ترجمة الفيلسوف تولستوي

وُلِد الفيلسوف تولستوي نابغة الروس في ٢٨ أغسطس عام ١٨٢٨ في قرية ياسنايا بوليانا من أعمال ولاية تولا في أملاك والدته.

وكان والده نقولا تولستوي أحد معاوني قوَّاد الجنود الروسية المُحالين على المعاش، وقد اشترك في وقائع حرب سنتي ١٨١٢ و١٨١٣، وهو ابن إيليا بن أندراوس بن حنا بن الكونت بطرس تولستوي من أكبر معضدي القيصر بطرس الأكبر؛ وأما والدته فكانت ابنة الأمير نقولا سرجيوس، وعلى ذلك يكون الفيلسوف عريقًا في النسب من جهة أبويه.

ولقد تُوفِّيت والدته عام ١٨٣٠ قبل بلوغه العامين، وعام ١٨٣٧ تُوفِّي والده فجأة في مدينة «موسكو» على إثر إصابته بخسائر مالية فادحة، وعند احتضاره أقام وصية على أولاده نقولا وسرجيوس وديمتري وليون وماري إحدى قريبات عائلتهم السيدة يوشكوفا، فرحلت بهم إلى «موسكو» وعهدت أمر تربيتهم إلى أساتذة نمساويين وفرنسيين، وعام ١٨٤١ نزحت بأسرة تولستوي إلى كازان، وعام ١٨٤٣ دخل صاحب الترجمة كلية كازان وانتظم في صف اللغات الشرقية؛ فأقام فيها سنتين ثم رحل عنها مع إخوته إلى قرية ياسنايا بوليانا مسقط رأسه، ولبث فيها مدة ثماني سنوات متوالية كان يشخص فيها أحيانًا إلى «موسكو» وبطرسبرج.

وعام ١٨٥١ زاره شقيقه الأكبر نقولا الذي كان ضابطًا في جيش القوقاز، ومكث عنده مدة إجازته العسكرية، وعند عودته إلى فرقته صحبه معه إلى تلك البلاد الفيحاء، وحبًّا في عدم مفارقة شقيقه انتظم وقتئذٍ في الجندية في نفس طابور أخيه. وابتدأ في هذه البلاد يزهر رياحين علمه، فكتب رواية المهرب «نابيغ» التي أحسن فيها وصف بلاد القوقاز ومعيشة أهلها، ثم رواية «القوزاق» ورواية الفتوة والصبوة والشبيبة، ووضع غيرها من الكتب المفيدة.

وعام ١٨٥٣ أي في ابتداء الحرب الشرقية؛ نُقِل صاحب الترجمة إلى صفوف جنود الطونا وانضم إلى فيلق القائد غورتشا كوف الشهير، ثم انضم إلى حامية «سيفاستوبل» واشترك بمعركة سنة ١٨٥٥، وكذلك شهد ضرب «سيفاستوبل» من الجنود المتحدة، وفي أثناء هذه المعمعة المُخيفة والأحوال المزعجة انتُدب بصفة كونه مُعتمدًا إلى جلالة القيصر نقولا الأول حاملًا إليه أوامر سياسية مهمة.

وبين عامي ١٨٥٣ و١٨٥٥ وضع رواية «سيفاستوبل» ثم رواية «روبكاليسا» (قطع الغابة) وعام ١٨٥٥ استقال من الخدمة العسكرية، وأخذ من ذلك الحين يقضي الشتاء في «موسكو» و«بطرسبرج» والصيف في قرية «ياسناسا بوليانا»، وقد أنشأ في هذه الأثناء عدة تآليف مهمة، وعام ١٨٦١ جاب بعض أنحاء أوروبا ثم عاد فاستوطن قريته، وجرَّد نفسه لخدمة الأُمة مُبشرًا بالسلام والخير والفضيلة.

ثم أصدر مجلة تهذيبية أطلق عليها اسم بلدته، وجعل ينشر فيها المقالات الأخلاقية بقصد تربية الأهالي وتثقيف عقول أبنائهم.

ثم أنشأ الفيلسوف في بلدته مدرسة وطنية كان يُنفِق عليها من جيبه الخاص، ويُعلِّم فيها بنفسه أبناء الفلاحين، ويبثُّ فيهم روحًا جديدًا، فأحدثت تلك المدرسة شهرة فائقة دوَّى صداها في جميع أنحاء روسيا، وأخذ يتقاطر إليها كثيرون من شبان بطرسبرج المُتخرِّجين في كلياتها؛ ليُلقوا فيها دروسًا بلا مقابل، تحت مراقبة الفيلسوف، وإنما كانوا يفعلون ذلك ليقتبسوا من معارفه السامية ويغترفوا من بحار فلسفته شرابًا عذبًا خاليًا من شوائب الأكدار، فاجتمعوا حوله واستظلوا بلواء علمه وفلسفته.

وعام ١٨٦٢ تزوج الفيلسوف من الآنسة صوفيا كريمة الدكتور بيرس، وفي أواخر سنة ستين وضع روايته الشهيرة «الحرب والسلام»، وجعل مدار البحث فيها على فساد عيشة المُترفين وحرب سنة ١٨١٢، وفي السنة السبعين كتب رواية أخرى سماها: «حنة كاريننا»، وقد أخذت هاتان الروايتان في عموم أوروبا أدوارًا مهمة، فعُرِّبت إلى جميع لغاتها، وقد اطَّلع الفيلسوف على فلسفة الفيلسوف الإنكليزي الاشتراكي المستر هربرت سنبسر بشأن توزيع الأراضي على الأفراد بالسواء أولى من استقلال نفر قليل بها، فوافقه على رأيه وعمل به، فإنه وزَّع جميع أملاكه الواسعة على فلاحيه وأبقى له ولعائلته مساحة من الأرض تقوم بحاجاتهم، ثم إنه يحرث الأرض بنفسه ويزرعها.

وقد كتب هذا الفيلسوف في مواضيع جليلة وكتب في الدين، فكتب بشأنه ما يُخالف عقائد الكنيسة المسيحية وخطَّأها، فأثار عليه ذلك أحقاد رجال الدين في روسيا، والتأم أعضاء المجمع المقدس في ٢٠ فبراير عام ١٩٠١ وقضوا عليه بالحرمان من الكنيسة كذي بدعة أو ضلالة، فكان لذلك الفعل تأثير شديد في جميع أنحاء روسيا، وكاد يُفضي الأمر إلى ثورة داخلية كما أشرنا إلى ذلك قبلًا، وقد ردَّ على حكم المجمع ردًّا مُطوَّلًا ثبت فيه إيمانه وخطأ الكنيسة في تعاليمها، فقال إنها بهتان ظاهر وعقائدها ليست إلا مجموعة خرافات منبوذة، واختلاق مُحكَم الوضع قد غشي على جوهر تعاليم المسيح، ثم أنكر ألوهية المسيح وولادته من غير أب، وأنكر الاعتقاد بالتثليث، وقال: «إني أومن بإله واحد هو إله روح ومحبة وأصل كل موجود، وأومن بأنه فيَّ وأنا فيه، وأن شريعته سمحاء واضحة في تعليم المسيح الإنسان الذي لا أعتقد به إلهًا، وإني أعتبر الصلاة له تهكمًا عليه، ثم أعترف بأن سعادة الإنسان الحقيقية تحصل بوفور إرادة الله في الناس، فيحبُّون بعضهم بعضًا ويفعلون مع غيرهم ما يريدون أن يفعل الناس بهم.»

إن الفيلسوف على جانب عظيم من الجراءة في طلب الحق لم يساوِه فيه أحد في العالم، فإنه كتب كثيرًا إلى القيصر يعترض على حالة الحكومة وسيرها وذمها بسبب تعذيبها الأهالي في سجون سيبيريا المظلمة وجزيرة سخالين القفراء الجرداء.

وتولستوي لم يزل حيًّا يُرزق مُقيمًا في بلدته، يضع المؤلفات المفيدة، وقد زاره كثيرون من علماء الأمريكان والإنجليز والألمان وحادثوه طويلًا في الشئون الاجتماعية، فكان يُقيم لهم أسدَّ الحجج ويُفيض عليهم من بحار مداركه، فيخرجون من لديه معجبين بما أُوتيه هذا الرجل من الحكمة البالغة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤