد من يحمله.

ولذلك قال عمر حين رأى المهاجرين والأنصار لما أخصبوا، وهمَّ كثير منهم بمقاربة عيش العجم: تَمَعدَدوا واخشوشِنوا، واقطعوا الرُّكُب، وانزوا على الخيل نزوًا. وقال: احفَوا وانتعِلوا؛ فإنكم لا تدرون متى تكون الجَفلة.

وكانت العرب لا تدع اتخاذ الرِّكاب للرَّحل، فكيف تدع الرِّكاب للسَّرج؟ ولكنهم كانوا وإن اتخذوا الرُّكب فإنهم لا يستعملونها إلا عند ما لا بد منه؛ كراهيةَ أن يتَّكلوا على بعض ما يُورثهم الاسترخاء والتفتُّخ، ويُضاهئون أصحاب الترفُّه والنعمة. قال الأصمعي: قال العُمري: كان عمر بن الخطاب، رضي الله تعالى عنه، يأخذ بيده اليمنى أذن فرسه اليسرى، ثم يجمع جراميزه ويثب، فكأنما خُلِق على ظهر فرسه. وفعل مِثلَ ذلك الوليدُ بن يزيد وهو يومئذٍ وليُّ عهد هشام، ثم أقبل على مَسلمة بن هشام فقال له: أبوك يُحسِن مِثل هذا؟ فقال مَسلمة: لأبي مائة عبد يُحسِنون مِثل هذا. فقال الناس: لم يُنصِفه في الجواب.

وزعم رجال من مَشيختنا أنه لم يقُم أحد من ولد العبَّاس بالمُلك إلا وهو جامع لأسباب الفروسية.

وأما ما ذكروا في شأن رِماح العرب فليس الأمر في ذلك على ما يتوهَّمون. وللرماح طبقات؛ فمنها «النَّيزك»، ومنها «المربوع»، ومنها «المخموس»، ومنها «التام»، ومنها «الخَطِل» وهو الذي يضطرب في يد صاحبه لإفراط طوله، فإذا أراد الرجل أن يُخبِر عن شدة أسْر صاحبه ذكره، كما ذكر مُتمِّم بن نُوَيرة أخاه مالكًا فقال: كان يخرج في الليلة الصِّنَّبرة، عليه الشَّملة الفلوت، بين المزادتَين النضوحَين، على الجمل الثَّفال، مُعتقَل الرمح الخَطِل. قالوا له: وأبيك إن هذا لهو الجَلد. ولا يحمل الرمحَ الخَطِل منهم إلا الشديدُ الأيد، والمُدلُّ بفضل قوَّته عليه، الذي إذا رآه الفارس في تلك الهيئة هابه وحاد عنه، فإن شد عليه كان أشد لاستخدامه له. والحال الأخرى أن يخرجوا في الطلب بعقب الفارَّة، فربما شد على الفارس المُولي فيفوته بأن يكون رمحه مربوعًا أو مخموسًا، وعند ذلك يستعملون النيازك، والنيزك أقصر الرماح. وإذا كان الفارس الهارب يفوت الفارس الطالب زجَّه بالنيزك، وربما هاب مخالطته فيستعمل الزج دون الطعن، صنيع ذؤاب الأسدي بعُتيبة بن الحارث بن شهاب. وقال الشاعر:

وأسمَرَ خطِّيًّا كأنَّ كُعوبَه
نَوى القَسبِ قد أرْمى ذِراعًا على العَشْرِ

وقال آخر:

هاتِيكَ تَحمِلُني وأبيَضَ صارمًا
ومُحرَّبًا في مارِنٍ مَخموسِ

وقال آخر:

تَولَّوا وأطرافُ الرِّماحِ عليهمُ
بَوادِرُ مَربوعاتُها وطِوالُها

وهم قومٌ الغارات فيهم كثيرة، وبقدر كثرة الغارات كَثُر فيهم الطلب. والفارس ربما زاد في طول رمحه ليُخبر عن فضل قوته، ويُخبر عن قِصَر سيفه ليُخبر عن فضل نجدته. قال كعب بن مالك:

نَصِلُ السُّيوفَ إذا قَصُرنَ بخَطوِنا
قُدُمًا ونُلحِقُها إذا لم تُلحَقِ

وقال آخر:

إذا الكُماةُ تَنحَّوا أنْ يَنالَهمُ
حدُّ الظُّباةِ وَصَلْناها بأيدينا

وقال رجل من بني تميم بن نُمير:

وصَلْنا الرِّقاقَ المُرهَفاتِ بخَطوِنا
على الهَولِ حتى أمكنَتْنا المَضارِبُ

وقال حُميد بن ثور الهلالي:

ووَصلُ الخُطى بالسَّيفِ والسَّيفِ بالخُطى
إذا ظنَّ أنَّ السَّيفَ ذو السَّيفِ قاصِرُ

وقال آخر:

الطاعِنونَ في النُّحورِ والكُلى
شَزْرًا ووصَّالُ السُّيوفِ بالخُطى

وأما ما ذكروا من اتخاذ الزج لسافلة الرمح، والسِّان لعاليته، فقد ذكروا أن رجلًا قتل أخوَين في نَقاب — تقول العرب: لقيته سقابًا ونقابًا؛ أي مواجهة — أحدهما بعالية الرمح والآخر بسافلته، وقدِم في ذلك راكب من قِبَل بني مروان على قتادة يستثبت الخبر، فأثبته له من قِبَله. وقال الآخر:

إنَّ لقَيسٍ عادةً تَعتادُها
سَلَّ السُّيوفِ وخُطًى تَزدادُها

وقد وصفوا السيوف أيضًا بالطول، فقال عُمارة بن عُقيل:

بكلِّ طويلِ السَّيفِ ذي خَيزُرانةٍ
جريءٍ على الأعداءِ مُعتمِدِ الشَّطبِ

وجملة القول إنَّا لا نعرف الخُطب إلا للعرب والفُرس.

وأما الهند فإنما لهم معانٍ مدوَّنة، وكُتبٌ مجلَّدة، لا تُضاف إلى رجلٍ معروف، ولا إلى عالمٍ موصوف، وإنما هي كُتبٌ متوارثة، وآداب على وجه الدهر سائرةٌ مذكورة.

ولليونانيين فلسفة وصناعة منطق. وكان صاحب المنطق نفسه بَكيء اللسان، غير موصوف بالبيان، مع عِلمه بتمييز الكلام وتفصيله ومعانيه، وبخصائصه. وهم يزعمون أن جالينوس كان أنطق الناس، ولم يذكروه بالخطابة، ولا بهذا الجنس من البلاغة.

وفي الفُرس خُطباء، إلا أن كل كلام للفُرس، وكل معنًى للعجم، فإنما هو عن طول فكرة، وعن اجتهاد وخلوة، وعن مشاورة ومعاونة، وعن طول التفكر ودراسة الكتب، وحكاية الثاني عِلم الأول، وزيادة الثالث في علم الثاني، حتى اجتمعت ثمار تلك الفِكَر عند آخرهم.

وكل شيء للعرب فإنما هو بديهة وارتجال، وكأنه إلهام، وليست هناك مُعاناة ولا مكابدة، ولا إجالة فكر ولا استعانة، وإنما هو أن يصرف وَهمَه إلى الكلام، وإلى رجز يوم الخِصام، أو حين أن يَمتَح على رأس بئر، أو يحدُوَ ببعير، أو عند المقارعة أو المناقلة، أو عند صراع أو في حرب، فما هو إلا أن يصرف وهمه إلى جملة المذهب، وإلى العمود الذي إليه يقصد، فتأتيَه المعاني أرسالًا، وتنثال عليه الألفاظ انثيالًا، ثم لا يقيِّده على نفسه، ولا يدرِّسه أحدًا من ولده.

وكانوا أمِّيِّين لا يكتبون، ومطبوعين لا يتكلَّفون، وكان الكلام الجيِّد عندهم أظهر وأكثر، وهم عليه أقدر وأقهر. وكل واحد في نفسه أنطق، ومكانه من البيان أرفع. وخطباؤهم أوجز، والكلام عليهم أسهل. وهو عليهم أيسر من أن يفتقروا إلى تحفُّظ أو يحتاجوا إلى تدارُس. وليس هم كمن حفِظ عِلم غيره، واحتذى على كلام من كان قبله، فلم يحفظوا إلا ما علِق بقلوبهم، والْتَحم بصدورهم، واتَّصل بعقولهم، من غير تكلُّف ولا قصد، ولا تحفُّظ ولا طلب. وإن شيئًا الذي في أيدينا جزءٌ منه لبِالمِقدار الذي لا يعلمه إلا من أحاط بقطر السحاب، وعد التراب، وهو الله الذي يُحيط بما كان، والعالِم بما سيكون.

ونحن، أبقاك الله، إذا ادَّعينا للعرب أصناف البلاغة من القصيد والأرجاز، ومن المنثور والأسجاع، ومن المزدوج وما لا يزدوج، فمعنا العلم على أن ذلك لهم شاهدٌ صادق من الديباجة الكريمة، والرَّونق العجيب، والسَّبك والنَّحت الذي لا يستطيع أشعر الناس اليوم، ولا أرفعهم في البيان، أن يقول في مِثل ذلك إلا في اليسير، والنَّبذ القليل.

ونحن لا نستطيع أن نعلم أن الرسائل التي في أيدي الناس للفُرس أنها صحيحةٌ غير مصنوعة، وقديمة غير مولَّدة، إذا كان مِثل ابن المقفع وسهل بن هارون وأبي عُبيد الله وعبد الحميد وغيلان وفلان وفلان لا يستطيعون أن يولِّدوا مِثل تلك الرسائل، ويصنعوا مثل تلك السِّيَر.

وأخرى؛ أنك متى أخذت بيَد الشعوبي فأدخلته بلاد الأعراب الخُلَّص، ومَعدِن الفصاحة التامة، ووقَفتَه على شاعرٍ مُفلق، أو خطيبٍ مِصقع، علِم أن الذي قلت هو الحق، وأبصر الشاهد عيانًا، فهذا فرق ما بيننا وبينهم.

فتفهَّم عني، فهَّمك الله، ما أنا قائل في هذا، واعلم أنك لم ترَ قومًا قطُّ أشقى من هؤلاء الشعوبية، ولا أعدى على دينه، ولا أشد استهلاكًا لعِرضه، ولا أطول نصَبًا، ولا أقل غُنمًا، من أهل هذه النِّحلة. وقد شفى الصدورَ منهم طولُ جثوم الحسد على أكبادهم، وتوقُّد نار الشنآن في قلوبهم، وغليان تلك المَراجل الفائرة، وتسعُّر تلك النيران المضطرمة. ولو عرفوا أخلاق كل مِلَّة، وزِيَّ كل لُغة، وعِللهم في اختلاف إشاراتهم وآلاتهم، وشمائلهم وهيئاتهم، وما علة كل شيء من ذلك، ولِمَ اختلقوه ولِمَ تكلَّفوه؛ لأراحوا أنفُسهم، ولخفَّت مؤنتهم على من خالطهم.

والدليل على أن أخذ العصا مأخوذ من أصلٍ كريم، ومن مَعدِن شريف، ومن المواضع التي لا يعيبها إلا جاهل، ولا يعترض عليها إلا مُعاند، اتخاذُ سليمان بن داود، صلوات الله تعالى وسلامه على نبينا وعليه، العصا لخطبته وموعظته، ولمقاماته وطول صلاته، ولطول التلاوة والانتصاب، فجعلها لتلك الخصال جامعة. قال الله عز وجل وقولُه الحق: فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ. والمِنسأة هي العصا. وقال أبو طالب حين قام بذم الرجل الذي ضرب زميله بالعصا فقتله حين تخاصما في حبل وتجاذبا:

أمِنْ أجلِ حَبلٍ لا أباكَ عَلَوتَه
بمِنسأةٍ قد جاءَ حَبلٌ وأحبُلُ

وقال آخر:

إذا دبَبتَ على المِنساةِ من كِبَرٍ
فقد تَباعَدَ عنك اللَّهوُ والغَزَلُ

قال أبو عثمان: وإنما بدأنا بذِكر سليمان، على نبينا وعليه الصلاة والسلام، لأنه من أنبياء العجم، والشعوبية إليهم أميَل، وعلى فضائلهم أحرص، ولِما أعطاهم الله أكثر وصفًا وذِكرًا. وقد جمع الله لموسى بن عِمران في عصاه من البُرهانات العِظام، والعلامات الجِسام، ما عسى أن يفيء ذلك بعلامات عِدَّة من المُرسَلين، وجماعة من النبيِّين. قال الله تبارك وتعالى فيما يذكُر في عصاه: إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا، إلى قوله: وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى. فلذلك قال الحسن بن هانئ في شأن خصيب وأهل مصر حين اضطربوا عليه:

فإنْ تَكُ من فِرعَونَ فيكم بَقيَّةٌ
فإنَّ عصا موسى بكفِّ خَصيبِ

ألمْ ترَ أن السَّحرة لم يتكلفوا تغليط الناس والتمويه عليهم إلا بالعصا، ولا عارضهم موسى إلا بعصاه؟ وقال الله عز وجل: وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ * قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ. وقال الله عز وجل: قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ * قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ * وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ * فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ. ألا ترى أنهم لما سحروا أعيُن الناس واسترهبوهم بالعِصي والحبال، لم يجعل الله للحبال من الفضيلة في إعطاء البرهان ما جعل للعصا، وقدرة الله على تصريف الحبال في الوجوه كقدرته على تصريف العصا؟

وقال الله تبارك وتعالى: فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ. فبارَك الله كما ترى على تلك الشجرة، وبارَك في تلك العصا، وإنما العصا جزء من الشجرة. وقال عز وجل: وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا * أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا.

وقالت الحكماء: إنما تُبنى المدائن على الماء والكلأ والمُحتطَب.

فجمع بقوله: أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا النجم والشجر، والمِلح واليقطين، والبقل والعشب؛ فذكر ما يقوم على ساق وما يتفنن وما يتسطح، وكل ذلك مَرعى، ثم قال على النسق: مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ. فجمع بين الشجر والماء والكلأ والماعون كله؛ لأن المِلح لا يكون إلا بالماء، ولا تكون النار إلا من الشجر. وقال الله تبارك وتعالى: الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ. وقال: أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ * نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ. والمَرخ والعَفار، والسَّواس والعراجين، وجميع عيدان النار، وكل عُود يُقدح على طول الاحتكاك، فهو غنيٌّ بنفسه، بالغ للمُقوي وغير المُقوي. وحجر المرو يحتاج إلى قرَّاعة الحديد، وهما يحتاجان إلى العُطبة ثم إلى الحطب، والعيدان هي القادحة، وهي المُورية، وهي الحطب. قال الله عز وجل: الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ. والماعون: الماء والنار والكلأ. وقال الأسدي:

وكأنَّ أرحُلَنا بجوِّ مُحصَّبٍ
بلِوَى عُنَيزةَ من مَقيلِ التُّرمُسِ
في حيثُ خالَطَتِ الخُزامى عَرفجًا
يأتيكَ قابسُ أهلِها لم يَقبِسِ

وإنما وصف خِصب الوادي، ولُدونة عيدانه، ورطوبة الورق. وهذا خلاف قوله:

فإنَّ السِّنانَ يَركَبُ المَرءُ حدَّه
من العارِ أو يعدو على الأسَدِ الوَردِ
وإنَّ الذي يَنهاكمُ في طِلابِها
يُناغي نِساءَ الحَيِّ في طُرَّةِ البُردِ
يُعلَّلُ والأيَّامُ تَنقُصُ عُمْرَه
كما تَنقُصُ النِّيرانُ من طَرَفِ الزَّندِ

وذكَر الله عز وجل النخلة فجعلها شجرة، فقال: أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ. وذكَر رسول الله حُرمة الحرم، فقال: «لا يُختلى خلاها، ولا يُعضَد شجرها.» وقال الله عز وجل: وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ. وتقول العرب: ليس شيءٌ أدفأ من شجرة، ولا أظلَّ من شجرة. ولم يكلِّم الله موسى إلا من شجرة، وجعل أكثر آياته في عصاه، وهي من الشجرة. ولم يمتحن الله عز وجل صبر آدم وحوَّاء، إذ هما أصل هذا الخلق وأوله، إلا بشجرة؛ ولذلك قال: وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ. وجعل بيعة الرضوان تحت شجرة، وقال: وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ. وسِدرة المُنتهى التي عندها جنة المأوى شجرة، وشجرة سُرَّ تحتها سبعون نبيًّا لا تُعبَل ولا تُسرَف. وحين اجتهد إبليس في الاحتيال لآدم وحوَّاء، عليهما السلام، لم يصرف الحيلة إلا إلى الشجرة، وقال: هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى.

وفيما ضُرب من الأمثال بالعصا قالوا: قال جميل بن بَصبَهَري حين شكا إليه الدهاقين شر الحجَّاج: أخبِروني، أين مولده؟ قالوا: الحجاز. قال: ضعيفٌ مُعجَب. قال: فمَنشؤه؟ قالوا: الشام. قال: ذاك شر. ثم قال: ما أحسنَ حالَكم إن لم تُبتلَوا معه بكاتب منكم — يعني من أهل بابل — فابتُلوا بزاذان فرُّوخ الأعور. ثم ضرب لهم مثلًا فقال: إن فأسًا ليس فيه عودٌ أُلقي بين الشجر، فقال بعض الشجر لبعض: ما أُلقي هذا ها هنا لخير. فقالت شجرةٌ عاديَّة: إن لم يدخل في است هذا منكن عودٌ فلا تخَفنَه. وقال يزيد بن مفرِّغ:

العَبدُ يُقرَعُ بالعصا
والحُرُّ تَكفِيه المَلامةْ

قالوا: أخذه من الفلَتان الفَهمي حيث قال:

العَبدُ يُقرَعُ بالعصا
والحُرُّ تَكفِيه الإشارةْ

وقال مالك بن الرَّيب:

العَبدُ يُقرَعُ بالعَصا
والحُرُّ يَكفِيه الوَعيدُ

وقال بشَّار:

الحُرُّ يُلْحى والعصا للعَبدِ
وليس للمُلحِفِ مِثلُ الرَّدِّ

وقال آخر:

حاوَلتُ حينَ صرَمتَني
والمرءُ يَعجزُ لا مَحالةْ
والدَّهرُ يَلعبُ بالفتى
والدهرُ أروَغُ من ثُعالةْ
والمرءُ يَكسبُ مالَه
بالشُّحِّ يُورِثُه الكَلالةْ
والعَبدُ يُقرَعُ بالعصا
والحُرُّ تَكفِيه المَقالةْ

ومما يدخل في باب الانتفاع بالعصا أن عامر بن الظَّرِب العَدْواني حكَم العرب في الجاهلية، لما أسنَّ واعتراه النسيان أمر بِنتَه أن تقرع بالعصا إذا هو فَهَّ عن الحكم، وجار عن القصد، وكانت من حكيمات بنات العرب، حتى جاوزت في ذلك مِقدار صُحْر بنت لُقمان، وهند بنت الخُس، وخمعة بنت حابس بن مَليل الإياديين. وكان يُقال لعامرٍ ذو الحِلم؛ ولذلك قال الحارث بن وَعْلة:

وزَعمتُمُ أنْ لا حُلومَ لنا
إنَّ العصا قُرِعَت لذِي الحِلمِ

وقال المُتلمِّس:

لِذِي الحِلمِ قبْلَ اليومِ ما تُقرَعُ العصا
وما عُلِّمَ الإنسانُ إلا ليَعلَما

وقال الفرزدق بن غالب:

فإنْ كنتُ أنساني حُلومُ مُجاشِعٍ
فإنَّ العصا كانت لِذِي الحِلمِ تُقرَعُ

ومن ذلك حديث سعيد بن مالك بن ضُبَيعة بن قيس بن ثعلبة، واعتزم الملك على قتل أخيه إن هو لم يُصِب ضميره، فقال له سعيد: أبَيتَ اللعن، أتدعُني حتى أقرع بهذه العصا أختها؟ فقال له الملك: وما عِلمه بما تقول العصا؟ فقرع بها وأشار بها مرةً ثم رفعها ثم وضعها، ففهِم المعنى، فأخبره ونجا من القتل.

وذِكر العصا يجري عندهم في معانٍ كثيرة، تقول العرب: العصا من العُصيَّة، والأفعى بنت حيَّة. تريد أن الأمر الكبير يحدث عن الأمر الصغير. ويُقال: طارت عصا فلان شِققًا. وقال الأسدي:

عِصِيُّ الشَّملِ من أسدٍ أُراها
قدِ انصدَعَت كما انصدَعَ الزُّجاجُ

يُقال: فلانٌ شقَّ عصا المسلمين. ولا يُقال: شق ثوبًا ولا غير ذلك مما يقع عليه اسم الشق. وقال العتَّابي في مديح بعض الخُلفاء:

إمامٌ له كَفٌّ تَضُمُّ بَنانُها
عصا الدِّينِ ممنوعٌ من البَرْيِ عُودُها
وعَينٌ مُحِيطٌ بالبَريَّةِ طَرْفُها
سَواءٌ عليه قُربُها وبَعيدُها

وقال المُضرِّس الأسدي:

وألقَتْ عَصاها واستقرَّت بها النَّوى
كما قرَّ عَينًا بالإيابِ المُسافِرُ

وقال المضرِّس أيضًا:

فألقَتْ عصا التَّسْيارِ عنها وخيَّمَت
بأرجاءِ عَذبِ الماءِ بِيضٍ مَحافِرُه

يُقال لبني أسد: عبيد العصا. يعنى أنهم كانوا ينقادون لكل من حالفوا من الرؤساء. قال بِشر بن أبي خازم:

عَبِيدُ العصا لم يَتَّقوكَ بذِمَّةٍ
سِوى شَيبِ سَعدٍ إنَّ شَيْبَكَ واسِعُ

وتُسمِّي العرب كل صغير الرأس «العصا». وكان عمر بن هُبَيرة صغير الرأس. قال سويد:

فمن مُبلِغٌ رأسَ العصا أنَّ بيْنَنا
ضغائنُ لا تُنْسى وإنْ قَدُمَ الدَّهرُ

وقال آخر:

فمن مُبلِغٌ رأسَ العصا أنَّ بيْنَنا
ضغائنُ لا تُحصى وإنْ قِيلَ سُلَّتِ
رضِيتَ لقَيسٍ بالقليلِ ولم تَكُنْ
أخًا راضيًا لو أنَّ نَعْلَك زلَّتِ
وكان والبة١٦ صغير الرأس، فقال أبو العتاهية في رأس والبة ورءوس قومه:
رُءوسُ عِصِيٍّ كُنَّ من عُودِ أثْلةٍ
لها قادحٌ يَفْري وآخَرُ مُجرِبُ

والدليل على أنهم كانوا يتَّخذون المَخاصر في مجالسهم كما يتَّخذون القنا والقِسيَّ في المحافل، قول الشاعر في بعض الخُلفاء:

في كفِّه خَيزُرانٌ رِيحُها عَبِقٌ
من كفِّ أروَعَ في عِرنِينِه شَمَمُ
يُغضِي حياءً ويُغْضى من مَهابتِه
فما يُكلَّمُ إلا حِينَ يَبتسمُ

وقال الآخر:

مَجالسُهم خَفضُ الحديثِ وقولُهم
إذا ما قضَوا في الأمرِ وَحيُ المَخاصِرِ

وقال الأنصاري:

يُصِيبونَ فَصْلَ القولِ في كلِّ خُطبةٍ
إذا وصَلوا أيمانَهم بالمَخاصِرِ

وحدَّثني بعض أصحابنا قال: كنَّا مُنقطِعين إلى رجل من كِبار أهل العسكر، وكان لُبثُنا عنده يطول، فقال بعضنا: إن رأيت أن تجعل لنا أمارة إذا ظهرت لنا حفِظنا عنك ولم نُتعبك بالقعود؛ فقد قال أصحاب معاوية لمعاوية مِثل الذي قلنا لك. فقال: أمارة ذلك أن أقول: إذا شئتم. وقيل ليزيد مِثل ذلك فقال: إذا قلت: على بركة الله. وقيل لعبد الملك مِثل ذلك فقال: إذا ألقيت الخيزرانة من يدي. قالوا: فأي شيء تجعل لنا أصلحك الله؟ قال: إذا قلت: يا غلام، الغداء.

وفي الحديث أن رجلًا ألحَّ على النبي في طلب بعض المَغنم وبيده مِخصرة، فدفعه بها، فقال: يا رسول الله، أقِصَّني. فلما كشف النبي له عن بطنه احتضنه وقبَّل بطنه.

وفي تثبيت شأن العِصي وتعظيم أمرها، والطعن على ذم حاملها، قالوا: كانت لعبد الله بن مسعود عشر خِصال؛ أولها السواد، وهو سِرار النبي ، فقال : «إذنُك عليَّ أن يُرفع الحِجاب، وتسمع سوادي.» وكان معه مِسواك النبي ، وكانت معه عصاه.

ودخل عمر بن سعد على عمر بن الخطاب حين رجع إليه من عمل حمص — وليس معه إلا جراب وإداوة وقصعة وعصاه — فقال له عمر: ما الذي أرى بك، من سوء الحال أم تصنُّع؟ قال: وما الذي تراني؟ أوَلست صحيح البدن، معي الدنيا بحذافيرها؟ قال: وما معك من الدنيا؟ قال: معي جِرابي أحمل فيه زادي، ومعي قَصعتي أغسل فيها ثوبي، ومعي إداوتي أحمل فيها مائي لشرابي، ومعي عصاي إن لقيت عدوًّا قاتلته، وإن لقيت حيةً قتلتها، وما بقي من الدنيا تبع لِما معي.

وقال الهيثم بن عدي عن الشَّرقي بن القَطامي، وسأله سائل عن قول الشاعر:

لا يَعدِلنَّ أُتاويُّونَ تَضرِبُهم
نَكْباءُ صِرٌّ بأصحابِ المُحِلَّاتِ

قال: أليس المُحلَّات الدلوَ والمِقدحة والقِربة والفأس؟ قال: فأين أنت عن العصا؟ والصُّفن خير من الدلو أجمع. وقال النَّمِر بن تَولب:

أفْرَغتَ في حَوضِها صُفْني لتَشرَبَه
في داثرٍ خَلَقِ الأعضاءِ أهدامِ

وأما العصا فلو شئت أن أشغل مَجلسي كله بخصالها لفعلت.

وتقول العرب في مديح الرجل الجَلْد الذي لا يُفتات عليه بالرأي: ذلك الفَحل لا يُقرَع أنفه. وهذا كلام يُقال للخاطب إذا كان على هذه الصفة؛ لأن الفَحل اللئيم إذا أراد الضِّراب ضُرِب أنفه بالعصا. وقد قال ذلك أبو سفيان بن حرب بن أمية عندما بلَغه من تزويج النبي بأم حبيبة، وقيل له: مِثلك تُنكَح نساؤه بغير إذنه؟ فقال: ذلك الفحل لا يُقرَع أنفه. والحمار الفاره يُفسِده السوط، وتُصلِحه المقرعة. وأنشد لسلامة بن جَندَل:١٧
إنَّا إذا ما أتانا صارخٌ فَزِعٌ
كان الصُّراخُ له قَرْعَ الظَّنابيبِ١٨

وقال الحجاج: والله لأعصبنَّكم عصب السَّلمة، ولأضربنكم ضرب غرائب الإبل. وذلك لأن الأشجار تُعصَب أغصانها ثم تُخبَط بالعِصي لسقوط الورق وهشيم العيدان. ودخل أبو مجلز على قُتيبة بخُراسان، وهو يضرب رجالًا بالعِصي، فقال: أيها الأمير، إن الله قد جعل لكل شيء قدْرًا، ووقَّت فيه وقتًا؛ فالعِصي للأنعام والبهائم، والسوط للحدود والتعزير، والدِّرَّة للأدب، والسيف لقتال العدو والقوَد.

ثم قال الشرقي: دعنا من هذا. خرجتُ من المَوصل وأنا أريد الرِّقَّة مُستخفيًا، وأنا شابٌّ خفيف الحال، فصحِبني من أهل الجزيرة فتًى ما رأيت بعده مِثله، فذكر أنه تغلبي من ولد عمرو بن كلثوم، ومعه مِزود وركوة وعصًا، فرأيته لا يُفارقها، وطالت ملازمته لها، فكِدتُ من الغيظ عليه أرمي بها في بعض الأودية. فكنا نمشي فإذا أصبنا دوابَّ ركِبْناها، وإذا لم نُصِب الدواب مشَينا. فقلت له في شأن عصاه، فقال لي: إن موسى بن عِمران، صلوات الله وسلامه على نبينا وعليه، حين آنَس من جانب الطور نارًا، وأراد الاقتباس لأهله منها، لم يأتِ النار من مِقدار تلك المسافة القليلة إلا ومعه عصاه، فلما صار بالوادي المقدَّس من البُقعة المباركة قيل له: ألقِ عصاك واخلع نعلَيك. فرمى نعلَيه راغبًا عنهما، حين نزَّه الله ذلك الموضع عن الجلد غير الذكي، وجعل الله جِماع أمره من أعاجيبه وبرهاناته في عصاه، ثم كلَّمه من جوف شجرة، ولم يكلمه من جوف إنسان ولا جان.

قال الشرقي: إنه ليُكثر من ذلك وإني لأضحك مُتهاونًا بما يقول، فلما برَزنا على حمارَينا تخلَّف المُكاري، فكان حماره يمشي فإذا تلكَّأ أكرهه بالعصا، وكان حماري لا ينساق، وأعلم أنه ليس في يدي شيء يُكرهه، فسبقني الفتى إلى المنزل فاستراح وأراح، ولم أقدر على البراح، حتى وافاني المُكاري، فقلت: هذه واحدة. فلما أردنا الخروج من الغد لم نقدر على شيءٍ نركبه، فكنَّا نمشي، فإذا أعيا توكَّأ على العصا، وربما أحضر ووضع العصا على وجه الأرض فاعتمد عليها ومر كأنه سهمٌ والح، حتى انتهَينا إلى المنزل وقد تفسَّختُ من الكَلال، وإذا فيه فضلٌ كثير، فقلت: هذه ثانية. فلما كان في اليوم الثالث، ونحن نمشي في أرضٍ ذات أخاقيق وصدوع، إذ هجمنا على حيَّة مُنكَرة فساورتنا، فلم تكن عندي حيلة إلا خذلانه وإسلامه إليها والهرب منها، فضربها بالعصا فثقلت، فلما بهشت له ورفعت صدرها ضربها حتى وقذها، ثم ضربها حتى قتلها، قلت: هذه ثالثة، وهي أعظمهن. فلما خرجنا في اليوم الرابع، قرمت والله إلى اللحم، وأنا هاربٌ مُعدم، إذا أرنب قد اعترضت، فحذفها، فما شعرت والله إلا وهي معلَّقة، وأدركنا ذكاتها، فقلت: هذه رابعة. وأقبلت عليه فقلت له: لو أن عندنا نارًا لمَا أخَّرت أكلها إلى المنزل. قال: فإن عندك نارًا. فأخرج عُويدًا من مِزوده ثم حكَّه بالعصا فأورت إيراءً المَرخُ والعَفار عنده لا شيء، ثم جمع ما قدر عليه من الغثاء والحشيش، وأوقد ناره، وألقى الأرنب في جوفها. فأخرجناها وقد لزق بها من الرماد والتراب ما نغصها إلي، فعلَّقها بيده اليسرى ثم ضرب بالعصا على جُنوبها وأعراضها ضربًا رقيقًا حتى انتثر كل شيء عليها، فأكلناها وسكن القرم وطابت النفس، فقلت: هذه خامسة. ثم إنا نزلنا ببعض الخانات، وإذا البيوت مَلأى روثًا وترابًا، ونزلنا بعقب جند وخراب مُتقدم، فلم نجد موضعًا نظل فيه، فنظر إلى حديدة مِسحاة مطروحة في الدار، فأخذها فجعل العصا نِصابًا لها، ثم قام فجرف جميع ذلك الرَّوث والتراب، وجرَد الأرض بها جردًا حتى ظهر بياضها، وطابت ريحها، فقلت: هذه سادسة. وعلى أي حال لم تَطِب نفسي أن أضع طعامي وثيابي على تلك الأرض، فنزع والله العصا من حديدة المِسحاة فوتدها في الحائط، وعلَّق ثيابي عليها، فقلت: هذه سابعة. فلما صِرتُ إلى مَفرِق الطُّرق وأردت مفارقته، قال لي: لو عدلت معي فبِتَّ عندي كنت قد قضيت حق الصحبة، والمنزل قريب. فعدلت معه، فأدخلني في منزلٍ يتَّصل ببيعة. قال: فما زال يحدِّثني ويُطرفني ويُلطفني الليل كله، فلما كان السَّحَر أخذ خشبةً ثم أخرج تلك العصا بعينها فقرعها بها، فإذا ناقوس ليس في الدنيا مِثله، وإذا هو أحذق الناس بضربه، فقلت له: وَيلَك، أمَا أنت مسلم؟ وأنت رجل من العرب من ولد عمرو بن كلثوم؟ قال: بلى. قلت: فلِمَ تضرب بالناقوس؟ قال: جُعلت فِداك، إن أبي نصراني، وهو صاحب البِيعة، وهو شيخٌ ضعيف، فإذا شهِدته برَرته بالكفاية. وإذا هو شيطانٌ مارد، وإذا أظرف الناس كلهم وأكثرهم أدبًا وطلبًا. فخبَّرته بالذي أحصَيته من خصال العصا بعد أن كنت همَمت أن أرميَ بها، فقال: والله لو حدَّثتك عن مناقب نفع العصا إلى الصبح لمَا استنفدتها.

ومن جُمَل القول في العصا وما يجوز فيها من المنافع والمرافق، تفسير شعر غَنيَّة الأعرابية في شأن ابنها؛ وذلك أنها كان لها ابنٌ شديد العَرامة، كثير التلفُّت إلى الناس، مع ضعف أسْر ودِقَّة عظم؛ فواثَب مرةً فتًى من الأعراب، فقطع الفتى أنفه، وأخذت غنيَّة دِية أنفه فحسُنت حالها بعد فقر مُدقِع؛ ثم واثَب آخر فقطع أذنه فأخذت الدية، فزادت دية أذنه في المال وحُسن الحال؛ ثم واثب بعد ذلك آخر فقطع شفته، فلما رأت ما قد صار عندها من الإبل والغنم والمتاع والكسب بجوارح ابنها حَسُن رأيها فيه، فذكرته في أرجوزة لها تقول فيها:

أحلِفُ بالمَروةِ يومًا والصَّفا
أنَّك خيرٌ من تفاريقِ العصا

فقيل لابن الأعرابي: ما تفاريق العصا؟ قال: العصا تُقطَّع ساجورًا، وتُقطَّع عصا الساجور فتصير أوتادًا، ويُفرَّق الوتِد فتصير كل قطعة شِظاظًا، فإن كان رأس الشِّظاظ كالفُلكة صار للبُختي مِهارًا، وهو العُود الذي يُدخَل في أنف البُختي، وإذا فُرِّق المِهار جاءت منه توادٍ.

والسواجير تكون للكلاب والأسرى من الناس. وقال النبي : «يؤتى بناس من ها هنا يُقادون إلى حظوظهم بالسواجير.»

وإذا كانت قناةً فكل شِقَّة منها قوس بندق. قال: فإن فُرِّقت الشِّقَّة صارت سهامًا، فإن فُرِّقت السهام صارت حِظاءً، وهي سِهامٌ صِغار. قال الطرماح: كحِظاء الغلام. والواحدة حظوة وسروة. فإن فُرِّقت الحظاء صارت مَغازل، فإن فُرِّق المِغزل شَعَب به الشَّعَّاب أقداحه المصدوعة المشقوقة، على أنه لا يجد لها أصلح منها. وقال الشاعر:

نَوافذُ أطرافِ القَنا قد شَكَكتُه
كشَكِّكَ بالشَّعبِ الإناءَ المُثلَّما

فإذا كانت العصا صحيحةً سالمة ففيها من المنافع الكبار والمرافق الأوساط والصغار ما لا يُحصيه أحد، وإذا فُرِّقت ففيها مِثل الذي ذكرنا وأكثر، فأي شيء يبلُغ في المرفق والمرد مبلغ العصا؟ وفي قول موسى على نبينا وعليه السلام وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى دليلٌ على كثرة المرافق فيها؛ لأنه لم يقُل: ولي فيها مأربةٌ أخرى. والمآرب كثيرة؛ فالذي ذكَرنا قبل هذا داخل في تلك المآرب.

ولا نعرف شِعرًا يُشبِه معنى شعر غنيَّة لا يُغادر منه شيئًا، ولكن زعم بعض أصحابنا أن أعرابيَّين ظريفَين من شياطين الأعراب حطمَتْهما السَّنة، فانحدرا إلى العراق، واسم أحدهما «حيدان»، فبيْنا هما يتماشيان في السوق فإذا فارس قد أوطأ دابَّته رِجل حيدان فقطع إصبعًا من أصابعه، فتعلَّقا به حتى أخذا منه أرش الإصبع — وكانا جائعين مقرورين — فحين صار المال في أيديهما قصدا لبعض الكرابج فابتاعا من الطعام ما اشتهيا، فلما أكل صاحب حيدان فشبِع أنشأ يقول:

فلا غَرَثٌ ما كانَ في النَّاسِ كُربَجٌ
وما بقِيَت في رِجْلِ حَيْدانَ إصبَعُ

وهذا الشعر وشعر غنية من المظرف الناصع الذي سمعت به، وظرف الأعراب لا يقوم له شيء.

وناسٌ كثير لا يستعملون في القتال إلا العصا، منهم الزنج؛ قنبلة، كنجوبة؛ والنمل والكلاب؛ وتكفو وتنبو؛ على ذلك يعتمدون في حروبهم. ومنهم النَّبَط، ولهم بها ثقافة وشدة وغلبة، وأثقف ما تكون الأكراد إذا قاتلت بالعِصي، وقتال المخارجات كلها بالعِصي، ولهم هناك ثقافة ومنظرٌ حسن، ولقتالهم منزلة بين السلامة والعطب.

والناس يضربون المثل بقتال البقَّار بقناته، ويُقال في المثل: ما هو إلا أُبْنة عصًا، وعُقدةُ رِشًا. ويُقال للراعي: إنه لضعيف العصا، إذا كان قليل الضرب بها للإبل، شديد الإشفاق عليها. قال الراعي:١٩
ضعيفُ العَصا بادي العُروقِ تَرى له
عليها إذا ما أجدَبَ الناسُ إصبَعا

وإذا كان الراعي جَلدًا قويًّا عليها قالوا: صُلْب العصا. ولذلك قال الراجز:

صُلْبُ العصا باقٍ على أذاتِها

وقال الآخر في معنى الراعي:

لا تَضرِباها واشْهَرا العِصِيَّا
ويقولون: قد أقبل فلان ولانت عصاه، إذا أصابه السُّواف٢٠ فرجع وليس معه إلا عصاه؛ لأنه لا يُفارقها، كانت له إبل أم لا. ويقولون: كلما قُرِعت عصًا بعصًا، وعصًا على عصًا، وعصًا عصًا؛ قالوا: أخذوا فلانًا بذلك.

وقال حُميد بن ثَور:

اليومَ تُنتزَعُ العَصا من ربِّها
ويَلُوكُ ثِنْيَ لسانِه المِنْطيقُ

ويُكتَب مع قوله:

تَخْشى العصا والزَّجرَ إنْ قِيلَ حَلِ
يُرسِلُها التَّغميضُ إنْ لم تُرسَلِ٢١

وقال آخر:

هذا ووَردُ بُزَّلٍ وسُدُسِ
يُغْلي بها كلُّ مُسِيمٍ مُرغِسِ٢٢
رُدَّتْ منَ الغَورِ وأكنافِ الرَّسِي
من عُشُبٍ أحوى وحَمضٍ مُورِسِ٢٣
وذائدٍ جَلْدِ العَصا وكَهْمَسِ
إنْ قِيلَ قُمْ قامَ وإنْ قِيلَ اجلِسِ٢٤
داسَت سِماطَي عَفَرٍ مُدعَّسٍ٢٥
ويدل على شدة قتالهم بالعصا قول بَشامة بن حَزْن النَّهشَلي:٢٦
فِدًى لِرِعاءٍ بالبُحَيرةِ دبَّبُوا
بأعصِيهمُ والماءُ بَردُ المَشارِبِ٢٧
وآلى نُعَيمٌ لا تَجُوزُ بحَوضِه
فقلتُ تَحلَّلْ يا نُعَيمُ بنَ قارِبِ
فإنَّ زيادًا لم يَكُنْ لِيَرُدَّها
وسَبْرةَ عن ماءِ النَّضيحِ المُقارِبِ
أغرَّكَ أنْ جاءت ظِماءً وباشَرَت
بأعناقِها بَرْدَ النِّصابِ الصُّباصِبِ؟٢٨
تَناوَلنَ ما في الحَوضِ ثم امتذَينَه
بجِذعٍ وأعناقٍ طِوالِ الذوائبِ٢٩

ويقولون: فلان ضعيف العصا، إذا كان لا يستعمل عصاه؛ ولذلك قال البَعيث:

وأنتَ بِذاتِ السِّدرِ من أُمِّ سالمٍ
ضعيفُ العصا مُستضعَفٌ مُتهضَّمُ

وقال الآخر:

وما صادياتٌ حُمْنَ يومًا وليلةً
على الماءِ يَخشَينَ العِصِيَّ حَوانِ
لَوائبُ لا يَصدُرنَ عنه بوِجهةٍ
ولا هنَّ من بَردِ الحِياضِ دَوانِ٣٠
يَرَينَ حَبابَ الماءِ والموتُ دُونَه
فهُنَّ لأصواتِ السُّقاةِ رَوانِ
بأوجَعَ منِّي جُهْدَ شَوقٍ وغُلَّةٍ
إليكِ ولكنَّ العَدُوَّ عَداني

وقال الآخر:

فما وَجدُ مِلْواحٍ من الهِيمِ حُلِّئَت
عنِ الماءِ حتى جَوفُها يَتصلصَلُ٣١
تَحُومُ وتَغْشاها العِصِيُّ وحَوْلَها
أقاطِعُ أنعامٍ تَعِلُّ وتَنهَلُ
بأعظَمَ منِّي غُلَّةً وتَعطُّفًا
إلى الوِردِ إلَّا أنَّني أتَجمَّلُ

ويقال: ضُرِب فلانٌ ضرب غرائب الإبل. وهي تُضرب عند الهرب، وعند الخِلاط، وعند الحوض، أشد الضرب. وقال الحارث بن صخر:

بِضَربٍ يُزيلُ الهامَ عن سَكَناتِه
كما ذِيدَ عن ماءِ الحِياضِ الغَرائبُ

وقال الآخر:

لِلْهامِ ضرَّابونَ بالمَناصِلِ
ضَرْبَ المُذِيدِ غُرَبَ النَّواهِلِ٣٢

وقال ابن أحمر:

رَودُ الشَّبابِ كأنَّها غُصْنُ
بحَرامِ مكَّةَ ناعمٌ نَضْرُ

وقال الآخر:

إما تَرَيني قائمًا في جلِّ
جمِّ الفُتوقِ خَلَقٍ هِمِلِّ
مُحاذِرًا أُبغِض عن تَحتلِّ
عندَ اعتلالِ دَهرِك المُعتلِّ
فقد أرى في اليَلمَقِ الرِّفَلِّ
أصوَنَ للأُنسِ جميلَ الدَّلِّ٣٣
لُدنًا كخُوطِ البانةِ المُبتلِّ

وتكون العصا مِحراثًا، وتكون مِخصرة، وتكون المِخصرة قضيب حبرة وعود ساجور، ثم تكون تَودية. وُيقال للرجل إذا كانت فيه أُبنة: فلانٌ يَخبأ العصا. وقال الشاعر:

زوجُكِ زوجٌ صالحٌ
لكنَّه يَخْبا العصا

وفي الأمثال: تحذفه بالقول كما تحذف الأرنب بالعصا. وقال إياس بن قتادة العَبشمي:

سأنحَرُ أُولاها وأحذِفُ بالعصا
على إثْرِها إنِّي لِما قلتُ عازِمُ

قال ابن كُناسة في شرط الراعي على صاحب الإبل: ليس لك أن تذكُر أمي بخير ولا شر، ولك حذفي بالعصا عند غضبك، أصبتَ أم أخطأت، ولي مَقعدي من النار، وموضع يدي من الحارِّ والقار، كان العتبي يحدِّث في هذا بحديثين: أحدهما قوله عن الأعرابي: وكان إذا خرست والقار. كان العُتبي يحدِّث في هذا بحديثَين؛ أحدهما قوله عن الأعرابي: وكان إذا خرست الألسُن عن الرأي حذف بالصواب كما تحذف الأرنب بالعصا. وأما الحديث الآخر فذكر أن قومًا أضلوا الطريق، فاستأجروا أعرابيًّا يدلهم على الطريق، فقال: إني والله لا قومًا أضلُّوا الطريق، فاستأجروا أعرابيًّا يدلُّهم على الطريق، فقال: إني والله لا أخرج معكم حتى أشرط لكم وأشرط عليكم. قالوا: فهاتِ ما لك. قال: يدي مع أيديكم في الحارِّ والقار، ولي موضعي من النار موسَّع عليَّ ما فيه، وذِكر والدي عليكم محرَّم. قالوا: فهذا لك، فما لنا عليك إن أذنبت؟ قال: إعراضة لا تؤدي إلى تعب وعتب، وهجرة لا تمنع من مجامعة السُّفرة. قالوا: فإن لم تعتب؟ قال: فحذفة بالعصا أخطأت أم أصابت. وهذان الحديثان لم أسمعهما من عالِم، وإنما قرأتهما في بعض الكُتب من المُستحدَثين.

ولأهل المدينة عِصيٌّ في رءوسها عُجَر لا تكاد أكفُّهم تُفارقها إذا خرجوا إلى ضِياعهم ومتنزهاتهم، ولهم فيها أحاديث حسنة وأخبار طيِّبة.

وكان الأفشين٣٤ يقول: إذا ظفِرت بالعرب شدخت رءوس عُظمائهم بالدَّبُّوس. والدبوس شبيه بهذه العصا التي في رأسها عُجرة. وقال جَحشويه:
يا رَجلًا هامَ بلبَّادِ
مُعتدِلٍ كالغُصنِ ميَّادِ
هامَ به غسَّانُ لمَّا رأى
أيْرًا له مِثلَ عصا الحادي
ولم يَزَلْ يَهْوى أبو مالكٍ
كلَّ فتًى كالغُصنِ مُنآدِ
يُعجِبُه كلُّ مَتِينِ القُوى
للطَّعنِ في الأدبارِ مُعتادِ

وقالوا: تغمض الناقة عينها كي تركب العصا إلى الحوض. وهو في معنى قول أبي النجم:

تَخْشى العصا والزَّجرَ إنْ قِيلَ حَلِ
يُرسِلُها التغميضُ إنْ لم تُرسَلِ

وهذا مِثل قول الهُذلي:

ولأنتَ أشجَعُ من أُسامةَ إذ
شدُّوا المَناطقَ فوقَها الحَلَقُ
حدُّ السُّيوفِ على عواتِقِهم
وعلى الأكُفِّ ودُونَها الدَّرَقُ
كَغَماغِمِ الثِّيرانِ بيْنَهمُ
ضَربٌ تُغمَّضُ دُونَه الحَدَقُ

وقال حُميد بن ثَور الهِلالي:

اليومَ تُنتزَعُ العصا من ربِّها
ويَلُوكُ ثِنْيَ لِسانِه المِنْطيقُ

يقال: رجل كالقناة، وفرس كالقناة. وقال الشاعر:

متى ما يَجيءُ يومًا إلى المالِ وارِثي
يَجِدْ جَمْعَ كفٍّ غيرِ مَلْأى ولا صِفْرِ
يَجِدْ فَرَسًا مِثلَ القَناةِ وصارمًا
حُسامًا إذا ما هزَّ لم يَرْضَ بالهَبْرِ

وجاء في الحديث: أجدبت الأرض على عهد عمر، رضي الله تعالى عنه، حتى ألقت الرِّعاء العِصي، وعُطِّلت النَّعَم، وكُسِر العظم، فقال كعب: يا أمير المؤمنين، إن بني إسرائيل كانوا إذا أصابتهم السَّنة استسقَوا بعُصبة الأنبياء. فكان ذلك سبب استسقائه بالعبَّاس بن عبد المطلب.

وساوَرَت حيَّة أعرابيًّا فضربها بعصاه وسَلِم منها، فقال:

لولا الهَراوةُ والكفَّانِ أنهَلَني
حَوْضَ المَنيَّةِ قتَّالٌ لمَن ورَدا

وقال الآخر:

دعا ابنُ مُطِيعٍ للبِياعِ فجئتُه
إلى بَيعةٍ قلبي لها غيرُ آلِفِ
فناوَلَني خَشْناءَ لمَّا لَمَستُها
بكفِّيَ ليست من أكُفِّ الخلائفِ
من الشَّثِناتِ الكُزْمِ أنكَرتُ لَمْسَها
وليستْ منَ البِيضِ الرِّقاقِ اللَّطائفِ
مُعاوِدةً حَمْلَ الهَراوى لقَومِها
فَرُورًا إذا ما كانَ يومُ التَّنائفِ

وقال الحجَّاج بن يوسف لأنس بن مالك: والله لأقلعنَّك قَلْع الصمغة، ولأعصبنَّك عَصْب السَّلمة، ولأجرِّدنَّك تجريد الضب. وقال عمر رضي الله تعالى عنه لأبي مريم الحنفي: والله لا أحبك حتى تحب الأرض الدم المسفوح.

لأن الأرض لا تقبل الدم، فإذا جف الدم تقلَّع جُلَبًا.

ولقد أسرف المتلمِّس حيث يقول:

أحارِثُ إنَّا لو تُساطُ دِماؤُنا
تَزايَلنَ حتى لا يَمَسَّ دمٌ دَما

وأشَدُّ سَرفًا منه قول أبي بكر الشَّيباني، قال: كنت أسيرًا مع بني عم لي من بني شيبان، وفينا من مَوالينا جماعة في أيدي التغالبة، فضربوا أعناق بني عمي وأعناق الموالي على وَهدة من الأرض، فكنت والذي لا إله إلا هو أرى دم العربي ينماز من دم الموالي حتى أرى بياض الأرض بينهما، فإذا كان هجينًا قام فوقه ولم يعتزل. وأنشد الأصمعي:

يُذَدنَ وقد أُلقِيتَ في قَعرِ حُفرةٍ
كما ذِيدَ عن حَوضِ العِراكِ غَرائبُه

وقال العبَّاس بن مِرداس:

نُقاتِلُ عن أحسابِنا برِماحِنا
فنَضرِبُهم ضَرْبَ المُذِيدِ الخَوامِسا

وقال الفرزدق بن غالب:

ذكَرتُ وقد كادت عصا البَينِ تَنشَظي
خيالَك من سَلْمى وذو اللُّبِّ ذاكِرُ

وقال الأسدي:

إذا المرءُ أولاكَ الهَوانَ فأوْلِه
هَوانًا وإنْ كانت قريبًا أواصِرُه
ولا تَظلِمِ المَولى ولا تَضَعِ العصا
على الجهلِ إنْ طارت إليكَ بَوادِرُه

وقال جرير بن عطيَّة:

ألا رُبَّ مَصلوبٍ حمَلتُ على العصا
وبابُ اسْتِه عن مِنبَرِ المُلْكِ زائلُ

وقالوا في مديح العصا نفسها مع الأغصان وكرم جوهر العِصي والقِسي:

إذا قامت لسَبْحتِها تَثنَّت
كأنَّ عِظامَها من خَيزُرانِ

وقال المؤمَّل بن أُمَيل:

والقومُ كالعِيدانِ يَفضُلُ بَعضُهم
بَعضًا كذاك يَفُوقُ عُودٌ عُودا
لو تستطيعُ عنِ القضاءِ حِيادةً
وعنِ المَنيَّةِ أنْ تُصِيبَ مَحِيدا
كانت تُقيِّدُ حينَ تَنزِلُ مَنزِلًا
فالآنَ صارَ لها الكَلالُ قُيُودا

وقال آخر:

وأسْلَمَها الباكون إلَّا حَمامةً
مُطوِّقةً وَرْقاءَ بانَ قرينُها
تُجاوِبُها أخرى على خَيزُرانةٍ
يَكادُ يُدنِّيها من الأرضِ لِينُها

وقال الآخر:

ألا أيُّها الرَّكبُ المُخِبُّونَ هل لكم
بأُختِ بَني هِندٍ عُتيبةَ من عَهدِ
أألقَتْ عَصاها واستقرَّت بها النَّوى
بأرضِ بني قابوسَ أم ظعَنَت بَعْدي

وقال الآخر:

ألا هتَفَت وَرْقاءُ في رَونَقِ الضُّحى
على غُصُنٍ غَضِّ النَّباتِ من الرَّندِ

وقال آخر في امرأةٍ رآها في شارة وبِزَّة، فظنَّ بها جمالًا، فلما سفرت إذا هي غول، فقال:

وأظهَرَها ربِّي بمَنٍّ وقُدرةٍ
عليَّ ولولا ذاك مُتُّ منَ الكَربِ
فلمَّا بَدَت سبَّحتُ من قُبحِ وَجهِها
وقلتُ لها الساجورُ خيرٌ من الكَلبِ

وقال النبي : «يؤتى بقوم من هنا يُقادون إلى حظوظهم في السواجير.» والساجور يُسمَّى «الزَّمَّارة». قالوا: وفي الحديث: فأُتيَ الحجَّاج بسعيد بن جُبير وفي عنقه زمَّارة. وقال بعض المسجَّنين:

ولي مِسمَعانِ وزَمَّارةٌ
وظلٌّ مَديدٌ وحِصنٌ أمَقْ
وكم عائدٍ لي وكم زائرٍ
لوَ ابْصَرَني زائرًا قد شَهَقْ

المسمعان: القيدان. وسمَّى الغل الذي في عنقه زمارة. وأما قول الوليد:

اسقِني يا زُبَيرُ بالقَرقارةْ
قد ظَمِينا وحنَّتِ الزَّمَّارةْ
اسقِني اسقِني فإنَّ ذُنوبي
قد أحاطت فما لها كفَّارةْ

فالزمارة ها هنا المِزمار. وقال أيضًا صاحب الزمارة في صفة السجن:

فبِتُّ بأحصَنِها مَنزِلًا
ثقيلًا على عُنُقِ السَّالكِ
ولستُ بضَيفٍ ولا في كِرًا
ولا مُستعيرٍ ولا مالكِ
ولا مِسمَعانِ فأدناهما
يُغنِّي ويُمسِكُ في الحالكِ
وليسَ بغَصبٍ ولا كالرُّهُونِ
ولا يُشبِهُ الوقفَ عن هالكِ
وأقصاهما ناظرٌ في السماءِ
عمدًا وأرسَخُ من عاركِ

المسمعان ها هنا أحدهما قيده، والآخر صاحب الجرس.

أخبرني الكلابي قال: قاتلت بنو عم لي بعضهم بعضًا، فجعل بعضهم ينضمُّ إلى بعض لواذًا مني، وليس لي في ذلك هِجِّير إلا قولي:

قد جعَلَت تأوي إلى جُثمانِها
وكِرسِها العاديِّ من أعطانِها

فلما طلبوا القِصاص، قلت: دونكم يا بني عمي حقَّكم؛ فنحن اللحم وأنتم الشَّفرة، إن وهبتم شكرتُ، وإن اعتقلتم عقلت، وإن اقتصصتم صبرت.

قال: سألت يونس عن قوله: نَسْيًا مَنْسِيًّا. قال: تقول العرب إذا ارتحلوا عن المنزل ينزلونه: انظروا إلى أنسائكم. وهي العصا، والقَدَح، والشِّظاظ، والحبل. قال: فقلت: إني ظننت أن هذه الأشياء لا ينساها أربابها إلا لأنها أهوَن المتاع عليهم. قال: ليس ذلك كذلك، والمتاع الجافي يذكِّر بنفسه، وصغار المتاع تذهب عنها العيون، وإنما تذهب نفوس العامَّة إلى حِفظ كل شيء ثمين وإن صغُر جسمه، ولا يقفون على أقدار فوت الماعون عند الحاجة وفقد المحلات في الأسفار. وقال يونس: المنسيُّ ما تَقادم العهد به ونُسي حينًا لهوانه، ولم تكن مريم لتضرب المثل في هذا الموضع بالأشياء النفيسة التي الحاجة إليها أعظم من الحاجة إلى الشيء الثمين في الأسواق. وقال الأشهب بن رُميلة أو نَهشَل بن حري:

قال الأقاربُ لا تَغرُركَ كَثرتُنا
وأغْنِ نَفْسَك عنَّا أيُّها الرَّجُلُ
عَلَّ بَنيَّ يَشُدُّ اللهُ أعظُمَهم
والنَّبعُ يَنبُتُ قُضبانًا فيَكتهِلُ

وكان فرس الأخنس بن شهاب يُسمَّى «العصا»، والأخنس «فارس العصا». وكان لجَذيمة الأبرش فَرسٌ يُقال لها «العصا». ولبني جعفر بن كلاب «شحمة» و«الغدير» و«العصا»؛ فشحمة فرس جزء بن خالد، والعصا فرس عوف بن الأحوص، والغدير فرس شُريح بن الأحوص، و«العصا» أيضًا فرس شبيب بن كعب الطائي. وقال بعضهم أو بعض خطبائهم:

وليس عصاه من عَراجينِ نَخلةٍ
ولا ذاتِ سَيرٍ من عِصيِّ المُسافِرِ
ولكنَّها إمَّا سألتَ فنَبْعةٌ
وميراثُ شَيخٍ من جِيادِ المَخاصِرِ

والرجل يتمنَّى إذا لم تكُن له قوة وهو يجد مس العجز، فيقول: لو كان في العصا سير. وكذلك قال حبيب بن أوس:

ما لك من هِمَّةٍ وعَزمٍ
لو أنَّه في عَصاكَ سَيرُ
رُبَّ قليلٍ حدا كثيرًا
كم مَطرٍ بَدوُه مُطَيرُ
صَبرًا على النائباتِ صَبرًا
ما فَعَلَ اللهُ فهْوَ خَيرُ

وإذا لم يجعل المُسافر في عصاه سيرًا سقطت من يده إذا نعس.

وسئل عن قوله: وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى. قال: لست أحيط بجميع مآرب موسى عليه السلام، ولكني سأنبئكم جُملًا تدخل في باب الحاجة إلى العصا؛ من ذلك أنها تُحمَل للحيَّة، والعقرب، والذئب، والفحل الهائج، ولعير العانة في زمن هيج الفحول، وكذلك فحول الجحور في المروج، ويتوكَّأ عليها الكبير الدانف، والسقيم المُدنف، والأقطع الرِّجل، والأعرج، فإنها تقوم مقام رجل أخرى. وقال أعرابيٌّ مقطوع الرِّجل:

اللهُ يَعلَمُ أنِّي من رِجالِهمُ
وإنْ تَخدَّدَ عن مَتنَيَّ أطْماري
وإنْ رُزئتُ يدًا كانت تُجمِّلُني
وإنْ مشَيتُ على زُجٍّ ومِسمارِ
والعصا تنوب للأعمى عن قائده، وهي للقصَّار والفاشكار والدَّباغ، ومنها المِفأد للمَلَّة٣٥ ومِحراك للتنُّور. قال الشاعر:
إذا كانَ ضربُ الخُبزِ مَسحًا بخِرقةٍ
وأُخمِدَ دُونَ الطَّارِقِ التَّنُّورُ

كأنه يكره أن ينفض عنها الرماد بعصًا، فيستدل على أنه قد أنضج خبزته. يصفه بالبخل.

وهي لدقِّ الجصِّ والجِبسين٣٦ والسمسم. قال الشمَّاخ بن ضِرار:
وجَرُّ شِواءٍ بالعصا غيرِ مُنضَجِ

ولخبط الشجر، وللفَيج وللمُكاري، فإنهما يتَّخذان المخاصر؛ فإذا طال الشَّوط وبعدت الغاية استعانا في حُضْرهما وهَرولتهما في أضعاف ذلك بالاعتماد على وجه الأرض. وهي تعدِّل من ميل المفلوج، وتقيم من ارتعاش المُبرسَم، ويتَّخذها الراعي لغنمه، وكل راكب لمَركبه، ويُدخل عصاه في عُروة المِزود، ويُمسك بيده الطرف الآخر، وربما كان أحد طرفَيها بيد رجل والطرف الآخر بيد صاحبه وعليها حِملٌ ثقيل. وتكون إن شئت وتِدًا في حائط، وإن شئت ركَزتها في الفضاء وجعلتها قِبلة، وإن شئت جعلتها مِظلة، وإن جعلت فيها زُجًّا كانت عَنَزة، وإن زِدت فيها شيئًا كانت عُكَّازًا، وإن زدت فيها شيئًا كانت مِطردًا، وإن زدت فيها شيئًا كانت رمحًا. والعصا تكون سوطًا وسلاحًا.

وكان رسول الله يخطب بالقضيب، وكفى بذلك دليلًا على عِظم غَنائها وشرف حالها؛ وعلى ذلك الخُلفاء وكُبراء العرب من الخطباء.

وقد كان مروان بن محمد حين أُحيطَ به دفع البُرد والقضيب إلى خادم، وأمره أن يدفنهما في بعض تلك الرمال، ودفع إليه بنتًا له وأمره أن يضرب عنقها، فلما أُخِذ الخادم في الأسرى قال: إن قتلتموني ضاع ميراث النبي ، فأمَّنوه على أن يُسلِّم ذلك لهم.

وقال في صفة قناة:

وأسمَرُ عانِقٌ فيه سِنانٌ
شُراعيٌّ كساطعةِ الشُّعاعِ

وقال آخر:

هَونةٌ في العِنانِ تَهتزُّ فيه
كاهتزازِ القناةِ تحتَ العُقابِ

ومما يجوز في العصا قول الشاعر:

لِلْهامِ ضرَّابونَ بالمَناصِلِ
ضَرْبَ المُذِيدِ غُرَبَ النَّواهلِ

وقال عبَّاس بن مِرداس:

نُطاعِنُ عن أحسابِنا بِرِماحِنا
ونَضرِبُهم ضَرْبَ المُذِيدِ الخَوامِسا

وقال آخر:

دافَعَ عنها جَلَبيٌّ وَحْشِي
فهْو كَعُودِ النَّبْعةِ الأجَشِّ

وقال نُصَيب الأسود:

ومن يُبقِ مالًا عُدَّةً وصِيانةً
فلا الدَّهرُ مُبقِيه ولا الشُّحُّ وافِرُه
ومن يَكُ ذا عُودٍ صَليبٍ يُعِدُّه
ليَكسِرَ عُودَ الدَّهرِ فالدَّهرُ كاسِرُه

وقال آخر:

تَخيَّرتُ من نَعْمانَ عُودَ أراكةٍ
لهِندٍ ولكنْ مَن يُبلِّغُه هِندا
خَليليَّ عُوجا بارَكَ اللهُ فيكما
وإنْ لم تَكُنْ هندٌ لأرضِكِما قَصْدا
وقُولا لها ليس الضَّلالُ أجارَنا
ولكنَّنا جُرْنا لنَلْقاكمُ عَمْدا

وقال الآخر:

وتلك ثيابي لم تُدَنَّسْ بغَدْرةٍ
ووَرْيُ زِنادي في ذُرى المَجدِ ثاقبُ
ولو صادَفَت عُودًا سِوى عُودِ نَبْعةٍ
وهَيهاتَ أفنَتْه الخُطوبُ النَّوائبُ

وقال الآخر:

عصا شِرْيانةٍ دُهِنَت بِزُبدٍ
تَدُقُّ عِظامَه عَظمًا فعَظْما

وليس هذا مِثل قول لقيط بن زُرارة:

إذا دهَنوا رِماحَهمُ بِزَيتٍ
فإنَّ رِماح تَيمٍ لا تَضِيرُ

وقال صالح بن عبد القُدُّوس:

لا تَدخُلَنْ بِنَمِيمةٍ
بينَ العصا ولِحائِها

وقال شِبل بن معبد البَجَلي:

بَرَتْني صُروفُ الدَّهرِ من كلِّ جانبٍ
كما يَنْبري دُونَ اللِّحاءِ عَسِيبُ

وقال أوس بن حجر:

لَحَوتُهم لَحْوَ العَصا فطَرَدتُهم
إلى سَنةٍ جُرْذانُها لم تَحلَّمِ

وقال الرَّقاشي في صفة القناة التي تُبرى منها القِسي:

من شُقَقٍ خُضْرٍ بِرُوصِيَّاتِ
صُفْرِ اللِّحاءِ وحَلُوفِيَّاتِ
جُدِلْنَ حتَّى إضْنَ كالحيَّاتِ
وشائقًا غيرَ مؤبَّناتِ
آنَقَهنَّ مُتمطِّراتِ
عمرُو بنُ عُصفورٍ على استثباتِ

وقال محمد بن يسير:

ومُشمِّرينَ عن السَّواعِدِ حُسَّرٍ
عنها بكلِّ دقيقةِ التَّوتيرِ
ليس الذي تَشْوي يَداه رميَّةً
فيهم بمُعتذِرٍ ولا معذورِ
عُطُفِ السِّياتِ مَوانعٍ في عَطفِها
تُعْزى إذا نُسِبَت إلى عُصفورِ

ذهب إلى قوله:

في كفِّه مُعطِيةٌ مَنُوعُ

وهذا مِثل قوله:

خَرْقاءُ إلَّا أنَّها صَنَاعُ

وهذا مِثل قوله:

غادَرَ داءً ونَجا صحيحا

ومِثل قوله:

حتى نجا من جَوفِه وما نجا

وإذا طال قيام الخطيب صار فيه انحناء وجَنأ. وقال الأسدي:

أنا ابنُ الخالِدَينِ إذا تَلاقى
من الأيَّامِ يومٌ ذو ضَجَاجِ
كأنَّ اللُّعبَ والخُطباءَ فيه
قِسِيُّ مُثقِّفٍ ذاتُ اعوِجاجِ

وعلى هذا قال الشمَّاخ بن ضِرار:

فأضْحَت تَفالى بالسِّتارِ كأنَّها
رِماحٌ نَحاها وِجهةَ الرِّيحِ راكِزُ

وقال العُماني:

عاتٍ يرى ضَرْبَ الرِّجالِ مَغنَما
إذا رأى مُصدِّقًا تَجهَّما
وهزَّ في الكفِّ وأبدى مِعصَما
هَراوةً بنَبْعةٍ أو سَلَما
تَترُكُ ما رامَ رُفاتًا رِمَما

وقال أميَّة بن الأشكر:

هلَّا سألتِ بِنا إنْ كنتِ جاهلةً
ففي السؤالِ من الإعياءِ شافِيها
تُخبِرْكِ عنَّا مَعَدٌّ إنْ هُمُ صدَقوا
ومن قبائلِ نَجْرانٍ يَمانِيها
وبالجِيادِ نَجُرُّ الخيلَ عابسةً
كأنَّ مَذرُورَ مِلْحٍ في هَوادِيها
قومٌ إذا فَزَعُ الأقوامِ طافَ بهم
ألْقى العِصِيَّ عِصِيَّ الجَهلِ بارِيها

قال: والرجل إذا لم يكن معه عصًا فهو «باهل»، و«ناقة باهل وباهلة» إذا كانت بغير صِرار. وقال الراجز:

أبْهَلَها ذا يدِها وسبَّحا
ودقَّتِ المَركُوَّ حتَّى ابْلَندَحا

احتجنا إلى أن نذكُر ارتفاق بعض الشعراء من العُرجان بالعِصي عند ذكر العصا وتصرُّفها في المنافع، والذي نحن ذاكِروه من ذلك في هذا الموضع قليل من كثير مما ذكرناه في كتاب «العرجان»، فإن أردتموه فهو هناك موجود إن شاء الله تعالى.

قالوا: ولما شاع هجاء الحَكَم بن عبدل الأسدي لمحمد بن حسَّان بن سعد وغيره من الوُلاة والوجوه، هابَه أهل الكوفة، واتَّقى لسانَه الصغيرُ والكبير. وكان الحَكم أعرج لا تُفارقه عصاه، فترك الوقوف بأبوابهم، وصار يكتب على عصاه حاجته ويبعث بها مع رسوله فلا يُحبس له رسول، ولا يؤخَّر لقراءة الكتاب، ثم تأتيه الحاجة على أكثر مما قدَّر، وأوفر مما أمَّل؛ فقال يحيى بن نَوفل:

عَصا حَكَمٍ في الدَّارِ أوَّلُ داخِلٍ
ونحنُ على الأبوابِ نُقْصى ونُحجَبُ

وأما قول بِشر بن أبي خازم:

للهِ دَرُّ بَنِي حدَّاءَ من نَفَرٍ
وكلُّ جارٍ على جِيرانِه كَلِبُ
إذا غدَوا وعِصِيُّ الطَّلحِ أرجُلُهم
كما تُنصَّبُ وَسْطَ البِيعةِ الصُّلُبُ

وإنما يعني أنهم كانوا عُرجانًا، فأرجلهم كعصي الطلح، وعصي الطلح معوَجَّة، وكذلك قال مَعْدان الأعمى في قصيدته الطويلة التي وصف فيها الغالية والرافضة والتميمية والزيدية:

والذي طفَّفَ الجِدارَ من الذُّعـ
ـرِ وقد باتَ قاسِمَ الأنفالِ
فغَدا خامِعًا بوَجهٍ هشيمٍ
وبِساقٍ كعُودِ طَلْحٍ بالِ

وقال بعض العُرجان ممن جعل العصا رِجلًا:

ما للكَواعِبِ يا دَهماءُ قد جعَلَت
تَزوَرُّ عنِّي وتُلْقى دُونِيَ الخُمُرُ
لا أسمَعُ الصَّوتَ حتَّى أستديرَ له
ليلًا طويلًا يُناغِيني له القَمَرُ

وقال رجل من بني عِجل:

وشى بِيَ واشٍ عندَ ليلى سَفاهةً
فقالت له ليلى مَقالةَ ذي عَقْلِ
وخبَّرَها أنِّي عرَجتُ فلم تَكُنْ
كوَرْهاءَ تَجترُّ المَلامةَ للبَعلِ
وما بِيَ من عَيبِ الفتى غيْرَ أنَّني
جعلتُ العصا رِجلًا أُقِيمُ بها رِجْلي

وقال أبو ضبَّة في رِجله:

وقد جعَلتُ إذا ما نِمتُ أوجَعَني
ظَهْري وقمتُ قِيامَ الشارفِ الظِّهْري
وكنتُ أمشي على رِجلَينِ مُعتدِلًا
فصِرتُ أمشي على رِجلٍ منَ الشَّجرِ

وقال أعرابي من بني تميم:

وما بِيَ من عَيبِ الفتى غيْرَ أنَّني
ألِفتُ قَناتي حينَ أوجَعَني ظَهْري

قال: ودخل الحكَم بن عبدل الأسدي وهو أعرج على عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب، وهو أعرج، وكان صاحب شُرَطه أعرج، فقال ابن عبدل:

ألْقِ العصا ودَعِ التَّخادُعَ والتَمِسْ
عَملًا فهَذِي دولةُ العُرجانِ
لأميرِنا وأميرِ شُرطتِنا معًا
لكَلَيهما يا قَوْمَنا رِجْلانِ
فإذا يكونُ أميرُنا ووزيرُنا
وأنا فإنَّ الرابعَ الشيطانُ

ومما يدلك على أن للعصا مَوقعًا منهم، وأنها تدور مع أكثر أمورهم، قول مزرِّد بن ضِرار:

فجاءَ على بَكرٍ ثَفالٍ يَكُدُّه
عَصاه استُه وَحْيَ العجابةِ بالفِهرِ

ويقولون: اعتصى بالسيف، إذا جعل السيف عصًا، وإنما اشتقوا للسيف اسمًا من العصا لأن عامَّة المواضع التي تصلح فيها السيوف تصلح فيها العصي، وليس كل موضع تصلح فيه العصا يصلح فيه السيف. وقال الآخر:

ونحنُ صَدَعْنا هامَةَ ابنِ مُحرِّقٍ
كذلك نَقضي بالسُّيوفِ الصَّوارمِ

وقال عمرو بن الإطنابة:

وفتًى يَضرِبُ الكتيبةَ بالسَّيـ
ـفِ إذا كانتِ السُّيوفُ عِصِيَّا

وقال عمرو بن مُحرز:

نزَلوا إليهم والسيوفُ عِصِيُّهم
وتَذكَّروا دِمَنًا لهم وذُحُولا

وقال الفرزدق بن غالب بن صَعصَعة:

إنَّ ابنَ يوسفَ محمودٌ خلائقُه
سِيَّانِ مَعروفُه في النَّاسِ والمَطَرُ
هو الشِّهابُ الذي يُرْمى العَدُوُّ به
والمَشرَفيُّ الذي تَعْصى به مُضَرُ

يقال: عَصِيَ بالسيف واعتصى به.

قال العُريان بن الأسود في ابن له مات:

ولقد تَحمِلُ المُشاةُ كريمًا
ليِّنَ العُودِ ماجِدَ الأعراقِ
ذاكَ قَولي ولا كقَولِ نِساءٍ
مُعوِلاتٍ يَبكِينَ للأوراقِ

وكتب عمرو بن العاص إلى عمر بن الخطاب، رضي الله تعالى عنه: إن البحر خَلقٌ عظيم، يركبه خَلقٌ صغير، كأنهم دود على عود. وقال واثلة السدوسي:

رأيتُكَ لمَّا شِبتَ أدرَكَكَ الذي
يُصِيبُ سَراةَ الأزدِ حينَ تَشِيبُ
سَفاهةُ أحلامٍ وبُخلٌ بِنائلٍ
وفيكَ لمَن عابَ المَزُونَ عُيوبُ
لقد صبَرَت للذُّلِّ أعوادُ مِنبَرٍ
تقومُ عليها في يَدَيكِ قَضِيبُ
وقد أوحَشَت منهم رساتيقُ فارسٍ
وفي المِصرِ دُورٌ جَمَّةٌ ودُروبُ

وأنشد الأصمعي:

أعدَدتُ للضِّيفانِ كَلبًا ضاريًا
وهَراوةً مَجلُوزةً من أرزَنِ
ومَعاذِرًا كذِبًا ووَجهًا باسرًا
وتشكِّيًا عضَّ الزمانِ الألزَنِ
وشَذاةَ مَرهوبِ الأذى قاذورةٍ
خَشِنٍ جوانبُه دَلُوظٍ ضَيزَنِ
وبكفِّ مَحُبوكِ اليَدَينِ عنِ العُلا
والباعِ مُسوَدِّ الذِّراعِ مُقَحزَنِ
وتَجنِّيًا لهم الذُّنوبَ وأتَّقي
بغليظِ جِلدِ الوَجنتَينِ عَشَوزَنِ

وقال جرير:

تَصِفُ السُّيوفَ وغَيرُكم يَعصِي بها
يا ابنَ القُيونِ وذاك فِعلُ الصَّيقَلِ

وقال الراعي:

تَبِيتُ ورِجْلاها أذانانِ لِاسْتِها
عصاها استُها حتى يَكِلَّ قَعُودُها

وقال أعرابي للحُطيئة: ما عندك يا راعي الغنم؟ قال: عَجْراء من سَلَم. قال: إني ضيف. قال: للضِّيفان أعددتُها. وقال الشمَّاخ بن ضِرار:

إلى بَقَرٍ فيهنَّ للعَينِ مَنظرٌ
ومَلهًى لمَن يَلهُو بهنَّ أنِيقُ
رَعَينَ النَّدى حتَّى إذا وَقَدَ الحصا
ولم يَبْقَ من نَوءِ السِّماكِ بُرُوقُ

وقال امرؤ القيس:

قُولا لِدُودانٍ عَبِيدِ العصا
ما غرَّكم بالأسدِ الباسِلِ

وقال علي بن الغدير:

وإذا رأيتَ المَرءَ يَشعَبُ أمْرَه
شَعْبَ العصا ويُلِحُّ في العِصيانِ
فاعمِدْ لِمَا تَعلُو فما لك بالذي
لا تَستطيعُ من الأمورِ يَدانِ

وقال الآخر:

وهَجْهاجةٍ لا يَملأُ اللَّيلُ صَدْرَه
إذا النِّكسُ أغْضى طَرْفَه غيرَ أروَعِ
صحيحٍ بَرِيءِ العُودِ من كلِّ أُبْنةٍ
وجمَّاعِ نَهبِ الخَيرِ في كلِّ مَجمَعِ

وقال مِسكين الدارمي:

تَسْمُو بأعناقٍ وتَحبِسُها
عنا عِصِيُّ الذَّادةِ العُجرُ

حَباب بن موسى، عن مُجالد، عن الشعبي، عن جرير بن قيس قال: قدِمتُ المدائن بعدما ضُرِب علي بن أبي طالب، كرَّم الله تعالى وجهه، فلقِيَني ابن السوداء، وهو ابن حرب، فقال لي: ما الخبر؟ فقلت: ضُرِب أمير المؤمنين ضربةً يموت الرجل من أيسَرَ منها، ويعيش من أشد منها. قال: لو جئتمونا بدماغه في مائة صرَّة لعلِمنا أنه لا يموت حتى يذودكم بعصاه. وقال الله تبارك وتعالى:وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ. وقال الشاعر:

رأيتُ الغانياتِ نَفَرنَ منِّي
نُفُورَ الوَحشِ من رامٍ مُفِيقِ
رأينَ تَغيُّري وأرَدنَ لَدنًا
كغُصنِ البانِ ذي الفَنَنِ الوَرِيقِ

وقال أبو العتاهية:

عَرِيتُ منَ الشَّبابِ وكانَ غضًّا
كما يَعْرى من الوَرَقِ القَضِيبُ
ألا ليتَ الشَّبابَ يَعُودُ يومًا
فأُخبِرَه بما صَنَعَ المَشِيبُ

وقال الآخر:

فلئن عَمِرتُ لقد عَمِرتُ كأنَّني
غُصنٌ تُثنِّيه الرِّياحُ رَطِيبُ
وكذاك حقًّا من يُعمَّرْ يُبْلِه
كَرُّ الزَّمانِ عليه والتقليبُ
حتى يعودَ من البِلا وكأنَّه
في الكفِّ أفوَقُ ناصِلٌ مَعصوبُ
مَرِطُ القِذاذِ فليسَ فيه مَصنعٌ
لا الرِّيشُ يَنفَعُه ولا التَّعقيبُ

وقال عُروة بن الورد:

أليسَ وَرائي أنْ أدِبَّ على العصا
فيأمَنَ أعدائي ويَسأمَني أهلي؟

وأنشد:

عَصَوا لسُيوفِ الهندِ واعتركتْ بهم
بَراكاءُ مَوتٍ لا يَطِيرُ غُرابُها

وقال لبيد:

أليسَ وَرائي إنْ تَراخَتْ مَنيَّتي
لُزومُ العصا تُحْنى عليها الأصابعُ؟

وقال آخر:

نُقِيمُ العصا ما كانَ فيها لُدُونةٌ
وتأبى العصا في يُبسِها أنْ تُقوَّما

وقال الآخر:

إنَّ الغُصونَ إذا قوَّمتَها اعتدلتْ
ولن تَلِينَ إذا قوَّمتَها الخُشُبُ

وقال جرير:

ما للفَرَزدقِ من عِزٍّ يَلُوذُ به
إلا بَنُو العمِّ في أيدِيهم الخَشَبُ
سِيروا بَنِي العمِّ فالأهوازُ مَنزِلُكم
ونَهرُ تِيرَى فما تَدرِيكم العَرَبُ

وقال جرير في هجائه بني حنيفة:

أبناءُ نَخْلٍ وحِيطانٍ ومَزرَعةٍ
سُيوفُهم خَشَبٌ فيها مَساحِيها
قَطعُ الدِّيارِ وسَقيُ النَّخلِ عادتُهم
قِدْمًا وما جاوزَت هذا مَساعِيها
لو قِيلَ أينَ هَوادي الخيلِ ما عَلِموا
قالوا لأعجازِها هذي هَوادِيها
أو قيلَ إنَّ حِمامَ المَوتِ آخِذُكم
أو تُلجِموا فَرسًا قامت بَواكِيها
لمَّا رأتْ خالدًا بالعِرضِ أهلَكَها
قَتلًا وأسلَمَها ما قالَ طاغِيها
دانتْ وأعطَت يدًا للسَّلْمِ طائعةً
من بعدِ ما كادَ سيفُ اللهِ يُفنِيها

وقال سلامة بن جَندَل:

كنَّا إذا ما أتانا صارِخٌ فَزِعٌ
كان الصُّراخُ له قَرْعَ الظَّنابيبِ

ويُقال للخطاب إذا كان مرغوبًا فيه كريمًا: ذاك الفحل الذي لا يُقرع أنفه؛ لأن الفحل اللئيم إذا هبَّ على الناقة الكريمة ضربوا وجهه بالعصا. وقال الآخر:

كأنَّها إذ رُفِعَت عَصاها
نَعامةٌ أوحَدَها رَألاها

وممن أضافوه إلى عصاه داودُ مَلكِينَ اليَشكُري، وقد كان وليَ شُرطة البصرة.

وجاء في الحديث أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه أفاض من جَمْع وهو يَحرش بعيره بمِحجَنه. وقال الأصمعي: المِحجَن: العصا المعوجَّة. وفي الحديث المرفوع «أنه طاف بالبيت يستلم الأركان بمِحجَنه ثم يجذبه إليه». يريد بذلك تحريكه.

وقال الراعي:

فألقى عصا طَلحٍ ونَعلًا كأنَّها
جَناحُ السُّمانى رأسُها قد تَصوَّعا

والعصا أيضًا فرس شَبيب بن كُرَيب الطائي.

أبو الحسن، عن علي بن سليمان قال: كان شبيب بن كُريب الطائي يُصيب الطريق في خلافة علي بن أبي طالب، كرَّم الله تعالى وجهه، فبعث إليه أحمر بن شميط العِجلي وأخاه في فوارس، فهرب شبيب وقال:

ولمَّا أنْ رأيتُ ابنَي شميطٍ
بسِكَّةِ طيِّئٍ والبابُ دُوني
تجلَّلتُ العصا وعلِمتُ أنِّي
رَهِينُ مُخيِّسٍ إنْ يَثقِفُوني٣٧
ولو أنظَرتُهم شيئًا قليلًا
لَساقُوني إلى شَيخٍ بَطِينِ٣٨
شَدِيدِ مَجالِزِ الكفَّينِ صُلْبٍ
على الحَدَثانِ مُجتمِعِ الشُّئونِ٣٩

وقال النجاشي لأم كثير ابنة الصَّلت:

ولستُ بهِنديٍّ ولكنَّ ضَيْعةً
على رَجُلٍ لو تَعلَمينَ مزيرِ
وأعجَبتِني للسَّوطِ والنَّوطِ والعَصا
ولم تُعجِبيني خُلَّةً لأميرِ٤٠
وقال أعشى بني ربيعة:٤١
وكانَ الخلائفُ بعدَ الرَّسُو
لِ كلُّهمُ أُسوةً خاشِعا
شَهِيدَين من بعدِ صِدِّيقِهم
وكانَ ابنُ صَخرٍ هو الرَّابِعا٤٢
وكانَ ابنُه بعدَه خامسًا
مُطِيعًا لمن قَبْلَه سامِعا٤٣
ومَرْوانُ سادِسُ مَن قد مضى
وكانَ ابنُه بَعدَه سابِعا٤٤
وبِشرٌ يُدافِعُ عبدَ العزيزِ
مضى ثامنًا ذا وذا تاسِعا
وأيُّهمُ ما يَكُنْ سائسًا
لها لم يَكُنْ أمرُها ضائِعا
فإمَّا تَرَيني حَلِيفَ العَصا
فما كنتُ من وَثْبةٍ خامِعا٤٥
فساوَمَني الدَّهرُ حتَّى اشترى
شَبابي وكنتُ له مانِعا

وقال عوف بن الخَرِع:

ألا أبْلِغا عنِّي جُرَيحةَ آيةً
فهل أنتَ عن ظُلمِ العَشيرةِ مُقصِرُ؟
وإنْ ظعَنَ الحيُّ الجميعُ لِطِيَّةٍ
فأمرُكَ مَعصيٌّ وشَربُكَ مُغوِرُ٤٦
أفي صِرْمةٍ عِشرينَ أو هي دُونَها
قشَرتُم عَصاكم فانظُروا كيفَ تُقشَرُ٤٧
زَعمتُم من الهُجرِ المُضلِّلِ أنَّكم
ستَنصُرُكم عمرٌو علينا ومِنقَرُ٤٨
فيا شَجَرَ الوادي ألَا تَنصُرُونَهم
وقد كانَ بالمَرُّوتِ رِمثٌ وسَخبَرُ٤٩
ألمْ تَجعَلوا تَيمًا على شُعبتَي عصًا
فما يُنطِقُ المعروفَ إلا مُعَذِّرُ؟

وقال رجل من مُحارب يرثي ابنه:

ألمْ يَكُ رَطبًا يَعصِرُ القومُ ماءَه
وما عُودُه للكاسرين بِيابسِ؟

وقال حاجب [بن] زرارة: والله ما القعقاع برَطبٍ فيُعصَر، ولا يابس فيُكسَر.

وقال حمَّاد عَجرد:

وجَرَوا على ما عُوِّدوا
ولكلِّ عِيدانٍ عُصارةْ

وقال أيضًا:

فأنتَ أكرَمُ من يَمشي على قَدَمٍ
وأنضَرُ النَّاسِ عندَ النَّاسِ أغصانا
لو مجَّ عُودٌ على قَومٍ عُصارتَه
لمجَّ عُودُك فينا المِسكَ والبانا

وقال آخر:

وإنَّا وَجَدْنا النَّاسَ عُودَين طيِّبًا
وعُودًا خبيثًا ما يَبِضُّ على العَصرِ
تَزِينُ الفتى أخلاقُه وتَشِينُه
وتُذكَرُ أخلاقُ الفتى وهْو لا يدري

وقال المؤمِّل بن أُمَيل:

كانت تُقيَّدُ حينَ تَنزِلُ مَنزلًا
فاليومَ صارَ لها الكَلالُ قُيودا
والقومُ كالعِيدانِ يَفضُلُ بَعضُهم
بعضًا كذاك يَفُوقُ عُودٌ عُودا

وقالت ليلى الأخيليَّة:

نحنُ الأخائلُ لا يَزالُ غُلامُنا
حتى يَدِبَّ على العصا مَذكورا

انظر، أبقاك الله، في كم فن تصرَّف فيه ذِكر العصا من أبواب المنافع والمرافق، وفي كم وجه صرَّفه الشعراء وضُرِب به المثل، ونحن لو تركنا الاحتجاج لمخاصر البُلغاء، وعِصي الخُطباء، لم نجد بدًّا من الاحتجاج لجِلَّة المُرسَلين، وكبار النبيِّين؛ لأن الشعوبية قد طعنت في جملة هذا المذهب على قضيب النبي وعنَزته، وعلى عصاه ومِخصرته، وعلى عصا موسى؛ لأن موسى عليه السلام قد كان اتَّخذها من قبل أن يعلم ما عند الله فيها، وإلى ما يكون صيُّور أمرها. ألا ترى أنه لما قال الله عز وجل: وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى، قال: هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى. وبعد ذلك قال: قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى * فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى. ومن يستطع أن يدَّعيَ الإحاطة بما فيها من مآرب موسى إلا بالتقريب وذكر ما خطر على البال؟ وقد كانت العصا لا تُفارق يد سليمان بن داود عليهما السلام؛ في مقاماته، ولا صلواته، ولا في موته، ولا في أيام حياته، حتى جعل الله تسليط الأرَضة عليها وسليمان ميت، وهو معتمد عليها، من الآيات عند من كان لا يعلم أن الجن لم تكن تعلم إلا ما تعلم الإنس.

ولو علِم القوم أخلاق كل مِلَّة، وزِيَّ أهل كل لغة، وعِللهم في ذلك، واحتجاجهم له، لقلَّ شغبهم، وكفَونا مؤنتهم. وهذه الرُّهبان تتَّخذ العِصي من غير سقم ولا نقصان في جارحة، ولا بد للجاثليق من قناع، ومن مِظلَّة، وبُرطُلَّة،٥٠ ومن عكازة، ومن عصًا، من غير أن يكون الداعي إلى ذلك كبرًا ولا عجزًا في الخلقة. وما زال المُطيل القيام بالموعظة أو القراءة أو التلاوة يتخذ العصا عند طول القيام، ويتوكأ عليها عند المشي، كأن ذلك زائد في التكهُّل والزماتة،٥١ وفي نفي السُّخف والخِفَّة.

وبالناس، حفِظك الله، أعظم الحاجة إلى أن يكون لكل جنس منهم سيما، ولكل صنف منهم حِلية وسِمة يتعارفون بها. قال الفرزدق:

به نَدَبٌ ممَّا يَقولُ ابنُ غالبٍ
يَلُوحُ كما لاحَت وُسومُ المُصدِّقِ٥٢

وقال الآخر:

أنارَ حتى صدَقَت سِماتُه
وظهَرَت من كَرَمٍ آياتُه

وأنشد أبو عُبيدة:

سَقاها مِيسَمٌ من آلِ عمرٍو
إذا ما كانَ صاحِبُها جَحِيشا

وذكر بعض الأعراب ضروبًا من الوسم، فقال:

بِهنَّ في خُطَّافِها عَلطٌ وُسِمْ
وحَلَقٌ في آخِرِ الذِّفْرى نُظِمْ
معها نظامٌ مِثلُ خَطٍّ بالقَلَمْ
وقُرْمةٌ ولستُ أدري مَن قَرَمْ
عَرضٌ وخَبطٌ لمُجلِّيها الوَسَمْ

وقال الله تبارك وتعالى: سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ. وكما خالفوا بين الأسماء للتعارف. وقال الله عز وجل: وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ.

فعند العرب العِمَّة وأخذ المِخصرة من السِّيما. وقد لا يلبس الخطيب المِلحفة ولا الجُبَّة ولا القميص ولا الرِّداء، والذي لا بد منه العِمَّة والمِخصرة. وربما قام فيهم وعليه إزاره قد خالَف بين طرفَيه، وربما قام فيهم وعليه عِمامته وفي يده مِخصرته، وربما كان قضيبًا، وربما كانت العصا، وربما كانت قناة. وفي القنا ما هو أغلظ من الساق، وفيها ما هو أدق من الخنصر، وقد تكون مُحكَّكة الكعوب، مثقَّفة من الاعوجاج، قليلة الأبن، وربما كان العود نَبعًا، وربما كان شَوحطًا، وربما كان من آبنوس، ومن غرائب الخشب، ومن كرائم العيدان، ومن تلك المُلس المصفَّاة. وربما كانت لُب غُصن كريم؛ فإن للعيدان جواهر كجواهر الرجال، ولولا ذلك لمَا كانت في خزائن الخلفاء والملوك. ومنها ما لا تقربه الأرضة، ولا تؤثر فيه القوادح. والعُكاز إذا لم يكن في أسفله زُجٌّ فهو عصًا؛ لأن أطول القنا أن يُقال: رمحٌ خَطِل، ثم رمحٌ نائر، ثم رمحٌ مخموس، ثم رمحٌ مربوع، ثم رمحٌ مُطرد، ثم عُكاز، ثم عصًا، ثم من العِصي نُصُب المَساحي، والمرور، والقُدم، والفئوس والمعاول، والمناجل، والطبرزينات،٥٣ ثم تكون من ذلك نُصُب السكاكين، والسيوف، والمشامل. وكل سِهام نبعية، وغير ذلك من العيدان التي امتدحها أوس بن حجر، أو الشمَّاخ بن ضرار، أو أحد من الشعراء، فإنما هي من كل عصًا. وكل قوس بندق فإنما جيء بقناتها من بروص، ومُدِح ببَرْيها وصنعتها عُصفورٌ القوَّاس. وقال الرَّقاشي:٥٤
أنْعَتُ قَوسًا نَعْتَ ذي انتقاءِ
جاءَ بها جالِبُ بَروَضاءِ
عندَ اعتيامٍ منه وانتصاءِ
كافيةَ الطُّولِ على انتهاءِ
مَجلُوزةَ الأكعُبِ في استواءِ
سالمةً من أُبَنِ السِّيساءِ
فلمْ تَزَلْ مَساحِلُ البرَّاءِ
تأخذُ من طوائفِ اللِّحاءِ
حتى بَدَت كالحيَّةِ الصَّفراءِ
تَرنو إلى الطائرِ في السَّماءِ
بمُقْلةٍ سريعةِ الإقذاءِ
ليستْ بكَحْلاءِ ولا زَرْقاءِ

وقال آخر:

قد أغتدي مَلْثَ الظَّلامِ بفِتْيةٍ
للرَّميِ قد حسَروا له عن أذرُعِ٥٥
مُتنكِّبِينَ خرائطًا لبنادقٍ
من بينِ مَضفورٍ وبين مُرسِّعِ٥٦
بأكُفِّهم قُضبانُ بَروَصَ قد عَدَوا
للطَّيرِ قبلَ نُهوضِها للمَرتَعِ
تُقذِي مَنيَّاتُ الطُّيورِ عُيونَها
يومًا إذا رمِدَت بأيدي النُّزَّعِ
صُفْرِ البُطونِ كأنَّ لِيطَ مُتونِها
سَرَقُ الحريرِ نَواضرٌ لم تُشبَعِ٥٧
وكانت العنَزة التي تُحمَل بين يدَي رسول الله — وربما جعلوها قِبلة — أشهَر وأذكَر من أن يُحتاج في تثبيتها إلى ذِكر الإسناد. وكانت سيماء أهل الحرم إذا خرجوا من الحرم إلى الحِل في غير الأشهر الحُرُم أن يتقلدوا القلائد، ويعلِّقوا عليهم العلائق، وإذا أوذَم٥٨ أحدهم الحج تزيَّا بزِيِّ الحاج، وإذا ساق بدنةً أشعرها.٥٩ وخالفوا بين سِمات الإبل والغنم، وأعلموا البحيرة٦٠ بغير عَلَم السائبة، وأعلموا الحاميَ٦١ بغير عَلَم الفحول. وكذلك الفَرَع والرَّجبيَّة والوصيلة والعتيرة٦٢ من الغنم، وكذلك سائر الأغنام السائمة. وإذا كانت الإبل من حِباء ملك غرَزوا في أسنِمتها الريش والخِرَق؛ ولذلك قال الشاعر:
يَهَبُ الهِجانَ برِيشِها ورِعائِها
كالليلِ قبلَ صباحِه المتبلِّجِ

وإذا بلَغت الإبل ألفًا فقئوا عين الفحل، فإن زادت فقئوا العين الأخرى؛ فذلك «المفقَّأ» و«المعمَّى». وقال شاعرهم:

فقأتُ لها عَينَ الفَحيلِ تعيُّفًا
وفيهنَّ رَعلاءُ المَسامِعِ والحامي

وقال آخر:

وهَبْ لنا وأنتَ ذو امتنانِ
تُفقَأُ فيها أعيُنُ البُعرانِ

وقال الآخر:

فكانَ شُكْرَ القومِ عندَ المِنَنِ
كيُّ الصحيحاتِ وفَقءُ الأعيُنِ

وإذا كان الفحل من الإبل كريمًا قالوا «فَحِيل»، وإذا كان الفحل من النخل كريمًا قالوا «فُحَّال». وقال الراعي:

كانت نَجائبُ مُنذِرٍ ومُحرِّقٍ
أُمَّاتُهنَّ وطُرْقُهنَّ فَحِيلا

وكان الكاهن لا يلبس المصبَّغ، والعرَّاف لا يدع تذييل قميصه وسحب رِدائه، والحَكم لا يُفارق الوبر، وكان لحرائر النساء زي، ولكل مملوك زي، ولذوات الرايات زي. وكان الزبرقان يصبغ عمامته بصُفرة، وذكره الشاعر فقال:

وأشهَدُ من عَوفٍ حُلولًا كثيرةً
يَحُجُّونَ سِبَّ الزِّبرِقانِ المُعصفَرا

وكان أبو أُحيحة سعيد بن العاص إذا اعتمَّ لم يعتمَّ معه أحد، هكذا في الشعر، ولعل ذلك أن يكون مقصورًا في بني عبد شمس. وقال أبو قيس بن الأسلت:

وكان أبو أُحَيحةَ قد عَلِمتُم
بمكَّةَ غيرَ مُهتضَمٍ ذَمِيمِ
إذا شدَّ العِصابةَ ذاتَ يومٍ
وقامَ إلى المَجالسِ والخُصومِ
فقد حَرُمَت على من كانَ يَمشي
بمكَّةَ غيرَ مُدَّخِلٍ سَقِيمِ
وكانَ البَختريُّ غَداةَ جَمْعٍ
يُدافِعُهم بلُقمانَ الحكيمِ
بأزهَرَ من سَراةِ بني لؤيٍّ
كبَدرِ الليلِ راقَ على النُّجومِ
هو البيتُ الذي بُنِيَت عليه
قُرَيشُ السِّرِّ في الزَّمَنِ القديمِ
وسَطتَ ذوائبَ الفَرعَينِ منهم
فأنتَ لُبابُ سِرِّهم الصَّميمِ

وقال غَيلان بن خرَشة للأحنف: يا أبا بحر، ما بقاء ما فيه العرب؟ قال: إذا تقلَّدوا السيوف، وشدُّوا العمائم، واستجادوا النِّعال، ولم تأخذهم حميَّة الأوغاد. قال: وما حمية الأوغاد؟ قال: أن يعدُّوا التواهب ذُلًّا. وقال الأحنف: استجيدوا النِّعال؛ فإنها خلاخل الرجال. والعرب تُسمِّي السيوف بحمائلها «أردِية». وقال علي بن أبي طالب، رضي الله تعالى عنه، قولًا أحسن من هذا، قال: تمام جمال المرأة في خُفِّها، وتمام جمال الرجل في لِمَّته. ومما يؤكد ذلك قول مجنون بني عامر:

أأعقِرُ من جَرَّا كريمةَ ناقتي
ووَصْليَ مَفروشٌ لوَصلِ مُنازِلِ
إذا جاءَ قَعقَعنَ الحُلِيَّ ولم أكُنْ
إذا جئتُ أرجو صَوتَ تلك الخَلاخلِ
ولم تُغْنِ سيجانُ العِراقَينِ نَقْرةً
درفشُ القَلَنسى بالرِّجالِ الأطاوِلِ
والعصابة والعمامة سواء. وإذا قالوا: سيِّد معمَّم، فإنما يريدون أن كل جناية يجنيها الجاني في تلك العشيرة فهي معصوبة برأسه. وقال دُرَيد بن الصِّمَّة:٦٣
أبلِغْ نُعَيمًا وأوفى إنْ لقِيتَهما
إنْ لم يَكُنْ كانَ في سَمعَيهما صَمَمُ٦٤
فلا يَزالُ شِهابٌ يُستضاءُ به
يَهدي المَقانبَ ما لم تَهلِكِ الصِّمَمُ٦٥
عاري الأشاجِعِ مَعصوبٌ بلِمَّتِه
أمرُ الزَّعامةِ في عِرنِينِه شَمَمُ

وقال الكِناني:

تَنخَّبتُها للنَّسلِ وهْيَ غَريبةٌ
فجاءَت به كالبَدرِ خِرقًا مُعمَّما٦٦
فلو شاتَمَ الفِتْيانَ في الحيِّ ظالمًا
لما وجَدوا غيرَ التكذُّبِ مَشتَما

ولذلك قيل لسعيد بن العاصي «ذو العصابة». وقد قال القائل:

كَعابٌ أبوها ذو العِصابةِ وابنُه
وعُثمانُ ما أكفاؤُها بكَثيرِ
يقولها خالد بن يزيد.٦٧

وقال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: العمائم تيجان العرب.

وقيل لأعرابي: إنك لتُكثِر لُبْس العمامة؟ قال: إن شيئًا فيه السمع والبصر لجديرٌ أن يوقى من القُر.

وذُكرت العمامة عند أبي الأسود الدؤلي فقال: جُنَّة في الحرب، ومِكنَّة من الحر، ومِدفأة من القُر، ووقار في النَّدِي، وواقية من الأحداث، وزيادة في القامة، وهي تُعَد عادةً من عادات العرب. وقال عمرو بن امرئ القيس:٦٨
يا مالِ والسيِّدُ المعمَّمُ قد
يُبطِرُه بعدَ رأيِه السَّرَفُ
نحن بما عندَنا وأنتَ بما عنـ
ـدَك راضٍ والرأيُ مُختلِفُ٦٩

وكان من عادة فُرسان العرب في المواسم والجموع، وفي أسواق العرب، كأيام «عُكاظ» و«ذي المَجاز» وما أشبه ذلك، التقنُّع، إلا ما كان من أبي سليط طريف بن تميم، أحد بني عمرو بن جندب؛ فإنه كان لا يتقنع ولا يُبالي أن يُثبت عينه جميع فُرسان العرب. وكانوا يكرهون أن يُعرفوا، فلا يكون لفُرسانِ عدوِّهم همٌّ غيرهم، ولما أقبل «حَميصة الشيباني» يتأمل طريفًا، قال طريف:

أوَكُلَّما ورَدَت عُكاظَ قبيلةٌ
بَعَثوا إليَّ عَرِيفَهم يَتوسَّمُ
فتَوسَّموني إنَّني أنا ذاكمُ
شاكٍ سِلاحي في الحوادثِ مُعلَمُ
تَحْتي الأغَرُّ وفوقَ جِلديَ نَثْرةٌ
زَغفٌ تَرُدُّ السَّيفَ وهْوَ مُثلَّمُ
ولكلِّ بَكريٍّ إليَّ عداوةٌ
وأبو ربيعةَ شانئٌ ومُحلَّمُ

فكان هذا من شأنهم، وربما مع ذلك أعلم الفارس منهم نفسه بسيما، كان حمزة يوم بدر مُعلَمًا بريشة نعامة حمراء، وكان الزبير مُعلَمًا بعمامةٍ صفراء؛ ولذلك قال درهم بن زيد:

إنَّكَ لاقٍ غدًا غُواةَ بَنِي الـ
ـمَلْكاءِ فانظُرْ ما أنتَ مُزدهِفُ٧٠
يَمشُونَ في البِيضِ والدُّروعِ كما
تَمشي جِمالٌ مَصاعبٌ قُطُفُ٧١
فأبْدِ سِيماكَ يَعرِفوكَ كما
يُبدُونَ سِيماهم فتُعترَفُ
وكان «المقنَّع الكِندي»٧٢ الشاعر، واسمه «محمد بن عمير»، كان الدهر مقنَّعًا. والقناع من سيما الرؤساء، والدليل على ذلك، والشاهد الصادق، والحُجة القاطعة، أن رسول الله كان لا يكاد يُرى إلا مقنَّعًا. وجاء في الحديث: «حتى كأن الموضع الذي يصيب رأسه من ثوبه ثوب دهَّان.» وكان «المقنع»٧٣ الذي خرج بخُراسان يدَّعي الربوبية، لا يدع القناع في حال من الحالات، وجهِل ادعاء الربوبية من جهة المناسخة، فادَّعاها من الوجه الذي لا يختلف فيه الأحمر والأسود، والمؤمن والكافر، أن باطله مكشوف كالنهار، لا يُعرف في شيء من المِلل والنِّحل القول بالتناسخ إلا في هذه الفِرقة من الغالية. وهذا «المقنَّع» كان قصَّارًا من أهل مرو، وكان أعور ألكَن، فما أدري أيهما أعجب؛ أدعواه بأنه رب، أو إيمان من آمن به وقاتَل دونه! وكان اسمه عطاء.

وقال الآخر:

إذا المرءُ أثْرى ثم قالَ لقَومِه
أنا السيِّد المُفْضى إليه المُعمَّمُ
ولم يُعطِهم شيئًا أبَوا أنْ يَسُودَهم
وهانَ عليهم زَعمُه وهْوَ ألوَمُ

وقال آخر:

إذا كشَفَ اليومُ العَماسُ من استِه
فلا يَرتدي مِثلي ولا يَتعمَّمُ

قالوا: وكان «مصعب بن الزبير» يتعمَّم العقداء، وهو أن يعقد العمامة في القفاء.

وكان «محمد بن سعد بن أبي وقَّاص» الذي قتله الحجَّاج يعتمُّ المَيلاء.

وقال الفرزدق:

ولو شَهِدَ الخيلَ ابنُ سَعدٍ لقنَّعوا
عِمامتَه المَيلاءَ عَضبًا مهنَّدا

وقال شَمعلة بن أخضر الضبِّي:

جَلَبْنا الخيلَ من أطرافِ فَلْجٍ
تَرى فيها من الغَزوِ اقوِرارا
بكُلِّ طِمِرَّةٍ وبكلِّ طِرْفٍ
يَزِينُ سوادُ مُقلتِه العِذارا
حَوالَي عاصبٍ بالتَّاجِ منَّا
جَبِينَ أغَرَّ يَستلِبُ الدُّوارا
رئيسٌ ما يُنازِعُه رئيسٌ
سِوى ضَربِ القِداحِ إذا استشارا

وأنشد:

إذا لَبِسوا عَمائمَهم طوَوها
على كَرَمٍ وإنْ سفَروا أناروا
يَبيعُ ويَشتري لهمُ سِواهم
ولكنْ بالطِّعانِ هُمُ تِجارُ
إذا ما كنتَ جارَ بَنِي لؤيٍّ
فأنتَ لِأكرَمِ الثَّقلَينِ جارُ

وأنشد:

وداهيةٍ جَرَّها جارِمٌ
جعلتَ رِداءَك فيها خِمارا

ولذِكر العمائم مواضع. قال زيد بن كَثوة العَنبري:

مَنَعتُ من العُهَّارِ أطهارَ أُمِّه
وبعضُ الرِّجالِ المُدَّعَينَ زناءُ
فجاءتْ به عَبْلَ القَوامِ كأنَّما
عِمامتُه فوقَ الرِّجالِ لِواءُ

لأن العمامة ربما جعلوها لواءً، ألا ترى أن «الأحنف بن قيس» يوم «مسعود بن عمرو» حين عقد ﻟ «عبس بن طلق» اللواء، إنما نزع عمامته من رأسه فعقدها له.

وربما شدُّوا بالعمائم أوساطهم عند المجهدة، وإذا طالت العقبة؛ ولذلك قال شاعرهم:

فسِيرُوا فقد جَنَّ الظلامُ عليكمُ
فباسْتِ الذي يَرجو القِرى عندَ عاصمِ
دُفِعْنا إليه وهْوَ كالذَّيخِ حاظيًا
نَشُدُّ على أكبادِنا بالعَمائمِ٧٤

وقال الفرزدق:

بَنِي عاصمٍ إنْ تَلحَبوها فإنَّكم
مَلاحي للسَّوآتِ دُسْمُ العمائمِ

وقال آخر:

خليليَّ شُدَّا لي بفَضلِ عِمامتي
على كَبدٍ لم يَبقَ إلا صميمُها

العرب تَلهَج بذِكر النِّعال، والفُرس تَلهَج بذِكر الخِفاف. وفي الحديث المأثور أن أصحاب رسول الله كانوا ينهَون نساءهم عن لبس الخفاف الحُمْر والصُّفر، ويقولون: هو من زينة نساء آل فرعون.

وأما قول شاعرهم:

إذا اخضرَّتْ نِعالُ بني غُرابٍ
بَغَوا ووجدتَهم أسْرى لِئاما

فلم يُرِد صفة النعل، وإنما أراد أنهم إذا اخضرَّت الأرض وأخصبوا طغَوا وبغَوا، كما قال الآخر:

وأطوَلُ في دارِ الحِفاظِ إقامةً
وأوزَنُ أحلامًا إذا النَّعلُ أخضَلا

ومِثل قوله:

يا ابنَ هِشامٍ أهلَكَ النَّاسَ اللَّبَنْ
فكلُّهم يَسعى بسَيفٍ وقَرَنْ

وأما قول الآخر:

وكيف أُرجِّي أنْ أسُودَ عشيرتي
وأمِّيَ من سَلمى أبُوها وخالُها
رأيتُكمُ سُودًا جِعادًا ومالكٌ
مُخصَّرةٌ بِيضٌ سِباطٌ نِعالُها

فلم يذهب إلى مدح النِّعال في أنفُسها، وإنما ذهب إلى سباطة أرجُلهم وأقدامهم، ونفي الجعودة والقِصَر عنهم. وقال النابغة:

رِقاقُ النِّعالِ طيِّبٌ حُجُزاتُهم
يُحيَّونَ بالرَّيحانِ يومَ السَّباسِبِ
يَصُونونَ أجسادًا قَديمٌ نَعِيمُها
بخالصةِ الأردانِ خُضْرِ المَناكِبِ

قال: وبنو الحارث بن سدوس لم ترتبط حِمارًا قط، ولم تلبس نعلًا قط إذا نَقِبت، وقد قال قائلهم:

ونُلقِي النِّعال إذا نُقِّبَت
ولا نستعينُ بأخلاقِها
ونحن الذؤابةُ من وائلٍ
إلينا تَمُدُّ بأعناقِها

وهم رهط «خالد بن معمَّر»، يقول فيه شاعرهم:

مُعاوِيَ أمِّرْ خالدَ بنَ مُعمَّرِ
فإنَّك لولا خالدٌ لم تُؤمَّرِ

وقائلهم يقول:

أغاضِبةٌ عمرُو بنُ شَيبانَ أنْ رأتْ
عديدَينِ من جُرثومةٍ ودَخِيسِ
فلو شاءَ ربِّي كانَ أيْرُ أبيكمُ
طويلًا كأيْرِ الحارثِ بنِ سَدُوسِ

وكان عمر، رضي الله تعالى عنه، جعل رياسة بكر ﻟ «مَجزأة بن ثَور»، فلما استُشهد مجزأة جعلها أبو موسى لخالد بن المعمر، ثم ردَّها عثمان على «شقيق بن مجزأة» بن ثور، فلما خرج أهل البصرة إلى صِفِّين تنازع شقيق وخالدٌ الرياسة، فصيَّرها عند ذلك علي إلى حُضَين بن المُنذر، فرضي كل واحد منهما، وكان يخاف أن يصيرها إلى خصمه، فسكنت بكر، وعرف الناس صحة تدبير علي رضي الله تعالى عنه في ذلك. وأما قول الآخر:

يا ليتَ لي نَعلَينِ من جِلدِ الضَّبُعْ
وشُرُكًا من استِها لا تَنقطِعْ
كلَّ الحذاءِ يَحتذي الحافي الوَقِعْ
فهذا كلام مُحتاج، والمحتاج يتجوز. أما قول «النجاشي»٧٥ لهند بن عاصم:
إذا اللهُ حيَّا صالحًا من عِبادِه
كريمًا فحَيَّا اللهُ هِندَ بنَ عاصمِ
وكلُّ سَلوليٍّ إذا ما لقيتَه
سريعٌ إلى داعي النَّدى والمَكارمِ
ولا يأكلُ الكَلبُ السَّرُوقُ نِعالَهم
ولا تنتقي المُخُّ الذي في الجَماجمِ

فقال يونس: كانوا لا يأكلون الأدمغة، ولا ينتعلون إلا بالسِّبت.

وقال كُثيِّر:

إذا نُبِذَت لم تَطَّبِ الكلبَ ريحُها
وإنْ وُضعَت في مَجلسِ القومِ شُمَّتِ

وقال عُتيبة بن الحارث، وهو ابن فَسوة:

إلى مَعشرٍ لا يَخصِفونَ نِعالَهم
ولا يَلبَسونَ السِّبتَ ما لم يُخصَّرِ

وإذا مدح الشاعر النعل بالجودة فقد بدأ بمدح لابسها قبل أن يمدحها.

قال الله تبارك وتعالى لموسى على نبينا وعليه السلام: فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى.

وقال بعض المفسِّرين: كان من جلدٍ غير ذكي. وقال الزبيري: ليس كما قال، بل أعلمه حق المقام الشريف، والمدخل الكريم. ألا ترى أن الناس إذا دخلوا إلى الملوك ينزعون نعالهم خارجًا؟ قال: وحدَّثنا سلَّام بن مِسكين قال: ما رأيت الحسن إلا وفي رِجلَيه النعل، رأيته على فِراشه وهي في رِجلَيه، وفي مسجده وهو يصلِّي وهي في رِجلَيه. وكان بكر بن عبد الله تكون نعله بين يدَيه، فإذا نهض إلى الصلاة لبسها. ورُوي ذلك عن عمرو بن عُبيد، وهاشم الأوقص، وحوشب، وكلاب، وعن جماعة من أصحاب الحسن.

وكان الحسن يقول: ما أعجب قومًا يرَون أن رسول الله صلَّى في نَعلَيه، فلما انفتل من الصلاة علِم أنه قد كان وطئ على كذا وكذا، وأشباهًا لهذا الحديث، ثم لا نرى أحدًا منهم يصلِّي مُنتعِلًا.

وأما قوله:

قامَ بَناتي بالنِّعالِ حواسرًا
وألصَقنَ وَقْعَ السِّبتِ تحتَ القلائدِ

فإن النساء ذوات المصائب إذا قعدن في المناحات كنَّ يضربن صدورهن بالنِّعال.

وقال محمد بن يسير:

كم أرى من مُستعجِبٍ من نِعالٍ
ورِضائي منها بلُبسِ البوالي
كلُّ جَرْداءَ قد تَحيَّفها الخَصـ
ـفُ بأقطارِها بسَرْوِ النِّعالِ
لا تُدانى وليس تُشبِهُ في الخِلـ
ـقةِ إنْ أُبرِزَت نِعالَ المَوالي
لا ولا عن تَقادُمِ العَهدِ منها
بَلِيَت لا ولا لكَرِّ الليالي
ولقد قُلتُ حينَ أُوثِرَ ذا الودِّ
عليها بثَرْوتي وبمالي
من يُغالي من الرِّجالِ بنَعلٍ
فسِوائي إذًا بِهنَّ يُغالي
أو بَغاهُنَّ للجَمالِ فإنِّي
في سِواهنَّ زِينتي وجَمالي
في إخائي وفي وفائي ورأيي
وعفافي ومَنطِقي وفَعالي
ما وَقاني الحَفا وبلَّغَني الحا
جةَ مِنها فإنَّني لا أُبالي

وقال خلَف الأحمر:

سَقى حُجَّاجَنا نَوءُ الثُّريَّا
على ما كانَ من مَطْلٍ وبُخْلِ
هُمُ جمَعوا النِّعالَ فأحرَزوها
وسدُّوا دُونَها بابًا بقُفْلِ
إذا أهدَيتُ فاكهةً وشاةً
وعَشْرَ دَجايِجٍ بَعَثوا بنَعلِ
ومِسْواكَينِ طُولُهما ذِراعٌ
وعَشرٌ من رَدِيِّ المُقْلِ خَشْلِ
فإنْ أهدَيتُ ذاك لتَحمِلوني
على نَعلٍ فدَقَّ اللهُ رِجْلي

وقال كُثيِّر:

كأنَّ ابنَ ليلى حين يبدو فتَنجلي
سُجوفُ الخِباءِ عن مَهِيبٍ مُشمَّتِ
مُقارِبُ خَطوٍ لا يُغيِّرُ نَعلَه
رَهِيفَ الشِّراكِ سَهلةَ المُتسمِّتِ
إذا طُرِحَت لم تَطَّبِ الكَلبَ رِيحُها
وإنْ وُضِعَت في مَجلسِ القومِ شُمَّتِ

وقال بشَّار:

إذا وُضِعَت في مَجلسِ القَومِ نَعلُها
تَضوَّعَ مِسكًا ما أصابَت وعَنبَرا

ولما قال علي بن أبي طالب، رضي الله تعالى عنه، لصَعصعة بن صُوحان في المُنذر بن الجارود ما قال، قال صعصعة: يا أمير المؤمنين، لئن قلت ذاك إنه لنظَّار في عِطفَيه، تفَّال في شِراكَيه، تُعجِبه حُمرة بُردَيه.

وذم رجلٌ ابن التوءم فقال: رأيته مشحَّم النعل، دَرِن الجَورب، مغضَّن الخُف، دقيق الجِرِبَّان.

وقال الهيثم: يمينٌ لا يحلف بها الأعرابي أبدًا، أن يقول: لا أورَدَ الله لك صادرًا، ولا أصدر لك واردًا، ولا حطَطتَ رَحلَك، ولا خلعت نعلك.

وقال آخر:

عَلِقَ الفؤادُ بِرَيِّقِ الجَهلِ
وأبرَّ واستعصى على الأهلِ
وصَبا وقد شابتْ مَفارِقُه
سَفَهًا وكيف صَبابةُ الكَهلِ؟
أدركتُ مُعتصَري وأدرَكَني
حِلمي ويسَّرَ قائدي نَعلي

(٤) ثم رجع الكلام إلى القول في العصا

قال ابن عبَّاس، رضي الله تعالى عنهما، في تعظيم شأن عصا موسى على نبينا وعليه السلام: الدابَّة ينشقُّ عنها الصفا، معها عصا موسى وخاتم سليمان؛ تمسح المؤمن بالعصا، وتختم الكافر بالخاتم.

وجعل الله تبارك وتعالى أكبر آداب النبي في السواك، وحضَّ عليه ، والمِسواك لا يكون إلا عصًا.

وقال أبو الوجيه: قُضبان المساويك البَشام، والضَّرو، والعَتم، والأراك، والعُرجون، والجريد، والإسحِل.

وقد يلبس الناس الخِفاف والقلانس في الصيف كما يلبسونها في الشتاء إذا دخلوا على الخلفاء وعلى الأمراء، وعلى السادة والعُظماء؛ لأن ذلك أشبه بالاحتفال، وبالتعظيم والإجلال، وأبعد من التبذُّل والاسترسال، وأجدر أن يفصلوا بين مواضع أُنْسهم في منازلهم ومواضع انقباضهم.

وللخلفاء عِمة، وللفقهاء عمة، وللبغَّالين عمة، وللأعراب عمة، وللصوص عمة، وللأبناء عمة، وللروم والنصارى عمة، ولأصحاب التشاجي عمة.

ولكل قوم زِي؛ فللقضاة زي، ولأصحاب القضاة زي، وللشُّرَط زي، وللكُتَّاب زي، ولكُتَّاب الجند زي؛ ومن زيِّهم أن يركبوا الحمير وإن كانت الهماليج لهم مُعرِضة.

وأصحاب السلطان ومن دخل الدار على مراتب؛ فمنهم من يلبس المبطَّنة، ومنهم من يلبس الدُّرَّاعة، ومنهم من يلبس القباء، ومنهم من يلبس البازبكند، ويعلِّق الخنجر، ويأخذ الجُرز، ويتَّخذ الجُمَّة.

وزي مجالس الخلفاء في الصيف القطن، وفي الشتاء فُرُش الصوف. وترى أن ذلك أجزل وأكمل وأفخم وأقبل؛ ولذلك وضعت ملوك العجم على رءوسها التِّيجان، وجلست على الأسِرَّة، وظاهرت بين الفُرُش. وهل يملأ عيونَ الأعداء، ويُرعب قلوبَ المُخالفين، ويحشو صدورَ العوام إفراط التعظيم، وتعظيم شأن السلطان، والزيادة في الأقدار، إلا الآلات؟ وهل دواؤهم إلا في التهويل عليهم؟ وهل يُصلحهم إلا إخافتك إيَّاهم؟ وهل ينقادون لِما فيه الحظ لهم، ويُسلِّمون بالطاعة التي فيها صلاح أمورهم، إلا بتدبيرٍ يجمع المحبة والمهابة؟

وكانت الشُّعراء تلبس الوَشي والمقطَّعات والأردِية السُّود، وكل ثوب مشهَّر، وقد كان عندنا منذ نحو من خمسين سنةً شاعرٌ يتزيَّا بزيِّ الماضين، وكان له بُرْد أسود يلبسه في الصيف والشتاء، فهجاه بعض الطِّياب من الشعراء، فقال في قصيدة له:

بِعْ بُرْدَك الأسوَدَ قبلَ البَرْدِ
في قُرَّةٍ تأتِيكَ صَمًّا صَرْدِ

وكان لجِرِبَّان قميص بشَّار الأعمى وجُبَّته لَبِنتان، فكان إذا أراد نزع شيء منهما أطلق الأزرار فسقطت الثياب على الأرض، ولم ينزع قميصه من جهة رأسه قط. و«قدوَيه العدوي الشحَّاجي» لم يلبس قميصًا قط، وهو اليوم حي، وهو شيخهم. وسعيد بن العاص الجواد الخطيب لم ينزع قميصه قط. فقدويه الشحَّاجي ضد سعيد بن العاص الأموي.

وقال الحطيئة:

سَعيدٌ فلا تَغرُرْكَ قِلَّةُ لَحمِه
تَخدَّدَ عنه اللَّحمُ فهْوَ صَلِيبُ

وكان شديد السواد نحيفًا.

ومن شأن المُتكلمين أن يُشيروا بأيديهم وأعناقهم وحواجبهم، فإذا أشاروا بالعصا فكأنهم قد وصلوا بأيديهم أيديًا أُخَر. ويدلُّك على ذلك قول الأنصاري حيث يقول:

وسارتْ لنا سيَّارةٌ ذاتُ سؤددٍ
بكُومِ المَطايا والخُيولِ الجَماهِرِ
يؤمُّونَ مَلْكَ الشَّامِ حتَّى تَمكَّنوا
مُلوكًا بأرضِ الشَّامِ فوقَ المَنابِرِ
يُصِيبونَ فَصْلَ القَولِ في كلِّ خُطبةٍ
إذا وصَلوا أيمانَهم بالمَخاصِرِ

وقال الكُميت بن زيد:

ونَزُورُ مَسلَمةَ المُهذَّ
بَ بالمؤيَّدةِ السَّوائرْ
بالمُذهَباتِ المُعجِبا
تِ لمُفحَمٍ منَّا وشاعِرْ
أهلُ التَّجاوُبِ في المَحا
فِلِ والمَقاوِلِ بالمَخاصِرْ

وأيضًا إن حَمْل العصا والمِخصرة دليل على التأهُّب للخطبة، والتهيُّؤ للإطناب والإطالة، وذلك شيءٌ خاص في خطباء العرب، ومقصور عليهم، ومنسوب إليهم، حتى إنهم ليذهبون في حوائجهم والمخاصرُ في أيديهم؛ اتقاءً وتوقعًا لبعض ما يوجِب حملها والإشارة بها.

وعلى ذلك المعنى أشار النساء بالمآلي وهن قيام في المناحات؛ وعلى ذلك المثال: ضربن الصدور بالنِّعال.

وإنما يكون العجز والذِّلَّة في دخول الخلل والنقص على الجوارح، فأما الزيادة فيها فالصواب فيه، وهل ذلك إلا كتعظيم كُور العمامة، واتخاذ القضاة القلانس العظام في حمارَّة القَيظ، واتخاذ الخلفاء العمائم على القلانس؟ فإن كانت القلانس مكشوفةً زادوا في طولها وحدَّة رءوسها حتى تكون فوق قلانس جميع الأمة، وكذلك القناع؛ لأنه أهيب.

وعلى ذلك المعنى كان يتقنَّع «العبَّاس بن محمد» و«عبد الملك بن صالح»، و«العبَّاس بن موسى» وأشباههم. و«سليمان بن أبي جعفر»، و«عيسى بن جعفر»، و«إسحاق بن عيسى»، و«محمد بن سليمان»، ثم «الفضل بن الربيع» و«السندي بن شاهك» وأشباههما من الموالي؛ لأن ذلك أهيَب في الصدور، وأجَلُّ في العيون. والمتقنِّع أروَع من الحاسر؛ لأنه إذا لم يُفارقه الحِجاب وإن كان ظاهرًا في الطرق، وكان أشبه بملاينة العوام وسياسة الرعية. وطرح القِناع ملابسة وابتذال، ومؤانسة ومقاربة.

والدليل على صواب هذا العمل من بني هاشم، ومن صنائعهم ورجال دعوتهم، وأنهم قد علِموا حاجة الناس إلى أن يهابوهم، وأن ذلك هو صلاح شأنهم، أن رسول الله كان أكثر الناس قناعًا.

والدليل على أن ذلك كان في الأسلاف المتبوعين، أنَّا نجد رؤساء جميع أهل المِلل وأرباب النِّحل على ذلك؛ ولذلك اتَّخذوا في الحروب الرايات والأعلام، وإنما ذلك كله خِرَق سُود وحُمْر وصُفر وبِيض. وجعلوا اللواء علامةً للعَقد، والعَلَم في الحروب مرجعًا لصاحب الجولة. وقد علِموا أنها وإن كانت خِرقًا على عِصيٍّ أن ذلك أهيَبُ في القلوب، وأهوَل في الصدور، وأعظم في العيون؛ ولذلك أجمعت الأمم رجالها ونساؤها على إطالة الشعور؛ لأن ذا الجُمَّة أضخم هامةً، وأطول قامة، والكاسي أفخم من العاري. ولولا أن حلق الرأس طاعة وعبادة، وتواضع وخضوع، وكذلك السعي ورمي الجِمار، لمَا فعلوا ذلك. وفي الحديث أنه لا يفتح عمُّوريةَ إلا رجالٌ ثيابهم ثياب الرُّهبان، وشعورهم شعور النساء. وكل ما زادوه في الأبدان، ووصلوه في الجوارح، فهو زيادة في تعظيم تلك الأبدان.

والعِصي والمَخاصر — مع الذي عددناه، ومع الذي ذكرناه، ونريد ذِكره من خِصال منافعها — كله بابٌ واحد في المعنى.

والمغنِّي قد يوقِّع بالقضيب على أوزان الأغاني، والمُتكلم قد يُشير برأسه ويده على أقسام كلامه وتقطيعه، ففرَّقوا ضروب الحركات على ضروب الألفاظ وضروب المعاني، ولو قُبضت يده ومنع حركة رأسه لذهب ثُلُثا كلامه.

وقال عبد الملك بن مروان: لو ألقيت الخَيزُرانة من يدي لذهب شطر كلامي.

وأراد معاوية سحبان وائل على الكلام، وقد كان اقتضبه اقتضابًا، فلم ينطق حتى أتَوه بمِخصرة فرطَلها بيده فلم تُعجِبه، حتى أتَوه بمِخصرته من بيته. والمثل المضروب بعصا الأعرج، يقولون: أقرَبُ من عصا الأعرج. ويضربون المثل بعصا النَّهدي. وقال علقمة في صفة فرس أنثى:

سُلاءةٌ كعصا النَّهدي غُلَّ لها
مُنظَّمٌ من نَوى قُرَّانَ مَعجومُ

ويضربون المثل برُمَيح أبي سعد، وكان أبو سعدٍ أعرج، وفَد في وفْدِ عَدوان. قال ذو الإصبع العَدواني:

إنْ تَكُنْ شِكَّتي رُمَيحَ أبي سَعـ
ـدٍ فقد أحمِلُ السِّلاحَ مَعا

قال عبَّاس بن مِرداس:

جَزى اللهُ خيرًا خَيْرَنا لصَدِيقِه
وزوَّدَه زادًا كزَادِ أبي سَعدِ
وزوَّدَه صِدقًا وبِرًّا ونائلًا
وما كانَ في تلك الوِفادةِ من حَمدِ

وقال آخر:

فآبَ بجَدْوى زامِلٍ وابنُ زامِلٍ
عدُوُّك أو جَدْوى كُلَيبِ بنِ وائلِ

ويقولون: لو كان في العصا سير! ويقولون: ما هو إلا أُبْنة عصًا، وعُقدة رِشا. ويقولون: أخرج عوده كعصا البقَّار، وأخرج عوده كعصا الحادي.

وكان أبو العتاهية أهدى إلى أمير المؤمنين المأمون عصا نَبْع، وعصا شريان، وعصا آبنوس، وعصًا أخرى كريمة العِيدان، شريفة الأغصان، وأرديةً قطرية، ورِكاءً يمانية، ونِعالًا سِبتية، فقَبِل من ذلك عصًا واحدة وردَّ الباقي. وبعث إليه مرةً أخرى بنعل وكتب إليه:

نَعلٌ بَعَثتُ بها لتَلبَسَها
تَسعى بها قَدَمٌ إلى المَجدِ
لو كنتُ أقدِرُ أنْ أُشرِّكَها
خَدِّي جعلتُ شِراكَها خَدِّي

فقبِلها.

الكلبي عن أبي صالح، عن ابن عبَّاس، أن الشجرة التي نُودي منها موسى على نبينا وعليه السلام هي عَوسج، وأنه نُودي من جَوف العَوسج، وأن عصاه كانت من آس الجنة، وأنها كانت من العود الذي في وسط الورقة، فكان طولها طول موسى عليه السلام. وقالوا: من العُلَّيق.

وقال آخر:

صَفْراءُ من نَبعٍ كلَونِ الوَرْسِ
أبدؤُها بالدَّهنِ قبلَ نَفْسي

وأنشد الأصمعي عن بعض الأعراب:

ألا قالتِ الخَنساءُ يومَ لقِيتُها
كبِرتَ ولم تَجزَع من الشَّيبِ مَجزَعا
رأتْ ذا عصًا يَمشي عليها وشَيبةٍ
تَقنَّعَ منها رأسُه ما تَقنَّعا
فقلتُ لها لا تَهْزئي بي فقلَّما
يَسُودُ الفتى حتى يَشِيبَ ويَصلَعا
ولَلْقارِحُ اليَعبوبُ خيرٌ عُلالةً
من الجَذَعِ المُجرى وأبعَدُ مَنزَعا

وقال إسحاق بن سُويد:

في رِداءِ النَّبيِّ أقوى دليلٍ
ثُمَّ في العَقْبِ والعَصا والقَضيبِ
وقال أبو الشيص الأعمى٧٦ في هارون الرشيد:
يا بَنِي هاشمٍ أفيقوا فإنَّ الـ
ـمُلكَ منكم حيثُ العَصا والرِّداءُ
ما لِهارونَ في قُرَيشٍ كِفاءٌ
وقُرَيشٌ ليست لهم أكْفاءُ

وقال الآخر:

على خَشَباتِ المُلكِ منه مَهابةٌ
وفي الحربِ عَبلُ السَّاعدَينِ قَرُوعُ
يَشُقُّ الوَغى عن رأسِه فضْلُ نَجْدةٍ
وأبيَضُ من ماءِ الحديدِ وقيعُ

ومما يجوز أيضًا في العصا قول أبي الشيص:

أنْعى فَتى الجُودِ إلى الجُودِ
ما مِثلُ مَن أنْعى بمَوجودِ
أنْعى فتًى مصَّ الثَّرى بعدَه
بقيَّةَ الماءِ من العُودِ

ومن هذا الباب قول عبد الله بن جُدعان:

فلم أرَ مِثلَهم حيَّينِ أبْقى
على الحَدَثانِ إنْ طرَقَت طُرُوقا
وأصبَرَ عندَ ضَنكِ الأمرِ منهم
وأسلَكَهم لأحزَنِه طريقا
شرَيتُ صَلاحَهم بتِلادِ مالي
فعادَ الغُصنُ مُعتدِلًا ورِيقا
ويقولون للرَّجل إذا أفاد وأثرى وكثُرت نعمته: ضع عصاك، وقد وضع عصاه. وقال أبو الأعور سعيد٧٧ بن زيد بن عمرو بن نُفيل:
وتَجُرُّ الأذيالَ في نعمةٍ زَوْ
لٍ تَقُولانِ ضَعْ عَصاكَ لِدَهرِ

ويقولون للمستوطِن في البلد والمُستطيب للمكان: قد ألقى عصاه. وقال زُهير بن أبي سُلمى:

فلمَّا وَرَدنَ الماءَ زُرْقًا جِمامُه
وضَعنَ عِصِيَّ الحاضِرِ المُتخيِّمِ٧٨
١  الشعوبية: فِرقة من الناس يذهبون إلى تحقير شأن العرب وتصغير أمرهم، ويرون أن لا فضل لهم على غيرهم، ومنهم من يسوِّي العرب بسواهم من الأمم والشعوب، ومنهم من يفضِّل بعض أنواع العجم عليهم. ومَنشأ ذلك أن زياد بن أبيه لما استلحقه معاوية بأبي سفيان علِم أن العرب لا تُقرُّ له بذلك مع عِلمهم بنَسبه، فعمل كتاب المثالب، وألصق بالعرب كل نقيصة، ثم ثنَّى على ذلك الهيثم بن عدي، وكان دعيًّا فأراد أن يُعرَّ أهل الشرف تشفِّيًا منهم، ثم جدَّد ذلك أبو عُبيدة مَعمر بن المثنَّى وزاد فيه؛ لأن أصله يهودي. ولابن غرسية رسالةٌ فصيحة في تفضيل العجم على العرب. ثم نشأ غيلان الشعوبي الورَّاق، وكان مُتزندقًا، فعمل لطاهر بن الحُسين كتابًا خارجًا عن آداب الإسلام، بدأ فيه بمَثالب بني هاشم ثم بطون قريش ثم سائر العرب، وبَهَتهم بكل نقيصة، وأجازه طاهر عليه بثلاثين ألفًا. وكان هشام بن عبد الملك قد أمر النضر بن شُميل وخالد بن سَلمة المخزومي فوضعا كتابًا في مثالب العرب ومناقبها، وليس لقريش في هذا الكتاب ذِكر.
٢  أوس بن حجر الأسدي، قال أبو عمرو بن العلاء: كان أوس فَحْل مُضَر حتى نشأ النابغة وزُهير فأخملاه. وقال الأصمعي: كان أوس أشعر من زُهير، وكان زُهير راوية أوس. تُوفي أوس ٦٢٠م.
٣  المهول: المتصدر لأحلاف الناس. والبيت في وصف ثور وحش.
٤  التهويل: كانوا في الجاهلية إذا أرادوا أن يستحلفوا إنسانًا أوقدوا نارًا ليحلف عليها، وكان السَّدَنة يطرحون فيها مِلحًا من حيث لا يشعر، يهولون بها عليه.
٥  معن بن أوس المزني: شاعرٌ فَحْل مُجِيد من مُخضرَمي الجاهلية والإسلام.
٦  الشثنات: الخشنات. الكزم: القصار.
٧  الدره: الرمي والقذف. والنهز: الدفع. والخلس: المخالسة في الطعن. والزج: القذف بالرمح القصير.
٨  العامري: هو خِداش بن زهير. وهذا البيت من قصيدةٍ قالها يوم نخلة، وهو يوم من أيام الفجار، التجأت فيه قريش إلى الحرم معتصمةً به. وسخينة: لقب تُنبَذ به قريش.
٩  نجلنا: طعنَّاه طعنةً نجلاء، والنجلاء هي التي يتدفق منها الدم بغزارة لسعتها.
١٠  الديان، في نسخة: الذبان، وليس هنالك.
١١  الفتيق المقرم: الجمل السمين المتخَذ للضِّراب.
١٢  يردي بشرحاف المغادر، في نسخة: بشرخاف، وليس هنالك. يصف فرسًا بأنه يعدو في المحادر بشرحاف المغادر؛ يعني بحوافر عراض تُغادر الحصى يتناثر خلفها.
١٣  بسطام بن قيس: كان من فُرسان العرب المشهورين، وشُجعانها المعدودين، وكان من أشرف بيوتات ربيعة وأجلِّها نَسبًا. قال أبو عُبيدة: قدِم على النُّعمان بن المُنذر وفودُ ربيعة ومُضَر ابنَي نِزار، فكان فيمن قدِم عليه من وفود ربيعة بسطام بن قيس والحوفزان بن شريك البكريَّان، وفيمن قدِم عليه من وفود مضر عامر بن مالك وعامر بن الطفيل، ومن تميم قيس بن عاصم والأقرع بن حابس، فلما انتهَوا إلى النعمان أكرمهم وحباهم، وكان يتَّخذ للوفود عند انصرافهم مجلسًا يطعم فيه معهم ويشرب، وكان إذا وُضع الشراب سُقي النعمان، فمن بُدئ به على أثره فهو أفضل الوفد، فلما شرب النعمان قامت القينة تنظر إلى النعمان؛ مَن الذي يأمرها أن تسقيَه وتفضِّله من الوفد؟ فنظر في وجهها ساعةً ثم أطرق، ثم رفع رأسه وأنشأ يقول:
اسقِي وُفودَك ممَّا كنتِ ساقِيَتي
وابدي بكأسِ ابنِ ذي الجدَّين بِسطامِ
أغرَّ تَنمِيه من شَيبانَ ذو أنفٍ
حامي الذِّمارِ وعن أعراضِها رامي
قد كان قيسُ بنُ مسعودٍ ووالدُه
تبدا الملوكُ به أيَّامَ أيَّامِ
فارْضُوا بما فَعَلَ النُّعمانُ في مُضَرٍ
وفي ربيعةَ من تعظيمِ أقوامِ
هُمُ الجماجمُ والأذنابُ غيرُهمُ
فارْضُوا بذلك أو بُوءوا بإرغامِ
… إلخ. ففضَّل بسطامًا عليهم جميعًا. العظلم: عصارة شجر سوداء.
١٤  قرزل: اسم فرس عامر بن الطُّفيل.
١٥  ذؤاب الأسدي: هو ذؤاب بن ربيعة بن عبيد بن سعد بن جذيمة بن مالك بن نصر الأسدي. كان فارسًا مِغوارًا، وأسدًا كرَّارًا. لما مات رثاه أبوه بقوله:
أبلِغْ قبائلَ جَعفرٍ مخصوصةً
ما إنْ أُحاوِلُ جَعفرَ بنَ كلابِ
إنَّ المَودَّةَ والهوادةَ بيْنَنا
خلقٌ كسَحقِ الرَّيطةِ المنجابِ
إلا بجيشٍ لا يكتُّ عديدَه
سُودُ الجلودِ من الحديدِ غِضابِ
ولقد علِمتُ على التجلُّدِ والأسى
أنَّ الرزيَّةَ كانَ يومَ ذؤابِ
أذؤابُ إنِّي لم أهَبْكَ ولم أقُم
للبَيعِ عندَ تَحضُّرِ الأجلابِ
إنْ يَقتُلوكَ فقد هتَكتَ بُيوتَهم
بعُتيبةَ بنِ الحارثِ بنِ شِهابِ
بأحَبِّهم فَقدًا إلى أعدائِهم
وأشَدِّهم فَقدًا على الأصحابِ
وعِمادِهم في كلِّ يومِ كريهةٍ
وثِمالِ كلِّ مُعصبٍ قرضابِ
أهوى له تحتَ العجاجِ بطعنةٍ
والخيلُ تردي في الغبار الكابي
أذؤابُ صابَ على صداك فجادَه
صَوبُ الرَّبيعِ بِوابلٍ سكَّابِ
ما أنسَ لا أنساه آخِرَ عَيشِنا
ما لاحَ بالمعزاءِ ريعُ سرابِ
١٦  والبة: هو والبة بن الحُباب الأسدي. كان من شعراء الدولة العباسية. وهو أستاذ أبي نُواس. وكان شاعرًا ظريفًا عابثًا وصَّافًا للشراب، وقد هاجى بشَّارًا وأبا العتاهية فظفِرا به، ففرَّ منهما إلى الكوفة. ومن جيِّد شعره ورقيقه قوله:
ولها ولا ذَنْبَ لها
حبٌّ كأطرافِ الرِّماحِ
في القلبِ يَقدَح والحشى
فالقلبُ مجروحُ النَّواحي
١٧  سلامة بن جندل: شاعرٌ جاهلي قديم، من شعراء تميم المعدودين، وفارس من فُرسانهم المشهورين، ويُعَد من شعراء العرب المُقلِّين؛ ولهذا اختار له المفضَّل الضبِّي قصيدته التي منها هذا البيت في المفضليات التي شرحناها ونشرناها أخيرًا، وأول القصيدة كما في المفضليات:
أودى الشبابُ حميدًا ذو التَّعاجيبِ
أودى وذلك شأوٌ غيرُ مطلوبِ
وهي طويلة، انظرها هناك. وبعد نشر المفضليات وقع لي ديوان سلامة بن جندل الذي نشره الأب لويس شيخو، فرأيته في ص٢٦ منه يقول: ولهذه القصيدة مَطلع في ستة أبيات لم يرِد هنا (يعني في الديوان)، وقد ورد في بعض نسخ المفضليات طبعة ليبسك ص٢٦ … وهو كما يأتي:
يا دارَ أسماءَ بالعَلياءِ من إضَمِ
بينَ الدَّكادكِ من قوٍّ فمعصوبِ
كانت لنا مَرَّةً دارًا فغيَّرَها
مرُّ الرِّياحِ بِسافي التُّربِ مجلوبِ
هل في سؤالِك عن أسماءَ من حوبٍ
وفي السلامِ وإهداءِ المناسيبِ؟
ليست من الزلِّ أردافًا إذا انصرفتْ
ولا القِصارِ ولا السُّودِ العناكيبِ
إنِّي رأيتُ ابنةَ السعديِّ حين رأت
شَيْبى وما خلَّ من جِسمي وتَحنيبي
تقولُ حينَ رأت رأسي ولِمَّتَه
شَمْطاءُ بعدَ بَهِيمِ اللونِ غِربيبِ
١٨  الظنابيب: جمع ظنبوب، والظنبوب مقدَّم عظم الساق. والمعنى: إذا جاءنا مُستغيث كانت إغاثته الجِدَّ في نصرته.
١٩  الراعي: هو عبيد بن حصين بن معاوية النميري، يُكنى أبا جندل، والراعي لقبٌ غلب عليه لكثرة وصفه الإبل وجودة نعته إياها. وكان شاعرًا فحلًا من شعراء الإسلام، وما زال مقدَّمًا مفضَّلًا حتى اعترض بين جرير والفرزدق، فاستكفَّه جرير، فأبى أن يكفَّ، فهجاه بقصيدته التي يقول فيها:
ألمْ تَرَني صبَبتُ على عبيدٍ
وقد فارتْ أباجِلُه وشابا
أعدُّ له مَواسمَ حامياتٍ
فيَشفي حرُّ شُعلتِها الجِرابا
فغُضَّ الطَّرْفَ إنَّك من نُمَيرٍ
فلا كَعبًا بلَغتَ ولا كِلابا
ففضحه. وقال محمد بن سلَّام: كان الراعي من رجال العرب ووجوه قومه، وكان يُقال له في شعره: كأنه يعتسف الفلاة بغير دليل. أي إنه لا يحتذي شعر شاعر ولا يُعارضه، وكان مع ذلك بذيًّا هجَّاءً لعشيرته. وهذا البيت الذي جاء به الجاحظ هو من قصيدة فيها يقول:
بَني وابشٍ إنَّا هوِينا جِوارَكم
وما جمَّعَتْنا نِيَّةٌ قَبْلَها مَعا
خَليطَينِ من حيَّينِ شتَّى تَجاوَرا
جميعًا وكانا بالتفرُّقِ أضيَعا
أرى أهلَ ليلى لا يُبالي أسيرُهم
على حالةِ المحزونِ أنْ يَتصدَّعا
٢٠  السواف: مرض تهلك به الإبل.
٢١  حل: كلمة تُزجر بها الإبل، فيُقال لها: حل حل.
٢٢  بزل وسدس، البزل: جمع بازل، وهو البعير في تاسع سِنيه، وليس بعده سنٌّ تُسمَّى. والسدس: البعير قبل أن يبزل. المسيم: هنا بمعنى المبتاع. المرغس: الناعم الرافه.
٢٣  الغور: كل ما انخفض من الأرض. الرسي: العمود الثابت وسط الخباء، كذا عرَّفه الفيروزآبادي، ولا أدري ما علاقة ذلك العمود بما يؤدي إليه معنى البيت.
٢٤  الكهمس: القبيح الوجه.
٢٥  سماطي عفر: جانبَي طريق. مدعس: كثير الآثار.
٢٦  بشامة بن حزن النهشلي: لم نعثر له على ترجمة فيما بين أيدينا من كُتُب، حتى البغدادي في كتابه خِزانة الأدب يقول إنه لم يرَ له ترجمة في كُتُب الأنساب. ولعله من شعراء الإسلام. وهو صاحب القصيدة التي اختارها أبو تمَّام في حماسته، وقال إنها لبعض بني قيس بن ثعلبة، والتي أولها:
إنَّا مُحَيُّوكِ يا سَلْمى فحَيِّينا
وإنْ سقَيتِ كِرامَ الناسِ فاسْقِينا
وإنْ دَعَوتِ إلى جُلَّى ومَكرُمةٍ
يومًا سَراةً كِرامَ النَّاسِ فادْعِينا
إنَّا بَني نَهشَلٍ لا ندَّعي لأبٍ
عنه ولا هو بالأبناءِ يَشْرِينا
… إلخ.
٢٧  دببوا: منعوا وردوا.
٢٨  النصاب: أصل الحوض. الصباصب: ما بقي فيه من ماء.
٢٩  امتذينه: تركن ماءه يسيل من صنبوره.
٣٠  لوائب: عِطاش يَحُمن حول الماء ولا يصلن إليه.
٣١  الملواح: الشديد الظمأ. الهيم: النوق العطاش. حلئت: مُنعت من الورود. يتصلصل: يعني أنه لجفافه من الماء كان له صلصال، وهو صوت الطين الجاف.
٣٢  المذيد: الدافع المانع.
٣٣  اليلمق الرفل: القباء الواسع.
٣٤  الأفشين: هو خيذر بن كاوس. كان من أكابر قُواد المعتصم وفُحول شُجعانه. قيل إن أصله من سلالة ملوك فارس. ولَّاه المعتصم المشرق، ووجَّهه لحرب بابك الخرمي بعد أن استفحل أمره، واستشرى شره، وصار خطرًا يتهدد الدولة، وبعد أن هزم جيوش السلطان مِرارًا عدة، وقتل من القواد جماعة لا يُستهان بشأنهم. فلما انتدب له الأفشين صمد له وقاوَمه أشد مقاومة، وما زال به يضيِّق عليه، وبابك ينهزم بين يدَيه بالرغم من جيوشه التي لا عد لها ولا حصر، حتى ألجأه الأفشين إلى مدينته البذ، فلما ضاق أمره خرج هاربًا بأهله إلى بلاد الروم في زي التُّجار، فعرفه بعض البطارقة، فأسره وبعث به إلى الأفشين، فحمله الأفشين إلى المعتصم، فقطَّعه وصلبه وانتهى أمره. وبهذا عَظُم شأن الأفشين وكبر خطره، ثم علِم المعتصم من أمره ما أحفظه عليه؛ لأنه كشف عليه أنه يُحاول قلب الدولة ويُكاتب المازيار يحسِّن له الخلاف والعِصيان. وبعد تحرِّي أمره وكشف خبيئته، قبض عليه المعتصم وقتله، ثم صلبه على خشبة بابك، ووجده لا يزال بقلفته لم يُختن، ووجد في بيته أصنامًا أحرقوه بها، وكان ذلك في سنة ٢٢٦ﻫ/٨٤٠م.
٣٥  المفأد للملة: المحراك للرماد الحار.
٣٦  والجبسين، في الأصل: والجبين، وليس هذا مكانه، وإنما هو الجبسين كما أثبتناه.
٣٧  رهين مخيس: رهين سجن. والتخييس من صفات السجن، وهو التذليل.
٣٨  الشيخ البطين: هو علي بن أبي طالب، كرَّم الله وجهه، وكان يُوصف بكبر البطن.
٣٩  شديد مجالز الكفين: أصل الجلز الطَّي واللَّي والمد والنزع، والمعنى أنه قويُّ اليدين مُعتمل الكفين.
٤٠  الخلة: هنا بمعنى الزوجة.
٤١  أعشى بني ربيعة: كان في الأصل أعشى بن ربيعة، وليس كذلك، والصواب ما أثبتناه، واسم أعشى بني ربيعة صالحُ بن خارجة.
٤٢  ابن صخر: هو معاوية بن أبي سفيان. وهذا يدل على أن هذا الأعشى كان أمويَّ الهوى، فلم يذكر عليًّا ولا ولده الحسن، وجعل معاوية رابع الخلفاء، ومضى في قصيدته على هذا النحو من الحساب الفاسد.
٤٣  يريد بالخامس يزيد بن معاوية.
٤٤  ويريد بالسابع عبد الملك بن مروان.
٤٥  الخمع: العرج أو شِبهه.
٤٦  لطيته: لنيته التي انتواها.
٤٧  الصرمة: القطعة من الإبل.
٤٨  الهجر: فاحش القول. المروت: وادٍ لبني حمان بن عبد العزى، وله يوم من أيام العرب بين تميم وبني قشير، وفيه يقول الشاعر:
فإنْ تَكُ هامةُ بهراةَ تزقوا
فقد أزقَيتُ بالمروتِ هاما
٤٩  الرمث: شجر يُشبِه العِضاه لا يطول، ولكنه ينبسط ورقه، وهو شبيه بالأشنان، الإبل تتحمض به. والسخبر: شجر إذا طال تدلَّت رءوسه، وقيل هو من شجر الشمام، له قُضبٌ مجتمعة وجرثومة، وله عيدان كالكرات كثرةً. وهذا البيت آية في التهكُّم والاستخفاف.
٥٠  البرطلة: شبه المظلة، قيل إن أصلها ابن المظلة، وليست عند الأصمعي من كلام العرب، بل هي نبطية.
٥١  الزماتة: الرزانة.
٥٢  به ندب: به آثار جروح. وسوم المصدق: العلامات التي يضعها جابي الصدقات على إبل الصدقة، ولا تكون هذه الوسوم إلا بالكي.
٥٣  الطبرزينات: جمع طبرزين، ومعناه الفأس، وأصل الكلمة فارسية: تبر، تبر، وهي آلة تُستعمل في القتال.
٥٤  الرقاشي: هو الفضل بن عبد الصمد مولى رقاش. كان شاعرًا مطبوعًا، نقيَّ الكلام، سهل النظام، من شعراء البرامكة، ومن المُختصين بهم المستظلين بظلهم. وكان بينه وبين أبي نواس منافرات ومناقضات. حفِظ للبرامكة فضلهم، فرثاهم بعد نكبتهم، وعرَّض نفسه بوفائه لهم لمَخاطر جِسام.
٥٥  ملث الظلام: اختلاط الليل.
٥٦  متنكبين خرائطًا: حاملين على عواتقهم خرائط البنادق، وهي أوعية من أدم. المرسع: المتداخلة سيوره بعضها في بعض.
٥٧  صفر البطون: خماصها. ليط متونها: ما لزق بها. سرق الحرير: شققه.
٥٨  أوذم: فرض.
٥٩  أشعرها: علَّمها؛ أي وضع عليها شعارًا.
٦٠  البحيرة: القلوص التي تُنتجها السائبة، وكانوا يشقون أذنها، وقد نُهي عنها في قوله: مَا جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ.
٦١  الحامي: البعير الذي امتد عمره فتركوه بلا انتفاع منه.
٦٢  الفرع: أول نتاج الشاة. والرجبية: شاة كانت تُذبح قُربانًا للآلهة في رجب. والوصيلة: الشاة تلد ذكرًا ثم أنثى. والعتيرة: شاة تُذبح لآلهتهم.
٦٣  دريد بن الصمة: كان في الجاهلية فارسًا مقدَّمًا، وشجاعًا بطلًا، وشاعرًا فحلًا. وكان أطول الفُرسان الشعراء غزوًا، وأبعدهم أثرًا، وأكثرهم ظفرًا، وأيمنهم نقيبة. وكان سيد بني جشم وفارسهم وقائدهم في حروبهم. غزا نحو مائة غزوة ما أخفق في واحدة منها. أدرك الإسلام ولم يُسلِم، وكان قد شاخ وأصبح لا فضل فيه للحرب، وأخرجه قومه معهم يوم حُنين في صف المشركين، وإنما أخرجوه تيمنًا به واستنارة برأيه، فقُتل إذ ذاك عن مائة سنة، وكان ذلك في سنة ٨ﻫ/٦٢٩م.
وهذه الأبيات التي رواها له الجاحظ قالها يوم قتل مجمع بن مزاحم اليربوعي أخاه عبد يغوث بن الصمة، وكان نازلًا بين أظهُر بني الصارد.
٦٤  وبعد هذا البيت:
فما أخي بأخي سوءٍ فينقصَه
إذا تقارَبَ بابنِ الصارد القسمُ
٦٥  المقانب: جمع مِقنب، والمقنب القطعة من الجيش. الصمم: الشجعان.
٦٦  الخرق: الكريم.
٦٧  خالد بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان: كان من سادات بني أمية وعظمائهم، وكان من المعدودين في السخاء والعقل والفصاحة، وكان عالمًا جليل القدر، وشاعرًا بليغًا، وهو أول من نقل كُتُب اليونان إلى العربية. تُوفي سنة ٨٢ﻫ/٧٠١م. وهذا البيت الذي استشهد به الجاحظ من أبياتٍ قالها حينما طلَّق زوجته آمنة بنت سعيد بن العاصي وتزوَّجها بعده الوليد بن عبد الملك، روى منها أبو العبَّاس المُبرد هذَين البيتين:
فتاةٌ أبوها ذو العِصابةِ وابنُه
وعُثمانُ ما أكفاؤُها بكَثيرِ
فإنْ تَفتلتْها والخلافةَ تَنقلبْ
بأكرَم علقي مِنبَرٍ وسريرِ
٦٨  عمرو بن امرئ القيس: كان يُكنى أبا سريح، وهو أحد بني الحارث بن الخزرج، وهو جد عبد الله بن رواحة. كان شاعرًا فحلًا، وكان من حكام العرب وقضاتهم. وهذان البيتان هما من أبياتٍ قالها يُخاطب بها مالك بن العجلان حين رد قضاءه في واقعة من وقائع الأوس والخزرج.
٦٩  أراد: نحن بما عندنا راضون، وأنت بما عندك راضٍ، فكفَّ عن خبر الأول إذ كان في الآخر معناه.
٧٠  روى أبو الفرج الأصبهاني هذا البيت هكذا:
إنَّكَ لاقٍ غدًا غُواة بني
عَمِّيَ فانظُرْ ما أنت مُزدهِفُ
٧١  وهذا البيت يرويه أبو الفرج لمالك بن العجلان من قصيدة له، وبعده:
كما تمشَّى الأسودُ في رَهجِ الـ
ـموتِ إليه وكلُّهم لهفُ
ويظهر أن الجاحظ قد خلط بين قصيدتَي درهم بن زيد ومالك بن العجلان، وكثيرًا ما يفعل. ومن الغريب أن الجاحظ لم يذكر مالك بن العجلان ضِمن هؤلاء الذين يتقنعون أو يُخفون أنفسهم في الحرب؛ لأن مالكًا كان إذا شهد الحرب يغيِّر لباسه ويتنكر لئلا يُعرف فيُقصد؛ ولهذا قال له درهم في أبياته: فأبدِ سيماك.
٧٢  المقنع الكندي: اسمه محمد بن ظفر بن عمير، والمقنع لقبٌ غلب عليه؛ لأنه فيما قيل كان أجمل الناس وجهًا، وأمدَّهم قامة، وأكملهم خلقًا. وقد زعموا أنه كان إذا سفر اللثام عن وجهه أصابته العين فيمرض، ويلحقه عنت، فكان لا يمشي إلا مقنعًا. وهو شاعر مُقلٌّ من شعراء الدولة الأموية، وكان ذا محلٍّ كبير وشرف ومروءة وسؤدد في عشيرته، مع جود وسخاء، وسماحة وكرم، وكان لا يرُد سائلًا، ولا يُخيِّب قاصدًا.
٧٣  المقنع: هو المقنع الخراساني، اسمه عطاء. كان في مبدأ أمره قصَّارًا من أهل مرو من قرية يُقال لها كره. وكان مشوَّه الخلق أعور قصيرًا. وكان يعرف شيئًا من الشعبذة والنيرنجيات، فاستغوى العامَّة وضِعاف العقول، واستمالهم، وجمع منهم جموعًا، وخرج على الدولة مدَّعيًا النبوة، لا، بل الربوبية. ومن شعبذته أنه خيَّل للناس صورة قمر يطلع ويراه الناس من مسافةٍ بعيدة. واتخذ لنفسه وجهًا من ذهب تقنَّع به ليحجب دمامته وسوء خلقه. وكان يقول بالحلول، فيزعم أن الله حل في آدم ثم في نوح ثم في نبي بعد نبي حتى حل فيه. وعمَّر قلعة سنام فيما وراء النهر من رستاق كيش، وتحصَّن فيها، وجمع فيها الطعام والعلوفة، وبث دعاته في الناس، فطلبه المهدي ووجَّه إليه الجيوش فحاصرته، فلما أيقن بالهلاك جمع إليه نساءه وسائر أهله، وسقاهم السم فماتوا عن آخرهم، ثم أحرق كل ما كان بالقلعة من دابَّة وطعام وثياب، وألقى نفسه في النار، وذلك في سنة ١٦٣ﻫ/٧٧٩م.
٧٤  الذيخ: حيوان خبيث. قالوا: إنه يتولد بين الذئب والضبع.
٧٥  النجاشي: اسمه قيس بن عمرو بن مالك من بني الحارث بن كعب. شاعر فَحل من شعراء اليمن، أسلم فيمن أسلم من قومه، وكان من شيعة علي كرَّم الله وجهه يوم صِفِّين، وكان رقيق الدين.
٧٦  أبو الشِّيص: هو محمد بن رزين بن سليمان بن تميم، وهو عم دعبل بن علي الخُزاعي. وأبو الشيص لقبٌ غلب عليه، وكُنيته أبو جعفر. شاعرٌ معروف يُعَد في طبقةٍ دون طبقة مسلم بن الوليد وأشجع السُّلمي وأبي نُواس. وكان مُنقطعًا إلى عقبة بن جعفر بن الأشعث الخزاعي أمير الرقَّة، صرف أكثر شعره في مدحه، وأغناه عقبة عن سؤال غيره. قال عبد الله بن المُعتز: قال لي أبو خالد العامري: من أخبرك أنه كان في الدنيا أشعر من أبي الشيص فكذِّبه، والله لكان الشعر أهوَن عليه من شرب الماء على العطشان. قلت: وأنا لا تُعجبني هذه الأحكام، ولا أُعنى بمن يُصدِرها؛ لِما فيها من المجازفة وعدم التقدير، ولخُلوِّها من البرهان الذي يُقيم أودها. قيل إن أبا الشيص كف بصره في أواخر عمره، ومات مقتولًا بيد غلام في سنة ١٩٦ﻫ/٨١١م.
٧٧  كان سعيد من السابقين الأولين في الإسلام، وكان إسلام عمر عنده في بيته؛ لأنه كان زوج أخته فاطمة. هاجَر وشهِد أُحدًا والمشاهد بعدها، ولم يشهد بدرًا. وكان شجاعًا فارسًا، وشاعرًا بليغًا. تُوفي سنة ٥١ﻫ/٦٧١م عن ثلاث وسبعين سنة.
٧٨  وردن الماء: جئنه وحلَلنَ به، وهي مياه المحاضر التي كانوا ينزلون بها في غير زمن المرتبع. زرقًا جمامه: صافٍ ماؤه على كثرته، وأنه لم يُكدره واردٌ قبلهن. وهذا البيت من قصيدةٍ مشهورة ضِمن المعلَّقات، وأولها:
أمِنْ أُمِّ أوفى دِمنةٌ لم تَكلَّمِ
بحَومانةِ الدَّرَّاجِ فالمُتثلَّمِ؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤