مقدمة الطبعة الثالثة
- السبب الأول: أن غالبية أشكال الإنتاج والاستهلاك الاقتصادية تخضع لأرقام إحصائية عامة، وذلك برغم التفاوت الملاحظ في دقة الأرقام بين الدول، أو في تعمد تضخيمها لأسباب سياسية وإعلامية، أو تجنب ذكرها لأسباب استراتيجية. وبرغم ذلك فإنه يمكن للباحث الحصول على صورة لا بأس بها لأشكال النشاط الاقتصادي وتنظيماته على سطح الأرض.
- والسبب الثاني: هو أن النشاط الاقتصادي بشتى صوره من البدائي إلى المتقدم تكنولوجيًّا، يمس صميم حياة المجتمعات وحياة الدول في الوقت الرَّاهن؛ ومن ثم فإن الدراسة الاقتصادية — جغرافية وغير جغرافية (اقتصاد بحت، أو اقتصاد اجتماعي، أو اقتصاد سياسي) — تُمثل منطلقًا هامًّا في شتى أشكال الحياة من الرَّخاء الاجتماعي إلى العلاقات الدولية.
وتتناول الجغرافيا الاقتصادية الموضوع الاقتصادي من زاوية لا يتناولها علم آخر، هذه هي زاوية توزيع أشكال النشاط الاقتصادي وترتيبه المكاني على سطح الأرض، وما يتداخل في ذلك التوزيع المكاني من تأثيرات نابعة عن جغرافية الأرض والناس؛ قد تصل إلى درجة التحكم في أشكال الإنتاج والاستهلاك لفترات زمنية مختلفة، نتيجة لخلفيات حضارية وتكنولوجية.
وهذه النظرة الشاملة التي تعطيها الجغرافيا الاقتصادية قد جعلت منها موضوعًا هامًّا من موضوعات الدراسة لعدد من الدارسين في غير العلوم الجغرافية؛ نذكر منها بالتخصيص: العلوم التجارية، والاقتصادية، والسياسية.
كذلك أصبحت الجغرافيا الاقتصادية خلفية هامة لعدد من الهيئات والمعاهد التي تقوم بدراسات التخطيط والتمويل، مثل تخطيط المشروعات الاقتصادية المختلفة، تخطيط وسائل النقل واتجاهات الطرق والموانئ، تخطيط المدن والعمران.
ويُضاف إلى ذلك قائمة طويلة من الهيئات والمعاهد التي تهتم بالجغرافيا الاقتصادية نذكر منها المعاهد المرتبطة بالبنوك، السكرتارية، غُرف التجارة والصناعة، اتحادات المصدِّرين أو المستوردين، هيئات الخدمات والنقل البري والجوي والسياحة وغير ذلك.
أما بالنسبة لدارسي الجغرافية، فإن الجغرافيا الاقتصادية تقتضي تقصي حقائق كثيرة في عالم الطبيعة: التركيب الصخري والغُلاف الغازيُّ وتكوين التربة والغلاف البيولوجي للأرض كموارد فعلية أو مُرتقبة للثروة الطبيعية، وتقتضي تقصي حقائق أخرى في عالم الإنسان: خلفياته الحضارية والتاريخية وتكوينه الاجتماعي والأيديولوجي وطاقته العاملة في الإنتاج، كعنصر أساسي في التشغيل الناجح لموارد الثروة الطبيعية.
وتقتضي أخيرًا تفاعلات العنصرين الطبيعي والبشري على خلفية المكان الجغرافي وعلاقاته السياسية وموقعه بالنسبة لخطوط النقل العالمية.
ومثل هذه الدراسة تتسم بدينامية قَلَّ أن يكون لها نظير في فروع الجغرافيا الأخرى؛ ومن ثم فإنه من الصعب ملاحقة كل أشكال التغيير الاقتصادي التي تحدث بصفة مستمرة سنة بعد سنة.
وهذه هي أهم ما يلاقيه الكاتب في الجغرافيا الاقتصادية من مصاعب في جمع البيانات وتحليلها. ولهذا فإن كثيرًا من كتب الجغرافيا الاقتصادية تتحول إلى دراسة في الجغرافيا التاريخية للنشاط الاقتصادي، خاصة مع التطورات التكنولوجية السريعة في مجالات الإنتاج العالمي.
ونظرًا لأن النشاط الاقتصادي يشمل كل أنحاء العالم؛ فإنه من الصعب على أي كتاب في الجغرافيا الاقتصادية أن يعطي صورة تفصيلية كاملة للعالم، بل غالبًا ما يقتصر على الصور الأساسية لأشكال الإنتاج مع دراسة تفصيلية لنماذج وأنماط هامة، وهذا هو ما راعيناه قدر الإمكان في هذا الكتاب، داعين الدارسين إلى قراءة مصادر أخرى في الموضوع لكي يكتمل لديهم ما لم نُشِر إليه إلا لمامًا.