كتاب الزهد
بسم الله الرحمن الرحيم
نبدأ باسم الله وعَونه بشيء من كلام النُّسَّاك في الزهد، وبشيء من ذِكر أخلاقهم ومواعظهم.
عوف، عن الحسن قال: لا تزول قدما ابن آدم حتى يُسأل عن ثلاث؛ شبابه فيمَ أبْلاه، وعمره فيمَ أفناه، وماله من أين كسبه وفيمَ أنفقه.
وقال يونس بن عبيد: سمعت ثلاث كلمات لم أسمع بأعجب منهن؛ قول حسَّان بن أبي سِنان: ما شيءٌ أهوَنَ من ورع، إذا رابَك أمرٌ فدَعه. وقول ابن سيرين: ما حسدت أحدًا على شيءٍ قط. وقول مؤرِّق العِجلي: لقد سألت الله حاجةً منذ أربعين سنة ما قضاها ولا يئست منها. فقيل لمؤرِّق: ما هي؟ قال: تركُ ما لا يعنيني.
وقال أبو حازم الأعرج: إن عُوفينا من شرِّ ما أُعطينا لم يَضِرنا ما زُوِي عنا.
وقال أبو عبد الحميد: لم أسمع أعجب من قول عمر: لو أن الصبر والشكر بَعيرانِ ما باليت أيهما ركِبت.
وقال ابن ضُبارة: إنَّا نظرنا فوجدنا الصبر على طاعةٍ أهوَنَ من الصبر على عذاب الله.
وقال زياد عبد عيَّاش بن أبي ربيعة: أنا من أن أُمنَع الدعاء أخوَفُ من أن أُمنَع الإجابة.
وقال له عمر بن عبد العزيز رحمه الله: يا زياد، إني أخاف الله مما دخلت فيه. قال: لست أخاف عليك أن تخاف، وإنما أخاف عليك ألا تخاف. وقال بعض النُّسَّاك: كفى موعظةً أنك لا تموت إلا بحياة، ولا تحيا إلا بموت. وهو الذي قال: اصحب من ينسى معروفه عندك. وهو الذي قال: لا تجعل بينك وبين الله مُنعِمًا، وعُدَّ النِّعَم منه عليك مَغرَمًا.
ودخل سالم بن عبد الله مع هشام بن عبد الملك البيت، فقال له هشام: سَلْني حاجتك. قال: أكره أن أسأل في بيت الله غيرَ الله.
وقيل لرابعة القيسية: لو كلَّمنا رجال عشيرتكِ فاشترَوا لكِ خادمًا تكفيك مؤنة بيتك؟ قالت: والله إني لأستحي أن أسأل الدنيا من يملك الدنيا، فكيف أسألها من لا يملكها؟
وقال بعض النُّسَّاك: دياركم أمامكم، وحياتكم بعد موتكم.
وقال السَّمَوءَل بن عادياء اليهودي:
وقال أبو الدَّرداء: كان الناس ورقًا لا شوك فيه، وهم اليوم شوكٌ لا ورق فيه.
الحسن بن دينار قال: رأى الحسن رجلًا يكيد بنفسه. فقال: إن امرأً هذا آخره لجديرٌ أن يُزهَد في أوله، وإن أمرأً هذا أوله لجديرٌ أن يُخاف آخره.
وقال أبو حازم: الدنيا غرَّت أقوامًا فعملوا فيها بغير الحق، ففاجأهم الموت، فخلَّفوا ما لهم لمن لا يحمدهم، وصاروا إلى من لا يَعذِرهم؛ وقد خُلِّفنا بعدهم، فينبغي لنا أن ننظر إلى الذي كرِهناه منهم فنجتنبه، وإلى الذي غبِطناهم به فنستعمله.
موسى بن داود، رفع الحديث قال: النظر إلى خمسةٍ عبادة؛ النظر إلى الوالدَين، والنظر إلى البحر، والنظر إلى المصحف، والنظر إلى الصخرة، والنظر إلى البيت.
عبد الله بن شداد قال: أربعٌ من كنَّ فيه فقد برئ من الكِبْر؛ من اعتقل البعير، وركِب الحمار، ولبِس الصوف، وأجاب دعوة الرجل الدُّون.
مُجالد بن سعيد، عن الشَّعبي قال، حدَّثني مُرَّة الهَمْداني — قال مجالد: وقد رأيته — وحدَّثنا إسماعيل بن أبي خالد أنه لم يرَ مِثل مُرَّة قط، كان يصلِّي في اليوم والليلة خمسمائة ركعة. وكان مُرَّة يقول: لما قُتل عثمان، رضي الله تعالى عنه حمدت الله ألا أكون دخلت في شيء من قتله، فصلَّيت مائة ركعة؛ فلما وقع الجَمل وصِفِّين حمدت الله ألا أكون دخلت في شيء من تلك الحروب، وزدت مائتي ركعة؛ فلما كانت وقعة النهروان حمدت الله إذ لم أشهدها، وزدت مائة ركعة؛ فلما كانت فتنة ابن الزبير حمدت الله إذ لم أشهدها، وزدت مائة ركعة.
وأنا أسأل الله أن يغفر لمُرة، على أنَّا لا نعرف لبعض ما قال وجهًا؛ لأنك لا تعرف فقيهًا من أهل الجماعة لا يستحلُّ قتال الخوارج، كما أنَّا لا نعرف أحدًا منهم لا يستحلُّ قتال اللصوص، وهذا ابن عمر، وهو رئيس الحلسية وزعيمهم، قد لبس السلاح لقتال نجدة. وقيل لشُريح: الحمد لله الذي سلَّمك من القتال في شيء من هذه الفتن. قال: فكيف أصنع بقلبي وهواي؟ وقال الحسن: قتل الناقةَ رجلٌ واحد، ولكن الله عمَّ القوم بالعذاب لأنهم عمُّوه بالرضا. وسُئل عمر بن عبد العزيز عن قتلة عثمان وخاذليه وناصريه، فقال: تلك دماءٌ كفَّ الله يدي عنها؛ فأنا أُحبُّ ألا أغمس لساني فيها.
ودخل أبو الدرداء على رجلٍ يعوده فقال: كيف تجدك؟ فقال: أفرَقُ من الموت. قال: فمِمَّن أصبتَ الخير كله؟ قال: من الله. قال: فلِمَ تَفرَق ممَّن لم تُصِب الخير كله إلا منه؟
ولما قُذِف إبراهيم عليه السلام في النار قال له جبرائيل عليه السلام: ألك حاجة يا خليل الله؟ قال: أما إليك فلا.
ورأى بعض النُّسَّاك صديقًا له من النُّسَّاك مهمومًا، فسأله عن ذلك، فقال: كان عندي يتيمٌ أحتسب فيه الأجر، فمات. قال: فاطلب يتيمًا غيره؛ فإن ذلك لا يعدمك إن شاء الله. قال: أخاف ألا أصيب يتيمًا في سوء خُلُقه. قال: أما إني لو كنت مكانك لم أذكُر سوء خُلُقه.
ودخل بعض النُّسَّاك على صاحب له وهو يكيد بنفسه، فقال: طِبْ نفسًا؛ فإنك تلقى ربًّا رحيمًا. قال: أما ذنوبي فإني أرجو أن يغفرها الله لي، وليس اغتمامي إلا لمن أدعُ من بناتي. قال له صاحبه: الذي ترجوه لمغفرة ذنوبك فارْجُه يحفظ بناتك!
وكان مالك بن دينار يقول: لو كانت الصحف من عندنا لأقلَلنا الكلام.
وقال يونس بن عبيد: لو أُمِرنا بالجَزَع لصبرنا. وكان يقول: كسبت في هذه السوق ثمانين ألفَ درهمٍ ما فيها درهم إلا وأنا أخاف أن أُسأل عنه.
سمع عمرو بن عبيد عبدَ الرحمن بن حذيفة يقول: قال الحُطيئة: إنما أنا حَسبٌ موضوع. فقال عمرو: كذب، ترَّحه الله، ذلك التَّقوى.
وقال أبو الدرداء: نِعْم صومعة المؤمن مَنزلٌ يكفُّ فيه نفسه وبصره وفرجه، وإيَّاكم والجلوس في هذه الأسواق؛ فإنها تُلغِي وتُلهِي.
(١) عظةٌ بالغة للحسن البصري
وقال الحسن: يا ابن آدم، بِع دُنياك بآخرتك تربحهما جميعًا، ولا تَبِع آخرتك بدنياك فتخسرهما جميعًا. يا ابن آدم، إذا رأيت الناس في الخير فنافِسْهم فيه، وإذا رأيتهم في الشر فلا تَغبِطهم به. الثواء ها هنا قليل، والبقاء هناك طويل. أُمَّتكم آخر الأمم، وأنتم آخر أُمَّتكم، وقد أُسرعَ بخِياركم، فماذا تنظرون؟ آلمُعايَنة؟ فكأنْ قد. هيهات هيهات، ذهبت الدنيا بحال بالها، وبقيت الأعمال قلائد في أعناق بني آدم، فيا لها موعظة لو وافقت من القلوب حياة. أما إنه والله لا أُمة بعد أمتكم، ولا نبيَّ بعد نبيكم، ولا كتاب بعد كتابكم. أنتم تسوقون الناس والساعة تسوقكم، وإنما يُنتظر بأولكم أن يلحقه آخركم. من رأى محمدًا ﷺ فقد رآه غاديًا ورائحًا، لم يضع لبنةً على لبنة، ولا قصبةً على قصبة، رُفِع له عَلمٌ فشمَّر إليه؛ فالوَحاءَ الوَحاء، والنَّجاءَ النَّجاء. علامَ تعرجون؟ أُتيتُم ورب الكعبة. قد أُسرعَ بخِياركم وأنتم كل يوم ترذلون، فماذا تنتظرون؟ إن الله تبارك وتعالى بعث محمدًا ﷺ على علم منه، اختاره لنفسه، وبعثه برسالته، وأنزل عليه كتابه، وكان صفوته من خلقه، ورسوله إلى عباده، ثم وضعه من الدنيا موضعًا ينظر إليه أهل الأرض، وآتاه منها قوتًا وبُلْغة، ثم قال: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ. فرغِب أقوام عن عيشه، وسخِطوا ما رضِي له ربه، فأبعدهم الله وسحقهم. يا ابن آدم، طَأِ الأرض بقدمك؛ فإنها عن قليلٍ قبرُك. واعلم أنك لم تزَل في هدم عمرك، منذ سقطت من بطن أمك. رحِمَ الله رجلًا نظر فتفكَّر، وتفكَّر فاعتبر، وأبصر فصبر؛ فقد أبصر أقوام ولم يصبروا، فذهب الجزع بقلوبهم، ولم يُدركوا ما طلبوا، ولم يرجعوا إلى ما فارَقوا. يا ابن آدم، اذكُر قوله: وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا. عدَل واللهِ عليك من جعَلك حسيب نفسك. خُذوا صفاء الدنيا وذروا كدرها؛ فليس الصفو ما عاد كدرًا، ولا الكدر ما عاد صفوًا. دعوا ما يَرِيبكم إلى ما لا يَرِيبكم. ظهر الجفاء، وقلَّت العلماء، وعفَت السُّنَّة، وشاعت البدعة. لقد صحِبت أقوامًا ما كانت صحبتهم إلا قُرة العين، وجِلاء الصدور. ولقد رأيت أقوامًا كانوا لحسناتهم أشفَق من أن تُرَد عليهم منكم من سيئاتكم أن تُعذَّبوا عليها، وكانوا فيما أحل الله لهم من الدنيا أزهد منكم فيما حرَّم الله عليكم منها. ما لي أسمع حسيسًا، ولا أرى أنيسًا؟ ذهب الناس وبقي النسناس. لو تكاشفتم ما تدافنتم. تهادَيتم الأطباق ولم تتهادَوا النصائح. قال ابن الخطاب: رحِمَ الله امرأً أهدى إلينا مساوينا. أعِدُّوا الجواب فإنكم مسئولون. المؤمن لم يأخذ دينه عن رأيه، ولكن أخذه من قِبَل ربه. إن هذا الحق قد جهِد أهله وحال بينهم وبين شهواتهم، وما يصبر عليه إلا من عرف فضله ورجا عاقبته؛ فمن حمِد الدنيا ذمَّ الآخرة، وليس يكره لقاءَ الله إلا مُقِيم على سخطه. يا ابن آدم، الإيمان ليس بالتحلِّي ولا بالتمنِّي، ولكنه ما وقَر في القلب وصدَّقه العمل.
وكان إذا قرأ أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ، قال: عمَّ ألهاكم؟ عن دار الخلود، وجَنَّة لا تبيد. هذا، والله فضَح القوم، وهتَك الستر، وأبدى العُوار. تُنفِق مِثل دينك في شهواتك سَرفًا، وتمنع في حق الله درهمًا؟ ستَعلَم يا لُكَع. الناس ثلاثة؛ مؤمن، وكافر، ومنافق؛ فأما المؤمن فقد ألجمه الخوف، وقوَّمه ذِكر العرض؛ وأما الكافر فقد قمعه السيف، وشرَّده الخوف، فأذعن بالجِزية، وسمح بالضريبة؛ وأما المُنافق ففي الحُجرات والطُّرقات، يُسرُّون غير ما يُعلنون، ويُضمِرون غير ما يُظهرون؛ فاعتبروا إنكارهم ربَّهم بأعمالهم الخبيثة. وَيلَك، قتلتَ وليَّه ثم تتمنَّى عليه جَنَّته؟
وكان يقول: رحِمَ الله رجلًا خلا بكتاب الله، فعرَض عليه نفسه؛ فإن وافَقه حمِد ربه وسأله الزيادة من فضله، وإن خالَفه اعتتب وأناب، وراجَع من قريب. رحِمَ الله رجلًا وعظ أخاه وأهله فقال: يا أهلي، صَلاتَكم صَلاتَكم، زكاتَكم زكاتَكم، جيرانَكم جيرانَكم، إخوانَكم إخوانَكم، مساكينَكم مساكينَكم، لعل الله يرحمكم؛ فإن الله تبارك وتعالى أثنى على عبدٍ من عِباده فقال: وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا. يا ابن آدم، كيف تكون مُسلِمًا ولم يَسلَم منك جارك؟ وكيف تكون مؤمنًا ولم يأمَنْك الناس؟
وكان يقول: لا يستحقُّ أحدٌ حقيقة الإيمان حتى لا يعيب الناس بعيب هو فيه، ولا يأمر بإصلاح عيوبهم حتى يبدأ بإصلاح ذلك من نفسه؛ فإنه إذا فعل ذلك لم يُصلِح عيبًا إلا وجد في نفسه عيبًا آخر ينبغي له أن يُصلِحه؛ فإذا فعل ذلك شُغِل بخاصة نفسه عن عيب غيره. وإنك ناظر إلى عملك بوزن خيره وشره، فلا تَحقِرنَّ شيئًا من الخير وإن صَغُر؛ فإنك إذا رأيته سرَّك مكانه، ولا تحقِرنَّ شيئًا من الشر وإن صَغُر؛ فإنك إذا رأيته ساءك مكانه.
وكان يقول: رحِمَ الله عبدًا كسب طيبًا، وأنفق قصدًا، وقدَّم فضلًا. وجِّهوا هذه الفضول حيث وجَّهها الله، وضعوها حيث أمر الله؛ فإنَّ من كان قبلكم كانوا يأخذون من الدنيا بَلاغهم، ويؤثِرون بالفضل. ألا إن هذا الموت قد أضرَّ بالدنيا ففضحها؟ فلا والله ما وُجِد ذو لُب فيها فرِحًا؛ فإيَّاكم وهذه السُّبل المتفرِّقة التي جِماعها الضلالة، وميعادها النار. أدركت من صدر هذه الأمة قومًا كانوا إذا جنَّهم الليل فقيامٌ على أطرافهم، يفترشون خدودهم، تجري دموعهم على خدودهم، يُناجون مولاهم في فِكاك رِقابهم، إذا عمِلوا الحسنة سرَّتهم وسألوا الله أن يتقبَّلها منهم، وإذا عملوا سيئة ساءتهم، وسألوا الله أن يغفرها لهم. يا ابن آدم، إن كان لا يُغْنيك ما يكفيك، فليس ها هنا شيءٌ يُغْنيك؛ وإن كان يُغْنيك ما يكفيك، فالقليل من الدنيا يكفيك. يا ابن آدم، لا تعمل شيئًا من الحق رياءً، ولا تتركه حياءً.
وكان يقول: إن العلماء كانوا قد استغنَوا بعِلمهم عن أهل الدنيا، وكانوا يقضون بعلمهم على أهل الدنيا ما لا يقضي أهل الدنيا بدنياهم فيها. وكان أهل الدنيا يبذلون دنياهم لأهل العلم رغبةً في عِلمهم، فأصبح اليوم أهل العلم يبذلون علمهم لأهل الدنيا رغبةً في دنياهم؛ فرغِب أهل الدنيا بدنياهم عنهم، وزهِدوا في عِلمهم لِما رأوا من سوء مَوضعه عندهم.
وكان يقول: لا أذهب إلى من يُواري عني غِناه، ويُبدي لي فقره، ويُغلِق دوني بابه، ويمنعني ما عنده؛ وأدَع من يفتح لي بابه، ويُبدي لي غناه، ويدعوني إلى ما عنده.
وكان يقول: يا ابن آدم، لا غِنى بك عن نصيبك من الدنيا، وأنت إلى نصيبك من الآخرة أفقر، مؤمنٌ مُهتم، وعِلجٌ أغتَم، وأعرابي لا فِقه له، ومُنافقٌ مكذِّب، ودنياوي مُترَف، نعَق بهم ناعق فاتَّبعوه، فَراشُ نار، وذِبَّان طمَع. والذي نفس الحسن بيده ما أصبح في هذه القرية مؤمنٌ إلا أصبح مهمومًا رزينًا، وليس لمؤمنٍ راحةٌ دون لقاء الله. الناس ما داموا في عافيةٍ مستورون، فإذا نزل بهم بَلاءٌ صاروا إلى حقائقهم؛ فصار المؤمن إلى إيمانه، والمنافق إلى نفاقه. أيْ قوم، إن نعمة الله عليكم أفضل من أعمالكم، فسارِعوا إلى ربكم؛ فإنه ليس لمؤمنٍ راحةٌ دون الجنة، ولا يزال العبد بخيرٍ ما كان له واعظ من نفسه، وكانت المحاسبة من همِّه.
وقال الحسن في يوم فِطر، وقد رأى الناس وهيئاتهم: إن الله تبارك وتعالى جعل رمضان مِضمارًا لخلقه يستبقون فيه بطاعته إلى مرضاته، فسبق أقوام ففازوا، وتخلَّف آخرون فخابوا؛ فالعَجب من الضاحك اللاعب في اليوم الذي يفوز فيه المُحسِنون، ويخسر فيه المُبطِلون. أما والله لو أن كُشِف الغطاء لشُغِل مُحسِن بإحسانه، ومُسيء بإساءته، عن ترجيل شعر، أو تجديد ثوب.
(٢) عِظات لعمر بن الخطاب
وحدَّث عن عمر بن الخطاب، رضي الله تعالى عنه، أنه قال: الناس طالبان؛ طالبٌ يطلب الدنيا فارفضوها في نحره؛ فإنه ربما أدرك الذي طلب منها فهلك بما أصاب منها، وربما فاته الذي طلب منها فهلك بما فاته منها؛ وطالبٌ يطلب الآخرة، فإذا رأيتم طالب الآخرة فنافِسوه.
وحدَّث عن عمر بن الخطاب، رضي الله تعالى عنه، أنه قال: يا أيها الناس، إنه أتى عليَّ حينٌ وأنا أحسب أن من قرأ القرآن أنه إنما يريد به الله وما عنده، ألا وقد خُيِّل إليَّ أن أقوامًا يقرءون القرآن يريدون به ما عند الناس، ألا فأريدوا الله بقراءتكم، وأريدوه بأعمالكم؛ فإنا كنا نعرفكم إذا الوحي ينزل، وإذا النبي ﷺ بين أظهُرنا؛ فقد رُفع الوحي وذهب النبي ﷺ؛ فإنما أعرفكم بما أقول لكم. ألا فمن أظهر لنا خيرًا ظننَّا به خيرًا وأثنَينا به عليه، ومن أظهر لنا شرًّا ظننَّا به شرًّا وأبغضناه عليه. اقدَعوا هذه النفوس عن شهواتها فإنها طُلَعة؛ فإنكم إلا تقدعوها تنزع بكم إلى شر غاية. إن هذا الحق ثقيلٌ مرئ، وإن الباطل خفيف وبئ. وتركُ الخطيئة خيرٌ من معالجة التوبة. ورُبَّ نظرةٍ زرعت شهوة، وشهوة ساعة أورثت حزنًا طويلًا.
وكتب الحسن إلى عمر بن عبد العزيز: أما بعد، فكأنَّك بالدنيا لم تكُن، وبالآخرة لم تزَل.
وقال أبو حازمٍ الأعرج: وجدت الدنيا شيئَين؛ شيئًا هو لي لن أعجَله دون أجله ولو طلبتُه بقوة السموات والأرض، وشيئًا هو لغيري لم أنَلْه فيما مضى ولا أناله فيما بقي، يُمنَع الذي لي كما يُمنَع الذي لغيري مني؛ ففي أي هذين أفني عمري وأهلك نفسي؟
ودخل على بعض ملوك بني مروان فقال: يا أبا حازم، ما المَخرج مما نحن فيه؟ قال: تنظر إلى ما عندك فلا تضعه إلا في حقه، وما ليس عندك فلا تأخذه إلا بحقه. قال: ومن يُطِيق ذلك يا أبا حازم؟ قال: فمن أجل ذلك مُلئت جهنم من الجِنَّة والناس أجمعين. قال: ما مالك؟ قال: مالان. قال: ما هما؟ قال: الثقة بما عند الله، واليأس مما في أيدي الناس. قال: ارفع حوائجك إلينا. قال: هيهات، رفعتها إلى من لا تُختزَل الحوائج دونه؛ فإن أعطاني منها شيئًا قبِلت، وإن زوى عني شيئًا رضِيت.
وقال الفُضَيل بن عِياض: يا ابن آدم، إنما يَفضُلك الغنيُّ بيومَين؛ أمس قد خلا، وغدٌ لم يأتِ؛ فإن صبرت يومك أحمدت أمرك وقوِيت على غدك، وإن جزعت يومك أذممت أمرك وضعفت عن غدك. وإن الصبر يُورِث البُرء، وإن الجَزع يُورِث السقم؛ وبالسقم يكون الموت، وبالبرء تكون الحياة.
وقال الحسن: أبا فلان، أترضى هذه الحال التي أنت عليها للموت إذا نزل بك؟ قال: لا. قال: أفتحدِّث نفسك بالانتقال عنها إلى حالٍ ترضاها للموت إذا نزل بك؟ قال: حديثًا بغير حقيقة. قال: أفبعد الموت دار فيها مُستعتَب؟ قال: لا. قال: فهل رأيت عاقلًا رضِي لنفسه بمِثل الذي رضِيتَ به لنفسك؟
(٣) كلامٌ منسوب لسيدنا عيسى
قال عيسى بن مريم صلوات الله على نبينا وعليه: «ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، الذين نظروا إلى باطن الدنيا حين نظر الناس إلى ظاهرها، وإلى آجل الدنيا حين نظر الناس إلى عاجلها، فأماتوا منها ما خشوا أن يُميت قلوبهم، وتركوا منها ما علِموا أنْ سيتركهم.» ورأوه يخرج من بيت مُومِسة، فقيل له: يا رُوح الله، ما تصنع عند هذه؟ قال: إنما يأتي الطبيب المرضى. وقال حين مرَّ ببعض الخلق فشتموه، ثم مر بآخرين فشتموه، فكلما قالوا شرًّا قال خيرًا، فقال له رجل من الحواريِّين: كلما زادوك شرًّا زِدتهم خيرًا حتى كأنك إنما تُغْريهم بنفسك، وتحثُّهم على شتمك! قال: كل إنسان يُعطي مما عنده. وقال: وَيلَكم يا عبيد الدنيا، كيف تُخالف فُروعكم أصولكم، وعقولكم أهواءكم؟ قولكم شفاء يُبرئ الداء، وعَملكم داءٌ لا يَقبَل الدواء. ولستم كالكَرمة التي حبر ورقُها، وطاب ثمرها، وسهُل مُرتقاها، بل أنتم كالثمرة التي قلَّ ورقها، وكثُر شوكها، وصعُب مُرتقاها. وَيلَكم يا عبيد الدنيا، جعلتم العمل تحت أقدامكم من شاء أخذه، وجعلتم الدنيا فوق رءوسكم لا يُستطاع تناولها. لا عبيدٌ أتقِياء، ولا أحرارٌ كِرام. وَيلَكم أُجراءَ السوء، الأجرَ تأخذون، والعملَ تُفسِدون. سوف تلقَون ما تَحذَرون. يوشك رب العمل أن ينظر في عمله الذي أفسدتم، وفي أجره الذي أخذتم. وَيلَكم غُرَماء السوء، تبدءون قبل قضاء الدَّين بالنوافل، تطَّوعون، وما أُمِرتم به لا تؤدُّون، إن رب الدَّين لا يقبل الهدية حتى يُقضى دينه.
وكان أبو الدَّرداء يقول: أقرَبُ ما يكون العبد من غضب الله إذا غضِب، واحذر أن تظلم من لا ناصر له إلا الله. وقال وَزرٌ العبد:
وقال شيخ من أهل البادية: المعرِّض بالناس اتَّقى صاحبه ولم يتَّقِ ربه.
وكان بكر بن عبد الله يقول: أطفِئوا نار الغضب بذِكر نار جهنم. وقال: من كان له من نفسه واعظٌ عارَضه ساعةَ الغفلة، وحينَ الحميَّة.
وقال علي رضي الله تعالى عنه للأشتر: انظر في وجهي. حين جرى بينه وبين الأشعث بن قيس ما جرى.
وكانت العجم تقول: إذا غضِب الرَّجل فليَستلقِ، وإذا أعيا فليرفع رِجلَيه.
وقال أبو الحسن: كان لرجل من النُّسَّاك شاة، وكان مُعجَبًا بها، فجاء يومًا فوجدها على ثلاث قوائم، فقال: من صنع هذا بالشاة؟ قال غلامه: أنا. قال: ولِمَ؟ قال: أردت أن أغمَّك. قال: لا جَرَم، لأغُمنَّ الذي أمرك بغمِّي، اذهب فأنت حُر.
سعيد بن عامر، عن محمد بن عمرو بن علقمة قال: سمعت عمر بن عبد العزيز يُخاطب الناس وهو يقول: ما أنعَمَ الله على عبدٍ نعمةً فانتزعها منه فعاضه من ذلك الصبر إلا كان ما عاضَه اللهُ أفضلَ ممَّا انتزع منه. ثم قرأ: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ.
أخبرنا أبو الحسن علي بن محمد عن أصحابه، قال: حضرتْ عمرَو بن عُبيد الوفاةُ فقال لعديله: نزل بي الموت ولم أتأهَّب له، اللهم إنك تَعلَم أنه لم يُسنَح لي أمران لك في أحدهما رضًا ولي في الآخر هوًى إلا آثرت رِضاك على هواي، فاغفر لي.
ولما خبَّر أبو حازمٍ سليمان بن عبد الملك بوعيد الله للمُذنِبين، قال: فأين رحمة الله؟ قال أبو حازم: قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ.
قالوا: وخرج عثمان بن عفان، رضي الله تعالى عنه، من داره، فرأى في دهليزه أعرابيًّا في بَتٍّ، أشغى، غائر العينَين، مُشرِف الحاجبَين، فقال: يا أعرابي، أين ربك؟ قال: بالمِرصاد.
وكان الأعرابي عامرَ بن عبد قيس، وكان ابن عامر سيَّره إليه.
قال: وغدا أعرابي من طيِّئ مع امرأة له، فاحتلبا لبنًا ثم قعدا يتجمعان، فقالت له امرأته: أنحن أنعَمُ عَيشًا أم بنو مروان؟ قال: هم أطيَبُ طعامًا منَّا، ونحن أردأ كُسوةً منهم؛ وهم أنعم منا نهارًا، ونحن أظهر منهم ليلًا.
قال: وعَظ عمر بن الخطاب رجلًا فقال: لا يُلهِك الناس عن نفسك؛ فإن الأمر يصير إليك دونهم. ولا تقطع النهار سادرًا؛ فإنه محفوظ عليك ما عمِلت. وإذا أسأت فأحسن؛ فإني لم أرَ شيئًا أشدَّ طلبًا ولا أسرع درَكًا من حسنةٍ حديثة لذنبٍ قديم.
قال: وكان بلال بن مسعود يقول: زاهِدُكم راغب، ومُجتهدكم مقصِّر، وعالِمكم جاهل، وجاهلكم مُقتِر.
مَسلمة بن مُحارب قال: قال عامر بن عبد قيس: الدنيا والِدة للموت، ناقضة للمُبرَم، مُرتجِعة للعطيَّة، وكل من فيها يجري إلى ما لا يدري، وكل مستقر فيها غير راضٍ بها، وذلك شهيد بأنها ليست بدار قرار.
قال الحسن: من أيقن بالخَلَف جاد بالعطيَّة.
وقال أسماء بن خارجة: إذا قَدُمت المودَّة سَمُج الثناء.
وقال عمر بن عبد العزيز لمحمد بن كعب القُرَظي: عِظْني. قال: لا أرضى نفسي لك، إني لَأصلِّي بين الغني والفقير فأميل على الفقير، وأوسِّع على الغني.
وقال الحسن: ما أطال عبدٌ الأمل إلا أساء العمل.
قال: وكان أبو بكر رضي الله عنه إذا قيل له مات فلان، قال: لا إله إلا الله. وكان عثمان يقول: فلا إله إلا الله. وكان أبو بكر رضي الله تعالى عنه كثيرًا ما يُنشد:
وركِب سليمان بن عبد الملك يومًا في زيٍّ عجيب، فنظرت إليه جارية فقالت: إنك لمعنيٌّ ببَيتَي الشاعر. قال: وما هما؟ فأنشدته:
قال: وَيلكِ، نعَيتِ إليَّ نفسي؟
قال: وصام رجلٌ سبعين سنة، ثم دعا الله في حاجة لم يستجب له، فرجع إلى نفسه فقال: منكِ أُتيت. فكان اعترافه أفضل من صومه. وقال: من تذكَّر قدرة الله لم يستعمل قدرته في ظلم عباده.
وقال الحسن: إذا سرَّك أن تنظر إلى الدنيا بعدك فانظر إليها بعد غيرك. وكان الحسن يقول: ليس الإيمان بالتمنِّي ولا بالتحلِّي، ولكن ما وقر في القلوب وصدَّقه العمل.
اللهم إنك وعدتني بالصبر على ذرٍّ صلواتِك ورحمتَك. اللهم وقد وهبتَ ما جعلت لي من أجر على ذر لذر، فلا تُعرِّفه قبيحًا من عمله. اللهم وقد وهبتَ له إساءته إليَّ فهَبْ لي إساءته إلى نفسه؛ فإنك أجوَد وأكرم. فلما انصرف عنه التفت إلى قبره فقال: يا ذر، قد انصرفنا وتركناك، ولو أقمنا ما نفعناك.
سُحَيم بن حفص قال: قال هانئ بن قبيصة لحُرقة ابنة النُّعمان، ورآها تبكي: ما لكِ تبكين؟ قالت: رأيت لأهلك غَضارة، ولم تمتلئ دارٌ قط فرحًا إلا امتلأت حزنًا.
ونظرت امرأةٌ أعرابية إلى امرأةٍ حولها عشرةٌ من بنيها كأنهم الصقور، فقالت: لقد ولدت أمُّكم حزنًا طويلًا.
وقال النبي ﷺ لأزواجه: «أسرَعُكنَّ لَحاقًا بي أطوَلُكنَّ يدًا.» فكانت عائشة تقول: أنا تلك أطولكن يدًا. فكانت زينب بنت جحش؛ وذلك أنها كانت امرأةً كثيرة الصدقة، وكانت صَناعًا تصنع بيدها وتبيعه وتتصدق به.
قال الشاعر:
كان الحسن يقول: ما أنعم الله على عبدٍ نعمة إلا وعليه فيها تَبِعة، إلا ما كان من نعمته لسليمان على نبينا وعليه السلام؛ فإن الله عز وجل قال عزَّ ذِكره: هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ.
وباع عبد الله بن عُتبة بن مسعود أرضًا بثمانين ألفًا، فقيل له: لو اتَّخذت لولدك من هذا المال ذُخرًا. قال: أنا أجعل هذا المال ذخرًا لي عند الله، وأجعل الله ذُخرًا لولدي. وقسَم المال.
وقال رجل: صحِبت الربيع بن خيثم سنتَين، فما كلَّمني إلا كلمتَين؛ قال لي مرةً: أمُّك حيَّة؟ وقال لي مرةً أخرى: كم في بني تميم من مسجد؟ وقال أبو فَروة: كان طارقٌ صاحب شُرَط خالد بن عبد الله القَسري مرَّ بابن شُبرمة، وطارق في موكبه، فقال ابن شُبرمة:
اللهم لي ديني ولهم دنياهم. فاستُعمل ابن شُبرمة على القضاء بعد ذلك، فقال ابنه: أتذكُر قولك يوم مرَّ طارق في موكبه؟ فقال: يا بُني، إنهم يجدون مِثل أبيك، ولا يجد أبوك مِثلهم. يا بُني، إن أباك أكل من حَلوائهم، وحطَّ في أهوائهم.
قال الحسن: من خاف اللهَ أخاف منه كلَّ شيء، ومن خاف الناسَ أخافه اللهُ من كل شيء. وقال الحسن: ما أُعطيَ رجل من الدنيا شيئًا إلا قيل له: خُذه ومِثلَه من الحرص.
قال: ومر مروان بن الحكم في العام الذي بُويع فيه بزُرارة بن جُزَي الكلابي — وهم على ما لهم — فقال: كيف أنتم آلَ جُزي؟ قالوا: بخير، زرَعَنا الله فأحسنَ زرْعَنا، وحصَدَنا فأحسنَ حصادَنا.
وقال الحسن: ابن آدم، إنما أنت عدد، فإذا مضى يوم فقد مضى بعضك. مَسلمة قال: وقال الحسن: ابنَ آدم، إن كان يُغْنيك من الدنيا ما يكفيك فأدنى ما فيها يُغْنيك، وإن كان لا يُغْنيك منها ما يكفيك فليس فيها شيءٌ يُغْنيك. قال: نزل الموت بفتًى كان فيه رمق، فرفع رأسه فإذا أبواه يبكيان عند رأسه، فقال: ما لكما تبكيان؟ قالوا: تخوفًا عليك من الذي كان منك من إسرافك على نفسك. فقال: لا تبكيا؛ فوالله ما يسرُّني أن الذي بيد الله بأيديكما.
أبو الحسن، عن علي بن عبد الله القرشي قال، قال قتادة: يُعطي الله العبد على نية الآخرة ما شاء من الدنيا والآخرة، ولا يُعطي على نية الدنيا إلا الدنيا.
عوانة قال، قال الحسن: قدِم علينا بِشر بن مروان أخو الخليفة وأمير المِصرَين وأشبُّ الناس، فأقام عندنا أربعين يومًا، ثم طُعِن في قدمه فمات، فأخرجناه إلى قبره، فلما صِرنا به إلى الجبَّانة فإذا نحن بأربعة سودان يحملون صاحبًا لهم إلى قبره، فوضعنا السرير فصلَّينا عليه، ووضعوا صاحبهم فصلَّوا عليه، ثم حملنا بِشرًا إلى قبره، ودفنَّا بِشرًا، ودفنوا صاحبهم، ثم انصرفوا وانصرفنا، ثم التفتُّ التفاتةً فلم أعرف قبر بِشر من قبر الحبشي، فلم أرَ شيئًا قطُّ كان أعجبَ منه.
وقال عبد الله بن الزِّبَعرى:
وتقول الحكماء: ثلاثة أشياء يستوي فيها الملوك والسُّوقة، والعِلية والسِّفلة؛ الموت، والطَّلْق، والنَّزْع.
وقال الهَيثم بن عدي عن رجاله: بَيْنا حُذيفة بن اليمان وسَلمان الفارسي يتذاكران أعاجيب الزمان، وتغيُّر الأيام — وهما في عَرصة إيوان كسرى — وكان أعرابي من غامدٍ يرعى شُوَيهات له نهارًا، فإذا كان الليل صيَّرهن إلى داخل العرصة، وفي العرصة سرير رخام كان كسرى ربما جلس عليه، فصعدت غُنَيمات الغامدي على سرير كسرى، فقال سلمان: ومن أعجب ما تَذاكرنا صعودُ غُنَيمات الغامدي على سرير كسرى.
قال: لما انصرف علي بن أبي طالب، رضي الله تعالى عنه، من صِفِّين مرَّ بمقابر، فقال: السلام عليكم أهلَ الديار المُوحِشة، والمحالِّ المُقفِرة، من المؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، أنتم لنا سلفٌ فارط، ونحن لكن تبع، وبكم عما قليلٍ لاحقون. اللهم اغفر لنا ولهم، وتجاوز بعفوك عنا وعنهم. الحمد لله الذي جعل الأرض كِفاتًا، أحياءً وأمواتًا، والحمد لله الذي منها خلقكم، وعليها يحشركم، ومنها يبعثكم. طُوبى لمن ذكر المعاد، وأعدَّ للحساب، وقنَع بالكفاف.
وقال عمر رضي الله تعالى عنه: استغزِروا العُيون بالتذكُّر.
وقال الشاعر:
وقال أعرابي:
قال ابن الأعرابي: سمعت شيخًا أعرابيًّا يقول: إني لأُسَر بالموت، ولا دَين ولا بنات.
علي بن الحسن قال، قال صالحٌ المُرِّي: دخلت دار المورياني، فاستفتحت ثلاث آيات من كتاب الله استخرجتها حين ذكرت الحال، فيها قوله: فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا، وقوله: وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ، وقوله: فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا. قال: فخرج إليَّ أسود من ناحية الدار فقال: يا أبا بِشر، هذا سخط المخلوق، فكيف سخط الخالق؟
قال: وأصاب ناسًا مطرٌ شديد وريح وظُلمة، ورعد وبرق، فقال رجل من النُّسَّاك: اللهم إنك قد أريتنا قدرتك، فأرِنا رحمتك.
عوانة قال، قال عبد الله بن عمر: فاز عمر بن أبي ربيعة بالدنيا والآخرة؛ غزا البحر فأحرقوا سفينته فاحترق.
قال: وطلَّق أبو الخندق امرأته أم الخندق، فقالت: أتطلِّقني بعد طول الصُّحبة؟ فقال: ما دهاك عندي غيره. وكان أبو إسحاق يقول: ما ألأمَها من كلمة!
شعبة، عن عمر بن مرة قال: قدِم وفدٌ من أهل اليمن على أبي بكر رضي الله تعالى عنه، فقرأ عليهم القرآن فبكَوا، فقال أبو بكر: هكذا كنَّا حتى قست القلوب. وقال أبو بكر: طُوبى لمن مات في نأنأة الإسلام.
وقال سعد بن مالك، أو معاذ: ما دخلت في صلاة فعرفت مَن عن يميني ولا من عن شمالي، ولا شيَّعت جنازة قطُّ إلا حدَّثت نفسي بما يُقال له وما يقول، وما سمعت رسول الله ﷺ قال شيئًا قط إلا علِمت أنه كما قال.
سُحيم بن حفص قال: رأى إياس بن قتادة العَبشمي شيبةَ لحيته فقال: أرى الموت يطلبني، وأراني لا أفوته. أعوذ [بالله] من فُجاءات الأمور، وبَغتات الحوادث. يا بني سعد، إني قد وهبت لكم شبابي، فهَبُوا لي شيبتي. ولزِم بيته، فقال له أهله: إنك تموت هزلًا. فقال: لأن أموت مؤمنًا مهزولًا أحَبُّ إليَّ من أن أموت مُنافقًا سمينًا.
ودخل أبو حازمٍ مسجد دمشق، فوسوس إليه الشيطان: إنك قد أحدثت بعد وضوئك. فقال: أوَقدْ بلَغ هذا من نصحك؟ وقال بعض الطِّياب:
قال أبو ذر: لقد أصبحت وإنَّ الفقر أحَبُّ إليَّ من الغِنى، والسقم أحب إليَّ من الصحة، والموت أحب إليَّ من الحياة. قال هشم: لكني لا أقول ذلك.
وقال داود النبي: اللهم لا صحة تُطغيني، ولا مرض يُضنيني، ولكن بين ذلك.
وقال الحسن: إن قومًا جعلوا تواضُعهم في ثيابهم، وكِبْرهم في صدورهم، حتى لَصاحب المِدرعة بمِدرعته أشَدُّ فرحًا من صاحب المِطرف بمِطرفه.
وقال داود النبي: إن لله سَطوات ونَقمات؛ فإذا رأيتموها فداوُوا قرحكم بالدعاء؛ فإن الله تبارك وتعالى يقول: لولا رجالٌ خُشَّع، وصِبيانٌ رُضَّع، وبهائم رُتَّع، لصببتُ عليكم العذاب صبًّا.
قال: اشترى مُحرز بن صفوان بدنةً بتسعة دنانير، فقيل له: أتشتري بدنةً بتسعة دنانير وليس عندك غيرها؟ قال: سمعت الله تبارك وتعالى يقول: لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ.
وقيل لمحمد بن سوقة: أتحجُّ وعليك دَين؟ قال: هو أقضى للدَّين.
وقال: ولقي ناسك ناسكًا ومعه خُف، فقال: ما تصنع بهذا؟ قال: أعدُّه للشتاء. وكانوا يستحيون من هذا.
قال أبو ذر: تَخضَمون ونَقضَم، والمَوعد الله!
قال الزبير: يكفينا من خَضْمكم القَضم، ومن نصِّكم العَنَق.
وقال أيمن بن خُريم:
وقال عمرو لمعاوية: من أصبَرُ الناس؟ قال: من كان رأيه رادًّا لهواه.
وتواصفوا حال الزهد بحضرة الزُّهري، فقال الزهري: الزاهد من لم يغلب الحرام صبره، والحلال شكره.
وذُكِر عند أعرابي رجلٌ بشدة الاجتهاد، وكثرة الصوم، وطول الصلاة، فقال: هذا رجل سوء، وما يظنُّ هذا أن الله يرحمه حتى يُعذِّب نفسه هذا التعذيب؟
وقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه: ما ظنُّك بخالق الكرامة لمن يريد كرامته وهو عليه قادر؟ وما ظنُّك بخالق الهوان لمن يريد هوانه وهو عليه قادر؟
وزعم أبو عمرو الزعفراني قال: كان عمرو بن عُبيد عند حفص بن سالم، فلم يسأله أحد من أهله وحشمه حاجةً إلا قال: لا. فقال عمرو: أقِلَّ من قول لا؛ فإنه ليس في الجنة لا. قال: وقال عمرو: كان رسول الله ﷺ إذا سُئل ما يجد أعطى، وإذا سُئل ما لا يجد قال: يصنع الله. وقال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: أكثِروا لهنَّ من قول لا؛ فإن نَعَم يُضرِّيهن على المسألة. وإنما يخص عمر بذلك النساء.
قال الحسن: أدركت أقوامًا كانوا من حسناتهم أشفَقَ من أن تُرَد عليهم، منكم من سيئاتكم أن تُعذَّبوا عليها.
قال أبو الدرداء: من يشتري مني عادًا وأموالها بدرهم؟
ودخل علي بن أبي طالب كرَّم الله تعالى وجهه المقابر، فقال: أما المَنازل فقد سُكِنت، وأما الأموال فقد قُسِمت، وأما الأزواج فقد نُكِحت؛ فهذا خبرُ ما عندنا، فما خبر ما عندكم؟ ثم قال: والذي نفسي بيده لو أُذِن لهم في الكلام لأخبروا أن خير الزاد التقوى.
قال أبو سعيد الزاهد: عيَّرَت اليهود عيسى بن مريم بالفقر، فقال: من الغنى أُتِيتم.
وقال آخر: لو لم يُعرَف من شرف الفقر إلا أنك لا ترى أحدًا يعصي الله ليفتقر. وهذا الكلام بعينه مدخول.
وسأل الحجَّاج أعرابيًّا عن أخيه محمد بن يوسف: كيف تركته؟ فقال: تركته عظيمًا سمينًا. قال: ليس عن هذا أسألك. قال: تركته ظلومًا غشومًا. قال: أوَما علِمت أنه أخي؟ قال: أتُراه بك أعزَّ مني بالله؟
وقال بعضهم: نجد في زَبُور داود: من بلَغ السبعين اشتكى من غير عِلَّة.
جعفر بن سليمان قال، قال محمد بن حسَّان النَّبطي: لا تسأل نفسك العام ما أعطتك في العام الماضي.
أبو إسحاق بن المبارك قال: قيل لخالد بن يزيد بن معاوية: ما أقرَبُ شيء؟ قال: الأجل. قيل: فما أبعَدُ شيء؟ قال: الأمل. قيل: فما أوحَشُ شيء؟ قال: الميت. قيل: فما آنَسُ شيء؟ قال: الصاحب المُواتي.
وقال آخر: آنَسُ شيءٍ الموتى.
وقال الآخر: نسِي عامر بن عبد الله بن الزبير عطاءه في المسجد، فقيل له: قد أُخذ. فقال: سبحان الله، وهل يأخذ أحدٌ ما ليس له؟!
جرير بن عبد الحميد، عن عطاء بن السائب، عن عبدة الثقفي قال: لا يشهد عليَّ الليل بنَوم أبدًا، ولا يشهد عليَّ النهار بأكل أبدًا. فبلغ ذلك عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه فعزم عليه، فكان يُفطِر في العيدَين وأيامَ التشريق.
وقال الحسن بن أبي الحسن: يكون الرجل عالِمًا ولا يكون عابدًا، ويكون عابدًا ولا يكون عاقلًا. وكان مُسلم بن بدر عالمًا عابدًا عاقلًا.
وقال عُبادة بن الصامت: من الناس من أُوتيَ علمًا ولم يؤتَ حِلمًا، وشدَّاد بن أوس أُوتيَ عِلمًا وحِلمًا.
قال إبراهيم: كان عمرو بن عُبيد عالمًا عاقلًا عابدًا، وكان ذا بيان وحِلم، وصاحب قرآن.
إبراهيم بن سعد، عن أبي عبد الله القيسي قال، قال أبو الدرداء: لا يَحرز المؤمن من شِرار الناس إلا قبرَه.
وقال عيسى بن مريم: الدنيا لإبليس مَزرعة، وأهلها له حرَّاثون.
عبد الملك بن عُمير، عن قَبيصة بن جابر قال: ما الدنيا في الآخرة إلا كنَفجة الأرنب.
قال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: لولا أن أسير في سبيل الله، وأضع جبهتي لله، وأُجالس أقوامًا ينتقون أحسن الحديث كما يُنتقى أطايب التمر، لم أُبالِ أن أكون قد مِت.
قالوا: كان الربيع بن خيثم يقول: لا تُطعم إلا صحيحًا، ولا تكسُ إلا جديدًا، ولا تعتق إلا سويًّا.
وقال بعض الملوك لبعض العلماء: أذمم لي الدنيا. فقال: أيها الملك، الآخذة لما تُعطي، المورثة بعد ذلك الندم؛ السالبة ما تكسو، المُعقِبة بعد ذلك الفضوح؛ تسدُّ بالأراذل مكان الأفاضل، وبالعجَزة مكان الحزَمة؛ تجد في كلٍّ من كلٍّ خلفًا، وترضى بكلٍّ من كلٍّ بدلًا؛ تُسكن دار كل قرن قرنًا، وتُطعم سؤر كل قوم قومًا.
وكان سعيد بن أبي العَروبة يُطعِم المساكين السُّكَّر، ويتأول قوله تعالى: وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ.
وكان محمد بن علي إذا رأى مُبتلًى أخفى الاستعاذة، وكان لا يُسمع من داره للسائل: بُورِك فيك، ولا: يا سائل خُذ هذا. وكان يقول: سمُّوهم بأحسنِ أسمائهم.
وتمنَّى قومٌ عند يزيد الرَّقاشي، فقال يزيد: سأتمنَّى كما تمنَّيتم. قالوا: تمنَّ. قال: ليتنا لم نُخلَق، وليتنا إذ خُلِقنا لم نمُت، وليتنا إذ متنا لم نُبعث، وليتنا إذ بُعثنا لم نُحاسَب، وليتنا إذ حُوسبنا لم نُعذَّب، وليتنا إذ عُذِّبنا لم نُخلَّد.
وقال رجل لأُم الدرداء: إني لأجد في قلبي داءً لا أجد له دواءً، وأجد قسوةً شديدة، وأملًا بعيدًا. قالت: اطلع في القبور، واشهد الموتى.
وقيل لغالب بن عبد الله الجَهضمي: إنا نخاف على عينَيك العمى من طول البكاء. قال: هو لهما شهادة.
محمد بن طلحة بن مُضرب، عن محمد بن جحادة قال: لما قُتل الحسين، رضي الله تعالى عنه، أتى قومٌ الربيع بن خيثم، فقالوا: لنستخرجنَّ اليوم منه كلامًا. فقالوا: قُتل الحسين! قال: الله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون. وأتته بُنيَّة له فقالت: يا أبتِ، أذهب ألعب؟ فقال: اذهبي فقولي خيرًا وافعلي خيرًا.
وقال أبو عُبيدة: استقبل عامرَ بن عبد قيس رجلٌ في يوم حلبة. قال: فقال: من سبق يا شيخ؟ قال: المقرَّبون.
علي بن سُليم قال: قيل للربيع بن خيثم: لو أرَحتَ نفسك؟ قال: إراحتَها أريد. إن عُمر كان كيِّسًا.
وقال أبو حازم: ليتَّقِ الله أحدُكم على دينه، كما يتَّقي على نعله.
جعفر بن سليمان الضبعي قال: أتى مطرِّفَ بن عبد الله بن الشِّخير أبي، فجلس مجلس مالك بن دينار وقد قام، فقال أصحابه: لو تكلَّمت؟ قال: هذا ظاهرٌ حسن، إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا.
وقال رجل لآخر وباع منه ضيعةً له: أمَا والله لقد أخذتها ثقيلة المئونة، قليلة المعونة. فقال الآخر: أنت لقد أخذتها بطيئة الاجتماع، سريعة التفرُّق.
واشترى رجل من رجل دارًا فقال لصاحبه: لو صبرت لاشتريت منك الذراع بعشرة دنانير. قال: وأنت لو صبرت لبِعتُك الذراع بدرهم.
ورأى ناسكٌ ناسكًا في المنام فقال له: كيف وجدت الأمر يا أخي؟ قال: وجدنا ما قدَّمنا، وربِحنا ما أنفقنا، وخسِرنا ما خلَّفنا.
وقال بكر بن عبد الله المُزني: اجتهِدوا في العمل؛ فإن قصَّر بكم ضعف فكفُّوا عن المعاصي.
وقال أعرابي: إنه ليقتل الحُبارى جوعًا ظُلمُ الناس بعضهم لبعض.
وقيل لمحمد بن علي: من أشَدُّ الناس زُهدًا؟ قال: من لا يُبالي الدنيا في يد من كانت. وقيل له: من أخسَرُ الناس صفقةً؟ قال: من باع الباقيَ بالفاني. وقيل له: من أعظَمُ الناس قدرًا؟ قال: من لا يرى الدنيا لنفسه قدرًا.
الأصمعي، عن شيخ من بكر بن وائل، أن هانئ بن قَبيصة أتى حُرقة بنت النُّعمان وهي باكية، فقال لها: لعل أحدًا آذاك؟ قالت: لا، ولكن رأيت غَضارة في أهلكم، وقلَّما امتلأت دار سرورًا إلا امتلأت حزنًا.
وقالوا: يهرم ابن آدم وتشبُّ له خَلَّتان؛ الحِرص والأمل.
هشامٌ قال: أخبرني رجل من أهل البصرة قال: وُلد للحسن بن أبي الحسن غلام، فقال له بعض جُلسائه: بارَك الله لك في هِبَته، وزادك في أحسن نعمته. فقال الحسن: الحمد لله على كل حسنة، وأسأل الله الزيادة في كل نعمة، ولا مرحبًا بمن إن كنت عائلًا أنصبَني، وإن كنت غنيًّا أذهلَني، لا أرضى بسعيي له سعيًا، ولا بكدِّي له في الحياة كدًّا، حتى أُشفق عليه من الفاقة بعد وفاتي، وأنا بحالٍ لا يصل إليَّ من همِّه حزن، ولا من فرحه سرور.
وقال الحسن للمُغيرة بن مُخارش التميمي: إن مَن خوَّفك حتى تلقى الأمن، خيرٌ لك ممن أمَّنك حتى تَلقى الخوف.
وقال عَون بن عبد الله بن عُتبة بن مسعود: ما أحسنَ الحسنةَ في إثر الحسنة، وما أقبحَ السيئةَ في أثر السيئة!
الحسن قال: ما رأيت يقينًا لا شك فيه، أشبَهَ بشكٍّ لا يقين فيه، من أمرٍ نحن فيه.
وكان الحسن إذا ذكر الحجَّاج قال: كان يتلو كتاب الله على لَخمٍ وجُذام، ويعظ عظة الأزارقة، ويبطش بطش الجبَّارين. وكان يقول: اتقوا الله؛ فإن عند الله حجَّاجِين كثيرًا.
وكان سِنان بن سَلمة بن قيس يقول: اتقوا الله؛ فإن عند الله أيامًا مِثل شوَّال.
قال خالد بن صفوان: بِتُّ ليلتي أتمنَّى كلها، فكسَيت البحر الأخضر بالذهب الأحمر، فإذا الذي يكفيني من ذلك رغيفان وكُوزان وطِمْران.
وكان الحسن يقول: إنكم لا تنالون ما تُحبُّون إلا بترك ما تشتهون، ولا تُدركون ما تؤمِّلون إلا بالصَّبر على ما تكرهون.
ودخل قوم على عوف بن أبي جميلة في مرضه، فأقبلوا يُثنون عليه، فقال: دَعُونا من الثناء، وأمِدُّونا بالدعاء.
وقال أبو حازم: نحن لا نريد أن نموت حتى نتوب، ونحن لا نتوب حتى نموت.
وكان الحسن يقول: يا ابن آدم، نهارك ضيفك فأحسِنْ إليه؛ فإنك إن أحسنت إليه ارتحل بحمدك، وإن أسأت إليه ارتحل بذمِّك، وكذلك ليلك.
وقيل لبعض العلماء: من أسوأ الناس حالًا؟ قال: عبد الله بن عبد الأعلى الشيباني، القائل عند موته: دخلتها جاهلًا، وأقمت فيها جائرًا، وأُخرجت منها كارهًا. يعني الدنيا.
وقيل لآخر: من أسوأ الناس حالًا؟ قال: من قوِيَت شهوته، وبعُدت همَّته، واتَّسعت معرفته، وضاقت مَقدرته.
وقيل لآخر: من شر الناس؟ قال: من لا يُبالي أن يراه الناس مُسيئًا.
وقيل لآخر: من شر الناس؟ قال: القاسي. فقيل له: أيُّما شر؛ الوَقاح، أم الجاهل، أم القاسي؟ قال: القاسي.
وذكر أبو صفوان، عن البطَّال أبي العلاء من بني عمرو بن تميم، قال: قيل له قبل موته: كيف تجدك يا أبا العلاء؟ قال: أجدني مغفورًا لي. قالوا: قل إن شاء الله. قال: قد شاء الله. ثم قال:
قال ابن الأعرابي: كان العبَّاس بن زُفَر لا يُكلِّم أحدًا حتى تنبسط الشمس، فإذا انفتل عن مُصلَّاه ضرب الأعناق وقطع الأيدي والأرجُل. وكان جرير بن الخطَفى لا يتكلم حتى تطلع الشمس، فإذا طلعت قذف المُحصَنات. قال: ومرَّت به جنازة فبكى وقال: أحرقتني هذه الجنائز. قيل: فلِمَ تقذف المُحصَنات؟ قال: يبدو لي ولا أصبر. وكان يقول: أنا لا أبتدي، ولكن أعتدي.
الحسن بن الربيع الكندي بإسنادٍ له قال: قال رجل للنبي ﷺ: دُلَّني على عمل إذا أنا عمِلته أحبَّني الله وأحبَّني الناس. قال: ازهد في الدنيا يُحبَّك الله، وازهد فيما في أيدي الناس يُحبَّك الناس.
قال: وبلغني عن القاسم بن مُحيمرة الهمداني أنه قال: إني لأُغلقُ بابي فما يُجاوزه همِّي.
قال أبو الحسن: وُجد في حجرٍ مكتوب: ابنَ آدم، لو أنَّك رأيت يسير ما بقي من أجلك، لزهِدت في طول ما ترجو من أملك، ولرغِبت في الزيادة في عملك، ولقصَّرت من حِرصك وحِيَلك، وإنما يلقاك غدًا ندمك، وقد زلَّت بك قَدمك، وأسلمك أهلك وحشمك، وتبرَّأ منك القريب، وانصرف عنك الحبيب؛ فلا أنت إلى أهلك بعائد، ولا في عِلمك بزائد.
وقال عيسى بن مريم: تَعمَلون للدنيا وأنتم تُرزَقون فيها بغير العمل، ولا تعملون للآخرة وأنتم لا تُرزَقون فيها إلا بالعمل؟ قال: أوحى الله تبارك تعالى إلى الدنيا: من خدمني فاخدميه، ومن خدمك فاستخدميه. وقال: من هوانِ الدنيا على الله أنه لا يُعصى إلا فيها، ولا يُنال ما عنده إلا بتركها.
ومر عيسى بن مريم بقوم فقال: ما بالهم يبكون؟ فقالوا: على ذنوبهم. قال: اتركوها تُغفر لكم.
وقال زياد بن أبي زياد مولى عيَّاش بن أبي ربيعة: دخلت على عمر بن عبد العزيز، فلما رآني ترجَّل عن مجلسه، فقال: إذا دخل عليك رجل لا ترى لك عليه فضلًا فلا تأخذ عليه شرف المجلس.
وقال الحسن: إن أهل الدنيا وإن دقدقتْ بهم الهماليج، ووطئ الناس أعقابهم، فإن ذُل المعصية في قلوبهم.
قالوا: وكان الحجَّاج يقول إذا خطب: إنا والله ما خُلقنا للفناء، وإنما خُلقنا للبقاء، وإنما نُنقل من دار إلى دار. وهذا من كلام الحسن.
ولما ضرب عبد الله بن علي تلك الأعناق، قال له قائل: هذا والله جَهدُ البلاء! فقال عبد الله: ما هذا وشرطة الحجَّام إلا سواء، وإنما جَهدُ البلاء فقرٌ مُدقِع بعد غِنًى مُوسَع.
وقال آخر: أشد من الخوف الشيءُ الذي يشتدُّ من أجله الخوف.
وقال آخر: أشد من الموت ما يُتمنى له الموت، وخيرٌ من الحياة ما إذا فقدته أبغضت له الحياة.
وقال أهل النار: يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ. قال: إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ. فلما لم يُجابوا إلى الموت قالوا: أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ. وقالوا: ليس في النار عذابٌ أشد على أهله من عِلمهم بأنه ليس لكربهم تنفيس، ولا لضِيقهم ترفيه، ولا لعذابهم غاية؛ ولا في الجنة نعيمٌ أبلغ من عِلمهم أن ذلك المُلْك لا يزول.
إسماعيل عن عيَّاش، عن عبد الله بن دينار قال: قال ﷺ: إن الله كرِهَ لكم اللعب في الصلاة، والرفث في الصيام، والضحك في المقابر.
وقال أزدشير مرة: احذروا صولة الكريم إذا جاع، واللئيم إذا شبِع.
وقال واصل بن عطاء: المؤمن إذا جاع صبر، وإذا شبِع شكر.
وقيل لعامر بن عبد قيس: ما تقول في الإنسان؟ قال: ما عسى أن أقول فيمن إذا جاع ضرع، وإذا شبِع طغى.
ونظر أعرابي في سفره إلى شيخ قد صحِبه، فرآه يصلِّي فسكن إليه، فلما قال أنا صائم، ارتاب به، وأنشأ يقول:
وهو الذي يقول:
الثوري، عن حبيب بن أبي ثابت، عن يحيى بن جعدة قال: كان يُقال: اعمل وأنت مُشفِق، ودع العمل وأنت تُحبُّه.
قال: وقيل لرابعة القيسيَّة: هل عمِلتِ عملًا قط تَرَين أنه يُقبَل منك؟ قالت: إن كان شيء فخَوْفي من أن يُرَد عليَّ.
وقال محمد بن كعب القُرَظي لعمر بن عبد العزيز: يا أمير المؤمنين، لا تَنظُرن إلى سلعة قد بارت على من كان قبلك تريد أن تجوز عنك.
الحسن قال: كان مَن قبلكم أرقَّ قلوبًا وأصفق ثيابًا، وأنتم أرَقُّ منهم ثيابًا وأصفق قلوبًا.
عبد الله بن المبارك قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى الجرَّاح بن عبد الله الحَكَمي: إنِ استطعت أن تدع ممَّا أحلَّ الله لك ما يكون حاجزًا بينك وبين ما حرَّم الله عليك فافعل؛ فإنه من استوعب الحلال كلَّه تاقت نفسه إلى الحرام.
وقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه لخالد بن الوليد حين وجَّهه: احرص على الموت تُوهَب لك الحياة.
وقال رجل: أنا أُحبُّ الشهادة. فقال رجل من النُّسَّاك: أحِبَّها إن وقعت عليك، ولا تُحبِبْها حُبَّ من يريد أن يقع عليها.
وقال رجل لداود بن نصير الطائي العابد: أوصِني. فقال: اجعل الدنيا كيَومٍ صُمتَه، واجعل فِطرك الموت؛ فكأنْ قد. والسلام. قال: زِدني. قال: لا يراك الله عند ما نهاك عنه، ولا يفقدك عند ما أمرك به. قال: زِدني. قال: ارضَ باليسير مع سلامة دينك، كما رضِي قوم بالكثير مع هلاك دينهم.
وُهَيب بن الورد قال: بَيْنا أنا أدور في السوق إذ أخذ آخذٌ بقفائي فقال لي: يا وُهَيب، اتَّقِ الله في قدرته عليك، واستحي الله في قُربه منك.
وقال عبد الواحد بن زيد: ألا تستحيون من طول ما لا تستحيون؟
الهيثم، قال: كان شيخ من أعراب طيِّئ كثيرَ الدعاء بالمغفرة له، فقيل له في ذلك، فقال: والله إن دعائي بالمغفرة مع قُبح إصراري لَلؤم، وإن تركي الدعاء مع قوة طمعي لَعَجز.
قال أبو بِشر صالحٌ المُرِّي: إن تكُن مصيبتك في أخيك أحدثت لك خشية فنِعْم المصيبة مصيبتك، وإن تكن مصيبتك بأخيك أحدثت لك جزعًا فبئس المصيبة مصيبتك.
وقال عمرو بن عبيد لرجل يعزِّيه: كان أبوك أصلَك، وابنك فرعك، فما بقاء شيء ذهبَ أصله ولم يبقَ فرعه؟
وقال الحسن: إن امرأً ليس بينه وبين آدم إلا أب قد مات لمُعرِق في الموت.
وقالوا: أعظم من الذنب اليأسُ من الرحمة، وأشد من الذنب المماطلةُ بالتوبة.
ابن لَهِيعة، عن سيَّار بن عبد الرحمن قال: قال لي بكير بن الأشج: ما فعل خالك؟ قلت: لزِم بيته. قال: أما لئن فعل لقد لزِم قوم من أهل بدر بيوتهم بعد مقتل عثمان رضي الله تعالى عنه، فما خرجوا منها إلا إلى قبورهم.
وقال الحسن: إن لله تَرائك في خلقه، لولا ذلك لم ينتفع النبيُّون وأهل الانقطاع إلى الله بشيء من أمور الدنيا؛ وهي الأمل، والأجل، والنِّسيان.
وقال مُطرف بن عبد الله لابنه: يا بُني، لا يُلهينَّك الناس عن نفسك؛ فإن الأمر خالص إليك دونهم، إنك لم ترَ شيئًا هو أشد طلبًا ولا أسرع درَكًا من توبةٍ حديثة لذنبٍ قديم.
وفي الحديث أن أبا هُريرة مرَّ بمروان وهو يبني داره، فقال: يا أبا عبد القُدُّوس، ابنِ شديدًا، وأمِّل بعيدًا، وعِش قليلًا، وكلْ خَضمًا، والمَوعد الله.
وكان عمرو بن خولة أبو سعيد بن عمرو بن سعيد بن العاص، وأمه خولة من المسامعة، وكان ناسكًا يجتمع إليه القُراء والعلماء يوم الخميس، فقال الشاعر:
وقال الآخر [وذكر] ابن سيرين:
(٤) باب
وكان الربيع بن خيثم إذا قيل له: كيف أصبحت؟ قال: أصبحنا ضُعفاءَ مُذنِبين، نأكل أرزاقنا، وننتظر آجالنا. وقال ابن المقفع: الجود بالمجهود مُنتهى الجود.
وقالوا لعيسى بن مريم: من نُجالس؟ قال: من تُذكِّركم الله رؤيته، ويزيد في علمكم منطقه، ويرغِّبكم في الآخرة عمله.
إسحاق بن إبراهيم قال: دخلنا على كَهمس العابد، فجاءنا بإحدى عشرة بُسرةً حمراء، فقال: هذا الجهد من أخيكم، والله المستعان.
الأصمعي، عن السكن الحرشي قال: اشتريت من أبي المنهال سيَّار بن سلامة شاةً بستِّين درهمًا، فقلت: تكون عندك حتى آتيَك بالثمن. قال: ألستَ مُسلِمًا؟ قلت: بلى. قال: فخُذها. فأخذتها ثم انطلقت بها، فأتيته بالستين، فأخرج منها خمسة دراهم وقال لي: اعلفها بهذه.
قال: بَيْنا سليمان بن عبد الملك يتوضأ، ليس عنده غير خاله والغلامُ يصُب عليه، إذ خرَّ الغلام ميتًا، فقال سليمان:
ونظر سليمان في مرآة فقال: أنا الملِك الشاب. فقالت جارية له:
وتمثَّل عبد الملك بن مروان فقال:
وقال آخر:
وكان عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه يقول: إني لأكره أن يأتيَ عليَّ يوم لا أنظر فيه إلى عهد الله. يعني المصحف. وكان عثمان رضي الله تعالى عنه حافظًا، وكان حجره لا يكاد يُفارق المصحف، فقيل له في ذلك فقال: إنه مُبارَكٌ جاء به مُبارَك.
ولما مات الحجَّاج خرجت عجوز من داره وهي تقول:
وجزع بكر بن عبد الله على امرأته، فوعظه الحسن، فجعل يصف فضلها، فقال الحسن: عند الله خير منها. فتزوَّج أختها، فلقيه بعد ذلك فقال: يا أبا سعيد، هي خيرٌ منها. وأنشد:
عوف، عن الحسن قال: قال النبي ﷺ: للمسلم على أخيه ست خِصال؛ يسلِّم عليه إذا لقِيَه، وينصح له إذا غاب، ويعوده إذا مرض، ويشيِّع جنازته إذا مات، ويُجيبه إذا دعاه، ويشمِّته إذا عطس.
وقال أعرابي:
وأنشد أبو صالح:
وكان صالحٌ المُري أبو بِشر ينشد في قصصه. وأنشد غيره:
وقال الآخر:
وقال الآخر:
وأنشد لمحمد بن يسير:
وأنشد:
وقال أبو العتاهية:
وقال أبو العتاهية:
وقال الآخر:
وقال الآخر:
وقال الآخر:
وقال محمد بن المنتشر: إذا أيسر الرجل ابتُلي به أربعة؛ مولاه القديم ينتفي منه، وامرأته يتسرَّى عليها، وداره يهدمها ويبني غيرها، ودابَّته يستبدل بها.
وقال الآخر:
الأوزاعي، عن مكحولٍ قال: إن كان في الجماعة فضلٌ فإن في العُزلة سلامة.
أبو جَناب الكلبي، عن أبي المحجَّل، عن ابن مسعود قال: ثلاثٌ من كنَّ فيه دخل الجنة؛ من إذا عرف حق الله عليه لم يؤخِّره، وكان عمله الصالح في العلانية على قوام من السريرة، وكان قد جمع مع ما قد عمل صلاحَ ما يؤمِّله. وقال: كفى موعظةً أنك لا تحيى إلا بموت، ولا تموت إلا بحياة.
وقال أبو نُواس:
وقال الآخر:
وقال الآخر:
وقال آخر:
وقال عنترة:
وقال أبو العتاهية:
وقال الخليل بن أحمد:
وقال أبو العتاهية:
وقال الوزيري:
وقال أبو العتاهية:
وقال أيضًا:
وقال أيضًا:
وقال السَّمَوءَل بن عادياء:
وقال الربيع بن أبي الحُقَيق:
وأنشد:
وأنشد:
وقالوا: أتى سعيد بن عبد الرحمن بن حسَّان أبا بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، وهو عامل سليمان بن عبد الملك، فسأله أن يكلِّم سليمان في حاجة له، فوعده أن يقضيَها فلم يفعل، وأتى عمر بن عبد العزيز فكلَّمه فقضى حاجته، فقال سعيد:
وأنشد:
وأنشد:
وأنشد:
قالوا: استبطأ عبد الملك بن مروان ابنه مَسلمة في مسيره إلى الروم، فكتب إليه:
فلما قرأ مَسلمة الكتاب كتب إليه:
ومسلمة هو القائل عندما دُلِّي بعضهم في قبره، فتمثَّل بعض من حضر فقال:
فقال مسلمة: لقد تكلَّمتَ بكلمة شيطان. هلَّا قلت:
وكان مسلمة شجاعًا خطيبًا، وبارع اللسان جوادًا، ولم يكن في ولد عبد الملك مثله ومثل هشام بعده.
وقال بعض الأعراب يهجو قومًا:
وقال بعض الأعراب يمدح قومًا:
وقال الآخر:
وقال أبو سعيد الزاهد: من عمل بالعافية فيمن دونه أُعطيَ العافية ممن فوقه.
وقال عيسى ابن مريم صلوات الله تعالى على نبينا وعليه: في المال ثلاث خِصال. قالوا: وما هي يا رُوح الله؟ قال: يكسبه من غير حِله. قالوا: فإن كسبه من حِله؟ قال: يمنعه من حقه. قالوا: فإن وضعه في حقه؟ قال: يشغله إصلاحه عن عبادة ربه.
قيل لرجلٍ مريض: كيف تجدك؟ قال: أجدني لم أرضَ حياتي لموتي.
سعيد بن بشير، عن أبيه، أن عبد الملك قال حين ثقُل ورأى غسَّالًا يلوي ثوبًا بيده: وددتُ أني كنت غسَّالًا لا أعيش إلا بما أكتسب يومًا فيومًا. فذُكِرَ ذلك لأبي حازم فقال: الحمد لله الذي جعلهم عند الموت يتمنَّون ما نحن فيه، ولا نتمنى عند الموت ما هم فيه.
الهيثم قال: أخبرنا موسى بن عبيدة الزيدي، عن عبد الله بن خداش الغفاري قال، قال أبو ذر: فارقت رسول الله ﷺ وقُوْتي من الجمعة إلى الجمعة مُد، ولا والله لا أزداد عليه حتى ألقاه. قال: وكان يقول: إنما مالك لك، أو للجائحة، أو للوارث، فاغْنَ ولا تكن أعجز الثلاثة.
فُضَيل بن عِياض، عن المطَّرِح بن يزيد، عن عبد الله بن زحر، عن علي بن يزيد، عن القاسم مولى يزيد بن معاوية، عن أبي أمامة الباهلي قال، قال عمر رضي الله تعالى عنه: أدِّبوا الخيل، وتسوَّكوا، واقعدوا في الشمس، ولا تُجاورنكم الخنازير، ولا يُرفَعن فيكم الصليب، ولا تأكلوا على مائدة تُشرَب عليها الخمر، وإيَّاكم وأخلاقَ العجم، ولا يحلُّ لمؤمنٍ أن يدخل الحمَّام إلا بمئزر، ولا لامرأة إلا من سقم؛ فإن عائشة رضي الله تعالى عنها حدَّثتني قالت: حدَّثني خليلي على مفرشي هذا قال: إذا وضعت المرأة خِمارها في غير بيت زوجها هتكت ما بينها وبين الله، فلم تَناهَ دون العرش.
(٥) نُسَّاك البصرة وزُهَّادها
عامر بن عبد قيس وبَجالة بن عبَدة العنبريان؛ وعثمان بن أدهم، والأسود بن كلثوم، وصِلة بن أشيَم، ومذعور بن الطُّفيل. ومن بني منقرٍ جعفر وحرب ابنا جِرفاس. كان الحسن يقول: إني لا أرى كالجعفرين جعفرًا. يعني جعفر بن جرفاس، وجعفر بن زيد العبدي. ومن النساء مُعاذة العدوية امرأة صلة بن أشيم، ورابعة القيسية.
(٦) زُهَّاد الكوفة
عمرو بن عُتبة، وهمَّام بن الحارث، والربيع بن خيثم، وأُوَيس القَرَني.
وقال الراجز:
وقال الآخر:
وقال الآخر:
وقال الآخر:
وقال المسعودي:
وقال التميمي:
وقال غسَّان خال الغدَّار:
وكان علي بن موسى بن ماهان كثيرًا ما يقول: رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ. وكان كثيرًا ما يقول: ويلٌ للظالمين من الله.
وقال ابن واسع: الاتقاء على العمل أشد من العمل.
وكان أبو وائل النَّهشلي يقول في أول كلامه: إن الدهر لا يذوق طعم الفراق ولا يُذيقه أهله، وإنما ينغمسون في ليل، ويطغون في نهار، فيوشك شاهد الدنيا أن يغيب، وغائب الآخرة أن يشهد. وقال: سأل رجل رجلًا حاجة، فقال له المسئول: اذهب بسلام. فقال له السائل: قد أنصفَنا من ردَّنا إلى الله.
الحِزامي، عن سفيان بن حمزة، عن كثير بن الصلت: أن حكيم بن حزام باعَ داره من معاوية بستين ألف درهم، فقيل له: غبَنك واللهِ معاوية. فقال: والله ما أخذتها في الجاهلية إلا بزقٍّ من خمر، أُشهدكم أنها في سبيل الله، فانظروا أيُّنا المَغبون.
قال سفيان الثوري: ليس من ضلالة إلا عليها زينة، فلا تعرِّضن دينك لمن يُبغِّضه إليك.
وقال عمر بن عبد العزيز: من جعل دينه غرضًا للخصومات أكثر التنقُّل. وأتى مسلمًا نصراني يعزِّيه فقال له: مِثلي لا يُعزِّي مِثلك، ولكن انظر إلى ما زهِد فيه الجاهل فارغب فيه.
وكان الحسن بن زيد بن علي بن الحسين بن علي يُلقَّب ذا الدمعة؛ فإذا عُوتب في كثرة البكاء قال: وهل تركَت النار والسهمان لي مضحكًا؟ يريد قتل زيد بن علي أبيه، ويحيى بن زيد أخيه.
وقيل لشيخ من الأعراب: قمت مقامًا خِفنا عليك منه. قال: ما الموت أخاف، شيخٌ كبير، وربٌّ غفور، ولا دَين ولا بنات.
وقال أبو العتاهية:
وقال بشَّار:
وقال محمودٌ الورَّاق:
وقال أيضًا:
وقال محمود أيضًا:
وقال الحسن بن هانئ:
وقال أيضًا:
وقال أيضًا:
وقال أيضًا:
قال سعيد بن ربيعة بن مالك بن سعيد بن زيد مناة بن تميم:
وهذا من قديم الشعر.
وقال الطِّرِمَّاح في هذا المعنى:
ومن قديم الشعر قول الحارث بن يزيد، وهو جد الأُحيمر اللِّص السعدي:
وقال آدم بن عبد العزيز:
وقيل لأخيه بعد أن رأوه حمَّالًا: لقد حطَّك الزمان، وعضَّك الحدَثان. فقال: ما فقدنا من عيشنا إلا الفضول.
وقال عُروة بن أُذَينة الكِناني:
وقالت خنساء بنت عمرو:
وقال أبو النجم:
وقال سليمان بن الوليد:
وقال آخر:
وقالت امرأة في بعض الملوك:
(٧) أخلاط من شعر وأحاديث ونوادر
قال هُبيرة بن وهب المخزومي:
وقال الراجز:
وإلى هذا ذهب عامر الشعبي حيث يقول: وإنك على إيقاع ما لم تُوقِع أقدَرُ منك على رد ما قد أوقعت. وأنشد:
وقال الأنصاري:
وقال الآخر:
وقال آخر:
وقال الثِّلْب:
وقال النبي ﷺ: إذا كتب أحدكم فليترِّبْ كتابه؛ فإن التُّراب مُبارَك. وقال: هو أنجَحُ للحاجة. وذكر الله عز وجل آدم الذي هو أصل البشر فقال: إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ. ولذلك كنَّى النبي ﷺ عليًّا أبا تراب. قالوا: وكانت أحبَّ الكُنى إليه.
وقال الآخر:
وقال الكُمَيت:
وقال ابن نَوفل:
وقال ابن هَرمة:
وقال المهلَّب: عجبت لمن يشتري المماليك بماله ولا يشتري الأحرار بمعروفه.
وقال الشاعر:
وقال الأحنف:
وقال جرير بن يزيد:
قال: ومشى رجال من تميم إلى عتَّاب بن وَرقاء ومحمد بن عمير في عشر دِيات، فقال محمد بن عمير: عليَّ دية. فقال عتَّاب: عليَّ الباقية. فقال محمد: نِعْم العَون على المروءة المال.
وقال آخر:
وقال الآخر:
وأنشد:
وقال آخر:
وقال آخر:
وقال الآخر:
وقال الآخر:
وقال الآخر:
وقال الآخر:
وقال الآخر:
وقال الآخر:
وقال الفرزدق:
وقال الشاعر:
وقال ابن يسير:
(٨) عيوبٌ تمنع من السؤدد
قيل لبلال بن أبي بُردة: لمَ لا تُولِّي أبا العجوز بن أبي شيخ العراق؟ وكان بلال مُسترضَعًا فيهم، وهو من بَلهُجَيم. قال: لأني رأيت منه ثلاثًا؛ رأيته يحتجم في بيوت إخوانه، ورأيت عليه مِظلَّة وهو في الظل، ورأيته يُبادر بيض البقيلة.
وكان عندي شيخٌ عظيم البدن، جهير الصوت، يستقصي الإعراب، وقد ولده رجل من أهل الشورى، وكان بقُربي عبدٌ أسود، دقيق العظم، دميم الوجه، ورآني أكبره، فقال لي حين نهض ورأى عظمًا: يا أبا عثمان، لا والله أن يُساويَ ذلك العظم البالي، بصرت عيني به في الحمام، وتناول قطعة من فَخار فأعطاها رجلًا وقال له: حُكَّ بها ظهري. أفتظنُّ هذا يا أبا عثمان يُفلح أبدًا؟
قال: وقال رجل لابنه: إذا أردت أن تعرف عيبك فخاصِمْ شيخًا من قُدماء جيرانك. قال: يا أبتِ لو كنت إذا خاصمت جاري لم يعرف عيبي غيري كان ذلك رأيًا، ولكن جاري لا يُعرِّفني عيبي حتى يُعرِّفه عدوِّي.
وقد أخطأ الذي وضع هذا الحديث؛ لأن أباه نهاه ولم يأمره.
وقال الآخر:
وقال أشهب بن رُميلة يوم صِفِّين: إلى أين يا بني تميم؟ قد ذهب الناس، أتفرُّون وتُعذَرون؟
قال: ونهض الحارث بن حوط الليثي إلى علي بن أبي طالب كرَّم الله تعالى وجهه وهو على المنبر، فقال: أتظن أنَّا نظنُّ أن طلحة والزبير كانا على ضلال؟ قال: يا حار، إنه ملبوس عليك، إن الحق لا يُعرَف بالرجال، فاعرف الحق تعرف أهله.
وقال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: لا أدركت أنا وأنت زمانًا يتغايرون فيه على العلم كما يتغايرون على الأزواج.
قال سليمان بن علي لرؤبة: ما بقي من باهك يا أبا الحجاف؟ قال: يمتدُّ ولا يشتد، وأستعين بيدي ثم لا أُورد، وأُطيل الظَّمْء ثم أُقصِّر. قال: ذلك الكِبَر. قال: لا، ولكنه طول الرِّغاث.
قيل لأعرابي: أي الدواب آكل؟ قال: بِرذَونةٌ رغوث. وقيل لغيره: لمَ صارت اللبؤة أنزق، وعلى اللحم أحرص؟ قال: هي الرغوث.
قال: وقال عبد الله بن عمر: اتَّقوا من تُبغِضه قلوبكم.
وقال إسماعيل بن غَزوان: لا تُنفق درهمًا حتى تراه، ولا تثق بشكر من تُعطيه حتى تمنعه؛ فالصابر هو الذي يشكر، والجازع هو الذي يكفر.
عامر بن يحيى بن أبي كثير، قال: لا تشهد لمن لا تعرف، ولا تشهد على من لا تعرف، ولا تشهد بما لا تعرف.
أبو عبد الرحمن الضرير، عن علي بن زيد بن جُدعان، عن سعيد بن المسيب قال: قال النبي ﷺ: رأس العقل بعد الإيمان بالله التودُّدُ إلى الناس.
وقالت عائشة رضي الله تعالى عنها: لا سَمَر إلا لثلاثة؛ مُسافر، ومُصلٍّ، وعَروس.
(٩) قريش أفصح العرب
وقال معاوية يومًا: من أفصَحُ الناس؟ فقال قائل: قومٌ ارتفعوا عن لَخلَخانية الفرات، وتيامنوا عن كَشكَشة تميم، وتياسروا عن كَسكَسة بَكر، ليست لهم غَمغَمة قُضاعة، ولا طُمطُمانية حِميَر. قال: من هم؟ قال: قريش. قال: ممن أنت؟ قال: من جَرْم.
وقال الراجز:
تقول العرب: لو لم يكن في الإبل إلا أنها رَقوء الدم. قال جندل بن صخر، وكان عبدًا مملوكًا:
وقال الفُقيمي:
وقال المُغيرة بن شُعبة: مَن دخل في حاجة رجل فقد ضمِنها.
وقال عمر رضي الله تعالى عنه: لكلِّ شيءٍ شرف، وشرف المعروف تعجيله. وقال رجل لإبراهيم النخعي: أعِدُ الرجل الميعاد. قال: فإلى متى؟ قال: إلى وقت الصلاة.
قال: وقال لي بعض القُرشيين: من خاف الكذب أقلَّ من المواعيد. وقال: أمران لا يَسلَمان من الكذب؛ كثرة المواعيد، وشدة الاعتذار.
قال إبراهيم النظَّام: قلت ﻟ «خنجيركور» ممرور الزياديين: اقعد ها هنا حتى أرجع إليك. قال: أما حتى ترجع فإني لا أصبر لك، ولكن أقعد لك إلى الليل.
(١٠) رسالة ابن سيَّابة إلى يحيى بن خالد بن بَرمَك٣٧
وبلَغني أن عامة أهل بغداد يحفظونها في تلك الأيام، وهي كما ترى، وأولها: للأصيَد الجواد، الواري الزِّناد، الماجد الأجداد، الوزير الفاضل، الأشمِّ الباذل، اللُّباب الحُلاحِل، من المستكين المستجير، البائس الضرير، فإني أحمد الله ذا العزة القدير، إليك وإلى الصغير والكبير، بالرحمة العامَّة، والبركة التامَّة. أما بعد، فاغنَم واسلَم، واعلم إن كنت تعلم، أنه من يَرحم يُرحم، ومن يَحرم يُحرم، ومن يُحسِن يَغنَم، ومن يصنع المعروف لا يعدم، وقد سبق إليَّ تغضُّبك عليَّ، واطِّراحك لي، وغفلتك عني بما لا أقوم له ولا أقعد، ولا أنتبه ولا أرقد، فلست بحيٍّ صحيح، ولا بميتٍ مُستريح، فرَرتُ بعد الله منك إليك، وتحمَّلت بك عليك؛ ولذلك قلت:
فإن رأيت، أراك الله ما تحب، وأبقاك في خير، ألا تزهد فيما ترى من تضرُّعي وتخشُّعي، وتذلُّلي وتضعُّفي، فإن ذلك ليس مني بنحيزة ولا طبيعة، ولا على وجه تصنُّع ولا تخدُّع، ولكنه تذلُّل وتخشُّع وتضرُّع، من غير ضارع ولا مَهين، ولا خاشع لمن لا يستحقُّ ذلك، إلا لمن التضرُّع له عز ورِفعة وشرف.
محمد بن حرب الهلالي قال: دخل زُفر بن الحارث على عبد الملك بعد الصلح فقال: ما بقي من حبِّك للضحَّاك؟ فقال: ما لا ينفعني ولا يضرُّك. قال: شدَّ ما أجبتموه مَعاشر قيس! قال: أجَبْناه ولم نُواسِه، ولو كنَّا آسَيناه لقد كنَّا أدركنا ما فاتنا منه. قال: فما منعك من مُواساته يوم المرج؟ قال: الذي منع أباك من مُواساة عثمان يوم الدار. قال الشاعر:
قالوا: وقال سليمان بن سعد: لو صحِبني رجل فقال اشترِط عليَّ خصلةً واحدة ولا تَزِد عليها، لقلت: لا تكذبني. قال: وكان يُقال: أربع خِصال يسود بها المرء؛ العلم، والأدب، والعِفَّة، والأمانة.
وقال الشاعر:
وقال الآخر:
وقال إياس بن قتادة:
وقال الآخر:
وقال الهُذلي:
وقال حارثة بن بدر:
وقال الآخر:
وقال آخر:
وقال حارثة بن بدر:
الفضل بن تميم قال/قال المغيرة: من لم يغضب لم يُعرَف حِلمه.
وقال الشاعر:
وقال الآخر:
وقال الآخر:
وقال الآخر:
وقال الآخر:
وقال لقيط بن زُرارة:
وقال والبة [بن الحباب]:
وقال شيخ من أهل المدينة: ما كنت أريد أن أجلس إلى قوم إلا وفيهم من يحدِّث عن الحسن، ويُنشد الفرزدق.
وقال مُجيب: لا ترى امرأةً مُصبَّرة العين، ولا امرأةً عليها طاق يَمْنة، ولا شريفًا يَهنأ بعيرًا.
قال أبو الحسن: قال أبو عَباية: ترى زُقاق بَراقش، وبساتين هزارِمرد، ما كان يسلكه غلام إلا بخفير، وهم اليوم يخترقونه. قلت: هذا من صلاح الفِتيان. قال: لا، ولكن من فسادهم.
اليقطري قال: قيل لطُفيل العرائس: كم اثنان في اثنين؟ قال: أربعة أرغفة.
وقال رجل لرجل: انتظرتك على الباب بقدر ما يأكل إنسان جردقتَين.
قال: ومن جيِّد الشعر قول جرير:
وقال الأعرابي: كحِّلني بالمِيل الذي تُكحَل به العيون الداءة.
وقال ابن أحمر:
وقال الحكم الخُضري:
قال: وسمع الحجَّاج امرأةً من خلف حائط تُناغي طفلًا، فقال: مجنونة أو أُم صبي؟ وقال أبو ثُمامة بن عازب:
وقال الثعلبي:
وأنشدنا الأصمعي:
وقال نُصيب لعمر بن عبد العزيز: إن لي بُنيَّةً ذررت عليها من سوادي.
وقال عبد الملك للوليد: لا تعزل أخاك عبد الله عن مصر، وانظر عمك محمد بن مروان فأقِرَّه على الجزيرة، وأما الحجَّاج فأنت أحوَجُ إليه منه إليك، وانظر علي بن عبد الله فاستوصِ به خيرًا. فضرب عليًّا بالسياط، وعزل أخاه وعمه.
وقال أبو نخيلة:
وأنشد:
يجعلون ذلك من قول الله تبارك وتعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا.
وأنشد:
وقال يزيد بن ضبَّة:
وقال ابن ميَّادة:
وقال جرير:
وقال العلاء بن المِنهال الغَنوي في شريك بن عبد الله:
وقال طارق بن دِثار الطائي:
وقال مُنقذ بن دِثار الهلالي:
قال بعض الحكماء: صاحبك من ينسى معروفه عندك، ويتذكر حقوقك عليه.
وقال مِنقر بن فَروة المِنقري:
وأنشد:
وأنشد:
وقال عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير:
وشاتَم أعرابي أعرابيًّا فقال: إنكم لتعتصرون العطاء، وتُعيرون النساء، وتبيعون الماء.
وقال أبو الأسود الدؤلي:
وأنشد:
وقال الآخر:
وأنشد المسروحي لكامل بن عِكرمة:
وقال الآخر:
وقال محمد بن يسير:
وقال الآخر:
وقال آخر:
وقال آخر:
قيل لأعرابي: ما أعددت للشتاء؟ قال: جُلَّة رَيوضًا، وصيصة سلوكًا، وشَملة مكودًا، وقُرمصًا دفيئًا، وناقة مُجالحة. وقيل لآخر: ما أعددت للشتاء؟ قال: شِدة الرِّعدة. وقيل لآخر: كيف ليلكم؟ قال: سَحرٌ كله. وقيل لآخر: كيف البرد عندكم؟ قال: ذاك إلى الريح. وقال مَعن بن أوس المُزَني:
وقال بعض اليهود:
(١١) ذِكر ما قيل في المهالبة وغيرهم
وقال أبو الجهم العدوي في معاوية بن أبي سفيان:
وقال الآخر في هذا الشكل:
وقال بُكَير بن الأخنس:
وقال في كلمة له أخرى:
ورأى المهلَّبَ وهو غلام فقال:
وقال الحزين في طلحة بن عبد الله من ولد أبي بكر الصدِّيق رضي الله تعالى عنه:
وقال أبو الطَّمَحان:
وقال أبو الشغب:
ومن هذا الباب قول أعشى همدان في خالد بن عتَّاب بن ورقاء:
(١٢) ذِكر حروف من الأدب من حديث بني مروان وغيرهم
قيل: إذا رسخ الرجل في العلم رُفعت عنه الرؤيا الصالحة.
مَسلمة قال: كان عند عمر بن عبد العزيز رَجلان فجعلا يلحنان، فقال الحاجب: قُوما فقد أوذيتما أمير المؤمنين. قال عمر: أنت آذى لي منهما.
المدائني قال: قعد قُدَّام زياد رجلٌ ضباعي — من قرية باليمن يُقال لها ضباع — وزيادٌ يبني داره، فقال له: أيها الأمير، لو كنت عملت باب مشرقها من قِبَل مغربها، وباب مَغربها من قِبَل مَشرقها. فقال: أنَّى لك هذه الفصاحة؟ قال: إنها ليست من كتاب ولا حساب، ولكنها من ذكاوة العقل. فقال: وَيلَك، الثاني شر.
شُعبة، عن الحكم، قال: قال عبد الرحمن بن أبي ليلى: لا أُماري أخي؛ فإما أن أكذِبه وإما أن أُغضِبه.
ابن أبي الزِّناد قال: إذا اجتمعت حُرمتان تُركَت الصغرى للكبرى.
وعن أبي بكر الهُذلي، واسمه سُلْمي، قال: إذا جمع الطعام أربعًا فقد كمل؛ إذا كان حلالًا، وكثرت عليه الأيدي، وسُمِّي الله على أوله، وحُمد على آخره.
وقال ابن قميئة:
وقال حمَّاد عَجرَد:
وقال سُوَيد المراثد:
(١٣) ومما يُكتب في باب العصا
ويُضم البيت الأخير إلى قوله:
وقال بعض الحكماء: أعجَبُ من العَجب تركُ التعجُّب من العَجب. وقيل لشيخٍ هِم: أيَّ شيءٍ تشتهي؟ قال: أسمع بالأعاجيب.
وأنشد:
ومما يُضم إلى العصا قوله:
وقال حاجب بن ذبيان لأخيه زرارة:
وقال الآخر:
وقال زياد بن زيد:
وقال آخر:
وقال بعض الأعراب:
وقال الآخر:
وقال كُثيِّر:
وقال المُقشعرُّ:
وقال الكُمَيت:
وقال صالح بن مِخراق في كلام له: لولا أن الله تبارك وتعالى قال كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ لأنبأتكم أني لا أكرهه.
وقال الآخر:
قال: قال عمر بن عبد العزيز يومًا في مجلسه: من أُم النُّعمان بن المُنذر؟ فقال رَوح بن الوليد بن عبد الملك: سَلمى بنت عُقاب. قال: إنه ليُقال ذلك، يا حاجبُ أحسِنْ إذنه.
قالوا: عشر خِصال في عشرة أصناف من الناس أقبَحُ منها في غيرهم؛ الضِّيق في الملوك، والغدر في الأشراف، والكذب في القضاة، والخديعة في العلماء، والغضب في الأبرار، والحرص في الأغنياء، والسفه في الشيوخ، والمرض في الأطبَّاء، والزهو في الفقراء، والفخر في القُراء.
وأنشد:
ويُضم إلى بيت الكُميت وبيت المُقشعر قولُ الحَكَمي:
وفي بابٍ غير هذا يقول حسَّان بن ثابت:
وأنشدوا:
وقال الفرزدق في هذا المعنى:
وقال الآخر في هذا المعنى:
(١٤) ومما يُزاد في باب العصا
قول جرير بن الخطفى:
وقال الحسن بن عَرفطة بن نَضلة:
وقال قتادة بن خُرجة التغلبي:
وقال خالد بن نَضلة:
وقال أحمد بن يوسف، وكان يتعشَّق يحيى بن سعيد بن حماد:
وقال أبو سعيد، دَعيُّ بني مخزوم، في مُهاجاة دِعبل:
وقال:
وقال:
وقال محمد بن يسير:
وقال:
وقال سَلْم الخاسر:
وقال بشَّار بن بُرد:
وقال مُزاحم العُقيلي:
وقال المسعودي:
قال شيخ من الأطبَّاء: الحمد لله، فلانٌ يُزاحمنا في الطب ولم يختلف إلى البيمارستان تمام خمسين سنة.
وحدَّثني محمد بن عبد الملك، صديقٌ لي، قال: سمعت رجلًا من فُرسان طبرستان يقول: فلانٌ يدَّعي الفروسية، ولو كُلِّف أن يُخليَ فروج فرسه مُنحدرًا من جبل لَمَا قدر عليه.
وقال بعض العبيد:
وقال كُثيِّر في عمر بن عبد العزيز رحمه الله:
الأصمعي قال: قال ابن عبيد: لا يزال الناس بخيرٍ ما داموا إذا اختلج في صدر الرجل شيءٌ وجد من يُفرِّج عنه.
قال البعيث في إبراهيم بن عدي:
وقال الأعشى:
وقالوا: لا وَكْس ولا شَطَط.
وقال الشاعر:
وقال زُهير:
وقالوا: خير الأمور أوساطها، وشر السَّير الحَقحقة. قال: والمثل السائر، والصواب المستعمل: لا تكُن حُلوًا فتُزدرَد، ولا مرًّا فتُلفَظ.
وقال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: إن هذا الأمر لا يُصلحه إلا لِين في غير ضعف، وشِدَّة في غير عنف.
وكان الحجَّاج يُجاوز العنف إلى الخُرق، وكان كما وصف نفسه، قال: أنا حديدٌ حقود، وذو قسوةٍ حسود. وذكره آخر فقال: كان شرًّا من صبي.
وقال أكثم بن صَيفي: تناءَوا في الديار، وتواصَلوا في المَزار.
وكان ناسئ الشهور يقول: اللهم باعِدْ بين نسائنا، وقارِبْ بين رِعائنا، واجعل الأموال في سُمحائنا.
وقال آخر:
وقال آخر: من أمَّل أحدًا هابَه، ومن قصَّر عن شيءٍ عابَه.
وقال الآخر:
وقال امرؤ القيس بن حُجْر:
وقيل لابن عبَّاس: أيُّما أحَبُّ إليك، رجلٌ يُكثِر من الحسنات ويُكثِر من السيئات، أو يُقلُّ من الحسنات والسيئات؟ قال: ما أعدِل بالسلامة شيئًا.
وقالت أعرابية:
يعقوب بن داود قال: ذم رجلٌ الأشتر، فقال له رجل من النخع: اسكت؛ فإن حياته هزمت أهل الشام، وموته هزم أهل العراق.
أبو الحسن قال: أُرسلت الخيل أيامَ بِشر بن مروان، فسبق فرس عبد الملك بن بشر، فقال له إسماعيل بن الأشعث:
والله لأُرسلنَّ غدًا مع فرسك فرسًا لا يعرف أن أباك أمير العراق. فجاء فرس إسماعيل سابقًا، فقال: ألمْ أُعلمك؟
وقال أبو العتاهية:
وقال الآخر:
يقول: وهذا بَقياي.
(١٥) كلام عن حِلم معاوية
قال: قيل لشَريك بن عبد الله: كان معاوية حليمًا. قال: لو كان حليمًا ما سَفِه الحق ولا قاتَل عليًّا، ولو كان حليمًا ما حمل أبناء العبيد على حُرمه، ولمَا أنكح إلا الأكْفاء. وأصوَبُ من هذا قول الآخر: كان معاوية يتعرَّض ويَحلُم إذا أُسمِع، ومن تعرَّض للسفيه فهو سفيه. وقال الآخر: كان يحب أن يُظهِر حِلمه، وقد كان طار اسمه بذلك، فكان يحب أن يزداد في ذلك.
وقال الفرزدق:
وقال التُّوت اليماني:
وهذا مِثل قوله:
ومِثله:
وقال آخر:
وقال عثمان بن الحُويرث لعمرو بن العاص:
وقال الآخر:
ومِثله:
وقال علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: من أفضل العبادة الصمتُ وانتظار الفَرَج.
وقال يزيد بن المهلَّب، وكان في سجن الحجَّاج: لهفي على طلبة بمائة ألف، وفرج في جبهة أسد.
وأنشد:
وأنشد:
وهذا مِثل قوله تعالى: وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ.
وكان يُقال: خذ مُقتصد العراق، ومُجتهد الحجاز.
وقال الآخر:
وقال جرير:
وقال تبارك وتعالى: قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ.
وقال ابن هَرمة:
وقال امرؤ القيس:
وقال بشَّار:
وقال حسَّان بن ثابت:
وقال الأصمعي: أنشدَنا أبو مهديَّة:
وقال الخزرجي يرد على أبي قيس بن الأسلت، واسمه صيفي:
وأنشد الأصمعي:
وقال حبيب بن أوس:
وقال أيضًا:
(١٦) ومن خُطباء الخوارج
قَطَريُّ بن الفُجاءة، أحد بني كِنانة بن حُرقوص، وكُنيته أبو نعامة في الحرب، وفي السلم أبو محمد، وهو أحد رؤساء الأزارقة، وكان خطيبًا فارسًا. خرج زمن مصعب بن الزبير، وبقي عشرين سنةً، وكان يدين بالاستعراض والسِّباء وقتل الأطفال. وكان آخر من بُعث إليه سفيان بن الأبرد الكلبي، وقتله سَورة بن الجبر الدارمي من بني أبان بن دارم.
(١٧) ومن خطباء الخوارج وشعرائهم وعلمائهم
حبيب بن جدرة، عِداده في بني شيبان، وهو مولًى لهلال بن عامر.
ومن علمائهم وخطبائهم نصر بن مِلحان، وكان الضحَّاك ولَّاه الصلاة بالناس والقضاء بينهم.
ومن علمائهم مُلَيل وأصغر ابنا عبد الرحمن، وأبو عبيدة كورين، واسمه مسلم، وهو مولًى لعُروة بن أُذَينة.
ومن علمائهم وخطبائهم وشعرائهم وقَعَدهم وأهل الفقه [منهم] عِمرانُ بن حِطَّان، ويُكنى أبا شهاب، أحد بني عمرو بن شيبان بن ذهل بن ثعلبة.
ومن الخوارج من بني ضبة ثم أحد بني صبيح: القاسم بن عبد الرحمن بن صُدَيق، وكان ناسبًا عالِمًا داهيًا، وكان يشوب ذلك ببعض الظرف.
ومن علمائهم ونُسابهم وأهل اللَّسَن منهم الجَون بن كلاب، وهو من أصحاب الضحاك.
ومن رجالهم وأهل البيان والنجدة منهم خُراشة، وكان ركَّاضًا، ولم يكن اعتقد.
أخبرني أبو عُبيدة قال: كان مِسمار مُستخفيًا بالبصرة، فتخلَّصت إليه، فأخبرني أنه الذي طعن مالك بن علي في فيه، وذلك أنه فتح فاه يقول أنا أبو علي، فاتحًا فاه، فطعنه في جوف فمه.
ومن شعرائهم عِتبان بن وصيلة الشيباني، وهو الذي يقول:
(١٨) كلام في الأدب
قال معاوية: ما رأيت سَرفًا قط إلا وإلى جنبه حقٌّ مضيَّع.
وقال عثمان بن العاص: الناكح مُغترِس، فلينظر امرؤٌ حيث يضع غرسه.
وقالت هند ابنة عُتبة: المرأة غُل، ولا بد للعنق منه، فانظر من تضعه في عنقك.
وقال ابن المقفع: الدَّين رِق، فانظر عند من تضع نفسك.
وقال عمرو بن مسعدة، أو ثابت أبو عبَّاد: لا تستصحب من يكون استمتاعه بمالك وجاهك أكثر من إمتاعه لك بشكر لسانه وفؤاد علمه. ومن كانت غايته الاحتيال على مالك، وإطرائك في وجهك، فإن هذا لا يكون إلا رديء الغيب، سريعًا إلى الذم.
بسم الله الرحمن الرحيم
قد قلنا في صدر هذا الجزء الثالث في ذِكرنا العصا ووجوه تصرُّفها، وذكرنا من مقطَّعات كلام النُّساك، ومن قِصار مواعظ الزهاد، وغير ذلك مما يجوز في نوادر المعاني وقِصار الخُطب، ونحن ذاكرون على اسم الله وعونه صدرًا من دعاء الصالحين والسلف المتقدمين، ومن دعاء الأعراب؛ فقد أجمعوا على استحسان ذلك واستجادته، وبعض دعاء الملهوفين والنُّساك المتبتِّلين.
قال الله تبارك وتعالى لنبيه ﷺ: قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ. وقال: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ. وقال تعالى: يَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا. وقال: وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ.
قالوا: كان عمرو بن معاوية العُقيلي يقول: اللهم قِني عثرات الكِرام.
وقال أعرابي لرجلٍ سأله: جعل الله الخير عليك دليلًا، ولا جعل حظ السائل منك عُذرة صادقة.
وقال بعض كرام الأعراب ممن يَقرِض الشعر ويؤثِر الشكر:
وقال شيخٌ أعرابي: اللهم لا تُنزِلني ماء سوء فأكون امرأ سوء.
قال: وسمعت عمر بن هُبيرة يقول في دعائه: اللهم إني أعوذ بك من صديقٍ مُطرٍ، وجليسٍ مُغرٍ، وعدوٍّ مُسرٍ.
قال: كتب ابن سيَّابة إلى صديق له، إما مُستقرضًا وإما مُستفرضًا، فذكر صديقه خلةً شديدة، وكثرة عيال، وتعذُّر الأمور، فكتب إليه ابن سيَّابة: إن كنت كاذبًا فجعلك الله صادقًا، وإن كنت مَليمًا فجعلك معذورًا.
قال الأصمعي: سمعت أعرابيًّا يقول: أعوذ بك من الفواقر والبواقر، ومن جار السوء في دار المُقامة والظعن، وما ينكِّس برأس المرء ويُغري به لئام الناس.
قال الأصمعي: قيل لخالد بن نَضلة: قال عبد يغوث بن وقَّاص: ما أذمُّ فيها إلا غطينًا، ليس خالدَ بن نضلة. يعني مُضَر. قال خالد: اللهم إن كان كاذبًا فاقتله على يد ألأم حي في مُضَر. فقتلته تَيم الرِّباب.
قالوا: وقف سائل من الأعراب على الحسن فقال: رحم الله عبدًا أعطى من سَعة، وآسى من كفاف، وآثر من قِلَّة.
وقال في الأثر المعروف: حصِّنوا أموالكم بالزكاة، وادفعوا أمواج البلاء بالدعاء.
ومن دعائهم: أعوذ بك من بَطَر الغنى، وذِلَّة الفقر.
قال: ومن دعاء السلف: اللهم احملنا من الرُّجلة، وأغنِنا من العَيلة.
وسأل أعرابي، فقيل له: بُورِك فيك. فتوالى ذلك عليه من غير مكان، فقال: وكَلَكم الله إلى دعوة لا يحضرها نيَّة.
وقال أعرابي: أعوذ بك من سقم وعَدواه، وذي رَحِم ودعواه، ومن فاجر وجدواه، وعمل لا ترضاه.
وسأل أعرابي، فقال له صبي من جوف الدار: بُورِك فيك. فقال: قبَّح الله هذا الفم، لقد تعلَّم الشر صغيرًا. وهذا السائل هو الذي يقول:
وقال آخر: اللهم أعِنِّي على الموت وكُرْبته، وعلى القبر وغُمَّته، وعلى الميزان وخِفَّته، وعلى الصراط وزَلَّته، وعلى يوم القيامة ورَوعته.
وقالت عجوزٌ بلَغها موت الحجَّاج: اللهم أنت أمَتَّه، فأمِتْ سُنَّته.
وكان محمد بن علي بن الحسين يقول: اللهم أعِنِّي على الدنيا بالغِنى، وعلى الآخرة بالتقوى.
وقال عمرو بن عُبيد: اللهم أغنِني بالافتقار إليك، ولا تُفقِرني بالاستغناء عنك. وقال عمرو بن عُبيد: اللهم أعِنِّي على الدنيا بالقناعة، وعلى الدين بالعصمة.
قال: ومرِض عوف بن أبي جميلة، فعاده قوم فجعلوا يُثنون عليه، فقال: دَعُونا من الثناء، وأمِدُّونا بالدعاء.
قال: وسمعت عمر بن هُبيرة يقول: اللهم إني أعوذ بك من طول الغفلة، وإفراط الفِطنة. اللهم لا تجعل قولي فوق عملي، ولا تجعل أسوأ عملي ما قارَب أجلي.
وقال أبو مذحج: اللهم اجعل خير عملي ما وليَ أجلي.
ودَعت أعرابية لرجل فقالت: كبَت الله كل عدو لك إلا نفسك.
وقال يزيد بن جبل: احرس أخاك إلا من نفسه.
قال: ودعا أعرابي فقال: اللهم هَبْ لي حقَّك، وأرضِ عنى خلقك.
قال: وكان قومٌ نُسَّاك في سفينة في البحر، فهاجت الريح بأمرٍ هائل، فقال رجل منهم: اللهم قد أريتَنا قدرتك، فأرِنا عفوك ورحمتك.
قال: وسمع مطرِّف رجلًا يقول: أستغفر الله وأتوب إليه. فأخذ بذراعه وقال: لعلك لا تفعل، من وعد فقد أوجب.
وقال رجل لابن قثم: كيف أصبحت؟ قال: إن كان من رأيك أن تسدَّ خلَّتي، وتقضيَ دَيني، وتكسوَ عَورتي، خبَّرتك، وإلا فليس المُجِيب بأعجب من السائل.
وقال آخر: اللهم أمتِعنا بخيارنا، وأعِنَّا على شرارنا، واجعل الأموال في سُمحائنا.
وقال أعرابي: اللهم إنك قد أمَرتَنا أن نعفوَ عمَّن ظلمَنا، وقد ظلَمْنا أنفُسنا فاعفُ عنا.
وقال أعرابي، ورأى إبل رجل قد كثُرت بعد قلة، فقيل: إنه قد تزوَّج أمة فجاءته بنافجة مال، فقال: اللهم إنا نعوذ بك من بعض الرزق.
أبو مجيب الربعي قال: قال أعرابي: جنَّبك الله الأمَرَّين، وكفاك شر الأجوَفَين. الأجوفان: البطن والفَرْج. والأمَرَّان: الجوع والعُري.
وجاء في الحديث: من وُقِي شر قَبقَبه وذَبذَبه ولَقلَقه، فقد وُقِي الشر كله.
وقال أعرابي: منحكم الله مِنحةً ليست بحدَّاء، ولا نَكداء، ولا ذات داء.
قال: قيل لإبراهيم النخعي: أي رجل أنت لولا حِدَّة فيك! قال: أستغفر الله مما أملِك، وأستصلحه ما لا أملِك.
وقال أعرابي، ومات ابن له: اللهم إني قد وهبت له ما قصَّر فيه من بِرِّي، فهَبْ لي ما قصَّر فيه من طاعتك.
قال: لما صافَّ قُتيبة بن مُسلم التُّرك وهالَه أمرهم سأل عن محمد بن واسع، وقال: انظروا ما يصنع؟ فقيل: ها هو ذاك في أقصى المَيمنة جانحًا على سِية قوسه، يُنضنض بإصبعه نحو السماء. قال قُتيبة: تلك الإصبع الفاردة أحَبُّ إليَّ من مائة ألف سيف شهير، وسِنانٍ طرير.
أبو الدرداء قال: إن أبغض الناس إليَّ أن أظلمه من لم يستعِن عليَّ إلا بالله.
وقال خالد بن صفوان: احذروا مجانيق الضعفاء. يعني الدعاء. وقال: لا يُستجاب إلا لمُخلِص أو مظلوم.
قال: وكان علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه يقول: اللهم إن ذنوبي لا تضرُّك، وإن رحمتك إيَّاي لا تنقصك، فاغفر لي ما لا يضرُّك، وأعطِني ما لا ينقصك.
وقال أعرابي: اللهم إنك حبستَ عنَّا قَطر السماء، فذابَ الشحم، وذهب اللحم، ورقَّ العظم، فارحم أنين الآنة، وحنين الحانة، اللهم ارحم تحيُّرها في مَراتعها، وأنينها في مَرابضها.
قال: وحجَّت أعرابية، فلما صارت بالموقف قالت: أسألك الصحبة يا كريم الصحبة، وأسألك سِترك الذي لا تُزيله الرياح، ولا تخرقه الرِّماح.
وقيل لعلي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: كم بين السماء إلى الأرض؟ قال: دعوةٌ مستجابة. قالوا: كم بين المشرق إلى المغرب؟ قال: مسيرة يوم للشمس. ومن قال غير هذا فقد كذب.
قال: وحجَّ أعرابي فقال: اللهم إن كان رِزقي في السماء فأنزِله، وإن كان في الأرض فأخرِجه، وإن كان نائيًا فقرِّبه، وإن كان قريبًا فيسِّره.
أبو عثمان اليقطري، عن عبد الله بن سلم الفهري، قال: لما وليَ مسروق السلسلة انبرى له شابٌّ فقال له: وقاك الله خشية الفقر، وطول الأمل، فلا تكونن دريئة للسُّفهاء، ولا شينًا للفُقهاء.
وقال أعرابي في دعائه: اللهم لا تخيِّبني وأنا أرجوك، ولا تعذِّبني وأنا أدعوك. اللهم فقد دعَوتُك كما أمرتَني، فأجِبني كما وعدتَني.
وقال عبد الله بن المبارك: قالت عائشة: يا بني، لا تطلبوا ما عند الله من عند غير الله بما يُسخِط الله.
قال: وقال رجل من النُّساك: إن ابتُليتَ أن تدخل مع ناس إلى السلطان، فإذا أخذوا في الثناء فعليك بالدعاء.
وقال الكذَّاب الحِرمازي:
وقال أعرابي:
وكان سعد بن أبي وقاص يُسمَّى: المستجاب الدعوة. وقال لعمر حين شاطَره ماله: لقد هممت. فقال له عمر: أن تدعوَ الله عليَّ؟ قال: نعم. قال: إذًا لا تجدُني بدعاء ربي شقيًّا.
وقال رسول الله ﷺ: كم من ذي طِمرَين لا يؤبَه له لو أقسم على الله لأبرَّه، منهم البراء بن مالك. وجمع الناس إليه، وقد دهمهم العدو، فأقسم فمنحهم الله أكنافهم.
الأصمعي وأبو الحسن قالا: أخبرنا إبراهيم بن حبيب بن الشهيد، عن أبيه، أو عن غيره، قال: بلَغ سعدًا شيءٌ فعله المهلَّب في العدو، والمهلَّب يومئذٍ فتًى، فقال سعد: اللهم لا تُرِه ذُلًّا. فيَرَون أن الذي ناله المهلَّب بتلك الدعوة.
وقال آخر:
قالها حسين بن علي رضي الله تعالى عنهما.
وقال الآخر وكان قد وقع في الناس وباءٌ جارف، وموتٌ ذريع، فهرب على حماره، فلما كان في بعض الطريق ضرب وجه حِماره راجعًا إلى حيِّه وقال:
وسمع مُجاشع الربعي رجلًا يقول: الشحيح أعذَرُ من الظالم. فقال: إن شيئين خيرهما الشُّح لَناهيك بهما شرًّا.
قال المُغِيرة بن شُعبة: سمع عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه رجلًا يقول في دعائه: اللهم اجعلني من الأقلِّين. فقال له عمر: ما هذا الدعاء؟ قال: سمعت الله يقول: وَقَلِيلٌ مَا هُمْ. وسمعته يقول: وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ. فقال عمر: عليك من الدعاء بما يُعرَف.
وقال ناس من الصحابة لعمر: ما بالُ الناس كانوا إذا ظُلموا في الجاهلية فدَعوا استُجيب لهم، ونحن لا يُستجاب لنا وإن كنا مظلومين؟ قال: كانوا ولا زاجر لهم إلا ذاك، فلما أنزل الله تبارك وتعالى الوعد والوعيد، والحدود والقصاص والقوَد، وكَلَهم إلى ذلك.
وقال عمر رضي الله تعالى عنه: في يوم كذا وكذا، من شهر كذا وكذا، لساعة كذا وكذا، ألا يدعو الله فيها أحدٌ إلا استُجيب له. فقال له قائل: أرأيت إن دعا فيها مُنافق؟ قال: فإن المنافق لا يوفَّق لتلك الساعة. ولما صعِد المِنبر قابضًا على يد العبَّاس يوم الاستسقاء لم يَزِد على الدعاء والاستغفار. فقيل له: إنك لم تستسقِ، وإنما كنت تستغفر! قال: قد استسقَيت بمجاديح السماء.
ذهب إلى قوله: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا. وكان عمر حمل الهُرمُزان مع جماعة في البحر فغرقوا، قال ابن سيرين: لو كان دعا عليهم بالهلاك لهلكوا.
قال محمد بن علي لابنه: يا بُني، إذا أنعم الله عليك نعمة فقل: الحمد لله. وإذا حزَبك أمرٌ فقل: لا حول ولا قوة إلا بالله. وإذا أبطأ عنك الرزق فقل: أستغفر الله. قالوا: كان محمد بن علي لا يُسمِع المُبتلى الاستعاذة من البلاء.
قال قوم ليزيد بن أسد: أطال الله بقاءك. قال: دعوني أمُت وفيَّ بقيَّة تبكون بها عليَّ.
رأى سالم بن عبد الله سائلًا يسأل يوم عرفة فقال: يا عاجز، أفي هذا اليوم تسأل غير الله؟
قال: كان رجل من الحُكماء يقول في دعائه: اللهم احفَظني من الصديق. وكان يقول: اللهم اكفِني بَوائق الثِّقات.
حدَّثني صديق لي كان وليَ ضِياع الري، قال: قرأت على باب شيخ منهم: جزى الله من لا نعرفه ولا يعرفنا أحسن الجزاء، ولا جزى من نعرفه ويعرفنا إلا ما هو أهله، إنه عدلٌ لا يجور.
وكان على رواشم عمر بن مهران التي يرشم بها على الطعام: اللهم احفظه ممن يحفظه.
وقال المُغيرة بن شُعبة في كلام له: إن المعرفة لتنفع عند الكلب العَقور، والجمل الصئول، فكيف بالرجل الكريم؟
أبو الحسن قال: قالت امرأة من الأعراب: اللهم إني أعوذ بك من شر قريش وثقيف، وما جمعت من اللفيف، وأعوذ بك من عبدٍ مَلَك أمره، ومن عبدٍ ملأ بطنه.
قال: مر عمر بن عبد العزيز برجلٍ يسبِّح بالحصى، فإذا بلَغ المائة عزل حصاة، فقال له عمر: ألقِ الحصى وأخلِصِ الدعاء.
وكان عبد الملك بن هلال الهنائي عنده زنبيلٌ ملآن حصًى، فكان يسبِّح بواحدةٍ واحدة، فإذا ملَّ شيئًا طرح ثِنتَين ثِنتَين، ثم ثلاثًا ثلاثًا، فإذا ملَّ قبض قبضةً وقال: سبحان الله بعدد هذا. وإذا ملَّ شيئًا قبض قبضتَين وقال: سبحان الله بعدد هذا. فإذا ضجِر أخذ بعُروتَي الزنبيل وقلَبه وقال: الحمد لله بعدد هذا. وإذا بكر لحاجة لحَظَ الزنبيل وقال: الحمد لله عدد ما فيه.
قال غَيلان: إذا أردت أن تتعلم الدعاء فاسمع دعاء الأعراب.
قال سعيد بن المُسيب: مر بي صلة بن أشيَم، فما تمالكت أن نهضت إليه فقلت له: يا أبا الصهباء، ادعُ الله لي. فقال: رغَّبك الله فيما يبقى، وزهَّدك فيما يفنى، ووهب لك اليقين الذي لا تسكن النفس إلا إليه، ولا تعوِّل في الدين إلا عليه.
أبو الحسن قال: سمع رجل بمكة رجلًا يدعو لأمه، فقال له: ما بالُ أبيك؟ قال: هو رجلٌ يحتال لنفسه.
أبو الحسن، عن عُروة بن سليمان العبدي قال: كان عندنا رجل من بني تميم يدعو لأبيه ويدع أمه، فقيل له في ذلك، فقال: إنها كلبيَّة.
ورفع أعرابي يده بمكة قبل الناس فقال: اللهم اغفر لي قبل أن يدهمك الناس.
وقال النبي ﷺ: إن الله يُحب المُلحِّين في الدعاء.
وقال آخر: دعوتان أرجو إحداهما كما أخاف الأخرى؛ دعوة مظلوم أعَنتُه، ودعوة ضعيف ظلمتُه.
قال: وكان من دعاء أبي الدرداء: اللهم أمتِعنا بخِيارنا، وأعِنَّا على شِرارنا، واجعلنا خِيارًا كلَّنا، وإذا ذهب الصالحون فلا تُبقِنا.
وقال آخر لبعض السلاطين: أسألك بالذي أنت بين يدَيه أذَلُّ مني بين يدَيك، وهو على عِقابك أقدر منك على عقابي، إلا نظرت في أمري نظرَ من يري بُرئي أحبَّ إليه من سُقمي.
قالوا: وكان مُطرف بن عبد الله بن الشِّخِّير يقول: اللهم إنك أمرتَنا بما أمرتَنا ولا نقوى عليه إلا بعونك، ونهيتَنا عما نهيتَنا ولا ننتهي عنه إلا بعِصمتك، واقعة علينا حُجَّتك، غير معذورين فيما بيننا وبينك، ولا مبخوسين فيما عمِلنا لوجهك.
عبد العزيز بن أبان، عن سفيان في قوله تعالى: دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ، قال: كان أحدهم إذا أراد أن يدعو قال: سبحانك اللهم.
سفيان، عن ابن جُريج، عن عكرمة قال في قوله تعالى: قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا، قال: كان موسى عليه السلام يدعو وهارون يؤمِّن، فجعلهما الله داعِيَين.
قال: ولما وقع يونس في البحر وقد وُكل به حوت، فلما وقع ابتلعه فهوى به إلى قرار الأرض، فسمع تسبيح الحصى، فنادى يونس في الظُّلمات: أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ. قال: ظُلمة بطن الحوت، وظُلمة البحر، وظُلمة الليل. وقال تبارك وتعالى: فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ.
وفي الحديث المرفوع أن من دعاء النبي ﷺ: أعوذ بك من قلب لا يخشع، وبطن لا يشبع، ودعاء لا يُسمع.
علي بن سليم، أن قيس بن سعد قال: اللهم ارزقني حمدًا ومجدًا؛ فإنه لا حمد إلا بفَعَال، ولا مجد إلا بمال.
وقال رجل في مجلس الحسن: ليَهنِك الفارس. قال الحسن: فلعلَّه خامر، إذا وهب الله لرجل ولدًا فقل: شكرت الواهب، وبورك لك في الموهوب، وبلَغ أشده، ورُزقت بِره.
أبو سلمة الأنصاري قال: كان عمر بن عبد العزيز يقول: ما أحسنَ تعزيةَ أهل اليمن! وتعزيتهم: لا يحزنكم الله تعالى ولا يفتنكم، وأثابكم ما أثاب المتَّقين، وأوجب لكم الصلاة والرحمة.
قال: كان أبو بكر رضي الله تعالى عنه إذا عزَّى رجلًا قال: ليس مع العزاء مُصيبة، ولا مع الجزع فائدة، الموت أشَدُّ ما قبله، وأهوَن ما بعده، اذكروا فقدَ رسول الله ﷺ تهُن عندكم مصيبتكم، صلى الله على محمد، وعظَّم أجركم.
وكان علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه إذا عزَّى قومًا قال: إن تجزعوا فأهل ذلك الرحم، وإن تصبروا ففي ثواب الله عِوض من كل فائت، وإن أعظم مصيبة أُصيبَ بها المسلمون محمد ﷺ، وعظَّم الله أجركم.
وعزَّى عبد الله بن عبَّاس عمرَ بن الخطاب، رضي الله تعالى عنه، على بُنيٍّ له مات، فقال: عوَّضك الله منه ما عوَّضه منك.
وهذا الصبيُّ الذي مات هو الذي كان عمر بن الخطاب قال فيه: ريحانةٌ أشمُّها، وعن قريبٍ ولدٌ بارٌّ، أو عدوٌّ ضارٌّ.
سفيان قال: كان أبو ذر يقول: اللهم أمتِعنا بخيارنا، وأعِنَّا على شِرارنا.
قال: ودعا أعرابي فقال: اللهم إني أعوذ بك من الفقر المُدقِع، والذل المُضرِع.
عزَّت امرأةٌ المنصور على أبي العبَّاس، مَقدمَه من مكة، فقالت: أعظم الله أجرك؛ فلا مصيبة أعظم من مصيبتك، ولا عِوض أعظم من خلافتك.
قالوا: وقال عمر بن عبد العزيز وقد سمعوا وقْعَ الصواعق، ودويَّ الريح، وصوت المطر، فقال وقد فزع الناس: هذه رحمته، فكيف نِقمته؟
وقال أبو إسحاق: اللهم إن كان عذابًا فاصرِفه، وإن كان صلاحًا فزِد فيه، وهبْ لنا الصبر عند البلاء، والشكر عند الرخاء. اللهم إن كانت منحةً فمُنَّ علينا بالعِصمة، وإن كان عِقابًا فمُنَّ علينا بالمغفرة.
وقال أبو ذر: الحمد لله الذي جعلنا من أمةٍ تُغفَر لهم السيئات، ولا تُقبَل من غيرهم الحسنات.
وكان الفضل بن الربيع يقول: المسألة للملوك من تحيَّة النَّوكى، فإذا أردت أن تقول: كيف أصبحت؟ فقل: صبَّحك الله بالخير. وإذا أردت أن تقول: كيف تجدك؟ فقل: أنزل الله عليك الشفاء والرحمة.
قال أحمد الهُجيمي أبو عمر، أحد أصحاب عبد الواحد بن زيد: اللهم يا أجوَدَ الأجودين، ويا أكرَم الأكرمين، ويا أعفى العافين، ويا أرحم الراحمين، ويا أحكم الحاكمين، ويا أحسن الخالقين، فرِّج عني فرجًا عاجلًا تامًّا، هنيئًا مباركًا لي فيه، إنك على كل شيء قدير.
وكان عبد الله الشقري — وهو الكعبي، أحد أصحاب المِضمار من غِلمان عبد الواحد بن زيد، وكنيته أبو محمد، وكنية عبد الواحد أبو عُبيدة — يقول: اللهم إني عبدك وابن عبدك وابن أمَتك، ناصيتي بيدك، اللهم هبْ لي يقينًا، وأدِم لي العافية، وافتح عليَّ باب رِزقي في عافية، وأعوذ بك من النار والعار، والكذب والسخف، والخسف والقذف، والحقد والغضب، وحبِّبني إلى خلقك، وحبِّبهم إليَّ، وأسألك فرجًا عاجلًا في عافية، إنك على كل شيء قدير.
(١٩) دعاء الغنوي في حبسه
أعوذ بك من السجن والدَّين، والسب والضرب، ومن الغُل والقيد، ومن التعذيب والتجسيس، وأعوذ بك من الحَور بعد الكَور، ومن شر العدو في النفس والأهل والمال، وأعوذ بك من الهم والأرَق، ومن الهرب والطلب، ومن الاستخذاء والاستخفاء، ومن الإطراد والإغراب، ومن الكذب والعضيهة، ومن السعاية والنميمة، ومن لؤم القدرة، ومقام الخِزي في الدنيا والآخرة، إنك على كل شيء قدير.
(٢٠) ومن دعائه في الحبس
أسألك طول العمر في الأمن والعافية، والحِلم والعلم والحزم، والأخلاق الحسنة السنية، والأفعال المَرْضية، واليُسر والتيسير، والنماء والتثمير، وطِيب الذِّكر وحُسن الأحدوثة، والمحبة في الخاصة والعامة، وهَبْ لي ثبات الحُجة، والتأييد عند المنازعة والمخاصمة، وبارِك لي في الموت، إنك على كل شيء قدير.
وكان صالحٌ المُرِّي كثيرًا ما يردِّد في مجلسه: أعوذ بك من الخسف والمسخ، والرجفة والزلزلة، والصاعقة والريح المُهلِكة، وأعوذ بك من جهد البلاء، ومن شماتة الأعداء. وكان يقول: أعوذ بك من التعب والتعذُّر، والخيبة وسوء المُنقلَب. اللهم من أرادني بخير فيسِّر لي خيره، ومن أرادني بشرٍّ فاكفِني شره. اللهم أسألك خِصب الرحل، وصلاح الأهل.
وكان عيسى بن أبي المدوَّر يقول: أعوذ بك من الذِّلَّة والقِلَّة، ومن الإهانة والمِهنة، والإخفاق والوَحدة، وأعوذ بك من الحَيرة وقلة الحيلة، وأعوذ بك من جهد البلاء، وشماتة الأعداء.
محمد بن عبد الله قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: من أُعطيَ الدعاء لم يُحرَم الإجابة، قال الله تعالى: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ. ومن أُعطيَ الشكر لم يُحرَم الزيادة؛ لقوله عز وجل: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ. ومن أُعطيَ الاستغفار لم يُحرَم القَبول؛ لقوله تعالى: وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
وقال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: كُونوا أوعية الكتاب، وينابيع العلم، وسلوا الله رِزق يوم بيوم.
وروى محمد بن علي عن آبائه، عن النبي ﷺ قال: إذا سألتم الله فسلوه بباطن الكفَّين، وإذا استعذتموه فاستعيذوه بظاهرهما.
وقال آخر: اللهم إني أعوذ بك من بَطَر الغِنى، وذلة الفقر.
أبو سعيد المؤدِّب، عن هشام بن عُروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله تعالى قالت: سلوا ربَّكم حتى الشِّسع؛ فإنه إن لم يُيسره لم يتيسر.
سُحيم، عن طاوس قال: يكفي من الدنيا ما يكفي العجينَ من المِلح.
قال: سأل رجل رجلًا حاجة، فقال المسئول: اذهب بسلام. فقال السائل: قد أنصفنا من ردَّنا إلى الله في حوائجنا.
مُجالد، عن الشعبي قال: قال النبي ﷺ: اللهم أذهِبْ مُلْك غسان، وضع مُهور كِندة.
وقال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: لكلِّ شيءٍ رأس، ورأس المعروف تعجيله.
(٢١) إسماعيل بن إبراهيم ونطقه بالعربية دون تلقين
القول في إنطاق الله تعالى إسماعيل بن إبراهيم، صلى الله على نبينا وعليهما، بالعربية المُبِينة على غير التلقين والتمرين، وعلى غير التدريب والتدريج، وكيف صار عربيًّا أعجميَّ الأبوَين. وأول من عليه أن يُقر بهذا القحطاني؛ فإنه لا بد من أن يكون له أبٌ كان أول عربي من جميع بني آدم عليه السلام. ولو لم يكن ذلك كذلك، وكان لا يكون عربيًّا حتى يكون أبوه عربيًّا، وكذلك أبوه وكذلك جده، كان ذلك مُوجبًا لأن يكون نوح عليه السلام عربيًّا، وكذلك آدم عليه السلام.
قال أبو عُبيدة: حدَّثنا مسمع بن عبد الملك، عن أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين، عن آبائه، قال: أول من فتق لسانَه بالعربية المبينة إسماعيلُ وهو ابن أربع عشرة سنة. قال النبي ﷺ: شهدتُ الفِجار وأنا ابن أربع عشرة سنة، وكنت أنبل على عمومتي. يريد: أجمع لهم النبل. قال أبو عُبيدة: فقال له يونس: صدقت يا أبا يسار، هكذا حدَّثني نصر بن طريف.
وروى قيس بن الربيع عن بعض أشياخه، عن ابن عباسٍ أن الله ألهم إسماعيل العربية إلهامًا. وقال الله تبارك وتعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ. قال: قد يرسل الله الرسول إلى قومه، ولو أرسل في ذلك الوقت إلى قومٍ آخرين لمَا كان الثاني ناقضًا للأول، وإذا كان الأمر كذلك كان قومه أول من يفهم عنه ثم يصيرون حُجة على غيرهم. وإذا كان الله عز وجل قد بعث محمدًا ﷺ إلى العجم فضلًا عن العرب، فقحطان وإن لم يكونوا من قومه أحقَّ بلزوم الفرض من سائر العجم. وهذا الجواب جواب عوام النِّزارية، فأما الخواص الخُلَّص فإنهم قالوا: العرب كلهم شيءٌ واحد؛ لأن الدار والجزيرة واحدة، والأخلاق والشِّيَم واحدة، وبينهم من التصاهر والتشابك، والاتفاق في الأخلاق وفي الأعراق، من جهة الخئولة المرددة، والعمومة المُشتبكة، ثم المناسبة التي بُنيت على غريزة التربة، وطِباع الهواء والماء؛ فهم في ذلك شيءٌ واحد؛ في الطبيعة واللغة، والهِمَّة والشمائل، والمراعي والراية، والصناعة والشهوة؛ فإذا بعث الله عز وجل نبيًّا من العرب فقد بعثه إلى جميع العرب، وكلهم قومه، ولأنهم جميعًا يد على العجم، وعلى من حارَبهم من الأمم؛ لأن تناكُحهم لا يعدوهم، وتصاهُرهم مقصور عليهم.
قالوا: والمشاكلة من جهة الاتفاق في الطبيعة والعادة، ربما كانت أبلغ وأوغل من المشاكلة من جهة الرحم، نعم، حتى تراه أغلب عليه من أخيه لأمه وأبيه، وربما كانت أشبه به خَلقًا وخُلقًا، وأدبًا ومذهبًا، فيجوز أن يكون الله تبارك وتعالى حين حوَّل إسماعيل عربيًّا أن يكون كما حوَّل طبع لسانه إلى لسانهم، وباعده من لسان العجم، أن يكون أيضًا حوَّل سائر غرائزه، وسلخ سائر طبائعه، فنقلها كيف أحب، وركَّبها كيف شاء، ثم فضَّله بعد ذلك بما أعطاه من الأخلاق المحمودة، واللسان البيِّن، بما لم يكن عندهم، وكما خصَّه من البيان بما لم يخصهم به فكذلك يخصه من تلك الأخلاق ومن تلك الدلائل بما يفوقهم ويروقهم؛ فصار بإطلاق اللسان على غير التلقين والترتيب، وبما نُقِل [إليهم] من طبائعه، ونقل إليه من طبائعهم، وبالزيادة التي أكرمه الله بها، أشرف شرفًا وأكرم كرمًا.
وقد علِمنا أن الخُرس والأطفال إذا دخلوا الجنة وحُوِّلوا في مقادير البالغين، وإلى الكمال والتمام، لا يدخلونها إلا مع الفصاحة بلسان أهل الجنة، ولا يكون ذلك إلا على خلاف الترتيب والتدريج، والتعليم والتقويم. وعلى ذلك المثال كان كلام عيسى بن مريم عليه السلام في المهد، وإنطاق يحيى عليه السلام بالحكمة صبيًّا، وكذلك القول في آدم وحوَّاء عليه السلام.
وقد قلنا في ذئب أُهبان بن أوس، وغُراب نوح، وهدهد سليمان، وكلام النملة، وحِمار عُزير، وكذلك كل شيء أنطقه الله بقدرته، وسخَّره لمعرفته ومشيئته، وإنما يمتنع البالغ من المعارف من قِبَل أمور تَعرِض من الحوادث، وأمور في أصل تركيب الغريزة؛ فإذا كفاهم الله تلك الآفات، وحصَّنهم من تلك المواضع، ووفَّر عليهم الذكاء، وجلب إليهم جياد الخواطر، وصرف أوهامهم إلى التعرُّف، وحبَّب إليهم التبيُّن؛ وقعت المعرفة، وتمَّت النعمة. والموانع قد تكون من قِبَل الأخلاط الأربعة على قدر القلة والكثرة، والكثافة والرِّقَّة. ومن ذلك ما يكون من جهة سوء العادة، وإهمال النفس؛ فعندها يستوحش من الفكرة، ويستثقل النظر. ومن ذلك ما يكون من الشواغل العارضة، والقُوى المُنقسمة. ومن ذلك ما يكون من خُرق المعلِّم، وقلة رِفق المؤدِّب، وسوء صبر المثقِّف. فإذا صفَّى الله ذهنه ونقَّحه وهذَّبه وثقَّفه، وفرَّغ باله، وكفاه انتظار الخواطر، وكان هو المقيِّد له، والقائم عليه، والمُريد لهدايته، لم يلبث أن يعلم. وهذا صحيح في الأوهام، غير مدفوع في العقول، وقد جعل الله الخال أبًا، وقالوا: الناس بأزمانهم أشبَهُ منهم بآبائهم.
وقد رأينا اختلاف صور الحيوان على قدر اختلاف طبائع الأماكن، وعلى قدر ذلك شاهَدنا اللغات والأخلاق والشهوات؛ ولذلك قالوا: فلانٌ ابن بَجْدتها، وفلانٌ بيضة البلد. يقع ذمًّا ويقع حمدًا. وقال زياد: والله لَلكوفة أشبه بالبصرة من بكر بن وائل بتميم. ويقولون: ما أشبهَ الليلةَ بالبارحة! كأنهم قالوا: ما أشبه زمان يوسف بن عمر بزمان الحجَّاج. وقال سهل بن عمرو: أشبه امرأً بعضُ بَزِّه. وقال الأضبط بن قُرَيع: بكلِّ وادٍ بنو سعد.
ولولا أن الله عز وجل أفرد إسماعيل من العجم، وأخرجه بجميع معانيه إلى العرب، لكان بنو إسحاق أولى به. وإنما ذلك كرجل قد أحاط علمه بأن هذا الطفل من نجل هذا الرجل، ولكن لما كان من سِفاح لم يجُز أن يُضيفه إليه ويدعوَه أباه. وقد جعل الله نسب ابن الملاعِنة نسب أمه وإن وُلد على فراش أبيه. وقد أرسل الله موسى وهارون عليهما السلام إلى فرعون وقومه وإلى جميع القبط، وهما أمَّتان؛ كنعاني وقبطي. وقد جعل الله قوم كل نبي هم المبلِّغين والحُجة، ألا ترى أنَّا نزعم أن عجز العرب عن مِثل نظم القرآن حُجة على العجم من جهة إعلام العرب العجم أنهم كانوا عن ذلك عجَزة؟ وقال النبي ﷺ: «خُصِصت بأمور؛ منها أني بُعثت إلى الأحمر والأسود، وأُحلَّت لي الغنائم، وجُعلت لي الأرض طَهورًا.» فدلَّ بذلك على أن غيره من الرسل إنما كان يُرسَل إلى الخاص، وليس يجوز لمن عرف صِدق ذلك الرسول من سائر الأمم أن يكذِّبه ويُنكِر دعواه، والذي عليه ترك الإنكار والعمل بشريعة النبي الأول.
هذا فرق ما بين من بُعث إلى البعض ومن بُعث إلى الجميع. انقضى الباب.
(٢٢) حديث يوم السقيفة
قال: وقال حُباب بن المُنذِر يوم السقيفة: أنا جُذَيلها المحكَّك، وعُذَيقها المُرجَّب، إن شئتم كررناها جَذَعة، منا أمير ومنكم أمير؛ فإن عمل المهاجري شيئًا في الأنصاري رد ذلك عليه الأنصاري، وإن عمل الأنصاري شيئًا في المهاجري رد عليه المهاجري. فأراد عمر الكلام، فقال أبو بكر: على رِسْلك.
نحن المهاجرون، أول الناس إسلامًا، وأوسطهم دارًا، وأكرم الناس أحسابًا، وأحسنهم وجوهًا، وأكثر الناس ولادةً في العرب، وأمَسُّهم رحمًا برسول الله ﷺ، أسلمنا قبلكم، وقُدِّمنا في القرآن عليكم؛ فأنتم إخواننا في الدين، وشركاؤنا في الفيء، وأنصارنا على العدو. آويتم ونصرتم وآسيتم، فجزاكم الله خيرًا. نحن الأمراء، وأنتم الوزراء. لا تدين العرب إلا لهذا الحي من قريش. أنتم محقوقون ألا تنفسوا على إخوانكم من المهاجرين ما ساق الله إليهم.
قالوا: فإنَّا قد رضِينا وسلَّمنا.
عيسى بن نذير قال: قال أبو بكر رضي الله تعالى عنه: نحن أهل الله، وأقرب الناس بيتًا من بيت الله، وأمَسُّهم رحمًا برسول الله ﷺ. إن هذا الأمر إن تطاولت إليه الخزرج لم تقصر عنه الأوس، وإن تطاولت إليه الأوس لم تقصر عنه الخزرج، وقد كان بين الحيَّين قَتلى لا تُنسى، وجِراح لا تُداوى؛ فإن نعق منكم ناعق فقد جلس بين لَحيَي أسد، يضغمه المُهاجري ويجرحه الأنصاري.
قال ابن دأب: فرماهم والله بالمُسكِتة.
من حديث ابن أبي سفيان بن حُويطب، عن أبيه، عن جده، قال: قدِمت من عَمرتي فقال لي أهلي: أعلِمت أن أبا بكر بالموت؟ فأتيته فإذا عيناه تذرفان، فقلت: يا خليفة رسول الله، أما كنت أول من أسلم، وثانيَ اثنَين في الغار، فصدَقت هِجرتك، وحسُنت نُصرتك، ووليت فأحسنت صُحبتهم، واستعملت خيرهم عليهم؟ قال: وحسنًا ما صنعت؟ قلت: نعم والله. قال: والله للهُ أشكر له وأعلم به، ولا يمنعني ذلك من أن أستغفر الله. فما خرجت حتى مات.
أبو الخطاب الزُّراري، عن حَجناء بن جرير قال: قلت: يا أبتِ إنك لم تهجُ أحدًا إلا وضعته إلا التيم! قال: إني لم أجد حسبًا فأضعه، ولا بناءً فأهدمه. قال: وقيل للفرزدق: أحسن الكُمَيت في مدائحه في تلك الهاشميَّات؟ قال: وجد آجُرًّا وجصًّا فبنى.
عامر بن الأسود قال: دخل رجل من ولد عامر بن الظَّرِب على عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه فقال له: خبِّرني عن حالك في جاهليتك، وعن حالك في إسلامك. قال: أما جاهليتي فما نادَمت فيها غير لُمة، ولا هممت فيها بأمَة، ولا خِمت فيها عن بُهمة، ولا رآني راءٍ إلا في نادٍ أو عشيرة، أو حَمْل جريرة، أو خيلٍ مُغيرة.
عوانة قال: قال عمر: الرجال ثلاثة؛ رجلٌ ينظر في الأمور قبل أن تقع فيُصدِرها مَصدرها، ورجلٌ مُتوكل لا ينظر، فإذا نزلت به نازلةٌ شاوَر أهل الرأي وقبِل قولهم، ورجلٌ حائرٌ بائر، لا يأتمر رشدًا، ولا يُطيع مُرشدًا.
قال: كلَّم عِلباء بن الهيثم السدوسي عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه في حاجة، وكان أعور دميمًا، جيِّد اللسان، حسن البيان، فلما تكلَّم في حاجته فأحسن، صعَّد عمر بصره فيه وحدَره، فلما أن قام قال: لكل أناس في جُمَيلهم خُبْر.
أخبرنا عيسى بن يزيد عن أشياخه، قال: قدِم معاوية المدينة فدخل دار عثمان، فقالت عائشة ابنة عثمان: وا أبتاه. وبكت، فقال معاوية: يا ابنة أخي، إن الناس أعطَونا طاعة وأعطيناهم أمانًا. وأظهَرْنا لهم حِلمًا تحته غضب، وأظهروا لنا طاعةً تحتها حقد. ومع كل إنسان سيفه، وهو يرى مكان أنصاره، وإن نكثنا بهم نكثوا بنا، ولا ندري أعلينا تكون أم لنا. ولَأن تكوني ابنة عم أمير المؤمنين خيرٌ من أن تكوني امرأة من عُرْض المسلمين. وقالت عائشة ابنة عثمان في أبان بن سعيد بن العاص حين خطبها، وكان نزل بأيلة وترك المدينة:
أبو الحسن قال: قال سلامة بن رَوح الجُذامي لعمرو بن العاص: إنه كان بينكم وبين العرب باب فكسرتموه، فما حمَلكم على ذلك؟ قال: أردنا أن نُخرج الحق من جفير الباطل.
قدِم ببيعة علي إلى الكوفة يزيد بن عاصم المُحاربي، فبايَع أبو موسى، فقال عمَّار لعلي: والله لينقضن عهده، وليحُلَّن عقده، وليفرَّنَّ جهده، وليُسلِمن جنده.
وقال علي في رواية الشعبي: حمَلت إليكم دِرَّة عمر لأضربكم بها لتنتهَوا فأبَيتم، حتى اتخذت الخيزرانة فلم تنتهوا، وقد أرى الذين يريدون السيف، ولا آتي لأُصلحكم بفسادي.
(٢٣) مقطَّعات من نوادر الأعراب وأشعارهم
كانت العادة في كُتُب الحيوان أن أجعل في كل مصحف من مصاحفها عشر ورقات من مقطعات الأعراب ونوادر الأشعار، لما ذكرت عَجبك بذلك، فأحببت أن يكون حظ هذا الكتاب في ذلك أوفر إن شاء الله تعالى.
قال أبو العَرف الطُّهَوي:
وقال الحارث بن حِلِّزة (قال أبو عبيدة: الباقي مصنوع):
وقال زبَّان بن يسار بن عمرو بن جابر:
وقال بعض الأعراب:
وقال بعض الأعراب:
وقال بعض الأعراب:
وقال بعض الأعراب، مجهول الاسم، وهو من جيِّد مُحدَث أشعارهم:
وقال رجل من مُحارب:
وقال حاتم الطائي:
قال، وأظنُّها لبعض اليهود:
وقال بعض بني أسد:
وقال ثروان، أو ابن ثروان، مولًى لبني عُذرة:
وقال آخر:
وقال ابن عَبدل:
وقال بعض الحِجازيين:
وقال ابن عَبدل:
وقال حبيب بن أوس:
وقال:
وقال:
وقال:
وقال:
وقال:
وقال:
وقال سَلمة بن الحارث الأنماري:
وقال آخر:
وقال آخر:
وقال حضرمي بن عامر الأسدي، ومات أخوه، فقال جزء: قد فرِح بأكل الميراث:
وقال حُرَيث بن سَلمة بن مُرارة:
وقال بعض الخوارج لامرأته وأرادت أن تنفر معه:
وقال خُزَز بن لَوْذان لامرأته في شبيه بهذا:
وأراد أعرابي أن يُسافر فطلبت إليه امرأته أن تكون معه، فقال:
المذح: سجح إحدى الفخذَين بالأخرى.
وفي شبيه بهذا المعنى الأول يقول عمر بن عبد الله بن أبي ربيعة:
وقال سلامة بن جندل هذه الأبيات وبعث بها إلى صعصعة بن محمود بن عمرو بن مرثد، وكان أخوه أحمر بن جندل أسيرًا في يده، فأطلقه له:
قال [صعصعة بن محمود]: الثناء والمِدحة أحَبُّ إلينا.
وقال أوس بن حجر حين حُبِس وأقام عند فضالة بن كندة، وتولَّت خدمتَه حليمةُ ابنة فضالة، شاكرًا لذلك:
وقال الخُريمي:
وقال الأسدي:
وقال الحادرة:
وأنشد الأصمعي لمُهلهِل:
وضاف أبو الشليل العَنبري بني حَكم، فخذًا من عنَزة، فقال:
وقال آخر:
وقال آخر، وهو أبو المهوِّش الأسدي:
وقال أيضًا:
وقال آخر:
وقال أبو الطروق الضبي في خاقان بن عبد الله بن الأهتم:
وقال مكِّي بن سوادة البُرجُمي:
وقال اللعين المنقري في آل الأهتم:
وقال آخر:
وقال أعرابي، وهو أبو حيَّة النُّمَيري:
وقال أبو يعقوب الأعور:
وقال الثقفي:
وقال أشجع السُّلمي في هارون أمير المؤمنين:
وقال:
وقال:
وقالوا: لم يدع الأول للآخر معنًى شريفًا ولا لفظًا بهيًّا إلا أخذه، إلا بيت عنترة:
وقال الفُقيمي، قاتل غالب أبي الفرزدق:
وقال أدهم بن مُحرز الباهلي:
وقال أبو الشَّغب السعدي:
وقال أعرابي:
وقال دُرَيد بن الصِّمَّة:
وقال آخر:
يقول: إذا كان الجدب ولم يكن للمال لبن فهو وهوبٌ مِطعام في هذا الزمن. والمنقيات: المهازيل التي ذهب نِقيُهن، والنقي: مخ العظام وشحم العين، وجمعه أنقاء، وناقة منقية أي ذات نقي.
وقال آخر:
وإلى هذا ذهب ابن يسير حيث يقول:
وقال أبو عُبيدة معمر بن المثنى: ومن الشوارد التي لا أرباب لها قوله:
ومِثله في بعض معانيه:
وقال:
وقال الراجز:
وقال الراجز:
وقال الراجز:
وقال عامر مُلاعب الأسنَّة:
وقال آخر:
وقال أبو نخيلة لبعض سادات بني سعد:
وتمثَّل سفيان بن عُيينة وقد جلس على مرقبٍ عالٍ، وأصحاب الحديث مدى البصر يكتبون، بقول الآخر:
وقال الأول في الأحنف:
وقال آخر:
وقال رجل من بني الحارث بن كعب يُقال له سُويد:
وقال الآخر:
وقال أبو الطَّمَحان القَيني:
وقال طُفيل الغنوي:
وقال رجل من بني نهشل:
وقال بعض الحِجازيين:
وقال أبو مِحجَن الثقفي:
وقال بعض اليهود:
وقال بعض الشعراء:
وقال آخر:
وقال حَجْل بن نَضلة:
وقال:
وقال الآخر:
وقال سعد بن ربيعة بن مالك بن سعد بن زيد مناة، وهو من قديم الشعر وصحيحه:
وقال الطِّرِمَّاح في هذا المعنى:
وقال الأضبط بن قُرَيع:
وقال أعرابي، ونحر ناقةً في حُطمةٍ أصابتهم:
وقدَّم ناقة له أخرى إلى شجرة ليكون المُحتطب قريبًا من المنحر، فقال:
وقال أسقُف نجران:
وقال آخر:
(٢٤) أشعار في الخمر
وقال سُحيم بن وثيل الرياحي:
وقال عبدٌ راعٍ:
وقال:
وقال أبو حفص القُريعي:
وكان فتًى طيِّب من ولد يقطين لا يصحو، وكان في أهله روافض يُخاصمون في أبي بكر وعمر، وعثمان وعلي، وطلحة والزبير، رضوان الله تعالى عليهم أجمعين، فقال:
وقال المُنخَّل اليَشكُري:
وقال وتعرَّضت له امرأة صاحبه:
وقال آخر:
وقال السُّحيمي:
وقال آخر:
وقال ابن ميَّادة:
وأنشد اللائح لبعض الروافض:
(٢٥) ما قيل في البرامكة من الهجاء
وقال بعضهم في البرامكة:
وقال آخر:
وقال آخر:
وقال أبو الهَول في جعفر بن يحيى:
وقال رجل من أهل الشام:
وقال الشاعر:
وقال سهل بن هارون في يحيى بن خالد:
وقال حسان بن حسان:
وهذا شبيه بقول العتَّابي في هارون:
وقال كُلثوم بن عمرو العتَّابي:
وقال الحسن بن هانئ:
(٢٦) ما قيل في البرامكة من المديح
ولما أنشد ابن حفصة الفضل بن يحيى بن خالد:
قال له الفضل: قل: فلا شُلَّت يد برمكية؛ فخالدٌ كثير، وليس برمك إلا واحدًا.
وقال سَلْم في يحيى، ويحيى يومئذٍ شابٌّ:
ومن جيِّد ما قيل فيهم:
وقال الحسن بن هانئ في جعفر بن يحيى:
ذكروا أن جعفر بن يحيى كان أول من عرض الجِرِبَّانات لطول عنقه.
وقال مَعْدان الأعمى، وهو أبو السَّريِّ السُّميطي:
وقال الكُمَيت:
وقال خليفة أبو خلف بن خليفة:
وقال الراعي في بني أمية:
فلما سمع هذا الشعر قال: لمن هذا؟ قالوا: لرجل من أزد عمان يُقال له كعب الأشقري. قال: ما كنت أظن أهل عمان يقولون مِثل هذا الشعر.
قال [أبو] اليقظان: وقام إلى عمر بن عبد العزيز رجل وهو على المِنبر فقال:
وكان زيد بن علي كثيرًا ما يتمثل بقول الشاعر:
وقال عبد الله بن كثير السهمي، وكان يتشيع، لولادةٍ كانت نالته، وسمع عمال خالد بن عبد الله القسري يلعنون عليًّا والحسين على المنابر:
وقال حين عابوه بذلك الرأي:
وقال يزيد بن أبي بكر بن دأب الليثي:
وقال ابن الرُّقيَّات:
وقال عُروة بن أُذَينة:
وقال حسَّان بن ثابت يرثي أبا بكر الصِّدِّيق رضي الله تعالى عنه:
وقال بعض بني أسد:
وقال يزيد بن الحكم بن أبي العاص في شأن السقيفة:
وقالت صفية في ذلك اليوم:
وقال الفرزدق:
وقال مُزرد بن ضِرار يرثي عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه:
قال: وسمعوا في تلك الليلة هاتفًا يقول:
وعن أبي الحُجاف عن مسلم البطين:
وقال الكُمَيت:
وقال حربُ بن المُنذِر بن الجارود:
وجه التدبير في الكتاب إذا طال أن يُداويَ مؤلِّفه نشاط القارئ له، ويسوقه إلى حظه بالاحتيال له؛ فمن ذلك أن يُخرجه من شيء إلى شيء، ومن باب إلى باب، بعد ألا يُخرجه من جملة ذلك الفن، ومن جمهور ذلك العلم.
وقد يجب أن نذكُر بعض ما انتهى إلينا من كلام خُلفائنا من ولد العبَّاس، ولو أن دولتهم أعجميةٌ خراسانية، ودولة بني مروان عربيةٌ أعرابية، وفي أجنادٍ شامية، والعرب أوعى لِما تسمع، وأحفظ لِما تأتي، ولها الأشعار التي تقيِّد عليها مآثرها، وتخلِّد لها محاسنها، وجرَت من ذلك في إسلامها على مِثل عادتها في جاهليتها؛ فبنت بذلك لبني مروان شرفًا كثيرًا، ومجدًا كبيرًا، وتدبيرًا لا يُحصى.
ولو أن أهل خراسان حفظوا على أنفسهم وقائعهم في أهل الشام، وتدبير ملوكهم، وسياسة كبرائهم، وما جرى في ذلك من فرائد الكلام وشريف المعاني، كان فيما قال المنصور وما فعل في أيامه، وأسَّس لمن بعده، ما يفي بجماعة ملوك بني مروان.
ولقد تتبَّع أبو عُبيدة النحوي، وأبو الحسن المدائني، وهشام الكلبي، والهيثم بن عدي، أخبارًا اختلفت، وأحاديث تقطَّعت، فلم يُدركوا إلا قليلًا من كثير، وممزوجًا من خالص.
(٢٧) شيء من سياسة بني العبَّاس وأدبهم
وسنذكُر جُملًا مما انتهى إلينا من كلام المنصور، ومن شأن المأمون وغيرهما، وإن كنَّا قد ذكرنا من ذلك طرفًا. ونقصد من ذلك إلى التخفيف والتقليل؛ فإنه يأتي من وراء الحاجة، ويُعرَف بجملته مُراد البقية.
قال: وكان المنصور داهيًا أريبًا، مُصيبًا في رأيه سديدًا، وكان مقدَّمًا في علم الكلام، ومُكثرًا من كتاب الآثار، ولكلامه كتابٌ يدور في أيدي العارفين الورَّاقين معروف عندهم. ولما همَّ بقتل أبي مسلمٍ سقط بين الاستبداد برأيه والمشاورة فيه، فأرِقَ في ذلك ليلته، فلما أصبح دعا بإسحاق بن مسلم العُقيلي، فقال له: حدِّثني حديث الملِك الذي أخبرتني عنه بحران. قال: أخبرني أبي عن الحُصين بن المُنذِر أن ملِكًا من ملوك فارس يُقال له سابور الأكبر، كان له وزير ناصح قد اقتبس أدبًا من آداب الملوك، وشابَ ذلك بفَهم في الدين، فوجَّهه سابور داعية إلى خراسان، وكانوا قومًا عجمًا يعظِّمون الدنيا جهالةً بالدين، ويُخلُّون بالدِّين استكانةً لقُوت الدنيا، وذلًّا لجبابرتها، فجمعهم على دعوةٍ من الهوى يكيد به مطالب الدنيا، واغترَّ بقتل ملوكهم لهم وتخوُّلهم إياهم. وكان يُقال: لكلِّ ضعيفٍ صولة، ولكلِّ ذليلٍ دولة. فلما تلاحمت أعضاء الأمور التي لقَّح استحالت حربًا عَوانًا شالت أسافلها بأعاليها، فانتقل العز إلى أرذلهم، والنباهة إلى أخملهم، فأُشربوا له حبًّا مع خفض من الدنيا افتُتح بدعوة من الدين؛ فلما استوثقت له البلاد بلَغ سابور أمرهم، وما أحال عليه من طاعتهم، ولم يأمن زوال القلوب وغدرات الوزراء، فاحتال في قطع رجائه عن قلوبهم. وكان يُقال:
فصمَّم على قتله عند وروده عليه برؤساء أهل خراسان وفُرسانهم، فقتله، فبغتهم بحدث، فلم يرُعْهم إلا ورأسه بين أيديهم، فوقف بهم بين الغربة، ونأيِ الرَّجعة، وتخطُّف الأعداء، وتفرُّق الجماعة، واليأس من صاحبهم، فرأوا أن يستتمُّوا الدعوة بطاعة سابور ويتعوَّضوه من الفُرقة، فأذعنوا له بالمُلك والطاعة، وتبادروه بمواضع النصيحة، فملكهم حتى مات حَتْف أنفه.
فأطرقَ المنصور مليًّا ثم رفع رأسه وهو يقول:
وأمر إسحاق بالخروج، ودعا بأبي مسلم، فلما نظر إليه داخلًا قال:
ثم وثب إليه، ووثب معه بعض حشمه بالسيوف، فلما رآهم وثب، فبدره المنصور فضربه ضربةً طوَّحه منها، ثم قال:
ثم أمر فحُز رأسه، وبعث به إلى أهل خراسان وهم ببابه، فجالوا حوله ساعةً، ثم رد عن شغبهم انقطاعهم عن بلادهم، وإحاطة الأعداء بهم، فذلُّوا وسلَّموا له، فكان إسحاق إذا رأى المنصور قال:
وكان المنصور إذا رآه قال:
وكان المهديُّ يُحبُّ القِيان وسماع الغناء، وكان مُعجَبًا بجاريةٍ يُقال لها جوهر، وكان اشتراها من مروان الشامي، فدخل عليه ذات يوم مروان الشامي وجوهر تغنِّيه، فقال مروان:
فاتَّهمه المهدي، وأمر به فدُعَّ في عنقه إلى أن أُخرج، ثم قال لجوهر: أطرِبيني. فأنشأت تقول:
فقال المهدي:
قال الهيثم: أنشدت هارون، وهو وليُّ عهدٍ أيام موسى، بيتَين لحمزة بن بِيض في سليمان بن عبد الملك:
قال: يا يحيى، اكتب لي هذين البيتين.
ولما مدح ابن هرمة أبا جعفر المنصور، أمر له بألفَي درهم، فاستقلَّها، وبلَغ ذلك أبا جعفر فقال: أمَا يرضى أني حقنت دمه وقد استوجب إراقته، ووفرت ماله وقد استحقَّ تلفه، وأقررته وقد استأهل الطرد، وقرَّبته وقد استحقَّ البعد؟ أليس هو القائل في بني أمية:
قال ابن هَرمة: فإني قد قلت فيك أحسن من هذا. قال: هاتِه. قال: قلت:
قال المنصور: أما هذا الشعر فمُسترَق، وأما نحن فلا نُكافئ إلا بالتي هي أحسن.
(٢٨) سياسة المنصور في العفو عن المُسيء
ولما احتال أبو الأزهر المهلب [بن عبيثر المهري] لعبد الحميد بن ربعي بن خالد بن مغداق، وأسلمه [إلى] حميد [بن قحطبة، وأسلمه حميد] إلى المنصور، قال: لا عُذرَ فأعتذر، وقد أحاط بي الذنب، وأنت أولى بما ترى. قال: لست أقتل أحدًا من آل قَحطبة، بل أهب مُسيئهم إلى مُحسِنهم، وغادِرَهم لوفيِّهم. قال: إن لم يكُن فيَّ مُصطنَع فلا حاجة لي في الحياة، ولست أرضى أن أكون طليق شفيع، وعتيق ابن عم. قال: اسكت مقبوحًا مشقوحًا، اخرج فإنك أنوَك جاهل، أنت عتيقهم وطليقهم ما حييت.
ولما داهَن سفيان بن معاوية بن يزيد بن المهلَّب في شأن إبراهيم بن عبد الله، وصار إلى المنصور، أمر الربيع بخلع سواده والوقوف به على رءوس اليمانية في المقصورة يوم الجمعة، ثم قال: قل لهم: يقول لكم أمير المؤمنين: قد عرفتم ما كان من إحساني إليه، وحُسنِ بَلائي عنده، وقديم نعمتي عليه، والذي حاوَل من الفتنة، ورامَ من البغي، وأراد من شقِّ العصا ومعاونة الأعداء، وإراقة الدماء؛ وأنه قد استحقَّ بهذا من فِعله أليم العقاب، وعظيم العذاب، وقد رأى أمير المؤمنين إتمام بلائه الجميل لديه، وربَّ نَعمائه السابقة عنده؛ لما يتعرَّفه أمير المؤمنين من حسن عائدة الله عليه، وما يؤمِّله من الخير العاجل والآجل عند العفو عمن ظلم، والصفح عمن أساء، وقد وهب أمير المؤمنين مُسيئهم لمُحسِنهم، وغادِرَهم لوفيِّهم.
(٢٩) وصف المأمون لصنوف العلم
وقال سهل بن هارون يومًا وهو عند المأمون: من أصناف العلم ما لا ينبغي للمسلمين أن يرغبوا فيه، وقد يُرغَب عن بعض العلم كما يُرغَب عن بعض الحلال.
قال المأمون: قد يُسمَّى بعض الشيء علمًا وليس بعلم؛ فإن كنت أردت هذا فوجهه الذي ذكرنا، ولو قلت: إن العلم لا يُدرَك غَوره، ولا يُسبَر قَعره، ولا تُبلغ غايته، ولا يُستقصى أصنافه، ولا يُضبط آخره، فالأمر على ما قلت؛ فإذا كان الأمر كذلك فابدءوا بالأهم فالأهم، وابدءوا بالفرض قبل النفل؛ فإذا فعلتم ذلك كان عدلًا، وقولًا صِدقًا. وقد قال بعض العلماء: اقتصِد من أصناف العلم إلى ما هو أشهى إلى نفسك، وأخف على قلبك؛ فإن نفاذك فيه على حسب شهوتك وسهولته عليك. وقال أيضًا بعض العلماء: لست أطلب العلم طمعًا في بلوغ غايته، والوقوف على نهايته، ولكن التماس ما لا يسع جهله، ولا يَحسُن بالعاقل إغفاله. وقال آخرون: عِلم الملوك النَّسبُ والخبر وجُمل الفقه، وعِلم التُّجار الحسابُ والكتاب، وعلم أصحاب الحرب درسُ كُتُب المغازي وكُتُب السِّيَر. فأما أن تُسمِّي الشيء علمًا وتنهى عنه من غير أن يكون شيءٌ يشغل عما هو أنفع منه، بل تنهى نهيًا جزمًا، وتأمر أمرًا حتمًا. والعلم بصر، وخلافه عمًى، والاستبانة للشر ناهية عنه، والاستبانة للخير آمِرة به.
ولما قرأ المأمون كُتُبي في الإمامة فوجدها على ما أمر به، وصِرت إليه، وقد كان أمر اليزيدي بالنظر فيها ليخبره عنها، قال لي: قد كان بعض من نرتضي عقله ونصدِّق خبره، خبَّرنا عن هذه الكتب بإحكام الصنعة وكثرة الفائدة. فقلت: قد تَرْبى الصفة على العِيان، فلما رأيتها رأيت العِيان قد أربى على الصفة، فلما فلَيتُها أربى الفَليُ على العِيان كما أربى العِيان على الصفة. وهذا كتابٌ لا يُحتاج إلى حضور صاحبه، ولا يفتقر إلى المُحتجِّين عنه، قد جمع استقصاء المعاني، واستيفاء جميع الحقوق، مع اللفظ الجَزْل، والمَخرج السهل؛ فهو سوقيٌّ مُلوكي، وعامِّيٌّ خاصِّي.
(٣٠) مجادلة المأمون للخراساني المرتد
ولما دخل عليه المرتدُّ الخراساني وقد كان حمله من خراسان حتى وافى به العراق، قال له المأمون:
لَأن أستحييَك بحقٍّ أحَبُّ إليَّ من أن أقتلك بحق، ولأن أقبلك بالبراءة أحب إليَّ من أن أدفعك بالتهمة. قد كنتَ مسلمًا بعد أن كنت نصرانيًّا، وكنت فيها أتيح، وأيامك أطول، فاستوحشت مما كنت به آنسًا، ثم لم تلبث أن رجعت عنا نافرًا، فخبِّرنا عن الشيء الذي أوحشك من الشيء الذي صار آنَس لك من إلفك القديم، وأُنسك الأول؛ فإن وجدت عندنا دواء دائك تَعالجت به، والمريض من الأطبَّاء يحتاج إلى المشاورة، وإن أخطأك الشفاء، ونبا عن دائك الدواء، كنت قد أعذرت ولم ترجع على نفسك بلائمة؛ فإن قتلناك قتلناك بحكم الشريعة، أو ترجع أنت في نفسك إلى الاستبصار والثقة، وتعلم أنك لم تقصِّر في اجتهاد، ولم تفرِّط في الدخول في باب الحزم.
قال المرتد: أوحشَني كثرةُ ما رأيت من الاختلاف فيكم.
قال المأمون: لنا اختلافان؛ أحدهما كالاختلاف في الأذان، وتكبير الجنائز، والاختلاف في التشهد، وصلاة الأعياد، وتكبير التشريق، ووجوه القراءات، واختلاف وجوه الفُتيا، وما أشبه ذلك، وليس هذا باختلاف، إنما هو تخيير وتوسعة، وتخفيف من المحنة؛ فمن أذَّن مثنَّى وأقام مثنَّى لم يؤثَّم، ومن أذَّن مثنَّى وأقام فُرادى لم يُحوَّب. لا يتعايرون ولا يتعايبون. أنت ترى ذلك عِيانًا، وتشهد عليه تبيانًا. والاختلاف الآخر كنحو اختلافنا في تأويل الآية من كتابنا، وتأويل الحديث عن نبينا، مع إجماعنا على أصل التنزيل، واتفاقنا على عين الخبر. فإن كان الذي أوحشك هذا حتى أنكرت من أجله هذا الكتاب، فقد ينبغي أن يكون اللفظ بجميع التوراة والإنجيل متَّفَقًا على تأويله، كما يكون متَّفَقًا على تنزيله، ولا يكون بين جميع النصارى واليهود اختلاف في شيء من التأويلات، وينبغي لك ألا ترجع إلا إلى لغةٍ لا اختلاف في تأويل ألفاظها. ولو شاء الله أن يُنزل كُتُبه ويجعل كلام أنبيائه وورثة رسله لا يحتاج إلى تفسير لفَعل، ولكنَّا لم نرَ شيئًا من الدين والدنيا دُفِع إلينا على الكفاية. ولو كان الأمر كذلك لسقطت البلوى والمحنة، وذهبت المسابقة والمنافسة، ولم يكن تفاضُل، وليس على هذا بنى الله الدنيا.
قال المرتد: أشهد أن الله واحد لا ند له ولا ولد، وأن المسيح عبده، وأن محمدًا صادق، وأنك أمير المؤمنين حقًّا.
فأقبل المأمون على أصحابه فقال: فِرُوا عليه عِرضه، ولا تَبرُّوه في يومه رَيثما يَعتُق إسلامه؛ كي لا يقول عدوه إنه أسلم رغبةً، ولا تنسوا بعدُ نصيبكم من بِرِّه وتأنيسه ونصرته والعائدة عليه.
(٣١) دفاع المأمون عن إيقاع الملوك بخاصَّتهم
(٣٢) من آداب الملوك
ونزل رجل من أهل العسكر، فعدا بين يدَي المأمون وشكا إليه مَظلمته، فأشار بيده أنْ حَسبُك. فقال له بعض من كان يقرُب من المأمون: يقول لك أمير المؤمنين: اركب. قال المأمون: لا يُقال لمِثل هذا: اركب. إنما يُقال له: انصرِف.
وحدَّثني إبراهيم بن السندي قال: بَيْنا الحسن اللؤلئيُّ يحدِّث المأمون ليلًا وهو بالرقة، وهو يومئذٍ وليُّ عهد، وأطال الحسن الحديث حتى نعس المأمون، فقال الحسن: نعستَ أيها الأمير! ففتح عينَيه وقال: سوقيٌّ وربِّ الكعبة. يا غلامُ خُذ بيده.
(٣٣) ذِكر بقيَّة كلام النَّوكى والمُوسوِسين والجُفاة والأغبياء وما ضارَع ذلك وشاكَله
وأحبَبنا ألا يكون مجموعًا في مكانٍ واحد إبقاءً على نشاط القارئ والمستمع.
مرَّ ابن أبي عَلقمة بمجلس بني ناجية، فكبا حماره لوجهه، فضحكوا منه، فقال: ما يُضحككم؟ رأى وجوه قريش فسجد.
أبو الحسن قال: أتى رجل عباديًّا صيرفيًّا يستسلف منه مائتَي درهم، فقال: وما تصنع بها؟ قال: أشتري بها حمارًا؛ فلعلَّي أربح فيه عشرين درهمًا. قال: إذا أنا وهبتك العشرين، فما حاجتك إلى المائتَين؟ قال: ما أريد إلا المائتَين. فقال: أنت لا تريد أن تردَّها عليَّ.
قال: وأتى قوم عباديًّا فقالوا: تُحبُّ أن تُسلف فلانًا ألف درهم وتؤخِّره سنة؟ فقال: هاتان حاجتان، وسأقضي لكم إحداهما، وإذا فعلت ذلك فقد أنصفت؛ أما الدراهم فلا تسهُل عليَّ، ولكني أؤخره سنتَين.
ولعب رجلٌ قُدَّام بعض الملوك بالشِّطرنج، فلما رآه قد استجاد لعبه وفاوَضه الكلام قال له: لمَ لا تولِّيني نهر بوق؟ قال: أولِّيك نِصفه. اكتبوا له عهده على بوق. وقال له مرةً: ولِّني أرمينية. قال: يُبطئ على أمير المؤمنين خبرك.
وقدِم آخر على صاحب له من فارس، فقال له: قد كنت عند أمير المؤمنين، فأيَّ شيءٍ ولَّاك؟ قال: ولَّاني قفاه.
قال: ونظر أمير إلى أعرابي فقال: لقد همَّ لي الأمير بخير؟ قال: ما فعلت. قال: فبشِّر؟ قال: وما فعلت. قال: إن الأمير لمجنون.
قال أبو الحسن: شهِد مجنون على امرأة ورجل بالزنا، فقال الحاكم: تشهد أنك رأيته يُدخله ويُخرجه؟ قال: والله لو كنتُ جلدةَ استها لما شهِدت بهذا.
قال: وكان رجل من أهل الري يجالسنا، فاحتبس عنا، فأتيته فجلست معه على بابه، وإذا رجلٌ يدخل ويخرج، فقلت: من هذا؟ فسكت، ثم أعدت فسكت، فلما أعدت الثالثة قال: هو زوج أخت خالتي.
وقال الشاعر:
أعرابيٌّ خاصَمَته امرأته إلى السلطان، فقيل له: ما صنعت؟ قال: خيرًا، كبَّها الله لوجهها، وأمر بي إلى السجن.
قال أبو الحسن: عرض الأسد لأهل قافلة، فتبرَّع عليهم رجل، فخرج إليه، فلما رآه سقط وركِبه الأسد، فشدُّوا عليه بأجمعهم، فتنحَّى عنه الأسد، فقالوا له: ما حالك؟ قال: لا بأس عليَّ، ولكن الأسد خرى في سراويلي.
قال أبو عباية السليطي: قد فسد الناس. قلت: وكيف؟ قال: ترى بساتين هزارمرد هذه ما كان يمرُّ بها غلام إلا بخفير. قلت: هذا صلاح. قال: لا، بل فساد.
أبو الحسن قال: خطب سعيد بن العاص عائشة ابنة عثمان على أخيه، فقالت: لا أتزوَّجه، قال: ولمَ؟ قالت: هو أحمق، له بِرذَونان أشهبان، فيحتمل مؤنة اثنين وهما عند الناس واحد.
قال: كان المغيرة بن المهلَّب ممرورًا، وكان عند الحجَّاج يومًا فهاجت به مِرَّته، فقال له الحجَّاج: ادخل المتوضَّأ. وأمر من يُقيم عنده حتى يتقيَّأ ويُفيق.
قال أبو الحسن: قالت خَيرة بنت ضَمرة القُشيرية، امرأة المهلَّب، للمهلَّب: إذا انصرفت من الجمعة فأُحبُّ أن تمرَّ بأهلي. قال لها: إن أخاك أحمق. قالت: فإني أحب أن تفعل. فجاء وأخوها جالس وعنده جماعة فلم يوسِّع له، فجلس المهلَّب ناحيةً ثم أقبل عليه فقال له: ما فعل ابن عمك فلان؟ قال: حاضر. فقال: أرسِل إليه. ففعل، فلما نظر إليه غير مرفوع المجلس قال: يا ابن اللَّخناء، المهلَّب جالس ناحيةً وأنت جالس في صدر المجلس؟ وواثبه. فتركه المهلَّب وانصرف، فقالت له خيرة: أمرَرتَ بأهلي؟ قال: نعم، وتركت أخاك الأحمق يُضرَب.
قال علي بن أبي طالب كرَّم الله تعالى وجهه: لا، حتى تُدفئ الضجيع، وتُرويَ الرضيع.
وقال ابن صديقة لرجلٍ رأى معه خُفًّا: ما هذه القَلنسوة؟ فاحتكموا إلى عِرباض، فقال عرباض: هي قلنسوة الرِّجلَين.
قال أبو إسحاق: قلت لخنجير كوز: وعدتك أن تجيء ارتفاعَ النهار، فجئتني صلاة العصر! قال: جئتك ارتفاعَ العَشِي.
قال: قيل لأعرابي: ما اسم المرق عندكم؟ قال: السَّخين. قال: فإذا برد؟ قال: لا ندعه حتى يبرد.
باع نخَّاس من أعرابي غلامًا فأراد أن يتبرَّأ من عيبه، قال: اعلم أنه يبول في الفِراش. قال: إن وجد فِراشًا فليبُلْ فيه.
حدَّثنا صديق لي قال: أتاني أعرابي بدرهم فقلت له: هذا زائف، فمن أعطاك هذا؟ قال: لصٌّ مِثلك.
وقال زيد بن كَثوة: أتيت بني كَشٍّ هؤلاء، فإذا عُرسٌ، وبُلق الباب، فادرَنفَق وادَّمج فيه سرعانٌ من الناس، وألصتُ وُلوج الدار فدَلظَني الحدَّاد دلظةً دهوَرَني على قمة رأسي، وأبصرت شِيخانَ الحي هناك ينتظرون المزيَّة فعِجت إليهم، فوالله إنْ زِلنا نَظارِ نَظارِ حتى عقَل الظل، فذكرت أخلَّائي من بني تبر، فقصدتهم وأنا أقول:
وانصرفت وأتيت باب كش وإذا الرجال صَتِيَتان، وإذا أرمداء كثيرة، وطُهاة لا تُحصى، ولحمانٌ في جثمان الإكام.
صالح بن سليمان قال: أحمَقُ الشعراء الذي يقول:
ولا يُشبِه قول الآخر:
قال: مات لابن مُقرن غلام، فحفر لهم أعرابيٌّ قبره بدرهمَين، وذلك في بعض الطواعين، فلما أعطَوه الدرهمين قال: دعوهما حتى يجتمع لي عندكم ثمن ثوب.
وأدخل أعرابي إلى المربد جنيبًا له، فنظر إليها بعض الغوغاء، فقال: لا إله إلا الله، ما أسمَنَ هذه الجزر! قال له الأعرابي: ما لها تكون جزرًا، جزرك الله؟
قال أبو الحسن: جاء رجل إلى رجل من الوجوه فقال: أنا جارك، وقد مات أخي فلان، فمُرْ لي بكفن. قال: لا والله ما عندي اليومَ شيء، ولكن تعهَّدنا وتعود بعد أيام فسيكون الذي تحب. قال: أصلحك الله، فنملِّحه إلى أن يتيسَّر عندكم شيء؟
قال: كان مولى البكرات يدَّعي البلاغة، فكان يتصفح كلام الناس فيمدح الرديء ويذمُّ الجيد، فكتب إلينا رسالةً يعتذر فيها من ترك المجيء، فقال: وقطعني عن المجيء إليكم أنه طلعتْ في إحدى إليتَي ابني بَثرةٌ، فعظُمت حتى صارت كأنها رُمَّانةٌ صغيرة.
وقال عليٌّ الأُسواري: فلما رأيته اصفرَّ وجهي حتى صار كأنه الكثوث.
وقال محمد بن الجهم: إلى أين بلَغ الماء منك؟ قال: إلى العانة. قال شُعيب بن زُرارة: لو كان قال إلى الشعرة، كان أجود. وقال له محمد بن الجهم: هذا الدواء الذي جئت به قدرَ كم آخُذ منه؟ قال: قدر بَعرة.
وقال علي: جاءني رجل حَزَنبل من ها هنا إلى ثَمة.
(٣٤) شيء من سُخفِ قاسم التمَّار
وقال قاسم التمَّار: بينهما كما بين السماء إلى قريب من الأرض. وقال قاسم التمَّار: أينما رأيت إيوان كسرى كأنما رُفعت عنه الأيدي أول من أمس. وأقبل على أصحاب له وهم يشربون النبيذ، وذلك بعد العصر بساعة، فقال لبعضهم: قم صلِّ فاتتك الصلاة! ثم أمسك عنه ساعة، ثم قال لآخر: قم صلِّ ويلك فقد ذهب الوقت! فلما أكثر عليهم في ذلك وهو جالسٌ لا يقوم يصلِّي قال له واحد منهم: فأنت [لِمَ] لم تصلِّ؟ فأقبل عليه فقال: ليس والله يعرفون أصلي في هذا. قلت: وأيُّ شيءٍ أصلك؟ قال: لا نصلِّي لأن هذه المغرب قد جاءت. وقال قاسم: أنا أنفَسُ بنفسي على السلطان. وأتى منزل ابن أبي شهاب وقد تعشَّى القوم، وجلسوا على النبيذ، فأتَوه بخبز وزيتون وكامَخ، فقال: أنا لا أشرب النبيذ إلا على زُهومة. وقال: حين بِعتُ البغل بدأت بالسَّرج. وقال: ليس في الدنيا ثلاثةٌ أنكح مني؛ أنا أُكسِل منذ ثلاث ليالٍ في كل ليلة عشرَ مرَّات. كأن الإكسال عنده هو الإنزال. وقال: ذهب والله مني الأطيبَين؟ قلت: وأي شيء الأطيبَين؟ قال: قوة اليدَين والرِّجلَين. وقال: فالْتَوى لي عِرق حين قعدت منها مقعد الرجل من الغلام. وقال في غلام له رُومي: ما وضعت بيني وبين الأرض أطيب منه. قال: ومحمد بن حسان لا يشكرني، ووالله ما ناك حاذرًا قطُّ إلا على يدي.
وقال أبو خَشْرم: ما أعجبَ أسبابَ النَّيك! فقيل له: النَّيك وحده؟ قال: سمِعنا الناس يقولون: ما أعجبَ أسباب الرزق، وما أعجبَ الأسباب!
وكان قاسم التمَّار عند ابن لأحمد بن عبد الصمد بن علي، وهناك جماعة، فأقبل وهبٌ المُحتسب يعرِّض له بالغِلمان، فلما طال ذلك على قاسمٍ أراد أن يقطعه عن نفسه بأن يعرِّفه هو أن ذلك القول عليه، فقال: اشهدوا جميعًا أني أنِيك الغِلمان، واشهدوا جميعًا أني أعفِج الصِّبيان. والتفت التفاتةً فرأى الأخوَين الهُذليين وكانا يُعاديانه بسبب الاعتزال، فقال: عنَيت بقولي. فقال: اشهدوا جميعًا أني لُوطي؛ أي على دين لوط. قال القوم بأجمعهم: أنت لم تقُل اشهدوا أني لوطي، إنما قلت: اشهدوا أني أنيك الصِّبيان.
قال سُفيان السَّدوسي: لم يكن في الأرض أحدٌ قطُّ أعلم بالنجوم ثم بالقراءات من «ما شاء الله»، كان يريد ما شاء الله المنجِّم. وكان يقول: هو أكفر عندي من رام هُرمُز. يريد أكفر من هرمز.
وممَّن وسوس غَلفاءُ بن الحارث ملِك قيس عيلان، وسوس حين قُتل إخوته، وكان يتغلف ويغلِّف أصحابه بالغالية، فسُمِّي غَلفاء بذلك.
وكان رجلٌ ينيك البَغلات، فجلس يومًا يحدِّث عن رجلٍ كيف نال بغلة، وكيف انكسرت رِجله، وكيف كان ينالها، قال: كان يضع تحت رجله لَبِنة، فبينما هو يُنْحي فيها إذ انكسرت اللَّبِنة من تحت رِجله، وإذا أنا على قفاي.
ومن الأحاديث المولَّدة التي لا تكون، وهو مليح في ذلك، قولهم: ناكَ رجلٌ كلبة فعقدت عليه، فلما طال عليه البلاء رفع رأسه فصادف رجلًا يطَّلع عليه من سطح، فقال له الرجل: اضرب جنبها. فلما ضرب جنبها وتخلَّص قال: قاتَله الله، أيُّ نيَّاكِ كلباتٍ هو!
وكان عندنا قاصٌّ أعمى ليس يحفظ من الدنيا إلا حديث جِرجيس، فلما بكى واحد من النظَّارة قال القاص: أنتم بأي شيء تبكون؟ إنما البلاء علينا مَعاشر العلماء.
قال: وبكى حول أبي شيبان وُلْده وهو يريد مكة، قال: لا تبكوا يا بَنيَّ؛ فإني أريد أن أضحِّيَ عندكم. وقال أخوه: وُلدت في رأس الهلال للنصف من شهر رمضان، احسب أنت الآن هذا كيف شئت. وقال: تزوَّجت امرأةٌ مخزومية عمَّها الحجَّاج بن الزُّبير الذي هدم الكعبة. وقال: ذلك لم يكن أبًا، إنما كان والدًا. وقال أبو دينار: هو وإن كان أخًا فقد ينبغي أن يُنصَف.
ومن المجانين علي بن إسحاق بن يحيى بن معاذ، وكان أول ما عُرِف من جنونه أنه قال: أرى الخطأ قد كثُر في الدنيا، والدنيا كلها في جوف الفلك، وإنما نؤتى منه، وقد تخلخل وتخرَّم وتزايل، فاعتراه ما يعتري الهَرماء، وإنما هو مجنون، فكم يصبر؟ وسأحتال في الصعود إليه؛ فإني إن بخرته ورَندَجته وسوَّيته، انقلب هذا الخطأ كله إلى الصواب. وجلس مع بعض مُتعاقلي فِتيان العسكر، وجاءهم النخَّاس بجَوارٍ فقال: ليس نحن في تقويم الأبدان، إنما نحن في تقويم الأعضاء؛ ثمن أنف هذه خمسة وعشرون دينارًا، وثمن أذنَيها ثمانية عشر، وثمن عينَيها ستة وسبعون، وثمن رأسها بلا شيء من حواسها مائة دينار. فقال صاحبه المُتعاقل: ها هنا بابٌ هو أدخَلُ في الحكمة من هذا، كان ينبغي لقدم هذه أن تكون لساق تلك، وأصابع تلك أن تكون لقدم هذه، وكان ينبغي لشفتَي تيك أن تكونا لفم تيك، وأن تكون حاجبا تيك لجبينَي هذه. فسُمِّي مقوِّم الأعضاء.
ومن النوكى كلاب بن ربيعة، وهو الذي قتل الخثعمي قاتل أبيه دون إخوته، وهو القائل:
ومنهم نعامة، وهو بيهس، وهو الذي قال: مُكرَهٌ أخاك لا بطل. وإيَّاه يعني الشاعر:
وقال الحضرمي: أما أنا فأشهد أن تميمًا أكثر من مُحارب.
وقال حيَّان البزَّار: قبَّح الله الباطل، الرُّطب بالسُّكَّر والله طيِّب.
قال أبو الحسن: سمعت الصُّغدي الحارثي يقول: كان الحجَّاج أحمق، بنى مدينة واسط في بادية النَّبَط ثم قال لهم: لا تدخلوها. فلما مات دبُّوا إليها من قريب.
مَسعدة بن المبارك قال: قلت للبكراوي: أبِامرأتك حَمْل؟ قال: شيء ليس بشيء.
قال: بنى عُبيد الله بن زياد البيضاء، فكتب رجل على باب البيضاء: شيء، ونصف شيء، ولا شيء. الشيء مهران الترجمان، ونصف الشيء هند ابنة أسماء، ولا شيء عُبيد الله بن زياد. فقال عُبيد الله: اكتب إلى جنبه: لولا الذي زعمت أنه لا شيء لما كان ذلك الشيء شيئًا، ولا ذلك النصف نصفًا.
وقال هشام بن عبد الملك يومًا في مجلسه: يُعرَف حُمقُ الرجل بخصال؛ بطول لحيته، وشناعة كُنيته، وبشهوته، ونقش خاتمه. فأقبل رجلٌ طويل اللحية فقال: هذه واحدة. ثم سأله عن كنيته فإذا هي شنعاء، فقال: هاتان ثِنتان. ثم قال: وأي شيء أشهى إليك؟ قال: رُمَّانة مُصاصة، قال أمصَّك الله بَظْر أمك.
وقيل لأبي القَمقام: لمَ لا تغزو أو تخرج إلى المَصيصة؟ قال: أمصَّني الله إذًا ببظر أمي.
وقالوا لأبي الأصبغ بن رِبعي: أمَا تسمع بالعدوِّ وما يصنعون في البحر؟ فلِمَ لا تخرج إلى قِتال العدو؟ قال: أنا لا أعرفهم ولا يعرفونني، فكيف صاروا لي أعداءً؟
قال: كان الوليد بن القعقاع عاملًا على بعض الشام، فكان يستسقي في كل خطبة وإن كان في أيام الشِّعرى، فقام إليه شيخ من أهل حِمص فقال: أصلح الله الأمير، إذًا تفسد القَطاني. يعني الحبوب، واحدها قطنيَّة.
وأما نفيسٌ غلامي فإنه كان إذا صار إلى فِراشه في كل ليلة في سائر السنة يقول في دعائه: اللهم حوالَينا ولا علينا.
قال: وكان بالرقَّة رجلٌ يحدِّث الناس عن بني إسرائيل، وكان يُكنى أبا عقيل، فقال له الحجَّاج بن حنتمة: ما كان اسم بقرة بني إسرائيل؟ قال: حنتمة. فقال له رجل من ولد أبي موسى: في أي الكتب وجدت هذا؟ قال: في كتاب عمرو بن العاص.
ومن اللحَّانين الأشراف ابن ضَحيان الأزدي، وكان يقرأ: قل يا أيها الكافرين. فقيل له في ذلك، فقال: قد عرفت القراءة في ذلك، ولكني لا أجِلُّ أمر الكفرة.
وقال حبيب بن أوس:
وقال أيضًا:
وأنشدوا:
وهذه أبياتٌ كتبناها في غير هذا المكان من هذا الكتاب، ولكن هذا المكان أولى بها.
وقال الشاعر:
وقال الآخر:
وقال أبو العتاهية:
وقال بِشر بن المُعتمِر:
وقال صالح بن عبد القُدُّوس:
وقال بِشر بن المُعتمِر:
ومن المجانين مهدي بن الملوَّح الجعدي، وهو مجنون بني جَعدة. وبنو المجنون قبيل من قبائل بني جعدة، وهو غير هذا المجنون. وأما مجنون بني عامر وبني عقيل، فهو قيس بن معاذ، وهو الذي يُقال له: مجنون بني عامر. وهما شاعران؛ قيل ذلك لهما لتجنُّنهما بعشيقتَين كانتا لهما، ولهما أشعارٌ معروفة.
(٣٥) رأيٌ فيما كان يُروى
وقد أدركت رُواة المسجديِّين والمِربديِّين، ومن لم يَروِ أشعار المجانين ولصوص الأعراب، ونسيب الأعراب، والأرجاز الأعرابية القِصار، وأشعار اليهود، والأشعار المُنصِفة؛ فإنهم كانوا لا يعُدُّونه من الرُّواة، ثم استبردوا ذلك كله، ووقفوا على قِصار الأحاديث والقصائد، والفِقر والنُّتَف من كل شيء. ولقد شهدتهم وما هم على شيءٍ أحرص منهم على نسيب العبَّاس بن الأحنف، فما هو إلا أن أورَد عليهم خلفٌ الأحمر نسيب الأعراب، فصار زهدهم في نسيب العبَّاس بقدر رغبتهم في نسيب الأعراب، ثم رأيتهم منذ سُنيَّات وما يروي عندهم نسيبَ الأعراب إلا حدَثُ السِّن قد ابتدأ في طلب الشعر، أو فِتيانيٌّ متغزِّل.
وقد جلست إلى أبي عبيدة، والأصمعي، ويحيى بن نُجيم، وأبي مالك عمرو بن كِركِرة، مع من جالست من رُواة البغداديين، فما رأيت أحدًا منهم قصد إلى شعر في النسيب فأنشده، وكان خلفٌ يجمع ذلك كله. ولم أرَ غاية النحويين إلا كل شعر فيه إعراب، ولم أرَ غاية رُواة الأشعار إلا كل شعر فيه غريب أو معنًى صعبٌ يحتاج إلى الاستخراج، ولم أرَ غاية رُواة الأخبار إلا كل شعر فيه الشاهد والمَثل، ورأيت عامَّتهم — فقد طالت مشاهدتي لهم — لا يقفون إلا على الألفاظ المتخيَّرة، والمعاني المنتخَبة، وعلى الألفاظ العذبة، والمخارج السهلة، والديباجة الكريمة، وعلى الطبع المتمكِّن، وعلى السَّبك الجيِّد، وعلى كل كلام له ماء ورَونق، وعلى المعاني التي إذا صارت في الصدور عمرتها وأصلحتها من الفساد القديم، وفتحت للسان باب البلاغة، ودلَّت الأقلام على مَدافن الألفاظ، وأشارت إلى حِسان المعاني، ورأيت البصر بهذا الجوهر من الكلام في رُواة الكتاب أعم، وعلى ألسِنة حُذاق الشعراء أظهر، ولقد رأيت أبا عمرو الشيباني يكتب أشعارًا من أفواه جلسائه ليُدخلها في باب التحفظ والتذاكر، وربما خُيِّل إليَّ أن أبناء أولئك الشعراء لا يستطيعون أبدًا أن يقولوا شعرًا جيدًا لمكان إغراقهم في أولئك الآباء.
ولولا أن أكون عيَّابًا، ثم للعلماء خاصة، لصوَّرت لك في هذا الكتاب بعض ما سمعت من أبي عُبيدة، ومن هو أبعد في وَهْمك من أبي عُبيدة.
قال ابن المبارك: كان عندنا رجلٌ يُكنى أبا خارجة، فقلت له: لِمَ كنَّوك أبا خارجة؟ قال: لأني وُلدت يوم دخل سليمان بن علي البصرة.
وكان عندنا شيخٌ حارس من عُلوج الجبل، وكان يُكنى أبا خُزيمة، فقلت لأصحابنا: هل لكم في مسألة هذا الحارس عن سبب كُنيته؛ فلعلَّ الله يفيد من هذا الشيخ علمًا، وإن كان في ظاهر الرأي غير مأمول ولا مطمع؟ وهذه الكنية كنية زُرارة بن عدس، وكنية خازم بن خزيمة، وكنية حمزة بن أدرك، وكنية فلان وفلان، وكل هؤلاء إما قائدٌ متبوع، وإما سيِّد مُطاع، ومن أين وقع هذا العِلج الألكن على هذه الكُنية؟ فدعوته فقلت له: هذه الكنية كنَّاك بها إنسان أو كنَّيت بها نفسك؟ قال: لا، ولكني كنَّيت بها نفسي. قلت: فلِمَ اخترتَها على غيرها؟ قال: وما يُدريني؟ قلت: ألك ابنٌ يُسمَّى خُزيمة؟ قال: لا. قلت: أفكان أبوك أو عمك أو مولًى لك يُسمَّى خزيمة؟ قال: لا. قلت: فاترك هذه الكنية واكتنِ بأحسن منها وخذ مني دينارًا. قال: لا والله ولا بجميع الدنيا.
أعطى المحلول ابنه درهمًا وقال: زِنْه. فطرح وزن درهمَين وهو يحسبه وزن درهم؛ فلما رأى الدرهم قد شال وضع معه وزن درهم، فلما رفعه وجده شائلًا، فألقى معه حبَّتَين، فقال له أبوه: كم فيه؟ قال: ليس فيه شيء، وهو ينقص حبَّتَين.
وكان عندنا قاصٌّ يُقال له أبو موسى كُوش، فأخذ يومًا في ذِكر قِصَر الدنيا وطول أيام الآخرة، وتصغير شأن الدنيا وتعظيم شأن الآخرة، فقال: إن الذي عاش خمسين سنةً لم يعِش شيئًا وعليه فضل سنتَين. قالوا: وكيف ذاك؟ قال: خمس وعشرين سنةً ليلٌ هو فيها لا يعقل قليلًا ولا كثيرًا، وخمس سنين قائلة، وعشرون سنة إما أن يكون صبيًّا، وإما أن يكون معه سُكْر الشباب فهو لا يعقل، ولا بد من صبحة بالغداة، ونعسة بين المغرب والعشاء، وكالغَشْي الذي يُصيب الإنسان مِرارًا في دهره، وغير ذلك من الآفات، فإذا حصَّلنا ذلك فقد صحَّ أن الذي عاش خمسين سنةً لم يعِش شيئًا وعليه فضل سنتَين.
وقال بعض الهُلَّاك: دخل فلان على كسرى فقال: أصلحك الله، ما الأمر في كذا كذا؟
قال رجل من وُجوه أهل البصرة: حدَثت حادثةٌ أيام الفُرس فنادى كسرى: الصلاة جامعة.
وقلت لغُلامي نفيس: بعثتك إلى السوق في حوائج فاشتريت ما لم آمُرك به، وتركت كل ما أمرتك به؟ قال: يا مولاي، أنا ناقة وليس في رُكبتي دماغ. وقال نفيس لغلام لي: الناس وَيلَك أنت حياءً كلهم أقل. يريد: أنت أقل الناس كلهم حياءً.
وقلت لقيس بن بُرَيهة: هذا الصبي في أي شيء أسلموه؟ قال: في أصحاب سِند نِعال. يريد: في أصحاب النِّعال السِّندية.
(٣٦) تأويل حديث
روى الأصمعي وابن الأعرابي عن رجالهما أن رسول الله ﷺ قال: إنا معشرَ الأنبياء بِكاء. فقال ناس: البكء: القلة، وأصل ذلك من اللبن؛ فقد جعل صفة الأنبياء قلة الكلام، ولم يجعله من إيثار الصمت ومن التحصيل وقلة الفضول. قلنا: ليس في ظاهر هذا الكلام دليل على أن القلة من عجز في الخِلقة، وقد يحتمل ظاهر الكلام الوجهين جميعًا، وقد يكون القليل من اللفظ يأتي على الكثير من المعاني. والقلة تكون من وجهين؛ أحدهما من جهة التحصيل والإشفاق من التكلُّف، وعلى تصديق ذلك قوله تعالى: قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ، وعلى البعد من الصنعة، ومن شدة المحاسبة وحصر النفس، حتى يصير بالتمرين والتوطين إلى عادةٍ تُناسب الطبيعة، وتكون من جهة العجز ونُقصان الآلة، وقلة الخواطر، وسوء الاهتداء إلى جِياد المعاني، والجهل بمحاسن الألفاظ، ألا ترى أن الله قد استجاب لموسى على نبينا وعليه السلام حين قال: وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي * وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي * كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا * وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا * إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا * قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى * وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى؟ فلو كانت تلك القلة من عجزٍ كان النبي ﷺ أحق بمسألة إطلاق تلك العُقدة من موسى؛ لأن العرب أشد فخرًا ببيانها، وطول ألسنتها، وتصريف كلامها، وشدة اقتدارها، وعلى حسب ذلك كانت زِرايتها على كل من قصَّر عن ذلك التمام، ونقص من ذلك الكمال، وقد شاهَدوا النبي ﷺ وخطبه الطِّوال في المَواسم الكِبار، ولم يُطِل التماسًا للطول، ولا رغبةً في القدرة على الكثير، ولكن المعاني إذا كثُرت، والوجوه إذا افتنَّت، كثُر عدد اللفظ، وإن حُذِفت فضوله بغاية الحذف. ولم يكن الله ليُعطيَ موسى لتمام إبلاغه شيئًا لا يُعطيه محمدًا، والذين بُعِث فيهم أكثر ما يعتمدون عليه البيان واللَّسَن، وإنما قلنا هذا لنحسم جميع وُجوه الشغب، لا أن أحدًا من أعدائه شاهَد هناك طرفًا من العجز، ولو كان ذلك مرئيًا ومسموعًا لاحتجُّوا به في الملا، ولتناجَوا به في الخلا، ولتكلَّم به خطيبهم، ولقال فيه شاعرهم؛ فقد عرف الناس كثرة خُطبائهم، وتسرُّع شعرائهم.
هذا على أننا لا ندري أقال ذلك رسول الله ﷺ أم لم يقُله؛ لأن مِثل هذه الأخبار يُحتاج فيها إلى الخبر المكشوف، والحديث المعروف، ولكنا بفضل الثقة، وظهور الحُجة، نُجيب بمِثل هذا وشبهه.
وقد علِمنا أن من يقرض الشعر، ويتكلف الأسجاع، ويؤلِّف المزدوج، ويتقدم في تحبير المنثور، وقد تعمَّق في المعاني، وتكلَّف إقامة الوزن، والذي تجود به الطبيعة وتُعطيه النفس سهوًا رهوًا، مع قلة لفظه وعدد هجائه، أحمد أمرًا، وأحسن موقعًا من القلوب، وأنفع للمستمعين من كثيرٍ خرج بالكدِّ والعلاج، ولأن التقدُّم فيه، وجمع النفس له، وحصر الفكر عليه، لا يكون إلا ممن يُحبُّ السُّمعة، ويهوى الفلج والاستطالة، وليس بين حال المُتنافسين وبين حال المُتحاسدين إلا حِجابٌ رقيق، وحِجازٌ ضعيف، والأنبياء بمندوحة من هذه الصفة، وفي ضد هذه الشِّيمة.
وقال عامر بن عبد قيس: الكلمة إذا خرجت من القلب وقعت في القلب، وإذا خرجت من اللسان لم تُجاوز الآذان.
وتكلَّم رجل عند الحسن بمواعظ جَمَّة ومعانٍ تدعو إلى الرِّقَّة، فلم يرَ الحسن رَق، فقال الحسن: إما أن يكون بنا شر أو بك! يذهب إلى أن المُستمع يرقُّ على قدر رقَّة القائل.
والدليل الواضح، والشاهد القاطع، قول النبي ﷺ: نُصِرت بالصَّبا، وأُعطيت جوامع الكَلِم، وهو القليل الجامع للكثير. وقال الله تعالى وقوله الحق: وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ. ثم قال: وَمَا يَنْبَغِي لَهُ. ثم قال: أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ. فعمَّ ولم يخص، وأطلق ولم يقيِّد؛ فمن الخِصال التي ذمَّهم بها تكلُّف الصَّنعة، والخروج إلى المُباهاة، والتشاغل عن كثير من الطاعة، ومناسبة أصحاب التشديق. ومن كان كذلك كان أشد افتقارًا إلى السامع من السامع إليه؛ لشغفه أن يُذكَر في البُلغاء، وصبابته باللحاق بالشعراء. ومن كان كذلك غلَبت عليه المنافسة والمغالبة، وولَّد ذلك في قلبه شدة الحميَّة وحب المحاربة.
ومن سخَفَ هذا السُّخف، وغلَب الشيطان عليه هذه الغلبة، كانت حاله داعية إلى قول الزور، والفخر بالكذب، وصرف الرغبة إلى الناس، والإفراط في مديح من أعطاه، وذم من منعه؛ فنزَّه الله رسوله ولم يعلِّمه الكتاب والحساب، ولم يرغِّبه في صنعة الكلام، والتقيُّد لطلب الألفاظ، والتكلُّف لاستخراج المعاني؛ فجمع له باله كله في الدعاء إلى الله، والصبر عليه، والمجاهدة فيه، والانبتات إليه، والميل إلى كل ما يُقرب منه؛ فأعطاه الإخلاص الذي لا يشوبه رياء، واليقين الذي لا يَعتوِره شك، والعزم المُتمكن، والقوة الفاضلة؛ فإذا رأت مكانَه الشعراء، وفهِمته الخطباء، ومن قد تعبَّد للمعاني، وتعوَّد نَظْمها وتنضيدها، وتأليفها وتنسيقها، واستخراجها من مَدافنها، وإثارتها من أماكنها، علِموا أنهم لا يبلغون بجميع ما معهم مما قد استفرغهم واستغرق مجهودهم، وبكثيرٍ ما قد خُوِّلوه، قليلًا مما يكون معه على البَداهة والفُجاءة، من غير تقدُّم في طلبه، واختلاف إلى أهله.
وكانوا مع تلك المَقامات والسياسات، ومع تلك الكُلف والرياضات، لا ينفكُّون في بعض تلك المقامات من بعض الاستكراه والزلل، ومن بعض التعقيد والخطل، ومن التفنن والانتشار، ومن التشديق والإكثار، ورأوه مع ذلك يقول: إيَّايَ والتشادق، وأبغَضُكم إليَّ الثرثارون المُتفيهِقون. ثم رأوه في جميع دهره غايةً في التسديد والصواب التام، والعصمة الفاضلة، والتأييد الكريم، وعلِموا أن ذلك من ثمرة الحكمة ونتاج التوفيق، وأن تلك الحكمة من ثمرة التقوى ونتاج الإخلاص.
وللسلف الطيِّب حِكَم وخُطَب كثيرة، صحيحة ومدخولة، لا يخفى شأنها على نُقَّاد الألفاظ وجهابذة المعاني، مُتميزة عند الرُّواة الخُلَّص، وما بلَغنا عن أحد من جميع الناس أن أحدًا ولَّد لرسول الله ﷺ خطبةً واحدة.
فهذا وما قبله حُجَّة في تأويل ذلك الحديث إن كان حقًّا.
وفي كتاب الله المنزَّل أن الله تبارك وتعالى جعل منيحة داود الحكمة وفَصْل الخِطاب، كما أعطاه إلانة الحديد. وفي الحديث المأثور، والخبر المشهور، أن رسول الله ﷺ قال: شُعيبٌ خطيب الأنبياء، وعلَّم الله سليمان منطق الطير، وكلام النمل، ولُغات الجن. فلم يكن عز وجل ليُعطيَه ذلك ثم يبتليَه في نفسه وبيانه عن جميع شأنه بالقلة والمَعجزة، ثم لا تكون تلك القلة إلا على الإيثار منه للقلة في موضعها، وعلى البعد من استعمال التكلُّف، ومناسبة أهل الصنعة، والمشغوفين بالسُّمعة، وهذا لا يجوز على الله عز وجل. فإن كان الذي روَيتم من قوله إنا معاشر الأنبياء بِكاءٌ، على ما تأوَّلتم، وذلك أن لفظ الحديث عامٌّ في جميع الأنبياء، فالذي ذكرنا من حال داود وسليمان عليهما السلام، وحال شعيب والنبي ﷺ، دليل على بُطلان تأويلكم، ورد لعموم لفظ الحديث.
وهذه جملةٌ كافية لمن كان يُريد الإنصاف.
(٣٧) تعليل أمِّيَّة النبي ﷺ
وكان شيخ من البصريين يقول: إن الله إنما جعل نبيه أميًّا لا يكتب، ولا يحسب، ولا ينسب، ولا يقرض الشعر، ولا يتكلف الخطابة، ولا يتعمد البلاغة؛ لينفرد الله بتعليمه الفقه وأحكام الشريعة، ويَقصُره على معرفة مصالح الدين دون ما تتباهى به العرب؛ من قيافة الأثر، وعيافة الطير، ومن العلم بالأنواء وبالخيل، وبالأنساب وبالأخبار، وتكلُّف قول الأشعار؛ ليكون إذا جاء بالقرآن الحكيم، وتكلَّم بالكلام العجيب، كان ذلك أدلَّ على أنه من الله، وزعم أن الله لم يمنعه معرفة آدابهم وأخبارهم وأشعارهم ليكون أنقص حظًّا من الحاسب والكاتب، ومن الخطيب الناسب، ولكن ليجعله نبيًّا، وليتولَّى أمر تعليمه بما هو أزكى وأنمى، فإنما نقصه ليزيده، ومنعه ليُعطيَه، وحجبه عن القليل ليجلِّيَ له الكثير.
(٣٨) رد هذا التعليل وإيراد تعليل آخر
وقد أخطأ هذا الشيخ ولم يُرِد إلا الخير، وقال بمَبلغ علمه ومُنتهى رأيه. ولو زعم أن أداة الحساب والكتابة، وأداة قريض الشعر وجميع النسب، قد كانت فيه تامَّةً وافرة، مجتمعةً كاملة، ولكنه ﷺ صرَف تلك القُوى وتلك الاستطاعة إلى ما هو أزكى بالنبوة، وأشبه بمَرتبة الرسالة، وكان إذا احتاج إلى البلاغة كان أبلغ البُلغاء، وإذا احتاج إلى الخطابة كان أخطب الخطباء، وأنسب من كل ناسب، وأقوَف من كل قائف. ولو كان في ظاهره والمعروف من شأنه أنه كاتبٌ حاسب، وشاعرٌ ناسب، ومُتفرسٌ قائف، ثم أعطاه الله بُرهانات الرسالة، وعلامات النبوَّة، لمَا كان ذلك مانعًا من وجوب تصديقه، ولزوم طاعته، والانقياد لأمره على سخطهم ورِضاهم، ومكروههم ومحبوبهم، ولكنه أراد ألا يكون للشاعر مُتعلَّق عمَّا دعا إليه حتى لا يكون دون المعرفة بحقه حِجاب وإن رَق، وليكون ذلك أخفَّ في المؤنة، وأسهل في المحنة؛ فلذلك صرَف نفسه عن الأمور التي كانوا يتكلَّفونها ويتنافسون فيها؛ فلما طال هِجرانه لقريض الشعر وروايته، صار لسانه لا ينطق به، والعادة تَوءَم الطبيعة، فأما في غير ذلك فإنه إذا شاء كان أنطق من كل مِنطيق، وأنسب من كل ناسب، وأقوَف من كل قائف، وكانت آلته أوفر، وأداته أكمل، إلا أنها كانت مصروفة إلى ما هو أبعد، وبين أن يُضيف إليه العادة الحسنة وامتناع الشيء عليه من طول الهجران له فرق.
ومن العَجب أن صاحب هذه المقالة لم يرَه عليه السلام في حال مَعجزة قط، بل لم يرَه إلا وهو إن أطال الكلام قصَّر عنه كل مُطيل، وإن قصَّر القول أتى على غاية كل خطيب، وما عَدِم منه إلا الخط وإقامة الشعر، فكيف ذهب ذلك المذهب والظاهرُ من أمره عليه السلام خلافُ ما توهَّم؟
وسنذكُر بعض ما جاء في تفضيل الشعر والخوف منه، ومن اللسان البليغ والمُداراة له، وما أشبه ذلك.
(٣٩) تفضيل الشعر ومُداراة البليغ
قال أبو عُبيدة: اجتمع ثلاثة من بني سعد يُراجزون بني جَعدة، فقيل لشيخ من بني سعد: ما عندك؟ قال: أرجُز بهم يومًا إلى الليل لا أفثج. وقيل للآخر: ما عندك؟ قال: أرجُز بهم يومًا إلى الليل لا أنكف. فقيل للثالث: ما عندك؟ قال: أرجُز بهم يومًا إلى الليل لا أنكش. فلما سمعت بنو جعدة كلامهم انصرفوا وخلَّوهم.
قال: وبنو ضِرار أحدُ بني ثعلبة بن سعد لما مات أبوهم وترك الثلاثة الشعراء صِبيانًا، وهم شمَّاخ، ومُزرِّد، وجَزء، أرادت أمهم — وهي أم أوس — أن تتزوج رجلًا يُسمَّى أوسًا، وكان أوس هذا شاعرًا، فلما رأوه بنو ضِرار بفِناء أمهم للخِطبة، تناول شمَّاخٌ حبل الدَّلو ثم متح، وهو يقول:
وجاء مزرِّد فتناول الحبل فقال:
وجاء جزء فتناول الحبل فقال:
فلما سمع أويس رجز الصِّبيان بها هرب وتركها.
قال أبو عُبيدة: كان الرجل من بني نُمَير إذا قيل له: ممن الرجل؟ قال: نُمَيري كما ترى. فما هو إلا أن قال جرير:
فصار الرجل من بني نُمَير إذا قيل له: ممَّن الرجل؟ قال: من بني عامر. قال: فعند ذلك قال الشاعر يهجو قومًا آخرين:
فلما هجاهم أبو الرُّديني العُكلي فتوعَّدوه بالقتل، قال [أبو] الرديني:
فشدَّ عليه رجل منهم فقتله. وما علِمت في العرب قبيلةً لقيت من جميع ما هُجِيت به ما لقيت نمير من بيت جرير. ويزعمون أن امرأةً مرَّت بمجلس من مجالس بني نُمير، فتأمَّلها ناس منهم، فقالت: يا بني نمير، لا قولَ الله سمِعتم، ولا قولَ الشاعر أطعتم. قال الله تعالى: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ. وقال الشاعر:
وأخلِقْ بهذا الحديث أن يكون مولَّدًا، ولقد أحسن من ولَّده، وفي نمير شرفٌ كثير. وهل أهلك عنزة وجَرمًا وعُكلًا، وسلول وباهلة وغنيًّا إلا الهِجاء؟ وهذه قبائل فيها فضلٌ كثير وبعض النقص، فمحق ذلك الفضلَ كله هجاءُ الشعراء. وهل فضح الحَبَطات، مع شرف حَسَكة بني عتَّاب، وعبَّاد بن الحُصين وولده، إلا قول الشاعر:
وهل أهلك ظُليمَ البراجم إلا قولُ الشاعر:
وهل أهلك بني العَجلان إلا قولُ الشاعر:
وأما قول الأخطل:
فإن هذا البيت لم ينفع بني العجلان، ولم يضرَّ بني بدر.
قال أبو عُبيدة: كان الرجل من بني أنف الناقة إذا قيل له: ممن الرجل؟ قال: من بني قُرَيع. فما هو إلا أن قال الحُطيئة:
فصار الرجل منهم إذا قيل له: ممن أنت؟ قال: من بني أنف الناقة.
وناسٌ سلِموا من الهجاء بالخمول والقلة، كما سلِمت غسَّان وغَيلان من قبائل عمرو بن تميم، وابتُليت الحَبَطات لأنها أنبه، والنباهة التي لا يضرُّ معها الهجاء مِثل نباهة بني بدر وبني فزارة، ومثل نباهة بني عدس بن زيد وبني عبد الله بن دارم، ومثل نباهة الديان بن عبد المدان وبني الحارث بن كعب؛ فليس يَسلَم من مَضرَّة الهجاء إلا خاملٌ جدًّا أو نبيه جدًّا. وقد هُجيت فزارة بأكل أير الحمار، وبكثرة شعر القفا؛ لقول الحارث بن ظالم:
ثم افتخر مُفتخِرهم بذلك ومدحهم به الشاعر، فقال مُزرد بن ضِرار:
وأما قصة أير الحمار فإنما اللوم على المُطعم لرفيقه ما لا يعرفه، فهل كان على الفزاري في حق الأنفة أكثر من قتل من أطعمه الجوفان من حيث لا يدري؟ فقد هُجوا بذلك وشرفُهم وافر، وقد هُجِيت الحارث بن كعب، وكتب الهيثم بن عدي فيهم كتابًا فما ضعضع ذلك منهم حتى كأن قد كتبه لهم.
ولولا الربيع بن خيثم وسفيان الثوري ما علِم الناس أن في الرباب حيًّا يُقال لهم بنو ثور.
وفي عُكل شعرٌ وفصاحة، وخيلٌ معروفة الأنساب، وفُرسان في الجاهلية والإسلام. وزعم يونس أن عكلًا أحسن العرب وُجوهًا في غبِّ حرب. وقال بعض فُتَّاك بني تميم:
ولم أكتب هذا الشعر ليكون شاهدًا على مِقدار حظهم في الشرف، ولكن لنضمَّه إلى قول جِران العَود:
وربما أُتيت القبيلة إذا برَّزت عليها إخوتها، كنحو فُقَيم بن جرير بن دارم، وزيد بن عبد الله بن دارم، وكنحو الحِرماز ومازن؛ ولذلك يُقال: إن أصلح الأمور لمن تكلَّف عِلم الطب ألا يُحسِن منه شيئًا، أو يكون من الحُذَّاق المتطبِّبين؛ فإنه إذا أحسن منه شيئًا ولم يبلغ فيه المَبالغ هلك وأهلك أهله. وكذلك العلم بصناعة الكلام، وليس كذلك سائر الصناعات؛ فليس يضرُّ من أحسن باب الفاعل والمفعول به، وباب الإضافة، وباب المعرفة والنكرة، أن يكون جاهلًا بسائر أبواب النحو. وكذلك من نظر في علم الفرائض، فليس يضرُّ من أحكم باب الصُّلب أن يجهل باب الجَد. وكذلك الحساب، وهذا كثير.
وذكروا أن حَزن بن الحارث أحد بني العنبر ولد مِحجنًا، فولد مِحجن شعيث بن سهم، فأُغير على إبله، فأتى أوس بن حجر يستنجده، فقال له أوس: أوَخَيرٌ من ذلك، أحضِّض لك قيس بن عاصم؟
وكان يُقال إن حزن بن الحارث هو حزن بن منقر، فقال أوس:
فسعى قيس في إبله حتى ردَّها عن آخرها.
وقال الآخر:
ومما يدل على قدر الشعر عندهم بُكاء سيِّد بني مازن مُخارق بن شهاب حين أتاه محمد بن المُكعبر العَنبري الشاعر فقال: إن بني يربوع قد أغاروا على إبلي فاسعَ لي فيها. فقال: وكيف وأنت جار وَرْدان بن مَخرمة؟ فلما ولَّى عنه محزونًا بكى مُخارق حتى بلَّ لحيته، فقالت له ابنته: ما يُبكيك؟ فقال: وكيف لا أبكي واستغاثني شاعر من شعراء العرب فلم أُغِثه؟ والله لئن هجاني ليفضحنِّي قوله، ولئن كفَّ عني ليقتلنِّي شُكره. ثم نهض فصاح في بني مازن فردَّت عليه إبله. وذكر وَردان الذي كان أخفره فقال:
قال: وفَد رجل من بني مازن على النُّعمان بن المُنذر، فقال له النُّعمان: كيف مُخارق بن شهاب فيكم؟ قال: سيِّدٌ كريم، وحسبُك من رجلٍ يمدح نفسه ويهجو ابن عمه! ذهب إلى قوله:
قال: ويبلغ من خوفهم من الهِجا، ومن شِدة السب عليهم، وتخوُّفهم أن يبقى ذِكر ذلك في الأعقاب، ويُسَب به الأحياء والأموات، أنهم إذا أسروا الشاعر أخذوا عليه المواثيق، وربما شدوا لسانه بنِسعة، كما صنعوا بعبد يغوث بن وقَّاص المُحاربي حين أسَرَته بنو تيمٍ يوم الكُلاب، وهو الذي يقول:
وكان سألهم أن يُطلِقوا لسانه لينوح على نفسه، ففعلوا، فكان ينوح بهذه الأبيات، فلما أنشد قومه هذا الشعر قال قيس: لبَّيك وإن كنت أخَّرتَني.
وقيل لعُبيد الله بن عبد الله بن عُتبة بن مسعود: كيف تقول الشعر مع الفقه والنُّسك؟ فقال: لا بد للمصدور من أن ينفُث.
وقال معاوية لصُحار العبدي: ما هذا الكلام الذي يظهر منك؟ قال: شيءٌ تجيش به صدورنا فتقذفه على ألسنتنا.
وقال ابن حرب: من أحسن شيئًا أظهره.
وفي المثل: من أحبَّ شيئًا أكثر ذِكره.
وقال: خاصَم أبو الحُوَيرث السحيمي حمزة بن بيض إلى المهاجر بن عبد الله في طويٍّ له، فقال أبو الحُوَيرث:
قال: وما قلت لك؟ قال:
قال: وأنا أحلف بالله لأُنصفنَّك. قال:
قال: أوجعهم ضربًا. قال:
قال: فتقدَّمت الشهود فشهدت لأبي الحويرث. قال: فالتفت إلى ابن بيض فقال:
قال: وتزوَّج شيخ من الأعراب جارية من رهطه، وطمع أن تلد له غلامًا فولدت له جارية، فهجرها وهجر منزلها، وصار يأوي إلى غير بيتها، فمرَّ بخِبائها بعد حول وإذا هي تُرقِّص بُنيَّتها منه وهي تقول:
فلما سمِع الأبيات مرَّ الشيخ نحوهما حُضرًا حتى ولج عليها الخباء، فقبَّلها وقبَّل بُنيتها، وقال: ظلمتُكما وربِّ الكعبة.
وقال مُسلم بن الوليد:
وقال ابن أبي عُيينة:
وقال الآخر:
وقال أبو كعب: كان رجلٌ يُجري على رجل رغيفًا في كل يوم، فكان إذا أتاه الرغيف يقول: لعنك الله ولعن من بعثك، ولعنني إن تركتك حتى أصيب خيرًا منك.
وقال بشَّار:
وقال آخر:
وقال أعشى هَمدان في خالد بن عتَّاب بن وَرقاء:
وقال آخر:
وقال آخر:
وقال ابن فنان المُحاربي:
وقال ثابت قُطنة في رجلٍ كان المهلَّب ولَّاه بعض خراسان:
وقال ابن سيخان مَولى المُغيرة في بني مُطيع العدويين:
وقال آخر:
وقال:
وأنشدنا الأُحيمر:
وقال خَلَف: لم أرَ بيتًا أفاد وجاد، وساد وزاد، وقاد وعاد، ولا أفضل من قول امرئ القيس:
وقال الآخر:
وقال عبد العزيز بن زُرارة الكلابي:
وقال الآخر:
وقال الأشهب بن رُمَيلة:
قوله: هم ساعد الدهر، إنما هو مثل، وهذا الذي تُسمِّيه الرُّواة البديع. وقد قال الراعي:
وقد جاء في الحديث: موسى الله أحدُّ، وساعِد الله أشدُّ. والبديع مقصور على العرب، ومن أجله فاقت لغتهم كل لغة، وأربَت على كل لسان، والراعي كثير البديع في شعره، وبشَّارٌ حسن البديع، والعتَّابي يذهب شعره في البديع.
وقال كعب بن عدي:
وقال زُفَر بن الحارث:
وقال مبذول العُذري:
وقال الآخر:
وقال آخر:
وقالت رُقيَّة بنت عبد المطَّلب في النبي ﷺ:
ولما دخل مكة لقِيَه جواريها يَقُلن:
يُضاف إلى باب الخُطب، وإلى القول في تلخيص المعاني والخروج من الأمر المشبَّه بغيره، قول حسَّان بن ثابت:
ولما دفن سليمان بن عبد الملك أيوب وقف ينظر إلى القبر ثم قال:
وقُرِّبت دابَّته فركِب ووقف على قبره، وقال:
ثم قال: وعليك السلام. ثم عطف رأس دابَّته وقال:
ثم أتاه موت أخيه محمد بن يوسف فقال:
تمثَّل معاوية في عبد الله بن بديل:
ورأى معاوية هُزاله وهو مُتعرٍّ فقال:
وتمثَّل عبد الملك حين وثب بعمرو بن سعيد الأشدق:
وسمِع معاوية رجلًا يقول:
فقال: هذا منَّا، هذا والله عبدُ الله بن الزُّبير.
(٤٠) وصف معاوية لقومه
المدائني قال: قال معاوية: إذا لم يكن الهاشمي جوادًا لم يُشبِه قومه، وإذا لم يكن المخزومي تيَّاهًا لم يُشبِه قومه، وإذا لم يكن الأموي حليمًا لم يُشبِه قومه. فبلَغ قوله الحسن بن علي رضي الله تعالى عنهما فقال: ما أحسنَ ما نظر لنفسه! أراد أن تجود بنو هاشم بأموالها فتفتقر إلى ما في يدَيه، وتزهو بنو مخزوم على الناس فتُبغَض وتُشنأ، وتحلُم بنو أمية فتُحَب.
وقال بشَّار:
وأنشد:
وقال أعرابي:
وقال أعرابي:
وأنشد أبو عُبيدة لعُبيد العنبري، وهو أحد اللصوص:
وقال أعرابي:
وقال أعرابي وهو محبوس:
وقال أعرابي:
وقال الشاعر:
ومِثله:
وقال الشاعر:
وقال بُزُرجمِهر: ما رأينا أشبه بالمظلوم من الحاسد.
وقال الأحنف بن قيس: لا راحة لحسود.
وقال الشعبي: الحاسد منغَّص بما في يد غيره.
وقال الله تبارك وتعالى: وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ.
وقال بعضهم يمدح أقوامًا:
وقال الشاعر:
وقالوا: من تمام المعروف تعجيله.
ووصف بعض الأعراب أميرًا فقال: إذا أوعد أخَّر، وإذا وعد عجَّل. وعيده عفو، ووعده إنجاز.
وقال تبارك وتعالى: وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا.
ودخل عمرو بن عُبيد على المنصور وهو يومئذٍ خليفة، وروى هذا الحديثَ العُتبيُّ عن عُتبة بن هارون قال: شهِدته وقد خرج من عنده، فسألته عمَّا جرى بينهما، فقال: رأيت عنده فتًى لم أعرفه، فقال لي: يا أبا عثمان، أتعرفه؟ فقلت: لا. فقال: هذا ابن أمير المؤمنين ووليُّ عهد المسلمين. فقلت له: قد رضيت له أمرًا يصير إليه إذا صار وقد شُغِلتَ عنه. فبكى ثم قال: عِظني يا أبا عثمان؟ فقلت: إن الله قد أعطاك الدنيا بأسْرها، فاشترِ نفسك منه ببعضها؛ فلو أن هذا الأمر الذي صار إليك بقي في يدَي من كان قبلك لم يصل إليك، وتذكَّر يومًا يتمخض بأهله لا ليلة بعده.
المدائني قال: سمعت أعرابيًّا يسأل وهو يقول: رحِمَ الله امرأً لم تُمجَّ أذنه كلامي، وقدَّم لنفسه معاذة من سوء مقامي؛ فإن البلاد مُجدِبة، والحال سيئة، والعقل زاجر ينهى عن كلامكم، والفقر عارمٌ يحملني على إخباركم، والدعاء أحد الصدقتَين؛ فرحِمَ الله امرأً أمر بمَير، أو دعا بخير.
وقال رجل من طيئ:
وقال آخر:
وقال آخر:
وسُئل بعض العرب: ما العقل؟ قال: الإصابة بالظُّنون، ومعرفة ما لم يكن بما قد كان.
وقال جرير يُعاتب المُهاجر بن عبد الله:
فوثب المهاجر فأخذ بحَقْوه وقال: لك العُتبى يا أبا حَزْرة، لا تُرسلْه.
وقال سُويد بن صامت:
وقال حارثة بن بدر لما تحالفت الأزد وربيعة:
وأنشد ابن الأعرابي:
وأنشد ابن الأعرابي لعمرو بن شاس:
وقال عَبيد بن الأبرص:
وأنشد الأصمعي لكُثيِّر:
ويمدحون بإصابة الظن ويذمُّون بخطائه. قال أوس بن حَجَر:
وفي بعض الحكمة: من لم ينتفع بظنِّه لم ينتفع بيقينه.
وقال السموءل بن عادياء:
وقال حسَّان بن ثابت:
وقال بشَّار بن بُرد:
وقال مُزاحم العُقيلي:
وقال المسعودي:
(٤١) خطبة شدَّاد بن أوس
الحمد لله الذي افترض طاعته على عِباده، وجعل رِضاه عند أهل التقوى آثَر من رضا خلقه. على ذلك مضى أولهم، وعليه يمضي آخرهم. أيها الناس، إن الآخرة وعدٌ صادق، يحكم فيها ملِكٌ قادر، وإن الدنيا عرَضٌ حاضر، يأكل فيها البر والفاجر، وإن السامع المُطيع لله لا حُجَّة عليه، وإن السامع العاصيَ لله لا حُجَّة له. وإن الله إذا أراد بالعِباد صلاحًا عمل عليهم صُلحاؤهم، وقضى بينهم فُقهاؤهم، وملَكَ المالَ سُمحاؤهم. وإذا أراد بهم شرًّا عمل عليهم سُفهاؤهم، وقضى بينهم جُهلاؤهم، وملَكَ المالَ بُخلاؤهم. وإن من صلاح الوُلاة أن يصلح قُرناؤها، ونصح لك يا معاوية من أسخَطَك بالحق، وغشَّك من أرضاك بالباطل. قال: اجلس رحمك الله، قد أمرنا لك بمال. قال: إن كان من مالك الذي تعهَّدت جمعه مَخافة تَبِعته فأصبتَه حلالًا وأنفقته إفضالًا، فنعم؛ وإن كان مما شارَكك فيه المسلمون فاحتجنته دونهم، فأصبته اقترافًا، وأنفقته إسرافًا، فإن الله يقول في كتابه: إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ.
وأذِن معاوية للأحنف بن قيس وقد وافى معاويةَ محمدُ بن الأشعث، فقدَّمه عليه، فوجد من ذلك محمد بن الأشعث، وأذِن له فدخل، فجلس بين معاوية والأحنف، فقال معاوية: إنا والله ما أذِنَّا له قبلك إلا ليجلس إلينا دونك، وما رأيت أحدًا يرفع نفسه فوق قدرها إلا من ذلةٍ يجدها، وقد فعلت فِعل من أحسَّ من نفسه ذلًّا وضعة، وإنا كما نملك أموركم نملك تأديبكم، فأريدوا منا ما نريده منكم؛ فإنه أبقى لكم، وإلا قصرناكم كرهًا، فكان أشدَّ عليكم وأعنف بكم.
وقال معاوية لرجل من أهل سبأ: ما كان أجهلَ قومَك حين ملَّكوا عليهم امرأة! فقال: بل قومك أجهل، قالوا حين دعاهم رسول الله ﷺ إلى الحق وأراهم البيِّنات: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ. ألا قالوا: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فاهدِنا له؟
قال: ولما سقطت ثَنيَّتا معاوية لفَّ وجهه بعمامة، ثم خرج إلى الناس فقال: لئن ابتُليت لقد ابتُلي الصالحون قَبْلي، وإني لأرجو أن أكون منهم، ولئن عوقبت لقد عوقب الخاطئون قبلي، وما آمن أن أكون منهم، ولئن سقط عُضوان مني لمَا بقي أكثر، ولو أتى على نفسي لمَا كان لي عليه خيارٌ تبارك وتعالى؛ فرحِمَ الله عبدًا دعا بالعافية، فوالله لئن كان عتب عليَّ بعض خاصتكم لقد كنت حدبًا على عامتكم.
ولما بلَغت معاويةَ وفاةُ الحسن بن علي رضي الله تعالى عنهما، دخل عليه ابن عبَّاس، فقال له معاوية: آجَرك الله أبا العبَّاس في أبي محمد الحسن بن علي — ولم يُظهر حزنًا — فقال ابن عبَّاس: إنا لله وإنا إليه راجعون. وغلبه البكاء، فردَّه ثم قال: لا يسدُّ والله مكانَه حفرتُك، ولا يزيد موتُه في أجلك. والله لقد أُصِبنا بمن هو أعظم منه فقدًا فما ضيَّعنا الله بعده. فقال له معاوية: كم كانت سِنُّه؟ قال: مَولده أشهر من أن تُتعرف سِنُّه! قال: أحسبه ترك أولادًا صغارًا؟ قال: كلُّنا كان صغيرًا فكَبِر، ولئن اختار الله لأبي محمدٍ ما عنده وقبضه إلى رحمته، لقد أبقى الله أبا عبد الله، وفي مِثله الخلف الصالح.
(٤٢) وصية أعرابية لولدها
الأصمعي، عن أبان بن ثعلبة، قال: مررت بامرأة بأعلى الأرض وبين يدَيها ابن لها يريد سفرًا، وهي توصيه، فقالت: اجلس أمنَحْك وصيتي وبالله توفيقك، وقليلٌ إجداؤه عليك أنفع من كثير عقلك. إيَّاك والنمائم؛ فإنها تزرع الضغائن. ولا تجعل نفسك غَرضًا للرُّماة؛ فإن الهدف إذا رُمي لم يلبث أن ينثلم. ومثِّل لنفسك مثالًا، فما استحسنته من غيرك فاعمل به، وما كرِهته منه فدعه واجتنبه. ومن كانت مودته بشَرهٍ كان كالريح في تصرُّفها. ثم نظرت فيَّ فقالت: كأنك يا عراقي أُعجبت بكلام أهل البدو؟ ثم قالت لابنها: إذا هززت فهزَّ كريمًا؛ فإن الكريم يهتزُّ لهزتك. وإياك واللئيم؛ فإنه صخرة لا ينفجر ماؤها. وإياك والعذر؛ فإنه أقبح ما تُعومل به. وعليك بالوفاء؛ ففيه النماء. وكُن بمالك جوادًا، وبدِينك شحيحًا. ومن أُعطي السخاء والحِلم فقد استجاد الحلة؛ ريطتها وسِربالها. انهض على اسم الله.
وقال أعرابي لرجلٍ مَطَله في حاجة: إن مِثل الظَّفر بالحاجة تعجيل اليأس منها إذا عسُر قضاؤها، وإن الطلب وإن قلَّ أعظم قدرًا من الحاجة وإن عظُمت، والمَطل من غير عُسر آفةُ الجود.
خطب الفضل الرَّقاشي إلى قوم من بني تميم، فخطب لنفسه، فلما فرغ قام أعرابي منهم فقال: توسَّلت بحُرمة، وأدليت بحق، واستندت إلى خير، ودعوت إلى سُنة؛ ففرضك مقبول، وما سألت مبذول، وحاجتك مقضيَّة إن شاء الله تعالى. قال الفضل: لو كان الأعرابي حمِد الله في أول كلامه، وصلَّى على النبي ﷺ، لفضحني يومئذٍ.
(٤٣) وصية الملك المُنذِر لوليِّ عهده
المدائني قال: قال المنذر بن المنذر، لما حارَب غسَّان بالشام، لابنه النُّعمان يوصيه: إياك واطِّراحَ الإخوان، واطِّرافَ المعرفة، وإياك ومَلاحاة الملول، وممازحة السفيه، وعليك بطول الخَلوة، والإكثار من السَّمر، والبس من القِشر ما يَزِينك في نفسك ومروءتك، واعلم أن جماع الخير كله الحياء، فعليك به، وتواضع في نفسك، وانخدع في مالك، واعلم أن السكوت عن الأمر الذي يعنيك خير من الكلام، فإذا اضطررت إليه فتحرَّ الصدق والإيجاز تَسلَم إن شاء الله تعالى.
(٤٤) كلام في تعزية بعض الملوك
قال: إن الخلق للخالق، والشكر للمُنعِم، والتسليم للقادر، ولا بد مما هو كائن، وقد جاء ما لا يُرَد، ولا سبيل إلى رد ما قد فات، وقد أقام معك ما سيذهب أو ستتركه، فما الجَزَع مما لا بد منه؟ وما الطمع فيما لا يُرجى؟ وما الحيلة فيما سيُنقل عنك أو تُنقل عنه؟ وقد مضت أصولٌ نحن فروعها، فما بَقاء الفرع بعد ذهاب الأصل؟ فأفضل الأشياء عند المصائب الصبر، وإنما أهل الدنيا سَفْر لا يحلُّون الركائب إلا في غيرها؛ فما أحسنَ الشُّكرَ عند النِّعم، والتسليم عند الغِيَر؛ فاعتبِر بمن رأيت من أهل الجزع، فإن رأيت الجزع رد أحدًا منهم إلى ثقة من دَرْك فما أولاك به.
واعلم أن أعظم من المصيبة سوءُ الخلف منها، فاتَّقِ فإن المَرجع قريب.
واعلم أنه إنما ابتلاك المُنعِم، وأخذ منك المُعطي، وما ترك أكثر؛ فإن نسيت الصبر فلا تنسَ الشكر، وكلًّا فلا تَدَع، واحذر من الغفلة استلاب النِّعَم، وطول الندامة؛ فما أصغر المصيبة اليوم مع عِظم الغنيمة غدًا، فاستقبِل المصيبة بالحِسبة تستخلف بها نِعمًا، فإنما نحن في الدنيا غرض يُنتضل فيه بالمنايا، ونهب للمصائب، مع كلِّ جرعةٍ شَرَق، ومع كلِّ أكلةٍ غَصَص. لا تُنال نعمة إلا بفِراق أُخرى، ولا يستقبل مُعمَّر يومًا من عمره إلا بهدم آخر من أجَله، ولا تحدُث له زيادة في أكله إلا بنفاد ما قبله من رزقه، ولا يحيا له أثر إلا مات له أثر، ونحن أعوان الحُتوف على أنفُسنا، وأنفُسنا تسوقنا إلى الفَناء، فمن أين نرجو البقاء؟ وهذا الليل والنهار لم يرفعا من شيء شرفًا إلا أسرعا الكَرَّة في هدم ما رفعا، وتفريق ما جمعا؛ فاطلب الخير من أهله، واعلم أن خيرًا من الخير مُعطيه، وشرًّا من الشر فاعِله.
وقال أبو نُواس:
وقال آخر:
وقال آخر:
قبيصة بن عمر المهلَّبي، أن رجلًا أتى ابن أبي عُيينة، فسأله أن يكتب إلى داود بن يزيد كتابًا، ففعل وكتب في أسفله:
قال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: ما وجد أحد في نفسه كبْرًا إلا من مَهانةٍ يجدها في نفسه.
ودخل رجل من بني مخزوم، وكان زُبيريًّا، على عبد الملك بن مروان، فقال له عبد الملك: أليس قد ردَّك الله على عقبَيك؟ قال: أوَمَن رُدَّ إليك فقد رُدَّ على عقبَيه؟ فاستحيا وعلِم أنه قد أساء.
وقال المخبَّل:
وقال النضر بن خالد:
وقال خِداش بن زُهير:
وقال ابن عبَّاس رضي الله عنهما: كانت قريشٌ تألَف مَنزل أبي بكر رضي الله تعالى عنه لخصلتَين؛ للعلم والطعام؛ فلما أسلم أسلم عامَّةُ من كان يُجالسه.
(٤٥) بعض كلام الأعراب
قال الأصمعي: وقف أعرابيٌّ يسأل فقال:
وقال أعرابي:
وقال أعرابي: اللهم إني أسألك قلبًا توَّابًا أوَّابًا، لا كافرًا ولا مُرتابًا.
وهبَ رجل لأعرابي شيئًا فقال: جعل الله للخير عليك دليلًا، وجعل عندك رفدًا جزيلًا، وأبقاك بقاءً طويلًا، وأبلاك بلاءً جميلًا.
وقف أعرابي على قوم فمنعوه فقال: اللهم اشغلنا بذِكرك، وأعِذنا من سخطك، وأولِجنا إلى عفوك؛ فقد ضنَّ خلقك برزقك، فلا تشغلنا بما عندهم عن طلب ما عندك، وآتِنا من الدنيا القُنعان، وإن كان كثيرها يُسخطك؛ فلا خير فيما يُسخطك.
الأصمعي، قال: سمعت أعرابيًّا يدعو وهو يقول: اللهم اغفر لي إذا الصُّحف منشورة، والتوبة مقبولة، قبل ألا أقدر على استغفارك حين ينقطع الأمل، ويحضر الأجل، ويفنى العمل.
وقال: سمعت أعرابيًّا يدعو وهو يقول: اللهم ارزقني مالًا أكبِت به الأعداء، وبنين أَصول بهم على الأقوياء.
وكان مُنادي سعد بن عُبادة يقول على أُطُمه: من أراد خبزًا ولحمًا فليأتِ أطم سعد. وخلفه قيس بن سعد ابنه، وكان يفعل كفعله، فإذا أكل الناس رفع يده إلى السماء وقال: اللهم إني لا أصلُح على القليل، ولا يصلُح القليل لي. اللهم هَبْ لي حمدًا ومجدًا؛ لأنه لا حمد إلا بفعال، ولا مجد إلا بمال.
وقال أعرابي: اللهم إن لك عليَّ حقوقًا فتصدَّق بها عليَّ، وللناس عليَّ حقوقًا فأدِّها عني، وقد أوجبت لكل ضيف قِرًى وأنا ضيفك، فاجعل قِرايَ في هذه الليلة الجنة.
وقف أعرابي على قومٍ يسألهم فأنشأ يقول:
الأخفش قال: خرج أعرابي يطلب الصدقة ومعه ابنتان له، فقالت ابنته لما رأت إمساك الناس عنه:
ووقف سائل على الحسن فقال: رحِمَ الله عبدًا أعطى من سَعة، أو آسى من كَفاف، أو آثَر من قِلَّة.
وقال الطائي [حبيب بن أوس أبو تمَّام]:
وقال:
وقال:
أُسِر رؤبة في بعض حروب تميم فمُنِع الكلام، فجعل يصرخ: يا صاحباه، يا بني تميم، أطلِقوا من لساني.
وربما قال الشاعر في هِجائه قولًا لا يعيب به المهجوَّ فيمتنع من فِعله المهجو وإن كان لا يلحق فاعِلَه ذم، وكذلك إذا مدحه بشيءٍ أُولع بفعله وإن كان لا يصير إليه بفعله مدح، فمن ذلك تقدُّم كُلْثم بنت سريع مَولى عمرو بن حُرَيث إلى عبد الملك بن عُمير، وهو على قضاء الكوفة، تُخاصم أهلها، فقضى لها عبد الملك على أهلها، فقال هُذيل الأشجعي:
قال: فقال عبد الملك: أخزاه الله، [والله] لرُبَّما جاءتني السعلة أو النحنحة وأنا في المتوضَّأ فأذكُر قوله فأردُّها لذلك.
وزعم الهيثم بن عدي عن أشياخه أن الشاعر لما قال في شهر بن حَوشب:
ما مسَّ خريطة حتى مات.
وقال رجل من بني تغلب، وكان ظريفًا: ما لقي أحدٌ من تغلب ما لقيت أنا. قلت: وكيف ذاك؟ قال: قال الشاعر:
والله إني لأتوهَّم أن لو نهشت استي الأفاعيُّ ما حكَكتُها.
(٤٦) كلام في مَقامات الشعراء في الجاهلية والإسلام
كان الشاعر أرفع قدرًا من الخطيب، وهم إليه أحوج؛ لردِّه مآثرهم عليهم وتذكيرهم بأيامهم؛ فلما كثُر الشعراء وكثُر الشعر صار الخطيب أعظم قدرًا من الشاعر.
والذين هجَوا فوضعوا من قدر من هجَوه، ومدحوا فرفعوا من قدر من مدحوه، وهجاهم قوم فردُّوا عليهم فأفحموهم، وسكت عنهم بعض من هجاهم مَخافة التعرُّض لهم، وسكتوا عمن هجاهم رغبةً بأنفسهم عن الرد عليهم، وهم في الإسلام جريرٌ والفرزدق والأخطل، وفي الجاهلية زُهير وطَرَفة والأعشى والنابغة. هذا قول أبي عُبيدة.
وزعم أبو عمرو بن العلاء أن الشعر فُتِح بامرئ القيس وخُتِم بذي الرُّمَّة.
ومن الشعراء من يُحكِم القريض ولا يُحسِن من الرَّجز شيئًا؛ ففي الجاهلية منهم زهير والنابغة والأعشى، وأما من يجمعهما فامرؤ القيس وله شيء من الرَّجز، وطَرَفة وله كمِثل ذلك، ولبيد وقد أكثر. ومن الإسلاميين من لا يقدر على الرَّجز وهو في ذلك يُجيد القريض، كالفرزدق وجرير، ومن يجمعهما فأبو النجم وحُميد الأرقط والعُماني وبشَّار بن بُرد. وأقل من هؤلاء يُحكِم القصيد والأرجاز والخُطب. وكان الكُميت والبَعيث والطِّرِمَّاح شُعراء خُطباء، وكان البعيث أخطبهم. وقال يونس: إن كان مُغلَّبًا في الشعر لقد كان غُلِّب في الخُطب. وإذا قالوا غُلِّب فهو الغالب.
وقال الحسين بن مطير الأسدي:
وقال مُسلم الأنصاري يرثي يزيد بن مزيد:
وقال هاشم الرَّقاشي:
وقال الأُبيرد الرياحي يرثي أخاه:
وقال أبو عُبيدة: أنشدني رجل من بني عِجل:
قال: دخل مَعن بن زائدة على أبي جعفر المنصور فقارَب في خطوه، فقال المنصور: لقد كَبِرت سنُّك. قال: في طاعتك. قال: وإنك لجَلْد. قال: على أعدائك. قال: وأرى فيك بقيَّة. قال: هي لك.
(٤٧) كتاب عبد الملك إلى عمرو بن سعيد الأشدق
قال: كتب عبد الملك بن مروان إلى عمرو بن سعيد الأشدق حين خرج عليه: أما بعد، فإن رحمتي لك تَصرِفني عن الغضب عليك؛ لتمكُّن الخُدَع منك، وخذلان التوفيق إياك. نهضت بأسباب وهَّمَتك أطماعك أن تستفيد بها عزًّا، كنت جديرًا لو اعتدلت ألا تدفع بها ذلًّا. ومن رحل عنه حُسن النظر، واستوطنته الأماني، ملَكَ الحَين تصريفه، واستترت عنه عواقب أمره، وعن قليلٍ يتبين من سلك سبيلك، ونهض بمِثل أسبابك، أنه أسير غفلة، وصريع خدع، ومغيض ندم، والرحم تحمل على الصفح عنك ما لم تحلُل بك عواقب جهلك، وتزجر عن الإيقاع بك؛ وأنت إن ارتدعت في كنفٍ وسِتر. والسلام.
(٤٨) رد عمرو بن سعيد على عبد الملك
فكتب إليه عمرو: أما بعد، فإن استدراج النِّعم إياك أفادك البَغي، ورائحة القدرة أورثتك الغفلة، زجرت عما واقعت مثله، وندبت إلى ما تركت سبيله، ولو كان ضعف الأسباب يؤيس الطلاب ما انتقل سلطان، ولا ذلَّ عزيز، وعن قليلٍ تتبين مَن أسير الغفلة، وصريع الخدع، والرحم تعطف على الإبقاء عليك مع دفعك عما غيرك أقوَم به منك. والسلام.
(٤٩) كتاب عمر بن عبد العزيز إلى عمر بن الوليد
قال أبو الحسن: كتب عمر بن عبد العزيز إلى عمر بن الوليد بن عبد الملك: أما بعد، فإنك كتبت تذكُر أن عاملًا أخذ مالك بالحميَّة، وتزعم أني من الظالمين، وإن أظلم مني وأترك لعهد الله من أمَّرك صبيًّا سفيهًا على جيش من جيوش المسلمين، لم تكن له في ذلك نية إلا حب الوالد لولده. وإن أظلم مني وأترك لعهد الله لأنت؛ فأنت عمر بن الوليد، وأُمك صنَّاجة تدخل دور حمص وتطوف في حوانيتها. رُوَيدك أنْ لو قد التقت حَلْقتا البِطان لحملتك وأهلَ بيتِك على المَحجَّة البيضاء؛ فطالما ركِبتم ثنيَّات الطريق، مع أني قد همَمت أن أبعث إليك من يحلق دلادلك؛ فإني أعلم أنها من أعظم المصائب عليك. والسلام.
(٥٠) شِدَّة مراقبة عبد الملك لوُلاته
قال أبو الحسن: كان عبد الملك بن مروان شديد اليقظة، وكثير التعهُّد لوُلاته، فبلَغه أن عاملًا من عماله قبِل هديةً، فأمر بإشخاصه إليه، فلما دخل عليه قال له: أقبِلتَ هديَّة منذ ولَّيتُك؟ قال له: يا أمير المؤمنين، بلادك عامرة، وخَراجك موفور، ورعيَّتك على أفضل حال. قال: أجب فيما سألتك عنه، أقبِلتَ هدية منذ ولَّيتُك؟ قال: نعم. قال: لئن كنت قبِلت ولم تُعوِّض إنك للئيم. ولئن أنلتَ مُهدِيك لا من مالك أو استكفيته ما لم يكن يُستكفاه إنك لجائرٌ خائن. ولئن كان مذهبك أن تُعوِّض المُهدي إليك من مالك، وقبِلت ما اتَّهمك به عند من استكفاك وبسط لسان عائبك، وأطمع فيك أهل عملك، إنك لجاهل. وما فيمن أتى أمرًا لم يخلُ فيه من دناءة أو خيانة أو جهل مُصطنَع نحَّياه عن عمله.
قال أبو الحسن: عرض أعرابي لعُتبة بن أبي سفيان وهو على مكة فقال: أيها الخليفة. قال: لستُ به ولم تُبعد. قال: يا أخاه. قال: أسمعتَ فقل. قال: شيخ من بني عامر يتقرب إليك بالعمومة، ويختصُّ بالخئولة، ويشكو إليك كثرة العِيال، ووطأة الزمان، وشِدة فقر، وترادُف ضر، وعندك ما يسعه ويصرف عنه بؤسه. قال: أستغفر الله منك، وأستعينه عليك، قد أمرت لك بغِناك، وليت إسراعي إليك يقوم بإبطائي عنك.
وقال أعرابي يعيب قومًا: هم أقل الناس ذنوبًا إلى أعدائهم، وأكثرهم جُرمًا إلى أصدقائهم، يصومون عن المعروف، ويُفطرون على الفحشاء.
وقال مُجَّاعة بن مُرار لأبي بكر الصدِّيق رضي الله تعالى عنه: إذا كان الرأي عند من لا يُقبَل منه، والسلاح عند من لا يستعمله، وكان المال عند من لا يُنفقه، ضاعت الأمور.
الأصمعي قال: نعت أعرابي رجلًا فقال: كأن الألسُن والقلوب رِيضت له، فما تنعقد إلا على وده، ولا تنطق إلا بثنائه.
وقال أعرابي: وعدُ الكريم نقد وتعجيل، ووعدُ اللئيم مَطْل وتعليل.
أتى أعرابيٌّ عمر بن عبد العزيز فقال: رجل من أهل البادية ساقَته الحاجة، وانتهت به الفاقة، والله يسألك عن مقامي غدًا. فبكى عمر.
وقال الشاعر:
وقال أبان بن الوليد لإياس بن معاوية: أنا أغنى منك. فقال إياس: بل أنا أغنى منك. قال أبان: وكيف ولي كذا وكذا؟ وعدَّد أموالًا، قال: إن كسبك لا يفضُل عن مؤنتك، وكسبي يفضُل عن مؤنتي.
وكان يُقال: حاجب الرجل عامله على عِرضه.
وقال أبو الحسن: رأيت امرأةً أعرابية غمَّضت ميتًا وترحَّمت عليه، ثم قالت: ما أحقَّ من أُلبس العافية، وأُطيلت له النَّظِرة، ألا يعجز عن النظر لنفسه قبل الحلول بساحته، والحيالة بينه وبين نفسه!
وقال ابن الزُّبير لمعاوية حين أراد أن يُبايع لابنه يزيد: أتُقدِّم ابنك على من هو خير منه؟ قال: كأنك تريد نفسك؟ إن بيته بمكة فوق بيتك. قال ابن الزبير: إن الله رفع بالإسلام بيوتًا؛ فبيتي مما رَفَع. قال معاوية: صدقت، وبيت حاطب بن أبي بلتعة.
وقال: عاتَب أعرابي أباه فقال: إن عظيم حقك عليَّ لا يُذهب صغير حقي عليك، والذي تمتُّ إليَّ به أمتُّ بمِثله إليك، ولست أزعم أنَّا سواء، ولكني أقول: لا يحلُّ لك الاعتداء.
قال: مدح رجل قومًا فقال: أدَّبَتهم الحكمة، وأحكمتهم التجارِب، ولم تَغرُرهم السلامة المُنطوية على الهلكة، ورحل عنهم التسويف الذي قطع الناس به آجالهم، فأحسنوا المقال، وشفعوه بالفعال.
وقال بعض الحكماء: التواضع مع السخافة والبخل أحمد عند العلماء من الكِبْر مع السخاء والأدب؛ فأعظِمْ بحسنة عفَّت عن سيئتَين، وأفظِع بعيبٍ أفسد من صاحبه حسنتَين.
وقيل لرجل: مات صديق لك. فقال: رحمة الله عليه، لقد كان يملأ العين جمالًا، والأذن بيانًا، ولقد كان يُرجى فلا يُخشى، ويُخشى فلا يُغشى، ويُعطي ولا يُعطى، قليلًا لدى الشر حضورُه، سليمًا للصديق ضميره.
وقام أعرابي ليسأل فقال: أين الوجوه الصِّباح، والعقول الصِّحاح، والألسُن الفِصاح، والأنساب الصِّراح، والمكارم الرِّباح، والصدور الفِساح، تُعيذني من مقامي هذا؟
ومدح بعضهم رجلًا فقال: ما كان أفسح صدره، وأبعد ذِكره، وأعظم قدره، وأنفذ أمره، وأعلى شرفه، وأربح صفقة من عرفه، مع سعة الغَناء، وعِظم الإناء، وكرم الآباء.
وقال علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه لصعصعة بن صوحان: والله ما علِمتك إلا أنك لكثير المعونة، قليل المؤنة؛ فجزاك الله خيرًا. فقال صعصعة: وأنت فجزاك الله أحسن ذلك؛ فإنك ما علِمتك بالله عليم، والله في عينك عظيم.
(٥١) وصية عبد الملك بن صالح العبَّاسي لابنه
أي بني، إني قد اخترت لك الوصية، ومحضتك النصيحة، وأدَّيت الحق إلى الله في تأديبك؛ فلا تُغفلن الأخذ بأحسنها والعمل بها، والله موفِّقك.
قال الغنوي: احتضر رجل منَّا فصاحت ابنته، ففتح عينَيه وهو يكيد بنفسه، فقال:
قال بعض الشعراء:
المدائني قال: كان يُقال: إذا انقطع رجاؤك من صديقك فألحِقه بعدوِّك.
وقال عبد الملك بن صالح: لا يكبرنَّ عليك ظُلْم من ظَلَمك؛ فإنما سعى في مَضرَّته ونفعك.
وقال مصعب بن الزبير: التواضع أحد مصائد الشرف.
وقال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: إياك ومؤاخاة الأحمق؛ فإنه ربما أراد أن ينفعك فضرَّك.
وكانوا يقولون: عشرٌ في عشرةٍ هي فيهم أقبَحُ منها في غيرهم؛ الضِّيق في الملوك، والغدر في ذوي الأحساب، والحاجة في العلماء، والكذب في القُضاة، والغضب في ذوي الألباب، والسفاهة في الكهول، والمرض في الأطبَّاء، والاستهزاء في أهل البؤس، والفخر في أهل الفاقة، والشُّح في الأغنياء.
ووصف بعض الأعراب فرسًا فقال: قد انتهى ضموره، وذبل فريره، وظهر حصيره، وتفلقت غروره، واسترخت شاكلته، يُقبل بزور الأسد، ويُدبِر بعَجُز الذئب.
ومات ابن لسليمان بن علي فجزِع عليه جَزعًا شديدًا، وامتنع من الطعام والشراب، وجعل الناس يُعزُّونه فلا يحفل بذلك، فدخل عليه يحيى بن منصور فقال: عليكم نزل كتاب الله؛ فأنتم أعلم بفرائضه، ومنكم كان رسول الله ﷺ؛ فأنتم أعرف بسُنَّته، ولستَ ممن يُعلَّم من جَهْل، ولا يُقوَّم من عِوَج، ولكني أعزِّيك ببيت من شعر. قال: هاتِه. قال:
قال: أعد. فأعاد، فقال: يا غُلام، الغداء.
قال: دعا أعرابي في طريق مكة فقال: هل من عائدٍ بفضل، أو مُواسٍ من كفاف؟ فأمسك عنه فقال: اللهم لا تِكلْنا إلى أنفُسنا فنعجز، ولا إلى الناس فنضيع.
قال أبو الحسن: جاء خلَف الأحمر إلى حلقة يونس حين مات أبو جعفر، فقال:
فقال له يونس: ماذا؟ فقال:
فقال يونس: وما هذا؟ فقال:
قال أبو الحسن: أراد رجلٌ أن يكذب بلالًا فقال له يومًا: يا بلال، ما سنُّ فرسك؟ قال: عَظْم. قال: فكيف جَريُه؟ قال: يحضر ما استطاع. قال: فأين تنزل؟ قال: موضعًا أضع فيه رِجلي. فقال له الرجل: لا أتعنَّتك أبدًا.
قال: ودخل رجل على شريح القاضي يُخاصم امرأة له، فقال: السلام عليكم. قال: وعليكم. قال: إني رجل من أهل الشام. قال: بعيدٌ سحيق. قال: وإني قدِمت إلى بلدكم هذا. قال: خيرَ مَقدم. قال: وإني تزوَّجت امرأة. قال: بالرِّفاء والبنين. قال: وإنها ولدت غلامًا. قال: ليَهنِك الفارس. وقال: وقد كنت شرطت لها صَداقها. قال: الشرط أمْلَك. قال: وقد أردت الخروج بها إلى بلدي. قال: الرجل أحَقُّ بأهله. قال: فاقضِ بيننا. قال: قد فعلت.
قال: وخرج الحجَّاج ذات يوم فأصحر، وحضر غداؤه فقال: اطلبوا من يتغدَّى معي. فطلبوا فإذا أعرابي في شَملة، فأُتي به، فقال: السلام عليكم. قال: هلمَّ أيُّها الأعرابي. قال: قد دعاني من هو أكرَمُ منك فأجبته. قال: ومن هو؟ قال: دعاني الله ربي إلى الصوم فأنا صائم. قال: وصوم في مِثل هذا اليوم الحار! قال: صمتُ ليومٍ هو أحرُّ منه. قال: فأفطِرِ اليوم وصُم غدًا. قال: ويضمن لي الأمير أني أعيش إلى غد؟ قال: ليس ذاك إليه. قال: فكيف يسألني عاجلًا بآجِل ليس إليه؟ قال: إنه طعامٌ طيِّب. قال: ما طيَّبه خبَّازك ولا طبَّاخك. قال: فمن طيَّبه؟ قال: العافية. قال الحجَّاج: بالله إنْ رأيت كاليوم! أخرِجوه.
قال أبو عمرو: خرج صعصعة بن صوحان عائدًا إلى مكة، فلقِيَه رجل فقال له: يا عبد الله، كيف تركت الأرض؟ قال: عريضةً أريضة. قال: إنما عنيت السماء. قال: فوق البشر، ومدى البصر. قال: سبحان الله، إنما أردت السحاب. قال: تحت الخضراء، وفوق الغبراء. قال: إنما أعني المطر، قال: قد عفا الأثر، وملأ القُتر، وبلَّ الوبر، ومُطِرنا أحيا المطر. قال: إنسيٌّ أنت أم جِنِّي؟ قال: بل إنسي، من أمَّة رجل مهدي ﷺ.
وقال بشَّار:
وقال أيضًا:
(٥٢) كتاب من الحجَّاج إلى عبد الملك
وكتبتُ إلى أمير المؤمنين وهي ترمي بمِثل قِطَع القطن قد ملأ اليَباب، وسدَّ الشِّعاب، وسقى منها كلُّ ساقٍ؛ فالحمد لله الذي أنزل غيثه، ونشر رحمته من بعد ما قنطوا، وهو الوليُّ الحميد. والسلام.
وهذا أبقاك الله آخِرُ ما ألَّفناه من كتاب «البيان والتبيين»، ونرجو أن نكون غير مقصِّرين فيما اخترناه من صنعته، وأردناه من تأليفه؛ فإن وقع على الحال التي أردنا، وبالمنزلة التي أمَّلنا، فذلك بتوفيق الله وحُسن تأييده، وإن وقع بخلافها فما قصَّرنا في الاجتهاد، ولكن حُرِمنا التوفيق، والله سبحانه وتعالى أعلم.
⋆ تغير، في ذيل الأمالي: تنكر.
وكان من