كتاب الزهد

بسم الله الرحمن الرحيم

نبدأ باسم الله وعَونه بشيء من كلام النُّسَّاك في الزهد، وبشيء من ذِكر أخلاقهم ومواعظهم.

عوف، عن الحسن قال: لا تزول قدما ابن آدم حتى يُسأل عن ثلاث؛ شبابه فيمَ أبْلاه، وعمره فيمَ أفناه، وماله من أين كسبه وفيمَ أنفقه.

وقال يونس بن عبيد: سمعت ثلاث كلمات لم أسمع بأعجب منهن؛ قول حسَّان بن أبي سِنان: ما شيءٌ أهوَنَ من ورع، إذا رابَك أمرٌ فدَعه. وقول ابن سيرين: ما حسدت أحدًا على شيءٍ قط. وقول مؤرِّق العِجلي: لقد سألت الله حاجةً منذ أربعين سنة ما قضاها ولا يئست منها. فقيل لمؤرِّق: ما هي؟ قال: تركُ ما لا يعنيني.

وقال أبو حازم الأعرج: إن عُوفينا من شرِّ ما أُعطينا لم يَضِرنا ما زُوِي عنا.

وقال أبو عبد الحميد: لم أسمع أعجب من قول عمر: لو أن الصبر والشكر بَعيرانِ ما باليت أيهما ركِبت.

وقال ابن ضُبارة: إنَّا نظرنا فوجدنا الصبر على طاعةٍ أهوَنَ من الصبر على عذاب الله.

وقال زياد عبد عيَّاش بن أبي ربيعة: أنا من أن أُمنَع الدعاء أخوَفُ من أن أُمنَع الإجابة.

وقال له عمر بن عبد العزيز رحمه الله: يا زياد، إني أخاف الله مما دخلت فيه. قال: لست أخاف عليك أن تخاف، وإنما أخاف عليك ألا تخاف. وقال بعض النُّسَّاك: كفى موعظةً أنك لا تموت إلا بحياة، ولا تحيا إلا بموت. وهو الذي قال: اصحب من ينسى معروفه عندك. وهو الذي قال: لا تجعل بينك وبين الله مُنعِمًا، وعُدَّ النِّعَم منه عليك مَغرَمًا.

ودخل سالم بن عبد الله مع هشام بن عبد الملك البيت، فقال له هشام: سَلْني حاجتك. قال: أكره أن أسأل في بيت الله غيرَ الله.

وقيل لرابعة القيسية: لو كلَّمنا رجال عشيرتكِ فاشترَوا لكِ خادمًا تكفيك مؤنة بيتك؟ قالت: والله إني لأستحي أن أسأل الدنيا من يملك الدنيا، فكيف أسألها من لا يملكها؟

وقال بعض النُّسَّاك: دياركم أمامكم، وحياتكم بعد موتكم.

وقال السَّمَوءَل بن عادياء اليهودي:

مَيتًا خُلِقتُ ولم أكُنْ من قَبلِها
شَيئًا يَمُوتُ فمتُّ حينَ حيِيتُ

وقال أبو الدَّرداء: كان الناس ورقًا لا شوك فيه، وهم اليوم شوكٌ لا ورق فيه.

الحسن بن دينار قال: رأى الحسن رجلًا يكيد بنفسه. فقال: إن امرأً هذا آخره لجديرٌ أن يُزهَد في أوله، وإن أمرأً هذا أوله لجديرٌ أن يُخاف آخره.

وقال أبو حازم: الدنيا غرَّت أقوامًا فعملوا فيها بغير الحق، ففاجأهم الموت، فخلَّفوا ما لهم لمن لا يحمدهم، وصاروا إلى من لا يَعذِرهم؛ وقد خُلِّفنا بعدهم، فينبغي لنا أن ننظر إلى الذي كرِهناه منهم فنجتنبه، وإلى الذي غبِطناهم به فنستعمله.

موسى بن داود، رفع الحديث قال: النظر إلى خمسةٍ عبادة؛ النظر إلى الوالدَين، والنظر إلى البحر، والنظر إلى المصحف، والنظر إلى الصخرة، والنظر إلى البيت.

عبد الله بن شداد قال: أربعٌ من كنَّ فيه فقد برئ من الكِبْر؛ من اعتقل البعير، وركِب الحمار، ولبِس الصوف، وأجاب دعوة الرجل الدُّون.

وذُكِر عند أنسٍ الصوم فقال: ثلاثٌ من أطاقَهن فقد ضبط أمره؛ من تسحَّر، ومن قال،١ ومن أكل قبل أن يشرب، وشرِب ثم لم يأكل؛ فقد ضبط نفسه.
وقال الجمَّاز:٢ ليس يقوى على الصوم إلا من كَثُر لَقمه، وطاب أُدْمه.

مُجالد بن سعيد، عن الشَّعبي قال، حدَّثني مُرَّة الهَمْداني — قال مجالد: وقد رأيته — وحدَّثنا إسماعيل بن أبي خالد أنه لم يرَ مِثل مُرَّة قط، كان يصلِّي في اليوم والليلة خمسمائة ركعة. وكان مُرَّة يقول: لما قُتل عثمان، رضي الله تعالى عنه حمدت الله ألا أكون دخلت في شيء من قتله، فصلَّيت مائة ركعة؛ فلما وقع الجَمل وصِفِّين حمدت الله ألا أكون دخلت في شيء من تلك الحروب، وزدت مائتي ركعة؛ فلما كانت وقعة النهروان حمدت الله إذ لم أشهدها، وزدت مائة ركعة؛ فلما كانت فتنة ابن الزبير حمدت الله إذ لم أشهدها، وزدت مائة ركعة.

وأنا أسأل الله أن يغفر لمُرة، على أنَّا لا نعرف لبعض ما قال وجهًا؛ لأنك لا تعرف فقيهًا من أهل الجماعة لا يستحلُّ قتال الخوارج، كما أنَّا لا نعرف أحدًا منهم لا يستحلُّ قتال اللصوص، وهذا ابن عمر، وهو رئيس الحلسية وزعيمهم، قد لبس السلاح لقتال نجدة. وقيل لشُريح: الحمد لله الذي سلَّمك من القتال في شيء من هذه الفتن. قال: فكيف أصنع بقلبي وهواي؟ وقال الحسن: قتل الناقةَ رجلٌ واحد، ولكن الله عمَّ القوم بالعذاب لأنهم عمُّوه بالرضا. وسُئل عمر بن عبد العزيز عن قتلة عثمان وخاذليه وناصريه، فقال: تلك دماءٌ كفَّ الله يدي عنها؛ فأنا أُحبُّ ألا أغمس لساني فيها.

ودخل أبو الدرداء على رجلٍ يعوده فقال: كيف تجدك؟ فقال: أفرَقُ من الموت. قال: فمِمَّن أصبتَ الخير كله؟ قال: من الله. قال: فلِمَ تَفرَق ممَّن لم تُصِب الخير كله إلا منه؟

ولما قُذِف إبراهيم عليه السلام في النار قال له جبرائيل عليه السلام: ألك حاجة يا خليل الله؟ قال: أما إليك فلا.

ورأى بعض النُّسَّاك صديقًا له من النُّسَّاك مهمومًا، فسأله عن ذلك، فقال: كان عندي يتيمٌ أحتسب فيه الأجر، فمات. قال: فاطلب يتيمًا غيره؛ فإن ذلك لا يعدمك إن شاء الله. قال: أخاف ألا أصيب يتيمًا في سوء خُلُقه. قال: أما إني لو كنت مكانك لم أذكُر سوء خُلُقه.

ودخل بعض النُّسَّاك على صاحب له وهو يكيد بنفسه، فقال: طِبْ نفسًا؛ فإنك تلقى ربًّا رحيمًا. قال: أما ذنوبي فإني أرجو أن يغفرها الله لي، وليس اغتمامي إلا لمن أدعُ من بناتي. قال له صاحبه: الذي ترجوه لمغفرة ذنوبك فارْجُه يحفظ بناتك!

وكان مالك بن دينار يقول: لو كانت الصحف من عندنا لأقلَلنا الكلام.

وقال يونس بن عبيد: لو أُمِرنا بالجَزَع لصبرنا. وكان يقول: كسبت في هذه السوق ثمانين ألفَ درهمٍ ما فيها درهم إلا وأنا أخاف أن أُسأل عنه.

سمع عمرو بن عبيد عبدَ الرحمن بن حذيفة يقول: قال الحُطيئة: إنما أنا حَسبٌ موضوع. فقال عمرو: كذب، ترَّحه الله، ذلك التَّقوى.

وقال أبو الدرداء: نِعْم صومعة المؤمن مَنزلٌ يكفُّ فيه نفسه وبصره وفرجه، وإيَّاكم والجلوس في هذه الأسواق؛ فإنها تُلغِي وتُلهِي.

(١) عظةٌ بالغة للحسن البصري

وقال الحسن: يا ابن آدم، بِع دُنياك بآخرتك تربحهما جميعًا، ولا تَبِع آخرتك بدنياك فتخسرهما جميعًا. يا ابن آدم، إذا رأيت الناس في الخير فنافِسْهم فيه، وإذا رأيتهم في الشر فلا تَغبِطهم به. الثواء ها هنا قليل، والبقاء هناك طويل. أُمَّتكم آخر الأمم، وأنتم آخر أُمَّتكم، وقد أُسرعَ بخِياركم، فماذا تنظرون؟ آلمُعايَنة؟ فكأنْ قد. هيهات هيهات، ذهبت الدنيا بحال بالها، وبقيت الأعمال قلائد في أعناق بني آدم، فيا لها موعظة لو وافقت من القلوب حياة. أما إنه والله لا أُمة بعد أمتكم، ولا نبيَّ بعد نبيكم، ولا كتاب بعد كتابكم. أنتم تسوقون الناس والساعة تسوقكم، وإنما يُنتظر بأولكم أن يلحقه آخركم. من رأى محمدًا فقد رآه غاديًا ورائحًا، لم يضع لبنةً على لبنة، ولا قصبةً على قصبة، رُفِع له عَلمٌ فشمَّر إليه؛ فالوَحاءَ الوَحاء، والنَّجاءَ النَّجاء. علامَ تعرجون؟ أُتيتُم ورب الكعبة. قد أُسرعَ بخِياركم وأنتم كل يوم ترذلون، فماذا تنتظرون؟ إن الله تبارك وتعالى بعث محمدًا على علم منه، اختاره لنفسه، وبعثه برسالته، وأنزل عليه كتابه، وكان صفوته من خلقه، ورسوله إلى عباده، ثم وضعه من الدنيا موضعًا ينظر إليه أهل الأرض، وآتاه منها قوتًا وبُلْغة، ثم قال: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ. فرغِب أقوام عن عيشه، وسخِطوا ما رضِي له ربه، فأبعدهم الله وسحقهم. يا ابن آدم، طَأِ الأرض بقدمك؛ فإنها عن قليلٍ قبرُك. واعلم أنك لم تزَل في هدم عمرك، منذ سقطت من بطن أمك. رحِمَ الله رجلًا نظر فتفكَّر، وتفكَّر فاعتبر، وأبصر فصبر؛ فقد أبصر أقوام ولم يصبروا، فذهب الجزع بقلوبهم، ولم يُدركوا ما طلبوا، ولم يرجعوا إلى ما فارَقوا. يا ابن آدم، اذكُر قوله: وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا. عدَل واللهِ عليك من جعَلك حسيب نفسك. خُذوا صفاء الدنيا وذروا كدرها؛ فليس الصفو ما عاد كدرًا، ولا الكدر ما عاد صفوًا. دعوا ما يَرِيبكم إلى ما لا يَرِيبكم. ظهر الجفاء، وقلَّت العلماء، وعفَت السُّنَّة، وشاعت البدعة. لقد صحِبت أقوامًا ما كانت صحبتهم إلا قُرة العين، وجِلاء الصدور. ولقد رأيت أقوامًا كانوا لحسناتهم أشفَق من أن تُرَد عليهم منكم من سيئاتكم أن تُعذَّبوا عليها، وكانوا فيما أحل الله لهم من الدنيا أزهد منكم فيما حرَّم الله عليكم منها. ما لي أسمع حسيسًا، ولا أرى أنيسًا؟ ذهب الناس وبقي النسناس. لو تكاشفتم ما تدافنتم. تهادَيتم الأطباق ولم تتهادَوا النصائح. قال ابن الخطاب: رحِمَ الله امرأً أهدى إلينا مساوينا. أعِدُّوا الجواب فإنكم مسئولون. المؤمن لم يأخذ دينه عن رأيه، ولكن أخذه من قِبَل ربه. إن هذا الحق قد جهِد أهله وحال بينهم وبين شهواتهم، وما يصبر عليه إلا من عرف فضله ورجا عاقبته؛ فمن حمِد الدنيا ذمَّ الآخرة، وليس يكره لقاءَ الله إلا مُقِيم على سخطه. يا ابن آدم، الإيمان ليس بالتحلِّي ولا بالتمنِّي، ولكنه ما وقَر في القلب وصدَّقه العمل.

وكان إذا قرأ أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ، قال: عمَّ ألهاكم؟ عن دار الخلود، وجَنَّة لا تبيد. هذا، والله فضَح القوم، وهتَك الستر، وأبدى العُوار. تُنفِق مِثل دينك في شهواتك سَرفًا، وتمنع في حق الله درهمًا؟ ستَعلَم يا لُكَع. الناس ثلاثة؛ مؤمن، وكافر، ومنافق؛ فأما المؤمن فقد ألجمه الخوف، وقوَّمه ذِكر العرض؛ وأما الكافر فقد قمعه السيف، وشرَّده الخوف، فأذعن بالجِزية، وسمح بالضريبة؛ وأما المُنافق ففي الحُجرات والطُّرقات، يُسرُّون غير ما يُعلنون، ويُضمِرون غير ما يُظهرون؛ فاعتبروا إنكارهم ربَّهم بأعمالهم الخبيثة. وَيلَك، قتلتَ وليَّه ثم تتمنَّى عليه جَنَّته؟

وكان يقول: رحِمَ الله رجلًا خلا بكتاب الله، فعرَض عليه نفسه؛ فإن وافَقه حمِد ربه وسأله الزيادة من فضله، وإن خالَفه اعتتب وأناب، وراجَع من قريب. رحِمَ الله رجلًا وعظ أخاه وأهله فقال: يا أهلي، صَلاتَكم صَلاتَكم، زكاتَكم زكاتَكم، جيرانَكم جيرانَكم، إخوانَكم إخوانَكم، مساكينَكم مساكينَكم، لعل الله يرحمكم؛ فإن الله تبارك وتعالى أثنى على عبدٍ من عِباده فقال: وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا. يا ابن آدم، كيف تكون مُسلِمًا ولم يَسلَم منك جارك؟ وكيف تكون مؤمنًا ولم يأمَنْك الناس؟

وكان يقول: لا يستحقُّ أحدٌ حقيقة الإيمان حتى لا يعيب الناس بعيب هو فيه، ولا يأمر بإصلاح عيوبهم حتى يبدأ بإصلاح ذلك من نفسه؛ فإنه إذا فعل ذلك لم يُصلِح عيبًا إلا وجد في نفسه عيبًا آخر ينبغي له أن يُصلِحه؛ فإذا فعل ذلك شُغِل بخاصة نفسه عن عيب غيره. وإنك ناظر إلى عملك بوزن خيره وشره، فلا تَحقِرنَّ شيئًا من الخير وإن صَغُر؛ فإنك إذا رأيته سرَّك مكانه، ولا تحقِرنَّ شيئًا من الشر وإن صَغُر؛ فإنك إذا رأيته ساءك مكانه.

وكان يقول: رحِمَ الله عبدًا كسب طيبًا، وأنفق قصدًا، وقدَّم فضلًا. وجِّهوا هذه الفضول حيث وجَّهها الله، وضعوها حيث أمر الله؛ فإنَّ من كان قبلكم كانوا يأخذون من الدنيا بَلاغهم، ويؤثِرون بالفضل. ألا إن هذا الموت قد أضرَّ بالدنيا ففضحها؟ فلا والله ما وُجِد ذو لُب فيها فرِحًا؛ فإيَّاكم وهذه السُّبل المتفرِّقة التي جِماعها الضلالة، وميعادها النار. أدركت من صدر هذه الأمة قومًا كانوا إذا جنَّهم الليل فقيامٌ على أطرافهم، يفترشون خدودهم، تجري دموعهم على خدودهم، يُناجون مولاهم في فِكاك رِقابهم، إذا عمِلوا الحسنة سرَّتهم وسألوا الله أن يتقبَّلها منهم، وإذا عملوا سيئة ساءتهم، وسألوا الله أن يغفرها لهم. يا ابن آدم، إن كان لا يُغْنيك ما يكفيك، فليس ها هنا شيءٌ يُغْنيك؛ وإن كان يُغْنيك ما يكفيك، فالقليل من الدنيا يكفيك. يا ابن آدم، لا تعمل شيئًا من الحق رياءً، ولا تتركه حياءً.

وكان يقول: إن العلماء كانوا قد استغنَوا بعِلمهم عن أهل الدنيا، وكانوا يقضون بعلمهم على أهل الدنيا ما لا يقضي أهل الدنيا بدنياهم فيها. وكان أهل الدنيا يبذلون دنياهم لأهل العلم رغبةً في عِلمهم، فأصبح اليوم أهل العلم يبذلون علمهم لأهل الدنيا رغبةً في دنياهم؛ فرغِب أهل الدنيا بدنياهم عنهم، وزهِدوا في عِلمهم لِما رأوا من سوء مَوضعه عندهم.

وكان يقول: لا أذهب إلى من يُواري عني غِناه، ويُبدي لي فقره، ويُغلِق دوني بابه، ويمنعني ما عنده؛ وأدَع من يفتح لي بابه، ويُبدي لي غناه، ويدعوني إلى ما عنده.

وكان يقول: يا ابن آدم، لا غِنى بك عن نصيبك من الدنيا، وأنت إلى نصيبك من الآخرة أفقر، مؤمنٌ مُهتم، وعِلجٌ أغتَم، وأعرابي لا فِقه له، ومُنافقٌ مكذِّب، ودنياوي مُترَف، نعَق بهم ناعق فاتَّبعوه، فَراشُ نار، وذِبَّان طمَع. والذي نفس الحسن بيده ما أصبح في هذه القرية مؤمنٌ إلا أصبح مهمومًا رزينًا، وليس لمؤمنٍ راحةٌ دون لقاء الله. الناس ما داموا في عافيةٍ مستورون، فإذا نزل بهم بَلاءٌ صاروا إلى حقائقهم؛ فصار المؤمن إلى إيمانه، والمنافق إلى نفاقه. أيْ قوم، إن نعمة الله عليكم أفضل من أعمالكم، فسارِعوا إلى ربكم؛ فإنه ليس لمؤمنٍ راحةٌ دون الجنة، ولا يزال العبد بخيرٍ ما كان له واعظ من نفسه، وكانت المحاسبة من همِّه.

وقال الحسن في يوم فِطر، وقد رأى الناس وهيئاتهم: إن الله تبارك وتعالى جعل رمضان مِضمارًا لخلقه يستبقون فيه بطاعته إلى مرضاته، فسبق أقوام ففازوا، وتخلَّف آخرون فخابوا؛ فالعَجب من الضاحك اللاعب في اليوم الذي يفوز فيه المُحسِنون، ويخسر فيه المُبطِلون. أما والله لو أن كُشِف الغطاء لشُغِل مُحسِن بإحسانه، ومُسيء بإساءته، عن ترجيل شعر، أو تجديد ثوب.

(٢) عِظات لعمر بن الخطاب

وحدَّث عن عمر بن الخطاب، رضي الله تعالى عنه، أنه قال: الناس طالبان؛ طالبٌ يطلب الدنيا فارفضوها في نحره؛ فإنه ربما أدرك الذي طلب منها فهلك بما أصاب منها، وربما فاته الذي طلب منها فهلك بما فاته منها؛ وطالبٌ يطلب الآخرة، فإذا رأيتم طالب الآخرة فنافِسوه.

وحدَّث عن عمر بن الخطاب، رضي الله تعالى عنه، أنه قال: يا أيها الناس، إنه أتى عليَّ حينٌ وأنا أحسب أن من قرأ القرآن أنه إنما يريد به الله وما عنده، ألا وقد خُيِّل إليَّ أن أقوامًا يقرءون القرآن يريدون به ما عند الناس، ألا فأريدوا الله بقراءتكم، وأريدوه بأعمالكم؛ فإنا كنا نعرفكم إذا الوحي ينزل، وإذا النبي بين أظهُرنا؛ فقد رُفع الوحي وذهب النبي ؛ فإنما أعرفكم بما أقول لكم. ألا فمن أظهر لنا خيرًا ظننَّا به خيرًا وأثنَينا به عليه، ومن أظهر لنا شرًّا ظننَّا به شرًّا وأبغضناه عليه. اقدَعوا هذه النفوس عن شهواتها فإنها طُلَعة؛ فإنكم إلا تقدعوها تنزع بكم إلى شر غاية. إن هذا الحق ثقيلٌ مرئ، وإن الباطل خفيف وبئ. وتركُ الخطيئة خيرٌ من معالجة التوبة. ورُبَّ نظرةٍ زرعت شهوة، وشهوة ساعة أورثت حزنًا طويلًا.

وكتب الحسن إلى عمر بن عبد العزيز: أما بعد، فكأنَّك بالدنيا لم تكُن، وبالآخرة لم تزَل.

وقال أبو حازمٍ الأعرج: وجدت الدنيا شيئَين؛ شيئًا هو لي لن أعجَله دون أجله ولو طلبتُه بقوة السموات والأرض، وشيئًا هو لغيري لم أنَلْه فيما مضى ولا أناله فيما بقي، يُمنَع الذي لي كما يُمنَع الذي لغيري مني؛ ففي أي هذين أفني عمري وأهلك نفسي؟

ودخل على بعض ملوك بني مروان فقال: يا أبا حازم، ما المَخرج مما نحن فيه؟ قال: تنظر إلى ما عندك فلا تضعه إلا في حقه، وما ليس عندك فلا تأخذه إلا بحقه. قال: ومن يُطِيق ذلك يا أبا حازم؟ قال: فمن أجل ذلك مُلئت جهنم من الجِنَّة والناس أجمعين. قال: ما مالك؟ قال: مالان. قال: ما هما؟ قال: الثقة بما عند الله، واليأس مما في أيدي الناس. قال: ارفع حوائجك إلينا. قال: هيهات، رفعتها إلى من لا تُختزَل الحوائج دونه؛ فإن أعطاني منها شيئًا قبِلت، وإن زوى عني شيئًا رضِيت.

وقال الفُضَيل بن عِياض: يا ابن آدم، إنما يَفضُلك الغنيُّ بيومَين؛ أمس قد خلا، وغدٌ لم يأتِ؛ فإن صبرت يومك أحمدت أمرك وقوِيت على غدك، وإن جزعت يومك أذممت أمرك وضعفت عن غدك. وإن الصبر يُورِث البُرء، وإن الجَزع يُورِث السقم؛ وبالسقم يكون الموت، وبالبرء تكون الحياة.

وقال الحسن: أبا فلان، أترضى هذه الحال التي أنت عليها للموت إذا نزل بك؟ قال: لا. قال: أفتحدِّث نفسك بالانتقال عنها إلى حالٍ ترضاها للموت إذا نزل بك؟ قال: حديثًا بغير حقيقة. قال: أفبعد الموت دار فيها مُستعتَب؟ قال: لا. قال: فهل رأيت عاقلًا رضِي لنفسه بمِثل الذي رضِيتَ به لنفسك؟

(٣) كلامٌ منسوب لسيدنا عيسى

قال عيسى بن مريم صلوات الله على نبينا وعليه: «ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، الذين نظروا إلى باطن الدنيا حين نظر الناس إلى ظاهرها، وإلى آجل الدنيا حين نظر الناس إلى عاجلها، فأماتوا منها ما خشوا أن يُميت قلوبهم، وتركوا منها ما علِموا أنْ سيتركهم.» ورأوه يخرج من بيت مُومِسة، فقيل له: يا رُوح الله، ما تصنع عند هذه؟ قال: إنما يأتي الطبيب المرضى. وقال حين مرَّ ببعض الخلق فشتموه، ثم مر بآخرين فشتموه، فكلما قالوا شرًّا قال خيرًا، فقال له رجل من الحواريِّين: كلما زادوك شرًّا زِدتهم خيرًا حتى كأنك إنما تُغْريهم بنفسك، وتحثُّهم على شتمك! قال: كل إنسان يُعطي مما عنده. وقال: وَيلَكم يا عبيد الدنيا، كيف تُخالف فُروعكم أصولكم، وعقولكم أهواءكم؟ قولكم شفاء يُبرئ الداء، وعَملكم داءٌ لا يَقبَل الدواء. ولستم كالكَرمة التي حبر ورقُها، وطاب ثمرها، وسهُل مُرتقاها، بل أنتم كالثمرة التي قلَّ ورقها، وكثُر شوكها، وصعُب مُرتقاها. وَيلَكم يا عبيد الدنيا، جعلتم العمل تحت أقدامكم من شاء أخذه، وجعلتم الدنيا فوق رءوسكم لا يُستطاع تناولها. لا عبيدٌ أتقِياء، ولا أحرارٌ كِرام. وَيلَكم أُجراءَ السوء، الأجرَ تأخذون، والعملَ تُفسِدون. سوف تلقَون ما تَحذَرون. يوشك رب العمل أن ينظر في عمله الذي أفسدتم، وفي أجره الذي أخذتم. وَيلَكم غُرَماء السوء، تبدءون قبل قضاء الدَّين بالنوافل، تطَّوعون، وما أُمِرتم به لا تؤدُّون، إن رب الدَّين لا يقبل الهدية حتى يُقضى دينه.

وكان أبو الدَّرداء يقول: أقرَبُ ما يكون العبد من غضب الله إذا غضِب، واحذر أن تظلم من لا ناصر له إلا الله. وقال وَزرٌ العبد:

لَعَمرُ أبي المملوكُ ما عاشَ إنَّه
وإنْ أعجَبَته نَفْسُه لَذَلِيلُ
يرى الناسَ أنصارًا عليه وما له
من الناسِ إلا ناصِرُونَ قليلُ

وقال شيخ من أهل البادية: المعرِّض بالناس اتَّقى صاحبه ولم يتَّقِ ربه.

وكان بكر بن عبد الله يقول: أطفِئوا نار الغضب بذِكر نار جهنم. وقال: من كان له من نفسه واعظٌ عارَضه ساعةَ الغفلة، وحينَ الحميَّة.

وقال علي رضي الله تعالى عنه للأشتر: انظر في وجهي. حين جرى بينه وبين الأشعث بن قيس ما جرى.

وكانت العجم تقول: إذا غضِب الرَّجل فليَستلقِ، وإذا أعيا فليرفع رِجلَيه.

وقال أبو الحسن: كان لرجل من النُّسَّاك شاة، وكان مُعجَبًا بها، فجاء يومًا فوجدها على ثلاث قوائم، فقال: من صنع هذا بالشاة؟ قال غلامه: أنا. قال: ولِمَ؟ قال: أردت أن أغمَّك. قال: لا جَرَم، لأغُمنَّ الذي أمرك بغمِّي، اذهب فأنت حُر.

سعيد بن عامر، عن محمد بن عمرو بن علقمة قال: سمعت عمر بن عبد العزيز يُخاطب الناس وهو يقول: ما أنعَمَ الله على عبدٍ نعمةً فانتزعها منه فعاضه من ذلك الصبر إلا كان ما عاضَه اللهُ أفضلَ ممَّا انتزع منه. ثم قرأ: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ.

أخبرنا أبو الحسن علي بن محمد عن أصحابه، قال: حضرتْ عمرَو بن عُبيد الوفاةُ فقال لعديله: نزل بي الموت ولم أتأهَّب له، اللهم إنك تَعلَم أنه لم يُسنَح لي أمران لك في أحدهما رضًا ولي في الآخر هوًى إلا آثرت رِضاك على هواي، فاغفر لي.

ولما خبَّر أبو حازمٍ سليمان بن عبد الملك بوعيد الله للمُذنِبين، قال: فأين رحمة الله؟ قال أبو حازم: قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ.

قالوا: وخرج عثمان بن عفان، رضي الله تعالى عنه، من داره، فرأى في دهليزه أعرابيًّا في بَتٍّ، أشغى، غائر العينَين، مُشرِف الحاجبَين، فقال: يا أعرابي، أين ربك؟ قال: بالمِرصاد.

وكان الأعرابي عامرَ بن عبد قيس، وكان ابن عامر سيَّره إليه.

قال: وغدا أعرابي من طيِّئ مع امرأة له، فاحتلبا لبنًا ثم قعدا يتجمعان، فقالت له امرأته: أنحن أنعَمُ عَيشًا أم بنو مروان؟ قال: هم أطيَبُ طعامًا منَّا، ونحن أردأ كُسوةً منهم؛ وهم أنعم منا نهارًا، ونحن أظهر منهم ليلًا.

قال: وعَظ عمر بن الخطاب رجلًا فقال: لا يُلهِك الناس عن نفسك؛ فإن الأمر يصير إليك دونهم. ولا تقطع النهار سادرًا؛ فإنه محفوظ عليك ما عمِلت. وإذا أسأت فأحسن؛ فإني لم أرَ شيئًا أشدَّ طلبًا ولا أسرع درَكًا من حسنةٍ حديثة لذنبٍ قديم.

قال: وكان بلال بن مسعود يقول: زاهِدُكم راغب، ومُجتهدكم مقصِّر، وعالِمكم جاهل، وجاهلكم مُقتِر.

مَسلمة بن مُحارب قال: قال عامر بن عبد قيس: الدنيا والِدة للموت، ناقضة للمُبرَم، مُرتجِعة للعطيَّة، وكل من فيها يجري إلى ما لا يدري، وكل مستقر فيها غير راضٍ بها، وذلك شهيد بأنها ليست بدار قرار.

قال الحسن: من أيقن بالخَلَف جاد بالعطيَّة.

وقال أسماء بن خارجة: إذا قَدُمت المودَّة سَمُج الثناء.

وقال عمر بن عبد العزيز لمحمد بن كعب القُرَظي: عِظْني. قال: لا أرضى نفسي لك، إني لَأصلِّي بين الغني والفقير فأميل على الفقير، وأوسِّع على الغني.

وقال الحسن: ما أطال عبدٌ الأمل إلا أساء العمل.

قال: وكان أبو بكر رضي الله عنه إذا قيل له مات فلان، قال: لا إله إلا الله. وكان عثمان يقول: فلا إله إلا الله. وكان أبو بكر رضي الله تعالى عنه كثيرًا ما يُنشد:

لا تَزالُ تَنْعى مَيِّتًا حتى تَكُونَه
وقد يَرجُو الفتى الرَّجا فيَمُوتُ دُونَه

وركِب سليمان بن عبد الملك يومًا في زيٍّ عجيب، فنظرت إليه جارية فقالت: إنك لمعنيٌّ ببَيتَي الشاعر. قال: وما هما؟ فأنشدته:

أنتَ نِعْمَ المَتاعُ لو كنتَ تَبْقى
غيرَ أنْ لا بَقاءَ للإنسانِ
ليس فيما بَدا لنا منك عَيبٌ
كان في الناسِ غيرَ أنَّك فانِ

قال: وَيلكِ، نعَيتِ إليَّ نفسي؟

قال: وصام رجلٌ سبعين سنة، ثم دعا الله في حاجة لم يستجب له، فرجع إلى نفسه فقال: منكِ أُتيت. فكان اعترافه أفضل من صومه. وقال: من تذكَّر قدرة الله لم يستعمل قدرته في ظلم عباده.

وقال الحسن: إذا سرَّك أن تنظر إلى الدنيا بعدك فانظر إليها بعد غيرك. وكان الحسن يقول: ليس الإيمان بالتمنِّي ولا بالتحلِّي، ولكن ما وقر في القلوب وصدَّقه العمل.

ومات ذر بن أبي ذر الهَمْداني من بني مُرهِبة — وهو ذر بن عمر بن ذر — فوقف أبوه على قبره فقال: يا ذر، شغلني الحزن لك عن الحزن عليك. ثم قال:

اللهم إنك وعدتني بالصبر على ذرٍّ صلواتِك ورحمتَك. اللهم وقد وهبتَ ما جعلت لي من أجر على ذر لذر، فلا تُعرِّفه قبيحًا من عمله. اللهم وقد وهبتَ له إساءته إليَّ فهَبْ لي إساءته إلى نفسه؛ فإنك أجوَد وأكرم. فلما انصرف عنه التفت إلى قبره فقال: يا ذر، قد انصرفنا وتركناك، ولو أقمنا ما نفعناك.

سُحَيم بن حفص قال: قال هانئ بن قبيصة لحُرقة ابنة النُّعمان، ورآها تبكي: ما لكِ تبكين؟ قالت: رأيت لأهلك غَضارة، ولم تمتلئ دارٌ قط فرحًا إلا امتلأت حزنًا.

ونظرت امرأةٌ أعرابية إلى امرأةٍ حولها عشرةٌ من بنيها كأنهم الصقور، فقالت: لقد ولدت أمُّكم حزنًا طويلًا.

وقال النبي لأزواجه: «أسرَعُكنَّ لَحاقًا بي أطوَلُكنَّ يدًا.» فكانت عائشة تقول: أنا تلك أطولكن يدًا. فكانت زينب بنت جحش؛ وذلك أنها كانت امرأةً كثيرة الصدقة، وكانت صَناعًا تصنع بيدها وتبيعه وتتصدق به.

قال الشاعر:

فما إنْ كانَ أكثَرَهم سَوامًا
ولكنْ كانَ أطوَلَهم ذِراعا

كان الحسن يقول: ما أنعم الله على عبدٍ نعمة إلا وعليه فيها تَبِعة، إلا ما كان من نعمته لسليمان على نبينا وعليه السلام؛ فإن الله عز وجل قال عزَّ ذِكره: هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ.

وباع عبد الله بن عُتبة بن مسعود أرضًا بثمانين ألفًا، فقيل له: لو اتَّخذت لولدك من هذا المال ذُخرًا. قال: أنا أجعل هذا المال ذخرًا لي عند الله، وأجعل الله ذُخرًا لولدي. وقسَم المال.

وقال رجل: صحِبت الربيع بن خيثم سنتَين، فما كلَّمني إلا كلمتَين؛ قال لي مرةً: أمُّك حيَّة؟ وقال لي مرةً أخرى: كم في بني تميم من مسجد؟ وقال أبو فَروة: كان طارقٌ صاحب شُرَط خالد بن عبد الله القَسري مرَّ بابن شُبرمة، وطارق في موكبه، فقال ابن شُبرمة:

أراها وإنْ كانت تُحَبُّ فإنَّها
سَحابةُ صَيفٍ عن قريبٍ تَقشَّعُ

اللهم لي ديني ولهم دنياهم. فاستُعمل ابن شُبرمة على القضاء بعد ذلك، فقال ابنه: أتذكُر قولك يوم مرَّ طارق في موكبه؟ فقال: يا بُني، إنهم يجدون مِثل أبيك، ولا يجد أبوك مِثلهم. يا بُني، إن أباك أكل من حَلوائهم، وحطَّ في أهوائهم.

قال الحسن: من خاف اللهَ أخاف منه كلَّ شيء، ومن خاف الناسَ أخافه اللهُ من كل شيء. وقال الحسن: ما أُعطيَ رجل من الدنيا شيئًا إلا قيل له: خُذه ومِثلَه من الحرص.

قال: ومر مروان بن الحكم في العام الذي بُويع فيه بزُرارة بن جُزَي الكلابي — وهم على ما لهم — فقال: كيف أنتم آلَ جُزي؟ قالوا: بخير، زرَعَنا الله فأحسنَ زرْعَنا، وحصَدَنا فأحسنَ حصادَنا.

وقال الحسن: ابن آدم، إنما أنت عدد، فإذا مضى يوم فقد مضى بعضك. مَسلمة قال: وقال الحسن: ابنَ آدم، إن كان يُغْنيك من الدنيا ما يكفيك فأدنى ما فيها يُغْنيك، وإن كان لا يُغْنيك منها ما يكفيك فليس فيها شيءٌ يُغْنيك. قال: نزل الموت بفتًى كان فيه رمق، فرفع رأسه فإذا أبواه يبكيان عند رأسه، فقال: ما لكما تبكيان؟ قالوا: تخوفًا عليك من الذي كان منك من إسرافك على نفسك. فقال: لا تبكيا؛ فوالله ما يسرُّني أن الذي بيد الله بأيديكما.

أبو الحسن، عن علي بن عبد الله القرشي قال، قال قتادة: يُعطي الله العبد على نية الآخرة ما شاء من الدنيا والآخرة، ولا يُعطي على نية الدنيا إلا الدنيا.

عوانة قال، قال الحسن: قدِم علينا بِشر بن مروان أخو الخليفة وأمير المِصرَين وأشبُّ الناس، فأقام عندنا أربعين يومًا، ثم طُعِن في قدمه فمات، فأخرجناه إلى قبره، فلما صِرنا به إلى الجبَّانة فإذا نحن بأربعة سودان يحملون صاحبًا لهم إلى قبره، فوضعنا السرير فصلَّينا عليه، ووضعوا صاحبهم فصلَّوا عليه، ثم حملنا بِشرًا إلى قبره، ودفنَّا بِشرًا، ودفنوا صاحبهم، ثم انصرفوا وانصرفنا، ثم التفتُّ التفاتةً فلم أعرف قبر بِشر من قبر الحبشي، فلم أرَ شيئًا قطُّ كان أعجبَ منه.

وقال عبد الله بن الزِّبَعرى:

والعَطِيَّاتُ خِساسٌ بيْنَنا
وسَواءٌ قبرُ مُثْرٍ ومُقِلْ

وتقول الحكماء: ثلاثة أشياء يستوي فيها الملوك والسُّوقة، والعِلية والسِّفلة؛ الموت، والطَّلْق، والنَّزْع.

وقال الهَيثم بن عدي عن رجاله: بَيْنا حُذيفة بن اليمان وسَلمان الفارسي يتذاكران أعاجيب الزمان، وتغيُّر الأيام — وهما في عَرصة إيوان كسرى — وكان أعرابي من غامدٍ يرعى شُوَيهات له نهارًا، فإذا كان الليل صيَّرهن إلى داخل العرصة، وفي العرصة سرير رخام كان كسرى ربما جلس عليه، فصعدت غُنَيمات الغامدي على سرير كسرى، فقال سلمان: ومن أعجب ما تَذاكرنا صعودُ غُنَيمات الغامدي على سرير كسرى.

قال: لما انصرف علي بن أبي طالب، رضي الله تعالى عنه، من صِفِّين مرَّ بمقابر، فقال: السلام عليكم أهلَ الديار المُوحِشة، والمحالِّ المُقفِرة، من المؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، أنتم لنا سلفٌ فارط، ونحن لكن تبع، وبكم عما قليلٍ لاحقون. اللهم اغفر لنا ولهم، وتجاوز بعفوك عنا وعنهم. الحمد لله الذي جعل الأرض كِفاتًا، أحياءً وأمواتًا، والحمد لله الذي منها خلقكم، وعليها يحشركم، ومنها يبعثكم. طُوبى لمن ذكر المعاد، وأعدَّ للحساب، وقنَع بالكفاف.

وقال عمر رضي الله تعالى عنه: استغزِروا العُيون بالتذكُّر.

وقال الشاعر:

سَمِعنَ بِهَيجا أوجَفَت فذَكَرنَه
ولا يَبعَثُ الأحزانَ مِثلُ التَّذكُّرِ

وقال أعرابي:

لا تُشرِفنَّ يَفاعًا إنَّه طَرِبٌ
ولا تُغَنِّ إذا ما كنتَ مُشتاقا

قال ابن الأعرابي: سمعت شيخًا أعرابيًّا يقول: إني لأُسَر بالموت، ولا دَين ولا بنات.

علي بن الحسن قال، قال صالحٌ المُرِّي: دخلت دار المورياني، فاستفتحت ثلاث آيات من كتاب الله استخرجتها حين ذكرت الحال، فيها قوله: فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا، وقوله: وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ، وقوله: فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا. قال: فخرج إليَّ أسود من ناحية الدار فقال: يا أبا بِشر، هذا سخط المخلوق، فكيف سخط الخالق؟

قال: وأصاب ناسًا مطرٌ شديد وريح وظُلمة، ورعد وبرق، فقال رجل من النُّسَّاك: اللهم إنك قد أريتنا قدرتك، فأرِنا رحمتك.

عوانة قال، قال عبد الله بن عمر: فاز عمر بن أبي ربيعة بالدنيا والآخرة؛ غزا البحر فأحرقوا سفينته فاحترق.

قال: وطلَّق أبو الخندق امرأته أم الخندق، فقالت: أتطلِّقني بعد طول الصُّحبة؟ فقال: ما دهاك عندي غيره. وكان أبو إسحاق يقول: ما ألأمَها من كلمة!

قال: مرَّ عمر بن الخطاب بقوم يتمنَّون، فلما رأوه سكتوا، قال: فيمَ كنتم؟ قالوا: كنا نتمنَّى. قال: فتمنَّوا وأنا أتمنَّى معكم. قالوا: فتمنَّ. قال: أتمنَّى رجالًا مِلء هذا البيت مِثل أبي عُبيدة بن الجرَّاح، وسالم مولى أبي حُذيفة،٣ إن سالمًا كان شديد الحب لله، لو لم يخَف الله ما عصاه. وقال رسول الله : «لكل أُمة أمين، وأمين هذه الأمَّة أبو عُبيدة بن الجرَّاح.»

شعبة، عن عمر بن مرة قال: قدِم وفدٌ من أهل اليمن على أبي بكر رضي الله تعالى عنه، فقرأ عليهم القرآن فبكَوا، فقال أبو بكر: هكذا كنَّا حتى قست القلوب. وقال أبو بكر: طُوبى لمن مات في نأنأة الإسلام.

وقال سعد بن مالك، أو معاذ: ما دخلت في صلاة فعرفت مَن عن يميني ولا من عن شمالي، ولا شيَّعت جنازة قطُّ إلا حدَّثت نفسي بما يُقال له وما يقول، وما سمعت رسول الله قال شيئًا قط إلا علِمت أنه كما قال.

قال أبو الدرداء:٤ أضحكني ثلاث، وأبكاني ثلاث؛ أضحكني مؤمِّل الدنيا والموتُ يطلبه، وغافل لا يُغفَل عنه، وضاحكٌ مِلءَ فيه ولا يدري أساخطٌ ربُّه أم راضٍ؛ وأبكاني هَول المَطلع، وانقطاع العمل، وموقفي بين يدَي الله ولا يُدرى أيؤمَر بي إلى الجنة أم إلى النار.

سُحيم بن حفص قال: رأى إياس بن قتادة العَبشمي شيبةَ لحيته فقال: أرى الموت يطلبني، وأراني لا أفوته. أعوذ [بالله] من فُجاءات الأمور، وبَغتات الحوادث. يا بني سعد، إني قد وهبت لكم شبابي، فهَبُوا لي شيبتي. ولزِم بيته، فقال له أهله: إنك تموت هزلًا. فقال: لأن أموت مؤمنًا مهزولًا أحَبُّ إليَّ من أن أموت مُنافقًا سمينًا.

وذكر قومٌ إبليس فلعنوه وتغيَّظوا عليه. وقال أبو حازمٍ الأعرج:٥ وما إبليس؟ لقد عُصي فما ضر، وأُطيعَ فما نفع.
وقال بكر بن عبد الله المُزَني:٦ الدنيا ما مضى منها فحُلم، وما بقي منها فأماني.

ودخل أبو حازمٍ مسجد دمشق، فوسوس إليه الشيطان: إنك قد أحدثت بعد وضوئك. فقال: أوَقدْ بلَغ هذا من نصحك؟ وقال بعض الطِّياب:

عجِبتُ من إبليسَ في كِبْرِه
وخُبثِ ما أظهرَ من نِيَّتِه
تاهَ على آدمَ في سَجدةٍ
وصارَ قَوَّادًا لذُرِّيَّتِه
فأنشدتها مِسمع بن عاصم فقال: وأبيك لقد ذهب مَذهب الفضل بن مسلم. وقال مطرِّف بن عبد الله بن الشِّخِّير:٧ لا تنظروا إلى خَفْض عيشهم، ولِين ثيابهم، ولكن انظروا إلى سرعة ظعنهم، وسوء مُنقلَبهم.

قال أبو ذر: لقد أصبحت وإنَّ الفقر أحَبُّ إليَّ من الغِنى، والسقم أحب إليَّ من الصحة، والموت أحب إليَّ من الحياة. قال هشم: لكني لا أقول ذلك.

وقال داود النبي: اللهم لا صحة تُطغيني، ولا مرض يُضنيني، ولكن بين ذلك.

وقال الحسن: إن قومًا جعلوا تواضُعهم في ثيابهم، وكِبْرهم في صدورهم، حتى لَصاحب المِدرعة بمِدرعته أشَدُّ فرحًا من صاحب المِطرف بمِطرفه.

وقال داود النبي: إن لله سَطوات ونَقمات؛ فإذا رأيتموها فداوُوا قرحكم بالدعاء؛ فإن الله تبارك وتعالى يقول: لولا رجالٌ خُشَّع، وصِبيانٌ رُضَّع، وبهائم رُتَّع، لصببتُ عليكم العذاب صبًّا.

قال: اشترى مُحرز بن صفوان بدنةً بتسعة دنانير، فقيل له: أتشتري بدنةً بتسعة دنانير وليس عندك غيرها؟ قال: سمعت الله تبارك وتعالى يقول: لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ.

وقيل لمحمد بن سوقة: أتحجُّ وعليك دَين؟ قال: هو أقضى للدَّين.

وقال: ولقي ناسك ناسكًا ومعه خُف، فقال: ما تصنع بهذا؟ قال: أعدُّه للشتاء. وكانوا يستحيون من هذا.

قال أبو ذر: تَخضَمون ونَقضَم، والمَوعد الله!

قال الزبير: يكفينا من خَضْمكم القَضم، ومن نصِّكم العَنَق.

وقال أيمن بن خُريم:

رجَوا بالشِّقاقِ الأكلَ خَضْمًا فقد رَضُوا
أخيرًا منَ اكْلِ الخَضْمِ أنْ يأكُلوا القَضْما

وقال عمرو لمعاوية: من أصبَرُ الناس؟ قال: من كان رأيه رادًّا لهواه.

وتواصفوا حال الزهد بحضرة الزُّهري، فقال الزهري: الزاهد من لم يغلب الحرام صبره، والحلال شكره.

وذُكِر عند أعرابي رجلٌ بشدة الاجتهاد، وكثرة الصوم، وطول الصلاة، فقال: هذا رجل سوء، وما يظنُّ هذا أن الله يرحمه حتى يُعذِّب نفسه هذا التعذيب؟

وقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه: ما ظنُّك بخالق الكرامة لمن يريد كرامته وهو عليه قادر؟ وما ظنُّك بخالق الهوان لمن يريد هوانه وهو عليه قادر؟

وزعم أبو عمرو الزعفراني قال: كان عمرو بن عُبيد عند حفص بن سالم، فلم يسأله أحد من أهله وحشمه حاجةً إلا قال: لا. فقال عمرو: أقِلَّ من قول لا؛ فإنه ليس في الجنة لا. قال: وقال عمرو: كان رسول الله إذا سُئل ما يجد أعطى، وإذا سُئل ما لا يجد قال: يصنع الله. وقال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: أكثِروا لهنَّ من قول لا؛ فإن نَعَم يُضرِّيهن على المسألة. وإنما يخص عمر بذلك النساء.

قال الحسن: أدركت أقوامًا كانوا من حسناتهم أشفَقَ من أن تُرَد عليهم، منكم من سيئاتكم أن تُعذَّبوا عليها.

قال أبو الدرداء: من يشتري مني عادًا وأموالها بدرهم؟

ودخل علي بن أبي طالب كرَّم الله تعالى وجهه المقابر، فقال: أما المَنازل فقد سُكِنت، وأما الأموال فقد قُسِمت، وأما الأزواج فقد نُكِحت؛ فهذا خبرُ ما عندنا، فما خبر ما عندكم؟ ثم قال: والذي نفسي بيده لو أُذِن لهم في الكلام لأخبروا أن خير الزاد التقوى.

قال أبو سعيد الزاهد: عيَّرَت اليهود عيسى بن مريم بالفقر، فقال: من الغنى أُتِيتم.

وقال آخر: لو لم يُعرَف من شرف الفقر إلا أنك لا ترى أحدًا يعصي الله ليفتقر. وهذا الكلام بعينه مدخول.

وسأل الحجَّاج أعرابيًّا عن أخيه محمد بن يوسف: كيف تركته؟ فقال: تركته عظيمًا سمينًا. قال: ليس عن هذا أسألك. قال: تركته ظلومًا غشومًا. قال: أوَما علِمت أنه أخي؟ قال: أتُراه بك أعزَّ مني بالله؟

وقال بعضهم: نجد في زَبُور داود: من بلَغ السبعين اشتكى من غير عِلَّة.

جعفر بن سليمان قال، قال محمد بن حسَّان النَّبطي: لا تسأل نفسك العام ما أعطتك في العام الماضي.

أبو إسحاق بن المبارك قال: قيل لخالد بن يزيد بن معاوية: ما أقرَبُ شيء؟ قال: الأجل. قيل: فما أبعَدُ شيء؟ قال: الأمل. قيل: فما أوحَشُ شيء؟ قال: الميت. قيل: فما آنَسُ شيء؟ قال: الصاحب المُواتي.

وقال آخر: آنَسُ شيءٍ الموتى.

وقال الآخر: نسِي عامر بن عبد الله بن الزبير عطاءه في المسجد، فقيل له: قد أُخذ. فقال: سبحان الله، وهل يأخذ أحدٌ ما ليس له؟!

جرير بن عبد الحميد، عن عطاء بن السائب، عن عبدة الثقفي قال: لا يشهد عليَّ الليل بنَوم أبدًا، ولا يشهد عليَّ النهار بأكل أبدًا. فبلغ ذلك عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه فعزم عليه، فكان يُفطِر في العيدَين وأيامَ التشريق.

وقال الحسن بن أبي الحسن: يكون الرجل عالِمًا ولا يكون عابدًا، ويكون عابدًا ولا يكون عاقلًا. وكان مُسلم بن بدر عالمًا عابدًا عاقلًا.

وقال عُبادة بن الصامت: من الناس من أُوتيَ علمًا ولم يؤتَ حِلمًا، وشدَّاد بن أوس أُوتيَ عِلمًا وحِلمًا.

قال إبراهيم: كان عمرو بن عُبيد عالمًا عاقلًا عابدًا، وكان ذا بيان وحِلم، وصاحب قرآن.

إبراهيم بن سعد، عن أبي عبد الله القيسي قال، قال أبو الدرداء: لا يَحرز المؤمن من شِرار الناس إلا قبرَه.

وقال عيسى بن مريم: الدنيا لإبليس مَزرعة، وأهلها له حرَّاثون.

عبد الملك بن عُمير، عن قَبيصة بن جابر قال: ما الدنيا في الآخرة إلا كنَفجة الأرنب.

قال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: لولا أن أسير في سبيل الله، وأضع جبهتي لله، وأُجالس أقوامًا ينتقون أحسن الحديث كما يُنتقى أطايب التمر، لم أُبالِ أن أكون قد مِت.

قال عامر بن عبد قيس:٨ ما آسى من العراق إلا على ثلاث؛ ظماء الهواجر، وتجاوُب المؤذنين، وإخوان لي منهم الأسود بن كلثوم.
وقال المؤرِّق العِجلي:٩ ضاحكٌ مُعترف بذنبه، خيرٌ من باكٍ مُدلٍّ على ربه. وقال: خير من العُجب بالطاعة ألا تأتيَ بطاعة.

قالوا: كان الربيع بن خيثم يقول: لا تُطعم إلا صحيحًا، ولا تكسُ إلا جديدًا، ولا تعتق إلا سويًّا.

وقال بعض الملوك لبعض العلماء: أذمم لي الدنيا. فقال: أيها الملك، الآخذة لما تُعطي، المورثة بعد ذلك الندم؛ السالبة ما تكسو، المُعقِبة بعد ذلك الفضوح؛ تسدُّ بالأراذل مكان الأفاضل، وبالعجَزة مكان الحزَمة؛ تجد في كلٍّ من كلٍّ خلفًا، وترضى بكلٍّ من كلٍّ بدلًا؛ تُسكن دار كل قرن قرنًا، وتُطعم سؤر كل قوم قومًا.

وكان سعيد بن أبي العَروبة يُطعِم المساكين السُّكَّر، ويتأول قوله تعالى: وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ.

وكان محمد بن علي إذا رأى مُبتلًى أخفى الاستعاذة، وكان لا يُسمع من داره للسائل: بُورِك فيك، ولا: يا سائل خُذ هذا. وكان يقول: سمُّوهم بأحسنِ أسمائهم.

وتمنَّى قومٌ عند يزيد الرَّقاشي، فقال يزيد: سأتمنَّى كما تمنَّيتم. قالوا: تمنَّ. قال: ليتنا لم نُخلَق، وليتنا إذ خُلِقنا لم نمُت، وليتنا إذ متنا لم نُبعث، وليتنا إذ بُعثنا لم نُحاسَب، وليتنا إذ حُوسبنا لم نُعذَّب، وليتنا إذ عُذِّبنا لم نُخلَّد.

وقال رجل لأُم الدرداء: إني لأجد في قلبي داءً لا أجد له دواءً، وأجد قسوةً شديدة، وأملًا بعيدًا. قالت: اطلع في القبور، واشهد الموتى.

ابن عَون١٠ قال: قلت للشَّعبي: أين كان علقمة١١ من الأسوَد؟١٢ قال: كان الأسود قوَّامًا صوَّامًا، وعلقمة مع البطيء وهو يسبق السريع.

وقيل لغالب بن عبد الله الجَهضمي: إنا نخاف على عينَيك العمى من طول البكاء. قال: هو لهما شهادة.

محمد بن طلحة بن مُضرب، عن محمد بن جحادة قال: لما قُتل الحسين، رضي الله تعالى عنه، أتى قومٌ الربيع بن خيثم، فقالوا: لنستخرجنَّ اليوم منه كلامًا. فقالوا: قُتل الحسين! قال: الله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون. وأتته بُنيَّة له فقالت: يا أبتِ، أذهب ألعب؟ فقال: اذهبي فقولي خيرًا وافعلي خيرًا.

وقال أبو عُبيدة: استقبل عامرَ بن عبد قيس رجلٌ في يوم حلبة. قال: فقال: من سبق يا شيخ؟ قال: المقرَّبون.

علي بن سُليم قال: قيل للربيع بن خيثم: لو أرَحتَ نفسك؟ قال: إراحتَها أريد. إن عُمر كان كيِّسًا.

وقال أبو حازم: ليتَّقِ الله أحدُكم على دينه، كما يتَّقي على نعله.

جعفر بن سليمان الضبعي قال: أتى مطرِّفَ بن عبد الله بن الشِّخير أبي، فجلس مجلس مالك بن دينار وقد قام، فقال أصحابه: لو تكلَّمت؟ قال: هذا ظاهرٌ حسن، إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا.

وقال رجل لآخر وباع منه ضيعةً له: أمَا والله لقد أخذتها ثقيلة المئونة، قليلة المعونة. فقال الآخر: أنت لقد أخذتها بطيئة الاجتماع، سريعة التفرُّق.

واشترى رجل من رجل دارًا فقال لصاحبه: لو صبرت لاشتريت منك الذراع بعشرة دنانير. قال: وأنت لو صبرت لبِعتُك الذراع بدرهم.

ورأى ناسكٌ ناسكًا في المنام فقال له: كيف وجدت الأمر يا أخي؟ قال: وجدنا ما قدَّمنا، وربِحنا ما أنفقنا، وخسِرنا ما خلَّفنا.

وقال بكر بن عبد الله المُزني: اجتهِدوا في العمل؛ فإن قصَّر بكم ضعف فكفُّوا عن المعاصي.

وقال أعرابي: إنه ليقتل الحُبارى جوعًا ظُلمُ الناس بعضهم لبعض.

وقيل لمحمد بن علي: من أشَدُّ الناس زُهدًا؟ قال: من لا يُبالي الدنيا في يد من كانت. وقيل له: من أخسَرُ الناس صفقةً؟ قال: من باع الباقيَ بالفاني. وقيل له: من أعظَمُ الناس قدرًا؟ قال: من لا يرى الدنيا لنفسه قدرًا.

الأصمعي، عن شيخ من بكر بن وائل، أن هانئ بن قَبيصة أتى حُرقة بنت النُّعمان وهي باكية، فقال لها: لعل أحدًا آذاك؟ قالت: لا، ولكن رأيت غَضارة في أهلكم، وقلَّما امتلأت دار سرورًا إلا امتلأت حزنًا.

وقالوا: يهرم ابن آدم وتشبُّ له خَلَّتان؛ الحِرص والأمل.

الأصمعي قال، قال محمد بن واسع:١٣ ما آسى من الدنيا إلا على ثلاث؛ بُلغةٍ من عيشٍ ليس لأحد عليَّ فيها مِنَّة، ولا لله عليَّ فيها تَبِعة؛ وصلاةٍ في جمعٍ أُكفى سهوَها، ويُدَّخر لي أجرها؛ وأخٍ في الله إذا ما اعوججت قوَّمني.
وقال آخر: ما آسى من العراق إلا على ثلاث؛ ليل الحريق، ورطب الشكر، وحديث ابن أبي بَكرة.١٤
وقال آخر: إذا سمعت حديث أبي نضرة،١٥ وكلام ابن أبي بكرة، فكأنك مع لسان الحُمَّرة.١٦
وقال أبو يعقوب الخزيمي الأعور: تلقَّاني مع طلوع الشمس سعيد بن وهب،١٧ فقلت: أين تريد؟ قال: أدور على المجالس؛ فلعلِّي أسمع حديثًا حسنًا. ثم لم أجاوز بعيدًا حتى تلقَّاني أنس بن أبي شيخ،١٨ فقلت له: أين تريد؟ قال: عندي حديثٌ حسن، فأنا أطلب له إنسانًا حسن الفهم حسن الاستماع. قلت: حدِّثني؛ فأنا كذاك. قال: أنت حسن الفهم رديء الاستماع، وما أرى لهذا الحديث إلا إسماعيل بن غَزوان.

هشامٌ قال: أخبرني رجل من أهل البصرة قال: وُلد للحسن بن أبي الحسن غلام، فقال له بعض جُلسائه: بارَك الله لك في هِبَته، وزادك في أحسن نعمته. فقال الحسن: الحمد لله على كل حسنة، وأسأل الله الزيادة في كل نعمة، ولا مرحبًا بمن إن كنت عائلًا أنصبَني، وإن كنت غنيًّا أذهلَني، لا أرضى بسعيي له سعيًا، ولا بكدِّي له في الحياة كدًّا، حتى أُشفق عليه من الفاقة بعد وفاتي، وأنا بحالٍ لا يصل إليَّ من همِّه حزن، ولا من فرحه سرور.

وقال الحسن للمُغيرة بن مُخارش التميمي: إن مَن خوَّفك حتى تلقى الأمن، خيرٌ لك ممن أمَّنك حتى تَلقى الخوف.

وقال عَون بن عبد الله بن عُتبة بن مسعود: ما أحسنَ الحسنةَ في إثر الحسنة، وما أقبحَ السيئةَ في أثر السيئة!

الحسن قال: ما رأيت يقينًا لا شك فيه، أشبَهَ بشكٍّ لا يقين فيه، من أمرٍ نحن فيه.

وكان الحسن إذا ذكر الحجَّاج قال: كان يتلو كتاب الله على لَخمٍ وجُذام، ويعظ عظة الأزارقة، ويبطش بطش الجبَّارين. وكان يقول: اتقوا الله؛ فإن عند الله حجَّاجِين كثيرًا.

وكان سِنان بن سَلمة بن قيس يقول: اتقوا الله؛ فإن عند الله أيامًا مِثل شوَّال.

قال خالد بن صفوان: بِتُّ ليلتي أتمنَّى كلها، فكسَيت البحر الأخضر بالذهب الأحمر، فإذا الذي يكفيني من ذلك رغيفان وكُوزان وطِمْران.

وكان الحسن يقول: إنكم لا تنالون ما تُحبُّون إلا بترك ما تشتهون، ولا تُدركون ما تؤمِّلون إلا بالصَّبر على ما تكرهون.

ودخل قوم على عوف بن أبي جميلة في مرضه، فأقبلوا يُثنون عليه، فقال: دَعُونا من الثناء، وأمِدُّونا بالدعاء.

وقال أبو حازم: نحن لا نريد أن نموت حتى نتوب، ونحن لا نتوب حتى نموت.

وكان الحسن يقول: يا ابن آدم، نهارك ضيفك فأحسِنْ إليه؛ فإنك إن أحسنت إليه ارتحل بحمدك، وإن أسأت إليه ارتحل بذمِّك، وكذلك ليلك.

وقيل لبعض العلماء: من أسوأ الناس حالًا؟ قال: عبد الله بن عبد الأعلى الشيباني، القائل عند موته: دخلتها جاهلًا، وأقمت فيها جائرًا، وأُخرجت منها كارهًا. يعني الدنيا.

وقيل لآخر: من أسوأ الناس حالًا؟ قال: من قوِيَت شهوته، وبعُدت همَّته، واتَّسعت معرفته، وضاقت مَقدرته.

وقيل لآخر: من شر الناس؟ قال: من لا يُبالي أن يراه الناس مُسيئًا.

وقيل لآخر: من شر الناس؟ قال: القاسي. فقيل له: أيُّما شر؛ الوَقاح، أم الجاهل، أم القاسي؟ قال: القاسي.

وذكر أبو صفوان، عن البطَّال أبي العلاء من بني عمرو بن تميم، قال: قيل له قبل موته: كيف تجدك يا أبا العلاء؟ قال: أجدني مغفورًا لي. قالوا: قل إن شاء الله. قال: قد شاء الله. ثم قال:

أُوصِيكمُ بالجِلَّةِ التِّلادِ
فإنَّما حَوْلَكمُ الأعادي

قال ابن الأعرابي: كان العبَّاس بن زُفَر لا يُكلِّم أحدًا حتى تنبسط الشمس، فإذا انفتل عن مُصلَّاه ضرب الأعناق وقطع الأيدي والأرجُل. وكان جرير بن الخطَفى لا يتكلم حتى تطلع الشمس، فإذا طلعت قذف المُحصَنات. قال: ومرَّت به جنازة فبكى وقال: أحرقتني هذه الجنائز. قيل: فلِمَ تقذف المُحصَنات؟ قال: يبدو لي ولا أصبر. وكان يقول: أنا لا أبتدي، ولكن أعتدي.

الحسن بن الربيع الكندي بإسنادٍ له قال: قال رجل للنبي : دُلَّني على عمل إذا أنا عمِلته أحبَّني الله وأحبَّني الناس. قال: ازهد في الدنيا يُحبَّك الله، وازهد فيما في أيدي الناس يُحبَّك الناس.

قال: وبلغني عن القاسم بن مُحيمرة الهمداني أنه قال: إني لأُغلقُ بابي فما يُجاوزه همِّي.

قال أبو الحسن: وُجد في حجرٍ مكتوب: ابنَ آدم، لو أنَّك رأيت يسير ما بقي من أجلك، لزهِدت في طول ما ترجو من أملك، ولرغِبت في الزيادة في عملك، ولقصَّرت من حِرصك وحِيَلك، وإنما يلقاك غدًا ندمك، وقد زلَّت بك قَدمك، وأسلمك أهلك وحشمك، وتبرَّأ منك القريب، وانصرف عنك الحبيب؛ فلا أنت إلى أهلك بعائد، ولا في عِلمك بزائد.

وقال عيسى بن مريم: تَعمَلون للدنيا وأنتم تُرزَقون فيها بغير العمل، ولا تعملون للآخرة وأنتم لا تُرزَقون فيها إلا بالعمل؟ قال: أوحى الله تبارك تعالى إلى الدنيا: من خدمني فاخدميه، ومن خدمك فاستخدميه. وقال: من هوانِ الدنيا على الله أنه لا يُعصى إلا فيها، ولا يُنال ما عنده إلا بتركها.

ومر عيسى بن مريم بقوم فقال: ما بالهم يبكون؟ فقالوا: على ذنوبهم. قال: اتركوها تُغفر لكم.

وقال زياد بن أبي زياد مولى عيَّاش بن أبي ربيعة: دخلت على عمر بن عبد العزيز، فلما رآني ترجَّل عن مجلسه، فقال: إذا دخل عليك رجل لا ترى لك عليه فضلًا فلا تأخذ عليه شرف المجلس.

وقال الحسن: إن أهل الدنيا وإن دقدقتْ بهم الهماليج، ووطئ الناس أعقابهم، فإن ذُل المعصية في قلوبهم.

قالوا: وكان الحجَّاج يقول إذا خطب: إنا والله ما خُلقنا للفناء، وإنما خُلقنا للبقاء، وإنما نُنقل من دار إلى دار. وهذا من كلام الحسن.

ولما ضرب عبد الله بن علي تلك الأعناق، قال له قائل: هذا والله جَهدُ البلاء! فقال عبد الله: ما هذا وشرطة الحجَّام إلا سواء، وإنما جَهدُ البلاء فقرٌ مُدقِع بعد غِنًى مُوسَع.

وقال آخر: أشد من الخوف الشيءُ الذي يشتدُّ من أجله الخوف.

وقال آخر: أشد من الموت ما يُتمنى له الموت، وخيرٌ من الحياة ما إذا فقدته أبغضت له الحياة.

وقال أهل النار: يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ. قال: إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ. فلما لم يُجابوا إلى الموت قالوا: أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ. وقالوا: ليس في النار عذابٌ أشد على أهله من عِلمهم بأنه ليس لكربهم تنفيس، ولا لضِيقهم ترفيه، ولا لعذابهم غاية؛ ولا في الجنة نعيمٌ أبلغ من عِلمهم أن ذلك المُلْك لا يزول.

قالوا: قارَف الزُّهري١٩ ذنبًا فاستوحش من الناس وهام على وجهه، فقال زيد بن علي: يا زهري، لَقُنوطك من رحمة الله التي وسِعت كل شيء أشَدُّ عليك من ذنبك. فقال الزهري: اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ. ورجع إلى أهله وماله وأصحابه.
قال ابن المُبارَك:٢٠ أفضل الزهد أخفاه.
الأوزاعي،٢١ عن مكحول٢٢ قال: إن كان في الجماعة الفضيلة، فإن في العُزلة السلامة.

إسماعيل عن عيَّاش، عن عبد الله بن دينار قال: قال : إن الله كرِهَ لكم اللعب في الصلاة، والرفث في الصيام، والضحك في المقابر.

وقال أزدشير مرة: احذروا صولة الكريم إذا جاع، واللئيم إذا شبِع.

وقال واصل بن عطاء: المؤمن إذا جاع صبر، وإذا شبِع شكر.

وقيل لعامر بن عبد قيس: ما تقول في الإنسان؟ قال: ما عسى أن أقول فيمن إذا جاع ضرع، وإذا شبِع طغى.

ونظر أعرابي في سفره إلى شيخ قد صحِبه، فرآه يصلِّي فسكن إليه، فلما قال أنا صائم، ارتاب به، وأنشأ يقول:

صلَّى فأعجَبَني وصامَ فرَابَني
عَدِّ القَلُوصَ عن المُصلِّي الصائمِ

وهو الذي يقول:

لم يَخلُقِ اللهُ مسجونًا تُسائِلُه
ما بالُ سِجنِكَ إلَّا قالَ مظلومُ

الثوري، عن حبيب بن أبي ثابت، عن يحيى بن جعدة قال: كان يُقال: اعمل وأنت مُشفِق، ودع العمل وأنت تُحبُّه.

قال: وقيل لرابعة القيسيَّة: هل عمِلتِ عملًا قط تَرَين أنه يُقبَل منك؟ قالت: إن كان شيء فخَوْفي من أن يُرَد عليَّ.

وقال محمد بن كعب القُرَظي لعمر بن عبد العزيز: يا أمير المؤمنين، لا تَنظُرن إلى سلعة قد بارت على من كان قبلك تريد أن تجوز عنك.

الحسن قال: كان مَن قبلكم أرقَّ قلوبًا وأصفق ثيابًا، وأنتم أرَقُّ منهم ثيابًا وأصفق قلوبًا.

عبد الله بن المبارك قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى الجرَّاح بن عبد الله الحَكَمي: إنِ استطعت أن تدع ممَّا أحلَّ الله لك ما يكون حاجزًا بينك وبين ما حرَّم الله عليك فافعل؛ فإنه من استوعب الحلال كلَّه تاقت نفسه إلى الحرام.

وقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه لخالد بن الوليد حين وجَّهه: احرص على الموت تُوهَب لك الحياة.

وقال رجل: أنا أُحبُّ الشهادة. فقال رجل من النُّسَّاك: أحِبَّها إن وقعت عليك، ولا تُحبِبْها حُبَّ من يريد أن يقع عليها.

وقال رجل لداود بن نصير الطائي العابد: أوصِني. فقال: اجعل الدنيا كيَومٍ صُمتَه، واجعل فِطرك الموت؛ فكأنْ قد. والسلام. قال: زِدني. قال: لا يراك الله عند ما نهاك عنه، ولا يفقدك عند ما أمرك به. قال: زِدني. قال: ارضَ باليسير مع سلامة دينك، كما رضِي قوم بالكثير مع هلاك دينهم.

قال رجل ليونس بن عُبيد:٢٣ أتعلم أحدًا يعمل بعمل الحسن؟ قال: والله ما أعرف أحدًا يقول بقوله، فكيف يعمل بمِثل عمله؟ قال: فصِفْه لنا. قال: كان إذا أقبل فكأنما أقبل من دفن حميمه، وإذا جلس فكأنه أسيرٌ قد أُمِر بضرب عنقه، وكان إذا ذُكرت النار عنده فكأنها لم تُخلق إلا له.

وُهَيب بن الورد قال: بَيْنا أنا أدور في السوق إذ أخذ آخذٌ بقفائي فقال لي: يا وُهَيب، اتَّقِ الله في قدرته عليك، واستحي الله في قُربه منك.

وقال عبد الواحد بن زيد: ألا تستحيون من طول ما لا تستحيون؟

الهيثم، قال: كان شيخ من أعراب طيِّئ كثيرَ الدعاء بالمغفرة له، فقيل له في ذلك، فقال: والله إن دعائي بالمغفرة مع قُبح إصراري لَلؤم، وإن تركي الدعاء مع قوة طمعي لَعَجز.

قال أبو بِشر صالحٌ المُرِّي: إن تكُن مصيبتك في أخيك أحدثت لك خشية فنِعْم المصيبة مصيبتك، وإن تكن مصيبتك بأخيك أحدثت لك جزعًا فبئس المصيبة مصيبتك.

وقال عمرو بن عبيد لرجل يعزِّيه: كان أبوك أصلَك، وابنك فرعك، فما بقاء شيء ذهبَ أصله ولم يبقَ فرعه؟

وقال الحسن: إن امرأً ليس بينه وبين آدم إلا أب قد مات لمُعرِق في الموت.

وقالوا: أعظم من الذنب اليأسُ من الرحمة، وأشد من الذنب المماطلةُ بالتوبة.

ابن لَهِيعة، عن سيَّار بن عبد الرحمن قال: قال لي بكير بن الأشج: ما فعل خالك؟ قلت: لزِم بيته. قال: أما لئن فعل لقد لزِم قوم من أهل بدر بيوتهم بعد مقتل عثمان رضي الله تعالى عنه، فما خرجوا منها إلا إلى قبورهم.

وقال الحسن: إن لله تَرائك في خلقه، لولا ذلك لم ينتفع النبيُّون وأهل الانقطاع إلى الله بشيء من أمور الدنيا؛ وهي الأمل، والأجل، والنِّسيان.

وقال مُطرف بن عبد الله لابنه: يا بُني، لا يُلهينَّك الناس عن نفسك؛ فإن الأمر خالص إليك دونهم، إنك لم ترَ شيئًا هو أشد طلبًا ولا أسرع درَكًا من توبةٍ حديثة لذنبٍ قديم.

وفي الحديث أن أبا هُريرة مرَّ بمروان وهو يبني داره، فقال: يا أبا عبد القُدُّوس، ابنِ شديدًا، وأمِّل بعيدًا، وعِش قليلًا، وكلْ خَضمًا، والمَوعد الله.

وكان عمرو بن خولة أبو سعيد بن عمرو بن سعيد بن العاص، وأمه خولة من المسامعة، وكان ناسكًا يجتمع إليه القُراء والعلماء يوم الخميس، فقال الشاعر:

وأصبَحَ زَورُك زَوْرُ الخَمِيسِ
إليكَ كمَرعيَّةٍ وارِدةْ

وقال الآخر [وذكر] ابن سيرين:

فأنتَ باللَّيلِ ذئبٌ لا حريمَ له
وبالنَّهارِ على سَمتِ ابنِ سِيرِين
وقال ابن الأعرابي: قال بعض الحكماء: لا يَغلِبنَّ جهل غيرك بك عِلمَك بنفسك. قال: وصلَّى محمد بن المُنكدِر٢٤ على «عِمران بقرة»، فقيل له في ذلك، فقال: إني لأستحيي من الله أن أرى أن رحمته تَعجز عن عِمران بقرة.

(٤) باب

وقال محمد بن يسير:٢٥
كأنَّه قد قِيلَ في مَجلِسٍ
قد كنتُ آتِيه وأغْشاهُ
محمَّدٌ صارَ إلى ربِّه
يَرحَمُنا اللهُ وإيَّاهُ
وقال الآخر:٢٦
لَقلَّ عارًا إذا ضَيفٌ تَضيَّفَني
ما كانَ عندي إذا أعطيتُ مجهودي
فضْلُ المُقِل إذا أعطاه مُصطبرًا
ومُكثرٍ في الغِنى سِيَّانِ في الجُودِ
لا يَعدِمُ السائلونَ الخيرَ أفعَلُه
إما نَوالي وإما حُسنُ مَردودي

وكان الربيع بن خيثم إذا قيل له: كيف أصبحت؟ قال: أصبحنا ضُعفاءَ مُذنِبين، نأكل أرزاقنا، وننتظر آجالنا. وقال ابن المقفع: الجود بالمجهود مُنتهى الجود.

قال مطرِّف بن عبد الله: كان يُقال: لم يلتقِ مؤمنان إلا كان أفضلهما أشدهما حبًّا لصاحبه، وكنت أرى أني أشد حبًّا لمذعور بن طُفيل منه لي، فلما سُيِّر لقِيَني ليلًا فحدَّثني فقلت: ذهب الليل. قال: ساعة. فعلِمت أنه كان أشد حبًّا لي مني، فلما أصبح سيَّره ابن عامر٢٧ مع عامر.٢٨

وقالوا لعيسى بن مريم: من نُجالس؟ قال: من تُذكِّركم الله رؤيته، ويزيد في علمكم منطقه، ويرغِّبكم في الآخرة عمله.

إسحاق بن إبراهيم قال: دخلنا على كَهمس العابد، فجاءنا بإحدى عشرة بُسرةً حمراء، فقال: هذا الجهد من أخيكم، والله المستعان.

الأصمعي، عن السكن الحرشي قال: اشتريت من أبي المنهال سيَّار بن سلامة شاةً بستِّين درهمًا، فقلت: تكون عندك حتى آتيَك بالثمن. قال: ألستَ مُسلِمًا؟ قلت: بلى. قال: فخُذها. فأخذتها ثم انطلقت بها، فأتيته بالستين، فأخرج منها خمسة دراهم وقال لي: اعلفها بهذه.

وقال مُساورٌ الورَّاق٢٩ لابنه:
شَمِّرْ قميصَك واستعِدَّ لقائلٍ
واحكُكْ جبينَك للقضاءِ بثُومِ
واجعلْ صِحابَك كلَّ حِبرٍ ناسكٍ
حَسنِ التعهُّدِ للصَّلاة صَئُومِ
من ضربِ حمَّادٍ هُناك ومِسمَعٍ
وسِماكٍ العَبسيِّ وابنِ حكيمِ
وعليك بالغَنويِّ فاجلِسْ عندَه
حتى تنالَ وديعةً ليَتيمِ

قال: بَيْنا سليمان بن عبد الملك يتوضأ، ليس عنده غير خاله والغلامُ يصُب عليه، إذ خرَّ الغلام ميتًا، فقال سليمان:

قرِّبْ وُضوءَك يا حُصَينُ فإنَّما
هذي الحياةُ تَعِلَّةٌ ومَتاعُ

ونظر سليمان في مرآة فقال: أنا الملِك الشاب. فقالت جارية له:

أنتَ نِعْمَ المَتاعُ لو كنتَ تَبْقى
غيرَ أنْ لا بَقاءَ للإنسانِ
وقيل لسعيد بن المسيِّب:٣٠ إن محمد بن إبراهيم بن محمد بن طلحة سقط عليه حائط فقتله، فقال: إن كان لَوصولًا لرحِمِه، فكيف يموت مِيتةَ سوء؟ وقال أسماء:
عيَّرَتني خَلَقًا أبلَيتُ جِدَّتَه
وهل رأيتَ جديدًا لم يَعُدْ خَلَقا؟

وتمثَّل عبد الملك بن مروان فقال:

وكلُّ جديدٍ يا أُمَيمُ إلى بِلًى
وكلُّ امرئٍ يومًا يصيرُ إلى كانا

وقال آخر:

فاعملْ على مَهَلٍ فإنَّك ميِّتٌ
واكدَحْ لنَفسِك أيُّها الإنسانُ
فكأنَّ ما قد كانَ لم يَكُ إذ مضى
وكأنَّ ما هو كائنٌ قد كانا

وكان عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه يقول: إني لأكره أن يأتيَ عليَّ يوم لا أنظر فيه إلى عهد الله. يعني المصحف. وكان عثمان رضي الله تعالى عنه حافظًا، وكان حجره لا يكاد يُفارق المصحف، فقيل له في ذلك فقال: إنه مُبارَكٌ جاء به مُبارَك.

ولما مات الحجَّاج خرجت عجوز من داره وهي تقول:

اليومَ يَرحَمُنا من كانَ يَغبِطُنا
واليومَ نَتبَعُ من كانوا لنا تَبَعا
حدَّثني بكر بن المعتمر، عن بعض أصحابه قال: قال أبو عثمان النهدي:٣١ أتت عليَّ ثلاثون ومائة سنة، ما منِّي شيء إلا وقد أنكرته، إلا أملي؛ فإنه يزيد.
وقال مِسور بن مَخرَمة٣٢ لجلسائه: لقد وارت الأرض أقوامًا لو رأوني معكم لاستحيَيت منهم. وأنشدني أعرابي:
ما يَمنعُ الناسُ شيئًا جئتُ أطلُبُه
إلا أرى اللهَ يَكفي فَقْدَ ما مَنَعوا

وجزع بكر بن عبد الله على امرأته، فوعظه الحسن، فجعل يصف فضلها، فقال الحسن: عند الله خير منها. فتزوَّج أختها، فلقيه بعد ذلك فقال: يا أبا سعيد، هي خيرٌ منها. وأنشد:

يؤمِّلُ أن يُعمَّرَ عُمرَ نُوحٍ
وأمرُ اللهِ يَطرُقُ كلَّ ليلةْ

عوف، عن الحسن قال: قال النبي : للمسلم على أخيه ست خِصال؛ يسلِّم عليه إذا لقِيَه، وينصح له إذا غاب، ويعوده إذا مرض، ويشيِّع جنازته إذا مات، ويُجيبه إذا دعاه، ويشمِّته إذا عطس.

وقال أعرابي:

تُبصِّرُني بالعيشِ عِرْسي كأنَّما
تُبصِّرُني الأمرَ الذي أنا جاهِلُه
يعيشُ الفتى بالفقرِ يومًا وبالغِنى
وكلًّا كأنْ لم يَلقَ حينَ يُزايِلُه

وأنشد أبو صالح:

ومُشيِّدٍ دارًا ليَسكُنَ دارَه
سَكَنَ القبورَ ودارُه لم تُسكَنِ

وكان صالحٌ المُري أبو بِشر ينشد في قصصه. وأنشد غيره:

فباتَ يُروِّي أصولَ الفسيلِ
فعاشَ الفسيلُ وماتَ الرَّجلُ

وقال الآخر:

إذا أبقَتِ الدُّنيا على المرءِ دِينَه
فما فاتَ من شيءٍ فليسَ بِضائرِ
فلن يَعدِلَ الدُّنيا جَناحَ بَعُوضةٍ
ولا وزنَ زِفٍّ من جَناحٍ لطائرِ
فما رَضِيَ الدُّنيا ثوابًا لمؤمِنٍ
ولا رَضِيَ الدُّنيا عِقابًا لكافرِ

وقال الآخر:

أبَعْدَ بِشرٍ أسيرًا في بُيوتِهمُ
يَرجو الخَفارةَ منِّي آلُ ظَلَّامِ
فلن أُصالحَكم ما دمتُ ذا فَرسٍ
واشتدَّ قبضًا على السِّيلانِ إبهامي
فإنَّما الناسُ يا للهِ أُمُّهمُ
أكائِلُ الطيرِ أو جَثوٌ لآرامِ
هم يَهلِكونَ ويبقى بعضُ ما صنعوا
كأنَّ آثارَهم خُطَّت بأقلامِ

وأنشد لمحمد بن يسير:

عَجبًا لي ومن رِضايَ بحالٍ
أنا منها على شَفا تغريرِ
عالِمًا لا أشُكُّ أني إذا متُّ
إلى عدنٍ أو عذابِ السعيرِ
كُلَّما مُرَّ بي على أهلِ نادٍ
كنتُ حينًا بهم كثيرَ المُرورِ
قيلَ من ذا على سريرِ المنايا؟
قيلَ هذا محمَّدُ بن يَسيرِ

وأنشد:

لكلِّ أُناسٍ مَقبَرٌ لفنائِهم
فهم يَنقُصونَ والقبورُ تزيدُ
هُمُ جِيرةُ الأحياءِ أمَّا مَحلُّهم
فَدَانٍ ولكنَّ اللقاءَ بَعيدُ

وقال أبو العتاهية:

سُبحانَ ذي الملكوتِ أيَّةُ ليلةٍ
مخَضَت بوَجهِ صباحِ يومِ المَوقِفِ
لو أنَّ عينًا وهَّمَتها نَفْسُها
ما في الفِراقِ مُصوَّرًا لم تَطرِفِ

وقال أبو العتاهية:

يا خاطِبَ الدُّنيا إلى نَفْسِها
تَنَحَّ عن خِطبتِها تَسلَمِ
إنَّ التي تَخطُبُ غرَّارةٌ
سريعةُ العُرسِ منَ المأتمِ

وقال الآخر:

ناداهما بفِراقِ بَيْـ
ـنِهما الزَّمانُ فأسرَعا
وكذاك ما زالَ الزَّما
نُ مُفرِّقًا ما جمَّعا

وقال الآخر:

يا وَيحَ هَذِي الأرضِ ما تَصنَعُ
أكُلَّ حيٍّ فوقَها تَصرَعُ
تَزرَعُهم حتى إذا ما أتَوا
عادَت لهم تَحصُدُ ما تَزرَعُ

وقال الآخر:

ذكَرتُ أبا أروى فبِتُّ كأنَّني
بِرَدِّ أُمورِ الماضياتِ وَكِيلُ
لكلِّ اجتماعٍ من خليلَينِ فُرقةٌ
وكلُّ الذي دُونَ المَماتِ قليلُ
وإنَّ افتقادي واحدًا بعدَ واحدٍ
دليلٌ على ألا يدومَ خليلُ

وقال محمد بن المنتشر: إذا أيسر الرجل ابتُلي به أربعة؛ مولاه القديم ينتفي منه، وامرأته يتسرَّى عليها، وداره يهدمها ويبني غيرها، ودابَّته يستبدل بها.

وقال الآخر:

يُجدِّدُ أحزانًا لنا كلُّ هالكٍ
ونُسرعُ نِسيانًا ولم يأتِنا أمْنُ
وإنَّا ولا كُفْرانَ للهِ ربِّنا
لَكالبُدْنِ لا تَدري متى يومُها البُدْنُ

الأوزاعي، عن مكحولٍ قال: إن كان في الجماعة فضلٌ فإن في العُزلة سلامة.

أبو جَناب الكلبي، عن أبي المحجَّل، عن ابن مسعود قال: ثلاثٌ من كنَّ فيه دخل الجنة؛ من إذا عرف حق الله عليه لم يؤخِّره، وكان عمله الصالح في العلانية على قوام من السريرة، وكان قد جمع مع ما قد عمل صلاحَ ما يؤمِّله. وقال: كفى موعظةً أنك لا تحيى إلا بموت، ولا تموت إلا بحياة.

وقال أبو نُواس:

شاعَ فيَّ الفَناءُ عُلْوًا وسُفْلًا
وأُراني أموتُ عُضوًا فعُضْوا
ذهبَتْ جِدَّتي بطاعةِ نَفْسِي
وتذكَّرتُ طاعةَ الله نِضْوا

وقال الآخر:

وكم من أكْلةٍ منَعَت أخاها
بلذَّةِ ساعةٍ أكلاتِ دَهرِ
وكم من طالبٍ يَسعى لشيءٍ
وفيه هلاكُه لو كانَ يدري

وقال الآخر:

كلُّ امرئٍ مُصبَّحٍ في أهلِه
والموتُ أدنى من شِرَاك نَعلِه

وقال آخر:

واستَيقِني في ظلمِ البُيوتِ
أنَّكِ إن لم تُقتَلي تَمُوتي

وقال عنترة:

بَكَرَت تُخوِّفُني الحُتوفَ كأنَّني
أصبحتُ عن غَرَضِ الحُتوفِ بمَعزِلِ
فأجَبتُها إنَّ المَنيَّةَ مَنهَلٌ
لا بُدَّ أنْ أُسقى بكأسِ المَنهَلِ
فاقْنَي حياءَكِ لا أبَا لكِ واعلَمي
أنِّي امرؤٌ سأموتُ إنْ لم أُقتَلِ
إنَّ المَنيَّةَ لو تُصوَّرُ صُوِّرَت
مِثْلي إذا نزَلوا بضَنكِ المَنزِلِ

وقال أبو العتاهية:

أُذْنَ حيٍّ تَسمَّعي
واسمعي ثُمَّ عِي وَعِي
عِشتُ تِسعينَ حِجَّةً
ثُمَّ وافَيتُ مَضجَعي
أنا رَهنٌ لمَصرَعي
فاحذَري مِثلَ مَصرَعي
ليس زادًا سِوى التُّقى
فخُذِي منه أو دَعِي

وقال الخليل بن أحمد:

عِشْ ما بدا لك قَصرُك المَوتُ
لا مَهرَبٌ منه ولا فَوتُ
بَيْنا غِنى بَيتٍ وبَهجتُه
آلَ الغِنى وتَقوَّضَ البَيتُ

وقال أبو العتاهية:

اسمَع فقد أسمَعَكَ الصَّوتُ
إنْ لم تُبادِرْ فهُوَ الفَوتُ
نِلْ كُلَّ ما شئتَ وعِشْ سالمًا
آخِرُ هذا كلِّه المَوتُ

وقال الوزيري:

وأعلَمُ أنَّني سأصيرُ مَيْتًا
إذا سارَ النواجعُ لا أسيرُ
وقالَ السائلونَ مَن المُسجَّى
فقالَ المُخبِرونَ لهم وزيرُ

وقال أبو العتاهية:

الحقُّ أوسَعُ من مُعا
لَجةِ الهوى ومَضيقِهِ
لا تَعرِضَنَّ لكلِّ أمْـ
ـرٍ أنتَ غيرُ مُطِيقِهِ
والعيشُ يَصلُحُ إنْ مَزَجـ
ـتَ غليظَه برَقيقِهِ
لا يَخدَعنَّك زُخرفُ الدُّ
نيا بحُسنِ بَرِيقِهِ
وإذا رأيتَ الرأيَ مُضـ
ـطربًا فخُذْ بوَثِيقِهِ
ولرُبَّما غَصَّ البَخيـ
ـلُ إنِ استُنيلَ برِيقِهِ

وقال أيضًا:

من أجابَ الهوى إلى كلِّ ما يَد
عُوه ممَّا يُضِلُّ ضلَّ وَتاها
ومن رأى عِبرةً ففكَّرَ فيها
آذَنَته بالبَينِ حينَ يَراها
ربما استغلَقَت أُمورٌ على من
كانَ يأتي الأمورَ مِن مأتاها
وسيَأوي إلى يدٍ كلُّ ما تأ
تي ويأوي إلى يدٍ حُسناها
قد تكونُ النَّجاةُ تَكرَهُها النَّفـ
ـسُ وتأتي ما كانَ فيه رَداها

وقال أيضًا:

لو أنَّ عَبدًا له خزائنُ ما
في الأرضِ ما عاشَ خوفَ إملاقِ
يا عَجبًا كلُّنا يَحِيدُ عنِ الحَيـ
ـنِ وكلٌّ لحَينِه لاقِ
كأنَّ حيًّا قد قامَ نادِبُه
والتفَّتِ الساقُ منه بالسَّاقِ
واستلَّ منه حياتَه مَلَكُ المَو
تِ خفيًّا وقيلَ مَن راقِ

وقال السَّمَوءَل بن عادياء:

تُعيِّرُنا أنَّا قليلٌ عديدُنا
فقلتُ لها إنَّ الكِرامَ قليلُ
وما قلَّ من كانت بَقاياه مِثلَنا
شبابٌ تَسامى للعُلى وكُهولُ
وما ضرَّنا أنَّا قليلٌ وجارُنا
عزيزٌ وجارُ الأكثرِينَ ذليلُ
فنحنُ كماءِ المُزنِ ما في نِصابِنا
كَهامٌ ولا فينا يُعَدُّ بَخِيلُ
وأسيافُنا في كلِّ شرقٍ ومَغرِبٍ
بها من قِراعِ الدارِعِينَ فُلولُ
مُعوَّدةٌ ألا تُسَلَّ نِصالُها
فتُغمَدَ حتى يُستباحَ قَبِيلُ
سَلي إنْ جَهِلتِ الناسَ عنَّا وعنهمُ
وليسَ سواءً عالمٌ وجَهُولُ

وقال الربيع بن أبي الحُقَيق:

ومن يَكُ عاقلًا لم يَلقَ بؤسًا
يُنِخْ يومًا بِساحتِه القضاءُ
تَعاوَرُه بَناتُ الدَّهرِ حتى
تُثلِّمَه كما ثُلِمَ الإناءُ
وكلُّ شديدةٍ نَزَلَت بحيٍّ
سيأتي بعدَ شِدَّتِها رَخاءُ
وبعضُ خلائقِ الأقوامِ داءٌ
كداءِ الشيخِ ليس له دواءُ

وأنشد:

قد حالَ من دَونِ ليلى مَعشَرٌ قُذُمٌ
وهُم على ذاك من دُوني مَواليها
واللهُ يَعلَمُ أنِّي إن أتَتْ حِجَجٌ
وحِيلَ من دُونِها أنْ لَستُ ناسِيها

وأنشد:

وليلٍ يقومُ القومُ من ظُلُماتِه
سواءٌ بَصِيراتُ العُيونِ وعُورُها
كأنَّ لنا منه بُيوتًا حَصِينةً
مُسوحًا أعاليها وساجًا كُسُورُها

وقالوا: أتى سعيد بن عبد الرحمن بن حسَّان أبا بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، وهو عامل سليمان بن عبد الملك، فسأله أن يكلِّم سليمان في حاجة له، فوعده أن يقضيَها فلم يفعل، وأتى عمر بن عبد العزيز فكلَّمه فقضى حاجته، فقال سعيد:

ذُمِمتَ ولم تُحمَدْ وأدركتُ حاجتي
تَولَّى سِواكم شُكْرَها واصطناعَها
أبى لك فِعلَ الخيرِ رأيٌ مُقصِّرٌ
ونفسٌ أضاقَ اللهُ بالخيرِ باعَها
إذا هي حثَّته على الخيرِ مَرَّةً
عصاها وإنْ همَّت بشَرٍّ أطاعَها
سيَكفيكَ ما ضيَّعتَ منها وإنَّما
يُضِيعُ الأمورَ سادرًا مَن أضاعَها
وَلايةُ من ولَّاكَ سُوءُ بَلائِها
وولَّى سِواكَ أجْرَها واصطناعَها

وأنشد:

إذا ما أطعتَ النَّفْسَ مالَ بك الهوى
إلى كلِّ ما فيه عليك مَقالُ

وأنشد:

حَسْبُ الفتى من عَيشِه
زادٌ يُبلِّغُه المَحلَّا
خُبزٌ وماءٌ باردٌ
والظِّلُّ حينَ يُريدُ ظِلَّا

وأنشد:

وما العيشُ إلا شَبعةٌ وتَشرُّقٌ
وتَمرٌ كأخفافِ الرِّباعِ وماءُ

قالوا: استبطأ عبد الملك بن مروان ابنه مَسلمة في مسيره إلى الروم، فكتب إليه:

لمَنِ الظعائنُ سَيرُهنَّ تَزحُّفُ
سَيرَ السَّفِينِ إذا تَقاعَسَ تُجدَفُ

فلما قرأ مَسلمة الكتاب كتب إليه:

ومُستعجِبٍ ممَّا يَرى من أناتِنا
ولو زَبَّنَته الحربُ لم يَترمرمِ

ومسلمة هو القائل عندما دُلِّي بعضهم في قبره، فتمثَّل بعض من حضر فقال:

وما كانَ قيسٌ هُلكُه هُلْكَ واحدٍ
ولكنَّه بُنيانُ قومٍ تَهدَّما

فقال مسلمة: لقد تكلَّمتَ بكلمة شيطان. هلَّا قلت:

إذا مُقرَمٌ منَّا ذرا حدُّ نابِه
تَخمَّطَ فينا نابُ آخَرَ مُقرَمِ

وكان مسلمة شجاعًا خطيبًا، وبارع اللسان جوادًا، ولم يكن في ولد عبد الملك مثله ومثل هشام بعده.

وقال بعض الأعراب يهجو قومًا:

تَصبَّرْ للبَلاءِ الحَتمِ صَبرًا
إذا جاوَرتَ حيَّ بني أبانِ
أقاموا الدَّيدبانَ على يَفاعٍ
وقالوا ليَ احترِسْ للدَّيدبانِ
فإنْ أبصَرتَ شَخصًا من بَعِيدٍ
فصفِّقْ بالبَنانِ على البَنانِ
تَراهم خَشْيةَ الأضيافِ خُرسًا
يُقِيمونَ الصَّلاةَ بلا أذانِ

وقال بعض الأعراب يمدح قومًا:

وسارٍ تَعنَّاه المَبِيتُ فلمْ يَدَعْ
له حابِسُ الظَّلماءِ واللَّيلِ مَذهَبا
رأى نارَ زيدٍ من بَعِيدٍ فخالَها
وقد كذَبَته النَّفْسُ والظنُّ كَوكبا
رَفَعتُ له بالكفِّ نارًا تَشُبُّها
شآميَّةٌ نَكْباءُ أو عارِضٌ صَبا
وقلتُ ارفَعُوها بالصعيدِ كفى بِنا
مُشِيرًا لساري ليلةٍ أنْ تأوَّبا
فلمَّا أتانا والسَّماءُ تَبُلُّه
نَقُولُ له أهلًا وسهلًا ومَرحَبا
وقمتُ إلى البَركِ الهواجدِ فاتَّقَت
بكَوماءَ لم يَترُكْ لها النِّيُّ مَهرَبا
فرحَّبتُ أعلى الجَنبِ منها بطَعنةٍ
دعَت مُستكِنَّ الجَوفِ حتى تَصبَّبا

وقال الآخر:

واستَيقِني في ظُلَمِ البُيوتِ
أنَّكِ إنْ لم تُقتَلي تَمُوتي

وقال أبو سعيد الزاهد: من عمل بالعافية فيمن دونه أُعطيَ العافية ممن فوقه.

وقال عيسى ابن مريم صلوات الله تعالى على نبينا وعليه: في المال ثلاث خِصال. قالوا: وما هي يا رُوح الله؟ قال: يكسبه من غير حِله. قالوا: فإن كسبه من حِله؟ قال: يمنعه من حقه. قالوا: فإن وضعه في حقه؟ قال: يشغله إصلاحه عن عبادة ربه.

قيل لرجلٍ مريض: كيف تجدك؟ قال: أجدني لم أرضَ حياتي لموتي.

سعيد بن بشير، عن أبيه، أن عبد الملك قال حين ثقُل ورأى غسَّالًا يلوي ثوبًا بيده: وددتُ أني كنت غسَّالًا لا أعيش إلا بما أكتسب يومًا فيومًا. فذُكِرَ ذلك لأبي حازم فقال: الحمد لله الذي جعلهم عند الموت يتمنَّون ما نحن فيه، ولا نتمنى عند الموت ما هم فيه.

الهيثم قال: أخبرنا موسى بن عبيدة الزيدي، عن عبد الله بن خداش الغفاري قال، قال أبو ذر: فارقت رسول الله وقُوْتي من الجمعة إلى الجمعة مُد، ولا والله لا أزداد عليه حتى ألقاه. قال: وكان يقول: إنما مالك لك، أو للجائحة، أو للوارث، فاغْنَ ولا تكن أعجز الثلاثة.

فُضَيل بن عِياض، عن المطَّرِح بن يزيد، عن عبد الله بن زحر، عن علي بن يزيد، عن القاسم مولى يزيد بن معاوية، عن أبي أمامة الباهلي قال، قال عمر رضي الله تعالى عنه: أدِّبوا الخيل، وتسوَّكوا، واقعدوا في الشمس، ولا تُجاورنكم الخنازير، ولا يُرفَعن فيكم الصليب، ولا تأكلوا على مائدة تُشرَب عليها الخمر، وإيَّاكم وأخلاقَ العجم، ولا يحلُّ لمؤمنٍ أن يدخل الحمَّام إلا بمئزر، ولا لامرأة إلا من سقم؛ فإن عائشة رضي الله تعالى عنها حدَّثتني قالت: حدَّثني خليلي على مفرشي هذا قال: إذا وضعت المرأة خِمارها في غير بيت زوجها هتكت ما بينها وبين الله، فلم تَناهَ دون العرش.

(٥) نُسَّاك البصرة وزُهَّادها

عامر بن عبد قيس وبَجالة بن عبَدة العنبريان؛ وعثمان بن أدهم، والأسود بن كلثوم، وصِلة بن أشيَم، ومذعور بن الطُّفيل. ومن بني منقرٍ جعفر وحرب ابنا جِرفاس. كان الحسن يقول: إني لا أرى كالجعفرين جعفرًا. يعني جعفر بن جرفاس، وجعفر بن زيد العبدي. ومن النساء مُعاذة العدوية امرأة صلة بن أشيم، ورابعة القيسية.

(٦) زُهَّاد الكوفة

عمرو بن عُتبة، وهمَّام بن الحارث، والربيع بن خيثم، وأُوَيس القَرَني.

وقال الراجز:

من عاشَ دهرًا فسيأتيه الأجَلْ
والمرءُ توَّاقٌ إلى ما لم يَنَلْ
الموتُ يَتلُوه ويُلهِيه الأمَلْ

وقال الآخر:

لا يَغُرَّنْكَ عِشاءٌ ساكنٌ
قد يُوافي بالمَنيَّاتِ السَّحَرْ

وقال الآخر:

كُلُّنا يأملُ مَدًّا في الأجَلْ
والمَنايا هيَ آفاتُ الأمَلْ

وقال الآخر:

أنتَ وهَبتَ الفِتيةَ السَّلاهِبْ
وهَجْمةً يَحارُ فيها الحالِبْ
وغنَمًا مِثلَ الجرادِ السَّارِبْ
مَتاعُ أيَّامٍ وكلٌّ ذاهِبْ

وقال المسعودي:

إنَّ الكِرامَ مُناهِبُو
كَ المَجدَ كلَّهمُ فناهِبْ
أخلِفْ وأتلِفْ كلُّ شَي
ءٍ زعزَعَته الرِّيحُ ذاهِبْ

وقال التميمي:

إذا كانتِ السَّبعونَ سِنَّك لم يَكُنْ
لِدائِكَ إلا أنْ تَمُوتَ طبيبُ
وإنَّ امرأً قد سارَ سَبعِينَ حِجَّةً
إلى مَنهَلٍ مِن وِردِه لَقَرِيبُ
إذا ما مضى القَرنُ الذي كنتَ فيهمُ
وخُلِّفتَ في قَرنٍ فأنتَ غَرِيبُ
إذا ما خلَوتَ الدَّهرَ يومًا فلا تَقُلْ
خلَوتُ ولكنْ قُلْ عليَّ رقيبُ

وقال غسَّان خال الغدَّار:

ابيَضَّ مني الرأسُ بعدَ سَوادِ
ودعا المَشِيبُ حليلتي ببِعادِ
واستُحصدَ القِرنُ الذي أنا منهمُ
وكفى بِذاك علامةً لحَصادي

وكان علي بن موسى بن ماهان كثيرًا ما يقول: رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ. وكان كثيرًا ما يقول: ويلٌ للظالمين من الله.

وقال ابن واسع: الاتقاء على العمل أشد من العمل.

وكان أبو وائل النَّهشلي يقول في أول كلامه: إن الدهر لا يذوق طعم الفراق ولا يُذيقه أهله، وإنما ينغمسون في ليل، ويطغون في نهار، فيوشك شاهد الدنيا أن يغيب، وغائب الآخرة أن يشهد. وقال: سأل رجل رجلًا حاجة، فقال له المسئول: اذهب بسلام. فقال له السائل: قد أنصفَنا من ردَّنا إلى الله.

الحِزامي، عن سفيان بن حمزة، عن كثير بن الصلت: أن حكيم بن حزام باعَ داره من معاوية بستين ألف درهم، فقيل له: غبَنك واللهِ معاوية. فقال: والله ما أخذتها في الجاهلية إلا بزقٍّ من خمر، أُشهدكم أنها في سبيل الله، فانظروا أيُّنا المَغبون.

قال سفيان الثوري: ليس من ضلالة إلا عليها زينة، فلا تعرِّضن دينك لمن يُبغِّضه إليك.

وقال عمر بن عبد العزيز: من جعل دينه غرضًا للخصومات أكثر التنقُّل. وأتى مسلمًا نصراني يعزِّيه فقال له: مِثلي لا يُعزِّي مِثلك، ولكن انظر إلى ما زهِد فيه الجاهل فارغب فيه.

وكان الحسن بن زيد بن علي بن الحسين بن علي يُلقَّب ذا الدمعة؛ فإذا عُوتب في كثرة البكاء قال: وهل تركَت النار والسهمان لي مضحكًا؟ يريد قتل زيد بن علي أبيه، ويحيى بن زيد أخيه.

وقيل لشيخ من الأعراب: قمت مقامًا خِفنا عليك منه. قال: ما الموت أخاف، شيخٌ كبير، وربٌّ غفور، ولا دَين ولا بنات.

وقال أبو العتاهية:

وكما تَبْلى وُجوهٌ في الثرى
فكذا يَبْلى عليهنَّ الحَزَنْ

وقال بشَّار:

كيف يَبكي لمُحبَسٍ في طُلولِ
من سيُفضي لحبسِ يومٍ طويلِ
إنَّ في البعثِ والحسابِ لشُغلًا
عن وُقوفٍ بكلِّ رسمٍ مَحِيلِ

وقال محمودٌ الورَّاق:

أليسَ عَجيبًا بأنَّ الفتى
يُصابُ ببعضِ الذي في يَدَيه
فمِن بينِ باكٍ له مُوجَعٍ
وبينَ مُعَزٍّ مُغِذٍّ إلَيه
ويسَلبُه الشَّيبُ شَرْخَ الشَّبابِ
فليس يُعزِّيه خَلقٌ عليه

وقال أيضًا:

بَكَيتُ لقُربِ الأجَلْ
وبُعدِ فَواتِ الأمَلْ
ووافِدِ شَيبٍ طرا
بعَقبِ شبابٍ رَحَلْ
شبابٌ كأنْ لم يَكُنْ
وشَيبٌ كأنْ لم يَزَلْ
طَواكَ بَشِيرُ البَقا
وحلَّ بَشِيرُ الأجَلْ
طوى صاحبٌ صاحبًا
كذاك اختلافُ الدُّوَلْ

وقال محمود أيضًا:

رأيتُ صَلاحَ المَرءِ يُصلِحُ أهلَه
ويُعدِيهمُ داءُ الفسادِ إذا فَسَدْ
يُعظَّمُ في الدُّنيا بفضلِ صلاحِه
ويُحفَظُ بعدَ الموتِ في الأهلِ والولَدْ

وقال الحسن بن هانئ:

أيَّةَ نارٍ قَدَحَ القادِحُ
وأيَّ جِدٍّ بَلَغَ المازِحُ
للهِ دَرُّ الشَّيبِ من واعظٍ
وناصحٍ لو حظِيَ الناصحُ
يأبى الفتى إلَّا اتباعَ الهوى
ومَنهجُ الحقِّ له واضِحُ
فاسمُ بعَينَيكَ إلى نِسْوةٍ
مُهورُهنَّ العملُ الصالحُ
لا يَجتلي العَذراءَ من خِدرِها
إلا امرؤٌ مِيزانُه راجِحُ
من اتَّقى اللهَ فذاكَ الذي
سِيقَ إليه المَتجَرُ الرابِحُ

وقال أيضًا:

خَلِّ جَنبَيكَ لِرامِ
وامْضِ عنه بِسَلامِ
مُتْ بِداءِ الصَّمتِ خيرٌ
لكَ من داءِ الكَلامِ
إنَّما السالمُ من ألـ
ـجَمَ فاهُ بلِجامِ
رُبَّما استفتحتَ بالمَز
حِ مَغاليقَ الحِمامِ
رُبَّ لفظٍ ساقَ آجا
لَ فِئامٍ لفِئامِ
فالْزَمِ الصَّمتَ فإن الصَّـ
ـمتَ أبقى للجَمامِ
والمنايا آكِلاتٌ
شارباتٌ للأنامِ
شِبتَ يا هذا وما تَتـ
ـرُكُ أخلاقُ الغُلامِ؟

وقال أيضًا:

كُنْ من اللهِ يَكُنْ لَكْ
واتَّقِ اللهَ لَعلَّكْ
لا تَكُنْ إلا مُعَدًّا
للمَنايا فكأنَّكْ
إنَّ للمَوتِ لَسَهمًا
واقعًا دُونَك أو بِكْ
نحنُ نَجري في أفانيـ
ـينِ سُكونٍ ونُحرَّكْ
فعَلى اللهِ تَوكَّلْ
وبتَقواه تَمسَّكْ

وقال أيضًا:

يا نُواسيُّ تَفكَّرْ
وتَعَزَّ وتَصبَّرْ
ساءَك الدَّهرُ بشَيءٍ
ولما سرَّكَ أكثَرْ
يا كبيرَ الذَّنبِ عَفوُ اللهِ
من ذَنبِك أكبَرْ

قال سعيد بن ربيعة بن مالك بن سعيد بن زيد مناة بن تميم:

ألَا إنَّما هذا المَلالُ الذي تَرى
وإدبارُ جِسمي من رَدى العَثَراتِ
وكم من خليلٍ قد تجلَّدتُ بعدَه
تَقطَّعُ نَفْسي بعدَه حَسَراتِ

وهذا من قديم الشعر.

وقال الطِّرِمَّاح في هذا المعنى:

وشيَّبني ألَّا أزالَ مُناهِضًا
بغيرِ قُوًى أنزُو بها وأبُوعُ
وأنَّ رجالَ المالِ أضحَوا ومالُهم
لهم عندَ أبوابِ المُلوكِ شفيعُ
أمُخترِمي رَيبُ المَنُونِ ولم أنَلْ
منَ المالِ ما أعصي به وأُطيعُ

ومن قديم الشعر قول الحارث بن يزيد، وهو جد الأُحيمر اللِّص السعدي:

لا لا أعقُّ ولا أحو
بُ ولا أُغِيرُ على مُضَرْ
لكنَّما أغزو إذا
ضجَّ المَطيُّ من الدَّبَرْ

وقال آدم بن عبد العزيز:

وإنْ قالت رجالٌ قد تَولَّى
زمانُكمُ وذا زمنٌ جديدُ
فما ذهبَ الزَّمانُ لنا بمَجدٍ
ولا حَسَبٍ إذا ذُكِرَ الجُدودُ
وما كنَّا لنَخلُدَ إذ مَلَكْنا
وأيُّ الناسِ دامَ له الخُلودُ؟

وقيل لأخيه بعد أن رأوه حمَّالًا: لقد حطَّك الزمان، وعضَّك الحدَثان. فقال: ما فقدنا من عيشنا إلا الفضول.

وقال عُروة بن أُذَينة الكِناني:

نُراعُ إذا الجنائزُ قابَلَتنا
ويُحزِنُنا بُكاءُ الباكياتِ
كرَوعةِ ثُلَّةٍ لمُغارِ ذئبٍ
فلمَّا غابَ عادَت راتعاتِ

وقالت خنساء بنت عمرو:

تَرتَعُ ما غفَلَت حتى إذا ادَّكَرَت
فإنَّما هيَ إقبالٌ وإدبارُ

وقال أبو النجم:

فلو تَرى التُّيوسَ مُضجَعاتِ
عرَفتَ أنْ لسْنَ بِسالِماتِ
أقولُ إذ جئنَ مُذبَّحاتِ
ألمْ تَكُنْ من قبلُ راتِعاتِ
ما أقربَ الموتَ من الحياةِ

وقال سليمان بن الوليد:

رُبَّ مَغروسٍ يُعاشُ به
عدِمَته كفُّ مُغترِسِه
وكذاكَ الدَّهرُ مأتمُه
أقرَبُ الأشياءِ من عُرُسِه

وقال آخر:

يا راقِدَ اللَّيلِ مَسرورًا بأوَّلِه
إنَّ الحوادثَ قد يَطرُقنَ أسحارا

وقالت امرأة في بعض الملوك:

أبكِيكَ لا للنَّعيمِ والأنَسِ
بل للمَعالي والرُّمحِ والفَرسِ
أبكي على فارسٍ فُجِعتُ به
أرمَلني قبلَ ليلةِ العُرُسِ

(٧) أخلاط من شعر وأحاديث ونوادر

قال هُبيرة بن وهب المخزومي:

وإنَّ مَقالَ المرءِ في غيرِ كُنهِه
لَكالنَّبلِ تَهوي ليس فيها نِصالُها

وقال الراجز:

والقولُ لا تَملِكُه إذا نمى
كالسَّهمِ لا يَرجِعُه رامٍ رمى

وإلى هذا ذهب عامر الشعبي حيث يقول: وإنك على إيقاع ما لم تُوقِع أقدَرُ منك على رد ما قد أوقعت. وأنشد:

فداوَيتُه بالحِلمِ والمرءُ قادرٌ
على سَهمِه ما دامَ في كفِّه السَّهمُ

وقال الأنصاري:

وبعضُ القولِ ليس له حَصاةٌ
كمَخضِ الماءِ ليسَ له إتاءُ
وبعضُ خلائقِ الأقوامِ داءٌ
كداءِ الشَّيخِ ليس له دواءُ

وقال الآخر:

ومَولًى كداءِ البَطنِ أمَّا لقاؤُه
فحِلمٌ وأمَّا غَيبُه فظُنونُ

وقال آخر:

تَقسَّمَ أولادُ المُلِمَّةِ مَغنَمي
جِهارًا ولم يَغلِبْك مِثلُ مُغلَّبِ

وقال الثِّلْب:

وهنَّ شرُّ غالبٍ لمن غَلَبْ

وقال النبي : إذا كتب أحدكم فليترِّبْ كتابه؛ فإن التُّراب مُبارَك. وقال: هو أنجَحُ للحاجة. وذكر الله عز وجل آدم الذي هو أصل البشر فقال: إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ. ولذلك كنَّى النبي عليًّا أبا تراب. قالوا: وكانت أحبَّ الكُنى إليه.

وقال الآخر:

وإنْ جئتَ الأميرَ فقُلْ سَلامٌ
عليكَ ورحمةُ اللهِ الرَّحيمِ
وأمَّا بعدَ ذاكَ فلِي غريمٌ
من الأعرابِ قُبِّحَ من غَريمِ
له ألفٌ عليَّ ونِصفُ ألفٍ
ونِصفُ النِّصفِ في صكٍّ قديمِ
دراهمُ ما انتفعتُ بها ولكنْ
وصَلتُ بها شيوخَ بني تميمِ

وقال الكُمَيت:

حلَفتُ بربِّ الناسِ ما أُمُّ خالدٍ
بأُمِّكَ إذ أصواتُنا الهَلُ والهَبُ
ولا خالدٌ يَستطعمُ الماءَ قائمًا
بعَذلِك والداعي إلى الموتِ يَنعَبُ

وقال ابن نَوفل:

تقولُ لِما أصابَك أطعِمُوني
شَرابًا ثُمَّ بُلْتَ على السَّريرِ
لأعلاجٍ ثمانيةٍ وشيخٍ
كبيرِ السِّنِّ ذي بَصرٍ ضريرِ

وقال ابن هَرمة:

تَراه إذا ما أبصرَ الضَّيفَ كلبُه
يُكلِّمُه من حبِّه وهْو أعجَمُ

وقال المهلَّب: عجبت لمن يشتري المماليك بماله ولا يشتري الأحرار بمعروفه.

وقال الشاعر:

رُزِقتُ لُبًّا ولم أُرزَقْ مُروءتَه
وما المروءةُ إلا كثرةُ المالِ
إذا أردتُ مُساماةً تُقاعِدُني
عمَّا يُنوِّهُ بِاسمِي رِقَّةُ الحالِ

وقال الأحنف:

فلو مُدَّ سَرْوي بمالٍ كثيرٍ
لجُدْتُ وكنتُ له باذِلا
فإنَّ المروءةَ لا تُستطاعُ
إذا لم يَكُنْ مالُها فاضِلا

وقال جرير بن يزيد:

خيرٌ من البُخلِ للفتى عُدمُه
ومن بَنِينَ أعِقَّةٍ عُقمُه

قال: ومشى رجال من تميم إلى عتَّاب بن وَرقاء ومحمد بن عمير في عشر دِيات، فقال محمد بن عمير: عليَّ دية. فقال عتَّاب: عليَّ الباقية. فقال محمد: نِعْم العَون على المروءة المال.

وقال آخر:

ولا خيرَ في وَصلٍ إذا لم يَكُنْ له
على طُولِ مرِّ الحادِثاتِ بَقاءُ

وقال الآخر:

شِفاءُ الحُبِّ تَقبيلٌ وشمٌّ
وضمٌّ بالبُطونِ على البُطونِ

وأنشد:

واللهِ لا أرْضى بطُولِ ضَمِّ
ولا بتَقبيلٍ ولا بشَمِّ
إلا بهَزهازٍ يُسلِّي همِّي
يَسقطُ منه فَتَخِي في كُمِّي
لمِثلِ هذا ولَدَتني أُمِّي

وقال آخر:

لا يَنفَعُ الجاريةَ الخِضابُ
ولا الوِشاحانِ ولا الجِلبابُ
من دونِ أن يَصطفقَ الأركابُ
وتلتقي الأسبابُ والأسبابُ
ويخرجَ الزُّبُّ له لُعابُ

وقال آخر:

ولقد بَدا لي أنَّ قلبَك ذاهلٌ
عنِّي وقلبي لو بَدا لك أذهَلُ
كلٌّ يُجامِلُ وهْوَ يُخفي بُغْضَه
إنَّ الكريمَ على القِلى يَتجمَّلُ

وقال الآخر:

وحظُّكَ زَوْرةٌ في كلِّ عامٍ
مُوافقةً على ظَهرِ الطَّريقِ
سلامًا خاليًا من كلِّ شيءٍ
يَعُودُ به الصَّديقُ على الصَّديقِ

وقال الآخر:

وزعَمتَ أنِّي قد كذبتُكَ مَرَّةً
بعضَ الحديثِ فما صدَقتُك أكثَرُ

وقال الآخر:

أهِينوا مَطاياكم فإنِّي وجَدتُه
يَهُونُ على البِرذَونِ موتُ الفتى النَّدْبِ

وقال الآخر:

لا يَحفِلُ البُردُ مَن يُبلي حواشِيَه
ولا تُبالي على من راحَتِ الإبِلُ

وقال الآخر:

ألا لا يُبالي البُردُ من جرَّ فَضْلَه
كما لا تُبالي مُهْرةٌ من يَقُودُها

وقال الآخر:

وإنِّي لَأرثي للكريمِ إذا غدا
على حاجةٍ عندَ اللَّئيمِ يُطالِبُه
وأرثي له من مَجلسٍ عندَ بابِه
كمَرثِيَتِي للطَّرْفِ والعِلجُ راكِبُه

وقال الفرزدق:

أتَرجُو رَبيعٌ أنْ يجيءَ صِغارُها
بخَيرٍ وقد أعيا رَبيعًا كِبارُها

وقال الشاعر:

ألمْ تَرَ أنَّ سَيرَ الخيرِ رَيثٌ
وأنَّ الشَّرَّ راكِبُه يَطِيرُ

وقال ابن يسير:

تأتي المَكارِهُ حينَ تأتي جُملةً
وتَرى السُّرورَ يجيءُ في الفَلَتاتِ

(٨) عيوبٌ تمنع من السؤدد

قيل لبلال بن أبي بُردة: لمَ لا تُولِّي أبا العجوز بن أبي شيخ العراق؟ وكان بلال مُسترضَعًا فيهم، وهو من بَلهُجَيم. قال: لأني رأيت منه ثلاثًا؛ رأيته يحتجم في بيوت إخوانه، ورأيت عليه مِظلَّة وهو في الظل، ورأيته يُبادر بيض البقيلة.

وكان عندي شيخٌ عظيم البدن، جهير الصوت، يستقصي الإعراب، وقد ولده رجل من أهل الشورى، وكان بقُربي عبدٌ أسود، دقيق العظم، دميم الوجه، ورآني أكبره، فقال لي حين نهض ورأى عظمًا: يا أبا عثمان، لا والله أن يُساويَ ذلك العظم البالي، بصرت عيني به في الحمام، وتناول قطعة من فَخار فأعطاها رجلًا وقال له: حُكَّ بها ظهري. أفتظنُّ هذا يا أبا عثمان يُفلح أبدًا؟

قال أبو الحسن: سأل الحجَّاج غلامًا فقال له: غلامُ مَن أنت؟ قال: غلام سيِّد قيس. قال: ومن ذاك؟ قال: زُرارة بن أوفى. قال: كيف يكون سيِّد قيس وفي داره التي ينزلها سُكان؟٣٣

قال: وقال رجل لابنه: إذا أردت أن تعرف عيبك فخاصِمْ شيخًا من قُدماء جيرانك. قال: يا أبتِ لو كنت إذا خاصمت جاري لم يعرف عيبي غيري كان ذلك رأيًا، ولكن جاري لا يُعرِّفني عيبي حتى يُعرِّفه عدوِّي.

وقد أخطأ الذي وضع هذا الحديث؛ لأن أباه نهاه ولم يأمره.

وقال الآخر:

اصطنِعْني وأقِلْني عَثْرتي
إنَّها قد وقَعَت منِّي بِقُرْ
واعلَمَنْ أنْ ليسَ ألفَا دِرهمٍ
لمَديحي وهِجائي بخَطَرْ
يَذهَبُ المالُ ويَبقى المَنطِقُ
شائعًا يأثُرُه أهلُ الخَبَرْ
ثُمَّ أرميكم بوَجهٍ بارزٍ
لستُ أمشي لعَدُوِّي بخَمَرْ

وقال أشهب بن رُميلة يوم صِفِّين: إلى أين يا بني تميم؟ قد ذهب الناس، أتفرُّون وتُعذَرون؟

قال: ونهض الحارث بن حوط الليثي إلى علي بن أبي طالب كرَّم الله تعالى وجهه وهو على المنبر، فقال: أتظن أنَّا نظنُّ أن طلحة والزبير كانا على ضلال؟ قال: يا حار، إنه ملبوس عليك، إن الحق لا يُعرَف بالرجال، فاعرف الحق تعرف أهله.

وقال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: لا أدركت أنا وأنت زمانًا يتغايرون فيه على العلم كما يتغايرون على الأزواج.

قال: وبعث قَسامة بن زُهير العنبري إلى أهله بثلاثين شاة ونِحيٍ صغير فيه سمن، فسرق الرسول شاة وأخذ من رأس النِّحي شيئًا من السمن، فقال لهم الرسول: ألكم إليه حاجةٌ أخبره بها؟ فقالت له امرأته: أخبِرْه أن الشهر محاق، وأن جَدْينا الذي كان يُطالعنا وجدناه مرثومًا،٣٤ فاسترجِع منه الشاة والسمن.

قال سليمان بن علي لرؤبة: ما بقي من باهك يا أبا الحجاف؟ قال: يمتدُّ ولا يشتد، وأستعين بيدي ثم لا أُورد، وأُطيل الظَّمْء ثم أُقصِّر. قال: ذلك الكِبَر. قال: لا، ولكنه طول الرِّغاث.

قيل لأعرابي: أي الدواب آكل؟ قال: بِرذَونةٌ رغوث. وقيل لغيره: لمَ صارت اللبؤة أنزق، وعلى اللحم أحرص؟ قال: هي الرغوث.

قال: وقال عبد الله بن عمر: اتَّقوا من تُبغِضه قلوبكم.

وقال إسماعيل بن غَزوان: لا تُنفق درهمًا حتى تراه، ولا تثق بشكر من تُعطيه حتى تمنعه؛ فالصابر هو الذي يشكر، والجازع هو الذي يكفر.

عامر بن يحيى بن أبي كثير، قال: لا تشهد لمن لا تعرف، ولا تشهد على من لا تعرف، ولا تشهد بما لا تعرف.

أبو عبد الرحمن الضرير، عن علي بن زيد بن جُدعان، عن سعيد بن المسيب قال: قال النبي : رأس العقل بعد الإيمان بالله التودُّدُ إلى الناس.

وقالت عائشة رضي الله تعالى عنها: لا سَمَر إلا لثلاثة؛ مُسافر، ومُصلٍّ، وعَروس.

(٩) قريش أفصح العرب

وقال معاوية يومًا: من أفصَحُ الناس؟ فقال قائل: قومٌ ارتفعوا عن لَخلَخانية الفرات، وتيامنوا عن كَشكَشة تميم، وتياسروا عن كَسكَسة بَكر، ليست لهم غَمغَمة قُضاعة، ولا طُمطُمانية حِميَر. قال: من هم؟ قال: قريش. قال: ممن أنت؟ قال: من جَرْم.

وقال الراجز:

إنَّ تميمًا أُعطِيَت تَماما
وأُعطِيَت مآثرًا عِظاما
وعددًا وحسبًا قَمْقاما
وباذخًا من عزِّها قُدَاما
في الدهرِ أعيا الناسَ أنْ يُراما
إذا رأيتَ منهم الأجساما
والدَّلَّ والشِّيمةَ والكلاما
وأذرُعًا وقَصَرًا وهاما٣٥
عرَفتَ أنْ لم يُخلَقوا طَغاما
ولم يَكُنْ أبوهمُ مِسْقاما
لم تَرَ فيمن يأكُلُ الطَّعاما
أقلَّ منهم سَقَطًا وذاما

تقول العرب: لو لم يكن في الإبل إلا أنها رَقوء الدم. قال جندل بن صخر، وكان عبدًا مملوكًا:

وما فكَّ رِقِّي ذاتُ دَلٍّ خَبَرنَجٍ
ولا شانَ مالي صَدْقةٌ وعُقولُ٣٦
ولكنْ نَماني كلُّ أبيضَ خِضرِمٍ
فأصبحتُ أدري اليومَ كيفَ أقولُ

وقال الفُقيمي:

وما كنتُ نوَّامًا ولكنَّ ثائرًا
أناخَ قليلًا فوقَ ظَهرِ سبيلِ
وقد كنتُ مخزونَ اللِّسانِ ومُفحَمًا
فأصبحتُ أدري اليومَ كيفَ أقولُ

وقال المُغيرة بن شُعبة: مَن دخل في حاجة رجل فقد ضمِنها.

وقال عمر رضي الله تعالى عنه: لكلِّ شيءٍ شرف، وشرف المعروف تعجيله. وقال رجل لإبراهيم النخعي: أعِدُ الرجل الميعاد. قال: فإلى متى؟ قال: إلى وقت الصلاة.

قال: وقال لي بعض القُرشيين: من خاف الكذب أقلَّ من المواعيد. وقال: أمران لا يَسلَمان من الكذب؛ كثرة المواعيد، وشدة الاعتذار.

قال إبراهيم النظَّام: قلت ﻟ «خنجيركور» ممرور الزياديين: اقعد ها هنا حتى أرجع إليك. قال: أما حتى ترجع فإني لا أصبر لك، ولكن أقعد لك إلى الليل.

(١٠) رسالة ابن سيَّابة إلى يحيى بن خالد بن بَرمَك٣٧

وبلَغني أن عامة أهل بغداد يحفظونها في تلك الأيام، وهي كما ترى، وأولها: للأصيَد الجواد، الواري الزِّناد، الماجد الأجداد، الوزير الفاضل، الأشمِّ الباذل، اللُّباب الحُلاحِل، من المستكين المستجير، البائس الضرير، فإني أحمد الله ذا العزة القدير، إليك وإلى الصغير والكبير، بالرحمة العامَّة، والبركة التامَّة. أما بعد، فاغنَم واسلَم، واعلم إن كنت تعلم، أنه من يَرحم يُرحم، ومن يَحرم يُحرم، ومن يُحسِن يَغنَم، ومن يصنع المعروف لا يعدم، وقد سبق إليَّ تغضُّبك عليَّ، واطِّراحك لي، وغفلتك عني بما لا أقوم له ولا أقعد، ولا أنتبه ولا أرقد، فلست بحيٍّ صحيح، ولا بميتٍ مُستريح، فرَرتُ بعد الله منك إليك، وتحمَّلت بك عليك؛ ولذلك قلت:

أسرَعَت بي حثًّا إليك خطائي
فأناخَت بمُذنِبٍ ذي رجاءِ
راغبٍ راهبٍ إليك يُرجِّي
منك عفوًا عنه وفَضْلَ عَطاءِ
ولعَمْري ما من أصرَّ ومن تا
بَ مُقِرًّا من ذَنْبِه بسَواءِ

فإن رأيت، أراك الله ما تحب، وأبقاك في خير، ألا تزهد فيما ترى من تضرُّعي وتخشُّعي، وتذلُّلي وتضعُّفي، فإن ذلك ليس مني بنحيزة ولا طبيعة، ولا على وجه تصنُّع ولا تخدُّع، ولكنه تذلُّل وتخشُّع وتضرُّع، من غير ضارع ولا مَهين، ولا خاشع لمن لا يستحقُّ ذلك، إلا لمن التضرُّع له عز ورِفعة وشرف.

محمد بن حرب الهلالي قال: دخل زُفر بن الحارث على عبد الملك بعد الصلح فقال: ما بقي من حبِّك للضحَّاك؟ فقال: ما لا ينفعني ولا يضرُّك. قال: شدَّ ما أجبتموه مَعاشر قيس! قال: أجَبْناه ولم نُواسِه، ولو كنَّا آسَيناه لقد كنَّا أدركنا ما فاتنا منه. قال: فما منعك من مُواساته يوم المرج؟ قال: الذي منع أباك من مُواساة عثمان يوم الدار. قال الشاعر:

لكلِّ كريمٍ من ألائمِ قومِه
على كلِّ حالٍ حاسِدونَ وكُشَّحُ

قالوا: وقال سليمان بن سعد: لو صحِبني رجل فقال اشترِط عليَّ خصلةً واحدة ولا تَزِد عليها، لقلت: لا تكذبني. قال: وكان يُقال: أربع خِصال يسود بها المرء؛ العلم، والأدب، والعِفَّة، والأمانة.

وقال الشاعر:

لئن طِبتَ نَفْسًا عن ثنائي فإنَّني
لَأطيَبُ نَفْسًا عن نَداكَ على عُسري
فلستُ إلى جَدواك أعظَمَ حاجةٍ
على شِدَّةِ الإعسارِ منك إلى شُكري

وقال الآخر:

أأنْ سُمْتَني ذُلًّا فعِفتُ حِياضَه
سَخِطتَ؟ ومن يأبَ المَذلَّةَ يُعذَرِ
فها أنا مُسترضيك لا من جِنايةٍ
جنَيتُ ولكنْ من تجنِّيكَ فاغفِرِ

وقال إياس بن قتادة:

وإنَّ من الساداتِ من لو أطعتَه
دَعاك إلى نارٍ يَفُورُ سَعيرُها

وقال الآخر:

عزمتُ على إقامةِ ذي صباحٍ
لأمرٍ ما يُسوَّدُ من يَسُودُ

وقال الهُذلي:

وإنَّ سِيادةَ الأقوامِ فاعلَمْ
لها صَعداءُ مَطلَبُها طويلُ

وقال حارثة بن بدر:

إذا الهمُّ أمسى وهْوَ داءٌ فأمِضِه
ولستَ بمُمضِيه وأنتَ تُغازِلُه
ولا تُنزِلَنْ أمْرَ الشديدةِ بامرِئٍ
إذا رامَ أمرًا عوَّقَته عواذِلُه
وقُلْ للفؤادِ إنْ نَزا بك نَزْوةً
من الرَّوعِ أفرِخْ أكثَرُ الرَّوعِ باطِلُه

وقال الآخر:

وإنَّ بقَومٍ سوَّدوك لَفاقةً
إلى سيِّدٍ لو يَظفَرونَ بسيِّدِ

وقال آخر:

وما سُدْتَ فيهم أنَّ فَضْلَك عمَّهم
ولكنَّ هذا الحظَّ في الناسِ يُقسَمُ

وقال حارثة بن بدر:

خَلَتِ الدِّيارُ فسُدتُ غيرَ مُسوَّدِ
ومن الشَّقاءِ تَفرُّدِي بالسؤدُدِ

الفضل بن تميم قال/قال المغيرة: من لم يغضب لم يُعرَف حِلمه.

وقال الشاعر:

وما بالُ ضبعٍ ظلَّ يَطلُبُ دائبًا
فريستَه بينَ الأُسودِ الضَّراغِمِ؟

وقال الآخر:

ذكَرتُ بها عهدًا على الهَجرِ والقِلى
ولا بُدَّ للمُشتاقِ أن يَتذكَّرا

وقال الآخر:

إذا ما شفَيتُ النَّفْسَ أبلَغتُ عُذْرَها
ولا لَومَ في أمرٍ إذا بَلَغَ العُذرُ

وقال الآخر:

لَعَمرُك ما الشَّكوى بأمرِ حَزامةٍ
ولا بُدَّ من شَكوى إذا لم يَكُنْ صَبرُ

وقال الآخر:

لولا ثلاثٌ هنَّ عيشُ الدَّهرِ
الماءُ والنَّومُ وأُمُّ عَمرِو
لَمَا خَشِيتُ من مَضِيقِ القَبرِ

وقال لقيط بن زُرارة:

شَتَّانِ هذا والعِناقُ والنَّومْ
والمَشرَبُ الباردُ في ظلِّ الدَّومْ

وقال والبة [بن الحباب]:

ما العَيشُ إلا في المُدا
مِ وفي اللِّثامِ والقُبَلْ
وإرادةِ الظَّبيِ الغريـ
ـرِ تَسُومُه ما لا يُحَلْ

وقال شيخ من أهل المدينة: ما كنت أريد أن أجلس إلى قوم إلا وفيهم من يحدِّث عن الحسن، ويُنشد الفرزدق.

وقال مُجيب: لا ترى امرأةً مُصبَّرة العين، ولا امرأةً عليها طاق يَمْنة، ولا شريفًا يَهنأ بعيرًا.

وقال أبو براح: ذهب الفِتيان فما ترى فتًى مفرَّق الشعر بالدُّهن، معلِّقًا نعله، ولا ديكَين في خِطار،٣٨ ولا صديقًا له صديق إن قمَرَ ضَغا، وإن عُوقِب جزِع، وإن خلا بصديق فتًى خنثه، وإن ضُرب أقر، وإن طال حبسه ضجِر، ولا ترى فتًى يُحسِن أن يمشيَ في قيده ولا يُخاطب أميره.

قال أبو الحسن: قال أبو عَباية: ترى زُقاق بَراقش، وبساتين هزارِمرد، ما كان يسلكه غلام إلا بخفير، وهم اليوم يخترقونه. قلت: هذا من صلاح الفِتيان. قال: لا، ولكن من فسادهم.

اليقطري قال: قيل لطُفيل العرائس: كم اثنان في اثنين؟ قال: أربعة أرغفة.

وقال رجل لرجل: انتظرتك على الباب بقدر ما يأكل إنسان جردقتَين.

عبد الله بن مصعب قال: أرسل علي بن أبي طالب كرَّم الله وجهه عبد الله بن عبَّاس لما قدِم البصرة، فقال: ائتِ الزبير ولا تأتِ طلحة؛ فإن الزبير أليَن، وإنك تجد طلحة كالثَّور عاقصًا قرنه، يركب الصعوبة٣٩ ويقول: هي أسهل. فاقرأ عليه السلام، وقل له: يقول لك ابن خالك: عرفتني بالحجاز وأنكرتني بالعراق، فما عدا مما بدا؟٤٠ قال: فأتيت الزبير فقال: مرحبًا يا ابن لُبابة، أزائرًا جئت أم سفيرًا؟ قلت: كل ذلك. وأبلغته ما قال علي، فقال الزبير: أبلِغه السلام، وقل: بيننا وبينك عهد خليفة، ودم خليفة، واجتماع ثلاثة، وانفراد واحد، وأمٌّ مبرورة، ومشاورة العشيرة، ونشر المصاحف، فتُحِل ما أحلَّت، وتُحرِّم ما حرَّمت. فلما كان من الغد حرَّش بين الناس غوغاؤهم، فقال الزبير: ما كنت أرى أن مِثل ما جئنا له يكون فيه قتال.

قال: ومن جيِّد الشعر قول جرير:

لئن عُمِّرَت تَيمٌ زَمانًا بعِزَّةٍ
لقد حُدِيَت تَيمٌ حُداءً عَصَبصبا٤١
فلا يَضغمَنَّ اللَّيثُ تَيمًا بغرةٍ
وتيمٌ يَشُمُّون الفريسَ المنيَّبا٤٢

وقال الأعرابي: كحِّلني بالمِيل الذي تُكحَل به العيون الداءة.

وقال ابن أحمر:

وهَجلٍ من قسًا ذَفرِ الخُزامى
تَهادى الجِربياءُ به الحنينا٤٣
بها تَتزخَّرُ القَلَعُ السواري
وجُنَّ الخازبازُ به جُنونا٤٤
تكادُ الشمسُ تخشعُ حينَ يبدو
لهنَّ وما نزَلنَ وما عسِينا

وقال الحكم الخُضري:

كُومٌ تَظاهَرَ نَيُّها وتربَّعَت
بَقْلًا بِعَيهَمَ والحِمى مجنونا
والمجنون: المصروع، ومجنون بني عامر، ومجنون بني جعدة، وإذا فخر النبات قيل: قد جُنَّ. قال الشنفرى:٤٥
وجلَّت ودقَّت واسبكرَّت وأنضَرَت
فلو جُنَّ إنسانٌ من الحُسنِ جُنَّتِ

قال: وسمع الحجَّاج امرأةً من خلف حائط تُناغي طفلًا، فقال: مجنونة أو أُم صبي؟ وقال أبو ثُمامة بن عازب:

وكلُّهمُ قد ذاقَنا فكأنَّما
يَرَونَ علينا جِلدَ أجرَبَ هائلِ

وقال الثعلبي:

يرى الناسُ منَّا جِلدَ أسوَدَ سالخٍ
وفَروةَ ضِرغامٍ من الأُسدِ ضَيغَمِ

وأنشدنا الأصمعي:

مُنهرِتُ الشِّدقَين عُودٌ قد كَمَلْ
كأنَّما قُمِّصَ من لِيطٍ جُعَلْ

وقال نُصيب لعمر بن عبد العزيز: إن لي بُنيَّةً ذررت عليها من سوادي.

وقال عبد الملك للوليد: لا تعزل أخاك عبد الله عن مصر، وانظر عمك محمد بن مروان فأقِرَّه على الجزيرة، وأما الحجَّاج فأنت أحوَجُ إليه منه إليك، وانظر علي بن عبد الله فاستوصِ به خيرًا. فضرب عليًّا بالسياط، وعزل أخاه وعمه.

وقال أبو نخيلة:

أنا ابنُ سعدٍ وتوسَّطتُ العَجَمْ
فأنا فيما شئتُ من خالٍ وعَمْ

وأنشد:

هُمُ وسَطٌ يَرضى الإلهُ بحُكمِهم
إذا نَزَلَت إحدى الليالي بمُعظَمِ

يجعلون ذلك من قول الله تبارك وتعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا.

وأنشد:

ولولا خُلَّةٌ سَبَقَت إليه
وأخْوٌ كانَ من عَرَقِ المُدامِ
دلَفتُ له بأبيَضَ مَشرَفيٍّ
كما يَدنو المُصافِحُ للسَّلامِ

وقال يزيد بن ضبَّة:

لا تُبدِيَنَّ مَقالةً مأثورةً
لا تستطيعُ إذا مضَت إدراكَها

وقال ابن ميَّادة:

يا أيُّها الناسُ رُدُّوا القولَ واستمِعوا
وكلُّ قولٍ إذا ما قيلَ يُستمَعُ

وقال جرير:

ما المُدلِجُ الغادي إليه بسُحرةٍ
إلَّا كآخَرَ قاعدٍ لم يَبرَحِ

وقال العلاء بن المِنهال الغَنوي في شريك بن عبد الله:

فليتَ أبا شريكٍ كان حيًّا
فيُقصِرُ عن مَقالتِه شريكْ
ويَترُكَ مِن تَدَرِّيه علينا
إذا قُلنا له هذا أبوكْ

وقال طارق بن دِثار الطائي:

ما إنْ يَزالُ ببغدادٍ يُزاحِمُنا
على البراذينِ أشباهُ البراذينِ
ما شئتَ من بَغلةٍ سَفواءَ ناجيةٍ
ومن إناثٍ وقولٍ غيرِ موزونِ
أعطاهم اللهُ أموالًا ومَنزلةً
من المُلوكِ بلا عَقلٍ ولا دِينِ

وقال مُنقذ بن دِثار الهلالي:

لا تذكُرنَّ صَنيعةً سلَفَت منـ
ـكَ وإنْ كنتَ لستَ تُنكِرُها
عندَ امرئٍ أنْ تَقُولَ إنْ ذُكِرَت
يومًا من الدهرِ لستُ أذكُرُها
فإنَّ إحياءَها إماتتُها
وإنَّ منَّا بها يُكدِّرُها

قال بعض الحكماء: صاحبك من ينسى معروفه عندك، ويتذكر حقوقك عليه.

وقال مِنقر بن فَروة المِنقري:

وإنْ خِفتَ من أمرٍ فَواتًا فوَلِّه
سِواكَ وعن دارِ الأذى فتَحوَّلِ
وما المرءُ إلا حيثُ يجعلُ نَفْسَه
ففي صالحِ الأعمالِ نَفْسَكَ فاجْعَلِ
ونظر أبو الحارث جُمَّين٤٦ إلى بِرذَون يُستقى عليه الماء، فقال: وما المرء إلا حيث يجعل نفسه، لو هملجَ هذا البِرذَون لم يُجعل للراوية.

وأنشد:

لا خيرَ في كلِّ فتًى نئومِ
لا يَعتريه طارقُ الهُمومِ

وأنشد:

اجعل أبا حَسنٍ كمَن لا تَعرِفُ
واهجُرْه مُقترِنًا وإنْ لم يُخلِفِ
آخِ الكِرامَ المُنصِفِين وصِلْهمُ
واقطَع مودَّةَ كلِّ من لم يُنصِفِ

وقال عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير:

ما زالَ عِصيانُنا للهِ يُسلِمُنا
حتى دُفِعْنا إلى يحيى ودينارِ
إلى عُلَيجَينِ لم يُقطَعْ ثِمارُهما
قد طالما سجَدا للشمسِ والنارِ

وشاتَم أعرابي أعرابيًّا فقال: إنكم لتعتصرون العطاء، وتُعيرون النساء، وتبيعون الماء.

وقال أبو الأسود الدؤلي:

لنا جِيرةٌ سدُّوا المَجازةَ بَيْننا
فإنْ ذكَّروكَ السدَّ فالسدُّ أكيَسُ
ومن خيرِ ما ألصقتَ بالدارِ حائطٌ
تَزِلُّ به صُقْعُ الخطاطيفِ أملَسُ

وأنشد:

إذا لم يَكُنْ للمَرءِ بدٌّ من الرَّدى
فأكرَمُ أسبابِ الرَّدى سببُ الحُبِّ

وقال الآخر:

وإذا شَنِئتُ فتًى شَنِئتُ حديثَه
وإذا سَمِعتُ غِناءَه لم أطرَبِ

وأنشد المسروحي لكامل بن عِكرمة:

لها كلَّ عامٍ مَوعِدٌ غيرُ مُنجَزٍ
ووقتٌ إذا ما رأسُ حَولٍ تَجرَّما
فإنْ وعَدَت شرًّا أتى قبلَ وقتِه
وإنْ وعَدَت خيرًا أراثَ وعتَّما

وقال الآخر:

ألمْ ترَ أنَّ سَيرَ الخَيرِ رَيثٌ
وأنَّ الشرَّ راكِبُه يَطِيرُ

وقال محمد بن يسير:

تأتي المَكارِهُ حينَ تأتي جُملةً
وترى السرورُ يجيءُ في الفَلَتاتِ

وقال الآخر:

إذا ما بَرِيدُ الشامِ أقبَلَ نحوَنا
ببَعضِ الدواهي المُفظِعاتِ فأسرَعا
فإنْ كانَ شرًّا سارَ يومًا وليلةً
وإنْ كانَ خيرًا أقصَدَ السَّيرَ أربَعا

وقال آخر:

فإذا نهضتُ فما النُّهوضُ بدائمٍ
وإذا نُكِبتُ توالتِ النَّكَباتُ

وقال آخر:

وتُعجِبُنا الرؤيا فجُلُّ حديثِنا
إذا نحنُ أصبحنا الحديثَ عنِ الرؤيا
وإنْ حَسُنَت لم تأتِ عَجْلى وأبطأتْ
وإنْ قَبُحَت لم تحتبس وأتَت عَجْلى

قيل لأعرابي: ما أعددت للشتاء؟ قال: جُلَّة رَيوضًا، وصيصة سلوكًا، وشَملة مكودًا، وقُرمصًا دفيئًا، وناقة مُجالحة. وقيل لآخر: ما أعددت للشتاء؟ قال: شِدة الرِّعدة. وقيل لآخر: كيف ليلكم؟ قال: سَحرٌ كله. وقيل لآخر: كيف البرد عندكم؟ قال: ذاك إلى الريح. وقال مَعن بن أوس المُزَني:

فلا وأبي حبيبٍ ما نَفاه
منَ ارْضِ بَني ربيعةَ من هوانِ
وكانَ هو الغنيُّ إلى غِناه
وكانَ من العشيرةِ في مكانِ
تَكنَّفَه الوُشاةُ فأزعَجُوه
ودَعسٌ من قُضاعةَ غيرُ وانِ
فلولا أنَّ أُمَّ أبيه أُمِّي
وأنْ من قد هَجاه فقد هَجاني
وأنَّ أبي أبوه لَذاقَ منِّي
مَرارةَ مِبرَدي ولكانَ شاني
إذًا لأصابَه منِّي هِجاءٌ
يَمُرُّ به الرَّويُّ على لساني
أُعلِّمُه الرِّمايةَ كلَّ يومٍ
فلمَّا اشتدَّ ساعِدُه رَماني

وقال بعض اليهود:

ولو كنتُ أرضى لا أبا لك بالذي
به العائلُ الجثَّامُ في الخَفضِ قانعُ
إذًا قصَرَت عندي الهمومُ وأصبحتْ
عليَّ وعِندي للرِّجالِ صنائعُ

(١١) ذِكر ما قيل في المهالبة وغيرهم

إنَّ المَهالبةَ الكِرامَ تَحمَّلوا
دَفْعَ المَكارهِ عن ذوي المكروهِ
زانُوا قديمهم بحُسنِ حديثِهم
وكريمَ أخلاقٍ بحُسنِ وُجوهِ

وقال أبو الجهم العدوي في معاوية بن أبي سفيان:

نُقلِّبُه لنَخبُرَ حالتَيه
فنَخبُرَ منهما كَرَمًا ولِينا
نَمِيلُ على جوانبِه كأنَّا
نَمِيلُ إذا نَمِيلُ على أبينا

وقال الآخر في هذا الشكل:

إنْ أجْزِ عَلقمةَ بنَ سيفٍ سَعيَه
لا أجْزِه ببَلاءِ يومٍ واحدِ
لأحَبَّني حُبَّ الصبيِّ ورمَّني
رمَّ الهديِّ إلى الغنيِّ الواجدِ
ولقد شفَيتُ غليلتي فنَقَعتُها
من آلِ مسعودٍ بماءٍ باردِ

وقال بُكَير بن الأخنس:

نزَلتُ على آلِ المهلَّبِ شاتيًا
فقيرًا بَعِيدَ الدارِ في سَنةٍ مَحلِ
فما زالَ بي إلطافُهم وافتقادُهم
وإكرامُهم حتى حسِبتُهمُ أهْلي

وقال في كلمة له أخرى:

وقد كنتُ شيخًا ذا تَجارِبَ جَمَّةٍ
فأصبحتُ فيهم كالصبيِّ المدلَّلِ

ورأى المهلَّبَ وهو غلام فقال:

خُذوني به إن لم يَسُدْ سَرَواتِهم
ويَبرَعَ حتى لا يكونَ له مِثلُ

وقال الحزين في طلحة بن عبد الله من ولد أبي بكر الصدِّيق رضي الله تعالى عنه:

فإنْ تَكُ يا طَلْحَ أعطيتَني
جُماليةً تستحقُّ السِّفارا
فما كان نَفعُك لي مَرَّةً
ولا مَرَّتَين ولكنْ مِرارا

وقال أبو الطَّمَحان:

سأمدحُ مالكًا في كلِّ رَكبٍ
لقيتُهمُ وأتركُ كلَّ رَذلِ
فما أنا والبَكارةُ من مَخاضٍ
عِظامٍ جِلَّةٍ سُدُسٍ وبُزْلِ
وقد عرَفَت كلابُكمُ ثيابي
كأني منكمُ ونسيتُ أهلي
نَمَتْكم من بني شَمخٍ زِنادٌ
لها ما شئتَ من فرعٍ وأصلِ

وقال أبو الشغب:

ألا إنَّ خيرَ الناسِ قد تَعلَمونَه
أسيرُ ثقيفٍ مُوثَقًا في السَّلاسلِ
لَعَمري لئن أعمَرتُم السجنَ خالدًا
وأوطأتموه وَطأةَ المُتثاقِلِ
لقد كانَ نهَّاضًا بكلِّ مُلِمَّةٍ
ومُعطي اللُّها غَمرًا كثيرَ النوافلِ
فإنْ تَسجِنوا القَسريَّ لا تَسجِنوا اسمَه
ولا تَسجِنوا معروفَه في القبائلِ

ومن هذا الباب قول أعشى همدان في خالد بن عتَّاب بن ورقاء:

رأيتُ ثناءَ الناسِ بالغَيبِ طيِّبًا
عليكَ وقالوا ماجدٌ وابنُ ماجِدِ
بني الحارثِ السَّامِينَ للمَجدِ إنَّكم
بَنَيتُم بِناءً ذِكرُه غيرُ بائدِ
هنيئًا لِما أعطاكم اللهُ واعلَموا
بأنِّي سأطري خالدًا في القصائدِ
فإنْ يَكُ عتَّابٌ مَضى لسبيلِه
فما ماتَ من يَبقى له مِثلُ خالدِ
ومن هذا الشكل قول الحسين بن مُطَير الأسدي:٤٧
ألِمَّا على مَعْنٍ وقُولا لقَبرِه
سَقَتكَ الغَوادي مَربَعًا ثُمَّ مَربَعا٤٨
أيا قَبرَ مَعنٍ كنتَ أوَّلَ حُفرةٍ
من الأرضِ خُطَّت للسَّماحةِ مَوضِعا
ويا قَبرَ مَعنٍ كيف وارَيتَ جُودَه
وقد كانَ منه البَرُّ والبحرُ مُترَعا
بلى قد وسِعتَ الجودَ والجودُ ميِّتٌ
ولو كان حيًّا ضِقتَ حتى تَصدَّعا
فلمَّا مضى مَعنٌ مضى الجودُ والندى
وأصبحَ عِرنينُ المَكارمِ أجدعا
فتًى عِيشَ في معروفِه بعدَ موتِه
كما كانَ بعدَ السَّيلِ مَجراه مَرتَعا
تَعزَّ أبا العبَّاس عنه ولا يَكُنْ
جزاؤُك من مَعنٍ بأنْ تَتضَعضعا
فما ماتَ من كنتَ ابنَه لا ولا الذي
له مِثلُ ما أسدى أبوكَ وما سعى
تَمنَّى أناسٌ شأوَه من ضلالِهم
فأضحَوا على الأذقانِ صَرْعى وظُلَّعا
وهذا مِثلُ قول مُسلم بن الوليد٤٩ في يزيد بن مَزيَد:٥٠
قَبرٌ ببَردَعةَ استسرَّ ضريحُه
خَطرًا تَقاصَرَ دُونَه الأخطارُ٥١
أبقى الزمانُ على مَعَدٍّ بعدَه
حُزنًا كعُمرِ الدهرِ ليس يُعارُ٥٢
نقَضَت به الآمالُ أحلاسَ الغِنى
واسترجَعَت نُزَّاعَها الأمصارُ٥٣
فاذهَبْ كما ذهَبَت غَوادي مُزنةٍ
أثْنى عليها السهلُ والأوعارُ

(١٢) ذِكر حروف من الأدب من حديث بني مروان وغيرهم

قيل: إذا رسخ الرجل في العلم رُفعت عنه الرؤيا الصالحة.

مَسلمة قال: كان عند عمر بن عبد العزيز رَجلان فجعلا يلحنان، فقال الحاجب: قُوما فقد أوذيتما أمير المؤمنين. قال عمر: أنت آذى لي منهما.

المدائني قال: قعد قُدَّام زياد رجلٌ ضباعي — من قرية باليمن يُقال لها ضباع — وزيادٌ يبني داره، فقال له: أيها الأمير، لو كنت عملت باب مشرقها من قِبَل مغربها، وباب مَغربها من قِبَل مَشرقها. فقال: أنَّى لك هذه الفصاحة؟ قال: إنها ليست من كتاب ولا حساب، ولكنها من ذكاوة العقل. فقال: وَيلَك، الثاني شر.

شُعبة، عن الحكم، قال: قال عبد الرحمن بن أبي ليلى: لا أُماري أخي؛ فإما أن أكذِبه وإما أن أُغضِبه.

ابن أبي الزِّناد قال: إذا اجتمعت حُرمتان تُركَت الصغرى للكبرى.

وعن أبي بكر الهُذلي، واسمه سُلْمي، قال: إذا جمع الطعام أربعًا فقد كمل؛ إذا كان حلالًا، وكثرت عليه الأيدي، وسُمِّي الله على أوله، وحُمد على آخره.

وقال ابن قميئة:

وأهوَنُ كفٍّ لا تَضِيرُك ضَيرةً
يدٌ بينَ أيْدٍ في إناءِ طعامِ
يدٌ من قريبٍ أو غريبٍ بقَفْرةٍ
أتَتْك بها غَبْراءُ ذاتُ قَتامِ

وقال حمَّاد عَجرَد:

حُبَيشٌ أبو الصَّلتِ ذو خِبرةٍ
بما يُصلِحُ المِعدةَ الفاسدةْ
تَخوَّفَ تُخْمةَ أصحابِه
فعوَّدَهم أكْلةً واحدةْ

وقال سُوَيد المراثد:

إنِّي إذا ما الأمرُ بيَّنَ شكَّه
وبَدَت بَصائرُه لمن يَتأمَّلُ
وتَبرَّأَ الضُّعفاءُ من إخوانِهم
وألحَّ من حَرِّ الصميمِ الكَلكَلُ
أدَعُ التي هي أرأفُ الخَلَّاتِ بي
عندَ الحفيظةِ للَّتي هي أجمَلُ

(١٣) ومما يُكتب في باب العصا

[قال حسَّان بن الغدير]:٥٤
قالت أُمامةُ يَومَ بُرْقةِ واسطٍ
يا ابنَ الغديرِ لقد جَعَلتَ تَغيَّرُ
أصبحتَ بعدَ زمانِك الماضي الذي
ذهبَتْ شبيبتُه وغُصنُك أخضَرُ٥٥
شيخًا دِعامتُك العَصا ومُشيَّعًا
لا تَبتغي خيرًا ولا تُستخبَرُ٥٦

ويُضم البيت الأخير إلى قوله:

وهُلكُ الفتى ألَّا يراحَ إلى النَّدى
وألَّا يرى شيئًا عجيبًا فيَعجَبا
ومن يبتغي مني الظُّلامةَ يَلقَني
إذا ما رآني أصلَعَ الرأسِ أشيَبا

وقال بعض الحكماء: أعجَبُ من العَجب تركُ التعجُّب من العَجب. وقيل لشيخٍ هِم: أيَّ شيءٍ تشتهي؟ قال: أسمع بالأعاجيب.

وأنشد:

عريضُ البِطانِ جَديبُ الخِوانِ
قريبُ المِراثِ من المَرتَعِ
فنِصفُ النهارِ لكِرْياسِه
ونِصفٌ لمَأكَلِه أجمَعِ

ومما يُضم إلى العصا قوله:

لَعَمْري لئن حُلِّئتُ عن مَنهَلِ الصِّبا
لقد كنتُ ورَّادًا لمَشرَبِه العَذبِ
لياليَ أغدو بينَ بُردَينِ لاهيًا
أمِيسُ كغُصنِ البانةِ الناعِمِ الرَّطبِ
سلامٌ على سَيرِ القِلاصِ معَ الرَّكْبِ
ووَصلِ الغَواني والمُدامةِ والشَّربِ
سَلامَ امرئٍ لم تَبقَ منه بَقيَّةٌ
سِوى نظرِ العَينَينِ أو شَهوةِ القَلبِ

وقال حاجب بن ذبيان لأخيه زرارة:

عجِلتُ مَجيءَ الموتِ حتَّى هجَرتَني
وفي القبرِ هَجرٌ يا زُرارُ طويلُ

وقال الآخر:

ألمْ تَعلَمي يا عَمْرَكِ اللهُ أنَّني
كريمٌ على حينِ الكِرامُ قليلُ
وأنِّيَ لا أخزى إذا قيلَ مُقتِرٌ
جوادٌ وأخزى أنْ يُقالَ بَخِيلُ
وإلَّا يَكُنْ عَظْمي طويلًا فإنَّني
له بالخِصالِ الصَّالحاتِ وَصُولُ
إذا كنتُ في القَومِ الطِّوالِ فضَلتُهم
بعارفةٍ حتَّى يُقالَ طويلُ
ولا خيرَ في حُسنِ الجُسومِ وطُولِها
إذا لم يَزِنْ حُسْنَ الجُسومِ عُقولُ
وكائنْ رأيْنا من فُروعٍ طويلةٍ
تَمُوتُ إذا لم تُحيِهنَّ أُصولُ
ولم أرَ كالمعروفِ أمَّا مَذاقُه
فحُلوٌ وأمَّا وَجهُه فجَمِيلُ

وقال زياد بن زيد:

إذا ما انتهى عِلمي تَناهَيتُ عندَه
أطالَ فأمْلى أم تَناهى فأقصَرا
ويُخبِرُني عن غائبِ المرءِ فِعلُه
كفى الفِعلُ عمَّا غيَّبَ المرءُ مُخبِرا

وقال آخر:

أبِرُّ فما يَزدادُ إلا حماقةً
ونَوكًا وإنْ كانت كثيرًا مَخارِجُه
وقال ابن الرِّقاع:٥٧
وقصيدةٍ قد بِتُّ أجمَعُ بينها
حتى أُقوِّم ميلَها وسِنادَها
نَظَرَ المثقِّفِ في كُعوبِ قناتِه
حتى يُقِيمَ ثِقافُه مُنآدَها
وعلِمتُ حتى لستُ أسألُ عالِمًا
عن حرفِ واحدةٍ لكَي أزدادَها

وقال بعض الأعراب:

لولا مَسرَّةُ أقوامٍ تَصعَّدَني
أو الشَّماتةُ من قومٍ ذوي إحَنِ
ما سرَّني أنَّ إبْلي في مَبارِكِها
وأنَّ أمرًا قَضاه اللهُ لم يَكُنِ

وقال الآخر:

وإنِّي لأهوى ثُم لا أتبَعُ الهوى
وأُكرِمُ خِلَّاني وفيَّ صُدودِ
وفي النَّفْسِ عن بَعضِ التعرُّضِ غِلظةٌ
وفي العَينِ عن بَعضِ البُكاءِ جمودِ

وقال كُثيِّر:

تَرى القومَ يُخفُونَ التبسُّمَ عندَه
ويُنذِرُهم عُورَ الكَلامِ نَذيرُها
فلا هاجِراتُ القولِ يؤثَرنَ عندَه
ولا كلِماتُ النُّصحِ مُقصًى مُشِيرُها

وقال المُقشعرُّ:

يقرُّ بعيني أنْ أرى قِصَدَ القنا
وصَرْعى رِجالٍ في وغًى أنا حاضِرُه

وقال الكُمَيت:

أحسَنُ منها ذِيادُ خامسةٍ
في الوِردِ أو فَيلَقٌ يُجالِدُها

وقال صالح بن مِخراق في كلام له: لولا أن الله تبارك وتعالى قال كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ لأنبأتكم أني لا أكرهه.

وقال الآخر:

تركتُ الرِّكابَ لأربابِها
وأكرَهتُ نَفْسي على ابنِ الصَّعِقْ
جعلتُ يديَّ وِشاحًا له
وبعضُ الفوارسِ لا يُعتنَقْ

قال: قال عمر بن عبد العزيز يومًا في مجلسه: من أُم النُّعمان بن المُنذر؟ فقال رَوح بن الوليد بن عبد الملك: سَلمى بنت عُقاب. قال: إنه ليُقال ذلك، يا حاجبُ أحسِنْ إذنه.

قالوا: عشر خِصال في عشرة أصناف من الناس أقبَحُ منها في غيرهم؛ الضِّيق في الملوك، والغدر في الأشراف، والكذب في القضاة، والخديعة في العلماء، والغضب في الأبرار، والحرص في الأغنياء، والسفه في الشيوخ، والمرض في الأطبَّاء، والزهو في الفقراء، والفخر في القُراء.

وأنشد:

ولا تَقبَلوا عَقلًا وأُمُّوا بِغارةٍ
بَني عبدِ شمسٍ بينَ دُومةَ والهَضْبِ
وهُزُّوا صُدورَ المَشرَفيِّ كأنَّما
يَقَعنَ بِهامِ القومِ في حَنظَلٍ رَطْبِ

ويُضم إلى بيت الكُميت وبيت المُقشعر قولُ الحَكَمي:

أحسَنُ عِندِي من انكبابك بالـ
ـفِهرِ مُلِحًّا به على وَتِدِ
وُقوفُ ريحانةٍ على أُذنٍ
وسيرُ كأسٍ إلى فمٍ بِيَدِ

وفي بابٍ غير هذا يقول حسَّان بن ثابت:

ما أُبالي أنَبَّ بالحَزنِ تَيسٌ
أم لَحاني بظَهرِ غَيبٍ لئيمُ

وأنشدوا:

خُبِّرتُ أنَّ طُوَيلبًا يَغْتابُنا
بعَضِيهةٍ يَتنحَّلُ الأقوالا
ما ضرَّ سادةَ نَهشَلٍ أهَجاهمُ
أم قامَ في عُرضٍ الحويِّ فَبالا

وقال الفرزدق في هذا المعنى:

ما ضَرَّ تَغلِبَ وائلٍ أهَجَوتَها
أم بُلْتَ حيثُ تَناطَحَ البَحرانِ

وقال الآخر في هذا المعنى:

ما يَضِيرُ البَحرَ أمسى زاخرًا
أنْ رَمى فيه غُلامٌ بحَجَرْ

(١٤) ومما يُزاد في باب العصا

قول جرير بن الخطفى:

ويُقضى الأمرُ حينَ تَغِيبُ تَيمٌ
ولا يُستأمَرونَ وهُمْ شُهودُ
وقد سلَبَت عَصاك بنو تميمٍ
فما تَدري بأيِّ عصًا تذودُ

وقال الحسن بن عَرفطة بن نَضلة:

لِيَهنِكَ بُغضٌ في الصديقِ وضِنَّةٌ
وتحديثُك الشيءَ الذي أنتَ كاذِبُه
وأنَّك مِهداءُ الخَنا نَطِفُ الثَّنا
شديدُ السِّبابِ رافِعُ الصَّوتِ غالِبُه
وأنَّك مشنوءٌ إلى كلِّ صاحبٍ
بَلاكَ ومِثلُ الشَّرِّ يُكرَهُ جانِبُه
ولم أرَ مِثلَ الجَهلِ أدنى إلى الرَّدى
ولا مِثلَ بُغضِ الناسِ غُمِّضَ صاحِبُه

وقال قتادة بن خُرجة التغلبي:

خليليَّ يومَ السَّلسلَين لوَ انَّني
بهيرا اللِّوا أنكرتُ ما قُلتُما ليا
ولكنَّني لم أنْسَ ما قالَ صاحِبي
نَصِيبَك من ذُلٍّ إذا كنتَ نائبا

وقال خالد بن نَضلة:

إذا كنتَ في قومٍ عِدًى لستَ منهمُ
فكُلْ ما عُلِفتَ من خبيثٍ وطيِّبِ

وقال أحمد بن يوسف، وكان يتعشَّق يحيى بن سعيد بن حماد:

إنَّ يحيى بنَ سعيدٍ
يَشتهي أنْ أشتهيه
فهْوَ يَلقاني بِتَورِيـ
ـمٍ وأحيانًا بِتِيه

وقال أبو سعيد، دَعيُّ بني مخزوم، في مُهاجاة دِعبل:

ولولا نِزارٌ لَضاقَ الفضاءُ
ولم يَبقَ حِرزٌ ولا مَعقِلُ
وأخرَجَتِ الأرضُ أثقالَها
وأُدخِلَ في اسْتِ امِّه دِعبلُ

وقال:

حَدَقُ الآجالِ آجالُ
والهَوى للمَرءِ قتَّالُ
والهوى صَعبٌ مَراكِبُه
ورُكوبُ الصَّعبِ أهوالُ
ليس من شَكْلي فأشتُمَه
دِعبلٌ والناسُ أشكالُ
هِمَّتي في التاجِ ألبسُه
وله في الشِّعرِ آمالُ

وقال:

هذا اللُّبانيُّ يَحوي
جوائزَ الخُلفاءِ
ففي حِرِ امِّي مَديحي
وفي حِرِ امِّي هِجائي
وفي حِرِ امِّي وإنْ كُنـ
ـتُ سيِّدَ الشُّعَراءِ

وقال محمد بن يسير:

في حِرِ امِّ النَّاسِ كلِّهمِ
أنا في هذا منَ اوَّلِهم
لستَ تدري حينَ تُخبِرُهم
أينَ أدناهم منَ افضَلِهم

وقال:

إذا ما جاوَزَ النُّدماءُ خمسًا
بِرَبِّ البَيتِ والساقي الأديبِ
فأيْرٌ في حِرِ امِّ فتًى دعانا
وأيْرٌ في حِرِ امِّ فتًى مُجِيبِ

وقال سَلْم الخاسر:

بِهارونَ قرَّ الملكُ في مُستقَرِّه
وأشرَقَتِ الدُّنيا وأينَعَ نَورُها
وليس لأيَّامِ المَكارمِ غايةٌ
تَتِمُّ بها إلَّا وأنت أميرُها

وقال بشَّار بن بُرد:

من فتاةٍ صُبَّ الجَمالُ عليها
في حديثٍ كلَذَّةِ النَّشْوانِ
ثُم فارَقتُ ذاك غيرَ ذميمٍ
كلُّ عَيشِ الدُّنيا وإنْ طالَ فانِ

وقال مُزاحم العُقيلي:

تَزِينُ سَنا الماويِّ كلَّ عَشيَّةٍ
على غَفَلاتِ الزَّينِ والمُتجمِّلِ
وُجوهًا لوَ انَّ المُدلِجِين اعتشَوا بها
صَدَعنَ الدُّجى حتى يُرى الليلُ يَنجلي

وقال المسعودي:

إنَّ الكِرامَ مُناهِبُو
ك المَجدَ كلَّهمُ فَناهِبْ
أخلِفْ وأتلِفْ كلُّ شي
ءٍ زَعزَعَته الرِّيحُ ذاهِبْ

قال شيخ من الأطبَّاء: الحمد لله، فلانٌ يُزاحمنا في الطب ولم يختلف إلى البيمارستان تمام خمسين سنة.

وحدَّثني محمد بن عبد الملك، صديقٌ لي، قال: سمعت رجلًا من فُرسان طبرستان يقول: فلانٌ يدَّعي الفروسية، ولو كُلِّف أن يُخليَ فروج فرسه مُنحدرًا من جبل لَمَا قدر عليه.

وقال بعض العبيد:

أيَبعَثُني في الشَّاءِ وابنُ مُخَيلدٍ
على هَجمةٍ قد لوَّحَتها الطبائخُ
متى كانَ حمرانُ النَّباتيُّ راعيًا
وقد راعَه بالذَّودِ أسوَدُ سالخُ

وقال كُثيِّر في عمر بن عبد العزيز رحمه الله:

تَكلَّمتَ بالحقِّ المُبِينِ وإنَّما
تُبيَّنُ آياتُ الهُدى بالتكلُّمِ
ألا إنَّما يَكفي القنا بعدَ زيغِه
من الأوَدِ البادي ثِقافُ المُقوِّمِ

الأصمعي قال: قال ابن عبيد: لا يزال الناس بخيرٍ ما داموا إذا اختلج في صدر الرجل شيءٌ وجد من يُفرِّج عنه.

قال البعيث في إبراهيم بن عدي:

تَرى مِنبَرَ العَبدِ اللَّئيمِ كأنَّما
ثلاثةُ غِربانٍ عليه وُقوعُ

وقال الأعشى:

رُبَّ رِفدٍ هرَقتَه ذلك اليَو
مَ وأسرى من مَعشرٍ أقيالِ

وقالوا: لا وَكْس ولا شَطَط.

وقال الشاعر:

ومُدجَّجٍ كَرِهَ الكُماةُ نِزالَه
لا مُمعِنٍ هَرَبًا ولا مُستسلِمِ

وقال زُهير:

دُونَ السماءِ وفوقَ الأرضِ قَدرُهما
عندَ الذُّنابى فلا فَوتٌ ولا دَرَكُ

وقالوا: خير الأمور أوساطها، وشر السَّير الحَقحقة. قال: والمثل السائر، والصواب المستعمل: لا تكُن حُلوًا فتُزدرَد، ولا مرًّا فتُلفَظ.

وقال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: إن هذا الأمر لا يُصلحه إلا لِين في غير ضعف، وشِدَّة في غير عنف.

وكان الحجَّاج يُجاوز العنف إلى الخُرق، وكان كما وصف نفسه، قال: أنا حديدٌ حقود، وذو قسوةٍ حسود. وذكره آخر فقال: كان شرًّا من صبي.

وقال أكثم بن صَيفي: تناءَوا في الديار، وتواصَلوا في المَزار.

وكان ناسئ الشهور يقول: اللهم باعِدْ بين نسائنا، وقارِبْ بين رِعائنا، واجعل الأموال في سُمحائنا.

وقال آخر:

شتَّى مَراجِلُهم فَوضى نساؤُهمُ
فكلُّهم لأبيه ضَيزَنٌ سَلِفُ

وقال آخر: من أمَّل أحدًا هابَه، ومن قصَّر عن شيءٍ عابَه.

وقال الآخر:

رجَعْنا سالِمِينَ كما بَدأنا
وما خابت غنيمةُ سالمينا

وقال امرؤ القيس بن حُجْر:

لقد نقَّبتُ في الآفاقِ حتى
رضِيتُ من الغنيمةِ بالإيابِ

وقيل لابن عبَّاس: أيُّما أحَبُّ إليك، رجلٌ يُكثِر من الحسنات ويُكثِر من السيئات، أو يُقلُّ من الحسنات والسيئات؟ قال: ما أعدِل بالسلامة شيئًا.

وقالت أعرابية:

لا تَحمَدوني في الزيارةِ إنَّني
أزُورُكمُ إلَّا أجِدْ مُتعلَّلا

يعقوب بن داود قال: ذم رجلٌ الأشتر، فقال له رجل من النخع: اسكت؛ فإن حياته هزمت أهل الشام، وموته هزم أهل العراق.

أبو الحسن قال: أُرسلت الخيل أيامَ بِشر بن مروان، فسبق فرس عبد الملك بن بشر، فقال له إسماعيل بن الأشعث:

والله لأُرسلنَّ غدًا مع فرسك فرسًا لا يعرف أن أباك أمير العراق. فجاء فرس إسماعيل سابقًا، فقال: ألمْ أُعلمك؟

وقال أبو العتاهية:

أيا مَن لي بأُنسِك يا أُخيَّا
ومن لي أنْ أبُثَّكَ ما لديَّا
كفى حُزنًا بدَفنِك ثُم أنِّي
نفَضتُ تُرابَ قبرِك عن يَديَّا
طوَتْكَ خُطوبُ دَهرِك بعدَ نشرٍ
كذاك خُطوبُه نَشرًا وطَيَّا
فلو نَشَرَت قُواك ليَ المنايا
شكَوتُ إليك ما صنَعَت إليا
بَكيتُك يا أُخيَّ بدرِّ عيني
فلم يُغنِ البُكاءُ عليك شيَّا
وكانت في حياتِك لي عِظاتٌ
وأنتَ اليومَ أوعَظُ منك حيَّا

وقال الآخر:

أبَعدَ الذي بالنَّعفِ نَعفِ كُوَيكبٍ
رَهينةَ رَمسٍ بينَ تُربٍ وجَندَلِ
أُذكَّرُ بالبُقيا على من أصابَني
وبُقيايَ أني جاهدٌ غير مؤتَلِ؟

يقول: وهذا بَقياي.

(١٥) كلام عن حِلم معاوية

قال: قيل لشَريك بن عبد الله: كان معاوية حليمًا. قال: لو كان حليمًا ما سَفِه الحق ولا قاتَل عليًّا، ولو كان حليمًا ما حمل أبناء العبيد على حُرمه، ولمَا أنكح إلا الأكْفاء. وأصوَبُ من هذا قول الآخر: كان معاوية يتعرَّض ويَحلُم إذا أُسمِع، ومن تعرَّض للسفيه فهو سفيه. وقال الآخر: كان يحب أن يُظهِر حِلمه، وقد كان طار اسمه بذلك، فكان يحب أن يزداد في ذلك.

وقال الفرزدق:

وكانَ يُجِيرُ الناسَ من سَيفِ مالكٍ
فأصبحَ يَبْغي نفسَه من يُجِيرُها
وكانَ كعَنزِ السُّوءِ قامت بظِلفِها
إلى مُدْيةٍ تحتَ التُّرابِ تُثِيرُها

وقال التُّوت اليماني:

على أيِّ بابٍ أطلُبُ الإذنَ بعدَما
حُجِبتُ عنِ البابِ الذي أنا حاجِبُه

وهذا مِثل قوله:

والسببُ المانعُ حظَّ العاقِلِ
هو الذي سبَّبَ رِزقَ الجاهِلِ

ومِثله:

ورُبَّتَ حَزمٍ كانَ للسُّقمِ عِلَّةً
وعِلَّةُ بُرءِ الداءِ حظُّ المُغفَّلِ

وقال آخر:

يَخِيبُ الفتى من حيثُ يُرزَقُ غيرُه
ويُعطى الفتى من حيثُ يُحرَمُ صاحِبُه

وقال عثمان بن الحُويرث لعمرو بن العاص:

له أبَوانِ فهْوَ يُدعى إليهما
وشرُّ العِبادِ من له أبَوانِ
وقد حكَما فيه لتصديقِ أُمِّه
وكانَ لها عِلمٌ به بِبَيانِ
فقالت صَراحًا وهْيَ تَعلَمُ غيرَه
ولكنَّها تهذي بغيرِ لِسانِ

وقال الآخر:

يَطلُبنَ بالقومِ حاجاتٍ تَضمَّنَها
بَدرٌ بكلِّ لسانٍ يَلبَسُ المِدَحا
كأنَّ فَيضَ يَدَيه قبلَ مسألةٍ
بابُ السماءِ إذا ما بالحيا انفتحا
وكَّلتَ بالدَّهرِ عَينًا غيرَ غافلةٍ
من جُودِ كفِّك تأسو كلَّما جَرَحا

ومِثله:

إذا افتقرَ المِنهالُ لم يُرَ فَقرُه
وإنْ أيسَرَ المِنهالُ أيسَرَ صاحِبُه

وقال علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: من أفضل العبادة الصمتُ وانتظار الفَرَج.

وقال يزيد بن المهلَّب، وكان في سجن الحجَّاج: لهفي على طلبة بمائة ألف، وفرج في جبهة أسد.

وأنشد:

رُبَّما تَجزَعُ النُّفوسُ من الأمـ
ـر له فُرجةٌ كحَلِّ العِقالِ

وأنشد:

كَرِهتُ وكانَ الخيرُ فيما كَرِهتُه
وأحبَبتُ أمرًا كان فيه شَبا القَتلِ

وهذا مِثل قوله تعالى: وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ.

وكان يُقال: خذ مُقتصد العراق، ومُجتهد الحجاز.

وقال الآخر:

لكلِّ كريمٍ من ألائمِ قومِه
على كلِّ حالٍ حاسِدونَ وكُشَّحُ

وقال جرير:

إنِّي لآمُلُ منك خيرًا عاجلًا
والنَّفْسُ مُولَعةٌ بحُبِّ العاجلِ

وقال تبارك وتعالى: قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ.

وقال ابن هَرمة:

أشَمُّ من الذين بهم قُرَيشٌ
تُداوي بَيْنها عَينَ القتيلِ
كأنَّ تلألؤَ المعروفِ فيه
شُعاعُ الشمسِ في السَّيفِ الصَّقيلِ

وقال امرؤ القيس:

أجارتَنا إنَّ المَزارَ قريبُ
وإنِّي مُقِيمٌ ما أقامَ عَسِيبُ
أجارتَنا إنَّا غريبانِ ها هُنا
وكلُّ غريبٍ للغريبِ نَسِيبُ

وقال بشَّار:

وإذا أغَرتَ فلا تَكُنْ جَشِعًا
تَسمُو لغَثِّ الكَسبِ تَكسبُه

وقال حسَّان بن ثابت:

أهدى لهم مِدَحي قلبٌ يُوازِرُه
فيما أُحِبُّ لسانٌ حائكٌ صَنَعُ

وقال الأصمعي: أنشدَنا أبو مهديَّة:

ضَحَّوا بأشمَطَ عُنوانُ السُّجودِ به
يُقطِّعُ الليلَ تسبيحًا وقُرآنا

وقال الخزرجي يرد على أبي قيس بن الأسلت، واسمه صيفي:

أتَفخَرُ صَيفيُّ فيما تَقُو
لُ أنْ نِلتُمُ عَيلةً أربعةْ
عَرانينَ كلُّهمُ ماجِدُ
كثيرُ الدسائعِ والمَنفعةْ
فهَلَّا حضَرتَ غَداةَ البقيـ
ـع لمَّا استمالَ أبو صعصعةْ
ولكن كَرِهتُم شُهودَ الوَغى
وكنتم كذلك في المَعمعةْ
سِراعًا إلى القتلِ في خِفيةٍ
بِطاءً عن القتلِ في المَجمعةْ

وأنشد الأصمعي:

آتي النديَّ فلا يُقرَّبُ مَجلسي
وأقودُ للشَّرفِ الرفيعِ حِماريا

وقال حبيب بن أوس:

كالخُوطِ في القَدِّ والغزالةِ في البَهـ
ـجةِ وابن الغزالِ في غَيَدِه
وما حكاه ولا نعيمَ له
في جِيدِه بل حَكاه في جَيَدِه
إلى المُفدَّى أبي يزيدَ الذي
يَضِلُّ غَمرُ الملوكِ في ثَمَدِه
ظِلُّ عُفاةٍ يُحِبُّ زائرَه
حُبَّ الكبيرِ الصغيرَ من ولدِه
إذا أناخوا ببابِه أخذوا
حُكمَهمُ من لسانِه ويدِه

وقال أيضًا:

لَعَمرُك ما كانوا ثلاثةَ إخوةٍ
ولكنَّهم كانوا ثلاثَ قبائلِ

(١٦) ومن خُطباء الخوارج

قَطَريُّ بن الفُجاءة، أحد بني كِنانة بن حُرقوص، وكُنيته أبو نعامة في الحرب، وفي السلم أبو محمد، وهو أحد رؤساء الأزارقة، وكان خطيبًا فارسًا. خرج زمن مصعب بن الزبير، وبقي عشرين سنةً، وكان يدين بالاستعراض والسِّباء وقتل الأطفال. وكان آخر من بُعث إليه سفيان بن الأبرد الكلبي، وقتله سَورة بن الجبر الدارمي من بني أبان بن دارم.

(١٧) ومن خطباء الخوارج وشعرائهم وعلمائهم

حبيب بن جدرة، عِداده في بني شيبان، وهو مولًى لهلال بن عامر.

ومن علمائهم وخطبائهم وأئمتهم الضحَّاكُ بن قيس، أحد بني عمرو بن محلم بن ذهل بن شيبان، ويُكنى أبا سعيد، ملك العراق، وصلَّى خلفه عبد الله بن عمر٥٨ وعبد الواحد بن سليمان. وقال شاعرهم:
ألمْ تَرَ أنَّ اللهَ أظهَرَ دِينَه
وصلَّت قُريشٌ خلفَ بَكرِ بنِ وائلِ؟

ومن علمائهم وخطبائهم نصر بن مِلحان، وكان الضحَّاك ولَّاه الصلاة بالناس والقضاء بينهم.

ومن علمائهم مُلَيل وأصغر ابنا عبد الرحمن، وأبو عبيدة كورين، واسمه مسلم، وهو مولًى لعُروة بن أُذَينة.

ومن علمائهم وخطبائهم وشعرائهم وقَعَدهم وأهل الفقه [منهم] عِمرانُ بن حِطَّان، ويُكنى أبا شهاب، أحد بني عمرو بن شيبان بن ذهل بن ثعلبة.

ومن الخوارج من بني ضبة ثم أحد بني صبيح: القاسم بن عبد الرحمن بن صُدَيق، وكان ناسبًا عالِمًا داهيًا، وكان يشوب ذلك ببعض الظرف.

ومن علمائهم ونُسابهم وأهل اللَّسَن منهم الجَون بن كلاب، وهو من أصحاب الضحاك.

ومن رجالهم وأهل البيان والنجدة منهم خُراشة، وكان ركَّاضًا، ولم يكن اعتقد.

أخبرني أبو عُبيدة قال: كان مِسمار مُستخفيًا بالبصرة، فتخلَّصت إليه، فأخبرني أنه الذي طعن مالك بن علي في فيه، وذلك أنه فتح فاه يقول أنا أبو علي، فاتحًا فاه، فطعنه في جوف فمه.

ومن شعرائهم عِتبان بن وصيلة الشيباني، وهو الذي يقول:

ولا صُلْحَ ما دامَت مَنابِرُ أرضِنا
يقومُ عليها من ثقيفَ خطيبُ
وعن عيسى بن طلحة قال: قلت لابن عباس: أخبِرني عن أبي بكر. قال: كان خيرًا كله، على الحدة وشدة الغضب. قال: قلت: أخبِرني عن عمر. قال: كان كالطائر الحذِر، قد علِم أنه قد نُصِب له في كلِّ وجهٍ حِبالة، وكان يعمل لكل يوم بما فيه على عنف السياق. قال: قلت: أخبِرني عن عثمان. قال: كان والله صوَّامًا قوَّامًا، لم يخدعه نومه عن يقظته. قال: قلت: فصاحبكم؟٥٩ قال: كان والله مملوءًا حِلمًا وعِلمًا، غرَّته سابقته وقرابته، وكان يرى أنه لا يطلب شيئًا إلا قدر عليه. قلت: أكنتم ترَونه محدودًا؟ قال: أنتم تقولون ذاك.

(١٨) كلام في الأدب

قال معاوية: ما رأيت سَرفًا قط إلا وإلى جنبه حقٌّ مضيَّع.

وقال عثمان بن العاص: الناكح مُغترِس، فلينظر امرؤٌ حيث يضع غرسه.

وقالت هند ابنة عُتبة: المرأة غُل، ولا بد للعنق منه، فانظر من تضعه في عنقك.

وقال ابن المقفع: الدَّين رِق، فانظر عند من تضع نفسك.

وقال عمرو بن مسعدة، أو ثابت أبو عبَّاد: لا تستصحب من يكون استمتاعه بمالك وجاهك أكثر من إمتاعه لك بشكر لسانه وفؤاد علمه. ومن كانت غايته الاحتيال على مالك، وإطرائك في وجهك، فإن هذا لا يكون إلا رديء الغيب، سريعًا إلى الذم.

بسم الله الرحمن الرحيم

قد قلنا في صدر هذا الجزء الثالث في ذِكرنا العصا ووجوه تصرُّفها، وذكرنا من مقطَّعات كلام النُّساك، ومن قِصار مواعظ الزهاد، وغير ذلك مما يجوز في نوادر المعاني وقِصار الخُطب، ونحن ذاكرون على اسم الله وعونه صدرًا من دعاء الصالحين والسلف المتقدمين، ومن دعاء الأعراب؛ فقد أجمعوا على استحسان ذلك واستجادته، وبعض دعاء الملهوفين والنُّساك المتبتِّلين.

قال الله تبارك وتعالى لنبيه : قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ. وقال: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ. وقال تعالى: يَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا. وقال: وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ.

قالوا: كان عمرو بن معاوية العُقيلي يقول: اللهم قِني عثرات الكِرام.

وقال أعرابي لرجلٍ سأله: جعل الله الخير عليك دليلًا، ولا جعل حظ السائل منك عُذرة صادقة.

وقال بعض كرام الأعراب ممن يَقرِض الشعر ويؤثِر الشكر:

لعلَّ مُفِيداتِ الزمانِ يُفِدنَني
بني صامتٍ في غيرِ شيءٍ يَضِيرُها

وقال شيخٌ أعرابي: اللهم لا تُنزِلني ماء سوء فأكون امرأ سوء.

قال: وسمعت عمر بن هُبيرة يقول في دعائه: اللهم إني أعوذ بك من صديقٍ مُطرٍ، وجليسٍ مُغرٍ، وعدوٍّ مُسرٍ.

قال: كتب ابن سيَّابة إلى صديق له، إما مُستقرضًا وإما مُستفرضًا، فذكر صديقه خلةً شديدة، وكثرة عيال، وتعذُّر الأمور، فكتب إليه ابن سيَّابة: إن كنت كاذبًا فجعلك الله صادقًا، وإن كنت مَليمًا فجعلك معذورًا.

قال الأصمعي: سمعت أعرابيًّا يقول: أعوذ بك من الفواقر والبواقر، ومن جار السوء في دار المُقامة والظعن، وما ينكِّس برأس المرء ويُغري به لئام الناس.

قال الأصمعي: قيل لخالد بن نَضلة: قال عبد يغوث بن وقَّاص: ما أذمُّ فيها إلا غطينًا، ليس خالدَ بن نضلة. يعني مُضَر. قال خالد: اللهم إن كان كاذبًا فاقتله على يد ألأم حي في مُضَر. فقتلته تَيم الرِّباب.

قالوا: وقف سائل من الأعراب على الحسن فقال: رحم الله عبدًا أعطى من سَعة، وآسى من كفاف، وآثر من قِلَّة.

وقال في الأثر المعروف: حصِّنوا أموالكم بالزكاة، وادفعوا أمواج البلاء بالدعاء.

ومن دعائهم: أعوذ بك من بَطَر الغنى، وذِلَّة الفقر.

قال: ومن دعاء السلف: اللهم احملنا من الرُّجلة، وأغنِنا من العَيلة.

وسأل أعرابي، فقيل له: بُورِك فيك. فتوالى ذلك عليه من غير مكان، فقال: وكَلَكم الله إلى دعوة لا يحضرها نيَّة.

وقال أعرابي: أعوذ بك من سقم وعَدواه، وذي رَحِم ودعواه، ومن فاجر وجدواه، وعمل لا ترضاه.

وسأل أعرابي، فقال له صبي من جوف الدار: بُورِك فيك. فقال: قبَّح الله هذا الفم، لقد تعلَّم الشر صغيرًا. وهذا السائل هو الذي يقول:

رُبَّ عَجوزٍ عِرمِسٍ زَبُونِ
سريعةِ الرَّدِّ على المِسكينِ
تَحسَبُ أنْ بُورِكَها يَكفيني
إذا غدوتُ باسطًا يميني

وقال آخر: اللهم أعِنِّي على الموت وكُرْبته، وعلى القبر وغُمَّته، وعلى الميزان وخِفَّته، وعلى الصراط وزَلَّته، وعلى يوم القيامة ورَوعته.

وقالت عجوزٌ بلَغها موت الحجَّاج: اللهم أنت أمَتَّه، فأمِتْ سُنَّته.

وكان محمد بن علي بن الحسين يقول: اللهم أعِنِّي على الدنيا بالغِنى، وعلى الآخرة بالتقوى.

وقال عمرو بن عُبيد: اللهم أغنِني بالافتقار إليك، ولا تُفقِرني بالاستغناء عنك. وقال عمرو بن عُبيد: اللهم أعِنِّي على الدنيا بالقناعة، وعلى الدين بالعصمة.

قال: ومرِض عوف بن أبي جميلة، فعاده قوم فجعلوا يُثنون عليه، فقال: دَعُونا من الثناء، وأمِدُّونا بالدعاء.

قال: وسمعت عمر بن هُبيرة يقول: اللهم إني أعوذ بك من طول الغفلة، وإفراط الفِطنة. اللهم لا تجعل قولي فوق عملي، ولا تجعل أسوأ عملي ما قارَب أجلي.

وقال أبو مذحج: اللهم اجعل خير عملي ما وليَ أجلي.

ودَعت أعرابية لرجل فقالت: كبَت الله كل عدو لك إلا نفسك.

وقال يزيد بن جبل: احرس أخاك إلا من نفسه.

قال: ودعا أعرابي فقال: اللهم هَبْ لي حقَّك، وأرضِ عنى خلقك.

قال: وكان قومٌ نُسَّاك في سفينة في البحر، فهاجت الريح بأمرٍ هائل، فقال رجل منهم: اللهم قد أريتَنا قدرتك، فأرِنا عفوك ورحمتك.

قال: وسمع مطرِّف رجلًا يقول: أستغفر الله وأتوب إليه. فأخذ بذراعه وقال: لعلك لا تفعل، من وعد فقد أوجب.

وقال رجل لابن قثم: كيف أصبحت؟ قال: إن كان من رأيك أن تسدَّ خلَّتي، وتقضيَ دَيني، وتكسوَ عَورتي، خبَّرتك، وإلا فليس المُجِيب بأعجب من السائل.

وقال آخر: اللهم أمتِعنا بخيارنا، وأعِنَّا على شرارنا، واجعل الأموال في سُمحائنا.

وقال أعرابي: اللهم إنك قد أمَرتَنا أن نعفوَ عمَّن ظلمَنا، وقد ظلَمْنا أنفُسنا فاعفُ عنا.

وقال أعرابي، ورأى إبل رجل قد كثُرت بعد قلة، فقيل: إنه قد تزوَّج أمة فجاءته بنافجة مال، فقال: اللهم إنا نعوذ بك من بعض الرزق.

أبو مجيب الربعي قال: قال أعرابي: جنَّبك الله الأمَرَّين، وكفاك شر الأجوَفَين. الأجوفان: البطن والفَرْج. والأمَرَّان: الجوع والعُري.

وجاء في الحديث: من وُقِي شر قَبقَبه وذَبذَبه ولَقلَقه، فقد وُقِي الشر كله.

وقال أعرابي: منحكم الله مِنحةً ليست بحدَّاء، ولا نَكداء، ولا ذات داء.

قال: قيل لإبراهيم النخعي: أي رجل أنت لولا حِدَّة فيك! قال: أستغفر الله مما أملِك، وأستصلحه ما لا أملِك.

وقال أعرابي، ومات ابن له: اللهم إني قد وهبت له ما قصَّر فيه من بِرِّي، فهَبْ لي ما قصَّر فيه من طاعتك.

قال: لما صافَّ قُتيبة بن مُسلم التُّرك وهالَه أمرهم سأل عن محمد بن واسع، وقال: انظروا ما يصنع؟ فقيل: ها هو ذاك في أقصى المَيمنة جانحًا على سِية قوسه، يُنضنض بإصبعه نحو السماء. قال قُتيبة: تلك الإصبع الفاردة أحَبُّ إليَّ من مائة ألف سيف شهير، وسِنانٍ طرير.

أبو الدرداء قال: إن أبغض الناس إليَّ أن أظلمه من لم يستعِن عليَّ إلا بالله.

وقال خالد بن صفوان: احذروا مجانيق الضعفاء. يعني الدعاء. وقال: لا يُستجاب إلا لمُخلِص أو مظلوم.

قال: وكان علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه يقول: اللهم إن ذنوبي لا تضرُّك، وإن رحمتك إيَّاي لا تنقصك، فاغفر لي ما لا يضرُّك، وأعطِني ما لا ينقصك.

وقال أعرابي: اللهم إنك حبستَ عنَّا قَطر السماء، فذابَ الشحم، وذهب اللحم، ورقَّ العظم، فارحم أنين الآنة، وحنين الحانة، اللهم ارحم تحيُّرها في مَراتعها، وأنينها في مَرابضها.

قال: وحجَّت أعرابية، فلما صارت بالموقف قالت: أسألك الصحبة يا كريم الصحبة، وأسألك سِترك الذي لا تُزيله الرياح، ولا تخرقه الرِّماح.

وقيل لعلي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: كم بين السماء إلى الأرض؟ قال: دعوةٌ مستجابة. قالوا: كم بين المشرق إلى المغرب؟ قال: مسيرة يوم للشمس. ومن قال غير هذا فقد كذب.

قال: وحجَّ أعرابي فقال: اللهم إن كان رِزقي في السماء فأنزِله، وإن كان في الأرض فأخرِجه، وإن كان نائيًا فقرِّبه، وإن كان قريبًا فيسِّره.

أبو عثمان اليقطري، عن عبد الله بن سلم الفهري، قال: لما وليَ مسروق السلسلة انبرى له شابٌّ فقال له: وقاك الله خشية الفقر، وطول الأمل، فلا تكونن دريئة للسُّفهاء، ولا شينًا للفُقهاء.

وقال أعرابي في دعائه: اللهم لا تخيِّبني وأنا أرجوك، ولا تعذِّبني وأنا أدعوك. اللهم فقد دعَوتُك كما أمرتَني، فأجِبني كما وعدتَني.

وقال عبد الله بن المبارك: قالت عائشة: يا بني، لا تطلبوا ما عند الله من عند غير الله بما يُسخِط الله.

قال: وقال رجل من النُّساك: إن ابتُليتَ أن تدخل مع ناس إلى السلطان، فإذا أخذوا في الثناء فعليك بالدعاء.

وقال الكذَّاب الحِرمازي:

لاهُمَّ إنْ كانت بَنو عميرةْ
رهطَ التِّلِبِّ دعوةٌ مستورةْ
قد أجمعوا لخِلقةٍ مقصورةْ
واجتمعوا كأنَّهم قارورةْ
في غَنمٍ وإبلٍ كثيرةْ
فابعث عليهم سنةً قاشورةْ
تحتلقُ المالَ احتلاقَ النُّورةْ

وقال أعرابي:

لاهُمَّ أنت الرَّبُّ تُستغاثُ
لك الحياةُ ولك الميراثُ
وقد دعاك الناسُ فاستغاثوا
غِياثَهم وعِندَك الغِياثُ
لم يَبقَ إلا عِكرِشٌ أنكاثُ
وشِيَحٌ أُصولُها مثاثُ
وطاحتِ الألبانُ والأرماثُ

وكان سعد بن أبي وقاص يُسمَّى: المستجاب الدعوة. وقال لعمر حين شاطَره ماله: لقد هممت. فقال له عمر: أن تدعوَ الله عليَّ؟ قال: نعم. قال: إذًا لا تجدُني بدعاء ربي شقيًّا.

وقال رسول الله : كم من ذي طِمرَين لا يؤبَه له لو أقسم على الله لأبرَّه، منهم البراء بن مالك. وجمع الناس إليه، وقد دهمهم العدو، فأقسم فمنحهم الله أكنافهم.

الأصمعي وأبو الحسن قالا: أخبرنا إبراهيم بن حبيب بن الشهيد، عن أبيه، أو عن غيره، قال: بلَغ سعدًا شيءٌ فعله المهلَّب في العدو، والمهلَّب يومئذٍ فتًى، فقال سعد: اللهم لا تُرِه ذُلًّا. فيَرَون أن الذي ناله المهلَّب بتلك الدعوة.

وقال آخر:

الموتُ خيرٌ من رُكوبِ العارِ
والعارُ خيرٌ من دُخولِ النارِ
واللهُ من هذا وهذا جاري

قالها حسين بن علي رضي الله تعالى عنهما.

وقال الآخر وكان قد وقع في الناس وباءٌ جارف، وموتٌ ذريع، فهرب على حماره، فلما كان في بعض الطريق ضرب وجه حِماره راجعًا إلى حيِّه وقال:

لن يُسبَقَ اللهُ على حِمارِ
ولا على ذي مَيعةٍ خطَّارِ
قد يُصبحُ اللهُ أمامَ السَّاري

وسمع مُجاشع الربعي رجلًا يقول: الشحيح أعذَرُ من الظالم. فقال: إن شيئين خيرهما الشُّح لَناهيك بهما شرًّا.

قال المُغِيرة بن شُعبة: سمع عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه رجلًا يقول في دعائه: اللهم اجعلني من الأقلِّين. فقال له عمر: ما هذا الدعاء؟ قال: سمعت الله يقول: وَقَلِيلٌ مَا هُمْ. وسمعته يقول: وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ. فقال عمر: عليك من الدعاء بما يُعرَف.

وقال ناس من الصحابة لعمر: ما بالُ الناس كانوا إذا ظُلموا في الجاهلية فدَعوا استُجيب لهم، ونحن لا يُستجاب لنا وإن كنا مظلومين؟ قال: كانوا ولا زاجر لهم إلا ذاك، فلما أنزل الله تبارك وتعالى الوعد والوعيد، والحدود والقصاص والقوَد، وكَلَهم إلى ذلك.

وقال عمر رضي الله تعالى عنه: في يوم كذا وكذا، من شهر كذا وكذا، لساعة كذا وكذا، ألا يدعو الله فيها أحدٌ إلا استُجيب له. فقال له قائل: أرأيت إن دعا فيها مُنافق؟ قال: فإن المنافق لا يوفَّق لتلك الساعة. ولما صعِد المِنبر قابضًا على يد العبَّاس يوم الاستسقاء لم يَزِد على الدعاء والاستغفار. فقيل له: إنك لم تستسقِ، وإنما كنت تستغفر! قال: قد استسقَيت بمجاديح السماء.

ذهب إلى قوله: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا. وكان عمر حمل الهُرمُزان مع جماعة في البحر فغرقوا، قال ابن سيرين: لو كان دعا عليهم بالهلاك لهلكوا.

قال محمد بن علي لابنه: يا بُني، إذا أنعم الله عليك نعمة فقل: الحمد لله. وإذا حزَبك أمرٌ فقل: لا حول ولا قوة إلا بالله. وإذا أبطأ عنك الرزق فقل: أستغفر الله. قالوا: كان محمد بن علي لا يُسمِع المُبتلى الاستعاذة من البلاء.

قال قوم ليزيد بن أسد: أطال الله بقاءك. قال: دعوني أمُت وفيَّ بقيَّة تبكون بها عليَّ.

رأى سالم بن عبد الله سائلًا يسأل يوم عرفة فقال: يا عاجز، أفي هذا اليوم تسأل غير الله؟

قال: كان رجل من الحُكماء يقول في دعائه: اللهم احفَظني من الصديق. وكان يقول: اللهم اكفِني بَوائق الثِّقات.

حدَّثني صديق لي كان وليَ ضِياع الري، قال: قرأت على باب شيخ منهم: جزى الله من لا نعرفه ولا يعرفنا أحسن الجزاء، ولا جزى من نعرفه ويعرفنا إلا ما هو أهله، إنه عدلٌ لا يجور.

وكان على رواشم عمر بن مهران التي يرشم بها على الطعام: اللهم احفظه ممن يحفظه.

وقال المُغيرة بن شُعبة في كلام له: إن المعرفة لتنفع عند الكلب العَقور، والجمل الصئول، فكيف بالرجل الكريم؟

أبو الحسن قال: قالت امرأة من الأعراب: اللهم إني أعوذ بك من شر قريش وثقيف، وما جمعت من اللفيف، وأعوذ بك من عبدٍ مَلَك أمره، ومن عبدٍ ملأ بطنه.

قال: مر عمر بن عبد العزيز برجلٍ يسبِّح بالحصى، فإذا بلَغ المائة عزل حصاة، فقال له عمر: ألقِ الحصى وأخلِصِ الدعاء.

وكان عبد الملك بن هلال الهنائي عنده زنبيلٌ ملآن حصًى، فكان يسبِّح بواحدةٍ واحدة، فإذا ملَّ شيئًا طرح ثِنتَين ثِنتَين، ثم ثلاثًا ثلاثًا، فإذا ملَّ قبض قبضةً وقال: سبحان الله بعدد هذا. وإذا ملَّ شيئًا قبض قبضتَين وقال: سبحان الله بعدد هذا. فإذا ضجِر أخذ بعُروتَي الزنبيل وقلَبه وقال: الحمد لله بعدد هذا. وإذا بكر لحاجة لحَظَ الزنبيل وقال: الحمد لله عدد ما فيه.

قال غَيلان: إذا أردت أن تتعلم الدعاء فاسمع دعاء الأعراب.

قال سعيد بن المُسيب: مر بي صلة بن أشيَم، فما تمالكت أن نهضت إليه فقلت له: يا أبا الصهباء، ادعُ الله لي. فقال: رغَّبك الله فيما يبقى، وزهَّدك فيما يفنى، ووهب لك اليقين الذي لا تسكن النفس إلا إليه، ولا تعوِّل في الدين إلا عليه.

أبو الحسن قال: سمع رجل بمكة رجلًا يدعو لأمه، فقال له: ما بالُ أبيك؟ قال: هو رجلٌ يحتال لنفسه.

أبو الحسن، عن عُروة بن سليمان العبدي قال: كان عندنا رجل من بني تميم يدعو لأبيه ويدع أمه، فقيل له في ذلك، فقال: إنها كلبيَّة.

ورفع أعرابي يده بمكة قبل الناس فقال: اللهم اغفر لي قبل أن يدهمك الناس.

وقال النبي : إن الله يُحب المُلحِّين في الدعاء.

وقال آخر: دعوتان أرجو إحداهما كما أخاف الأخرى؛ دعوة مظلوم أعَنتُه، ودعوة ضعيف ظلمتُه.

قال: وكان من دعاء أبي الدرداء: اللهم أمتِعنا بخِيارنا، وأعِنَّا على شِرارنا، واجعلنا خِيارًا كلَّنا، وإذا ذهب الصالحون فلا تُبقِنا.

وقال آخر لبعض السلاطين: أسألك بالذي أنت بين يدَيه أذَلُّ مني بين يدَيك، وهو على عِقابك أقدر منك على عقابي، إلا نظرت في أمري نظرَ من يري بُرئي أحبَّ إليه من سُقمي.

قالوا: وكان مُطرف بن عبد الله بن الشِّخِّير يقول: اللهم إنك أمرتَنا بما أمرتَنا ولا نقوى عليه إلا بعونك، ونهيتَنا عما نهيتَنا ولا ننتهي عنه إلا بعِصمتك، واقعة علينا حُجَّتك، غير معذورين فيما بيننا وبينك، ولا مبخوسين فيما عمِلنا لوجهك.

عبد العزيز بن أبان، عن سفيان في قوله تعالى: دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ، قال: كان أحدهم إذا أراد أن يدعو قال: سبحانك اللهم.

سفيان، عن ابن جُريج، عن عكرمة قال في قوله تعالى: قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا، قال: كان موسى عليه السلام يدعو وهارون يؤمِّن، فجعلهما الله داعِيَين.

قال: ولما وقع يونس في البحر وقد وُكل به حوت، فلما وقع ابتلعه فهوى به إلى قرار الأرض، فسمع تسبيح الحصى، فنادى يونس في الظُّلمات: أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ. قال: ظُلمة بطن الحوت، وظُلمة البحر، وظُلمة الليل. وقال تبارك وتعالى: فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ.

وفي الحديث المرفوع أن من دعاء النبي : أعوذ بك من قلب لا يخشع، وبطن لا يشبع، ودعاء لا يُسمع.

علي بن سليم، أن قيس بن سعد قال: اللهم ارزقني حمدًا ومجدًا؛ فإنه لا حمد إلا بفَعَال، ولا مجد إلا بمال.

وقال رجل في مجلس الحسن: ليَهنِك الفارس. قال الحسن: فلعلَّه خامر، إذا وهب الله لرجل ولدًا فقل: شكرت الواهب، وبورك لك في الموهوب، وبلَغ أشده، ورُزقت بِره.

أبو سلمة الأنصاري قال: كان عمر بن عبد العزيز يقول: ما أحسنَ تعزيةَ أهل اليمن! وتعزيتهم: لا يحزنكم الله تعالى ولا يفتنكم، وأثابكم ما أثاب المتَّقين، وأوجب لكم الصلاة والرحمة.

قال: كان أبو بكر رضي الله تعالى عنه إذا عزَّى رجلًا قال: ليس مع العزاء مُصيبة، ولا مع الجزع فائدة، الموت أشَدُّ ما قبله، وأهوَن ما بعده، اذكروا فقدَ رسول الله تهُن عندكم مصيبتكم، صلى الله على محمد، وعظَّم أجركم.

وكان علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه إذا عزَّى قومًا قال: إن تجزعوا فأهل ذلك الرحم، وإن تصبروا ففي ثواب الله عِوض من كل فائت، وإن أعظم مصيبة أُصيبَ بها المسلمون محمد ، وعظَّم الله أجركم.

وعزَّى عبد الله بن عبَّاس عمرَ بن الخطاب، رضي الله تعالى عنه، على بُنيٍّ له مات، فقال: عوَّضك الله منه ما عوَّضه منك.

وهذا الصبيُّ الذي مات هو الذي كان عمر بن الخطاب قال فيه: ريحانةٌ أشمُّها، وعن قريبٍ ولدٌ بارٌّ، أو عدوٌّ ضارٌّ.

سفيان قال: كان أبو ذر يقول: اللهم أمتِعنا بخيارنا، وأعِنَّا على شِرارنا.

قال: ودعا أعرابي فقال: اللهم إني أعوذ بك من الفقر المُدقِع، والذل المُضرِع.

عزَّت امرأةٌ المنصور على أبي العبَّاس، مَقدمَه من مكة، فقالت: أعظم الله أجرك؛ فلا مصيبة أعظم من مصيبتك، ولا عِوض أعظم من خلافتك.

قالوا: وقال عمر بن عبد العزيز وقد سمعوا وقْعَ الصواعق، ودويَّ الريح، وصوت المطر، فقال وقد فزع الناس: هذه رحمته، فكيف نِقمته؟

وقال أبو إسحاق: اللهم إن كان عذابًا فاصرِفه، وإن كان صلاحًا فزِد فيه، وهبْ لنا الصبر عند البلاء، والشكر عند الرخاء. اللهم إن كانت منحةً فمُنَّ علينا بالعِصمة، وإن كان عِقابًا فمُنَّ علينا بالمغفرة.

وقال أبو ذر: الحمد لله الذي جعلنا من أمةٍ تُغفَر لهم السيئات، ولا تُقبَل من غيرهم الحسنات.

وكان الفضل بن الربيع يقول: المسألة للملوك من تحيَّة النَّوكى، فإذا أردت أن تقول: كيف أصبحت؟ فقل: صبَّحك الله بالخير. وإذا أردت أن تقول: كيف تجدك؟ فقل: أنزل الله عليك الشفاء والرحمة.

قال أحمد الهُجيمي أبو عمر، أحد أصحاب عبد الواحد بن زيد: اللهم يا أجوَدَ الأجودين، ويا أكرَم الأكرمين، ويا أعفى العافين، ويا أرحم الراحمين، ويا أحكم الحاكمين، ويا أحسن الخالقين، فرِّج عني فرجًا عاجلًا تامًّا، هنيئًا مباركًا لي فيه، إنك على كل شيء قدير.

وكان عبد الله الشقري — وهو الكعبي، أحد أصحاب المِضمار من غِلمان عبد الواحد بن زيد، وكنيته أبو محمد، وكنية عبد الواحد أبو عُبيدة — يقول: اللهم إني عبدك وابن عبدك وابن أمَتك، ناصيتي بيدك، اللهم هبْ لي يقينًا، وأدِم لي العافية، وافتح عليَّ باب رِزقي في عافية، وأعوذ بك من النار والعار، والكذب والسخف، والخسف والقذف، والحقد والغضب، وحبِّبني إلى خلقك، وحبِّبهم إليَّ، وأسألك فرجًا عاجلًا في عافية، إنك على كل شيء قدير.

(١٩) دعاء الغنوي في حبسه

أعوذ بك من السجن والدَّين، والسب والضرب، ومن الغُل والقيد، ومن التعذيب والتجسيس، وأعوذ بك من الحَور بعد الكَور، ومن شر العدو في النفس والأهل والمال، وأعوذ بك من الهم والأرَق، ومن الهرب والطلب، ومن الاستخذاء والاستخفاء، ومن الإطراد والإغراب، ومن الكذب والعضيهة، ومن السعاية والنميمة، ومن لؤم القدرة، ومقام الخِزي في الدنيا والآخرة، إنك على كل شيء قدير.

(٢٠) ومن دعائه في الحبس

أسألك طول العمر في الأمن والعافية، والحِلم والعلم والحزم، والأخلاق الحسنة السنية، والأفعال المَرْضية، واليُسر والتيسير، والنماء والتثمير، وطِيب الذِّكر وحُسن الأحدوثة، والمحبة في الخاصة والعامة، وهَبْ لي ثبات الحُجة، والتأييد عند المنازعة والمخاصمة، وبارِك لي في الموت، إنك على كل شيء قدير.

وكان صالحٌ المُرِّي كثيرًا ما يردِّد في مجلسه: أعوذ بك من الخسف والمسخ، والرجفة والزلزلة، والصاعقة والريح المُهلِكة، وأعوذ بك من جهد البلاء، ومن شماتة الأعداء. وكان يقول: أعوذ بك من التعب والتعذُّر، والخيبة وسوء المُنقلَب. اللهم من أرادني بخير فيسِّر لي خيره، ومن أرادني بشرٍّ فاكفِني شره. اللهم أسألك خِصب الرحل، وصلاح الأهل.

وكان عيسى بن أبي المدوَّر يقول: أعوذ بك من الذِّلَّة والقِلَّة، ومن الإهانة والمِهنة، والإخفاق والوَحدة، وأعوذ بك من الحَيرة وقلة الحيلة، وأعوذ بك من جهد البلاء، وشماتة الأعداء.

محمد بن عبد الله قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: من أُعطيَ الدعاء لم يُحرَم الإجابة، قال الله تعالى: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ. ومن أُعطيَ الشكر لم يُحرَم الزيادة؛ لقوله عز وجل: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ. ومن أُعطيَ الاستغفار لم يُحرَم القَبول؛ لقوله تعالى: وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.

وقال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: كُونوا أوعية الكتاب، وينابيع العلم، وسلوا الله رِزق يوم بيوم.

وروى محمد بن علي عن آبائه، عن النبي قال: إذا سألتم الله فسلوه بباطن الكفَّين، وإذا استعذتموه فاستعيذوه بظاهرهما.

وقال آخر: اللهم إني أعوذ بك من بَطَر الغِنى، وذلة الفقر.

أبو سعيد المؤدِّب، عن هشام بن عُروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله تعالى قالت: سلوا ربَّكم حتى الشِّسع؛ فإنه إن لم يُيسره لم يتيسر.

سُحيم، عن طاوس قال: يكفي من الدنيا ما يكفي العجينَ من المِلح.

قال: سأل رجل رجلًا حاجة، فقال المسئول: اذهب بسلام. فقال السائل: قد أنصفنا من ردَّنا إلى الله في حوائجنا.

مُجالد، عن الشعبي قال: قال النبي : اللهم أذهِبْ مُلْك غسان، وضع مُهور كِندة.

وقال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: لكلِّ شيءٍ رأس، ورأس المعروف تعجيله.

(٢١) إسماعيل بن إبراهيم ونطقه بالعربية دون تلقين

القول في إنطاق الله تعالى إسماعيل بن إبراهيم، صلى الله على نبينا وعليهما، بالعربية المُبِينة على غير التلقين والتمرين، وعلى غير التدريب والتدريج، وكيف صار عربيًّا أعجميَّ الأبوَين. وأول من عليه أن يُقر بهذا القحطاني؛ فإنه لا بد من أن يكون له أبٌ كان أول عربي من جميع بني آدم عليه السلام. ولو لم يكن ذلك كذلك، وكان لا يكون عربيًّا حتى يكون أبوه عربيًّا، وكذلك أبوه وكذلك جده، كان ذلك مُوجبًا لأن يكون نوح عليه السلام عربيًّا، وكذلك آدم عليه السلام.

قال أبو عُبيدة: حدَّثنا مسمع بن عبد الملك، عن أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين، عن آبائه، قال: أول من فتق لسانَه بالعربية المبينة إسماعيلُ وهو ابن أربع عشرة سنة. قال النبي : شهدتُ الفِجار وأنا ابن أربع عشرة سنة، وكنت أنبل على عمومتي. يريد: أجمع لهم النبل. قال أبو عُبيدة: فقال له يونس: صدقت يا أبا يسار، هكذا حدَّثني نصر بن طريف.

وروى قيس بن الربيع عن بعض أشياخه، عن ابن عباسٍ أن الله ألهم إسماعيل العربية إلهامًا. وقال الله تبارك وتعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ. قال: قد يرسل الله الرسول إلى قومه، ولو أرسل في ذلك الوقت إلى قومٍ آخرين لمَا كان الثاني ناقضًا للأول، وإذا كان الأمر كذلك كان قومه أول من يفهم عنه ثم يصيرون حُجة على غيرهم. وإذا كان الله عز وجل قد بعث محمدًا إلى العجم فضلًا عن العرب، فقحطان وإن لم يكونوا من قومه أحقَّ بلزوم الفرض من سائر العجم. وهذا الجواب جواب عوام النِّزارية، فأما الخواص الخُلَّص فإنهم قالوا: العرب كلهم شيءٌ واحد؛ لأن الدار والجزيرة واحدة، والأخلاق والشِّيَم واحدة، وبينهم من التصاهر والتشابك، والاتفاق في الأخلاق وفي الأعراق، من جهة الخئولة المرددة، والعمومة المُشتبكة، ثم المناسبة التي بُنيت على غريزة التربة، وطِباع الهواء والماء؛ فهم في ذلك شيءٌ واحد؛ في الطبيعة واللغة، والهِمَّة والشمائل، والمراعي والراية، والصناعة والشهوة؛ فإذا بعث الله عز وجل نبيًّا من العرب فقد بعثه إلى جميع العرب، وكلهم قومه، ولأنهم جميعًا يد على العجم، وعلى من حارَبهم من الأمم؛ لأن تناكُحهم لا يعدوهم، وتصاهُرهم مقصور عليهم.

قالوا: والمشاكلة من جهة الاتفاق في الطبيعة والعادة، ربما كانت أبلغ وأوغل من المشاكلة من جهة الرحم، نعم، حتى تراه أغلب عليه من أخيه لأمه وأبيه، وربما كانت أشبه به خَلقًا وخُلقًا، وأدبًا ومذهبًا، فيجوز أن يكون الله تبارك وتعالى حين حوَّل إسماعيل عربيًّا أن يكون كما حوَّل طبع لسانه إلى لسانهم، وباعده من لسان العجم، أن يكون أيضًا حوَّل سائر غرائزه، وسلخ سائر طبائعه، فنقلها كيف أحب، وركَّبها كيف شاء، ثم فضَّله بعد ذلك بما أعطاه من الأخلاق المحمودة، واللسان البيِّن، بما لم يكن عندهم، وكما خصَّه من البيان بما لم يخصهم به فكذلك يخصه من تلك الأخلاق ومن تلك الدلائل بما يفوقهم ويروقهم؛ فصار بإطلاق اللسان على غير التلقين والترتيب، وبما نُقِل [إليهم] من طبائعه، ونقل إليه من طبائعهم، وبالزيادة التي أكرمه الله بها، أشرف شرفًا وأكرم كرمًا.

وقد علِمنا أن الخُرس والأطفال إذا دخلوا الجنة وحُوِّلوا في مقادير البالغين، وإلى الكمال والتمام، لا يدخلونها إلا مع الفصاحة بلسان أهل الجنة، ولا يكون ذلك إلا على خلاف الترتيب والتدريج، والتعليم والتقويم. وعلى ذلك المثال كان كلام عيسى بن مريم عليه السلام في المهد، وإنطاق يحيى عليه السلام بالحكمة صبيًّا، وكذلك القول في آدم وحوَّاء عليه السلام.

وقد قلنا في ذئب أُهبان بن أوس، وغُراب نوح، وهدهد سليمان، وكلام النملة، وحِمار عُزير، وكذلك كل شيء أنطقه الله بقدرته، وسخَّره لمعرفته ومشيئته، وإنما يمتنع البالغ من المعارف من قِبَل أمور تَعرِض من الحوادث، وأمور في أصل تركيب الغريزة؛ فإذا كفاهم الله تلك الآفات، وحصَّنهم من تلك المواضع، ووفَّر عليهم الذكاء، وجلب إليهم جياد الخواطر، وصرف أوهامهم إلى التعرُّف، وحبَّب إليهم التبيُّن؛ وقعت المعرفة، وتمَّت النعمة. والموانع قد تكون من قِبَل الأخلاط الأربعة على قدر القلة والكثرة، والكثافة والرِّقَّة. ومن ذلك ما يكون من جهة سوء العادة، وإهمال النفس؛ فعندها يستوحش من الفكرة، ويستثقل النظر. ومن ذلك ما يكون من الشواغل العارضة، والقُوى المُنقسمة. ومن ذلك ما يكون من خُرق المعلِّم، وقلة رِفق المؤدِّب، وسوء صبر المثقِّف. فإذا صفَّى الله ذهنه ونقَّحه وهذَّبه وثقَّفه، وفرَّغ باله، وكفاه انتظار الخواطر، وكان هو المقيِّد له، والقائم عليه، والمُريد لهدايته، لم يلبث أن يعلم. وهذا صحيح في الأوهام، غير مدفوع في العقول، وقد جعل الله الخال أبًا، وقالوا: الناس بأزمانهم أشبَهُ منهم بآبائهم.

وقد رأينا اختلاف صور الحيوان على قدر اختلاف طبائع الأماكن، وعلى قدر ذلك شاهَدنا اللغات والأخلاق والشهوات؛ ولذلك قالوا: فلانٌ ابن بَجْدتها، وفلانٌ بيضة البلد. يقع ذمًّا ويقع حمدًا. وقال زياد: والله لَلكوفة أشبه بالبصرة من بكر بن وائل بتميم. ويقولون: ما أشبهَ الليلةَ بالبارحة! كأنهم قالوا: ما أشبه زمان يوسف بن عمر بزمان الحجَّاج. وقال سهل بن عمرو: أشبه امرأً بعضُ بَزِّه. وقال الأضبط بن قُرَيع: بكلِّ وادٍ بنو سعد.

ولولا أن الله عز وجل أفرد إسماعيل من العجم، وأخرجه بجميع معانيه إلى العرب، لكان بنو إسحاق أولى به. وإنما ذلك كرجل قد أحاط علمه بأن هذا الطفل من نجل هذا الرجل، ولكن لما كان من سِفاح لم يجُز أن يُضيفه إليه ويدعوَه أباه. وقد جعل الله نسب ابن الملاعِنة نسب أمه وإن وُلد على فراش أبيه. وقد أرسل الله موسى وهارون عليهما السلام إلى فرعون وقومه وإلى جميع القبط، وهما أمَّتان؛ كنعاني وقبطي. وقد جعل الله قوم كل نبي هم المبلِّغين والحُجة، ألا ترى أنَّا نزعم أن عجز العرب عن مِثل نظم القرآن حُجة على العجم من جهة إعلام العرب العجم أنهم كانوا عن ذلك عجَزة؟ وقال النبي : «خُصِصت بأمور؛ منها أني بُعثت إلى الأحمر والأسود، وأُحلَّت لي الغنائم، وجُعلت لي الأرض طَهورًا.» فدلَّ بذلك على أن غيره من الرسل إنما كان يُرسَل إلى الخاص، وليس يجوز لمن عرف صِدق ذلك الرسول من سائر الأمم أن يكذِّبه ويُنكِر دعواه، والذي عليه ترك الإنكار والعمل بشريعة النبي الأول.

هذا فرق ما بين من بُعث إلى البعض ومن بُعث إلى الجميع. انقضى الباب.

(٢٢) حديث يوم السقيفة

قال: وقال حُباب بن المُنذِر يوم السقيفة: أنا جُذَيلها المحكَّك، وعُذَيقها المُرجَّب، إن شئتم كررناها جَذَعة، منا أمير ومنكم أمير؛ فإن عمل المهاجري شيئًا في الأنصاري رد ذلك عليه الأنصاري، وإن عمل الأنصاري شيئًا في المهاجري رد عليه المهاجري. فأراد عمر الكلام، فقال أبو بكر: على رِسْلك.

نحن المهاجرون، أول الناس إسلامًا، وأوسطهم دارًا، وأكرم الناس أحسابًا، وأحسنهم وجوهًا، وأكثر الناس ولادةً في العرب، وأمَسُّهم رحمًا برسول الله ، أسلمنا قبلكم، وقُدِّمنا في القرآن عليكم؛ فأنتم إخواننا في الدين، وشركاؤنا في الفيء، وأنصارنا على العدو. آويتم ونصرتم وآسيتم، فجزاكم الله خيرًا. نحن الأمراء، وأنتم الوزراء. لا تدين العرب إلا لهذا الحي من قريش. أنتم محقوقون ألا تنفسوا على إخوانكم من المهاجرين ما ساق الله إليهم.

قالوا: فإنَّا قد رضِينا وسلَّمنا.

عيسى بن نذير قال: قال أبو بكر رضي الله تعالى عنه: نحن أهل الله، وأقرب الناس بيتًا من بيت الله، وأمَسُّهم رحمًا برسول الله . إن هذا الأمر إن تطاولت إليه الخزرج لم تقصر عنه الأوس، وإن تطاولت إليه الأوس لم تقصر عنه الخزرج، وقد كان بين الحيَّين قَتلى لا تُنسى، وجِراح لا تُداوى؛ فإن نعق منكم ناعق فقد جلس بين لَحيَي أسد، يضغمه المُهاجري ويجرحه الأنصاري.

قال ابن دأب: فرماهم والله بالمُسكِتة.

من حديث ابن أبي سفيان بن حُويطب، عن أبيه، عن جده، قال: قدِمت من عَمرتي فقال لي أهلي: أعلِمت أن أبا بكر بالموت؟ فأتيته فإذا عيناه تذرفان، فقلت: يا خليفة رسول الله، أما كنت أول من أسلم، وثانيَ اثنَين في الغار، فصدَقت هِجرتك، وحسُنت نُصرتك، ووليت فأحسنت صُحبتهم، واستعملت خيرهم عليهم؟ قال: وحسنًا ما صنعت؟ قلت: نعم والله. قال: والله للهُ أشكر له وأعلم به، ولا يمنعني ذلك من أن أستغفر الله. فما خرجت حتى مات.

أبو الخطاب الزُّراري، عن حَجناء بن جرير قال: قلت: يا أبتِ إنك لم تهجُ أحدًا إلا وضعته إلا التيم! قال: إني لم أجد حسبًا فأضعه، ولا بناءً فأهدمه. قال: وقيل للفرزدق: أحسن الكُمَيت في مدائحه في تلك الهاشميَّات؟ قال: وجد آجُرًّا وجصًّا فبنى.

عامر بن الأسود قال: دخل رجل من ولد عامر بن الظَّرِب على عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه فقال له: خبِّرني عن حالك في جاهليتك، وعن حالك في إسلامك. قال: أما جاهليتي فما نادَمت فيها غير لُمة، ولا هممت فيها بأمَة، ولا خِمت فيها عن بُهمة، ولا رآني راءٍ إلا في نادٍ أو عشيرة، أو حَمْل جريرة، أو خيلٍ مُغيرة.

عوانة قال: قال عمر: الرجال ثلاثة؛ رجلٌ ينظر في الأمور قبل أن تقع فيُصدِرها مَصدرها، ورجلٌ مُتوكل لا ينظر، فإذا نزلت به نازلةٌ شاوَر أهل الرأي وقبِل قولهم، ورجلٌ حائرٌ بائر، لا يأتمر رشدًا، ولا يُطيع مُرشدًا.

قال: كلَّم عِلباء بن الهيثم السدوسي عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه في حاجة، وكان أعور دميمًا، جيِّد اللسان، حسن البيان، فلما تكلَّم في حاجته فأحسن، صعَّد عمر بصره فيه وحدَره، فلما أن قام قال: لكل أناس في جُمَيلهم خُبْر.

أخبرنا عيسى بن يزيد عن أشياخه، قال: قدِم معاوية المدينة فدخل دار عثمان، فقالت عائشة ابنة عثمان: وا أبتاه. وبكت، فقال معاوية: يا ابنة أخي، إن الناس أعطَونا طاعة وأعطيناهم أمانًا. وأظهَرْنا لهم حِلمًا تحته غضب، وأظهروا لنا طاعةً تحتها حقد. ومع كل إنسان سيفه، وهو يرى مكان أنصاره، وإن نكثنا بهم نكثوا بنا، ولا ندري أعلينا تكون أم لنا. ولَأن تكوني ابنة عم أمير المؤمنين خيرٌ من أن تكوني امرأة من عُرْض المسلمين. وقالت عائشة ابنة عثمان في أبان بن سعيد بن العاص حين خطبها، وكان نزل بأيلة وترك المدينة:

نزلتَ ببَيتِ الضَّبِّ لا أنتَ ضائرٌ
عدوًّا ولا مُستنفِعًا أنت نافعُ

أبو الحسن قال: قال سلامة بن رَوح الجُذامي لعمرو بن العاص: إنه كان بينكم وبين العرب باب فكسرتموه، فما حمَلكم على ذلك؟ قال: أردنا أن نُخرج الحق من جفير الباطل.

قدِم ببيعة علي إلى الكوفة يزيد بن عاصم المُحاربي، فبايَع أبو موسى، فقال عمَّار لعلي: والله لينقضن عهده، وليحُلَّن عقده، وليفرَّنَّ جهده، وليُسلِمن جنده.

وقال علي في رواية الشعبي: حمَلت إليكم دِرَّة عمر لأضربكم بها لتنتهَوا فأبَيتم، حتى اتخذت الخيزرانة فلم تنتهوا، وقد أرى الذين يريدون السيف، ولا آتي لأُصلحكم بفسادي.

(٢٣) مقطَّعات من نوادر الأعراب وأشعارهم

كانت العادة في كُتُب الحيوان أن أجعل في كل مصحف من مصاحفها عشر ورقات من مقطعات الأعراب ونوادر الأشعار، لما ذكرت عَجبك بذلك، فأحببت أن يكون حظ هذا الكتاب في ذلك أوفر إن شاء الله تعالى.

قال أبو العَرف الطُّهَوي:

وافى الوفودُ فوافى من بني جَملٍ
بكرُ الوفادةِ فاتي السِّنِّ عُرزُومُ
كزُّ المِلاطَين في السِّربالِ حيث مشى
وفي المَجالسِ لحَّاظٌ زرامِيمُ
لما رأى البابَ والبوَّابَ أخرَجَه
لؤمٌ مُخالِطُه جُبنٌ وتجزيمُ
قد كان لي بِكُمُ عِلمٌ وكان لكم
مَمشًى وراءَ ظُهورِ القومِ معلومُ

وقال الحارث بن حِلِّزة (قال أبو عبيدة: الباقي مصنوع):

يا أيُّها المُزمِعُ ثُم انثنى
لا يَثنِك الحازي ولا الشاحجُ
ولا قعيدٌ أعضبٌ قَرنُه
هاجَ له من مَرتعٍ هائجِ
بَيْنا الفتى يَسعى ويُسعى له
تاحَ له من أمرِه خالجُ
يتركُ ما رُفِّح من عيشِه
يَعبثُ فيه هَمَجٌ هامجُ
قلتُ لعمرٍو حينَ أرسلتُه
وقد حبى من دُونِنا عالجُ
لا تَكسَعِ الشُّولَ بأغبارِها
إنَّك لا تدري مَن الناتجُ
واصبُب لأضيافِك ألبانَها
فإنَّ شرَّ اللَّبَنِ الوالجُ

وقال زبَّان بن يسار بن عمرو بن جابر:

تُخبِّرُ طِيرةٌ فيها زيادٌ
لتُخبِرَه وما فيها خبيرُ
أقامَ كأنَّ لُقمانَ بنَ عادٍ
أشارَ له بحكمتِه مُشِيرُ
تَعلَّمْ أنه لا طيرَ إلا
على مُتطيِّرٍ وهْوَ الثُّبورُ
بلى شيءٌ يُوافقُ بعضَ شيءٍ
أحايِينًا وباطِلُه كثيرُ
ومن يُنزَحْ به لا بُدَّ يومًا
يجيءُ به نَعِيٌّ أو بَشِيرُ

وقال بعض الأعراب:

نَجيبةُ بطَّالٍ لَدُنْ شبَّ همُّه
لِعابُ الغَواني والمُدامُ المُشعشَعُ
جَلا المِسكُ والحَمَّامُ والبِيضُ كالدُّمى
وطِيبُ الدِّهانِ رأسَه فهْوَ أنزَعُ
أُسَيلمُ ذاكم لا خفًا بمكانِه
لعَينٍ تَدجَّى أو لأُذنٍ تَسمَّعُ
من النَّفَرِ الشُّمِّ الذين إذا انتدَوا
وهابَ الرِّجالُ حَلْقةَ البابِ قَعقَعوا
إذا النَّفَرُ السُّودُ اليمانونَ نَمنَموا
له حَوكَ بُردَيه أطالوا وأوسعوا

وقال بعض الأعراب:

ألبانُ إبْلِ تَعِلَّةَ بنِ مُسافرٍ
ما دامَ يَملِكُها عليَّ حَرامُ
وطعامُ عِمرانَ بنِ أوفى مِثلُه
ما دامَ يَسلكُ في البطونِ طعامُ
إن الذين يَسوغُ في أحلاقِهم
زادٌ يمنُّ عليهمُ لَلِئامُ
لعَنَ الإلهُ تَعِلَّةَ بنَ مُسافرٍ
لعنًا يُشَنُّ عليه من قُدَّامُ

وقال بعض الأعراب:

نجيبةُ قومٍ شادَها القتُّ والنَّوى
بيَثربَ حتى نيُّها مُتظاهِرُ
فقلتُ لها سِيري فما بكِ عِلَّةٌ
سَنامُكِ مَلمومٌ ونابُكِ فاطرُ
فمِثلُك أو خيرًا تركتُ رَزيَّةً
تُقلِّبُ عَينَيها إذا مرَّ طائرُ

وقال بعض الأعراب، مجهول الاسم، وهو من جيِّد مُحدَث أشعارهم:

حفَرْنا على رغمِ اللَّهازِمِ حُفرةً
ببَطنِ فُلَيحٍ والأسِنَّةُ جُنَّحُ
وقد غضِبوا حتى إذا ملئوا الرُّبى
رأوا أنَّ إقرارًا على الضَّيمِ أروَحُ

وقال رجل من مُحارب:

وقائلةٍ تَطوَّفْ في جَدادٍ
وأنت، إخالُ، مُعطًى لو تقومُ
فقلتُ الضارباتُ الطَّلْحِ وهنًا
على يُمنايَ إذ وضَحَ النُّجومُ
قصَرنَ عليَّ بعدَ اللهِ فَقْري
فلا أسَلُ الصديقَ ولا ألُومُ

وقال حاتم الطائي:

وإنِّي لأستحيي حياءً يَسُرُّني
إذا اللؤمُ من بعضِ الرِّجالِ تَطلَّعا
إذا كان أصحابُ الإناءِ ثلاثةً
حَييًّا ومُستحيًا وكلبًا مجشَّعا
فإنِّي لأستحيي أكيليَ أنْ يَرى
مكانَ يدي من جانبِ الزَّادِ أقرَعا
أكفُّ يدي من أن تَمَسَّ أكُفَّهم
إذا نحن أهوَينا وحاجتِنا معا
وإنَّك مَهما تُعطِ بطنَك سؤلَه
وفَرْجَك نالا مُنتهى الذمِّ أجمَعا

قال، وأظنُّها لبعض اليهود:

وإني لأستبقي إذا العُسر مسَّني
بشاشةَ وَجْهي حينَ تُبْلى المَناقعُ
فأُعفي ثَرى قومي ولو شئتُ نَوَّلوا
إذا ما تَشكَّى المُلحِفُ المُتضارِعُ
مَخافةَ أنْ أُقْلى إذا جئتُ زائرًا
وتُرجِعُني نحوَ الرجالِ المَطامعُ
فأسمعَ منًّا أو أُشرَّفَ مُنعَمًا
وكلُّ مُصادي نعمةٍ مُتواضِعُ

وقال بعض بني أسد:

ألا جعلَ اللهُ اليمانينَ كلَّهم
فِدًى لفَتى الفِتيانِ يَحيى بنِ حيَّانِ
ولولا عُرَيقٌ فيَّ من عصبيَّةٍ
لقُلتُ وألفًا من مَعَدِّ بنِ عَدنانِ
ولكنَّ نَفْسي لم تَطِبْ بعَشيرتِي
وطِبتُ له نفسًا بأبناءِ قَحطانِ

وقال ثروان، أو ابن ثروان، مولًى لبني عُذرة:

ولو كنتُ مَولى قيسِ عَيلانَ لم تَجِدْ
عليَّ لإنسانٍ من الناسِ دِرهما
ولكنَّني مَولى قُضاعةَ كلِّها
فلستُ أُبالي أنْ أدِينَ وتَغرما
أولئك قومي بارَكَ الله فيهمُ
على كلِّ حالٍ ما أعَفَّ وأكرَما
جُفاةُ المَحَزِّ لا يُصيبونَ مَفصِلًا
ولا يأكلونَ اللَّحمَ إلا تَخذُّما

وقال آخر:

أيا ابنةَ عبدِ اللهِ وابنةَ مالكٍ
ويا ابنةَ ذي البُردَين والفَرسِ الوَردِ
إذا ما عمِلتِ الزَّادَ فالتَمسِي له
أكِيلًا فإنِّي لستُ آكُلُه وحدي
كريمًا قصيًّا أو قريبًا فإنَّني
أخافُ مَذمَّاتِ الأحاديثِ من بَعدي
وكيف بشبعِ المرءِ زادًا وجارُه
خفيفُ المِعَى بادي الخَصاصةِ والجَهدِ
ولَلمَوتُ خيرٌ من زيارةِ باخلٍ
يُلاحِظُ أطرافَ الأكيلِ على عَمْدِ
وإنِّي لعَبدُ الضَّيفِ ما دامَ ثاويًا
وما فيَّ إلا تلك من شِيمةِ العَبدِ

وقال ابن عَبدل:

ولو شاءَ بِشرٌ كان من دونِ بابِه
طماطمُ سُودٌ أو صَقالبةٌ حُمْرُ
ولكنَّ بِشرًا سهَّلَ البابَ للَّتي
يكونُ لبِشرٍ عندَها الحَمدُ والأجرُ
بَعِيدُ مُرادِ العَينِ ما ردَّ طَرْفَه
حِذارَ الغواشي بابُ دارٍ ولا سِترُ

وقال بعض الحِجازيين:

لو كنتُ أحمِلُ خمرًا يومَ زُرتُكمُ
لم يُنكِرِ الكلبُ أنِّي صاحِبُ الدَّارِ
لكنْ أتَيتُ ورِيحُ المِسكِ يَفغَمُني
والعَنبرُ الوَردُ أُذكِيه على النَّارِ
فأنكرَ الكلبُ ريحي حينَ أبصَرَني
وكانَ يَعرفُ ريحَ الزِّقِّ والقارِ

وقال ابن عَبدل:

نِعْمَ جارُ الجزيرةِ المُرضِعُ الغَر
ثى إذا ما غدا أبو كُلثومِ
طاويًا قد أصابَ عندَ صديقٍ
من غذاءٍ مُلبَّقٍ مأدومِ
ثم أنحى بجَعرِه حاجِبَ الشَّمـ
ـسِ فألقى كالمَعلِفِ المهدومِ

وقال حبيب بن أوس:

وحياةُ القريضِ إحياؤُك الجُو
دَ فإنْ ماتَ الجوادُ ماتَ القريضُ
يا مُحِبَّ الإحسانِ في زمنٍ أصـ
ـبحَ فيه الإحسانُ وهْوَ بَغِيضُ

وقال:

ثم اطَّرحتُم قَراباتي وآصِرتي
حتى تَوهَّمتُ أنِّي من بني أسدِ
وطَلعةُ الحمدِ أقْلى في عُيونِهمِ
وفي صُدورِهمِ من طَلعةِ الأسَدِ

وقال:

إيَّاك يَعني القائلونَ بقولِهم
إنَّ الشَّقيَّ بكلِّ حَبلٍ يُخنَقُ
من شاعرٍ وقفَ الكلامُ بِبابِه
واكتنَّ في كنَفي ذُراه المَنطِقُ
سِرْ حيثُ شئتَ من البِلادِ فلِي بها
سُورٌ عليك من الرِّجالِ وخَندَقُ
قد ثقَّفَت منه الشآمُ وسهَّلَت
منه الحِجازُ ورقَّقَته المَشرِقُ

وقال:

بنو عبدِ الكَريمِ نُجومُ ليلٍ
تُرى في طيِّئٍ أبدًا تَلُوحُ
إذا كانَ الهِجاءُ لهم ثوابًا
فخبِّرْني لمِن خُلِقَ المديحُ

وقال:

أيُّ شيءٍ يكونُ أحسَنَ من صَبٍّ
أديبٍ مُتيَّمٍ بأديبِ

وقال:

نَقِّلْ فؤادَكَ حيثُ شِئتَ من الهوى
ما الحُبُّ إلَّا للحبيبِ الأوَّلِ
كم مَنزِلٍ في الأرضِ يألَفُه الفتى
وحنينُه أبدًا لأوَّلِ مَنزِلِ

وقال:

اشرَبْ فإنَّك سوفَ تَعلَمُ أنَّه
قَدَحٌ يُصِيبُ العِرضَ منه خُمارُ
عاداك أسوارُ الكلامِ بشُرَّدٍ
عُونِ القَريضِ حُتوفُها أبكارُ
غُرَرٌ متى ما شئتَ كنَّ شَواهدي
إنْ لم يَكُنْ لي والدٌ عطَّارُ

وقال سَلمة بن الحارث الأنماري:

أبلِغ سُبَيعًا وأنتَ سيِّدُنا
قِدْمًا وأوفى رِجالِنا ذِمَما
أنَّ بَغِيضًا وأنَّ إخوتَها
ذُبيانَ قد ضرَّموا الذي اضطرما
نُبِّئتُ أنْ حكَّموكَ بينهمُ
فلا يقولُنَّ بئسَ ما حكَما
إنْ كنتَ ذا عِرفةٍ بشأنِهمِ
تَعرفُ ذا حقِّهم ومن ظلَما
وتُنزِلُ الأمرَ في مَنازِلِه
حَزمًا وعَزمًا وتُحضِرُ الفُهَما
ولا تُبالي مَن المُحِقُّ ولا الـ
ـمُبطِلُ لا إلَّةً ولا ذِمَما٦٠
فاحكمْ فأنتَ الحكيمُ بينهمُ
لن يَعدِموا الحُكمَ ثابتًا صتَما
واصدَع أديمَ السَّواءِ بينهمُ
على رِضا مَن رَضِي ومن رغِما
إنْ كانَ مالًا ففُضَّ عِدَّتَه
مالًا بمالٍ وإنْ دمًا فَدَما
هذا وإنْ لم تُطِقْ حكومتَهم
فانبِذْ إليهم أُمورَهم سَلَما

وقال آخر:

أبلِغْ ضِرارًا أبا عمرٍو مُغلغَلةً
أنْ كلُّ قولِك ظَهْرَ الغيبِ يأتِينا
ارهَنْ قَبيصةَ إنْ صُلحٌ همَمتَ به
إنَّ ضِرارًا لكم رهنٌ بما فينا
إنَّ ضُحَيكًا قتيلٌ من سَراتِكمُ
وإنَّ حِطَّانَ منَّا فاعدِلوا الدِّينا٦١
وانْهَ عُبَيدًا فلا يؤذي عشيرتَه
نَهيُكَ خيرٌ له من نَهيِ ناهِينا

وقال آخر:

بَني عَدِيٍّ ألا يُنهى سفيهُكمُ
إنَّ السَّفِيهَ إذا لم يُنْهَ مأمورُ

وقال حضرمي بن عامر الأسدي، ومات أخوه، فقال جزء: قد فرِح بأكل الميراث:

قد قالَ جَزءٌ ولم يَقُلْ جَلَلا
إنِّي تَروَّحتُ ناعمًا جَذِلا
إنْ كنتَ أزنَنتَني بها كَذِبًا
جَزءٌ فلاقَيتَ مِثلَها عَجِلا
أفرَحُ أنْ أُرزَأَ الكِرامَ وأنْ
أُورَثَ ذَودًا شصائصًا نَبَلا؟

وقال حُرَيث بن سَلمة بن مُرارة:

تقولُ ابنةُ العَمريِّ لمَّا رأيتُها
تَنكَّرتَ حتى كِدتُ منكَ أُهالُ
فإنْ تَعجَبي منِّي عُمَيرُ فقد أتَت
ليالٍ وأيَّامٌ عليَّ طِوالُ
وإنِّي لمن قومٍ تَشِيبُ سَراتُهم
كذاكَ وفيهم نائلٌ وفِعالُ
ولو لقِيَت ما كنتُ ألقى من العِدى
إذًا سالَ منها مَفرِقٌ وقَذالُ
ولكنَّها في كِلَّةٍ كلَّ شَتْوةٍ
وفي الصيفِ كِنٌّ باردٌ وحِجالُ
تُصانُ وتُعْل المِسكَ حتى كأنَّها
إذا وضَعَت عنها النِّصيفَ غَزالُ

وقال بعض الخوارج لامرأته وأرادت أن تنفر معه:

إنَّ الحَروريَّةَ الحرَّا إذا ركِبوا
لا تستطيعُ لهم أمثالُكِ الطَّلَبا
إنْ يَركَبوا فَرسًا لا تَركَبي فَرسًا
ولا تُطِيقي معَ الرَّجَّالةِ الخَبَبا

وقال خُزَز بن لَوْذان لامرأته في شبيه بهذا:

لا تَذكُري مُهْري وما أطعَمتُه
فيكونَ جِلدُكِ مِثلَ جِلدِ الأجرَبِ
إنَّ الغَبوقَ له وأنتِ مَسوءةٌ
فتأوَّهي ما شئتِ ثُم تَحوَّبي
كَذِبَ العتيقُ وماءُ شَنٍّ باردٍ
إنْ كنتِ سائلتي غَبوقًا فاذهَبي
إنِّي لَأخشى أنْ تقولَ خليلتي
هذا غُبارٌ ساطعٌ فتَلبَّبِ
إنَّ العدوَّ لهم إليكِ وسيلةٌ
إنْ يأخذوكِ تَكحَّلي وتَخضَّبي
ويكونُ مَركبُكِ القَعودَ وحِدجَه
وابنُ النَّعامةِ يومَ ذلك مَركَبي
وأنا امرؤٌ إنْ يأخذوني عَنوةً
أقرَنْ إلى شرِّ الرِّكابِ وأُجنَبِ

وأراد أعرابي أن يُسافر فطلبت إليه امرأته أن تكون معه، فقال:

إنَّكِ لو سافَرتِ قد مَذِحتِ
وحكَّكِ الحِنْوانِ فانفتحتِ
وقلتُ هذا صوتُ ديكٍ تَحتي

المذح: سجح إحدى الفخذَين بالأخرى.

وفي شبيه بهذا المعنى الأول يقول عمر بن عبد الله بن أبي ربيعة:

وأعجَبَها من عَيشِها ظلُّ غُرفةٍ
وريَّانُ مُلتفُّ الحدائقِ أخضَرُ
ووالٍ كَفاها كلَّ شيءٍ يُهِمُّها
فليستْ لشيءٍ آخِرَ الدَّهرِ تَسهَرُ

وقال سلامة بن جندل هذه الأبيات وبعث بها إلى صعصعة بن محمود بن عمرو بن مرثد، وكان أخوه أحمر بن جندل أسيرًا في يده، فأطلقه له:

سأجزِيكَ بالودِّ الذي كان بيْنَنا
أصَعصَعَ إنِّي سوفَ أجزِيكَ صَعصَعا٦٢
سأُهدي وإنْ كنَّا بتَثليثِ مِدْحةً
إليكَ وإنْ حلَّت بُيوتُك لَعلَعا
فإنْ يَكُ محمودٌ أباك فإنَّنا
وجَدْناك محمودَ الخلائقِ أروَعا٦٣
وإنْ شئتَ أهدَينا ثناءً ومِدحةً
وإنْ شئتَ أهدَينا لكم مائةً مَعا٦٤

قال [صعصعة بن محمود]: الثناء والمِدحة أحَبُّ إلينا.

وقال أوس بن حجر حين حُبِس وأقام عند فضالة بن كندة، وتولَّت خدمتَه حليمةُ ابنة فضالة، شاكرًا لذلك:

لَعَمرُكَ ما ملَّت ثَواءً ثوى بها
حليمةُ إذ ألقى مَراسيَ مَقعَدِ
ولكنْ تَلقَّت باليدَينِ ضَمانتي
وحلَّ بفَلْجٍ فالقَنافذِ عُوَّدي
وقد غبَرَت شَهرَي ربيعٍ كلَيهما
بحَملِ البلايا والخِباءِ الممدَّدِ
ولم تُلهِها تلكَ التكاليفُ أنَّها
كما شئتَ من أُكرومةٍ وتَخرُّدِ
هي ابنةُ أعراقٍ كِرامٍ نَمَينَها
إلى خُلُقٍ عَفوٍ بَرازتُه قدِ
سأجزِيكِ أو يَجزِيكِ عنَّا مُثوَّبٌ
وحَسبُكِ أنْ يُثنى عليكِ وتُحمَدي

وقال الخُريمي:

ولم أجْزِه إلا المودَّةَ جاهدًا
وحَسبُك منِّي أنْ أودَّ فأجهَدا

وقال الأسدي:

وإنِّي أُحِبُّ الخُلدَ لو أستطيعُه
وكالخُلدِ عِندِي أنْ أموتَ ولم أُلَمْ

وقال الحادرة:

فأثنُوا علينا لا أبَا لأبيكمُ
بإحسانِنا إنَّ الثناءَ هو الخُلدُ

وأنشد الأصمعي لمُهلهِل:

فقَتلًا بتَقتيلٍ وعَقرًا بعَقرِكم
جزاءَ العطاءِ لا يموتُ من اتَّأرْ

وضاف أبو الشليل العَنبري بني حَكم، فخذًا من عنَزة، فقال:

أراني في بني حَكَمٍ قصيًّا
على قَتَرٍ أزُورُ ولا أُزارُ
أُناسٌ يأكلونَ اللَّحمَ دُوني
وتأتيني المَعاذِرُ والقُتارُ

وقال آخر:

إذا مدَّ أربابُ البُيوتِ بُيوتَهم
على رُجَّحِ الأكفالِ ألوانُها زُهرُ
فإنَّ لنا منها خِباءً يَحُفُّنا
إذا نحنُ أمسَينا المَجاعةُ والفقرُ

وقال آخر، وهو أبو المهوِّش الأسدي:

تَراه يُطوِّفُ الآفاقَ حِرصًا
ليأكلَ رأسَ لُقمانِ بنِ عادِ

وقال أيضًا:

وبنو الفُقَيمِ قليلةٌ أحلامُهم
ثُطُّ اللِّحى مُتشابهو الألوانِ
لو يسمعونَ بأكْلةٍ أو شَربةٍ
بعُمانَ أصبحَ جمعُهم بعُمانِ
مُتأبِّطينَ بَنِيهمُ وبَناتِهم
صُعْرَ الأُنوفِ لرِيحِ كلِّ دُخانِ

وقال آخر:

وجِيرةٍ لن تَرى في الناسِ مِثلَهمُ
إذا يكونُ لهم عيدٌ وإفطارُ
إنْ يُوقِدوا يُوسِعوني من دُخانِهمِ
وليس يبدو لنا ما تُنضِجُ النارُ

وقال أبو الطروق الضبي في خاقان بن عبد الله بن الأهتم:

وشكَّ الناسُ في خاقانَ لمَّا
أتى لولادِه سَنةٌ وشَهرُ
وقالت أُختُه إنِّيَ بَراءٌ
إلى الرحمنِ منك وذاك نُكْرُ
ولم يُسمَعْ بحَملٍ قبلَ هذا
أتى من دونِه دَهرٌ ودَهرُ
فنافَرَها فألحقَه شَبيبٌ
وأثبتَه فثابَ عليه وَفرُ

وقال مكِّي بن سوادة البُرجُمي:

تَحيَّرَ اللؤمُ يَبغي من يُحالِفُه
حتى تَناهى إلى أبناءِ خاقانِ
أزْرى بكم يا بَني خاقانَ أنَّكمُ
من نَسلِ حجَّامةٍ من قِنِّ هِزَّانِ
سفَّاكةٍ لدماءِ القومِ آكِلةٍ
قِدمًا لأموالِهم من غيرِ سُلطانِ
لو تسألونَ بها أيُّوبَ جاءَكمُ
على الذي قلتُ أيُّوبٌ ببُرهانِ
أيامَ تُعطِيه خَرْجًا من حِجامتِها
يومًا فيَومًا تُوفِّيه بأُرْبانِ
فإنْ رَدَدتُم عليه ما يقولُ أتى
على مَقالتِه فيها بتِبْيانِ
ثُم اشتراها أبو خاقانَ حينَ عسَت
فالتقطتْ نُقطةً منه بأقطانِ
فاستدخلتْها ولا يَدري بما فعلتْ
حتى إذا ركضَت جاءت بخاقانِ

وقال اللعين المنقري في آل الأهتم:

وكيفَ تُسامُونَ الكِرامَ وأنتمُ
دَوارِجُ حِبريُّونَ فُدْعُ القَوائمِ
بنو مُلصَقٍ من وُلدِ حَذلَمَ لم يَكُنْ
ظَلُومًا ولا مُستنكِرًا للمَظالمِ

وقال آخر:

قالت عَهِدتُك مجنونًا فقلتُ لها
إنَّ الشَّبابَ جُنونٌ بُرؤُه الكِبَرُ

وقال أعرابي، وهو أبو حيَّة النُّمَيري:

رمَتْني وسِترُ اللهِ بَيْني وبَيْنها
عشيَّةَ أرآمِ الكِناسِ رَمِيمُ
ألا رُبَّ يومٍ لو رَمَتني رَمَيتُها
ولكنَّ عَهدي بالنِّضالِ قديمُ
رميمُ التي قالت لجاراتِ بَيتِها
ضمنتُ لكم ألَّا يزالَ يَهِيمُ

وقال أبو يعقوب الأعور:

بِقَلبي سَقامٌ لستُ أُحسِنُ وَصْفَه
على أنَّه ما كانَ فهْوَ شديدُ
تَمُرُّ به الأيامُ تَسحَبُ ذَيْلَها
فتَبْلى به الأيَّامُ وهْوَ جديدُ

وقال الثقفي:

من كانَ ذا عَضُدٍ يُدرِكْ ظُلامتَه
إنَّ الذَّليلَ الذي ليست له عَضُدُ
تَنبُو يَداه إذا ما قلَّ ناصِرُه
ويأنَفُ الضَّيمَ إنْ أثرى له عَدَدُ

وقال أشجع السُّلمي في هارون أمير المؤمنين:

وعلى عَدُوِّك يا ابنَ عمِّ محمدٍ
رَصَدانِ ضوءُ الصُّبحِ والإظلامُ
فإذا تَنبَّهَ رُعتَه وإذا هَدى
سلَّت عليه سيوفَك الأحلامُ

وقال:

انتجِعِ الفَضلَ أو تخلَّ من الدُّ
نيا فهاتانِ غايَتا الهِمَمِ

وقال:

أبَتْ طَبَرستانُ إلَّا الذي
يَعُمُّ البَريَّةَ من دائِها
ضمَمتَ مَناكِبَها ضَمَّةً
رَمَتْك بما بيْنَ أحشائِها

وقالوا: لم يدع الأول للآخر معنًى شريفًا ولا لفظًا بهيًّا إلا أخذه، إلا بيت عنترة:

فَترى الذُّباب بها يُغنِّي وحدَه
غَرِدًا كفِعلِ الشَّارِبِ المُترنِّمِ
هَزِجًا يَحُكُّ ذِراعَه بذِراعِه
فِعلَ المُكِبِّ على الزِّنادِ الأجذَمِ

وقال الفُقيمي، قاتل غالب أبي الفرزدق:

وما كنتُ نوَّامًا ولكنَّ ثائرًا
أناخَ قليلًا فوقَ ظَهرِ سَبيلِ
وقد كنتُ مخزونَ اللِّسانِ ومُفحَمًا
فأصبحتُ أدري اليومَ كيفَ أقولُ
وقال أبو المثلَّم الهُذلي:٦٥
أصَخرُ بنَ عبدِ اللهِ إنْ كنتَ شاعرًا
فإنَّك لا تُهدي القريضَ لمُفحَمِ
وقال الهُذلي:٦٦
على عبدِ بنِ زُهرةَ طُو
لَ هذا الدَّهرِ أنتحِبُ٦٧
أخٌ لي دُونَ مَن لي مِن
بَني عمِّي وإنْ قَرُبوا
طوى من كانَ ذا نَسَبٍ
إليَّ وزادَه النَّسبُ
أبو الأضيافِ والأيتا
مِ ساعةَ لا يُعَدُّ أبُ
ألا لله دَرُّك مِن
فَتى قومٍ إذا ركِبوا٦٨
وقالوا مَن فتًى للثَّغْـ
ـرِ يَرقُبُنا ويَرتقبُ٦٩
فكنتَ أخاهمُ حقًّا
إذا تُدعى لها تَثِبُ٧٠
وقد ظَهَرَ السوابغُ فيـ
ـهِمُ والبِيضُ واليَلَبُ
أقامَ لدى مدينةِ آ
لِ قُسطَنطِينَ وانقلَبوا
نجيبًا حينَ يُدعى إنَّ
آباءَ الفتى نُجُبُ

وقال أدهم بن مُحرز الباهلي:

لمَّا رأيتُ الشَّيبَ قد شانَ أهلَه
تفتَّيتُ وابتعتُ الشبابَ بدِرهمِ
وقال آكِل المُرار الملك:٧١
إنَّ مَن غَرَّه النِّساءُ بشَيءٍ
بعدَ هندٍ لَجاهلٌ مَغرورُ٧٢
حُلوةُ العَينِ واللِّسانِ ومُرٌّ
كلُّ شيءٍ يُجِنُّ منها الضميرُ
كلُّ أنثى وإنْ بَدَت لك منها
آيةُ الحُبِّ حُبُّها خَيتَعورُ٧٣
وقال طُفيل الغَنوي:٧٤
إنَّ النِّساءَ كأشجارٍ نَبَتنَ معًا
منها المُرارُ وبعضُ المُرِّ مأكولُ
إنَّ النِّساءَ متى يُنهَينَ عن خُلُقٍ
فإنَّه واجبٌ لا بُدَّ مفعولُ
وقال علقمة بن عَبدة:٧٥
فإنْ تَسألوني بالنِّساءِ فإنَّني
بَصيرٌ بأدواءِ النساءِ طبيبُ
إذا شابَ رأسُ المرءِ أو قلَّ مالُه
فليسَ له من ودِّهنَّ نَصِيبُ
يُرِدنَ ثَراءَ المالِ حيثُ علِمنَه
وشَرخُ الشَّبابِ عندَهنَّ عَجِيبُ

وقال أبو الشَّغب السعدي:

أبَعدَ بني الزَّهراءِ أرجو بَشاشةً
من العيشِ أو أرجو رَخاءً من الدَّهرِ؟
غَطارفةٌ زُهرٌ مضَوا لسبيلِهم
ألَهْفي على تلك الغطارفة الزُّهرِ
يُذكِّرُنيهم كلُّ خيرٍ رأيتُه
وشرٍّ فما أنفكُّ منهم على ذِكرِ
وقال أبو حُزابة٧٦ في عبد الله بن ناشرة:
ألا لا فتًى بعدَ ابنِ ناشرةَ الفتى
ولا خيرَ إلا قد تولَّى وأدبَرا
وكانَ حَصادًا للمَنايا ازدرَعنَه
فهلَّا تَركنَ النَّبتَ ما كانَ أخضَرا
لَحا الله قومًا أسلَموك ورفَّعوا
عَناجيجَ أعطَتها يمينُك ضُمَّرا٧٧
أمَا كانَ فيهم فارسٌ ذو حفيظةٍ
يَرى الموتَ في بعضِ المَواطِنِ أعذَرا؟٧٨
يَكُرُّ كما كرَّ الكُليبيُّ بعدَما
رأى الموتَ تَحدُوه الأسِنَّةُ أحمَرا٧٩
فكرَّ عليه الوَردَ يَدمى لَبانُه
وما كرَّ إلا رَهبةً أنْ يُعيَّرا

وقال أعرابي:

رعاكِ ضمانُ اللهِ يا أُمَّ مالكٍ
وللهُ أنْ يَشفيك أرعى وأوسَعُ
يُذكِّرُنيك الخيرُ والشرُّ والذي
أخافُ وأرجو والذي أتوقَّعُ

وقال دُرَيد بن الصِّمَّة:

وقالوا ألَا تَبكي أخاك وقد أرى
مكانَ الأسى لكنْ بُنِيتُ على الصَّبرِ
فقلت أعَبدَ اللهِ أبكي أمِ الذي
على الجَدَثِ الباقي قَتيلَ أبي بَكرِ؟
وعبدَ يَغُوثٍ أو يَمينيَّ خالدًا
وعزَّ المُصابُ وضعُ قبرٍ إلى قبرِ
أبى القتلُ إلا آلَ صِمَّةَ إنَّهم
أبَوا غيرَه والقَدْرُ يَجري إلى القَدْرِ
فإمَّا تَرَينا ما تَزالُ دِماؤُنا
لدى ثائرٍ يَسعى بها آخِرَ الدَّهرِ
فإنَّا للَحمِ السَّيفِ غيرَ نَكيرةٍ
ونَلحَمَه حينًا فليس بِذِي نُكْرِ
يُغارُ علينا واتِرِينَ فيُشتفى
بنا إنْ أُصِبْنا أو نُغِيرُ على وَتْرِ
قَسَمْنا بذاك الدَّهرَ شَطرَينِ بَيْنَنا
فلا يَنقضي إلا ونحنُ على شَطرِ

وقال آخر:

إذا ما تَراءاه الرِّجالُ تَحفَّظوا
فلمْ تُنطَقِ العَوراءُ وهْوَ قريبُ
حبيبٌ إلى الزُّوَّارِ غِشيانُ بَيتِه
جميلُ المحيَّا شبَّ وهْوَ أديبُ
فتًى لا يُبالي أن يكونَ بجسمِه
إذا نالَ خلَّاتِ الكِرامِ شُحوبُ
حليمٌ إذا ما الحِلمُ زيَّنَ أهلَه
مع الحِلمِ في عَينِ العدوِّ نَجِيبُ
حليفُ النَّدى يدعو النَّدى فيُجِيبُه
قريبًا ويدعوه النَّدى فيُجِيبُ
يَبِيتُ النَّدى يا أُمَّ عَمرٍو ضجيعَه
إذا لم يَكُنْ في المُنقَياتِ حَلُوبُ

يقول: إذا كان الجدب ولم يكن للمال لبن فهو وهوبٌ مِطعام في هذا الزمن. والمنقيات: المهازيل التي ذهب نِقيُهن، والنقي: مخ العظام وشحم العين، وجمعه أنقاء، وناقة منقية أي ذات نقي.

وقال آخر:

ألَا تَرَينَ وقد قطَّعتِني عَذَلًا
ماذا من الفَوتِ بينَ البُخلِ والجُودِ
إلا يَكُنْ وَرِقٌ يومًا أجُودُ به
للمُعتفِينَ فإني ليِّنُ العُودِ

وإلى هذا ذهب ابن يسير حيث يقول:

لا يَعدِمُ السائلونَ الخيرَ أفعَلُه
إمَّا نَوالي وإما حُسنُ مَردودي
وقال الهُذلي:٨٠
وهَّابُ ما لا تكادُ النَّفسُ تُرسِلُه
من التِّلادِ وَصُولٌ غيرُ منَّانِ٨١

وقال أبو عُبيدة معمر بن المثنى: ومن الشوارد التي لا أرباب لها قوله:

إنْ يَفجروا أو يَغدِروا
أو يَبخَلوا لم يَحلِفوا
يغدوا عليك مرجَّليـ
ـنَ كأنَّهم لم يفعلوا
كأبي بَراقشَ كلُّ لَو
نٍ لَونُه يَتخيَّلُ

ومِثله في بعض معانيه:

أكولٌ لأرزاقِ العِبادِ إذا شَتا
صبورٌ على سوءِ الثَّناءِ وَقَاحُ

وقال:

وما نَفى عنك قومًا أنتَ خائفُهم
كمِثلِ وَقمِك جُهَّالًا بجُهَّالِ
فاقعَسْ إذا حدَبوا واحدَبْ إذا قعَسوا
ووازِنِ الشرَّ مِثقالًا بمِثقالِ

وقال الراجز:

وقد تَعلَّلتُ ذَمِيلَ العَنسِ
بالسَّوطِ في ديمومةٍ كالتُّرسِ
إذ عَرَجَ اللَّيلُ برَوحِ الشَّمسِ

وقال الراجز:

قد كنتُ إذ حَبلُ صِباك مُدمَشُ
وإذ أهاضيبُ الشبابِ تَبغَشُ

وقال الراجز:

طالَ عليهنَّ تكاليفُ السُّرى
والنصُّ في حينِ الهجيرِ والضُّحى
حتى عَجاهنَّ فما تحتَ العَجى
رواعِبٌ يَخضِبنَ مِبيضِّ الحَصى
سمع ذلك ابن وُهيب٨٢ فرامَ مِثله فقال:
يَخضِبُ مَروًا دمًا نجيعًا
من فرطِ ما تُنكَبُ الحَوامى

وقال عامر مُلاعب الأسنَّة:

دفعتُكمُ عنِّي وما دفعُ راحةٍ
بشيءٍ إذا لم تَستعِنْ بالأناملِ
يُضعضعُني حِلمي وكثرةُ جهلِكم
عليَّ وأنِّي لا أصُولُ بجاهلِ

وقال آخر:

لا بُدَّ للسؤدُدِ من أرماحِ
ومن سفيهٍ دائمِ النُّباحِ
ومن عديدٍ يُتَّقى بالرَّاحِ

وقال أبو نخيلة لبعض سادات بني سعد:

وإنَّ بقَومٍ سوَّدوك لَفاقةً
إلى سيِّدٍ لو يَظفَرونَ بسيِّدِ

وتمثَّل سفيان بن عُيينة وقد جلس على مرقبٍ عالٍ، وأصحاب الحديث مدى البصر يكتبون، بقول الآخر:

خلَتِ الدِّيارُ فسُدتُ غيرَ مُسوَّدِ
ومن الشَّقاءِ تَفرُّدي بالسؤدُدِ

وقال الأول في الأحنف:

وإنَّ من الساداتِ من لو أطعتَه
دعاكَ إلى نارٍ يَفُورُ سَعِيرُها

وقال آخر:

فأصبحتُ بعدَ الحِلمِ في الحيِّ ظالمًا
تَخمُّطُ فيهم والمُسوَّدُ يَظلِمُ

وقال رجل من بني الحارث بن كعب يُقال له سُويد:

إنِّي إذا ما الأمرُ بيَّنَ شكَّه
وبَدَت بَصائرُه لمن يَتأمَّلُ
وتَبرَّأَ الضُّعفاءُ من إخوانِهم
وألحَّ من حَرِّ الصميمِ الكَلكَلُ
أدَعُ التي هي أرفَقُ الحالاتِ بي
عندَ الحفيظةِ للَّتي هي أجمَلُ

وقال الآخر:

ذهبَ الذين أُحِبُّهم فَرَطًا
وبَقِيتُ كالمغمورِ في خَلْفِ
من كلِّ مَطويٍّ على حَنَقٍ
مُتصنِّعٍ يُكفى ولا يَكفي

وقال أبو الطَّمَحان القَيني:

فكم فيهمُ من سيِّدٍ وابنِ سيِّدٍ
وفيٍّ بعَقدِ الجارِ حينَ يُفارِقُه
يكادُ الغَمامُ الغُرُّ يَرغَبُ أنْ يَرى
وُجوهَ بَني لَأمٍ ويَنهلُّ بارِقُه

وقال طُفيل الغنوي:

وكان هُريمٌ من سِنانٍ خليفةً
وعمرٍو ومن أسماءَ لمَّا تَغيَّبوا
نُجومُ سماءٍ كُلَّما انقضَّ كَوكبٌ
بَدا وانجلتْ عنه الدُّجُنَّةُ كَوكبُ

وقال رجل من بني نهشل:

إنَّا لمِن مَعشرٍ أفنى أوائلُهم
قِيلُ الكُماةِ ألا أينَ المُحامونا
لو كانَ في الألفِ منَّا واحدٌ فدَعوا
من عاطفٌ خالَهم إيَّاه يَدعُونا
وليس يذهبُ منَّا سيِّدٌ أبدًا
إلا افتلَينا غُلامًا سيِّدًا فينا

وقال بعض الحِجازيين:

إذا طَمَعٌ يومًا عَراني قَرَيتُه
كتائبَ يأسٍ كرَّها وطِرادَها
أكُدُّ ثِمادي والمياهُ كثيرةٌ
أُعالِجُ منها حَفْرَها واكتدادَها
وأرضى بها من بحرِ آخَرَ إنَّه
هو الرِّيُّ إنْ تَرضى النُّفوسُ ثِمادَها

وقال أبو مِحجَن الثقفي:

ألمْ تَسألْ فوارسَ من سُلَيمٍ
بِنَضلةَ وهْوَ موتورٌ مُشِيحُ؟
رأوه فازدَرَوه وهْوَ خِرْقٌ
وينفعُ أهلَه الرَّجلُ القبيحُ
فلم يخشَوا مَصالِتَه عليهم
وتحتَ الرِّغوةِ اللَّبَنُ الصَّريحُ
فكرَّ عليهمُ بالسَّيفِ صَلتًا
كما عضَّ الشَّبا الفَرسُ الجَمُوحُ
فأطلَقَ غِلَّ صاحِبِه وأردى
جريحًا منهمُ ونجا جَرِيحُ

وقال بعض اليهود:

سئمتُ وأمسَيتُ رَهنَ الفِراشِ
ومن حَملِ قومٍ ومن مَغرَمِ
ومن سَفَهِ الرَّأيِ بعدَ النُّهى
ورُمتُ الرَّشادَ فلمْ يَفهَمِ
فلَو أنَّ قومي أطاعوا الحليمَ
ولم تَتعدَّ ولم تَظلِمِ
ولكنَّ قومي أطاعوا السِّفيـ
ـهَ حتى تَعكَّظَ أهلُ الدَّمِ
فأودى السفيهُ برأيِ الحليـ
مِ فانتشرَ الأمرُ لم يُبرَمِ

وقال بعض الشعراء:

وكنتُ جليسَ قَعقاعِ بنِ شُورٍ
ولا يَشقى بقَعقاعٍ جليسُ
ضَحُوكُ السِّنِّ إنْ أمَروا بخيرٍ
وعندَ الشرِّ مِطراقٌ عَبُوسُ

وقال آخر:

ولستُ بزِمِّجةٍ في الفِرا
شِ وجَّابةٍ يحتمي أنْ يُجيبا
ولا ذي قلازمَ عندَ الحِياضِ
إذا ما الشَّريبُ أرابَ الشَّريبا

وقال حَجْل بن نَضلة:

جاءَ شقيقٌ عارضًا رُمْحَه
إنَّ بَني عمِّك فيهم رِماحْ
هل أحدَثَ الدهرُ لنا نَكبةً
أم هل رَفَت أُمُّ شقيقٍ سِلاحْ؟

وقال:

ويلُ امِّ لَذَّاتِ الشَّبابِ مَعِيشةً
معَ الكُثرِ يُعطاه الفَتى المُتلِفُ النَّدِي
وقد يَقصُرُ القُلُّ الفتى دُونَ همِّه
وقد كانَ لولا القُلَّ طلَّاعَ أنجُدِ

وقال الآخر:

قامت تُخاصِرُني بقُنَّتِها
خَودٌ تأطَّرُ غادةٌ بِكرُ
كلٌّ يَرى أنَّ الشبابَ له
في كلِّ مَبلَغ ِلذَّةٍ عُذرُ

وقال سعد بن ربيعة بن مالك بن سعد بن زيد مناة، وهو من قديم الشعر وصحيحه:

ألا إنَّما هذا السُّلالُ الذي تَرى
وإدبارُ جِسمي من رَدى العَثَراتِ
وكم من خليلٍ قد تَجلَّدتُ بَعدَه
تَقطَّعُ نَفْسي دُونَه حَسَراتِ

وقال الطِّرِمَّاح في هذا المعنى:

وشيَّبَني ألَّا أزالَ مُناهِضًا
بغيرِ ثرًا أسرُو به وأبُوعُ
أمُخترِمي رَيبُ المَنُونِ ولم أنَلْ
من المالِ ما أعصي به وأُطيعُ

وقال الأضبط بن قُرَيع:

لكلِّ همٍّ من الهمومِ سَعةْ
والمُسْيُ والصُّبحُ لا فَلَاحَ مَعَه
فَصِلْ حِبالَ البَعيدِ إنْ وَصَلَ الـ
ـحبلَ وأقصِ القريبَ إنْ قَطَعَه
لا تَحقُرنَّ الفقيرَ علَّكَ أنْ
تَركَعَ يومًا والدهرُ قد رَفَعَه
قد يَجمَعُ المالَ غيرُ آكِلِه
ويأكلُ المالَ غيرُ من جَمَعَه

وقال أعرابي، ونحر ناقةً في حُطمةٍ أصابتهم:

أكَلْنا الشَّوى حتى إذا لم نَجِد شوًى
أشَرْنا إلى خيراتِها بالأصابعِ
وللسَّيفُ أحرى أنْ تُباشِرَ حدَّه
من الجوعِ لا تُثنى عليه المَضاجِعُ
لَعَمرُكَ ما سلَّيت نفسًا شحيحةً
عن المالِ في الدنيا بمِثلِ مَجاوِعِ

وقدَّم ناقة له أخرى إلى شجرة ليكون المُحتطب قريبًا من المنحر، فقال:

وأدنَيتُها من رأسِ عشَّاءَ عَشَّةٍ
مُفصَّلةِ الأفْنانِ صُهبٍ فُروعُها
وقلتُ لها لمَّا شدَدتُ عِقالَها
وبالكفِّ مُمْهاةٌ شديدٌ وُقوعُها
لقد عُنِيَت نَفْسي عليكِ شحيحةً
ولكنْ يُسخِّي شَحَّةَ النَّفْسِ جُوعُها

وقال أسقُف نجران:

مَنَعَ البقاءَ تَصرُّفُ الشمسِ
وطُلوعُها من حيثُ لا تُمسِي
وطُلوعُها بَيضاءَ صافيةً
وغُروبُها صَفراءَ كالوَرسِ
اليومَ نَعلَمُ ما يَجيءُ به
ومَضى بفَصلِ قضائِه أمسِ

وقال آخر:

وهُلْكُ الفَتى ألَّا يَراحَ إلى النَّدى
وألَّا يَرى شيئًا عجيبًا فيَعجَبا
ومن يبتغي منِّي الظُّلامةَ يَلقَني
إذا ما رآني أصلَعَ الرأسِ أشيَبا

(٢٤) أشعار في الخمر

وقال سُحيم بن وثيل الرياحي:

تقولُ حَدراءُ ليسَ فيك سِوى الـ
ـخَمر ِمَعابٌ يَعِيبُه أحدُ
فقلتُ أخطأتِ بل مُعاقَرتي الـ
ـخَمرَ وبَذْلي فيها الذي أجِدُ
هو الثَّناءُ الذي سَمِعتِ به
لا سَبَدٌ مُخلِدي ولا لَبَدُ
وَيحَكِ لولا الخمورُ لم أحفِلِ الـ
ـعَيشَ ولا أنْ يضمَّني لَحدُ
هي الحَيا والحياةُ واللَّهو لا
أنتِ ولا ثروةٌ ولا وَلدُ

وقال عبدٌ راعٍ:

غَضِبَت عليَّ لأنْ شَرِبتُ بجِزَّةٍ
فلئنْ أبَيتِ لأشرَبَنْ بخَرُوفِ
ولئن نطَقتِ لأشرَبنَّ بنَعجةٍ
حَمراءٍ من آلِ المُذالِ سَحُوفِ

وقال:

ناحت رُقيَّةُ من شاةٍ شَرِبتُ بها
ولا تَنُوحُ على ما يأكلُ الذِّيبُ

وقال أبو حفص القُريعي:

قد تَغرَّبتُ للشَّقاوةِ حِينًا
حينَ بدَّلتُ للسَّعادةِ نُوقا
يومَ فارَقتُ بَلدَتي وقَراري
وتَبدَّلتُ سُوءَ رأيٍ ومُوقا
ليتَ عِندي بخيرِ مِعزايَ عَشرًا
طَيلَسانًا من الطِّرازِ عَتيقا
وبخَمسٍ منهنَّ أيضًا قميصًا
سابريًّا أمِيسُ فيه رقيقا
قد هجرتُ النبيذَ مُذ هُنَّ عِندِي
وتَمزَّزتُ رِسلَهنَّ مَذِيقا
فوجدتُ المَذيقَ يُوجِعُ بَطْني
ووجدتُ النبيذَ كانَ صَدِيقا
يَعِدُ النَّفْسَ بالعَشيِّ مُناها
ويَسُلُّ الهمومَ سلًّا رفيقا

وكان فتًى طيِّب من ولد يقطين لا يصحو، وكان في أهله روافض يُخاصمون في أبي بكر وعمر، وعثمان وعلي، وطلحة والزبير، رضوان الله تعالى عليهم أجمعين، فقال:

رُبَّ عُقارٍ باذرَنجيَّةٍ
اصطدتُها من بيتِ دِهقانِ
جَندَرتُ أرواحًا وطيَّبتُها
بعدَ اتِّساخٍ طالَ في الحانِ
سَكتًا وسَلتًا لم يَخُضْ في أذًى
من قتلِ عُثمانَ بنِ عفَّانِ
ولا أبي بَكرٍ ولا طَلحةٍ
ولا زُبيرٍ يومَ عُثمانِ
اللهُ يَجزِيهم بأعمالِهم
ليس علينا عِلْمُ ذا الشَّانِ

وقال المُنخَّل اليَشكُري:

ولقد شرِبتُ من المُدا
مةِ بالصغيرِ وبالكثيرِ
ولقد شرِبتُ الخَمر بالـ
ـخَيلِ الإناثِ وبالذُّكورِ
فإذا سكِرتُ فإنَّني
رَبُّ الخَوَرنقِ والسَّدِيرِ
وإذا صحَوتُ فإنَّني
رَبُّ الشُّوَيهةِ والبعيرِ
يا رُبَّ يومٍ للمُنخَّـ
ـلِ قد لها فيه قصيرِ
وقال أبو عطاء السِّندي٨٣ لزائر له ورآه يومئ إلى امرأته:
كُلْ هنيئًا وما شرِبتَ مَريئًا
ثُم قُمْ صاغرًا فغَيْرَ كريمِ٨٤
لا أُحِبُّ النديمَ يُومِضُ بالعَيـ
ـنِ إذا ما خَلا بعِرسِ النَّديمِ٨٥

وقال وتعرَّضت له امرأة صاحبه:

رُبَّ بَيضاءَ كالقضيبِ تَثنَّى
قد دَعَتني لوَصلِها فأبَيتُ
ليس شاني تَحرُّجًا غيرَ أنِّي
كنتُ نَدمانَ زوجِها فاستحَيتُ

وقال آخر:

فلا واللهِ لا أُلْفى وشَرْبًا
أُنازِعُهم شَرابًا ما حيِيتُ
ولا واللهِ ما أُلْفى بِلَيلٍ
أُراقِبُ عِرسَ جاري ما بَقِيتُ
سأترُكُ ما أخافُ عليَّ منه
مَقالتَه وأجملَه السُّكوتُ
أبى لي ذاك آباءٌ كِرامٌ
وأجدادٌ بمَجدِهمِ رُبِيتُ

وقال السُّحيمي:

وما ليَ وجهٌ في اللِّئامِ ولا يدٌ
ولكنَّ وَجْهي في الكِرامِ عَرِيضُ
أهَشُّ إذا لاقَيتُهم وكأنَّني
إذا أنا لاقَيتُ اللِّئامَ مَرِيضُ
وقال ابن كُناسة:٨٦
فيَّ انقباضٌ وحِشمةٌ فإذا
لاقيتَ أهلَ الوفاءِ والكَرَمِ
خلَّيتُ نَفْسي على سجيَّتِها
وقلتُ ما قلتُ غيرَ مُحتشِمِ
وقال عبد الرحمن بن الحكَم:٨٧
وكأسٍ تَرى بينَ الأنامِ وبيْنَها
قَذى العينِ قد نازَعتُ أُمَّ أبانِ
تَرى شاربيها حينَ يَعتقِبانِها
يميلانِ أحيانًا ويَعتدِلانِ
فما ظنُّ ذا الواشي بأبيَضَ ماجِدٍ
وبدَّاءِ خَودٍ حينَ يَلتقيانِ
وقال الرمَّاح بن ميَّادة،٨٨ وكان الأصمعي يقول: خُتِم الشعر بالرماح، وأظن النابغة أحد عمومته:
ألا رُبَّ خمَّارٍ طرَقتُ بسُدْفةٍ
من اللَّيلِ مُرتادًا لنَدمانيَ الخَمرا
فأنهَلتُه خَمرًا وأحلِفُ أنَّها
طِلاءٌ حَلالٌ كي يُحمِّلَني الوِزْرا

وقال آخر:

ولقد شرِبتُ الخَمرَ حتَّى خِلتُني
لمَّا خرَجتُ أجُرُّ فضلَ المِئزَرِ
قابوس أو عمرَو بنَ هندٍ قاعدًا
يُجبى له ما بيْنَ دارةِ قَيصَرِ
في فِتيةٍ بِيضِ الوُجوهِ خَضارمٍ
عندَ النِّدامِ عَشيرُهم لم يَخسَرِ

وقال ابن ميَّادة:

ومُعتَّقٍ حُرِمَ الوَقُودَ كرامةً
كدَمِ الذَّبيحِ تَمُجُّه أوداجُه
ضَمِنَ الكُرومُ له أوائلَ حَملِه
وعلى الدِّنانِ تَمامُه ونَتاجُه

وأنشد اللائح لبعض الروافض:

إذا المُرْجيُّ سَرَّكَ أنْ تَراه
يموتُ بِدائِه من قبلِ موتِه
فجَدِّدْ عندَه ذِكرى عليٍّ
وصلِّ على النبيِّ وأهلِ بَيتِه

(٢٥) ما قيل في البرامكة من الهجاء

وقال بعضهم في البرامكة:

إذا ذُكِرَ الشِّركُ في مَجلسٍ
أنارَت وُجوهُ بَني بَرمَكِ
وإنْ تُلِيَت عندَهم آيةٌ
أتَوا بالأحاديثِ عن مَزدكِ٨٩

وقال آخر:

لَعَنَ اللهُ آلَ بَرمَكَ إنِّي
صِرتُ من أجلِهم أخا أسفارِ
إنْ يَكُ ذو القَرنَين قد مَسَحَ الأر
ضَ فإنِّي مُوكَّلٌ بالعِيارِ

وقال آخر:

إنَّ الفَراغَ دَعاني
إلى ابتناءِ المَساجِدْ
وإنَّ رأيِيَ فيها
كَرأي يحيى بنِ خالِدْ

وقال أبو الهَول في جعفر بن يحيى:

أصبحتُ مُحتاجًا إلى الضَّربِ
في طَلَبِ العُرفِ إلى الكَلبِ
إذا اشتكى صبٌّ إليه الهوى
قالَ له ما لي وللصَّبِّ
أعْنِي فتًى يُطعَنُ في دِينِه
يَشِبُّ مَعْهُ خَشَبُ الصَّلبِ

وقال رجل من أهل الشام:

أبَعدَ مَروانَ وبَعدَ مَسْلمةْ
وبَعدَ إسحاقَ الذي كان لُمةْ
صارَ على الثَّغرِ فِرَنجُ الرَّخَمةْ
إنَّ لنا بفِعلِ يحيى نِقْمةْ
مُهلِكةً مُبِيرةً مُنتقِمةْ
أكلًا بَني بَرمَكَ أكْلَ الحُطمةْ
إنَّ لهذا الأكلِ يومًا تُخَمةْ
أيسَرُ شيءٍ فيه حزُّ الغَلصَمةْ

وقال الشاعر:

ما رَعى الدَّهرُ آلَ بَرمكَ لمَّا
أنْ رمى مُلْكَهم بأمرٍ بَدِيعِ
إنَّ دهرًا لم يَرْعَ حقًّا ليحيى
غيرُ راعٍ ذِمامَ آلِ الرَّبيعِ

وقال سهل بن هارون في يحيى بن خالد:

عدوُّ تِلادِ المالِ فيما يَنُوبُه
مَنُوعٌ إذا ما مَنعُه كانَ أحزَما
مُذلِّلُ نَفْسٍ قد أبَت غيرَ أنْ تَرى
مَكارِهَ ما تأتي من الحقِّ مَغنَما

وقال حسان بن حسان:

من مُبلِغٌ يحيى ودُونَ لقائِه
زَبَراتُ كلِّ خُنابسٍ هَمْهامِ
يا راعيَ السُّلطانِ غيرَ مُفرِّطٍ
في لِينِ مُختبِطٍ وطِيبِ شِمامِ
يُغدِي مَسارِحَه ويُصفي شَرْبَه
ويَبِيتُ بالرَّبَواتِ والأعلامِ
حتى يُنحنِحَ ضاربًا بِجِرانِه
ورَسَت مَراسيه بِدارِ سَلامِ
في كلِّ ثَغرٍ حارسٌ من قبلِه
وشُعاعُ طَرْفٍ لا يُفتَّرُ سامِ

وهذا شبيه بقول العتَّابي في هارون:

إمامٌ له كفٌّ يضمُّ بَنانَها
عصا الدِّينِ ممنوعًا من البَريِ عُودُها
وعَينٌ مُحِيطٌ بالبَريَّةِ طَرفُها
سَواءٌ عليه قُربُها وبَعيدُها
وأصمَعُ يَقظانٌ يَبِيتُ مُناجيًا
له في الحشا مُستودَعاتٌ يَكِيدُها
سميعٌ إذا ناداه من قَعرِ كُربةٍ
مُنادٍ كفَتْه دَعوةٌ لا يُعِيدُها

وقال كُلثوم بن عمرو العتَّابي:

تَلُومُ على تَركِ الغِنى باهليَّةٌ
طوى الدهرُ عنها كلَّ طِرفٍ وتالدِ
رأت حَوْلَها النِّسوانَ يَرفُلنَ في الكُسا
مُقلَّدةً أجيادُها بالقلائدِ
يَسُرُّك أنِّي نِلتُ ما نالَ جعفرٌ
من المُلكِ أو ما نالَ يحيى بنُ خالدِ
وأنَّ أميرَ المؤمِنِينَ أغَصَّني
مَغصَّهما بالمُرهَفاتِ البَوارِدِ
ذَرِيني تَجِئْني مِيتتي مُطمئنَّةً
ولم أتَقحَّمْ هَوْلَ تلك المَوارِدِ
فإنَّ كريماتِ المَعالي مَشُوبةٌ
بمُستودَعاتٍ في بُطونِ الأساوِدِ

وقال الحسن بن هانئ:

عجِبتُ لِهارونَ الإمامِ وما الذي
يُروِّي ويرجو فيك يا خِلقةَ السِّلْقِ
قفًا خَلْفَ وجهٍ قد أُطيلَ كأنَّه
قفا مَلِكٍ يَقضي الحقوقَ على ثَبْقِ
وأعظَمُ زَهوًا من ذُبابٍ على خرًا
وأبخَلُ من كلبٍ عَقورٍ على عِرقِ
أرى جعفرًا يَزدادُ بُخلًا ودِقَّةً
إذا زادَه الرحمنُ في سَعةِ الرِّزقِ
ولو جاءَ غيرُ البُخلِ من عندِ جَعفرٍ
لَمَا وضَعوه الناسُ إلَّا على الحُمقِ

(٢٦) ما قيل في البرامكة من المديح

ولما أنشد ابن حفصة الفضل بن يحيى بن خالد:

ضرَبتَ فلا شُلَّت يدٌ خالديَّةٌ
رتَقتَ بها الفَتقَ الذي بيْنَ هاشمِ

قال له الفضل: قل: فلا شُلَّت يد برمكية؛ فخالدٌ كثير، وليس برمك إلا واحدًا.

وقال سَلْم في يحيى، ويحيى يومئذٍ شابٌّ:

وفتًى خَلا من مالِه
ومن المروءةِ غيرُ خالِ
وإذا رأى لك مَوعدًا
كانَ الفَعَالُ معَ المَقالِ
للهِ دَرُّكَ من فتًى
ما فيكَ من كَرَمِ الخِلالِ
أعطاكَ قبلَ سؤالِه
فكَفاكَ مَكروهَ السؤالِ

ومن جيِّد ما قيل فيهم:

للفضلِ يومَ الطَّالقانِ وقبلَه
يومٌ أنافَ به على خاقانِ
ما مِثلُ يومَيه اللَّذَين تَوالَيا
في غَزوتَين حواهما يومانِ
عصَمَت حكومتُه جماعةَ هاشمٍ
من أنْ يُجرَّدَ بينها سَيفانِ
تلك الحكومةُ لا التي عن لَبسِها
عَظُمَ الثَّأى وتفرَّق الحُكمانِ

وقال الحسن بن هانئ في جعفر بن يحيى:

ذاك الوزيرُ الذي طالت عَلاوتُه
كأنَّه ناظرٌ في السَّيفِ بالطُّولِ

ذكروا أن جعفر بن يحيى كان أول من عرض الجِرِبَّانات لطول عنقه.

وقال مَعْدان الأعمى، وهو أبو السَّريِّ السُّميطي:

يومَ تُشفى النُّفوسُ من يَعصُرِ اللُّؤ
مِ ويُثنى بِسامةَ الرَّحَّالِ
وعَديٍّ وتَيمِها وثقيفٍ
وأُمَيٍّ وتَغلِبٍ وهِلالِ
لا حرورٌ ولا النوابتُ تنجو
لا ولا صحبُ واصلِ الغزَّالِ
غيرَ كَفتِي ومن يلوذُ بكَفتِي
فَهُمُ رَهطُ الأعوَرِ الدَّجَّالِ
وبنو الشَّيخِ والقتيلُ بفَجٍّ
بعدَ يحيى ومؤيِمِ الأشبالِ
سنَّ ظُلمُ الإمامِ في القومِ بِشرٌ
إنَّ ظُلْمَ الإمامِ ذو عُقَّالِ

وقال الكُمَيت:

آمَت نِساءُ بَني أُميَّةَ منهمُ
وبَنُوهمُ بمَضِيعةٍ أيتامُ
نامت جُدودُهمُ وأُسقِطَ نَجمُهم
والنَّجمُ يَسقُطُ والجُدودُ تَنامُ
خلَتِ المَنابِرُ والأسِرَّةُ منهمُ
فعلَيهمُ حتَّى المَماتِ سَلامُ

وقال خليفة أبو خلف بن خليفة:

أعفِني آلَ هاشمٍ يا أُميَّا
جعلَ اللهُ بَيتَ مالِكِ فيَّا
أنْ عَصى اللهَ آلُ مَرْوانَ والعا
صِي لقد كانَ للرَّسولِ عَصِيَّا
لو تَصفَّحتَ أولياءَ عليٍّ
لم تَجِدْ في جميعِهم باهليَّا

وقال الراعي في بني أمية:

بَني أُميَّةَ إنَّ اللهَ مُلحِقُكم
عمَّا قليلٍ بعُثمانَ بنِ عفَّانِ
وقال كعب الأشقري٩٠ لعمر بن عبد العزيز:
إنْ كنتَ تَحفَظُ ما يَلِيكَ فإنَّما
عُمَّالُ أرضِكَ بالبِلادِ ذئابُ
لن يَستجيبوا للذي تدعو له
حتى يُجلَّدَ بالسُّيوفِ رِقابُ
بأكُفِّ مُنصلتَين أهلِ بَصائرٍ
في وَقعِهنَّ مَزاجرٌ وعِقابُ
هلَّا قُرَيشٌ ذكَّروا بثُغورِها
حَزمٌ وأحلامٌ هناك رِغابُ
لولا قريشٌ نَصرُها ودِفاعُها
أُلفِيتُ مُنقطِعًا بيَ الأسبابُ

فلما سمع هذا الشعر قال: لمن هذا؟ قالوا: لرجل من أزد عمان يُقال له كعب الأشقري. قال: ما كنت أظن أهل عمان يقولون مِثل هذا الشعر.

قال [أبو] اليقظان: وقام إلى عمر بن عبد العزيز رجل وهو على المِنبر فقال:

إنَّ الذين بَعَثتَ في أقطارِها
نَبَذوا كِتابَك واستُحلَّ المَحرَمُ
طُلْسُ الثِّيابِ على مَنابرِ أرضِنا
كلٌّ يجوزُ وكلُّهم يَتظلَّمُ
وأردتَ أنْ يَلِيَ الأمانةَ منهمُ
عَدلٌ وهَيهاتَ الأمينُ المُسلِمُ

وكان زيد بن علي كثيرًا ما يتمثل بقول الشاعر:

شرَّدَه الخوفُ وأزرى به
كذاك من يَكرَهُ حَرَّ الجِلادْ
مُنخرِقُ الخُفَّينِ يَشكو الوَجى
تَنكُبُه أطرافُ مَروٍ حِدادْ

وقال عبد الله بن كثير السهمي، وكان يتشيع، لولادةٍ كانت نالته، وسمع عمال خالد بن عبد الله القسري يلعنون عليًّا والحسين على المنابر:

لعنَ اللهُ من يَسُبُّ عليًّا
وحُسَينًا من سُوقةٍ وإمامِ
أيَسُبُّ المُطيَّبونَ جُدودًا
والكِرامُ الأخوالِ والأعمامِ
يأمَنُ الظَّبيُ والحَمَامُ ولا يَأ
مَنُ آلُ الرسولِ عندَ المَقامِ
طِبتَ بَيتًا وطابَ أهلُكَ أهلًا
أهْلَ بَيتِ النَّبيِّ والإسلامِ
رحمةُ اللهِ والسَّلامُ عليهم
كلَّما قامَ قائمٌ بسَلامِ

وقال حين عابوه بذلك الرأي:

إنَّ امرأً أمسَت مَعايِبُه
حُبَّ النَّبيِّ لَغَيرُ ذي ذَنْبِ
وبَني أبي حَسنٍ ووالدُهم
مَن طابَ في الأرحامِ والصُّلْبِ
أيُعَدُّ ذَنبًا أنْ أُحِبَّهمُ
بل حُبُّهم كفَّارةُ الذَّنْبِ

وقال يزيد بن أبي بكر بن دأب الليثي:

اللهُ يَعلَمُ في عليٍّ عِلمَه
وكذاك عِلمُ اللهِ في عُثمانِ
وقال السيِّد الحِميري:٩١
إنِّي امرؤٌ حِميَريٌّ غيرُ مؤتشِبٍ
جَدِّي رُعَينٌ وأخوالي ذوو يَزَنِ
ثُم الولاءُ الذي أرجو النَّجاةَ به
يومَ القيامةِ للهادي أبي الحَسنِ
وقال ابن أُذَينة:٩٢
سَمِينُ قُرَيشٍ مانعٌ منك لَحمَه
وغَثُّ قُرَيشٍ حيث كانَ سَمِينُ

وقال ابن الرُّقيَّات:

ما نقموا من بني أميَّةَ إلا
أنَّهم يَحلُمون إنْ غضِبوا
وأنَّهم مَعدِنُ الملوكِ ولا
تَصلُحُ إلا عليهم العَرَبُ

وقال عُروة بن أُذَينة:

إذا قريشٌ تولَّى خيرَ صالحِها
فاستيقِننَّ بأنْ لا خيرَ في أحدِ
رَهطُ النبيِّ وأولى الناسِ مَنزِلةً
بكلِّ خيرٍ وأثرى الناسِ في العَددِ

وقال حسَّان بن ثابت يرثي أبا بكر الصِّدِّيق رضي الله تعالى عنه:

إذا تَذكَّرتَ شَجوًا من أخي ثِقةٍ
فاذكُرْ أخاك أبا بكرٍ بما فعلا
التاليَ الثانيَ المحمودُ مَشهَدُه
وأوَّلُ الناسِ منهم صدَّقَ الرُّسُلا
وثانيَ اثنَين في الغارِ المُنِيفِ وقد
طافَ العدوُّ به إذ صعَّدَ الجَبلا
وكانَ حِبَّ رسولِ اللهِ قد علِموا
خيرِ البَريَّةِ لم يَعدِلْ به رَجُلا

وقال بعض بني أسد:

لما تَخيَّرَ ربِّي فارتضى رَجُلًا
من خَلقِه كانَ منَّا ذلك الرُّجلُ
لنا المَساجدُ نَبْنيها ونَعمُرُها
وفي المَنابِرِ قُعدانٌ لنا ذُلُلُ

وقال يزيد بن الحكم بن أبي العاص في شأن السقيفة:

قدِ اختصمَ الأقوامُ بعدَ محمَّدٍ
فسائلْ قُريشًا حينَ جدَّ اختصامُها
ألمْ تَكُ من دُونِ الخليقةِ أمَّةً
بكفِّ امرئٍ من آلِ تَيمٍ زِمامُها
هدى اللهُ بالصِّدِّيقِ ضُلَّالَ أمَّةٍ
إلى الحقِّ لمَّا ارفَضَّ عنها نِظامُها

وقالت صفية في ذلك اليوم:

قد كانَ بَعدَكَ أنباءٌ وهَنتشةٌ
لو كنتَ شاهِدَها لم تَكثُرِ الخُطَبُ
إنَّا فقَدْناك فقْدَ الأرضِ وابِلَها
واختلَّ قومُك فاشهَدْهم فقد سغِبوا

وقال الفرزدق:

صلَّى صُهَيبٌ ثلاثًا ثُم أسلَمَها
إلى ابنِ عفَّانَ مُلكًا غيرَ مَقصورِ
ولايةً من أبي حَفصٍ لثالِثِهم
كانوا أخلَّاء مَهديٍّ ومحبورِ

وقال مُزرد بن ضِرار يرثي عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه:

عليكَ السَّلامُ من إمامٍ وبارَكَت
يدُ اللهِ في ذاكَ الأديمِ المُمزَّقِ
قضَيتَ أُمورًا ثُم غادَرتَ بَعدَها
بَوائقَ في أكمامِها لم تُفتَّقِ
وما كنتُ أخشى أن تكونَ وفاتُه
بكفَّي سَبَنْتى أزرقِ العَينِ مُطرِقِ

قال: وسمعوا في تلك الليلة هاتفًا يقول:

لِيَبكِ على الإسلامِ من كان باكيًا
فقد أوشكوا هُلكًا وما قَدُمَ العَهدُ
وأدبَرَتِ الدُّنيا وأدبَرَ خيرُها
وقد ملَّها من كان يُوقِنُ بالوَعدِ

وعن أبي الحُجاف عن مسلم البطين:

إنا نُعاتِبُ لا أبا لك عُصبةً
علِقوا الفِرى وبَرَوا من الصِّدِّيقِ
وبَرَوا سَفاهًا من وزيرِ نبيِّهم
تبًّا لمن يَبْرا من الفاروقِ
إني على رغمِ العُداةِ لَقائلٌ
دِينًا بدِينِ الصادِقِ المصدوقِ

وقال الكُمَيت:

فقُل لبَني أُميَّةَ حيثُ حلُّوا
وإنْ خِفتَ المهنَّدَ والقطيعا
أجاعَ اللهُ من أشبعتُموه
وأشبَعَ من بجُودِكمُ أُجِيعا
بمَرْضيِّ السياسةِ هاشميٍّ
يكونُ حَيًا لأمَّتِه ربيعا

وقال حربُ بن المُنذِر بن الجارود:

فحَسْبي من الدُّنيا كَفافٌ يُقِيمُني
وأثوابُ كَتَّانٍ أزورُ بها قَبري
وحُبِّي ذوي قُربى النَّبيِّ محمَّدٍ
فما سُؤْلُنا إلا المودَّةُ من أجْرِ

وجه التدبير في الكتاب إذا طال أن يُداويَ مؤلِّفه نشاط القارئ له، ويسوقه إلى حظه بالاحتيال له؛ فمن ذلك أن يُخرجه من شيء إلى شيء، ومن باب إلى باب، بعد ألا يُخرجه من جملة ذلك الفن، ومن جمهور ذلك العلم.

وقد يجب أن نذكُر بعض ما انتهى إلينا من كلام خُلفائنا من ولد العبَّاس، ولو أن دولتهم أعجميةٌ خراسانية، ودولة بني مروان عربيةٌ أعرابية، وفي أجنادٍ شامية، والعرب أوعى لِما تسمع، وأحفظ لِما تأتي، ولها الأشعار التي تقيِّد عليها مآثرها، وتخلِّد لها محاسنها، وجرَت من ذلك في إسلامها على مِثل عادتها في جاهليتها؛ فبنت بذلك لبني مروان شرفًا كثيرًا، ومجدًا كبيرًا، وتدبيرًا لا يُحصى.

ولو أن أهل خراسان حفظوا على أنفسهم وقائعهم في أهل الشام، وتدبير ملوكهم، وسياسة كبرائهم، وما جرى في ذلك من فرائد الكلام وشريف المعاني، كان فيما قال المنصور وما فعل في أيامه، وأسَّس لمن بعده، ما يفي بجماعة ملوك بني مروان.

ولقد تتبَّع أبو عُبيدة النحوي، وأبو الحسن المدائني، وهشام الكلبي، والهيثم بن عدي، أخبارًا اختلفت، وأحاديث تقطَّعت، فلم يُدركوا إلا قليلًا من كثير، وممزوجًا من خالص.

وعلى كل حال فإنا إذا صِرنا إلى بقيَّة ما رواه العبَّاس بن محمد، وعبد الملك بن صالح، والعبَّاس بن موسى، وإسحاق بن عيسى، وإسحاق بن سليمان، وأيوب بن جعفر، وما رواه إبراهيم بن السندي٩٣ عن السندي، وعن صالحٍ صاحب المصلَّى، عن مشيخة بني هاشم ومواليهم، عرفتَ بتلك البقية كثرةَ ما فات، وبذلك الصحيح أين موضع الفساد مما صنعه الهيثم بن عدي، وتكلَّفه هشام بن الكلبي.

(٢٧) شيء من سياسة بني العبَّاس وأدبهم

وسنذكُر جُملًا مما انتهى إلينا من كلام المنصور، ومن شأن المأمون وغيرهما، وإن كنَّا قد ذكرنا من ذلك طرفًا. ونقصد من ذلك إلى التخفيف والتقليل؛ فإنه يأتي من وراء الحاجة، ويُعرَف بجملته مُراد البقية.

قال: وكان المنصور داهيًا أريبًا، مُصيبًا في رأيه سديدًا، وكان مقدَّمًا في علم الكلام، ومُكثرًا من كتاب الآثار، ولكلامه كتابٌ يدور في أيدي العارفين الورَّاقين معروف عندهم. ولما همَّ بقتل أبي مسلمٍ سقط بين الاستبداد برأيه والمشاورة فيه، فأرِقَ في ذلك ليلته، فلما أصبح دعا بإسحاق بن مسلم العُقيلي، فقال له: حدِّثني حديث الملِك الذي أخبرتني عنه بحران. قال: أخبرني أبي عن الحُصين بن المُنذِر أن ملِكًا من ملوك فارس يُقال له سابور الأكبر، كان له وزير ناصح قد اقتبس أدبًا من آداب الملوك، وشابَ ذلك بفَهم في الدين، فوجَّهه سابور داعية إلى خراسان، وكانوا قومًا عجمًا يعظِّمون الدنيا جهالةً بالدين، ويُخلُّون بالدِّين استكانةً لقُوت الدنيا، وذلًّا لجبابرتها، فجمعهم على دعوةٍ من الهوى يكيد به مطالب الدنيا، واغترَّ بقتل ملوكهم لهم وتخوُّلهم إياهم. وكان يُقال: لكلِّ ضعيفٍ صولة، ولكلِّ ذليلٍ دولة. فلما تلاحمت أعضاء الأمور التي لقَّح استحالت حربًا عَوانًا شالت أسافلها بأعاليها، فانتقل العز إلى أرذلهم، والنباهة إلى أخملهم، فأُشربوا له حبًّا مع خفض من الدنيا افتُتح بدعوة من الدين؛ فلما استوثقت له البلاد بلَغ سابور أمرهم، وما أحال عليه من طاعتهم، ولم يأمن زوال القلوب وغدرات الوزراء، فاحتال في قطع رجائه عن قلوبهم. وكان يُقال:

وما قُطِعَ الرَّجاءُ بمِثلِ يأسٍ
تُبادِهُه القلوبُ على اغترارِ

فصمَّم على قتله عند وروده عليه برؤساء أهل خراسان وفُرسانهم، فقتله، فبغتهم بحدث، فلم يرُعْهم إلا ورأسه بين أيديهم، فوقف بهم بين الغربة، ونأيِ الرَّجعة، وتخطُّف الأعداء، وتفرُّق الجماعة، واليأس من صاحبهم، فرأوا أن يستتمُّوا الدعوة بطاعة سابور ويتعوَّضوه من الفُرقة، فأذعنوا له بالمُلك والطاعة، وتبادروه بمواضع النصيحة، فملكهم حتى مات حَتْف أنفه.

فأطرقَ المنصور مليًّا ثم رفع رأسه وهو يقول:

لِذِي الحِلمِ قبلَ اليومِ ما تُقرَعُ العصا
وما عُلِّمَ الإنسانُ إلا ليَعلَما

وأمر إسحاق بالخروج، ودعا بأبي مسلم، فلما نظر إليه داخلًا قال:

قد اكتنفَتْك خَلَّاتٌ ثلاثٌ
جَلَبنَ عليك مَحذورَ الحِمامِ
خِلافُكَ وامتنانُك تَرتميني
وقَودُك للجماهيرِ العِظامِ

ثم وثب إليه، ووثب معه بعض حشمه بالسيوف، فلما رآهم وثب، فبدره المنصور فضربه ضربةً طوَّحه منها، ثم قال:

اشرَبْ بكأسٍ كنتَ تَسْقي بها
أمَرَّ في الحَلقِ من العَلقَمِ
زعمتَ أنَّ الدَّينَ لا يُقتضى
كذَبتَ فاستَوفِ أبا مُجرِمِ

ثم أمر فحُز رأسه، وبعث به إلى أهل خراسان وهم ببابه، فجالوا حوله ساعةً، ثم رد عن شغبهم انقطاعهم عن بلادهم، وإحاطة الأعداء بهم، فذلُّوا وسلَّموا له، فكان إسحاق إذا رأى المنصور قال:

وما ضرَبوا لك الأمثالَ إلَّا
لتَحذُو إنْ حَذَوتَ على مِثالِ

وكان المنصور إذا رآه قال:

وخلَّفَها سابورُ للنَّاسِ يُقتدى
بأمثالِها في المُعضِلاتِ العظائمِ

وكان المهديُّ يُحبُّ القِيان وسماع الغناء، وكان مُعجَبًا بجاريةٍ يُقال لها جوهر، وكان اشتراها من مروان الشامي، فدخل عليه ذات يوم مروان الشامي وجوهر تغنِّيه، فقال مروان:

أنتِ يا جَوهرُ عِندي جَوهرةْ
في بَياضِ الدُّرَّةِ المُشتهَرةْ
فإذا غنَّت فَنارٌ ضَرِمَت
قذَفَت في كلِّ قلبٍ شَرَرةْ

فاتَّهمه المهدي، وأمر به فدُعَّ في عنقه إلى أن أُخرج، ثم قال لجوهر: أطرِبيني. فأنشأت تقول:

وأنتَ الذي أخلَفتَني ما وعَدتَني
وأشمَتَّ بي من كانَ فيك يَلُومُ
وأبرَزتَني للنَّاسِ ثُم تَركتَني
لهم غَرضًا أُرمى وأنتَ سَلِيمُ
فلو أنَّ قولًا يَكلِمُ الجِسمَ قد بَدا
بجِسميَ من قولِ الوُشاةِ كُلُومُ

فقال المهدي:

ألا يا جَوهَرَ القلبِ لقد زِدتِ على الجَوهَرْ
وقد أكملَكِ اللهُ بحُسنِ الدَّلِّ والمَنظَرْ
إذا ما صُلْتِ ما أحسنَ خَلقِ اللهِ بالمِزهَرْ
وغنَّيتِ ففاحَ البيتُ من رِيقِكِ بالعَنبَرْ
فلا واللهِ ما المهديُّ أولى مِنكِ بالمِنبَرْ
فإنْ شئتِ ففي كفِّكِ خَلعُ ابنِ أبي جَعفَرْ

قال الهيثم: أنشدت هارون، وهو وليُّ عهدٍ أيام موسى، بيتَين لحمزة بن بِيض في سليمان بن عبد الملك:

حازَ الخِلافةَ والِداكَ كِلاهُما
من بينِ سَخطةِ ساخطٍ أو طائعِ
أبَواكَ ثُم أخوكَ أصبحَ ثالثًا
وعلى جَبينِكَ نُورُ مُلكٍ ساطِعِ

قال: يا يحيى، اكتب لي هذين البيتين.

ولما مدح ابن هرمة أبا جعفر المنصور، أمر له بألفَي درهم، فاستقلَّها، وبلَغ ذلك أبا جعفر فقال: أمَا يرضى أني حقنت دمه وقد استوجب إراقته، ووفرت ماله وقد استحقَّ تلفه، وأقررته وقد استأهل الطرد، وقرَّبته وقد استحقَّ البعد؟ أليس هو القائل في بني أمية:

إذا قيلَ من عندَ رَيبِ الزَّمانِ
لِمُعتَرِّ فِهرٍ ومُحتاجِها
ومن يُعجِلُ الخيلَ يومَ الوَغى
بإلجامِها قبلَ إسراجِها
أشارت نساءُ بني مالكٍ
إليكَ به قبلَ أزواجِها

قال ابن هَرمة: فإني قد قلت فيك أحسن من هذا. قال: هاتِه. قال: قلت:

إذا قلتُ أيَّ فتًى تَعلَمونَ
أهَشَّ إلى الطعنِ بالذَّابلِ
وأضرَبَ للقِرنِ يومَ الوَغى
وأطعَمَ في الزَّمَنِ الماحِلِ
أشارتْ إليكَ أكُفُّ الورى
إشارةَ غَرْقى إلى ساحِلِ

قال المنصور: أما هذا الشعر فمُسترَق، وأما نحن فلا نُكافئ إلا بالتي هي أحسن.

(٢٨) سياسة المنصور في العفو عن المُسيء

ولما احتال أبو الأزهر المهلب [بن عبيثر المهري] لعبد الحميد بن ربعي بن خالد بن مغداق، وأسلمه [إلى] حميد [بن قحطبة، وأسلمه حميد] إلى المنصور، قال: لا عُذرَ فأعتذر، وقد أحاط بي الذنب، وأنت أولى بما ترى. قال: لست أقتل أحدًا من آل قَحطبة، بل أهب مُسيئهم إلى مُحسِنهم، وغادِرَهم لوفيِّهم. قال: إن لم يكُن فيَّ مُصطنَع فلا حاجة لي في الحياة، ولست أرضى أن أكون طليق شفيع، وعتيق ابن عم. قال: اسكت مقبوحًا مشقوحًا، اخرج فإنك أنوَك جاهل، أنت عتيقهم وطليقهم ما حييت.

ولما داهَن سفيان بن معاوية بن يزيد بن المهلَّب في شأن إبراهيم بن عبد الله، وصار إلى المنصور، أمر الربيع بخلع سواده والوقوف به على رءوس اليمانية في المقصورة يوم الجمعة، ثم قال: قل لهم: يقول لكم أمير المؤمنين: قد عرفتم ما كان من إحساني إليه، وحُسنِ بَلائي عنده، وقديم نعمتي عليه، والذي حاوَل من الفتنة، ورامَ من البغي، وأراد من شقِّ العصا ومعاونة الأعداء، وإراقة الدماء؛ وأنه قد استحقَّ بهذا من فِعله أليم العقاب، وعظيم العذاب، وقد رأى أمير المؤمنين إتمام بلائه الجميل لديه، وربَّ نَعمائه السابقة عنده؛ لما يتعرَّفه أمير المؤمنين من حسن عائدة الله عليه، وما يؤمِّله من الخير العاجل والآجل عند العفو عمن ظلم، والصفح عمن أساء، وقد وهب أمير المؤمنين مُسيئهم لمُحسِنهم، وغادِرَهم لوفيِّهم.

(٢٩) وصف المأمون لصنوف العلم

وقال سهل بن هارون يومًا وهو عند المأمون: من أصناف العلم ما لا ينبغي للمسلمين أن يرغبوا فيه، وقد يُرغَب عن بعض العلم كما يُرغَب عن بعض الحلال.

قال المأمون: قد يُسمَّى بعض الشيء علمًا وليس بعلم؛ فإن كنت أردت هذا فوجهه الذي ذكرنا، ولو قلت: إن العلم لا يُدرَك غَوره، ولا يُسبَر قَعره، ولا تُبلغ غايته، ولا يُستقصى أصنافه، ولا يُضبط آخره، فالأمر على ما قلت؛ فإذا كان الأمر كذلك فابدءوا بالأهم فالأهم، وابدءوا بالفرض قبل النفل؛ فإذا فعلتم ذلك كان عدلًا، وقولًا صِدقًا. وقد قال بعض العلماء: اقتصِد من أصناف العلم إلى ما هو أشهى إلى نفسك، وأخف على قلبك؛ فإن نفاذك فيه على حسب شهوتك وسهولته عليك. وقال أيضًا بعض العلماء: لست أطلب العلم طمعًا في بلوغ غايته، والوقوف على نهايته، ولكن التماس ما لا يسع جهله، ولا يَحسُن بالعاقل إغفاله. وقال آخرون: عِلم الملوك النَّسبُ والخبر وجُمل الفقه، وعِلم التُّجار الحسابُ والكتاب، وعلم أصحاب الحرب درسُ كُتُب المغازي وكُتُب السِّيَر. فأما أن تُسمِّي الشيء علمًا وتنهى عنه من غير أن يكون شيءٌ يشغل عما هو أنفع منه، بل تنهى نهيًا جزمًا، وتأمر أمرًا حتمًا. والعلم بصر، وخلافه عمًى، والاستبانة للشر ناهية عنه، والاستبانة للخير آمِرة به.

ولما قرأ المأمون كُتُبي في الإمامة فوجدها على ما أمر به، وصِرت إليه، وقد كان أمر اليزيدي بالنظر فيها ليخبره عنها، قال لي: قد كان بعض من نرتضي عقله ونصدِّق خبره، خبَّرنا عن هذه الكتب بإحكام الصنعة وكثرة الفائدة. فقلت: قد تَرْبى الصفة على العِيان، فلما رأيتها رأيت العِيان قد أربى على الصفة، فلما فلَيتُها أربى الفَليُ على العِيان كما أربى العِيان على الصفة. وهذا كتابٌ لا يُحتاج إلى حضور صاحبه، ولا يفتقر إلى المُحتجِّين عنه، قد جمع استقصاء المعاني، واستيفاء جميع الحقوق، مع اللفظ الجَزْل، والمَخرج السهل؛ فهو سوقيٌّ مُلوكي، وعامِّيٌّ خاصِّي.

(٣٠) مجادلة المأمون للخراساني المرتد

ولما دخل عليه المرتدُّ الخراساني وقد كان حمله من خراسان حتى وافى به العراق، قال له المأمون:

لَأن أستحييَك بحقٍّ أحَبُّ إليَّ من أن أقتلك بحق، ولأن أقبلك بالبراءة أحب إليَّ من أن أدفعك بالتهمة. قد كنتَ مسلمًا بعد أن كنت نصرانيًّا، وكنت فيها أتيح، وأيامك أطول، فاستوحشت مما كنت به آنسًا، ثم لم تلبث أن رجعت عنا نافرًا، فخبِّرنا عن الشيء الذي أوحشك من الشيء الذي صار آنَس لك من إلفك القديم، وأُنسك الأول؛ فإن وجدت عندنا دواء دائك تَعالجت به، والمريض من الأطبَّاء يحتاج إلى المشاورة، وإن أخطأك الشفاء، ونبا عن دائك الدواء، كنت قد أعذرت ولم ترجع على نفسك بلائمة؛ فإن قتلناك قتلناك بحكم الشريعة، أو ترجع أنت في نفسك إلى الاستبصار والثقة، وتعلم أنك لم تقصِّر في اجتهاد، ولم تفرِّط في الدخول في باب الحزم.

قال المرتد: أوحشَني كثرةُ ما رأيت من الاختلاف فيكم.

قال المأمون: لنا اختلافان؛ أحدهما كالاختلاف في الأذان، وتكبير الجنائز، والاختلاف في التشهد، وصلاة الأعياد، وتكبير التشريق، ووجوه القراءات، واختلاف وجوه الفُتيا، وما أشبه ذلك، وليس هذا باختلاف، إنما هو تخيير وتوسعة، وتخفيف من المحنة؛ فمن أذَّن مثنَّى وأقام مثنَّى لم يؤثَّم، ومن أذَّن مثنَّى وأقام فُرادى لم يُحوَّب. لا يتعايرون ولا يتعايبون. أنت ترى ذلك عِيانًا، وتشهد عليه تبيانًا. والاختلاف الآخر كنحو اختلافنا في تأويل الآية من كتابنا، وتأويل الحديث عن نبينا، مع إجماعنا على أصل التنزيل، واتفاقنا على عين الخبر. فإن كان الذي أوحشك هذا حتى أنكرت من أجله هذا الكتاب، فقد ينبغي أن يكون اللفظ بجميع التوراة والإنجيل متَّفَقًا على تأويله، كما يكون متَّفَقًا على تنزيله، ولا يكون بين جميع النصارى واليهود اختلاف في شيء من التأويلات، وينبغي لك ألا ترجع إلا إلى لغةٍ لا اختلاف في تأويل ألفاظها. ولو شاء الله أن يُنزل كُتُبه ويجعل كلام أنبيائه وورثة رسله لا يحتاج إلى تفسير لفَعل، ولكنَّا لم نرَ شيئًا من الدين والدنيا دُفِع إلينا على الكفاية. ولو كان الأمر كذلك لسقطت البلوى والمحنة، وذهبت المسابقة والمنافسة، ولم يكن تفاضُل، وليس على هذا بنى الله الدنيا.

قال المرتد: أشهد أن الله واحد لا ند له ولا ولد، وأن المسيح عبده، وأن محمدًا صادق، وأنك أمير المؤمنين حقًّا.

فأقبل المأمون على أصحابه فقال: فِرُوا عليه عِرضه، ولا تَبرُّوه في يومه رَيثما يَعتُق إسلامه؛ كي لا يقول عدوه إنه أسلم رغبةً، ولا تنسوا بعدُ نصيبكم من بِرِّه وتأنيسه ونصرته والعائدة عليه.

(٣١) دفاع المأمون عن إيقاع الملوك بخاصَّتهم

حدَّثنا أحمد بن أبي داود٩٤ قال: قال لي المأمون: لا يستطيع الناس أن ينصفوا الملوك من وزرائهم، ولا يستطيعون أن ينظروا بالعدل بين الملوك وحُماتهم وكُفاتهم، وبين صنائعهم وبطانتهم؛ وذلك أنهم يرَون ظاهر حُرمة وخِدمة، واجتهاد ونصيحة، ويرَون إيقاع الملوك بهم ظاهرًا، حتى لا يزال الرجل يقول: ما أوقع به إلا رغبةً في ماله، أو رغبةً في بعض ما لا تجود النفوس به، ولعل الحسد والملال وشهوة الاستبدال اشتركت في ذلك، وهناك خيانات في صُلْب المُلك أو في بعض الحُرَم، فلا يستطيع الملِك أن يكشف للعامة موضع العورة في المُلك، ولا أن يحتجَّ لتلك العقوبة بما يستحق ذلك الذنب، ولا يستطيع الملك ترك عقابه لما في ذلك من الفساد، على عِلمه بأن عذره غير مبسوط للعامة، ولا معروف عند أكثر الخاصة.

(٣٢) من آداب الملوك

ونزل رجل من أهل العسكر، فعدا بين يدَي المأمون وشكا إليه مَظلمته، فأشار بيده أنْ حَسبُك. فقال له بعض من كان يقرُب من المأمون: يقول لك أمير المؤمنين: اركب. قال المأمون: لا يُقال لمِثل هذا: اركب. إنما يُقال له: انصرِف.

وحدَّثني إبراهيم بن السندي قال: بَيْنا الحسن اللؤلئيُّ يحدِّث المأمون ليلًا وهو بالرقة، وهو يومئذٍ وليُّ عهد، وأطال الحسن الحديث حتى نعس المأمون، فقال الحسن: نعستَ أيها الأمير! ففتح عينَيه وقال: سوقيٌّ وربِّ الكعبة. يا غلامُ خُذ بيده.

(٣٣) ذِكر بقيَّة كلام النَّوكى والمُوسوِسين والجُفاة والأغبياء وما ضارَع ذلك وشاكَله

وأحبَبنا ألا يكون مجموعًا في مكانٍ واحد إبقاءً على نشاط القارئ والمستمع.

مرَّ ابن أبي عَلقمة بمجلس بني ناجية، فكبا حماره لوجهه، فضحكوا منه، فقال: ما يُضحككم؟ رأى وجوه قريش فسجد.

أبو الحسن قال: أتى رجل عباديًّا صيرفيًّا يستسلف منه مائتَي درهم، فقال: وما تصنع بها؟ قال: أشتري بها حمارًا؛ فلعلَّي أربح فيه عشرين درهمًا. قال: إذا أنا وهبتك العشرين، فما حاجتك إلى المائتَين؟ قال: ما أريد إلا المائتَين. فقال: أنت لا تريد أن تردَّها عليَّ.

قال: وأتى قوم عباديًّا فقالوا: تُحبُّ أن تُسلف فلانًا ألف درهم وتؤخِّره سنة؟ فقال: هاتان حاجتان، وسأقضي لكم إحداهما، وإذا فعلت ذلك فقد أنصفت؛ أما الدراهم فلا تسهُل عليَّ، ولكني أؤخره سنتَين.

ولعب رجلٌ قُدَّام بعض الملوك بالشِّطرنج، فلما رآه قد استجاد لعبه وفاوَضه الكلام قال له: لمَ لا تولِّيني نهر بوق؟ قال: أولِّيك نِصفه. اكتبوا له عهده على بوق. وقال له مرةً: ولِّني أرمينية. قال: يُبطئ على أمير المؤمنين خبرك.

وقدِم آخر على صاحب له من فارس، فقال له: قد كنت عند أمير المؤمنين، فأيَّ شيءٍ ولَّاك؟ قال: ولَّاني قفاه.

قال: ونظر أمير إلى أعرابي فقال: لقد همَّ لي الأمير بخير؟ قال: ما فعلت. قال: فبشِّر؟ قال: وما فعلت. قال: إن الأمير لمجنون.

قال أبو الحسن: شهِد مجنون على امرأة ورجل بالزنا، فقال الحاكم: تشهد أنك رأيته يُدخله ويُخرجه؟ قال: والله لو كنتُ جلدةَ استها لما شهِدت بهذا.

قال: وكان رجل من أهل الري يجالسنا، فاحتبس عنا، فأتيته فجلست معه على بابه، وإذا رجلٌ يدخل ويخرج، فقلت: من هذا؟ فسكت، ثم أعدت فسكت، فلما أعدت الثالثة قال: هو زوج أخت خالتي.

وقال الشاعر:

إذا المرءُ جازَ الأربعينَ ولم يَكُنْ
له دُونَ ما يأتي حياءٌ ولا سِترُ
فدَعه ولا تَنفِسْ عليه الذي أتى
ولو جرَّ أرسانَ الحياةِ له الدَّهرُ

أعرابيٌّ خاصَمَته امرأته إلى السلطان، فقيل له: ما صنعت؟ قال: خيرًا، كبَّها الله لوجهها، وأمر بي إلى السجن.

قال أبو الحسن: عرض الأسد لأهل قافلة، فتبرَّع عليهم رجل، فخرج إليه، فلما رآه سقط وركِبه الأسد، فشدُّوا عليه بأجمعهم، فتنحَّى عنه الأسد، فقالوا له: ما حالك؟ قال: لا بأس عليَّ، ولكن الأسد خرى في سراويلي.

قال أبو عباية السليطي: قد فسد الناس. قلت: وكيف؟ قال: ترى بساتين هزارمرد هذه ما كان يمرُّ بها غلام إلا بخفير. قلت: هذا صلاح. قال: لا، بل فساد.

أبو الحسن قال: خطب سعيد بن العاص عائشة ابنة عثمان على أخيه، فقالت: لا أتزوَّجه، قال: ولمَ؟ قالت: هو أحمق، له بِرذَونان أشهبان، فيحتمل مؤنة اثنين وهما عند الناس واحد.

قال: كان المغيرة بن المهلَّب ممرورًا، وكان عند الحجَّاج يومًا فهاجت به مِرَّته، فقال له الحجَّاج: ادخل المتوضَّأ. وأمر من يُقيم عنده حتى يتقيَّأ ويُفيق.

قال أبو الحسن: قالت خَيرة بنت ضَمرة القُشيرية، امرأة المهلَّب، للمهلَّب: إذا انصرفت من الجمعة فأُحبُّ أن تمرَّ بأهلي. قال لها: إن أخاك أحمق. قالت: فإني أحب أن تفعل. فجاء وأخوها جالس وعنده جماعة فلم يوسِّع له، فجلس المهلَّب ناحيةً ثم أقبل عليه فقال له: ما فعل ابن عمك فلان؟ قال: حاضر. فقال: أرسِل إليه. ففعل، فلما نظر إليه غير مرفوع المجلس قال: يا ابن اللَّخناء، المهلَّب جالس ناحيةً وأنت جالس في صدر المجلس؟ وواثبه. فتركه المهلَّب وانصرف، فقالت له خيرة: أمرَرتَ بأهلي؟ قال: نعم، وتركت أخاك الأحمق يُضرَب.

قال: وكتب الحجَّاج إلى الحكم بن أيوب: اخطب على عبد الملك بن الحجَّاج امرأةً جميلة من بعيد، مليحة من قريب، شريفة في قومها، ذليلة في نفسها، أمَةً لبعلها. فكتب إليه: قد أصبتها لولا عِظَم ثَدْيها. فكتب إليه الحجَّاج: لا يَحسُن نحر المرأة حتى يَعظُم ثدياها. قال المُرار بن مُنقذ العدوي:٩٥
صَلتةُ الخدِّ طويلٌ جِيدُها
ضَخمةُ الثَّديِ ولمَّا يَنكسِرْ

قال علي بن أبي طالب كرَّم الله تعالى وجهه: لا، حتى تُدفئ الضجيع، وتُرويَ الرضيع.

وقال ابن صديقة لرجلٍ رأى معه خُفًّا: ما هذه القَلنسوة؟ فاحتكموا إلى عِرباض، فقال عرباض: هي قلنسوة الرِّجلَين.

قال أبو إسحاق: قلت لخنجير كوز: وعدتك أن تجيء ارتفاعَ النهار، فجئتني صلاة العصر! قال: جئتك ارتفاعَ العَشِي.

قال: قيل لأعرابي: ما اسم المرق عندكم؟ قال: السَّخين. قال: فإذا برد؟ قال: لا ندعه حتى يبرد.

باع نخَّاس من أعرابي غلامًا فأراد أن يتبرَّأ من عيبه، قال: اعلم أنه يبول في الفِراش. قال: إن وجد فِراشًا فليبُلْ فيه.

حدَّثنا صديق لي قال: أتاني أعرابي بدرهم فقلت له: هذا زائف، فمن أعطاك هذا؟ قال: لصٌّ مِثلك.

وقال زيد بن كَثوة: أتيت بني كَشٍّ هؤلاء، فإذا عُرسٌ، وبُلق الباب، فادرَنفَق وادَّمج فيه سرعانٌ من الناس، وألصتُ وُلوج الدار فدَلظَني الحدَّاد دلظةً دهوَرَني على قمة رأسي، وأبصرت شِيخانَ الحي هناك ينتظرون المزيَّة فعِجت إليهم، فوالله إنْ زِلنا نَظارِ نَظارِ حتى عقَل الظل، فذكرت أخلَّائي من بني تبر، فقصدتهم وأنا أقول:

تَرَكنَ بَني كشٍّ وما في دِيارِهم
عَوامِدَ واعصَوصَبنَ نحوَ بَني تبرِ
إلى مَعشرٍ شُمِّ الأُنوفِ قِراهمُ
إذ نزلَ الأضيافُ من قمَعِ الجُزرِ

وانصرفت وأتيت باب كش وإذا الرجال صَتِيَتان، وإذا أرمداء كثيرة، وطُهاة لا تُحصى، ولحمانٌ في جثمان الإكام.

صالح بن سليمان قال: أحمَقُ الشعراء الذي يقول:

أهِيمُ بدَعدٍ ما حيِيتُ فإنْ أمُتْ
أُوكِّلْ بدَعدٍ من يَهِيمُ بها بَعْدي

ولا يُشبِه قول الآخر:

فلا تُنكَحي إنْ فرَّقَ الدَّهرُ بيْنَنا
أغمَّ القفا والوجهِ ليس بأنزَعا

قال: مات لابن مُقرن غلام، فحفر لهم أعرابيٌّ قبره بدرهمَين، وذلك في بعض الطواعين، فلما أعطَوه الدرهمين قال: دعوهما حتى يجتمع لي عندكم ثمن ثوب.

وأدخل أعرابي إلى المربد جنيبًا له، فنظر إليها بعض الغوغاء، فقال: لا إله إلا الله، ما أسمَنَ هذه الجزر! قال له الأعرابي: ما لها تكون جزرًا، جزرك الله؟

قال أبو الحسن: جاء رجل إلى رجل من الوجوه فقال: أنا جارك، وقد مات أخي فلان، فمُرْ لي بكفن. قال: لا والله ما عندي اليومَ شيء، ولكن تعهَّدنا وتعود بعد أيام فسيكون الذي تحب. قال: أصلحك الله، فنملِّحه إلى أن يتيسَّر عندكم شيء؟

قال: كان مولى البكرات يدَّعي البلاغة، فكان يتصفح كلام الناس فيمدح الرديء ويذمُّ الجيد، فكتب إلينا رسالةً يعتذر فيها من ترك المجيء، فقال: وقطعني عن المجيء إليكم أنه طلعتْ في إحدى إليتَي ابني بَثرةٌ، فعظُمت حتى صارت كأنها رُمَّانةٌ صغيرة.

وقال عليٌّ الأُسواري: فلما رأيته اصفرَّ وجهي حتى صار كأنه الكثوث.

وقال محمد بن الجهم: إلى أين بلَغ الماء منك؟ قال: إلى العانة. قال شُعيب بن زُرارة: لو كان قال إلى الشعرة، كان أجود. وقال له محمد بن الجهم: هذا الدواء الذي جئت به قدرَ كم آخُذ منه؟ قال: قدر بَعرة.

وقال علي: جاءني رجل حَزَنبل من ها هنا إلى ثَمة.

(٣٤) شيء من سُخفِ قاسم التمَّار

وقال قاسم التمَّار: بينهما كما بين السماء إلى قريب من الأرض. وقال قاسم التمَّار: أينما رأيت إيوان كسرى كأنما رُفعت عنه الأيدي أول من أمس. وأقبل على أصحاب له وهم يشربون النبيذ، وذلك بعد العصر بساعة، فقال لبعضهم: قم صلِّ فاتتك الصلاة! ثم أمسك عنه ساعة، ثم قال لآخر: قم صلِّ ويلك فقد ذهب الوقت! فلما أكثر عليهم في ذلك وهو جالسٌ لا يقوم يصلِّي قال له واحد منهم: فأنت [لِمَ] لم تصلِّ؟ فأقبل عليه فقال: ليس والله يعرفون أصلي في هذا. قلت: وأيُّ شيءٍ أصلك؟ قال: لا نصلِّي لأن هذه المغرب قد جاءت. وقال قاسم: أنا أنفَسُ بنفسي على السلطان. وأتى منزل ابن أبي شهاب وقد تعشَّى القوم، وجلسوا على النبيذ، فأتَوه بخبز وزيتون وكامَخ، فقال: أنا لا أشرب النبيذ إلا على زُهومة. وقال: حين بِعتُ البغل بدأت بالسَّرج. وقال: ليس في الدنيا ثلاثةٌ أنكح مني؛ أنا أُكسِل منذ ثلاث ليالٍ في كل ليلة عشرَ مرَّات. كأن الإكسال عنده هو الإنزال. وقال: ذهب والله مني الأطيبَين؟ قلت: وأي شيء الأطيبَين؟ قال: قوة اليدَين والرِّجلَين. وقال: فالْتَوى لي عِرق حين قعدت منها مقعد الرجل من الغلام. وقال في غلام له رُومي: ما وضعت بيني وبين الأرض أطيب منه. قال: ومحمد بن حسان لا يشكرني، ووالله ما ناك حاذرًا قطُّ إلا على يدي.

وقال أبو خَشْرم: ما أعجبَ أسبابَ النَّيك! فقيل له: النَّيك وحده؟ قال: سمِعنا الناس يقولون: ما أعجبَ أسباب الرزق، وما أعجبَ الأسباب!

وكان قاسم التمَّار عند ابن لأحمد بن عبد الصمد بن علي، وهناك جماعة، فأقبل وهبٌ المُحتسب يعرِّض له بالغِلمان، فلما طال ذلك على قاسمٍ أراد أن يقطعه عن نفسه بأن يعرِّفه هو أن ذلك القول عليه، فقال: اشهدوا جميعًا أني أنِيك الغِلمان، واشهدوا جميعًا أني أعفِج الصِّبيان. والتفت التفاتةً فرأى الأخوَين الهُذليين وكانا يُعاديانه بسبب الاعتزال، فقال: عنَيت بقولي. فقال: اشهدوا جميعًا أني لُوطي؛ أي على دين لوط. قال القوم بأجمعهم: أنت لم تقُل اشهدوا أني لوطي، إنما قلت: اشهدوا أني أنيك الصِّبيان.

قال سُفيان السَّدوسي: لم يكن في الأرض أحدٌ قطُّ أعلم بالنجوم ثم بالقراءات من «ما شاء الله»، كان يريد ما شاء الله المنجِّم. وكان يقول: هو أكفر عندي من رام هُرمُز. يريد أكفر من هرمز.

وممَّن وسوس غَلفاءُ بن الحارث ملِك قيس عيلان، وسوس حين قُتل إخوته، وكان يتغلف ويغلِّف أصحابه بالغالية، فسُمِّي غَلفاء بذلك.

وكان رجلٌ ينيك البَغلات، فجلس يومًا يحدِّث عن رجلٍ كيف نال بغلة، وكيف انكسرت رِجله، وكيف كان ينالها، قال: كان يضع تحت رجله لَبِنة، فبينما هو يُنْحي فيها إذ انكسرت اللَّبِنة من تحت رِجله، وإذا أنا على قفاي.

ومن الأحاديث المولَّدة التي لا تكون، وهو مليح في ذلك، قولهم: ناكَ رجلٌ كلبة فعقدت عليه، فلما طال عليه البلاء رفع رأسه فصادف رجلًا يطَّلع عليه من سطح، فقال له الرجل: اضرب جنبها. فلما ضرب جنبها وتخلَّص قال: قاتَله الله، أيُّ نيَّاكِ كلباتٍ هو!

وكان عندنا قاصٌّ أعمى ليس يحفظ من الدنيا إلا حديث جِرجيس، فلما بكى واحد من النظَّارة قال القاص: أنتم بأي شيء تبكون؟ إنما البلاء علينا مَعاشر العلماء.

قال: وبكى حول أبي شيبان وُلْده وهو يريد مكة، قال: لا تبكوا يا بَنيَّ؛ فإني أريد أن أضحِّيَ عندكم. وقال أخوه: وُلدت في رأس الهلال للنصف من شهر رمضان، احسب أنت الآن هذا كيف شئت. وقال: تزوَّجت امرأةٌ مخزومية عمَّها الحجَّاج بن الزُّبير الذي هدم الكعبة. وقال: ذلك لم يكن أبًا، إنما كان والدًا. وقال أبو دينار: هو وإن كان أخًا فقد ينبغي أن يُنصَف.

ومن المجانين علي بن إسحاق بن يحيى بن معاذ، وكان أول ما عُرِف من جنونه أنه قال: أرى الخطأ قد كثُر في الدنيا، والدنيا كلها في جوف الفلك، وإنما نؤتى منه، وقد تخلخل وتخرَّم وتزايل، فاعتراه ما يعتري الهَرماء، وإنما هو مجنون، فكم يصبر؟ وسأحتال في الصعود إليه؛ فإني إن بخرته ورَندَجته وسوَّيته، انقلب هذا الخطأ كله إلى الصواب. وجلس مع بعض مُتعاقلي فِتيان العسكر، وجاءهم النخَّاس بجَوارٍ فقال: ليس نحن في تقويم الأبدان، إنما نحن في تقويم الأعضاء؛ ثمن أنف هذه خمسة وعشرون دينارًا، وثمن أذنَيها ثمانية عشر، وثمن عينَيها ستة وسبعون، وثمن رأسها بلا شيء من حواسها مائة دينار. فقال صاحبه المُتعاقل: ها هنا بابٌ هو أدخَلُ في الحكمة من هذا، كان ينبغي لقدم هذه أن تكون لساق تلك، وأصابع تلك أن تكون لقدم هذه، وكان ينبغي لشفتَي تيك أن تكونا لفم تيك، وأن تكون حاجبا تيك لجبينَي هذه. فسُمِّي مقوِّم الأعضاء.

ومن النوكى كلاب بن ربيعة، وهو الذي قتل الخثعمي قاتل أبيه دون إخوته، وهو القائل:

ألمْ تَرَني ثأرتُ بشيخِ صِدقٍ
وقد أخذَ الإداوةَ فاحتساها
ثأرتُ بشيخه شيخًا كريمًا
شفاءُ النفسِ إن شيءٌ شفاها

ومنهم نعامة، وهو بيهس، وهو الذي قال: مُكرَهٌ أخاك لا بطل. وإيَّاه يعني الشاعر:

ومن حذرِ الأيَّامِ ما حزَّ أنفَه
قصيرٌ ولاقى الموتَ بالسَّيفِ بَيهَسُ
نَعامةُ لما صرَّعَ القومُ رَهطَه
تَبيَّنَ في أثوابِه كيفَ يَلبَسُ

وقال الحضرمي: أما أنا فأشهد أن تميمًا أكثر من مُحارب.

وقال حيَّان البزَّار: قبَّح الله الباطل، الرُّطب بالسُّكَّر والله طيِّب.

قال أبو الحسن: سمعت الصُّغدي الحارثي يقول: كان الحجَّاج أحمق، بنى مدينة واسط في بادية النَّبَط ثم قال لهم: لا تدخلوها. فلما مات دبُّوا إليها من قريب.

مَسعدة بن المبارك قال: قلت للبكراوي: أبِامرأتك حَمْل؟ قال: شيء ليس بشيء.

قال: بنى عُبيد الله بن زياد البيضاء، فكتب رجل على باب البيضاء: شيء، ونصف شيء، ولا شيء. الشيء مهران الترجمان، ونصف الشيء هند ابنة أسماء، ولا شيء عُبيد الله بن زياد. فقال عُبيد الله: اكتب إلى جنبه: لولا الذي زعمت أنه لا شيء لما كان ذلك الشيء شيئًا، ولا ذلك النصف نصفًا.

وقال هشام بن عبد الملك يومًا في مجلسه: يُعرَف حُمقُ الرجل بخصال؛ بطول لحيته، وشناعة كُنيته، وبشهوته، ونقش خاتمه. فأقبل رجلٌ طويل اللحية فقال: هذه واحدة. ثم سأله عن كنيته فإذا هي شنعاء، فقال: هاتان ثِنتان. ثم قال: وأي شيء أشهى إليك؟ قال: رُمَّانة مُصاصة، قال أمصَّك الله بَظْر أمك.

وقيل لأبي القَمقام: لمَ لا تغزو أو تخرج إلى المَصيصة؟ قال: أمصَّني الله إذًا ببظر أمي.

وقالوا لأبي الأصبغ بن رِبعي: أمَا تسمع بالعدوِّ وما يصنعون في البحر؟ فلِمَ لا تخرج إلى قِتال العدو؟ قال: أنا لا أعرفهم ولا يعرفونني، فكيف صاروا لي أعداءً؟

قال: كان الوليد بن القعقاع عاملًا على بعض الشام، فكان يستسقي في كل خطبة وإن كان في أيام الشِّعرى، فقام إليه شيخ من أهل حِمص فقال: أصلح الله الأمير، إذًا تفسد القَطاني. يعني الحبوب، واحدها قطنيَّة.

وأما نفيسٌ غلامي فإنه كان إذا صار إلى فِراشه في كل ليلة في سائر السنة يقول في دعائه: اللهم حوالَينا ولا علينا.

قال: وكان بالرقَّة رجلٌ يحدِّث الناس عن بني إسرائيل، وكان يُكنى أبا عقيل، فقال له الحجَّاج بن حنتمة: ما كان اسم بقرة بني إسرائيل؟ قال: حنتمة. فقال له رجل من ولد أبي موسى: في أي الكتب وجدت هذا؟ قال: في كتاب عمرو بن العاص.

ومن اللحَّانين الأشراف ابن ضَحيان الأزدي، وكان يقرأ: قل يا أيها الكافرين. فقيل له في ذلك، فقال: قد عرفت القراءة في ذلك، ولكني لا أجِلُّ أمر الكفرة.

وقال حبيب بن أوس:

ما ولَدَت حوَّاءُ أحمقَ لِحيةً
من سائلٍ يرجو الغِنى من سائلِ

وقال أيضًا:

أيوسفُ جئتَ بالعَجبِ العجيبِ
تركتَ الناسَ في شكٍّ مُرِيبِ
سمعتُ بكلِّ داهيةٍ نآدٍ
ولم أسمَعْ بسرَّاجٍ أديبِ
أمَا لو أنَّ جَهلَك عادَ عِلمًا
إذًا لنفَذتَ في عِلمِ الغُيوبِ
وما لك بالغريبِ يدٌ ولكنْ
تَعاطيكَ الغريبَ من الغريبِ

وأنشدوا:

أرى زمَنًا نَوكًا وأسعَدَ أهْلَه
ولكنَّما يَشقى به كلُّ عاقلِ
مشى فوقه رِجْلاه والرأسُ تحتَه
فكبَّ الأعالي بارتفاعِ الأسافلِ

وهذه أبياتٌ كتبناها في غير هذا المكان من هذا الكتاب، ولكن هذا المكان أولى بها.

وقال الشاعر:

وللدَّهرِ أيامٌ فكُنْ في لِباسِها
كلِبْستِه يومًا أجدَّ وأخلَقا
وكُنْ أكيَسَ الكَيْسى إذا كنتَ فيهمُ
وإنْ كنتَ في الحَمْقى فكُنْ أنت أحمَقا

وقال الآخر:

وأنزلَني طولُ النَّوى دارَ غُربةٍ
إذا شئتُ لاقَيتُ الذي لا أُشاكِلُه
فحامَقتُه حتى يُقالَ سجيَّةٌ
ولو كانَ ذا عقلٍ لكنتُ أُعاقِلُه

وقال أبو العتاهية:

من سابَقَ الدَّهرَ كَبا كَبْوةً
لم يَستقِلْها من خُطى الدَّهرِ
فاخْطُ معَ الدَّهرِ على ما خَطا
واجرِ معَ الدَّهرِ كما يَجري
ليس لِما ليست له حيلةٌ
موجودةٌ خيرٌ من الصَّبرِ

وقال بِشر بن المُعتمِر:

حيلةُ ما ليست له حيلةٌ
حُسنُ غَزاءِ النفسِ والصَّبرِ

وقال صالح بن عبد القُدُّوس:

وإنَّ عَناءً أن تُفهِّمَ جاهلًا
ويَحسَبُ جَهلًا أنَّه منك أفهَمُ
متى يَبلُغُ البُنيانُ يومًا تَمامَه
إذا كنتَ تَبْنيه وآخَرُ يَهدِمُ

وقال بِشر بن المُعتمِر:

إذا الغبيُّ رأيتَه مُستغنِيًا
أعيا الطبيبَ وحيلةَ المُحتالِ

ومن المجانين مهدي بن الملوَّح الجعدي، وهو مجنون بني جَعدة. وبنو المجنون قبيل من قبائل بني جعدة، وهو غير هذا المجنون. وأما مجنون بني عامر وبني عقيل، فهو قيس بن معاذ، وهو الذي يُقال له: مجنون بني عامر. وهما شاعران؛ قيل ذلك لهما لتجنُّنهما بعشيقتَين كانتا لهما، ولهما أشعارٌ معروفة.

(٣٥) رأيٌ فيما كان يُروى

وقد أدركت رُواة المسجديِّين والمِربديِّين، ومن لم يَروِ أشعار المجانين ولصوص الأعراب، ونسيب الأعراب، والأرجاز الأعرابية القِصار، وأشعار اليهود، والأشعار المُنصِفة؛ فإنهم كانوا لا يعُدُّونه من الرُّواة، ثم استبردوا ذلك كله، ووقفوا على قِصار الأحاديث والقصائد، والفِقر والنُّتَف من كل شيء. ولقد شهدتهم وما هم على شيءٍ أحرص منهم على نسيب العبَّاس بن الأحنف، فما هو إلا أن أورَد عليهم خلفٌ الأحمر نسيب الأعراب، فصار زهدهم في نسيب العبَّاس بقدر رغبتهم في نسيب الأعراب، ثم رأيتهم منذ سُنيَّات وما يروي عندهم نسيبَ الأعراب إلا حدَثُ السِّن قد ابتدأ في طلب الشعر، أو فِتيانيٌّ متغزِّل.

وقد جلست إلى أبي عبيدة، والأصمعي، ويحيى بن نُجيم، وأبي مالك عمرو بن كِركِرة، مع من جالست من رُواة البغداديين، فما رأيت أحدًا منهم قصد إلى شعر في النسيب فأنشده، وكان خلفٌ يجمع ذلك كله. ولم أرَ غاية النحويين إلا كل شعر فيه إعراب، ولم أرَ غاية رُواة الأشعار إلا كل شعر فيه غريب أو معنًى صعبٌ يحتاج إلى الاستخراج، ولم أرَ غاية رُواة الأخبار إلا كل شعر فيه الشاهد والمَثل، ورأيت عامَّتهم — فقد طالت مشاهدتي لهم — لا يقفون إلا على الألفاظ المتخيَّرة، والمعاني المنتخَبة، وعلى الألفاظ العذبة، والمخارج السهلة، والديباجة الكريمة، وعلى الطبع المتمكِّن، وعلى السَّبك الجيِّد، وعلى كل كلام له ماء ورَونق، وعلى المعاني التي إذا صارت في الصدور عمرتها وأصلحتها من الفساد القديم، وفتحت للسان باب البلاغة، ودلَّت الأقلام على مَدافن الألفاظ، وأشارت إلى حِسان المعاني، ورأيت البصر بهذا الجوهر من الكلام في رُواة الكتاب أعم، وعلى ألسِنة حُذاق الشعراء أظهر، ولقد رأيت أبا عمرو الشيباني يكتب أشعارًا من أفواه جلسائه ليُدخلها في باب التحفظ والتذاكر، وربما خُيِّل إليَّ أن أبناء أولئك الشعراء لا يستطيعون أبدًا أن يقولوا شعرًا جيدًا لمكان إغراقهم في أولئك الآباء.

ولولا أن أكون عيَّابًا، ثم للعلماء خاصة، لصوَّرت لك في هذا الكتاب بعض ما سمعت من أبي عُبيدة، ومن هو أبعد في وَهْمك من أبي عُبيدة.

قال ابن المبارك: كان عندنا رجلٌ يُكنى أبا خارجة، فقلت له: لِمَ كنَّوك أبا خارجة؟ قال: لأني وُلدت يوم دخل سليمان بن علي البصرة.

وكان عندنا شيخٌ حارس من عُلوج الجبل، وكان يُكنى أبا خُزيمة، فقلت لأصحابنا: هل لكم في مسألة هذا الحارس عن سبب كُنيته؛ فلعلَّ الله يفيد من هذا الشيخ علمًا، وإن كان في ظاهر الرأي غير مأمول ولا مطمع؟ وهذه الكنية كنية زُرارة بن عدس، وكنية خازم بن خزيمة، وكنية حمزة بن أدرك، وكنية فلان وفلان، وكل هؤلاء إما قائدٌ متبوع، وإما سيِّد مُطاع، ومن أين وقع هذا العِلج الألكن على هذه الكُنية؟ فدعوته فقلت له: هذه الكنية كنَّاك بها إنسان أو كنَّيت بها نفسك؟ قال: لا، ولكني كنَّيت بها نفسي. قلت: فلِمَ اخترتَها على غيرها؟ قال: وما يُدريني؟ قلت: ألك ابنٌ يُسمَّى خُزيمة؟ قال: لا. قلت: أفكان أبوك أو عمك أو مولًى لك يُسمَّى خزيمة؟ قال: لا. قلت: فاترك هذه الكنية واكتنِ بأحسن منها وخذ مني دينارًا. قال: لا والله ولا بجميع الدنيا.

أعطى المحلول ابنه درهمًا وقال: زِنْه. فطرح وزن درهمَين وهو يحسبه وزن درهم؛ فلما رأى الدرهم قد شال وضع معه وزن درهم، فلما رفعه وجده شائلًا، فألقى معه حبَّتَين، فقال له أبوه: كم فيه؟ قال: ليس فيه شيء، وهو ينقص حبَّتَين.

وكان عندنا قاصٌّ يُقال له أبو موسى كُوش، فأخذ يومًا في ذِكر قِصَر الدنيا وطول أيام الآخرة، وتصغير شأن الدنيا وتعظيم شأن الآخرة، فقال: إن الذي عاش خمسين سنةً لم يعِش شيئًا وعليه فضل سنتَين. قالوا: وكيف ذاك؟ قال: خمس وعشرين سنةً ليلٌ هو فيها لا يعقل قليلًا ولا كثيرًا، وخمس سنين قائلة، وعشرون سنة إما أن يكون صبيًّا، وإما أن يكون معه سُكْر الشباب فهو لا يعقل، ولا بد من صبحة بالغداة، ونعسة بين المغرب والعشاء، وكالغَشْي الذي يُصيب الإنسان مِرارًا في دهره، وغير ذلك من الآفات، فإذا حصَّلنا ذلك فقد صحَّ أن الذي عاش خمسين سنةً لم يعِش شيئًا وعليه فضل سنتَين.

وقال بعض الهُلَّاك: دخل فلان على كسرى فقال: أصلحك الله، ما الأمر في كذا كذا؟

قال رجل من وُجوه أهل البصرة: حدَثت حادثةٌ أيام الفُرس فنادى كسرى: الصلاة جامعة.

وقلت لغُلامي نفيس: بعثتك إلى السوق في حوائج فاشتريت ما لم آمُرك به، وتركت كل ما أمرتك به؟ قال: يا مولاي، أنا ناقة وليس في رُكبتي دماغ. وقال نفيس لغلام لي: الناس وَيلَك أنت حياءً كلهم أقل. يريد: أنت أقل الناس كلهم حياءً.

وقلت لقيس بن بُرَيهة: هذا الصبي في أي شيء أسلموه؟ قال: في أصحاب سِند نِعال. يريد: في أصحاب النِّعال السِّندية.

(٣٦) تأويل حديث

روى الأصمعي وابن الأعرابي عن رجالهما أن رسول الله قال: إنا معشرَ الأنبياء بِكاء. فقال ناس: البكء: القلة، وأصل ذلك من اللبن؛ فقد جعل صفة الأنبياء قلة الكلام، ولم يجعله من إيثار الصمت ومن التحصيل وقلة الفضول. قلنا: ليس في ظاهر هذا الكلام دليل على أن القلة من عجز في الخِلقة، وقد يحتمل ظاهر الكلام الوجهين جميعًا، وقد يكون القليل من اللفظ يأتي على الكثير من المعاني. والقلة تكون من وجهين؛ أحدهما من جهة التحصيل والإشفاق من التكلُّف، وعلى تصديق ذلك قوله تعالى: قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ، وعلى البعد من الصنعة، ومن شدة المحاسبة وحصر النفس، حتى يصير بالتمرين والتوطين إلى عادةٍ تُناسب الطبيعة، وتكون من جهة العجز ونُقصان الآلة، وقلة الخواطر، وسوء الاهتداء إلى جِياد المعاني، والجهل بمحاسن الألفاظ، ألا ترى أن الله قد استجاب لموسى على نبينا وعليه السلام حين قال: وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي * وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي * كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا * وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا * إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا * قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى * وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى؟ فلو كانت تلك القلة من عجزٍ كان النبي أحق بمسألة إطلاق تلك العُقدة من موسى؛ لأن العرب أشد فخرًا ببيانها، وطول ألسنتها، وتصريف كلامها، وشدة اقتدارها، وعلى حسب ذلك كانت زِرايتها على كل من قصَّر عن ذلك التمام، ونقص من ذلك الكمال، وقد شاهَدوا النبي وخطبه الطِّوال في المَواسم الكِبار، ولم يُطِل التماسًا للطول، ولا رغبةً في القدرة على الكثير، ولكن المعاني إذا كثُرت، والوجوه إذا افتنَّت، كثُر عدد اللفظ، وإن حُذِفت فضوله بغاية الحذف. ولم يكن الله ليُعطيَ موسى لتمام إبلاغه شيئًا لا يُعطيه محمدًا، والذين بُعِث فيهم أكثر ما يعتمدون عليه البيان واللَّسَن، وإنما قلنا هذا لنحسم جميع وُجوه الشغب، لا أن أحدًا من أعدائه شاهَد هناك طرفًا من العجز، ولو كان ذلك مرئيًا ومسموعًا لاحتجُّوا به في الملا، ولتناجَوا به في الخلا، ولتكلَّم به خطيبهم، ولقال فيه شاعرهم؛ فقد عرف الناس كثرة خُطبائهم، وتسرُّع شعرائهم.

هذا على أننا لا ندري أقال ذلك رسول الله أم لم يقُله؛ لأن مِثل هذه الأخبار يُحتاج فيها إلى الخبر المكشوف، والحديث المعروف، ولكنا بفضل الثقة، وظهور الحُجة، نُجيب بمِثل هذا وشبهه.

وقد علِمنا أن من يقرض الشعر، ويتكلف الأسجاع، ويؤلِّف المزدوج، ويتقدم في تحبير المنثور، وقد تعمَّق في المعاني، وتكلَّف إقامة الوزن، والذي تجود به الطبيعة وتُعطيه النفس سهوًا رهوًا، مع قلة لفظه وعدد هجائه، أحمد أمرًا، وأحسن موقعًا من القلوب، وأنفع للمستمعين من كثيرٍ خرج بالكدِّ والعلاج، ولأن التقدُّم فيه، وجمع النفس له، وحصر الفكر عليه، لا يكون إلا ممن يُحبُّ السُّمعة، ويهوى الفلج والاستطالة، وليس بين حال المُتنافسين وبين حال المُتحاسدين إلا حِجابٌ رقيق، وحِجازٌ ضعيف، والأنبياء بمندوحة من هذه الصفة، وفي ضد هذه الشِّيمة.

وقال عامر بن عبد قيس: الكلمة إذا خرجت من القلب وقعت في القلب، وإذا خرجت من اللسان لم تُجاوز الآذان.

وتكلَّم رجل عند الحسن بمواعظ جَمَّة ومعانٍ تدعو إلى الرِّقَّة، فلم يرَ الحسن رَق، فقال الحسن: إما أن يكون بنا شر أو بك! يذهب إلى أن المُستمع يرقُّ على قدر رقَّة القائل.

والدليل الواضح، والشاهد القاطع، قول النبي : نُصِرت بالصَّبا، وأُعطيت جوامع الكَلِم، وهو القليل الجامع للكثير. وقال الله تعالى وقوله الحق: وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ. ثم قال: وَمَا يَنْبَغِي لَهُ. ثم قال: أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ. فعمَّ ولم يخص، وأطلق ولم يقيِّد؛ فمن الخِصال التي ذمَّهم بها تكلُّف الصَّنعة، والخروج إلى المُباهاة، والتشاغل عن كثير من الطاعة، ومناسبة أصحاب التشديق. ومن كان كذلك كان أشد افتقارًا إلى السامع من السامع إليه؛ لشغفه أن يُذكَر في البُلغاء، وصبابته باللحاق بالشعراء. ومن كان كذلك غلَبت عليه المنافسة والمغالبة، وولَّد ذلك في قلبه شدة الحميَّة وحب المحاربة.

ومن سخَفَ هذا السُّخف، وغلَب الشيطان عليه هذه الغلبة، كانت حاله داعية إلى قول الزور، والفخر بالكذب، وصرف الرغبة إلى الناس، والإفراط في مديح من أعطاه، وذم من منعه؛ فنزَّه الله رسوله ولم يعلِّمه الكتاب والحساب، ولم يرغِّبه في صنعة الكلام، والتقيُّد لطلب الألفاظ، والتكلُّف لاستخراج المعاني؛ فجمع له باله كله في الدعاء إلى الله، والصبر عليه، والمجاهدة فيه، والانبتات إليه، والميل إلى كل ما يُقرب منه؛ فأعطاه الإخلاص الذي لا يشوبه رياء، واليقين الذي لا يَعتوِره شك، والعزم المُتمكن، والقوة الفاضلة؛ فإذا رأت مكانَه الشعراء، وفهِمته الخطباء، ومن قد تعبَّد للمعاني، وتعوَّد نَظْمها وتنضيدها، وتأليفها وتنسيقها، واستخراجها من مَدافنها، وإثارتها من أماكنها، علِموا أنهم لا يبلغون بجميع ما معهم مما قد استفرغهم واستغرق مجهودهم، وبكثيرٍ ما قد خُوِّلوه، قليلًا مما يكون معه على البَداهة والفُجاءة، من غير تقدُّم في طلبه، واختلاف إلى أهله.

وكانوا مع تلك المَقامات والسياسات، ومع تلك الكُلف والرياضات، لا ينفكُّون في بعض تلك المقامات من بعض الاستكراه والزلل، ومن بعض التعقيد والخطل، ومن التفنن والانتشار، ومن التشديق والإكثار، ورأوه مع ذلك يقول: إيَّايَ والتشادق، وأبغَضُكم إليَّ الثرثارون المُتفيهِقون. ثم رأوه في جميع دهره غايةً في التسديد والصواب التام، والعصمة الفاضلة، والتأييد الكريم، وعلِموا أن ذلك من ثمرة الحكمة ونتاج التوفيق، وأن تلك الحكمة من ثمرة التقوى ونتاج الإخلاص.

وللسلف الطيِّب حِكَم وخُطَب كثيرة، صحيحة ومدخولة، لا يخفى شأنها على نُقَّاد الألفاظ وجهابذة المعاني، مُتميزة عند الرُّواة الخُلَّص، وما بلَغنا عن أحد من جميع الناس أن أحدًا ولَّد لرسول الله خطبةً واحدة.

فهذا وما قبله حُجَّة في تأويل ذلك الحديث إن كان حقًّا.

وفي كتاب الله المنزَّل أن الله تبارك وتعالى جعل منيحة داود الحكمة وفَصْل الخِطاب، كما أعطاه إلانة الحديد. وفي الحديث المأثور، والخبر المشهور، أن رسول الله قال: شُعيبٌ خطيب الأنبياء، وعلَّم الله سليمان منطق الطير، وكلام النمل، ولُغات الجن. فلم يكن عز وجل ليُعطيَه ذلك ثم يبتليَه في نفسه وبيانه عن جميع شأنه بالقلة والمَعجزة، ثم لا تكون تلك القلة إلا على الإيثار منه للقلة في موضعها، وعلى البعد من استعمال التكلُّف، ومناسبة أهل الصنعة، والمشغوفين بالسُّمعة، وهذا لا يجوز على الله عز وجل. فإن كان الذي روَيتم من قوله إنا معاشر الأنبياء بِكاءٌ، على ما تأوَّلتم، وذلك أن لفظ الحديث عامٌّ في جميع الأنبياء، فالذي ذكرنا من حال داود وسليمان عليهما السلام، وحال شعيب والنبي ، دليل على بُطلان تأويلكم، ورد لعموم لفظ الحديث.

وهذه جملةٌ كافية لمن كان يُريد الإنصاف.

(٣٧) تعليل أمِّيَّة النبي

وكان شيخ من البصريين يقول: إن الله إنما جعل نبيه أميًّا لا يكتب، ولا يحسب، ولا ينسب، ولا يقرض الشعر، ولا يتكلف الخطابة، ولا يتعمد البلاغة؛ لينفرد الله بتعليمه الفقه وأحكام الشريعة، ويَقصُره على معرفة مصالح الدين دون ما تتباهى به العرب؛ من قيافة الأثر، وعيافة الطير، ومن العلم بالأنواء وبالخيل، وبالأنساب وبالأخبار، وتكلُّف قول الأشعار؛ ليكون إذا جاء بالقرآن الحكيم، وتكلَّم بالكلام العجيب، كان ذلك أدلَّ على أنه من الله، وزعم أن الله لم يمنعه معرفة آدابهم وأخبارهم وأشعارهم ليكون أنقص حظًّا من الحاسب والكاتب، ومن الخطيب الناسب، ولكن ليجعله نبيًّا، وليتولَّى أمر تعليمه بما هو أزكى وأنمى، فإنما نقصه ليزيده، ومنعه ليُعطيَه، وحجبه عن القليل ليجلِّيَ له الكثير.

(٣٨) رد هذا التعليل وإيراد تعليل آخر

وقد أخطأ هذا الشيخ ولم يُرِد إلا الخير، وقال بمَبلغ علمه ومُنتهى رأيه. ولو زعم أن أداة الحساب والكتابة، وأداة قريض الشعر وجميع النسب، قد كانت فيه تامَّةً وافرة، مجتمعةً كاملة، ولكنه صرَف تلك القُوى وتلك الاستطاعة إلى ما هو أزكى بالنبوة، وأشبه بمَرتبة الرسالة، وكان إذا احتاج إلى البلاغة كان أبلغ البُلغاء، وإذا احتاج إلى الخطابة كان أخطب الخطباء، وأنسب من كل ناسب، وأقوَف من كل قائف. ولو كان في ظاهره والمعروف من شأنه أنه كاتبٌ حاسب، وشاعرٌ ناسب، ومُتفرسٌ قائف، ثم أعطاه الله بُرهانات الرسالة، وعلامات النبوَّة، لمَا كان ذلك مانعًا من وجوب تصديقه، ولزوم طاعته، والانقياد لأمره على سخطهم ورِضاهم، ومكروههم ومحبوبهم، ولكنه أراد ألا يكون للشاعر مُتعلَّق عمَّا دعا إليه حتى لا يكون دون المعرفة بحقه حِجاب وإن رَق، وليكون ذلك أخفَّ في المؤنة، وأسهل في المحنة؛ فلذلك صرَف نفسه عن الأمور التي كانوا يتكلَّفونها ويتنافسون فيها؛ فلما طال هِجرانه لقريض الشعر وروايته، صار لسانه لا ينطق به، والعادة تَوءَم الطبيعة، فأما في غير ذلك فإنه إذا شاء كان أنطق من كل مِنطيق، وأنسب من كل ناسب، وأقوَف من كل قائف، وكانت آلته أوفر، وأداته أكمل، إلا أنها كانت مصروفة إلى ما هو أبعد، وبين أن يُضيف إليه العادة الحسنة وامتناع الشيء عليه من طول الهجران له فرق.

ومن العَجب أن صاحب هذه المقالة لم يرَه عليه السلام في حال مَعجزة قط، بل لم يرَه إلا وهو إن أطال الكلام قصَّر عنه كل مُطيل، وإن قصَّر القول أتى على غاية كل خطيب، وما عَدِم منه إلا الخط وإقامة الشعر، فكيف ذهب ذلك المذهب والظاهرُ من أمره عليه السلام خلافُ ما توهَّم؟

وسنذكُر بعض ما جاء في تفضيل الشعر والخوف منه، ومن اللسان البليغ والمُداراة له، وما أشبه ذلك.

(٣٩) تفضيل الشعر ومُداراة البليغ

قال أبو عُبيدة: اجتمع ثلاثة من بني سعد يُراجزون بني جَعدة، فقيل لشيخ من بني سعد: ما عندك؟ قال: أرجُز بهم يومًا إلى الليل لا أفثج. وقيل للآخر: ما عندك؟ قال: أرجُز بهم يومًا إلى الليل لا أنكف. فقيل للثالث: ما عندك؟ قال: أرجُز بهم يومًا إلى الليل لا أنكش. فلما سمعت بنو جعدة كلامهم انصرفوا وخلَّوهم.

قال: وبنو ضِرار أحدُ بني ثعلبة بن سعد لما مات أبوهم وترك الثلاثة الشعراء صِبيانًا، وهم شمَّاخ، ومُزرِّد، وجَزء، أرادت أمهم — وهي أم أوس — أن تتزوج رجلًا يُسمَّى أوسًا، وكان أوس هذا شاعرًا، فلما رأوه بنو ضِرار بفِناء أمهم للخِطبة، تناول شمَّاخٌ حبل الدَّلو ثم متح، وهو يقول:

أُمُّ أُوَيسٍ نَكَحَت أُوَيسا

وجاء مزرِّد فتناول الحبل فقال:

أعجَبَها حَذارةً وكَيْسا

وجاء جزء فتناول الحبل فقال:

أصدَقَ منها لَجْبةً وتَيْسا

فلما سمع أويس رجز الصِّبيان بها هرب وتركها.

قال أبو عُبيدة: كان الرجل من بني نُمَير إذا قيل له: ممن الرجل؟ قال: نُمَيري كما ترى. فما هو إلا أن قال جرير:

فغُضَّ الطَّرْفَ إنَّكَ من نُمَيرٍ
فلا كَعبًا بلَغتَ ولا كِلابا

فصار الرجل من بني نُمَير إذا قيل له: ممَّن الرجل؟ قال: من بني عامر. قال: فعند ذلك قال الشاعر يهجو قومًا آخرين:

وسوف يَزِيدُكم ضَعةً هِجائي
كما وضعَ الهِجاءُ بني نُمَيرِ

فلما هجاهم أبو الرُّديني العُكلي فتوعَّدوه بالقتل، قال [أبو] الرديني:

أتُوعِدُني لِتَقتُلَني نُمَيرٌ
متى قتَلتْ نُمَيرٌ من هَجاها؟

فشدَّ عليه رجل منهم فقتله. وما علِمت في العرب قبيلةً لقيت من جميع ما هُجِيت به ما لقيت نمير من بيت جرير. ويزعمون أن امرأةً مرَّت بمجلس من مجالس بني نُمير، فتأمَّلها ناس منهم، فقالت: يا بني نمير، لا قولَ الله سمِعتم، ولا قولَ الشاعر أطعتم. قال الله تعالى: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ. وقال الشاعر:

فغُضَّ الطَّرْفَ إنَّكَ من نُمَيرٍ
فلا كَعبًا بلَغتَ ولا كِلابا

وأخلِقْ بهذا الحديث أن يكون مولَّدًا، ولقد أحسن من ولَّده، وفي نمير شرفٌ كثير. وهل أهلك عنزة وجَرمًا وعُكلًا، وسلول وباهلة وغنيًّا إلا الهِجاء؟ وهذه قبائل فيها فضلٌ كثير وبعض النقص، فمحق ذلك الفضلَ كله هجاءُ الشعراء. وهل فضح الحَبَطات، مع شرف حَسَكة بني عتَّاب، وعبَّاد بن الحُصين وولده، إلا قول الشاعر:

رأيتُ الخَمرَ من شرِّ المَطايا
كما الحَبَطاتُ شرُّ بَني تَمِيمِ

وهل أهلك ظُليمَ البراجم إلا قولُ الشاعر:

إنَّ أبانًا فَقْحةٌ لِدارِمِ
كما الظُّلَيمُ فَقْحةُ البَراجِمِ

وهل أهلك بني العَجلان إلا قولُ الشاعر:

إذا اللهُ عادى أهلَ لؤمٍ ودِقَّةٍ
فعادى بني العَجلانِ رَهطَ ابنِ مُقبِلِ
قبيلتَه لا يَغدِرون بذِمَّةٍ
ولا يَظلمون الناسَ حَبَّةَ خَردَلِ
ولا يَرِدُون الماءَ إلا عشيَّةً
إذا صدَرَ الوُرَّادُ عن كلِّ مَنهَلِ

وأما قول الأخطل:

وقد سَرَّني من قَيسِ عَيلانَ أنَّني
رأيتُ بني العَجلانِ سادوا بني بَدرِ

فإن هذا البيت لم ينفع بني العجلان، ولم يضرَّ بني بدر.

قال أبو عُبيدة: كان الرجل من بني أنف الناقة إذا قيل له: ممن الرجل؟ قال: من بني قُرَيع. فما هو إلا أن قال الحُطيئة:

قومٌ همُ الأنفُ والأذنابُ غيرُهمُ
ومن يُساوي بأنفِ الناقةِ الذَّنَبا؟

فصار الرجل منهم إذا قيل له: ممن أنت؟ قال: من بني أنف الناقة.

وناسٌ سلِموا من الهجاء بالخمول والقلة، كما سلِمت غسَّان وغَيلان من قبائل عمرو بن تميم، وابتُليت الحَبَطات لأنها أنبه، والنباهة التي لا يضرُّ معها الهجاء مِثل نباهة بني بدر وبني فزارة، ومثل نباهة بني عدس بن زيد وبني عبد الله بن دارم، ومثل نباهة الديان بن عبد المدان وبني الحارث بن كعب؛ فليس يَسلَم من مَضرَّة الهجاء إلا خاملٌ جدًّا أو نبيه جدًّا. وقد هُجيت فزارة بأكل أير الحمار، وبكثرة شعر القفا؛ لقول الحارث بن ظالم:

فما قَومي بثعلبةَ بنِ سعدٍ
ولا بفَزارةَ الشُّعُرِ الرِّقاب

ثم افتخر مُفتخِرهم بذلك ومدحهم به الشاعر، فقال مُزرد بن ضِرار:

مَنِيعٌ بينَ ثعلبةَ بنِ سعدٍ
وبينَ فَزارةَ الشُّعُرِ الرِّقابِ
فما من كانَ بينكما بنِكسٍ
لَعَمرُكَ في الخُطوبِ ولا بكابِ

وأما قصة أير الحمار فإنما اللوم على المُطعم لرفيقه ما لا يعرفه، فهل كان على الفزاري في حق الأنفة أكثر من قتل من أطعمه الجوفان من حيث لا يدري؟ فقد هُجوا بذلك وشرفُهم وافر، وقد هُجِيت الحارث بن كعب، وكتب الهيثم بن عدي فيهم كتابًا فما ضعضع ذلك منهم حتى كأن قد كتبه لهم.

ولولا الربيع بن خيثم وسفيان الثوري ما علِم الناس أن في الرباب حيًّا يُقال لهم بنو ثور.

وفي عُكل شعرٌ وفصاحة، وخيلٌ معروفة الأنساب، وفُرسان في الجاهلية والإسلام. وزعم يونس أن عكلًا أحسن العرب وُجوهًا في غبِّ حرب. وقال بعض فُتَّاك بني تميم:

خليلي الفتى العُكليُّ لم أرَ مِثلَه
تَحلَّبُ كفَّاه ندًى شائعَ القَدرِ
كأنَّ سُهَيلًا حينَ أوقَدَ نارَه
بعَلْياءَ لا يَخفى على أحدٍ يَسري

ولم أكتب هذا الشعر ليكون شاهدًا على مِقدار حظهم في الشرف، ولكن لنضمَّه إلى قول جِران العَود:

أُراقِبُ لَمحًا من سُهَيلٍ كأنَّه
إذا ما بَدا من آخِرِ اللَّيلِ يَطرِفُ

وربما أُتيت القبيلة إذا برَّزت عليها إخوتها، كنحو فُقَيم بن جرير بن دارم، وزيد بن عبد الله بن دارم، وكنحو الحِرماز ومازن؛ ولذلك يُقال: إن أصلح الأمور لمن تكلَّف عِلم الطب ألا يُحسِن منه شيئًا، أو يكون من الحُذَّاق المتطبِّبين؛ فإنه إذا أحسن منه شيئًا ولم يبلغ فيه المَبالغ هلك وأهلك أهله. وكذلك العلم بصناعة الكلام، وليس كذلك سائر الصناعات؛ فليس يضرُّ من أحسن باب الفاعل والمفعول به، وباب الإضافة، وباب المعرفة والنكرة، أن يكون جاهلًا بسائر أبواب النحو. وكذلك من نظر في علم الفرائض، فليس يضرُّ من أحكم باب الصُّلب أن يجهل باب الجَد. وكذلك الحساب، وهذا كثير.

وذكروا أن حَزن بن الحارث أحد بني العنبر ولد مِحجنًا، فولد مِحجن شعيث بن سهم، فأُغير على إبله، فأتى أوس بن حجر يستنجده، فقال له أوس: أوَخَيرٌ من ذلك، أحضِّض لك قيس بن عاصم؟

وكان يُقال إن حزن بن الحارث هو حزن بن منقر، فقال أوس:

سائِلْ بها مَولاكَ قيسَ بنَ عاصمٍ
فمَولاكَ مَولى السوءِ إنْ لم تُغيَّرِ
لَعَمرُكَ ما أدري أمِن حَزْنِ مِحجَنٍ
شُعيثُ بنُ سهمٍ أم لحَزْنِ بنِ مِنقرِ
فما أنتَ بالمَولى المُضيِّعِ حقَّه
وما أنت بالجارِ الضعيفِ المُستَّرِ

فسعى قيس في إبله حتى ردَّها عن آخرها.

وقال الآخر:

ألْهى بني تَغلِبٍ عن كلِّ مَكرُمةٍ
قصيدةٌ قالَها عمرُو بنُ كُلثُومِ

ومما يدل على قدر الشعر عندهم بُكاء سيِّد بني مازن مُخارق بن شهاب حين أتاه محمد بن المُكعبر العَنبري الشاعر فقال: إن بني يربوع قد أغاروا على إبلي فاسعَ لي فيها. فقال: وكيف وأنت جار وَرْدان بن مَخرمة؟ فلما ولَّى عنه محزونًا بكى مُخارق حتى بلَّ لحيته، فقالت له ابنته: ما يُبكيك؟ فقال: وكيف لا أبكي واستغاثني شاعر من شعراء العرب فلم أُغِثه؟ والله لئن هجاني ليفضحنِّي قوله، ولئن كفَّ عني ليقتلنِّي شُكره. ثم نهض فصاح في بني مازن فردَّت عليه إبله. وذكر وَردان الذي كان أخفره فقال:

أقولُ وقد بَزَّت بتِعشارَ بَزَّةٌ
لوَرْدانَ جِدَّ الآنَ فيها أو العَبِ
فعَضَّ الذي أبقى المَواسي من اُمِّه
خفيرٌ رآها لم يُشمِّرْ ويَغضَبِ
إذا نزَلَت وَسْطَ الرِّبابِ وحَوْلَها
إذا حُصِّنَت ألفا سِنانٍ مُجرَّبِ
حمَيتَ خُزاعيًّا وأفناءَ مازنٍ
ووَرْدانُ يحمي عن عديِّ بنِ جُندُبِ
ستعرفُها وِلدانُ ضَبَّةَ كلِّها
بأعيانِها مردودةً لم تُغيَّبِ

قال: وفَد رجل من بني مازن على النُّعمان بن المُنذر، فقال له النُّعمان: كيف مُخارق بن شهاب فيكم؟ قال: سيِّدٌ كريم، وحسبُك من رجلٍ يمدح نفسه ويهجو ابن عمه! ذهب إلى قوله:

تَرى ضَيْفَها فيها يَبِيتُ بغِبطةٍ
وجارُ ابنِ قيسٍ جائعٌ يَتحوَّبُ
قال: ومن قَدْر الشِّعر، وموقعه في النفع والضر، أن ليلى بنت النضر بن الحارث بن كلدة لما عرَضت للنبي وهو يطوف بالبيت، واستوقفته، وجذبت رِداءه حتى انكشف مَنكبه، وأنشدته شِعرها بعد مقتل أبيها، قال رسول الله : لو كنت سمعت شِعرها هذا ما قتلته. والشعر:٩٦
يا راكبًا إنَّ الأُثَيلَ مَظنَّةٌ
من صُبحِ خامسةٍ وأنتَ مُوفَّقُ
أبلِغْ بها مَيْتًا بأنَّ قصيدةً
ما إنْ تَزالُ بها الرَّكائبُ تَخفِقُ
فلَيَسمعَنَّ النَّضرُ إنْ نادَيتُه
إنْ كانَ يَسمَعُ ميِّتٌ لا يَنطِقُ
ظلَّت سُيوفُ بني أبيه تَنُوشُه
للهِ أرحامٌ هناك تُشقَّقُ
قَسرًا يُقادُ إلى المَنيَّةِ مُتعَبًا
رَسْفَ المُقيَّدِ وهْوَ عانٍ مُوثَقُ
أمحمَّدٌ ها أنت ضِنءُ نَجِيبةٍ
في قومِها والفَحلُ فَحلٌ مُعرِقُ
ما كان ضرُّك لو منَنتَ ورُبَّما
منَّ الفتى وهْوَ المَغِيظُ المُحنَقُ؟

قال: ويبلغ من خوفهم من الهِجا، ومن شِدة السب عليهم، وتخوُّفهم أن يبقى ذِكر ذلك في الأعقاب، ويُسَب به الأحياء والأموات، أنهم إذا أسروا الشاعر أخذوا عليه المواثيق، وربما شدوا لسانه بنِسعة، كما صنعوا بعبد يغوث بن وقَّاص المُحاربي حين أسَرَته بنو تيمٍ يوم الكُلاب، وهو الذي يقول:

أقولُ وقد شدُّوا لِساني بنِسْعةٍ
أمَعشرَ تَيمٍ أطلِقوا من لِسانيا
وتَضحكُ منِّي شَيخةٌ عَبشَميَّةٌ
كأنْ لم تَرى قبلي أسيرًا يَمانيا
كأنِّيَ لم أركَبْ جَوادًا ولم أقُلْ
لخَيْليَ كُرِّي كَرَّةً عن رِجاليا
فيا راكبًا إمَّا عَرَضتَ فبلِّغَنْ
نَداماي من نَجْرانَ أنْ لا تَلاقيا
أبا كَرِبٍ والأيهمَينِ كِلَيهما
وقيسًا بأعلى حضرموتَ اليمانيا

وكان سألهم أن يُطلِقوا لسانه لينوح على نفسه، ففعلوا، فكان ينوح بهذه الأبيات، فلما أنشد قومه هذا الشعر قال قيس: لبَّيك وإن كنت أخَّرتَني.

وقيل لعُبيد الله بن عبد الله بن عُتبة بن مسعود: كيف تقول الشعر مع الفقه والنُّسك؟ فقال: لا بد للمصدور من أن ينفُث.

وقال معاوية لصُحار العبدي: ما هذا الكلام الذي يظهر منك؟ قال: شيءٌ تجيش به صدورنا فتقذفه على ألسنتنا.

وقال ابن حرب: من أحسن شيئًا أظهره.

وفي المثل: من أحبَّ شيئًا أكثر ذِكره.

وقال: خاصَم أبو الحُوَيرث السحيمي حمزة بن بيض إلى المهاجر بن عبد الله في طويٍّ له، فقال أبو الحُوَيرث:

أغمضتُ في حاجةٍ كانت تؤرِّقُني
لولا الذي قلتَ فيها قلَّ تغميضي

قال: وما قلت لك؟ قال:

حلفتَ باللهِ لي أنْ سوفَ تُنصِفُني
فساغَ في الحَلقِ رِيقٌ بعدَ تَجريضِ

قال: وأنا أحلف بالله لأُنصفنَّك. قال:

فاسألْ أُلى عن أُلى أنْ ما خُصومتُهم
أم كيف أنتَ وأصحابُ المعاريضِ؟

قال: أوجعهم ضربًا. قال:

فاسألْ سُحَيمًا إذا وافاكَ جَمعُهمُ
هل كانَ بالبئرِ حَوضٌ قبلَ تحويضي؟

قال: فتقدَّمت الشهود فشهدت لأبي الحويرث. قال: فالتفت إلى ابن بيض فقال:

أنتَ ابنُ بَيضٍ لَعَمْري لستُ أُنكِرُه
حقًّا يقينًا ولكنْ مَن أبو بيضِ؟
إنْ كنتَ أنبضتَ لي قَوسًا لِتَرميَني
فقد رَمَيتُك رَميًا غيرَ تنبيضِ
أو كنتَ خَضخَضتَ لي وَطبًا لِتَسقيَني
فقد سَقَيتُك وَطبًا غيرَ ممخوضِ
إنَّ المُهاجرَ عدلٌ في حكومتِه
والعدلُ يَعدِلُ عندي كلَّ تعريضِ

قال: وتزوَّج شيخ من الأعراب جارية من رهطه، وطمع أن تلد له غلامًا فولدت له جارية، فهجرها وهجر منزلها، وصار يأوي إلى غير بيتها، فمرَّ بخِبائها بعد حول وإذا هي تُرقِّص بُنيَّتها منه وهي تقول:

ما لأبي حَمْزةَ لا يأتينا
يظلُّ في البيتِ الذي يَلِينا
غَضْبانَ أنْ لا نَلِدَ البَنِينا
تاللهِ ما ذلك في أيدينا
وإنَّما نأخذُ ما أُعطِينا

فلما سمِع الأبيات مرَّ الشيخ نحوهما حُضرًا حتى ولج عليها الخباء، فقبَّلها وقبَّل بُنيتها، وقال: ظلمتُكما وربِّ الكعبة.

وقال مُسلم بن الوليد:

فإنِّي وإسماعيلَ عندَ فِراقِنا
لَكالجَفنِ يومَ الرَّوعِ فارَقَه النَّصلُ
أمُنتجِعًا مَروًا بأثقالِ هَمِّه
دَعِ الثِّقلَ واحملْ حاجةً ما لها ثِقلُ
ثناءً كعَرْفِ الطِّيبِ يُهدى لأهلِه
وليس له إلا بني خالدٍ أهْلُ
فإنْ أغْشَ قومًا بعدَهم أو أزورُهم
فكالوَحشِ يُدنِيها من الأَنَسِ المَحلُ

وقال ابن أبي عُيينة:

هل كنتَ إلا كلَحمِ مَيْتٍ
دعا إلى أكلِه اضطرارُ؟

وقال الآخر:

لئن حبَسَ العبَّاسُ عنَّا رغيفَه
لَمَا فاتَنا من نعمةِ اللهِ أكثَرُ

وقال أبو كعب: كان رجلٌ يُجري على رجل رغيفًا في كل يوم، فكان إذا أتاه الرغيف يقول: لعنك الله ولعن من بعثك، ولعنني إن تركتك حتى أصيب خيرًا منك.

وقال بشَّار:

إذا بَلَغَ الرأيُ النصيحةَ فاستعِنْ
برأيِ نصيحٍ أو نصيحةِ حازمِ
ولا تَحسَبِ الشُّورى عليكَ غَضاضةً
فإنَّ الخَوافي عُدَّةٌ للقَوادِمِ
وخلِّ الهُوَينى للضعيفِ ولا تَكُنْ
نَئُومًا فإنَّ الحَزمَ ليسَ بِنائمِ
وأدنِ على القُربى المقرِّبَ نَفْسَه
ولا تُشهِدِ الشُّورى امرأً غيرَ كاتِمِ
وما خيرُ كفٍّ أمسكَ الغُلَّ أُختَها
وما خيرُ سيفٍ لم يؤيَّدْ بقائمِ؟
فإنَّك لا تَستطردُ الهمَّ بالمُنى
ولا تَبلُغُ العَليا بغيرِ المَكارمِ

وقال آخر:

تُعرِّفُني هُنَيدةُ مَن بَنُوها
وأعرِفُها إذا اشتدَّ الغُبارُ
متى ما تَلقَ منَّا ذا ثناءٍ
يؤزُّ كأنَّ رِجلَيه شِجارُ
فلا تَعجَلْ عليه فإنَّ فيه
مَنافعَ حينَ يَبتلُّ العِذارُ
أنا ابنُ المَضرحيِّ أبي شليلٍ
وهل يَخفى على الناسِ النهارُ؟
ورِثْنا صُنْعَه ولكلِّ فَحلٍ
على أولادِه منه نِجارُ

وقال أعشى هَمدان في خالد بن عتَّاب بن وَرقاء:

تُمنِّيني إمارتَها تميمُ
وما أمرِي وأمرُ بني تميمِ؟
وكان أبو سُلَيمانٍ خليلي
ولكنَّ الشِّراكَ من الأديمِ
أتَينا أصبهانَ فهزَّلَتنا
وكنَّا قبلَ ذلك في نعيمِ
أتَذكُرُنا ومُرَّةَ إذ غَزَونا
وأنتَ على بُغَيلِك ذي الشَّئومِ؟
ويَركَبُ رأسَه في كلِّ وحْلٍ
ويَعثُرُ في الطريقِ المُستقيمِ
وليس عليك إلا طَيلسانٌ
نُصَيبيٌّ وإلا سَحْقُ نِيمِ

وقال آخر:

فلستُ مُسلِّمًا ما دُمتُ حيًّا
على زيدٍ بتسليمِ الأميرِ
أميرٌ يأكلُ الفالوذَ سِرًّا
ويُطعِمُ ضيفَه خبزَ الشَّعيرِ
أتَذكُرُ إذ قَباؤُك جِلدُ شاةٍ
وإذ نَعلاكَ من جِلدِ البعيرِ؟
فسُبحانَ الذي أعطاكَ مُلكًا
وعلَّمَك الجلوسَ على السَّريرِ

وقال آخر:

دَعْ عَنك مَرْوانَ لا تَطلُبْ إمارتَه
ففِيكَ راعٍ لها ما عِشتَ شَرشُورُ
ما بالُ بُردِك لم يَمسَسْ حواشيَه
من ثَرمداءَ ولا صنعاءَ تحبيرُ

وقال ابن فنان المُحاربي:

أقولُ لمَّا جئتُ مَجلسَهم
قبَحَ الإلهُ عمائمَ الخَزِّ
لولا قُتَيبةُ ما اعتجرتَ بها
أبدًا ولا أقعيتَ في غَرْزِ
عَجبًا لهذا الخَزِّ يَلبَسُه
من كانَ مُشتاقًا إلى الخُبزِ
من كانَ يَشتُو في عَباءتِه
متقبِّضًا كتقبُّضِ العَنزِ

وقال ثابت قُطنة في رجلٍ كان المهلَّب ولَّاه بعض خراسان:

ما زالَ رأيُك يا مُهلَّبُ فاضلًا
حتى بَنَيتَ سُرادقًا لوَكيعِ
وجعلتَه ربًّا على أربابِه
ورفعتَ عبدًا كانَ غيرَ رفيعِ
لو را أبُوه سُرادقًا أحدَثتَه
لَبَكى وفاضَت عينُه بدُموعِ

وقال ابن سيخان مَولى المُغيرة في بني مُطيع العدويين:

حرامٌ كنَّتي منِّي بسوءٍ
وأذكُرُ صاحِبي أبدًا بِذامِ
لقد حرَّمتُ ودَّ بني مُطيعٍ
حرامَ الدُّهنِ للرَّجلِ الحرامِ
وخَزَّهم الذي لم يَشتُروه
ومَجلِسَهم بمُعتلَجِ الظَّلامِ
وإنْ جَنَفَ الزَّمانُ مَدَدتُ حَبلًا
مَتِينًا من حِبالِ بني هِشامِ
وريقٌ عُودُهم أبدًا رطيبٌ
إذا ما اغبرَّ عِيدانُ اللِّئامِ

وقال آخر:

لمَن جُزُرٌ يُنحِّرُها سُوَيدٌ
ألا يا مُرَّ للمَجدِ المُضاعِ
كأنك قد سَعَيتَ بذِمَّتَيهم
وكنتَ ثِمالَ أيتامٍ جِياعِ

وقال:

سُبحان من سبَّحَ السَّبعُ الطِّباقُ له
حتى لهَرثَمةَ الذُّهليِّ أبوابُ

وأنشدنا الأُحيمر:

بأقَبَّ مُنصلِتِ اللَّبانِ كأنَّه
سِيدٌ تَنصَّلَ من جُحورِ سَعالي

وقال خَلَف: لم أرَ بيتًا أفاد وجاد، وساد وزاد، وقاد وعاد، ولا أفضل من قول امرئ القيس:

له أيطَلا ظَبيٍ وساقا نَعامةٍ
وإرخاءُ سِرحانٍ وتقريبُ تَتفُلِ

وقال الآخر:

رمى الفقرُ بالفِتيانِ حتى كأنَّهم
بأقطارِ آفاقِ البلادِ نُجومُ
وإنَّ امرأً لم يَفقرِ العامَ بَيتُه
ولم يتَّخددْ لَحمُه لَلئيمُ

وقال عبد العزيز بن زُرارة الكلابي:

وليلةٍ من ليالي الدَّهرِ صالحةٍ
باشَرتُ في هَولِها مَرأًى ومُستمَعا
ونَكبةٍ لو رمى الرَّامي بها حجرًا
أصمَّ من جَندَلِ الصَّمَّانِ لانصدَعا
مرَّت عليَّ فلم أطرَحْ لها سَلَبي
ولا استكنتُ لها وَهنًا ولا جَزَعا
وما أزالُ على أرجاءِ مَهلَكةٍ
يُسائلُ المَعشرُ الأعداءُ ما صنَعا
ولا رمَيتُ على خَصمٍ بفاقرةٍ
إلا رمَيتُ بخَصمٍ فرَّ لي جَذَعا
ما سُدَّ مُطَّلَعٌ يُخشى الهلاكُ به
إلا وجدتُ بظَهرِ الغيبِ مُطَّلعا
لا يَملأُ الهَولُ قلبي قبلَ وقعتِه
ولا يَضِيقُ له صَدري إذا وقَعا

وقال الآخر:

لقد طالَ إعراضي وصَفْحي عن التي
أُبلَّغُ عنكم والقلوبُ قلوبُ
وطالَ انتظاري عَطْفةَ الرَّحمِ منكمُ
لِيَرجعَ ودٌّ أو يُنيبَ مُنيبُ
فلا تأمَنوا منِّي عليكم شبيهَها
فيرضى بغيضٌ أو يُساءَ حبيبُ
ويَظهرَ منَّا في المَقالِ ومنكمُ
إذا ما ارتمَينا في النِّضالِ عُيوبُ
فإنَّ لسانَ الباحثِ الداءَ ساخطًا
بَني عمِّنا ألوى البيانُ كَذُوبُ

وقال الأشهب بن رُمَيلة:

وإنَّ الأُلى حانت بفَلْجٍ دماؤُهم
هُمُ القومُ كلُّ القومِ يا أُمَّ خالدِ
هُمُ ساعِدُ الدَّهرِ الذي يتَّقي به
وما خيرُ كفٍّ لا تَنُوءُ بساعدِ
أُسُودُ شرًى لاقت أُسودَ خَفيَّةٍ
تَساقَوا على حَردٍ دِماءَ الأساوِدِ

قوله: هم ساعد الدهر، إنما هو مثل، وهذا الذي تُسمِّيه الرُّواة البديع. وقد قال الراعي:

هُمُ كاهِلُ الدَّهرِ الذي يتَّقي به
ومَنكِبُه إنْ كانَ للدَّهرِ مَنكِبُ

وقد جاء في الحديث: موسى الله أحدُّ، وساعِد الله أشدُّ. والبديع مقصور على العرب، ومن أجله فاقت لغتهم كل لغة، وأربَت على كل لسان، والراعي كثير البديع في شعره، وبشَّارٌ حسن البديع، والعتَّابي يذهب شعره في البديع.

وقال كعب بن عدي:

شدَّ العِقابَ على البريءِ بمَن جَنى
حتى يكونَ لغَيرِه تنكيلا
والجهلُ في بعضِ الأمورِ إذا اغتدى
مُستخرِجٌ للجاهلين عُقولا

وقال زُفَر بن الحارث:

لئن عُدْتَ واللهِ الذي فوقَ عرشِه
مَنَحتُك مَسنونَ الغِرارَين أزرَقا
فإنَّ دواءَ الجهلِ أن تُضرَبَ الطُّلا
وأن يُغمَسَ العِرِّيضُ حتى يُغرَّقا

وقال مبذول العُذري:

ومَولًى كضِرسِ السُّوءِ يؤذِيكَ مسُّه
ولا بُدَّ إنْ آذاك أنَّك فاقِرُه
دَوِي الجَوفِ إنْ يُنزَعْ يَسُؤْكَ مَكانُه
وإنْ يَبقَ يُصبِحْ كلَّ يومٍ تُحاذِرُه
يُسِرُّ لك البَغضاءَ وهْوَ مُجامِلٌ
وما كلُّ من يَجْني عليكَ تُساوِرُه
وما كلُّ مَن مدَّدتَ ثَوْبَك دُونَه
لتَستُرَ ممَّا قد أتى أنتَ ساتِرُه

وقال الآخر:

أطالَ اللهُ كَيْسَ بَني رَزِينٍ
وحُمْقي إنْ شَرِبتُ لهم بدَيني
أأكتبُ إبْلَهم شاءً وفيها
برَيعِ فِصالِها بِنْتا لَبُونِ
فما خُلِقوا بكَيسِهمِ دُهاةً
ولا مُلَجاءَ بعدُ فيُعجِبُوني

وقال آخر:

عفاريتًا عليَّ وأكلِ مالي
وعَجزًا عن أُناسٍ آخَرِينا
فهلَّا غيْرَ عمِّكمُ ظَلَمتُم
إذا ما كُنتمُ مُتظلِّمينا
فلو كنتم لكَيِّسةٍ أكاسَت
وكَيْسُ الأمِّ أكيَسُ للبَنِينا

وقالت رُقيَّة بنت عبد المطَّلب في النبي :

أبُنَيَّ إنِّي رابَني حَجَرٌ
يَغدُو بكفِّك حيثما يَغدُو
وأخافُ أن تَلْقى غَويَّهمُ
أو أنْ يُصِيبَك بعدُ من يَعدُو

ولما دخل مكة لقِيَه جواريها يَقُلن:

طَلَعَ البَدرُ علينا
من ثَنيَّاتِ الوَداعْ
وَجَب الشُّكرُ علينا
ما دَعا للهِ داعْ

يُضاف إلى باب الخُطب، وإلى القول في تلخيص المعاني والخروج من الأمر المشبَّه بغيره، قول حسَّان بن ثابت:

إنَّ خالي خطيبُ جابيةِ الجَو
لانِ عندَ النُّعمانِ حينَ يقومُ
وهو الصَّقرُ عندَ بابِ ابنِ سَلمى
يومَ نُعمانُ في الكُبولِ سقيمُ
وسَطَت نِسبتي الذوائبَ منهم
كلُّ دارٍ فيها أبٌ لي عظيمُ
وأبي في سُمَيحةَ القائلُ الفا
صِلُ يومَ التفَّت عليه الخُصومُ
يَفصِلُ القولَ بالبيانِ وذو الرَّأ
يِ من القومِ ظالعٌ مكعومُ
تلك أفعالُه وفعلُ الزِّبَعرى
خاملٌ في صديقِه مذمومُ
رُبَّ حِلمٍ أضاعَه عدمُ الما
لِ وجَهلٍ غطَّى عليه النعيمُ
ولِيَ الناسَ منكمُ إذ أبَيتُم
أُسْرةٌ من بني قُصيٍّ صميمُ
وقُرَيشٌ يَحُولُ منَّا لِواذًا
أنْ يُقِيموا وخفَّ منها الحُلومُ
لم يُطِقْ حَمْلَه العواتقُ منهم
إنَّما يَحمِلُ اللواءَ النُّجومُ

ولما دفن سليمان بن عبد الملك أيوب وقف ينظر إلى القبر ثم قال:

كنتَ لنا أُنسًا ففارَقتَنا
فالعيشُ من بعدِك مرُّ المَذاقِ

وقُرِّبت دابَّته فركِب ووقف على قبره، وقال:

وُقوفًا على قبرٍ مُقِيمٍ بقَفْرةٍ
مَتاعٌ قليلٌ من حبيبٍ مُفارِقِ

ثم قال: وعليك السلام. ثم عطف رأس دابَّته وقال:

فإنْ صبَرتُ فلم ألفِظْك من شِبَعٍ
وإنْ جَزِعتُ فعِلْقٌ مُنفِسٌ ذَهَبا
المدائني قال: لما مات محمد بن الحجَّاج جزِع عليه فقال: إذا غسَّلتموه فأعلِموني. فلما نظر إليه قال:٩٧
الآنَ لمَّا كنتَ أكرَمَ من مَشى
وافترَّ نابُك عن شَباةِ القارِحِ
وتَكامَلَت فيك المُروءةُ كلُّها
وأعَنتَ ذلك بالفَعَالِ الصالحِ

ثم أتاه موت أخيه محمد بن يوسف فقال:

حَسْبي ثوابُ اللهِ من كلِّ ميِّتٍ
وحَسْبي بَقاءُ اللهِ من كلِّ هالكِ
إذا ما لقيتُ اللهَ عنِّيَ راضيًا
فإنَّ شفاءَ النفسِ فيما هُنالِكِ

تمثَّل معاوية في عبد الله بن بديل:

أخو الحربِ إن عضَّت به الحربُ عضَّها
وإنْ شمَّرَت عن ساقِها الحربُ شمَّرا
ويَدنُو إذا ما الموتُ لم يَكُ دُونَه
قِدى الشَّبرِ يَحمي الأنفَ أنْ يَتأخَّرا

ورأى معاوية هُزاله وهو مُتعرٍّ فقال:

أرى اللياليَ أسرَعَت في نَقْصي
أخَذنَ بَعضي وتَرَكنَ بَعضي
حَنَينَ طُولي وتَرَكنَ عِرضي
أقعَدنَني من بعدِ طُولِ النَّهضِ

وتمثَّل عبد الملك حين وثب بعمرو بن سعيد الأشدق:

سكَّنتُه ليَقِلَّ منِّي نَفرُه
فأصولُ صَولةَ حازمٍ مُستمكِنِ
وحمَيتُه عَضبًا لنَفْسي إنَّه
ليسَ المُسيءُ سبيلُه كالمُحسِنِ

وسمِع معاوية رجلًا يقول:

ومن كريمٌ ماجدٌ سَمَيدعُ
يؤتى فيُعطي من ندًى ويمنعُ

فقال: هذا منَّا، هذا والله عبدُ الله بن الزُّبير.

(٤٠) وصف معاوية لقومه

المدائني قال: قال معاوية: إذا لم يكن الهاشمي جوادًا لم يُشبِه قومه، وإذا لم يكن المخزومي تيَّاهًا لم يُشبِه قومه، وإذا لم يكن الأموي حليمًا لم يُشبِه قومه. فبلَغ قوله الحسن بن علي رضي الله تعالى عنهما فقال: ما أحسنَ ما نظر لنفسه! أراد أن تجود بنو هاشم بأموالها فتفتقر إلى ما في يدَيه، وتزهو بنو مخزوم على الناس فتُبغَض وتُشنأ، وتحلُم بنو أمية فتُحَب.

وقال بشَّار:

أحسِنْ صحابتَنا فإنَّك مُدرِكٌ
بعضَ اللَّبانةِ باصطناعِ الصاحبِ
وإذا جفَوتَ قطَعتَ عنك لُبانتي
والدَّرُّ يَقطَعُه جَفاءُ الحالبِ
تأتي اللئيمَ وما سَعى حاجاتُه
عددَ الحَصى ويَخِيبُ سَعيُ الدائبِ

وأنشد:

إذا ما أمورُ الناسِ رثَّت وضُيِّعَت
وجَدتُ أُموري كلَّها قد رَمَمتُها

وقال أعرابي:

نَدِينُ ويَقضي اللهُ عنَّا وقد نَرى
مكانَ رِجالٍ لا يَدِينون ضُيَّعا

وقال أعرابي:

وليس قضاءُ الدَّينِ بالدَّينِ راحةً
ولكنَّه ثِقْلٌ مُمِضٌّ إلى ثِقْلِ

وأنشد أبو عُبيدة لعُبيد العنبري، وهو أحد اللصوص:

يا ربِّ عَفوَك عن ذي تَوبةٍ وجِلٍ
كأنَّه من حِذارِ الناسِ مجنونُ
قد كان أسلَفَ أعمالًا مُقاربةً
أيامَ ليسَ له عقلٌ ولا دِينُ

وقال أعرابي:

يا ربِّ قد حلَفَ الأقوامُ واجتهَدوا
أيمانَهم أنَّني من ساكِني النارِ
أيَحلِفونَ على عَمْياءَ وَيلَهمُ
جهلًا بعَفوِ عظيمِ العفوِ غفَّارِ

وقال أعرابي وهو محبوس:

أسجنًا وقَيدًا واغترابًا ووَحشةً
وذِكرى حبيبٍ إنَّ ذا لَعَظِيمُ
وإنَّ امرأً دامت مَواثيقُ عهدِه
على كلِّ ما لاقَيتُه لَكَرِيمُ

وقال أعرابي:

يا أُمَّ عَمرٍو بيِّني أنتِ كلَّما
تَرفَّعَ حادٍ أو دعا كلُّ مُسلِمِ
نظرتُ إليها نَظرةً ما يَسُرُّني
وإنْ كنتُ مُحتاجًا بها ألفَ دِرهَمِ

وقال الشاعر:

وما كَثرةُ الشَّكوى بأمرِ حَزامةٍ
ولا بُدَّ من شَكوى إذا لم يَكُنْ صَبرُ

ومِثله:

وأبثَثتُ بَكرًا كلَّ ما في جَوانحي
وجرَّعتُه من مُرِّ ما أتَجرَّعُ
ولا بُدَّ من شَكوى إلى ذي حفيظةٍ
إذا جعلَت أسرارُ نَفْسي تَطلَّعُ

وقال الشاعر:

حسَدوا الفتى إذ لم يَنالوا سَعيَه
فالقومُ أعداءٌ له وخُصومُ
كضرائرِ الحَسْناءِ قُلْنَ لوَجهِها
حَسدًا وبَغيًا إنَّه لَدَمِيمُ

وقال بُزُرجمِهر: ما رأينا أشبه بالمظلوم من الحاسد.

وقال الأحنف بن قيس: لا راحة لحسود.

وقال الشعبي: الحاسد منغَّص بما في يد غيره.

وقال الله تبارك وتعالى: وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ.

وقال بعضهم يمدح أقوامًا:

مُحسَّدونَ وشرُّ الناسِ مَنزلةً
من عاشَ في الناسِ يومًا غيرَ محسودِ؟

وقال الشاعر:

الرِّزقُ يأتي قدَرًا على مَهَلْ
والمَرءُ مطبوعٌ على حُبِّ العَجَلْ

وقالوا: من تمام المعروف تعجيله.

ووصف بعض الأعراب أميرًا فقال: إذا أوعد أخَّر، وإذا وعد عجَّل. وعيده عفو، ووعده إنجاز.

وقال تبارك وتعالى: وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا.

ودخل عمرو بن عُبيد على المنصور وهو يومئذٍ خليفة، وروى هذا الحديثَ العُتبيُّ عن عُتبة بن هارون قال: شهِدته وقد خرج من عنده، فسألته عمَّا جرى بينهما، فقال: رأيت عنده فتًى لم أعرفه، فقال لي: يا أبا عثمان، أتعرفه؟ فقلت: لا. فقال: هذا ابن أمير المؤمنين ووليُّ عهد المسلمين. فقلت له: قد رضيت له أمرًا يصير إليه إذا صار وقد شُغِلتَ عنه. فبكى ثم قال: عِظني يا أبا عثمان؟ فقلت: إن الله قد أعطاك الدنيا بأسْرها، فاشترِ نفسك منه ببعضها؛ فلو أن هذا الأمر الذي صار إليك بقي في يدَي من كان قبلك لم يصل إليك، وتذكَّر يومًا يتمخض بأهله لا ليلة بعده.

المدائني قال: سمعت أعرابيًّا يسأل وهو يقول: رحِمَ الله امرأً لم تُمجَّ أذنه كلامي، وقدَّم لنفسه معاذة من سوء مقامي؛ فإن البلاد مُجدِبة، والحال سيئة، والعقل زاجر ينهى عن كلامكم، والفقر عارمٌ يحملني على إخباركم، والدعاء أحد الصدقتَين؛ فرحِمَ الله امرأً أمر بمَير، أو دعا بخير.

وقال رجل من طيئ:

قَتَلْنا بقَتْلانا من القومِ مِثلَهم
كِرامًا ولم نأخُذْ بهم حَشَفَ التَّمرِ

وقال آخر:

قَتَلْنا بهم ما بينَ مَثنى ومَوحَدٍ
وأربعةٌ منهم وآخَرُ خامِسُ

وقال آخر:

قَتَلْنا رِجالًا من تميمٍ أخايرًا
بقومٍ كِرامٍ من رِجالٍ أخايِرِ

وسُئل بعض العرب: ما العقل؟ قال: الإصابة بالظُّنون، ومعرفة ما لم يكن بما قد كان.

وقال جرير يُعاتب المُهاجر بن عبد الله:

يا قيسَ عَيلانَ إنِّي قد نَصَبتُ لكم
بالمَنجَنيقِ ولمَّا أُرسِلِ الحَجَرا

فوثب المهاجر فأخذ بحَقْوه وقال: لك العُتبى يا أبا حَزْرة، لا تُرسلْه.

وقال سُويد بن صامت:

ألا رُبَّ من تدعو صديقًا ولو تَرى
مقالتَه بالغيبِ ساءَك ما يَفْري
مقالتُه كالشَّحمِ ما دامَ شاهدًا
وبالغَيبِ مأثورٌ على ثَغرةِ النَّحرِ
تُبِينُ لك العَينانِ ما هو كاتِمٌ
من الشرِّ والبَغضاءِ بالنَّظَرِ الشَّزْرِ
يَسُرُّك باديه وتحتَ أديمِه
نَميمةُ غِشٍّ تُبترى عقبَ الظَّهرِ
فرُشْني بخَيرٍ ظالمًا قد بَرَيتَني
وخيرُ المَوالي من يَرِيشُ ولا يَبْري

وقال حارثة بن بدر لما تحالفت الأزد وربيعة:

لا تَحسبَنَّ فؤادي طائرًا فَزِعًا
إذا تَخالَفَ ضبُّ البَرِّ والنُّونُ

وأنشد ابن الأعرابي:

فإنْ أكُ قَصدًا في الرِّجالِ فإنَّني
إذا حلَّ أمرٌ ساحتي لَحَلِيمُ
تُعيِّرُني الإعدامَ والوجهَ مُعرِضٌ
وسَيفي بأموالِ التِّجارِ زَعِيمُ

وأنشد ابن الأعرابي لعمرو بن شاس:

متى يَبلُغُ البُنيانُ يومًا تَمامَه
إذا كنتَ تَبْنيه وآخَرُ يَهدِمُ

وقال عَبيد بن الأبرص:

ساعِدْ بأرضٍ إذا كنتَ بها
ولا تَقُلْ إنَّني غَرِيبُ
قد يُوصِلُ النازحُ النَّائي وقد
يُقطَعُ ذو السَّهمةِ القريبُ

وأنشد الأصمعي لكُثيِّر:

رأيتُ أبا الوليدِ غَداةَ جَمعٍ
به شَيبٌ وقد فقدَ الشَّبابا
ولكنْ تَحتَ ذاك الشَّيبِ حَزمٌ
إذا ما ظُنَّ أمرَضَ أو أصابا

ويمدحون بإصابة الظن ويذمُّون بخطائه. قال أوس بن حَجَر:

الألمعيَّ الذي يظنُّ بك الظنَّ
كأنْ قد رأى وقد سمِعا

وفي بعض الحكمة: من لم ينتفع بظنِّه لم ينتفع بيقينه.

وقال السموءل بن عادياء:

وإنَّا لَقَومٌ ما نَرى القتلَ سُبَّةً
إذا ما رأتْه عامرٌ وسَلُولُ
يُقرِّبُ حُبُّ الموتِ آجالَنا لنا
وتَكرَهُه آجالُهم فتَطُولُ
تَسِيلُ على حدِّ السُّيوفِ نُفوسُنا
وليست على غيرِ السُّيوفِ تَسِيلُ
وما ماتَ منَّا سيِّدٌ في فِراشِه
ولا طُلَّ منَّا حيثُ كانَ قتيلُ

وقال حسَّان بن ثابت:

لم تَفُتها شمسُ النهارِ بشيءٍ
غيرَ أنَّ الشبابَ ليس يَدُومُ
لو يَدِبُّ الحَوليُّ من ولدِ الذَّرِّ
عليها لأندبَتْها الكُلومُ

وقال بشَّار بن بُرد:

من فتاةٍ صُبَّ الجَمالُ عليها
في حديثٍ كلذَّةِ النَّشْوانِ
ثم فارقتُ ذاك غيرَ ذميمٍ
كلُّ عَيشِ الدُّنيا وإنْ طالَ فانِ

وقال مُزاحم العُقيلي:

تَزِينُ سَنا الماويِّ كلَّ عَشيَّةٍ
على غَفَلاتِ الزَّينِ والمُتجمِّلِ
وُجوهًا لوَ انَّ المُدلِجِين اعتشَوا بها
صدَعنَ الدُّجى حتى تَرى اللَّيلَ يَنجلي

وقال المسعودي:

إنَّ الكِرامَ مُناهِبو
كَ المَجدَ كلَّهم فناهِبْ
أخلِف وأتلِف كلُّ شَي
ءٍ زَعزَعَته الرِّيحُ ذاهِبْ

(٤١) خطبة شدَّاد بن أوس

قال: قام شدَّاد بن أوس وقد أمره معاوية أن ينتقص عليًّا، فقال:

الحمد لله الذي افترض طاعته على عِباده، وجعل رِضاه عند أهل التقوى آثَر من رضا خلقه. على ذلك مضى أولهم، وعليه يمضي آخرهم. أيها الناس، إن الآخرة وعدٌ صادق، يحكم فيها ملِكٌ قادر، وإن الدنيا عرَضٌ حاضر، يأكل فيها البر والفاجر، وإن السامع المُطيع لله لا حُجَّة عليه، وإن السامع العاصيَ لله لا حُجَّة له. وإن الله إذا أراد بالعِباد صلاحًا عمل عليهم صُلحاؤهم، وقضى بينهم فُقهاؤهم، وملَكَ المالَ سُمحاؤهم. وإذا أراد بهم شرًّا عمل عليهم سُفهاؤهم، وقضى بينهم جُهلاؤهم، وملَكَ المالَ بُخلاؤهم. وإن من صلاح الوُلاة أن يصلح قُرناؤها، ونصح لك يا معاوية من أسخَطَك بالحق، وغشَّك من أرضاك بالباطل. قال: اجلس رحمك الله، قد أمرنا لك بمال. قال: إن كان من مالك الذي تعهَّدت جمعه مَخافة تَبِعته فأصبتَه حلالًا وأنفقته إفضالًا، فنعم؛ وإن كان مما شارَكك فيه المسلمون فاحتجنته دونهم، فأصبته اقترافًا، وأنفقته إسرافًا، فإن الله يقول في كتابه: إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ.

وأذِن معاوية للأحنف بن قيس وقد وافى معاويةَ محمدُ بن الأشعث، فقدَّمه عليه، فوجد من ذلك محمد بن الأشعث، وأذِن له فدخل، فجلس بين معاوية والأحنف، فقال معاوية: إنا والله ما أذِنَّا له قبلك إلا ليجلس إلينا دونك، وما رأيت أحدًا يرفع نفسه فوق قدرها إلا من ذلةٍ يجدها، وقد فعلت فِعل من أحسَّ من نفسه ذلًّا وضعة، وإنا كما نملك أموركم نملك تأديبكم، فأريدوا منا ما نريده منكم؛ فإنه أبقى لكم، وإلا قصرناكم كرهًا، فكان أشدَّ عليكم وأعنف بكم.

وقال معاوية لرجل من أهل سبأ: ما كان أجهلَ قومَك حين ملَّكوا عليهم امرأة! فقال: بل قومك أجهل، قالوا حين دعاهم رسول الله إلى الحق وأراهم البيِّنات: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ. ألا قالوا: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فاهدِنا له؟

قال: ولما سقطت ثَنيَّتا معاوية لفَّ وجهه بعمامة، ثم خرج إلى الناس فقال: لئن ابتُليت لقد ابتُلي الصالحون قَبْلي، وإني لأرجو أن أكون منهم، ولئن عوقبت لقد عوقب الخاطئون قبلي، وما آمن أن أكون منهم، ولئن سقط عُضوان مني لمَا بقي أكثر، ولو أتى على نفسي لمَا كان لي عليه خيارٌ تبارك وتعالى؛ فرحِمَ الله عبدًا دعا بالعافية، فوالله لئن كان عتب عليَّ بعض خاصتكم لقد كنت حدبًا على عامتكم.

ولما بلَغت معاويةَ وفاةُ الحسن بن علي رضي الله تعالى عنهما، دخل عليه ابن عبَّاس، فقال له معاوية: آجَرك الله أبا العبَّاس في أبي محمد الحسن بن علي — ولم يُظهر حزنًا — فقال ابن عبَّاس: إنا لله وإنا إليه راجعون. وغلبه البكاء، فردَّه ثم قال: لا يسدُّ والله مكانَه حفرتُك، ولا يزيد موتُه في أجلك. والله لقد أُصِبنا بمن هو أعظم منه فقدًا فما ضيَّعنا الله بعده. فقال له معاوية: كم كانت سِنُّه؟ قال: مَولده أشهر من أن تُتعرف سِنُّه! قال: أحسبه ترك أولادًا صغارًا؟ قال: كلُّنا كان صغيرًا فكَبِر، ولئن اختار الله لأبي محمدٍ ما عنده وقبضه إلى رحمته، لقد أبقى الله أبا عبد الله، وفي مِثله الخلف الصالح.

(٤٢) وصية أعرابية لولدها

الأصمعي، عن أبان بن ثعلبة، قال: مررت بامرأة بأعلى الأرض وبين يدَيها ابن لها يريد سفرًا، وهي توصيه، فقالت: اجلس أمنَحْك وصيتي وبالله توفيقك، وقليلٌ إجداؤه عليك أنفع من كثير عقلك. إيَّاك والنمائم؛ فإنها تزرع الضغائن. ولا تجعل نفسك غَرضًا للرُّماة؛ فإن الهدف إذا رُمي لم يلبث أن ينثلم. ومثِّل لنفسك مثالًا، فما استحسنته من غيرك فاعمل به، وما كرِهته منه فدعه واجتنبه. ومن كانت مودته بشَرهٍ كان كالريح في تصرُّفها. ثم نظرت فيَّ فقالت: كأنك يا عراقي أُعجبت بكلام أهل البدو؟ ثم قالت لابنها: إذا هززت فهزَّ كريمًا؛ فإن الكريم يهتزُّ لهزتك. وإياك واللئيم؛ فإنه صخرة لا ينفجر ماؤها. وإياك والعذر؛ فإنه أقبح ما تُعومل به. وعليك بالوفاء؛ ففيه النماء. وكُن بمالك جوادًا، وبدِينك شحيحًا. ومن أُعطي السخاء والحِلم فقد استجاد الحلة؛ ريطتها وسِربالها. انهض على اسم الله.

وقال أعرابي لرجلٍ مَطَله في حاجة: إن مِثل الظَّفر بالحاجة تعجيل اليأس منها إذا عسُر قضاؤها، وإن الطلب وإن قلَّ أعظم قدرًا من الحاجة وإن عظُمت، والمَطل من غير عُسر آفةُ الجود.

خطب الفضل الرَّقاشي إلى قوم من بني تميم، فخطب لنفسه، فلما فرغ قام أعرابي منهم فقال: توسَّلت بحُرمة، وأدليت بحق، واستندت إلى خير، ودعوت إلى سُنة؛ ففرضك مقبول، وما سألت مبذول، وحاجتك مقضيَّة إن شاء الله تعالى. قال الفضل: لو كان الأعرابي حمِد الله في أول كلامه، وصلَّى على النبي ، لفضحني يومئذٍ.

(٤٣) وصية الملك المُنذِر لوليِّ عهده

المدائني قال: قال المنذر بن المنذر، لما حارَب غسَّان بالشام، لابنه النُّعمان يوصيه: إياك واطِّراحَ الإخوان، واطِّرافَ المعرفة، وإياك ومَلاحاة الملول، وممازحة السفيه، وعليك بطول الخَلوة، والإكثار من السَّمر، والبس من القِشر ما يَزِينك في نفسك ومروءتك، واعلم أن جماع الخير كله الحياء، فعليك به، وتواضع في نفسك، وانخدع في مالك، واعلم أن السكوت عن الأمر الذي يعنيك خير من الكلام، فإذا اضطررت إليه فتحرَّ الصدق والإيجاز تَسلَم إن شاء الله تعالى.

(٤٤) كلام في تعزية بعض الملوك

قال: إن الخلق للخالق، والشكر للمُنعِم، والتسليم للقادر، ولا بد مما هو كائن، وقد جاء ما لا يُرَد، ولا سبيل إلى رد ما قد فات، وقد أقام معك ما سيذهب أو ستتركه، فما الجَزَع مما لا بد منه؟ وما الطمع فيما لا يُرجى؟ وما الحيلة فيما سيُنقل عنك أو تُنقل عنه؟ وقد مضت أصولٌ نحن فروعها، فما بَقاء الفرع بعد ذهاب الأصل؟ فأفضل الأشياء عند المصائب الصبر، وإنما أهل الدنيا سَفْر لا يحلُّون الركائب إلا في غيرها؛ فما أحسنَ الشُّكرَ عند النِّعم، والتسليم عند الغِيَر؛ فاعتبِر بمن رأيت من أهل الجزع، فإن رأيت الجزع رد أحدًا منهم إلى ثقة من دَرْك فما أولاك به.

واعلم أن أعظم من المصيبة سوءُ الخلف منها، فاتَّقِ فإن المَرجع قريب.

واعلم أنه إنما ابتلاك المُنعِم، وأخذ منك المُعطي، وما ترك أكثر؛ فإن نسيت الصبر فلا تنسَ الشكر، وكلًّا فلا تَدَع، واحذر من الغفلة استلاب النِّعَم، وطول الندامة؛ فما أصغر المصيبة اليوم مع عِظم الغنيمة غدًا، فاستقبِل المصيبة بالحِسبة تستخلف بها نِعمًا، فإنما نحن في الدنيا غرض يُنتضل فيه بالمنايا، ونهب للمصائب، مع كلِّ جرعةٍ شَرَق، ومع كلِّ أكلةٍ غَصَص. لا تُنال نعمة إلا بفِراق أُخرى، ولا يستقبل مُعمَّر يومًا من عمره إلا بهدم آخر من أجَله، ولا تحدُث له زيادة في أكله إلا بنفاد ما قبله من رزقه، ولا يحيا له أثر إلا مات له أثر، ونحن أعوان الحُتوف على أنفُسنا، وأنفُسنا تسوقنا إلى الفَناء، فمن أين نرجو البقاء؟ وهذا الليل والنهار لم يرفعا من شيء شرفًا إلا أسرعا الكَرَّة في هدم ما رفعا، وتفريق ما جمعا؛ فاطلب الخير من أهله، واعلم أن خيرًا من الخير مُعطيه، وشرًّا من الشر فاعِله.

وقال أبو نُواس:

أتتبَّعُ الظُّرَفاءَ أكتبُ عنهمُ
كيما أُحدِّثَ من أُحِبُّ فيَضحَكا

وقال آخر:

قدَرتُ فلم أترُكْ صَلاحَ عَشيرتي
وما العفوُ إلا بعدَ قُدرةِ قادرِ

وقال آخر:

أخو الجِدِّ إنْ جَدَّ الرِّجالُ وشمَّروا
وذو باطلٍ إنْ كانَ في القومِ باطِلُ

قبيصة بن عمر المهلَّبي، أن رجلًا أتى ابن أبي عُيينة، فسأله أن يكتب إلى داود بن يزيد كتابًا، ففعل وكتب في أسفله:

إنَّ امرأً قذَفَت إليكَ به
في البحرِ بعضُ مَراكبِ البَحرِ
تَجري الرِّياحُ به فتَحمِلُه
وتَكفُّ أحيانًا فلا تَجري
ويرى المَنيَّةَ كُلَّما عصَفَت
ريحٌ به للهَولِ والذُّعرِ

قال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: ما وجد أحد في نفسه كبْرًا إلا من مَهانةٍ يجدها في نفسه.

ودخل رجل من بني مخزوم، وكان زُبيريًّا، على عبد الملك بن مروان، فقال له عبد الملك: أليس قد ردَّك الله على عقبَيك؟ قال: أوَمَن رُدَّ إليك فقد رُدَّ على عقبَيه؟ فاستحيا وعلِم أنه قد أساء.

وقال المخبَّل:

إذا أنت لاقَيتَ الرِّجالَ فلاقِهم
وعِرضُك من غثِّ الأُمورِ سليمُ

وقال النضر بن خالد:

كِبْرُه يَبلُغُ الكواكبَ إلا
أنَّه في مُروءةِ البقَّالِ

وقال خِداش بن زُهير:

الناسُ تَحتَكَ أقدامٌ وأنتَ لهم
رأسٌ فكيفَ يُسوَّى الرأسُ والقَدَمُ؟
إنَّا لَنَعلَمُ أنَّا ما بقِيتَ لنا
فينا السَّماحُ وفينا الجُودُ والكَرَمُ
وحَسبُنا من ثناءِ المادِحِين إذا
أثنَوا عليك بأنْ يُثنُوا بما علِموا

وقال ابن عبَّاس رضي الله عنهما: كانت قريشٌ تألَف مَنزل أبي بكر رضي الله تعالى عنه لخصلتَين؛ للعلم والطعام؛ فلما أسلم أسلم عامَّةُ من كان يُجالسه.

(٤٥) بعض كلام الأعراب

قال الأصمعي: وقف أعرابيٌّ يسأل فقال:

ألا فتًى أروَعَ ذا جَمالٍ
من عَرَبِ الناسِ أوِ المَوالي
يُعينُني اليومَ على عِيالي
قد كثَّروا همِّي وقلَّ مالي
وساقَهم جَدْبٌ وسوءُ حالِ
وقد ملِلتُ كثرةَ السُّؤالِ

وقال أعرابي:

يا ابنَ الكِرامِ والدًا وولدا
لا تَحرِمَنَّ سائلًا تَعمَّدا
أفقَرَه دهرٌ عليه قد عَدا
من بعدِ ما كان قديمًا سيِّدا

وقال أعرابي: اللهم إني أسألك قلبًا توَّابًا أوَّابًا، لا كافرًا ولا مُرتابًا.

وهبَ رجل لأعرابي شيئًا فقال: جعل الله للخير عليك دليلًا، وجعل عندك رفدًا جزيلًا، وأبقاك بقاءً طويلًا، وأبلاك بلاءً جميلًا.

وقف أعرابي على قوم فمنعوه فقال: اللهم اشغلنا بذِكرك، وأعِذنا من سخطك، وأولِجنا إلى عفوك؛ فقد ضنَّ خلقك برزقك، فلا تشغلنا بما عندهم عن طلب ما عندك، وآتِنا من الدنيا القُنعان، وإن كان كثيرها يُسخطك؛ فلا خير فيما يُسخطك.

الأصمعي، قال: سمعت أعرابيًّا يدعو وهو يقول: اللهم اغفر لي إذا الصُّحف منشورة، والتوبة مقبولة، قبل ألا أقدر على استغفارك حين ينقطع الأمل، ويحضر الأجل، ويفنى العمل.

وقال: سمعت أعرابيًّا يدعو وهو يقول: اللهم ارزقني مالًا أكبِت به الأعداء، وبنين أَصول بهم على الأقوياء.

وكان مُنادي سعد بن عُبادة يقول على أُطُمه: من أراد خبزًا ولحمًا فليأتِ أطم سعد. وخلفه قيس بن سعد ابنه، وكان يفعل كفعله، فإذا أكل الناس رفع يده إلى السماء وقال: اللهم إني لا أصلُح على القليل، ولا يصلُح القليل لي. اللهم هَبْ لي حمدًا ومجدًا؛ لأنه لا حمد إلا بفعال، ولا مجد إلا بمال.

وقال أعرابي: اللهم إن لك عليَّ حقوقًا فتصدَّق بها عليَّ، وللناس عليَّ حقوقًا فأدِّها عني، وقد أوجبت لكل ضيف قِرًى وأنا ضيفك، فاجعل قِرايَ في هذه الليلة الجنة.

وقف أعرابي على قومٍ يسألهم فأنشأ يقول:

هل من فتًى عندَه خُفَّانِ يَحمِلُني
عليهما إنَّني شيخٌ على سَفَرِ
أشكو إلى اللهِ أهوالًا أُمارِسُها
من الصُّداعِ وأنِّي سيِّئ البَصَرِ
إذا سَرى القومُ لم أُبصِرْ طريقَهمُ
إنْ لم يَكُنْ عندَهم ضَوءٌ من القَمَرِ

الأخفش قال: خرج أعرابي يطلب الصدقة ومعه ابنتان له، فقالت ابنته لما رأت إمساك الناس عنه:

يا أيُّها الراكبُ ذو التَّعريسِ
هل فيكمُ من طاردٍ لِلبُوسِ
عن ذي هُداج ٍ بيِّنِ التقويسِ
بفَضلِ سِرْبالٍ له دَرِيسِ
أو فاضلٍ من زادِه خسيسِ
أثابَه الرحمنُ بالنَّفيسِ

ووقف سائل على الحسن فقال: رحِمَ الله عبدًا أعطى من سَعة، أو آسى من كَفاف، أو آثَر من قِلَّة.

وقال الطائي [حبيب بن أوس أبو تمَّام]:

فتًى كُلَّما فاضت عُيونُ قبيلةٍ
دمًا ضَحِكَت عنه الأحاديثُ والذِّكْرُ
فتًى ماتَ بينَ الطعنِ والضربِ مِيتةً
تقومُ مَقامَ النَّصرِ إذ فاتَه النَّصرُ

وقال:

بِكْرٌ إذا ابتسمَت أراكَ وميضُها
نَوْرَ الأقاحِ برَمْلةٍ مِيعاسِ٩٨
وإذا مشَت ترَكَت بِصَدرِك ضِعفَ ما
بحُليِّها من كَثرةِ الوَسواسِ
قالت وقد حُمَّ الفِراقُ فكأسُه
قد خُولِطَ السَّاقي بها والحاسي
لا تَنسَيَنْ تِلكَ العُهودَ فإنَّما
سُمِّيتَ إنسانًا لأنَّكَ ناسِ
هدأتْ على تأميلِ أحمَدَ هِمَّتي
وأطافَ تقليدي بها وقِياسي
نَورُ العَرارةِ نَورُه ونَسِيمُه
نَشرُ الخُزامى في اخضرارِ الآسِ
إقدامُ عَمرٍو في سماحةِ حاتمٍ
في حِلمِ أحنَفَ في ذكاءِ إياسِ
لا تُنكِروا ضَرْبي له من دُونَه
مَثلًا شَرُودًا في النَّدى والباسِ
فاللهُ قد ضربَ الأقلَّ لنُورِه
مَثلًا من المِشكاةِ والنِّبراسِ

وقال:

احفِظ رسائلَ شِعرٍ فيك ما ذهَبَت
خواطِرُ البَرقِ إلا دُونَ ما ذهَبا
يَغدُونَ مُغترِباتٍ في البلادِ فما
يَزَلنَ يؤنِسْنَ في الآفاقِ مُغترِبا
ولا تُضِعْها فما في الأرضِ أحسَنُ من
نَظْمِ القَوافي إذا ما صادَفَت أدَبا

أُسِر رؤبة في بعض حروب تميم فمُنِع الكلام، فجعل يصرخ: يا صاحباه، يا بني تميم، أطلِقوا من لساني.

وربما قال الشاعر في هِجائه قولًا لا يعيب به المهجوَّ فيمتنع من فِعله المهجو وإن كان لا يلحق فاعِلَه ذم، وكذلك إذا مدحه بشيءٍ أُولع بفعله وإن كان لا يصير إليه بفعله مدح، فمن ذلك تقدُّم كُلْثم بنت سريع مَولى عمرو بن حُرَيث إلى عبد الملك بن عُمير، وهو على قضاء الكوفة، تُخاصم أهلها، فقضى لها عبد الملك على أهلها، فقال هُذيل الأشجعي:

أتاه وليدٌ بالشُّهودِ يَقُودُهم
على ما ادَّعى من صامتِ المالِ والخَوَلْ
وجاءت إليه كُلثمٌ وكلامُها
شِفاءٌ من الداءِ المُخامِرِ والخَبَلْ
فأدلى وليدٌ عند ذاك بحقِّه
وكان وليدٌ ذا مِراءٍ وذا جَدَلْ
وكان لها دَلٌّ وعَينٌ كَحِيلةٌ
فأدلَتْ بحُسنِ الدَّلِّ منها وبالكَحَلْ
ففتَّنَتِ القِبطيَّ حتى قَضى لها
بغيرِ قضاءِ اللهِ في السُّوَرِ الطُّوَلْ
فلو كانَ مَن بالقَصرِ يَعلَم عِلمَه
لَمَا استُعملَ القِبطيُّ فينا على عَمَلْ
له حينَ يَقضي للنِّساءِ تَخاوُصٌ
وكان وما فيه التخاوصُ والحَوَلْ
إذا ذاتُ دلٍّ كلَّمَته بحاجةٍ
فهمَّ بأنْ يَقضي تَنحنحَ أو سَعَلْ
وبرَّقَ عَينَيه ولاكَ لِسانَه
يَرى كلَّ شيءٍ ما خلا شَخصِها جَلَلْ

قال: فقال عبد الملك: أخزاه الله، [والله] لرُبَّما جاءتني السعلة أو النحنحة وأنا في المتوضَّأ فأذكُر قوله فأردُّها لذلك.

وزعم الهيثم بن عدي عن أشياخه أن الشاعر لما قال في شهر بن حَوشب:

لقد باعَ شَهرٌ دينَه بخريطةٍ
فمن يأمَنُ القُرَّاءَ بَعدَك يا شَهرُ؟

ما مسَّ خريطة حتى مات.

وقال رجل من بني تغلب، وكان ظريفًا: ما لقي أحدٌ من تغلب ما لقيت أنا. قلت: وكيف ذاك؟ قال: قال الشاعر:

لا تَطلبنَّ خئولةً في تغلبٍ
فالزِّنجُ أكرَمُ منهمُ أخوالا
لو أنَّ تَغلِبَ جمَّعَت أحسابَها
يومَ التفاخُرِ لم يَزِنْ مِثقالا
تَلقاهمُ حُلَماءَ عن أعدائِهم
وعلى الصَّديقِ تَراهمُ جُهَّالا
والتغلبيُّ إذا تَنَحنَحَ للقِرى
حكَّ اسْتَه وتَمثَّلَ الأمثالا

والله إني لأتوهَّم أن لو نهشت استي الأفاعيُّ ما حكَكتُها.

(٤٦) كلام في مَقامات الشعراء في الجاهلية والإسلام

كان الشاعر أرفع قدرًا من الخطيب، وهم إليه أحوج؛ لردِّه مآثرهم عليهم وتذكيرهم بأيامهم؛ فلما كثُر الشعراء وكثُر الشعر صار الخطيب أعظم قدرًا من الشاعر.

والذين هجَوا فوضعوا من قدر من هجَوه، ومدحوا فرفعوا من قدر من مدحوه، وهجاهم قوم فردُّوا عليهم فأفحموهم، وسكت عنهم بعض من هجاهم مَخافة التعرُّض لهم، وسكتوا عمن هجاهم رغبةً بأنفسهم عن الرد عليهم، وهم في الإسلام جريرٌ والفرزدق والأخطل، وفي الجاهلية زُهير وطَرَفة والأعشى والنابغة. هذا قول أبي عُبيدة.

وزعم أبو عمرو بن العلاء أن الشعر فُتِح بامرئ القيس وخُتِم بذي الرُّمَّة.

ومن الشعراء من يُحكِم القريض ولا يُحسِن من الرَّجز شيئًا؛ ففي الجاهلية منهم زهير والنابغة والأعشى، وأما من يجمعهما فامرؤ القيس وله شيء من الرَّجز، وطَرَفة وله كمِثل ذلك، ولبيد وقد أكثر. ومن الإسلاميين من لا يقدر على الرَّجز وهو في ذلك يُجيد القريض، كالفرزدق وجرير، ومن يجمعهما فأبو النجم وحُميد الأرقط والعُماني وبشَّار بن بُرد. وأقل من هؤلاء يُحكِم القصيد والأرجاز والخُطب. وكان الكُميت والبَعيث والطِّرِمَّاح شُعراء خُطباء، وكان البعيث أخطبهم. وقال يونس: إن كان مُغلَّبًا في الشعر لقد كان غُلِّب في الخُطب. وإذا قالوا غُلِّب فهو الغالب.

وقال الحسين بن مطير الأسدي:

فيا قبرَ مَعنٍ كنتَ أوَّلَ حُفرةٍ
من الأرضِ خُطَّت للمَكارمِ مَضجَعا
فلما مضى مَعنٌ مضى الجُودُ والنَّدى
وأصبحَ عِرنِينُ المَكارمِ أجدَعا
فتًى عِيشَ في معروفِه بعدَ موتِه
كما كانَ بعدَ السَّيلِ مَجراه مَرتَعا
تَعزَّ أبا العبَّاسِ عنه ولا يَكُنْ
جَزاؤُك من مَعنٍ بأنْ تَتضَعضَعا
فما ماتَ من كنتَ ابنَه لا ولا الذي
له مِثلُ ما أسدى أبوكَ وما سَعى
تَمنَّى أُناسٌ شأوَه من ضَلالِهم
فأضحَوا على الأذقانِ صَرْعى وظُلَّعا

وقال مُسلم الأنصاري يرثي يزيد بن مزيد:

قَبرٌ ببَردَعةَ استسرَّ ضريحُه
خَطرًا تَقاصَرُ دُونَه الأخطارُ
أبْقى الزمانُ على مَعدٍّ بعدَه
حُزنًا لعَمرُ الدَّهرِ ليس يُعارُ
نفَضَت بكَ الآمالُ أحلاسَ الغِنى
واسترجَعَت نُزَّاعَها الأمصارُ
فاذهب كما ذهَبَت غوادي مُزْنةٍ
أثْنى عليها السَّهلُ والأوعارُ

وقال هاشم الرَّقاشي:

أبلِغْ أبا مِسمَعٍ عني مُغلغَلةً
وفي العِتابِ حياةٌ بينَ أقوامِ
قدَّمتُ قَبْلي رِجالًا لم يَكُنْ لهُمُ
في الحقِّ أنْ يَلِجوا الأبوابَ قُدَّامي
لو عُدَّ قَبرٌ وقُبرٌ كنتَ أكرَمَهم
قَبرًا وأبعَدَهم من مَنزلِ الذَّامِ
حتى جعَلتُ إذا ما حاجةٌ عرَضَت
ببابِ قَصرِك أدلُوها بأقوامِ

وقال الأُبيرد الرياحي يرثي أخاه:

فتًى إنْ هو استغنى تَخرَّقَ في الغِنى
وإنْ قلَّ مالٌ لم يَؤُدْ مَتنَه الفَقرُ
وسامى جَسِيماتِ الأمورِ فنالَها
على العُسرِ حتى يُدرِكَ العُسرةَ اليُسرُ
تَرى القومَ في العَزَّاءِ ينتظرونَه
إذا شكَّ رأيُ القومِ أو حَزَبَ الأمرُ
فلَيتَك كنتَ الحيَّ في الناسِ باقيًا
وكنتُ أنا المَيْتَ الذي غيَّبَ القَبرُ
لقد كنتُ أستعفي الإلهَ إذا اشتكى
من الأجرِ لي فيه وإنْ سَرَّني الأجرُ
وأجزَعُ أنْ يَنأى به بَينُ ليلةٍ
فكيفَ ببَينٍ صارَ مِيعادُه الحَشرُ؟

وقال أبو عُبيدة: أنشدني رجل من بني عِجل:

وكنتُ أُعِيرُ الدَّمعَ قَبْلَك من بَكى
فأنت على من ماتَ بَعدَك شاغِلُه
لقد رحَلَ الحيُّ المُقِيمُ وودَّعوا
فتًى لم يَكُنْ بإزائِه من يُنازِلُه
ولم يَكُ يَخشى الجارُ منه إذا دَنا
أذاه ولا يَخشى الحريمةَ سائِلُه
فتًى كانَ للمعروفِ يَبسطُ كفَّه
إذا قُبِضَت كفُّ البخيلِ ونائلُه

قال: دخل مَعن بن زائدة على أبي جعفر المنصور فقارَب في خطوه، فقال المنصور: لقد كَبِرت سنُّك. قال: في طاعتك. قال: وإنك لجَلْد. قال: على أعدائك. قال: وأرى فيك بقيَّة. قال: هي لك.

(٤٧) كتاب عبد الملك إلى عمرو بن سعيد الأشدق

قال: كتب عبد الملك بن مروان إلى عمرو بن سعيد الأشدق حين خرج عليه: أما بعد، فإن رحمتي لك تَصرِفني عن الغضب عليك؛ لتمكُّن الخُدَع منك، وخذلان التوفيق إياك. نهضت بأسباب وهَّمَتك أطماعك أن تستفيد بها عزًّا، كنت جديرًا لو اعتدلت ألا تدفع بها ذلًّا. ومن رحل عنه حُسن النظر، واستوطنته الأماني، ملَكَ الحَين تصريفه، واستترت عنه عواقب أمره، وعن قليلٍ يتبين من سلك سبيلك، ونهض بمِثل أسبابك، أنه أسير غفلة، وصريع خدع، ومغيض ندم، والرحم تحمل على الصفح عنك ما لم تحلُل بك عواقب جهلك، وتزجر عن الإيقاع بك؛ وأنت إن ارتدعت في كنفٍ وسِتر. والسلام.

(٤٨) رد عمرو بن سعيد على عبد الملك

فكتب إليه عمرو: أما بعد، فإن استدراج النِّعم إياك أفادك البَغي، ورائحة القدرة أورثتك الغفلة، زجرت عما واقعت مثله، وندبت إلى ما تركت سبيله، ولو كان ضعف الأسباب يؤيس الطلاب ما انتقل سلطان، ولا ذلَّ عزيز، وعن قليلٍ تتبين مَن أسير الغفلة، وصريع الخدع، والرحم تعطف على الإبقاء عليك مع دفعك عما غيرك أقوَم به منك. والسلام.

(٤٩) كتاب عمر بن عبد العزيز إلى عمر بن الوليد

قال أبو الحسن: كتب عمر بن عبد العزيز إلى عمر بن الوليد بن عبد الملك: أما بعد، فإنك كتبت تذكُر أن عاملًا أخذ مالك بالحميَّة، وتزعم أني من الظالمين، وإن أظلم مني وأترك لعهد الله من أمَّرك صبيًّا سفيهًا على جيش من جيوش المسلمين، لم تكن له في ذلك نية إلا حب الوالد لولده. وإن أظلم مني وأترك لعهد الله لأنت؛ فأنت عمر بن الوليد، وأُمك صنَّاجة تدخل دور حمص وتطوف في حوانيتها. رُوَيدك أنْ لو قد التقت حَلْقتا البِطان لحملتك وأهلَ بيتِك على المَحجَّة البيضاء؛ فطالما ركِبتم ثنيَّات الطريق، مع أني قد همَمت أن أبعث إليك من يحلق دلادلك؛ فإني أعلم أنها من أعظم المصائب عليك. والسلام.

(٥٠) شِدَّة مراقبة عبد الملك لوُلاته

قال أبو الحسن: كان عبد الملك بن مروان شديد اليقظة، وكثير التعهُّد لوُلاته، فبلَغه أن عاملًا من عماله قبِل هديةً، فأمر بإشخاصه إليه، فلما دخل عليه قال له: أقبِلتَ هديَّة منذ ولَّيتُك؟ قال له: يا أمير المؤمنين، بلادك عامرة، وخَراجك موفور، ورعيَّتك على أفضل حال. قال: أجب فيما سألتك عنه، أقبِلتَ هدية منذ ولَّيتُك؟ قال: نعم. قال: لئن كنت قبِلت ولم تُعوِّض إنك للئيم. ولئن أنلتَ مُهدِيك لا من مالك أو استكفيته ما لم يكن يُستكفاه إنك لجائرٌ خائن. ولئن كان مذهبك أن تُعوِّض المُهدي إليك من مالك، وقبِلت ما اتَّهمك به عند من استكفاك وبسط لسان عائبك، وأطمع فيك أهل عملك، إنك لجاهل. وما فيمن أتى أمرًا لم يخلُ فيه من دناءة أو خيانة أو جهل مُصطنَع نحَّياه عن عمله.

قال أبو الحسن: عرض أعرابي لعُتبة بن أبي سفيان وهو على مكة فقال: أيها الخليفة. قال: لستُ به ولم تُبعد. قال: يا أخاه. قال: أسمعتَ فقل. قال: شيخ من بني عامر يتقرب إليك بالعمومة، ويختصُّ بالخئولة، ويشكو إليك كثرة العِيال، ووطأة الزمان، وشِدة فقر، وترادُف ضر، وعندك ما يسعه ويصرف عنه بؤسه. قال: أستغفر الله منك، وأستعينه عليك، قد أمرت لك بغِناك، وليت إسراعي إليك يقوم بإبطائي عنك.

وقال أعرابي يعيب قومًا: هم أقل الناس ذنوبًا إلى أعدائهم، وأكثرهم جُرمًا إلى أصدقائهم، يصومون عن المعروف، ويُفطرون على الفحشاء.

وقال مُجَّاعة بن مُرار لأبي بكر الصدِّيق رضي الله تعالى عنه: إذا كان الرأي عند من لا يُقبَل منه، والسلاح عند من لا يستعمله، وكان المال عند من لا يُنفقه، ضاعت الأمور.

الأصمعي قال: نعت أعرابي رجلًا فقال: كأن الألسُن والقلوب رِيضت له، فما تنعقد إلا على وده، ولا تنطق إلا بثنائه.

وقال أعرابي: وعدُ الكريم نقد وتعجيل، ووعدُ اللئيم مَطْل وتعليل.

أتى أعرابيٌّ عمر بن عبد العزيز فقال: رجل من أهل البادية ساقَته الحاجة، وانتهت به الفاقة، والله يسألك عن مقامي غدًا. فبكى عمر.

وقال الشاعر:

ومن يُبقِ مالًا عُدَّةً وصِيانةً
فلا البُخلُ مُبقِيه ولا الدَّهرُ وافِرُه
ومن يَكُ ذا عُودٍ صليبٍ يُعِدُّه
ليَكسِرَ عُودَ الدَّهرِ فالدَّهرُ كاسِرُه

وقال أبان بن الوليد لإياس بن معاوية: أنا أغنى منك. فقال إياس: بل أنا أغنى منك. قال أبان: وكيف ولي كذا وكذا؟ وعدَّد أموالًا، قال: إن كسبك لا يفضُل عن مؤنتك، وكسبي يفضُل عن مؤنتي.

وكان يُقال: حاجب الرجل عامله على عِرضه.

وقال أبو الحسن: رأيت امرأةً أعرابية غمَّضت ميتًا وترحَّمت عليه، ثم قالت: ما أحقَّ من أُلبس العافية، وأُطيلت له النَّظِرة، ألا يعجز عن النظر لنفسه قبل الحلول بساحته، والحيالة بينه وبين نفسه!

وقال ابن الزُّبير لمعاوية حين أراد أن يُبايع لابنه يزيد: أتُقدِّم ابنك على من هو خير منه؟ قال: كأنك تريد نفسك؟ إن بيته بمكة فوق بيتك. قال ابن الزبير: إن الله رفع بالإسلام بيوتًا؛ فبيتي مما رَفَع. قال معاوية: صدقت، وبيت حاطب بن أبي بلتعة.

وقال: عاتَب أعرابي أباه فقال: إن عظيم حقك عليَّ لا يُذهب صغير حقي عليك، والذي تمتُّ إليَّ به أمتُّ بمِثله إليك، ولست أزعم أنَّا سواء، ولكني أقول: لا يحلُّ لك الاعتداء.

قال: مدح رجل قومًا فقال: أدَّبَتهم الحكمة، وأحكمتهم التجارِب، ولم تَغرُرهم السلامة المُنطوية على الهلكة، ورحل عنهم التسويف الذي قطع الناس به آجالهم، فأحسنوا المقال، وشفعوه بالفعال.

وقال بعض الحكماء: التواضع مع السخافة والبخل أحمد عند العلماء من الكِبْر مع السخاء والأدب؛ فأعظِمْ بحسنة عفَّت عن سيئتَين، وأفظِع بعيبٍ أفسد من صاحبه حسنتَين.

وقيل لرجل: مات صديق لك. فقال: رحمة الله عليه، لقد كان يملأ العين جمالًا، والأذن بيانًا، ولقد كان يُرجى فلا يُخشى، ويُخشى فلا يُغشى، ويُعطي ولا يُعطى، قليلًا لدى الشر حضورُه، سليمًا للصديق ضميره.

وقام أعرابي ليسأل فقال: أين الوجوه الصِّباح، والعقول الصِّحاح، والألسُن الفِصاح، والأنساب الصِّراح، والمكارم الرِّباح، والصدور الفِساح، تُعيذني من مقامي هذا؟

ومدح بعضهم رجلًا فقال: ما كان أفسح صدره، وأبعد ذِكره، وأعظم قدره، وأنفذ أمره، وأعلى شرفه، وأربح صفقة من عرفه، مع سعة الغَناء، وعِظم الإناء، وكرم الآباء.

وقال علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه لصعصعة بن صوحان: والله ما علِمتك إلا أنك لكثير المعونة، قليل المؤنة؛ فجزاك الله خيرًا. فقال صعصعة: وأنت فجزاك الله أحسن ذلك؛ فإنك ما علِمتك بالله عليم، والله في عينك عظيم.

(٥١) وصية عبد الملك بن صالح العبَّاسي لابنه

قال أبو الحسن: أوصى عبد الملك بن صالح٩٩ ابنًا له فقال: أي بُني، احلُم؛ فإن من حلُم ساد، ومن تفهَّم ازداد. والقَ أهل الخير؛ فإن لقاءهم عمارة للقلوب. ولا تجمح بك مطيَّة اللَّجاج. وفيُّك مَن أعتبَك، والصاحب المُناسب لك، والصبر على المكروه يعصم القلب. المِزاح يُورث الضغائن، وحُسنُ التدبير مع الكفاف خيرٌ من الكثير مع الإسراف، والاقتصاد يُثمر القليل، والإسراف يُبير الكثير، ونِعْم الحظ القناعة، وشرُّ ما صحِب المرء الحسد، وما كل عورة تُصان، وربما أبصر العميُّ رشده، وأخطأ البصير قصده، والياس خير من الطلب إلى الناس، والعفة مع الحِرفة خيرٌ من الغنى مع الفجور. ارفُق في الطلب، وأجمِل في المَكسب؛ فإنه رُبَّ طلبٍ قد جر إلى حَرَب. ليس كل طالب بمُنجِح، ولا كلُّ مُلحٍّ بمُحتاج، والمغبون من غُبِن نصيبه من الله. عاتِبْ من رجَوت عُتباه، وفاكِهْ من أمِنتَ بَلواه. لا تكن مِضحاكًا من غير عَجَب، ولا مشَّاءً إلى غير أرَب. ومن نأى عن الحق أضاقَ مَذهبه، ومن اقتصر على حاله كان أنعم لباله. لا يكبُرنَّ عليك ظلم من ظَلَمك، فإنه إنما سعى في مَضرَّته ونفعك. وعوِّد نفسك السَّماح، وتخيَّرْ لها من كل خُلُق أحسنَه؛ فإن الخير عادة، والشر لَجاجة، والصدود آية المقت، والتعلُّل آية البخل. ومن الثقة كِتمان السر. ولقاح المعرفة دراسة العلم، وطول التجارِب زيادة في العقل، والقناعة راحة الأبدان، والشرف التقوى، والبلاغة معرفة رَتْق الكلام وفَتْقه. بالعقل تُستخرَج الحكمة، وبالحِلم يُستخرج غَوْر العقل. ومن شمَّر في الأمور، ركِب البحور. شر القول ما نقض بعضه بعضًا. ومن سعى بالنميمة حذِره البعيد، ومقَته القريب. من أطال النظر بإرادةٍ تامَّةٍ أدرك الغاية، ومن تَوانى في نفسه ضاع. من أسرف في الأمور انتشرت عليه، ومن اقتصد اجتمعت له، واللجاجة تُورث الضياع للأمور. غبُّ الأدب أحمَدُ من ابتدائه. مبادرة الفهم تُورث النسيان. سوء الاستماع يُعقب العي. لا تحدِّث من لا يُقبِل بوجهه عليك، ولا تُنصِت لمن لا ينمي بحديثه إليك. البلادة للرجل هُجنة. قلَّ مالكٌ إلا استأثر، وقلَّ عاجزٌ إلا تأخَّر. الإحجام عن الأمور يُورث العجز، والإقدام عليها يُورث اجتلاب الحظ. سوء الطُّعمة يُفسد العِرض، ويُخلِق الوجه، ويمحق الدين. الهيبة قرين الحِرمان، والجسارة قرين الظَّفر. وفيُّك من أنصفك، وأخوك من عاتَبك، وشريكك من وفى لك، وصفيُّك من آثَرك. أعدى الاعتداء العقوق. اتباع الشهوة يُورث الندامة، وفَوتُ الفرصة يُورث الحسرة. جِماع أركان الأدب التأتِّي للرِّفق. أكرم نفسك عن كل دنية وإن ساقَتك إلى الرغائب؛ فإنك لا تجد بما تبذل من دينك ونفسك عِوضًا. لا تُباعد النساء فيَملَلنك، واستبقِ من نفسك بقية؛ فإنهن إن يرَين أنك ذو اقتدارٍ خير من أن يطَّلعن منك على انكسار. لا تُملِّك المرأة الشفاعة لغيرها فتميل من شفعت لها عليك معها.

أي بني، إني قد اخترت لك الوصية، ومحضتك النصيحة، وأدَّيت الحق إلى الله في تأديبك؛ فلا تُغفلن الأخذ بأحسنها والعمل بها، والله موفِّقك.

قال الغنوي: احتضر رجل منَّا فصاحت ابنته، ففتح عينَيه وهو يكيد بنفسه، فقال:

عَزاءً لا أبا لكِ إنَّ شيئًا
تَولَّى ليسَ يُرجِعُه الحَنِينُ

قال بعض الشعراء:

وما إنْ قتَلْناهم بأكثرَ منهمُ
ولكنْ بأوفى بالطِّعانِ وأكرَما

المدائني قال: كان يُقال: إذا انقطع رجاؤك من صديقك فألحِقه بعدوِّك.

وقال عبد الملك بن صالح: لا يكبرنَّ عليك ظُلْم من ظَلَمك؛ فإنما سعى في مَضرَّته ونفعك.

وقال مصعب بن الزبير: التواضع أحد مصائد الشرف.

وقال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: إياك ومؤاخاة الأحمق؛ فإنه ربما أراد أن ينفعك فضرَّك.

وكانوا يقولون: عشرٌ في عشرةٍ هي فيهم أقبَحُ منها في غيرهم؛ الضِّيق في الملوك، والغدر في ذوي الأحساب، والحاجة في العلماء، والكذب في القُضاة، والغضب في ذوي الألباب، والسفاهة في الكهول، والمرض في الأطبَّاء، والاستهزاء في أهل البؤس، والفخر في أهل الفاقة، والشُّح في الأغنياء.

ووصف بعض الأعراب فرسًا فقال: قد انتهى ضموره، وذبل فريره، وظهر حصيره، وتفلقت غروره، واسترخت شاكلته، يُقبل بزور الأسد، ويُدبِر بعَجُز الذئب.

ومات ابن لسليمان بن علي فجزِع عليه جَزعًا شديدًا، وامتنع من الطعام والشراب، وجعل الناس يُعزُّونه فلا يحفل بذلك، فدخل عليه يحيى بن منصور فقال: عليكم نزل كتاب الله؛ فأنتم أعلم بفرائضه، ومنكم كان رسول الله ؛ فأنتم أعرف بسُنَّته، ولستَ ممن يُعلَّم من جَهْل، ولا يُقوَّم من عِوَج، ولكني أعزِّيك ببيت من شعر. قال: هاتِه. قال:

وهوَّنَ ما ألقى من الوَجدِ أنَّني
أُساكِنُه في دارِه اليومَ أو غَدا

قال: أعد. فأعاد، فقال: يا غُلام، الغداء.

قال: دعا أعرابي في طريق مكة فقال: هل من عائدٍ بفضل، أو مُواسٍ من كفاف؟ فأمسك عنه فقال: اللهم لا تِكلْنا إلى أنفُسنا فنعجز، ولا إلى الناس فنضيع.

قال أبو الحسن: جاء خلَف الأحمر إلى حلقة يونس حين مات أبو جعفر، فقال:

قد طرَقَت بنُكرِها بِنتُ طَبَقْ

فقال له يونس: ماذا؟ فقال:

فذمِّروها خَبرًا ضَخْمَ العَنَقْ

فقال يونس: وما هذا؟ فقال:

موتُ الإمامِ فِلقةٌ من الفِلَقْ

قال أبو الحسن: أراد رجلٌ أن يكذب بلالًا فقال له يومًا: يا بلال، ما سنُّ فرسك؟ قال: عَظْم. قال: فكيف جَريُه؟ قال: يحضر ما استطاع. قال: فأين تنزل؟ قال: موضعًا أضع فيه رِجلي. فقال له الرجل: لا أتعنَّتك أبدًا.

قال: ودخل رجل على شريح القاضي يُخاصم امرأة له، فقال: السلام عليكم. قال: وعليكم. قال: إني رجل من أهل الشام. قال: بعيدٌ سحيق. قال: وإني قدِمت إلى بلدكم هذا. قال: خيرَ مَقدم. قال: وإني تزوَّجت امرأة. قال: بالرِّفاء والبنين. قال: وإنها ولدت غلامًا. قال: ليَهنِك الفارس. وقال: وقد كنت شرطت لها صَداقها. قال: الشرط أمْلَك. قال: وقد أردت الخروج بها إلى بلدي. قال: الرجل أحَقُّ بأهله. قال: فاقضِ بيننا. قال: قد فعلت.

قال: وخرج الحجَّاج ذات يوم فأصحر، وحضر غداؤه فقال: اطلبوا من يتغدَّى معي. فطلبوا فإذا أعرابي في شَملة، فأُتي به، فقال: السلام عليكم. قال: هلمَّ أيُّها الأعرابي. قال: قد دعاني من هو أكرَمُ منك فأجبته. قال: ومن هو؟ قال: دعاني الله ربي إلى الصوم فأنا صائم. قال: وصوم في مِثل هذا اليوم الحار! قال: صمتُ ليومٍ هو أحرُّ منه. قال: فأفطِرِ اليوم وصُم غدًا. قال: ويضمن لي الأمير أني أعيش إلى غد؟ قال: ليس ذاك إليه. قال: فكيف يسألني عاجلًا بآجِل ليس إليه؟ قال: إنه طعامٌ طيِّب. قال: ما طيَّبه خبَّازك ولا طبَّاخك. قال: فمن طيَّبه؟ قال: العافية. قال الحجَّاج: بالله إنْ رأيت كاليوم! أخرِجوه.

قال أبو عمرو: خرج صعصعة بن صوحان عائدًا إلى مكة، فلقِيَه رجل فقال له: يا عبد الله، كيف تركت الأرض؟ قال: عريضةً أريضة. قال: إنما عنيت السماء. قال: فوق البشر، ومدى البصر. قال: سبحان الله، إنما أردت السحاب. قال: تحت الخضراء، وفوق الغبراء. قال: إنما أعني المطر، قال: قد عفا الأثر، وملأ القُتر، وبلَّ الوبر، ومُطِرنا أحيا المطر. قال: إنسيٌّ أنت أم جِنِّي؟ قال: بل إنسي، من أمَّة رجل مهدي .

وقال بشَّار:

وحمدٍ كبُردِ العَصبِ حمَّلتُ صاحِبي
إلى مَلِكٍ للصالِحِين قَرِينِ

وقال أيضًا:

وبِكرٍ كنُوَّارِ الرِّياضِ حديثُها
تَرُوقُ بوَجهٍ واضحٍ وقَوَامِ

(٥٢) كتاب من الحجَّاج إلى عبد الملك

وكتب الحجَّاج بن يوسف إلى عبد الملك بن مروان: أما بعد، فإنا نُخبِر أمير المؤمنين أنه لم يُصِب أرضَنا وابلٌ منذ كتبت أُخبره عن سُقيا الله إيَّانا، إلا ما بلَّ وجه الأرض من الطشِّ والرشِّ والرَّذاذ،١٠٠ حتى دُقِعت الأرض واقشعرَّت واغبرَّت،١٠١ وثارت في نواحيها أعاصير تذرو دِقاق الأرض من تُرابها، وأمسك الفلَّاحون بأيديهم من شدة الأرض واعتزازها١٠٢ وامتناعها، وأرضنا أرضٌ سريعٌ تغيُّرها، وشيكٌ تنكُّرها، سيئ ظنُّ أهلها عند قُحوط المطر، حتى أرسل الله بالقَبول يوم الجمعة، فأثارت زِبرِجًا مُتقطعًا مُتمصرًا،١٠٣ ثم أعقبته الشَّمال يوم السبت فطَحطَحت١٠٤ عنه جَهامه، وألَّفَت مُتقطِّعه، وجمعت متمصِّره، حتى انتضد فاستوى، وطما وطحا، وكان جونًا مُرْثعنًّا١٠٥ قريبًا رواعدُه، واعتدت عوائده بوابلٍ مُنهمِل مُنسجِل١٠٦ يردُف بعضه بعضًا، كلما أردف شؤبوبٌ١٠٧ ارتدفته شآبيب لشدة وَقْعه في العِراض.١٠٨

وكتبتُ إلى أمير المؤمنين وهي ترمي بمِثل قِطَع القطن قد ملأ اليَباب، وسدَّ الشِّعاب، وسقى منها كلُّ ساقٍ؛ فالحمد لله الذي أنزل غيثه، ونشر رحمته من بعد ما قنطوا، وهو الوليُّ الحميد. والسلام.

وهذا أبقاك الله آخِرُ ما ألَّفناه من كتاب «البيان والتبيين»، ونرجو أن نكون غير مقصِّرين فيما اخترناه من صنعته، وأردناه من تأليفه؛ فإن وقع على الحال التي أردنا، وبالمنزلة التي أمَّلنا، فذلك بتوفيق الله وحُسن تأييده، وإن وقع بخلافها فما قصَّرنا في الاجتهاد، ولكن حُرِمنا التوفيق، والله سبحانه وتعالى أعلم.

(تم الجزء الثالث من كتاب البيان والتبيين، وبتمامه تم الكتاب، ولله الحمد أولًا وآخرًا.)
١  قال، من القيلولة: النوم في الظهيرة.
٢  الجماز: هو ابن أخت سَلم الخاسر، كان شاعرًا جيِّد القريحة في الهجاء، وكان ظريفًا مستهترًا. هجا أبا العتاهية وعبد الصمد بن المعذَّل والجاحظ وغيرهم، فلم يقُم له منهم أحد. ومن أفضل ما قاله في أبي العتاهية قوله وقد دخل عليه وهو يُنشد قثم بن جعفر بن سليمان، فأنشأ يقول:
ما أقبَحَ التَّزهيدَ من واعظٍ
يُزهِّدُ الناسَ ولا يَزهَدُ
لو كانَ في تزهيدِه صادقًا
أضحى وأمسى بَيتُه المَسجدُ
يَخافُ أنْ تَنفَدَ أرزاقُه
والرِّزقُ عندَ اللهِ لا يَنفَدُ
والرِّزقُ مقسومٌ على مَن تَرى
يَنالُه الأبيَضُ والأسوَدُ
وهجا الجماز عبد الصمد بن المعذل بقوله:
ابنُ المعذَّلِ من هو
ومَن أبُوه المعذَّلُ
سألتُ وهبانَ عنه
فقالَ بيضٌ مُحوَّلُ
ووهبان هذا كان رجلًا يبيع الدجاج، فقال عبد الصمد يهجو الجماز:
نَسَبُ الجمَّازِ مقصو
رٌ إليه مُنتهاه
يتراءى نَسَبُ النا
سِ فما يَخفى سِواه
يَتحاجى في أبي الجمَّا
زِ من هو كاتِباه
ليس يَدري من أبو الجمَّا
زِ إلا من يراه
هذه رواية أبي الفرج. ومن الغريب أنَّ يموت بن المزرع روى هذا الشعر للجاحظ في الجماز كما أثبتناه في ترجمته في صدر الجزء الأول.
٣  سالم مولى أبي حذيفة بن عتبة: كان من كبار الصحابة، أصله من أهل إصطخر. آخى النبي بينه وبين أبي بكر. شهد المشاهد، وقُتل يوم اليمامة في حرب مُسيلمة الكذَّاب سنة ١١ﻫ/٦٣٢م.
٤  أبو الدرداء: اسمه عُويمر بن مالك، كان من الصحابة، وكان قبل إسلامه تاجرًا. مات بالشام سنة ٣٢ﻫ/٦٥٢م.
٥  أبو حازم الأعرج: اسمه سَلمة بن دينار مولى بني ليث بن بكر، وقد يُقال له أبو حازمٍ المدني. وكان أعرج، وكان قاصًّا بمسجد المدينة. مات سنة ١٤٢ﻫ/٧٥٩م.
٦  بكر بن عبد الله المزني: تابعيٌّ جليل، وهو من مزينة مضر. وكانت أمه موسرة وزوجها كثير المال. وكان بكرٌ حسن اللباس جدًّا. قيل: إن قيمة كُسوته أربعة آلاف درهم. وكان صالحًا تقيًّا. مات سنة ١٠٨ﻫ/٧٢٦م.
٧  مطرِّف بن عبد الله بن الشِّخِّير الحريشي، يُكنى أبا عبد الله. تابعي كانت لأبيه صحبة. وكان ينزل ماءً على ثلاث ليالٍ من البصرة يُقال له الشخير. مات في سنة ٨٨ﻫ/٧٠٦م.
٨  عامر بن عبد قيس: هو عامر بن عبد الله بن عبد القيس العنبري، يُكنى أبا عبد الله. كان فاضلًا خيِّرًا، وفصيحًا مفحمًا. سيَّره (نفاه) عبد الله بن عامر إلى الشام بأمر عثمان فمات هناك، وكان سبب تسييره أن حمران بن أبان كتب فيه أنه لا يأكل اللحم، ولا يغشى النساء، ولا يقبل الأعمال، فعرَّض بأنه خارجي. فكتب عثمان إلى ابن عامر أنِ ادعُ عامرًا؛ فإن كانت فيه هذه الخصال فسيِّره. فسأله فقال: أما اللحم فإني مررت بقصَّابٍ يذبح ولا يذكر اسم الله، فإذا اشتهيت اللحم اشتريت شاة فذبحتها، وأما النساء فإن لي عنهن شُغلًا، وأما الأعمال فما أكثر من تجدونه سواي. فقال له حمران: لا أكثر الله فينا أمثالك. فقال له عامر: بل أكثر الله فينا أمثالك كسَّاحين وحجَّامين.
٩  مؤرق العجلي: هو مؤرق بن المشمرج، يُكنى أبا المعتمر. عابدٌ صالح. مات سنة ١٠٥ﻫ/٧٢٣م.
١٠  ابن عون: هو عبد الله بن عون بن أرطبان، مزني بالولاء، يُكنى أبا عون. تقيٌّ صالح. مات سنة ١٥١ﻫ/٧٦٨م.
١١  علقمة: هو علقمة بن قيس النخعي، يُكنى أبا شبل. تقيٌّ صالح. مات سنة ٦٢ﻫ/٦٨٧م.
١٢  الأسود: هو الأسود بن يزيد بن قيس النخعي، يُكنى أبا عبد الرحمن. صالحٌ خيِّر. مات سنة ٧٤ﻫ/٦٩٣م.
١٣  محمد بن واسع بن جابر من الأزر، كان مع قُتيبة بن مُسلم بخراسان في غمار جنده، وكان في الزهد والعبادة أوحد زمانه. قال ابن قتيبة: مات سنة ١٢٠ﻫ/٧٣٧م.
١٤  ابن أبي بكرة: لعله عبيد الله بن أبي بكرة. قيل: كان جميلًا على شدة سواده، وكان شجاعًا باسلًا، وجوادًا كريمًا. أقطع عمر بن عبيد الله بن معمر القرشي سبعمائة جريب في دفعة (قلت: الجريب يختلف مقداره باختلاف الأقاليم؛ فبعض الناس يجعله ٣٦٠٠ ذراعًا، وبعضهم يجعله ١٠٠٠٠ ذراعًا أرضًا زراعية)، فحلف عمر أن لا يراه أبدًا إلا أخذ برِكابه. وكان عبد الملك ينعته ﺑ «سيِّد أهل الشرق». ولَّاه الحجَّاج سجستان، فغزا العدو، فأصابه وأصحابَه جوعٌ شديد فمات، وهلك معه خلقٌ كثير، وذلك في سنة ٧٨ﻫ/٦٩٧م، ورثاهم أعشى هَمدان بقوله:
أسَمِعتَ بالجَيشِ الذين تَمزَّقوا
وأصابَهم رَيبُ الزَّمانِ الأعوَجِ
لبِثوا بكابلَ يأكُلونَ خِيارَهم
في شرِّ مَنزلةٍ وشرِّ مُعرَّجِ
لم يَلقَ جيشٌ في البلادِ كما لَقُوا
فلِمِثلِهم قُل للنَّوائحِ تَنشجِ
أو لعله عبد الرحمن بن أبي بكرة، ولم أقف له على خبر فيما بين يدي من كُتُب.
١٥  أبو نضرة: هو المنذر بن مالك العوفي، كان لسِنًا بيِّنًا محبَّبًا إلى القلوب ورِعًا. مات سنة ١٠٤ﻫ/٧٢٢م.
١٦  ابن لسان الحمرة، قال ابن قُتيبة: هو ورقاء بن الأشعر، كان أنسب العرب وأعظمهم بصرًا.
١٧  سعيد بن وهب: كان كاتبًا بليغًا، وشاعرًا مطبوعًا، ونديمًا ظريفًا. نشأ بالبصرة، وأقام ببغداد مُختصًّا بالفضل بن يحيى البرمكي حظيًّا عنده. بَذل جُل شعره في الغزل والنسيب. وكان في أول أمره فاسقًا فاتكًا، ثم تاب ونسك وتزهَّد وأناب. ومات على مذهبٍ مَرْضي في عهد المأمون (انظر ترجمته بالأغاني، ج٢١).
١٨  أنس بن أبي شيخ: كان من بابة سعيد بن وهب، وكان مختصًّا بجعفر بن يحيى البرمكي، نديمًا له، حظيًّا عنده.
١٩  الزهري: هو محمد بن مُسلم القُرشي، كان من أعلام التابعين، رأى عشرة من الصحابة وسمع منهم، وروى عنه جماعة من الأئمة، منهم مالك بن أنس وسفيان الثوري وغيرهما. وكان إذا جلس في بيته وضع كُتبه حوله مُشتغلًا بها عن كل أحد، فقالت له زوجته: والله لهذه الكتب أشد عليَّ من ثلاث ضراير. مات سنة ١٢٤ﻫ/٧٤١م.
٢٠  ابن المبارك: هو أبو عبد الرحمن عبد الله بن المبارك، العالِم الفقيه الزاهد الورِع. تفقَّه على سفيان الثوري، وأخذ عن الأوزاعي، وروى الموطأ عن مالك بن أنس. كانت له منزلة في النفوس، وجلالة في القلوب. قدِم الرشيد الرقة وقدِمها في الوقت ابن المبارك، فانحفل الناس خلف ابن المبارك، وداس بعضهم بعضًا، وارتفعت الغبرة، فأشرفت جارية للرشيد، فلما رأت تجمُّع الناس قالت: ما هذا؟ قالوا: عالِم أهل خراسان قدِم الرقة. فقالت: هذا والله المُلْك لا مُلْك هارون الذي لا يجمع الناس إلا بشُرَط وأعوان. وكان ابن المبارك غازيًا، وله شعر. وُلد بمَرو سنة ١١٨ﻫ/٧٣٦م، وتُوفي بهيت سنة ١٨٢ﻫ/٧٩٨م.
٢١  الأوزاعي: هو أبو عمرو عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، الإمام الفقيه الحُجة الورِع. سمع من الزهري وعطاء وابن أبي كثير، وعنه أخذ الثوري وابن المبارك وخلقٌ كثير. كان مولده ببعلبك سنة ٨٨ﻫ/٧٠٦م، وتُوفي ببيروت سنة ١٥٧ﻫ/٧٧٣م.
٢٢  مكحول: هو مكحول الشامي، أصله من كابل، مولًى من موالي العرب. كان تقيًّا ورِعًا. مات سنة ١١٣ﻫ/٧٣١م.
٢٣  يونس بن عبيد: أصله من عبد القيس، كان تقيًّا ورِعًا. مات سنة ١٣٨ﻫ/٧٥٥م.
٢٤  محمد بن المنكدر بن هدير، من بني تيم قُريش رهط أبي بكر الصدِّيق. كان تقيًّا فاضلًا. مات سنة ١٣١ﻫ/٧٤٨م.
٢٥  محمد بن يسير، وفي الأغاني: ابن بشير الرياشي، وهذا تصحيف، والصواب ابن يسير كما ذكره الجاحظ، وكذلك هو عند المبرد. شاعرٌ ظريف مُقلٌّ من شعراء المُحدَثين، لم يُفارق البصرة، وكان ماجنًا هجَّاءً خبيثًا. وهذان البيتان اللذان أوردهما له الجاحظ من أبياتٍ رواها المبرد هكذا:
وَيلٌ لمَن لم يَرحَمِ اللهُ
ومن تَكُونُ النارُ مَثْواه
يا حَسْرتي في كلِّ يَومٍ مَضى
يُذكِّرُني الموتُ وأنْساه
من طالَ في الدُّنيا به عُمرُه
وعاشَ فالموتُ قَصاراه
كأنَّه قد قِيلَ في مَجلِسٍ
قد كنتُ آتِيه وأغْشاه
صارَ اليسيريُّ إلى ربِّه
يَرحَمُنا اللهُ وإيَّاه
٢٦  قوله: وقال الآخر: قد روى هذه الأبيات أبو الفرج الأصبهاني لمحمد بن يسير نفسه. قال: قال محمد بن سعد: كنَّا في حلقة التوزي، فلما تقوَّضت أنشدنا محمد بن يسير لنفسه:
جُهدُ المُقِلِّ إذا أعطاه مُصطبرًا
أو مُكثِرٌ من غِنًى سِيَّانِ في الجُودِ
لا يَعدِمُ السائلونَ الخيرَ أفعَلُه
إما نِوالٌ وإما حُسنُ مَردودِ
٢٧  ابن عامر: هو عبد الله بن عامر بن كُريز العَبشمي. كان من شُجعان الصحابة وخيارهم، فتح عامة فارس وخراسان وسجستان وكابل. واتخذ النباج وغرس فيها، فهي تُدعى نباج ابن عامر. واتخذ القريتَين، وغرس بها نخلًا، وأنبط عيونًا تُعرف بعيون ابن عامر، بينها وبين النباج ليلة على طريق المدينة، وحفر الحفير، ثم حفر السمينة، واتخذ بقرب قباء قصرًا، وجعل فيه زنجًا ليعملوا فيه فماتوا فتركه، واتخذ بعرفات حياضًا ونخلًا، وولي البصرة لعثمان بن عفان فاحتفر بها نهرَين، وحفر نهر الأُبلة. وكان يقول: لو تُركت لخرجت المرأة في حداجتها على دابتها ترِد كل يوم ماءً وسوقًا حتى تُوافيَ مكة. وكان علي بن أبي طالب يقول عنه: إنه فتى قريش. مات سنة ٥٩ﻫ/٦٧٨م.
٢٨  عامر: هو عامر بن عبد قيس المار ذِكره.
٢٩  مساور الوراق: هو مساور بن سوار بن عبد الحميد. شاعرٌ كوفي ظريف من أصحاب الحديث ورُواته، روى عن صدر من التابعين، وروى عنه وجوه أصحاب الحديث. وهذه الأبيات التي رواها له الجاحظ رواها أبو الفرج الأصبهاني بسنده مع زيادة وتغيير قليل، وهي:
شَمِّرْ ثِيابَك واستعِدَّ لقائلٍ
واحكُكْ جبينَك للعُهودِ بثُومِ
إنَّ العُهودَ صَفَت لكلِّ مُشمِّرٍ
دبرِ الجبين مُصفرٍ موسومِ
أحسِنْ وصاحِبْ كلَّ قارٍ ناسكٍ
حَسنِ التعهُّدِ للصلاةِ صئومِ
من ضَربِ حمَّادٍ هناك ومسعرٍ
وسماكٍ العتكيِّ وابنِ حكيمِ
وعليك بالغنويِّ فاجلِسْ عندَه
حتى تُصيبَ وديعةً ليَتيمِ
تُغنِيك عن طلبِ البُيوعِ نسيئةً
وتكفُّ عنك لسانَ كلِّ غريمِ
وإذا دخلتَ على الربيعِ مسلِّمًا
فاخصُصْ شبابةَ منكَ بالتسليمِ
٣٠  سعيد بن المسيب: كان أفقه أهل الحجاز، وأعبر الناس للرؤيا، وقد جمع بين الحديث والفقه والنسك والتعبير. وُلد سنة ١٣ﻫ/٦٣٤م، ومات سنة ٩٤ﻫ/٧١٢م.
٣١  أبو عثمان النهدي: هو عبد الرحمن بن مل من قضاعة، أدرك النبي ولم يرَه. شهد فتح القادسية وجلولاء وتستر ونهاوند واليرموك وأذربيجان. وكان يسكن الكوفة، فلما قُتل الحسين بن علي تحوَّل إلى البصرة، وبها مات سنة ٧٥ﻫ/٦٩٤م.
٣٢  مسور بن مخرمة: هو المسور بن مخرمة بن نوفل بن عبد مناف. أمه أخت عبد الرحمن بن عوف. كان يُعدل بالصحابة وليس منهم. قال يومًا: إن يزيد بن معاوية يشرب الخمر. فجَلَده معاوية الحد، فقال:
أيَشرَبُها صِرفًا يَفتُّ ختامَها
أبو خالدٍ ويُجلَد الحدَّ مِسورُ؟
وكان مع ابن الزبير بمكة فأصابه حجر فمات سنة ٦٤ﻫ/٦٨٣م.
٣٣  السكان: دفة السفينة.
٣٤  مرثوم: مكسور.
٣٥  القصر: الأعناق الغلاظ؛ يعني أنهم في تمام الخلق.
٣٦  الخبرنج: المرأة الناعمة.
٣٧  ابن سيابة: هو إبراهيم بن سيَّابة مولى بني هاشم. كان شاعرًا من مُتوسطي شعراء وقته، غير نابه الذِّكر ولا شريف الشعر، وإنما اختص بمودته ومدائحه إبراهيم الموصلي وابنه إسحاق، فكانا يتغنَّيان بشعره، ويُشيدان بذِكره، ويذكرانه للخلفاء والوزراء، ويُسببان له بذلك النفع والعطاء الجزيل. وكان مع هذا ماجنًا خليعًا طيب النادرة. عُوتِب يومًا على مجونه وعبثه، فقال: ويلكم، لَأن ألقى الله تبارك وتعالى بذلِّ المعاصي فيرحمني أحَبُّ إليَّ من أن ألقاه أتبختر دلالًا بحسناتي فيمقتني. وكتب يومًا إلى صديق له يقترض منه شيئًا، فكتب إليه يعتذر له ويحلف أنه ليس عنده ما سأله، فكتب إليه: إن كنت كاذبًا فجعلك الله صادقًا، وإن كنت ملومًا فجعلك الله معذورًا. وروى له صاحب الأغاني هذه الكلمة: إذا كانت في جيرانك جنازة وليس في بيتك دقيق فلا تحضر الجنازة؛ فإن المصيبة عندك أكبر منها عند القوم، وبيتك أولى بالمأتم من بيتهم. قلت: وهذه الكلمة قد رُويت لإبراهيم النظَّام أحد شيوخ المعتزلة، وهي بالنظَّام أشبه (راجع ص٧٨ من الجزء الأول من البيان والتبيين)، وأحب ابن سيَّابة جاريةً سوداء فلِيمَ عليها وعوتب، فقال:
يكونُ الخالُ في وجهٍ قبيحٍ
فيَكسوه الملاحةَ والجمالا
فكيف يُلامُ معشوقٌ على من
يَراها كلَّها في العَينِ خالا؟
ومن قوله:
أعياني الشَّادنُ الربيبُ
أكتبُ أشكو فلا يُجيبُ
من أينَ ألقى شفاءَ ما بي
وإنَّما دائي الطبيبُ
يا ربِّ فرِّج إذًا وعجِّل
فإنَّك السامعُ المُجيبُ
ويحيى بن خالد بن برمك كان إليه الأمر والنهي وتصريف أمور الدولة العبَّاسية في عهد هارون الرشيد، وكان من النُّبل والعقل وجميل الخِلال على أكمل ما يكون عليه الرجل، وكان من البُلغاء الأبيِناء، والكِرام الأسخياء. وكان المأمون يقول: لم يكن كيحيى بن خالد وكولده — الفضل وجعفر ومحمد وموسى — أحد في الكفاية والبلاغة والجود والشجاعة. وكان مولد يحيى في سنة ١٢٠ﻫ/٧٣٧م، ومات في حبس الرشيد حينما نكب البرامكة سنة ١٩٠ﻫ/٨٠٥م.
٣٨  في خطار: في مراهنة، وكان في الأصل: في حظار، وما اخترناه أجود.
٣٩  عاقصًا قرنه: يعني متغطرسًا متعجرفًا. يركب الصعوبة ويقول هي أسهل: الذي في النهج: يركب الصعب ويقول هو الذلول.
٤٠  فما عدا مما بدا، كان في الأصل: بدا لك، والتصويب عن النهج. قال الشريف الرضي: هو أول من سمعت منه هذه الكلمة، أعني فما عدا مما بدا. والمعنى: ما الذي صرفك عما كان بدا وظهر منك.
٤١  حديت تيم حداء عصبصبا: يعني سيقت سوقًا شديدًا.
٤٢  فلا يضغمن: فلا يعضن. الفريس المنيب: المقتول بالناب.
٤٣  الهجل: المطمئنُّ من الأرض. قسًا: اسم مكان. ذفر الخزامى: منتشر فيه ريح الخزامى. قال أبو حنيفة: والخزامى عشبة طويلة العيدان، صغيرة الورق، حمراء الزهور، طيبة الريح، لها نَور كنور البنفسج. والجربياء: ريح تهبُّ بين الصَّبا والجنوب.
٤٤  تتزخر القلع السواري: تجتمع السحب السارية. والخازبار: ضرب من ذباب الرياض.
٤٥  الشنفرى: هو الذي يُضرَب به المثل في العَدْو فيُقال: أعدى من الشنفرى. وهو من الأزد، وكان من شياطين العرب وأصحاب الغارات فيهم، وكان مع هذا شاعرًا، وإليه تُنسَب اللامية المعروفة بلامية العرب. وقال أبو بكر بن دُرَيد: إن القصيدة المنسوبة إلى الشنفرى التي أولها:
أقيموا بني أمِّي صدورَ مَطِيِّكم
فإنِّي إلى قومٍ سِواكم لأميلُ
هي لخلف الأحمر. قال: وهي من المقدَّمات في الحسن والفصاحة والطول.
٤٦  أبو الحارث جمين: زعم الفيروزآبادي أن المحدثين أخطئوا في اسمه، والصواب عنده أن اسمه جميز، مُستشهدًا على ذلك بقول أبي بكر بن مقسم:
إنَّ أبا الحارث جميزا
قد أُوتي الحكمةَ والميزا
وعندي أن الاسم جمين صحيح، وما سمَّاه هذا الشاعر جميزًا إلا من باب التندر به والتلاعب باسمه لغرابته.
٤٧  الحسين بن مطير الأسدي: أسدي بالولاء. كان شاعرًا راجزًا فصيحًا متقدمًا، من مُخضرَمي الدولتين الأموية والعباسية. وكان يذهب في زيه وفي كلامه مذهب الأعراب وأهل البادية. قال أبو عُبيدة: والله لوددت أن الشعراء قاربت الحسين بن مُطَير في قوله:
مخصرةُ الأوساطِ زانت عقودَها
بأحسنَ ممَّا زيَّنَتها عقودُها
بصُفرٍ تَراقيها وحُمْرٍ أكُفُّها
وسُودٍ نواصيها وبِيضٍ خُدودُها
٤٨  معن: هو معن بن زائدة الشيباني. كان من كبار الولاة في الدولتين الأموية والعباسية. وكان شجاعًا بطلًا وفارسًا مغوارًا وجوادًا كريمًا، وكان شاعرًا مُبينًا. ولَّاه أبو جعفر المنصور سجستان بعد أن رضي عنه، وله فيها آثار وأحوال، وقصده بها الشعراء، فكان يُجيزهم ويُجزِل لهم العطاء. وبينا كان في داره صُناع يعملون له بعض الإصلاح اندسَّ بينهم جماعة من الخوارج فقتلوه وهو يحتجم، فتتبَّعهم ابن أخيه يزيد بن مزيد بن زائدة حتى قتلهم بأسرهم، وكان قتله بمدينة بست سنة ١٥١ﻫ/٧٦٨م.
٤٩  مسلم بن الوليد: يُلقَّب صريع الغواني. كان مولى الأنصار، وكان شاعرًا مُبدِعًا، كثير الافتنان، حسن التصرُّف في القول، وكان من مُتقدمي شعراء الدولة العباسية. وُلد ونشأ بالكوفة. وكان هو وأخوه سليمان الأعمى مُنقطعين إلى يزيد بن مزيد الشيباني ومحمد بن منصور بن زياد، ثم اختص بعد ذلك بالفضل بن سهل، فقلَّده الفضل ديوان المظالم بجرجان، وبها تُوفي سنة ٢٠٨ﻫ/٨٢٣م. وترجمة مسلم مبسوطة بسطًا كافيًا في كتاب «مهذب الأغاني»، فليرجع إليها هناك من شاء.
٥٠  يزيد بن مزيد: كان ابن أخي مَعن بن زائدة المار ذِكره، وكان من الأمراء المشهورين، وكان من الشجاعة والكرم في الذروة. ولَّاه الرشيد أرمينية ثم ضم إليه أذربيجان. ولولا يزيد وبلاؤه في محاربة الوليد بن طريف الشيباني الخارج على سلطان الرشيد لكان للدولة العباسية من الشأن غير شأنها، ولبلغ البرامكة منها ما أرادوا. تُوفي يزيد سنة ١٨٥ﻫ/٨٠١م.
٥١  في الأصل: ببرذعة، وقد ضبطها ابن خَلِّكان بالدال فجارَيناه. الذي في الأمالي: قبر بحلوان أسر ضريحه.
٥٢  الذي في وَفَيات الأعيان وفي مهذب الأغاني: أبقى الزمان على ربيعة.
٥٣  الذي بالأمالي:
نفضت بك الأحلاس نفضَ إقامةٍ
واستعجلت نُزاعَها الأمصارُ
والذي في المهذب: واسترجعت رؤادها. والذي في وفيات الأعيان:
نقضت بك الأحلاس آمال الغنى
واسترجعت زوارها …
٥٤  ليس في الأصل اسم الشاعر، لا نكرة ولا معرفة، فأثبتناه. ولهذه الأبيات قصةٌ لطيفة ذكَرها صاحب الأمالي في الذيل بسنده، قال: حدَّثني مجمع بن يعقوب الأنصاري، قال: أدركت حسان بن الغدير شيخًا كبيرًا من أجمل الشيوخ وأحسنهم، فحدَّثني قال: سارت سائرة من بني جشم بن بكر، فرأيت فيهم فتاةً ما رأيت في نساء العرب مثلها حسنًا، فكنت أخطبها، فلم يُقدر لي تزويجها، فضرب الدهر بيننا، فإني بعد ذلك بأربعين سنةً لفي بلادي إذ أهلوها قد ساروا، وإذا بها عجوزٌ تسأل عني، فلما دُفعت إليَّ ورأت كِبَري قالت: أأنت ابن الغدير؟ فقلت: نعم. قالت: لقد أكل الدهر عليك وشرِب! قال: فذلك قولي فيها، وقد كبرت أيضًا وتغيَّرت: قالت أمامة … إلخ.
 تغير، في ذيل الأمالي: تنكر.
٥٥  الذي في ذيل الأمالي:
أصبحتَ بعدَ شبابِك الغضِّ الذي
ولَّت شبيبتُه وغُصنُك أخضَرُ
٥٦  وبعد هذا البيت الذي في الأصل قوله:
فأجبتُها أنْ مَن يُعمَّرْ يَعترفْ
ما تَزعُمِينَ وينبُ عنه المَنظرُ
ولقد رأيتُ شبيهَ ما عيَّرتِني
يَسْري عليَّ به الزمانُ ويبكرُ
وجعلتُ يُغضبُني اليسيرُ وملَّني
أهلي وكنتُ مُكرَّمًا لا أكهرُ
وشرِبتُ في القَعبِ الصغيرِ وقادَني
نحوَ الجماعةِ من بَنيَّ الأصغرُ
٥٧  راجع القصيدة بتمامها في هامش رقم ٢٣ [الجزء الثاني – باب اللحن – (٥) رجعٌ إلى النَّوكى، الهامش رقم ٤٤].
٥٨  يعني عبد الله بن عمر بن عبد العزيز.
٥٩  يعني الإمام عليًّا كرَّم الله وجهه.
٦٠  الإلة: هنا بمعنى الحِلف أو القرابة. والذمة: العهد.
٦١  الدين: الجزاء.
٦٢  الذي في ديوان سلامة بن جندل المطبوع في بيروت:
سأجزيك بالقدِّ الذي قد فكَكتَه
سأجزيك ما أبلَيتَنا العامَ صَعصَعا
٦٣  رواية الديوان هكذا:
فإنْ يكُ محمودٌ أباك فإنَّنا
وجَدْناك منسوبًا إلى الخيرِ أروَعا
٦٤  رواية الديوان هكذا:
وإنْ شئتَ أهدَينا ثناءً ومِدحةً
وإنْ شئتَ عدَّينا لكم مائةً معا
٦٥  أبو المثلم الهذلي: هو أحد شعراء هُذيل المعدودين، كان بينه وبين صخر بن عبد الله الخيثمي الهذلي المعروف بصخر الغي تنافُس، وكان صخر خليعًا ذا بأس وشر، ومن شره أنه عمد إلى رجلٍ مُزني كان جارًا لبني خناعة بن سعد بن هذيل فقتله، فأخذ أبو المثلَّم يُحرض قومه على مطالبته بدم جارهم المزني، فبلغ ذلك صخرًا فقال يذكر أبا المثلم وما فعله:
إني بدهماءَ عزَّ ما أجِدُ
عاوَدني من حبِّها زُؤَدُ
عاوَدني حبُّها وقد شحطت
صرفٌ نَواها فإنني كَمِدُ
فلستُ عبدًا للمُوعِدِين ولا
أقبَلُ ضَيمًا أوتي به أحدُ
جاءت كبير كيما أخفرَها
والقومُ صِيدٌ كأنهم رمدوا
في المُزني الذي حششت به
مالُ ضريك تِلادُه نَكِدُ
إن امتسكه فبالغداءِ وإن
أُقتلْ بسيفي فإنه قَوَدُ
فردَّ عليه أبو المثلم بقصيدة منها البيت الذي في الأصل.
٦٦  الهذلي: هو أبو العيال الهُذلي، وقد مرَّت ترجمته في ص٢١ من الجزء الأول.
٦٧  رواية الأصبهاني: طول الليل أكتئب.
٦٨  رواية الأصبهاني: إذا رهبوا.
٦٩  رواية الأصبهاني: فتًى للحرب.
٧٠  رواية الأصبهاني:
فكنتَ فَتاهمُ فيها
إذا يُدعى لها يَثِبُ
٧١  آكل المرار الملك: هو الحارث بن عمرو الكندي جد امرئ القيس، وكان ابن هبولة الغساني سبى امرأته فلحقه الحارث فقتله وارتجع المرأة، وكان قد نال منها، فقال لها: هل كان أصابك؟ قالت: نعم والله ما اشتملت النساء على مِثله. فأوثقها بين فرسين، ثم استحفزهما حتى قطعاها، وقال الأبيات.
٧٢  ويُروى: بود.
٧٣  ويُروى:
كلُّ أنثى وإنْ بَدا لك منها
آيةُ الودِّ حُبُّها خَيتَعورُ
والخيتعور: الكثير التقلب لا يدوم على حال.
٧٤  طُفيل الغنوي: هو طُفيل بن عوف بن غني بن أعصر بن سعد بن قيس عيلان، شاعرٌ جاهلي معدود. كان وصَّافًا للخيل مُجيدًا. قال قتيبة بن مسلم لأعرابي من غني قدِم عليه خراسان: أي بيت قالته العرب أعف؟ قال: قول طُفيل:
ولا أكونُ وِكاءَ الزادِ أحبسُه
لقد علِمتُ بأنَّ الزادَ مأكولُ
قال: فأي بيت قالته العرب في الحرب أجوَد؟ قال: قول طُفيل:
بجيشٍ إذا قيلَ اركبوا لم يَقُلْ لهم
عَواوينَ يخشَونَ الرَّدى أينَ نَركَبُ
قال: فأي بيت قالته العرب في الصبر أجود؟ قال: قول نافع بن خليفة الغنوي:
ومن خيرِ ما فينا من الأمرِ أنَّنا
متى ما نُوافي مَوطِنَ الصَّبرِ نَصبِرِ
قال قتيبة: فما تركت لإخوانك من باهلة؟ قال: قول صاحبهم:
وإنَّا أُناسٌ ما تزالُ سوامُنا
تنوِّرُ نيرانَ العدوِّ مَناسمُه
وليس لنا حيٌّ نُضافُ إليهمُ
ولكنْ لنا عُودٌ شديدٌ شكائمُه
٧٥  علقمة بن عبدة: هو المعروف بعلقمة الفحل، شاعر من فحول شعراء الجاهلية ومقدَّميهم. مات سنة ٦٢٥م. والأبيات التي رواها الجاحظ في الأصل هي من قصيدةٍ بارعة مَطلعُها:
طَحا بِكَ قلبٌ في الحِسانِ طَرُوبُ
بُعَيدَ الشَّبابِ عَصْرَ حانَ مَشِيبُ
وهي طويلة، ارجع إليها في المفضليات مشروحةً بقلمنا شرحًا وافيًا.
٧٦  أبو حزابة: هو الوليد بن حنيفة التميمي، شاعر من شعراء الدولة الأموية. كان من أهل البادية فتحضَّر وسكن البصرة، ثم اكتُتب في بعث سجستان، فكان بها مدة ثم عاد إلى البصرة. وكان شاعرًا راجزًا فصيحًا، خبيث اللسان هجَّاءً. ثم خرج مع ابن الأشعث وقُتل معه سنة ٨٣ﻫ/٧٠٢م. وكان ابن ناشرة معه بسجستان، وقُتل في فتنة ابن الزبير.
٧٧  ويُروى: وحردوا، بدل ورفعوا.
٧٨  ويُروى:
أمَا كان فيهم ماجدٌ ذو حفيظةٍ
يَرى الموتَ في بعضِ المَواطنِ أفخَرا؟
٧٩  خلط صاحب الأغاني هذا البيت بالبيت بعده ورواه هكذا:
يكرُّ كما كرَّ الكُليبيُّ مُهرَه
وما كرَّ إلا خشيةً أنْ يُعيَّرا
ومن هذه القصيدة قوله:
لَعَمْري لقد هدَّت قُرَيشٌ عُروشَنا
بأبيضَ نفَّاحِ العشيَّاتِ أزهَرا
فلا صُلْحَ حتى تَزحَفَ الخيلُ والقنا
بنا وبكم أنْ يصدرَ الأمر مَصدرا
٨٠  الهذلي: هو أبو المثلم المار ذِكره قريبًا. وهذا البيت من أبياتٍ يرثي بها صخر الغي لما قُتل، وأولها حسب رواية صاحب الأغاني:
لو كانَ للدَّهرِ مالٌ كانَ قلَّدَه
لكانَ للدَّهرِ صخرٌ مالَ قُنيانِ
آبِي الهضيمةِ نابٍ بالعظيمةِ مِتـ
ـلافُ الكريمةِ لا نِكسٌ ولا وانِ
حامي الحقيقةِ نسَّالُ الوريقةِ مِعـ
ـقالُ الوسيقةِ جَلْدٌ غيرُ ثِنيانِ
ربَّاءُ مَرقبةٍ منَّاعُ مَغلبةٍ
ركَّابُ سَلهبةٍ قطَّاعُ أقرانِ
هبَّاطُ أودِيةٍ شهَّادُ أندِيةٍ
حمَّالُ ألوِيةٍ سِرحانُ فِتيانِ
يحمي الصِّحابَ إذا جدَّ الضِّرابُ ويَكْـ
ـفي القائلين إذا ما كُبِّل العاني
ويتركُ القِرنَ مُصفرًّا أناملُه
كأنَّ في رَيطتَيه نَضخُ أرقانِ
٨١  وبعد الأبيات السابقة روى صاحب الأغاني هذا البيت هكذا:
يُعطيك ما لا تكادُ النفسُ تُسلِمُه
من التِّلادِ وَهُوبٌ غيرُ منَّانِ
٨٢  ابن وهيب: هو محمد بن وهيب الحِميري، شاعر من متوسطي شعراء الدولة العباسية، أصله من البصرة وسكن بغداد. وكان مختصًّا بالحسن بن سهل، وكان يتشيع، وهو من مؤدِّبي الفتح بن خاقان.
٨٣  أبو عطاء السندي: هو أفلح بن يسار مولى بني أسد، شاعر من شعراء الدولتين، له مدائح في بني أمية وبني العباس. وكان ألثغ ألكن لا يكاد يُبين، وكان مع هذا من أحسن الناس بديهةً وأشدهم عارضة. وكان له غلامٌ فصيح سمَّاه عطاءً وتكنَّى به، فكان يروِّيه أشعاره فيُنشِدها بين يدَي من ينتجعه. مات في أواخر عهد المنصور سنة ١٦٨ﻫ/٨٠٢م.
٨٤  رواية الأغاني: ثم قم صاغرًا وأنت ذميم، على الإقواء.
٨٥  رواية الأغاني:
لا أحب النديم يومض بالطَّرْ
فِ إذا ما خلا لعِرسِ النديم
٨٦  ابن كناسة: هو محمد بن كناسة عبد الله بن عبد الأعلى الأسدي، يُكنى أبا يحيى، وكان ابن أخت إبراهيم بن أدهم الزاهد العابد المشهور. كان شاعرًا من شعراء الدولة العباسية، وُلد ونشأ بالكوفة. وكان تقيًّا صالحًا لا يمدح ولا يهجو. وقد رُوي عنه شيء من الحديث. وكانت له جارية شاعرة مغنِّية يُقال لها دنانير، وكان أهل الأدب وذوو المروءة يقصدونها للمذاكرة والمساجلة في الشعر. مات سنة ٢٠٧ﻫ/٨٢٢م.
٨٧  عبد الرحمن بن الحكم — كان في الأصل: ابن الحكيم — هو ابن أبي العاص بن أمية، يُكنى أبا مطرف. شاعر إسلامي من متوسطي شعراء زمانه.
٨٨  الرماح بن ميادة: هو الرماح بن أبرد بن ثوبان المري، يُكنى أبا شرحبيل، وميادة أُمه غير عربية. كان شاعرًا مقدَّمًا من شعراء الدولتين الأموية والعباسية.
٨٩  مزدك، ويقال: مردك. ظهر هذا الزنديق في أيام قباذ بن فيروز من ملوك الفرس الساسانية، وادعى النبوة وأنَّ رسالته تنحصر في التساوي والتشارك بين الناس في أموالهم ونسائهم، وأجابه قباذ إلى دعوته، ولقي الناس من ذلك الأمَرَّين. ولما تولى أنوشروان بن قباذ قتل مردك، وتتبَّع المزدكية حتى أتى عليهم تقتيلًا وتشريدًا، وردَّ الأمور إلى نِصابها.
٩٠  كعب الأشقري: هو كعب بن معدان الأشقري الأزدي. شاعرٌ مُجِيد، وخطيبٌ بليغ، وفارسٌ شجاع. كان من أصحاب المهلَّب الذين أبلَوا بين يديه في حروب الأزارقة خير بلاء. قال الفرزدق: شعراء الإسلام أربعة؛ أنا، وجرير، والأخطل، وكعب الأشقري. مات مقتولًا بيد أخ له من أمه بعمان سنة ١٠٢ﻫ/٧٢٠م.
٩١  السيد الحميري: هو إسماعيل بن محمد بن يزيد الحميري، والسيد لقبه، ويُكنى أبا هاشم. شاعرٌ مُتقدم مطبوع. قيل إن أكثر الناس شعرًا في الجاهلية والإسلام ثلاثة؛ بشار، وأبو العتاهية، والسيد. وكان السيد غاليًا في التشيُّع، وكان يذهب مذهب الكيسانية، ويقول بإمامة محمد بن الحنفية. ومن أرَقِّ ما رُوي له قوله:
ما جَرَت خَطرةٌ على القلبِ منِّي
فيك إلا استترتُ عن أصحابي
من دموعٍ تَجري فإنْ كنتُ وَحدي
خاليًا أسعَدتُ دُموعي انتحابي
إنَّ حبِّي إيَّاك قد سلَّ جِسمي
ورماني بالشَّيبِ قبلَ الشَّبابِ
لو مُنِحتُ اللِّقا شَفى بك صبًّا
هائمَ القلبِ قد ثوى في التُّرابِ
٩٢  ابن أذينة: هو عُروة بن أذينة الليثي الكناني، يُكنى أبا عامر. شاعرٌ غزِل مُتقدم من شعراء المدينة. وهو يُعَد من الفقهاء والمحدِّثين، روى عنه مالك بن أنس، وعبد الله بن عمر العدوي. وقفت سُكينة بنت الحسين على عروة يومًا فقالت: يا أبا عامر، أنت الذي تزعم أن لك مروءة، وأن غزلك من وراء عفة، وأنك تقي؟ قال: نعم. قالت: أفأنت الذي تقول:
قالت وأبثَثتُها وَجْدي فبُحتُ به
قد كنتَ عِندي تُحبُّ السِّترَ فاستترِ
ألستَ تُبصِرُ من حَوْلي فقلتُ لها
غطَّى هواك وما ألقى على بَصَري
قال لها: بلى. فقالت: جواري حرائر إن كان هذا خرج من قلبٍ سليم.
٩٣  إبراهيم بن السندي: والسندي بن شاهك. كان، كما قال عنه الجاحظ، رجلًا لا نظير له، وكان خطيبًا، وكان ناسبًا، وكان فقيهًا، وكان عروضيًّا، وحافظًا للحديث، رواية للشعر شاعرًا، وكان فخم الألفاظ، شريف المعاني، وكان كاتب القلم، كاتب العمل، وكان يتكلم بكلام رؤبة، ويعمل في الخراج بعمل زاذان فروخ الأعور، وكان مُنجمًا طبيبًا.
وكان من رؤساء المتكلمين، عالِمًا بالدولة، شديد الحب لأبناء الدعوة. وكان أحفظ الناس لما سمع، وأقلهم نومًا، وأصبرهم على السهر. لو قلت: لسانه كان أرد على هذا الملك من عشرة آلاف سيف شهير وسِنان طرير، لكان ذلك قولًا ومذهبًا.
٩٤  أحمد بن أبي دؤاد: كان من ذوي المروءة والعصبية، وكان من أصحاب واصل بن عطاء المعتزلي، ويُعَد من رءوس أهل الكلام، وكان خطيبًا بليغًا وشاعرًا فصيحًا، وهو أول من افتتح الكلام مع الخلفاء. ومن كلامه: ليس بكاملٍ من لم يحمل وليَّه على مِنبر ولو أنه حارس، وعدوَّه على جذع ولو أنه وزير. وكان من جُلساء المأمون ثم من خاصَّة المعتصم، وقد ولَّاه المعتصم القضاء خلفًا ليحيى بن أكثم، وكان ممن أعان على فتنة القول بخلق القرآن، ومدحه أبو تمَّام فقال:
لقد أنسَتْ مَساويَ كلِّ دَهرٍ
مَحاسنُ أحمدَ بنِ أبي دؤادِ
وما سافرتُ في الآفاقِ إلا
ومن جَدواك راحِلتي وزادي
وكان بين القاضي أحمد بن أبي دؤاد وبين الوزير محمد بن عبد الملك الزيَّات منافسات، وكان الجاحظ في جانب ابن الزيَّات. ولما نُكب ابن الزيَّات، ورضي ابن أبي دؤاد عن الجاحظ، وضع له الجاحظ كتاب «البيان والتبيين»، وأهداه إليه، فأجازه ابن أبي دؤاد عليه بمبلغ خمسة الآلاف دينار. تُوفي سنة ٢٤٠ﻫ/٨٥٤م.
٩٥  راجع القصيدة التي منها هذا البيت بالمفضليات مشروحةً بقلمنا.
٩٦  وقد يُنسب هذا الشعر إلى قتيلة أخت النضر.
٩٧  وقد روى القالي هذه الرواية بسنده عن أبي عُبيدة قال: لما هلك أبان بن الحجَّاج وأمه أم أبان بنت النعمان بن بشير، فلما دفنه قام الحجَّاج على قبره فتمثَّل بقول زياد الأعجم:
الآنَ لمَّا كنتَ أكمَلَ من مَشى
وافترَّ نابُك عن شَباةِ القارحِ
وتَكامَلَت فيك المُروءةُ كلُّها
وأعَنتَ ذلك بالفَعَالِ الصالحِ
فلما انصرف إلى منزله قال: أرسلوا خلف ثابت بن قيس الأنصاري. فأتاه، فقال: أنشِدني مَرثيَّتك في ابنك الحسن. فأنشده:
قد أكذَبَ اللهُ من نعى حَسنًا
ليس لتكذيبِ مَوتِه ثَمنُ
أجُولُ في الدارِ لا أراكَ وفي الدا
رِ أُناسٌ جِوارُهم غَبنُ
بُدِّلتُهم منكَ ليتَ أنَّهمُ
أضحَوا وبيني وبينهم عَدنُ
قلت: والبيتان اللذان أتى بهما الجاحظ في الأصل هما من قصيدةٍ بالغة حدَّ الإجادة الأقصى، قالها زياد الأعجم يرثي بها المغيرة بن المهلَّب بن أبي صُفرة، وهي مُثبَتة بأكملها في ذيل الأمالي.
٩٨  رملة ميعاس: قد سحها المطر.
٩٩  عبد الملك بن صالح: هو عبد الملك بن صالح بن علي بن عبد الله بن عبَّاس، يُكنى أبا عبد الرحمن. كان من عُظماء العباسيين ومن أجلَّاء وُلاتهم، ولي المدينة وقاد الصوائف للرشيد، ثم ولي الشام والجزيرة للأمين.
حدَّث عن أبيه وعن مالك بن أنس. وكان من أفصح الناس وخطبائهم، وكان نادر المثال في جلالته وعظيم قدره وصيانته. قيل ليحيى بن خالد البرمكي: كيف ولَّاه الرشيد المدينة من بين عماله؟ فقال: أحبَّ أن يُباهيَ به قريشًا ويُعلمهم أن في بني العبَّاس مِثله. وقد جعل الرشيد ولده القاسم في حجره. ولما عهد الرشيد إلى ولدَيه الأمين والمأمون بالولاية بعده، قال عبد الملك يحضُّه على العهد للقاسم معهما:
يا أيُّها الملِكُ الذي
لو كان نجمًا كان سَعدا
للقاسمِ اعقدْ بَيعةً
واوْقِدْ له في المُلكِ زَنْدا
اللهُ فردٌ واحدٌ
فاجعل وُلاةَ العَهدِ فَرْدا
فعهد الرشيد إليه معهما، ثم وشى به واشٍ عند الرشيد فتنكَّر له ثم رضي عنه بعد خَطْب. وله في هذا الرضا روايةٌ حكاها إسحاق بن إبراهيم الموصلي فقال:

دعاني جعفر بن يحيى البرمكي إلى منزله حتى نخلوَ جميعًا ونتغنى ونأخذ في شأننا بقيَّةَ يومنا، فلما صِرنا إلى منزله طرَحنا ثيابنا ودعا بالطعام فطعِمنا، وأمر بإخراج الجواري وقال: لتبرزُنَّ فليس عندنا من تحتشمن منه. فلما وُضع الشراب دعا بقميص حرير فلبسه، ودعا بخلوق فتخلَّق به، ثم دعا بمِثل ذلك، وجعل يغنِّيني وأغنِّيه، ثم دعا بالحاجب فتقدَّم إليه وأمره بألا يأذن لأحد من الناس كلهم، وإن جاء رسول أمير المؤمنين أعلمه أنه مشغول، واحتاط في ذلك وتقدَّم فيه إلى جميع الحُجَّاب والخدم، ثم قال: إن جاء عبد الملك فأذَنوا له — يعني رجلًا كان يأنس به ويُمازحه ويحضر خلواته — ثم أخذنا في شأننا. فوالله إنا لعلى حالةٍ سارَّة عجيبة إذ رُفع الستر، وإذا عبد الملك بن صالح الهاشمي قد أقبل، وغلط الحاجب ولم يفرِّق بينه وبين الذي يأنس به جعفر بن يحيى — وكان عبد الملك بن صالح الهاشمي من جلالة القدر والتقشُّف وفي الامتناع من منادمة أمير المؤمنين على أمرٍ جليل، وكان أمير المؤمنين قد اجتهد به أن يشرب معه أو عنده قدحًا فلم يفعل ذلك رفعًا لنفسه — فلما رأيناه مُقبِلًا أقبل كلٌّ منا ينظر إلى صاحبه، وكاد جعفر أن ينشقَّ غيظًا. وفهِم الرجل حالنا، فأقبل نحونا حتى إذا صار إلى الرواق الذي نحن فيه نزع قلنسيته فرمى بها مع طيلسانه جانبًا، ثم قال: أطعِمونا شيئًا. فدعا له جعفر بالطعام وهو مُنتفخ غضبًا وغيظًا، فطعِم، ثم دعا برطلٍ فشرِبه، ثم أقبل إلى المجلس الذي نحن فيه فأخذ بعضادتَي الباب ثم قال: أشرِكونا فيما أنتم فيه. فقال له جعفر: ادخل. ثم دعا بقميص حرير وخلوق فلبِس وتخلَّق، ثم دعا برطل ورطل حتى شرِب عدة أرطال، ثم اندفع ليغنِّيَنا فكان والله أحسنَنا جميعًا غِناءً. فلما طابت نفس جعفر وسُرِّي عنه ما كان به التفت إليه فقال له: ارفع حوائجك. فقال: ليس هذا موضع حوائج. فقال: لتفعلن. ولم يَزَل يُلحُّ عليه حتى قال له: أمير المؤمنين عليَّ واجد، فأُحبُّ أن تترضَّاه. قال: فإن أمير المؤمنين قد رضي عنك، فهاتِ حوائجك. فقال: هذه كانت حاجتي. قال: ارفع حوائجك كما أقول لك. قال: عليَّ دَينٌ فادح. قال: هذه أربعة آلاف ألف درهم؛ فإن أحببت أن تقبضها فاقبضها من منزلي الساعة، فإنه لم يمنعني من إعطائك إياها إلا أن قدرك يجلُّ على أن يصلك مِثلي، ولكني ضامن لها حتى تُحمل من مال أمير المؤمنين غدًا؛ فسَل أيضًا. قال: ابني، تُكلِّم أمير المؤمنين حتى ينوِّه بِاسمه. قال: قد ولَّاه أمير المؤمنين مِصر وزوَّجه بنته العالية ومهَرها ألفَي ألف درهم (قلت: والذي تولَّى مصر هو إبراهيم بن عبد الملك بن صالح). قال إسحاق: فقلت في نفسي: قد سكِر الرجل. أعني جعفرًا. فلما أصبحت لم تكن لي همَّة إلا حضور دار الرشيد، وإذا قد بكَّر، ووجدت في الدار جلبة، وإذا أبو يوسف القاضي ونظراؤه قد دعا بهم، ثم بعبد الملك بن صالح وابنه فدخلا على الرشيد، فقال الرشيد لعبد الملك: إن أمير المؤمنين كان واجدًا عليك وقد رضي عنك، وأمر لك بأربعة الآلاف ألف درهم فاقبِضها من جعفر بن يحيى الساعة، ثم دعا بابنه فقال: اشهدوا أني قد زوَّجته العالية بنت أمير المؤمنين، وأمهرتها عنه ألفَي ألف درهم من مالي، وولَّيته مصر.

قال إسحاق: فلما خرج جعفر بن يحيى سألته عن الخبر فقال: بكرت على أمير المؤمنين فحكيت له ما كان منا وما كنَّا فيه حرفًا حرفًا، ووصفت له دخول عبد الملك وما صنع، فعجِب لذلك وسُرَّ به، ثم قلت له: قد ضمِنت له عنك يا أمير المؤمنين ضمانًا. فقال: ما هو؟ فأعلمته. قال: أوفِ له بضمانك. وأمر بإحضاره فكان ما رأيت، ثم غضب عليه الرشيد وتنكَّر له، فحبسه عند الفضل بن الربيع.
وكتب إلى الرشيد وهو متنكِّر له:
أخِلَّايَ لي شَجوٌ وليس لكم شَجوُ
وكلُّ امرئٍ من شَجوِ صاحبِه خِلوُ
من أيِّ نَواحي الأرض أبغي رِضاكمُ
وأنتم أُناسٌ ما لمَرضاتِكم نَحوُ؟
فلا حَسنٌ نأتي به تَعرِفُونه
ولا إنْ أسأنا كان عندَكم عفوُ
فلما وقف عليها الرشيد قال: والله إن كان قالها فقد أحسن، وإن كان رواها فقد أحسن. وكتب إليه من السجن:
قُلْ لأميرِ المؤمِنِين الذي
يَشكرُه الصادِرُ والوارِدُ
يا واحدَ الأملاكِ في فَضلِه
ما لك مِثلي في الورى واحِدُ
إن كان لي ذنبٌ ولا ذنبَ لي
حقًّا كما قد زعمَ الحاسدُ
فلا يَضِقْ عَفوُك عنِّي فقد
فازَ به المُسلِمُ والجاحِدُ
ومن شعره وهو في السجن:
لئن ساءَني سجني لفقدِ أحبَّتي
وأنِّيَ فيهم لا أمرُّ ولا أحلي
فقد سَرَّني عِزِّي بتَركِ لقائِهم
وما أتشكَّى من حِجابي ومن ذُلِّي
ولم يزل في مَحبِسه حتى أطلقه الأمين بعد وفاة الرشيد وعقد له على الشام. ولعبد الملك كلامٌ عجيب في الحقد، وهو أول من مدحه. قيل له: إن أخاك عبد الله يزعم أنك حقود. فقال: إن كان الحقد بقاءَ الشر والخير لأهلهما إنهما عندي لباقيان.
إذا ما امرؤٌ لم يَحقدِ الوترَ لم تَجِدْ
لديه لدى النَّعماءِ حمدًا ولا شُكْرا
ومن هنا أخذ ابن الرُّومي قوله:
وخيرُ سجيَّاتِ الرِّجالِ سجيَّةٌ
توقِّيك ما تُسدي من القرضِ والفرضِ
وما الحقدُ إلا تَوءَمُ الشُّكرِ في الفتى
وبعضُ السجايا يَنتسِبنَ إلى بَعضِ
فحيثُ تَرى حقدًا على ذي إساءةٍ
فثَمَّ تَرى شكرًا على حَسنِ القرضِ
إذا الأرضُ أدَّت ريعَ ما أنت زارعٌ
من البَذرِ فيها فهي ناهيك من أرضِ
ولولا الحقودُ المُستكنَّاتُ لم يَكُنْ
لينقضَ وترًا آخِرَ الدَّهرِ ذو نَقضِ
وعبد الملك أول من ذمَّ الشورى واحتجَّ للاستبداد. قال: ما استشرتَ أحدًا قط إلا تكبَّر عليك وتصاغَرتَ لديه، وداخَلته العزة وداخلتك الذلة؛ فعليك بالاستبداد؛ فإن صاحبه مُبجَّل في العيون، مَهيب في الصدور، وإذا افتقرت إلى العقول حقرتك العيون؛ فيتضعضع شأنك، وتخف بك أركانك، ويستحقرك الصغير، ويستخف بك الكبير. مات في أواخر أيام الأمين سنة ١٩٦ﻫ/٨١١م.
١٠٠  الطش والرش والرذاذ: من صفات المطر.
١٠١  دقعت واقشعرت واغبرت: زال منها كل نبات كان عليها.
١٠٢  اعتزازها: اشتدادها.
١٠٣  متمصرًا: متمزقًا.
١٠٤  طحطحت: فرَّقت ومزَّقت.
١٠٥  مرثعنًّا: جودًا دراكًا.
١٠٦  منسجل: منصبٌّ منهمر.
١٠٧  شؤبوب: دفعة من المطر.
١٠٨  العراض: الأودية، والله سبحانه وتعالى أعلم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤