أهمية أن نتثقف يا ناس

جاء علينا حين من الدهر كانت كلمة مثقف فيه علامة أن المواطن هو فعلًا صاحب مقام رفيع. كان احترام الثقافة والمثقفين جزءًا لا يتجزأ من قِيم شعبنا وتقاليده الراسخة، بحيث إن عامة الشعب حين كانت تريد أن ترفع من قيمة المتعلم أو المثقف تميزه بكلمة أفندي وتُسمي العامل الكفء المثقف أُسطى أو بمعنى حقيقي أستاذ.

وهذا الحين من الدهر كان مستمرًّا طوال حياة الشعب المصري حين كان المثقف في العصور الوسطى هو الشيخ أو مولانا أو سيدنا، ومن نفس المشايخ برزت الفئة المثقفة الجديدة مع بداية مصر الحديثة في عصر محمد علي، ومن رفاعة رافع الطهطاوي إلى محمد عبده وخالد محمد خالد، تلك الكوكبة من العقول المضيئة التي ظل مجتمعنا ينظر إليها كما ينظر إلى مصادر الضوء تُنير له وجوده وحياته ويرفعها إلى مستوى التبجيل العظيم والقيمة الخالدة.

ولم يكن حظ المثقفين من خريجي الجامعة المصرية بأقل؛ فقد كانوا علماء في تخصصاتهم، هذا صحيح، ولكنهم كانوا أيضًا من كبار مثقفي عصرهم، والذين يدهشون كيف كان الجرَّاح العظيم علي باشا إبراهيم عضوًا مؤسِّسًا ومسئولًا عن البرامج في المجلس الأعلى للإذاعة المصرية عند إنشائها ربما لا يعرفون شيئًا عن علي إبراهيم «المثقف» المُلم، العالِم.

ولا أعتقد أن بلدًا من بلاد العالم جُبل شعبه على تقديس الثقافة والمثقفين مثل بلادنا. إن المكانة التي رُفع إليها طه حسين والعقاد وأحمد حسن الزيات والمازني ومحمود عزمي وسلامة موسى وتوفيق الحكيم ونجيب محفوظ وحسين فوزي ولويس عوض وأحمد أمين وأحمد زكي وهيكل ومشرَّفة وزكي نجيب، القائمة الطويلة؛ المكانة التي رفعنا لها هؤلاء وغيرهم تُثبت أننا بالسليقة شعب يُقدِّس المعرفة والثقافة، شعب في أساسه متحضر وعميق الصلة بالقيم الحضارية العليا.

بل إن الاحترام الذي يحظى به «حكماء زمانهم» من الفلاحين الأُمِّيين والعمال وسكان النجوع والحارات، احترام لا يمكن للإنسان أن يُخطئه إذا أُتيح له الاحتكاك الكافي بالحياة اليومية في أقل مستوياتنا الاقتصادية والمعيشية.

دائمًا نُقدِّر الذكاء والاطلاع وخصوبة التجربة، للمعروفين وغير المعروفين، حتى إن أمثالنا الشعبية — كما سبق وكتبت — معظمها قوانين حياة مُصاغة بمنتهى الحكمة، وتكاد في مجملها تشكل نظرية حياة كاملة مليئة بالحلول وساطعة المدلول.

•••

ماذا إذن حدث فقلب أمورنا رأسًا على عقب، حتى أصبحت كلمة أفندي تُقال للسخرية، وكلمة مثقف تُذكر من باب التوبيخ و«التريقة»، وكلمة ثقافة يتحسَّس لدى ذكرها بعض المواطنين أنوفهم وكأنما هي شيء لا يُطاق؟

ماذا بالضبط حدث؟

ليس فقط للمواطنين وإنما حتى للقيادات الفكرية والفنية للمواطنين، وإذا كان برنامج «الجائزة الكبرى» قد كشف جهل بعض الممثلين، فلو أُجريَ امتحان مقابل لمقدمي البرامج في الإذاعة والتليفزيون ولكثير من أصدقائنا المعلِّقين في الصحف والمجلات (وهذا في حد ذاته وباء اجتاح صُحفنا ومجلاتنا بحيث أصبحت جميعها تعتمد على الأعمدة الثابتة الممضيَّة والأبواب، بحيث إني عن عمدٍ حاولت أن أعثر في مجلة فنية مصوَّرة تصدر عندنا عن موضوع صحفي واحد غير ممضي، فلم أجد، دليل أن المجلة كلها لا صحافة فيها وإنما هي مجموعة من المقالات تُشكل رأيًا عامًّا منخفض المستوى).

لو أُجري امتحان لهؤلاء القادة جميعهم لما اختلفت النتيجة كثيرًا عن نتيجة «الجائزة الكبرى».

وإذا كان هذا هو حال الأسماء الإعلامية المشهورة فماذا يكون حال مستهلكي الصحافة والإذاعة والتليفزيون؟

كان التليفزيون عندنا يُقدِّم منذ بضع سنوات برنامجًا ثقافيًّا على هيئة امتحان في المعلومات، وقد كنت عن عَمْد أُتابعه، وراعني أن المشتركين فيه جميعًا معلوماتهم العامة تكاد تساوي صفرًا، ولا ينجحون إلا في إجابة السؤال الخاص بالأمثلة الشعبية، ومعنى هذا أنهم لا يقرءون، وإنما يتلقون المعرفة سماعًا وربما من أمهاتهم وخالاتهم فقط.

نعم! ماذا حدث؟!

•••

كان كل شيء يسير على ما يُرام إلى أن قامت ثورة ١٩٥٢م، وثورة ٥٢ أساسًا ثورة الطبقة المتوسطة الصغيرة التي لم تنلْ من مكاسب ثورة ١٩ شيئًا، وظل الوفد يقودها على أمل أن يُصلح أحوالها، واكتشف الجناح العسكري في الحركة الوطنية (الضباط الأحرار) أن هذه الأحوال لن تنصلح إلا بإزالة الملك والإقطاع وكبار الرأسمالية.

وكل ثورات العالم تنشأ هكذا بهدف إزالة طبقات وإحلال طبقات محلها، ولكن لأن معظم الثورات يقودها سياسيون مثقفون، فإنهم يفرقون بين إزاحة الطبقة واستكمال التراث الثقافي للأمة.

فالثقافة التي أفرزها المجتمع المصري خلال النصف الأول من قرننا الحالي (١٩٠٠–١٩٥٠م) هي ثقافة الشعب المصري كله وليست ثقافة الطبقة الإقطاعية أو الرأسمالية فقط؛ فمعظم المثقفين والكُتاب الذين أفرزوا هذه الثقافة كانوا يأتون أصلًا من صميم الطبقات الشعبية، كانوا أبناء عمال وفلاحين، حتى إن أحدًا منهم لم يكن في أصله ابن عمدة.

والتمسُّك بتراث الأمة الروحي والثقافي هو جزء لا يتجزَّأ من مهمة أية ثورة وطنية؛ لأنه بدون هذا التراث قد تنتعش المصالح الاقتصادية للعمال والفلاحين والطبقات الشعبية الثائرة، ولكن العمود الفقري الثقافي الذي يحمل تراث الأمة الروحي إذا لم يحافظ عليه يتحلَّل وتنشأ طبقات عريضة جديدة بدون محتوًى روحي أو ثقافي أو حضاري مثلما حدث عندنا.

فقد دفعت ثورة يوليو إلى الساحة الوجودية جماهير غفيرة من الطبقة المتوسطة الصغيرة التي كانت تحيا على هامش الحياة، وفَّرت لها التعليم والماء والنور والمستشفيات وفتحت لها أوسع المجالات للكسب، ولكنها أبدًا لم توفِّر لها ما هو في رأيي أهم من هذا كله؛ وهو الإشعاع الثقافي الذي يُحيلها إلى كائنات متحضرة منظمة، ويجعلها كلما ارتقت اقتصاديًّا ترتقي سلوكيًّا وتعامليًّا وإنسانيًّا وفكريًّا؛ فالثقافة ليست مجرد تحصيل معلومات من كتب الثقافة بل هي أساسًا جزء مكمِّل بالضرورة للتعليم؛ فتعليم بلا ثقافة لا يتعدَّى خلْق كائنات ميكانيكية لا تُجيد إلا صنعة أو حِرفة يد.

بل حتى هذه الحِرف بدون عقل يحتوي الحد الأدنى من الثقافة اللازمة للمواطن، العامل أو الفلاح يصبح عاملًا معوقًا في نفس صميم حرفته أو صنعته. فإذا كان التعليم هو التدريب على المهارات سواء كانت يدوية أو عقلية، فالثقافة هي تدريب العقل نفسه على السيطرة على تلك المهارات، تدريبه على الاختيارات سواء ما يمسُّ منها صميم حياته الشخصية مثل اختيار زوجته ونوع حياته وتسليته وكيفية قضاء أجازته واختيار نوع التربية والتعليم والتوجيه لأولاده ومعاملة أهله وأصدقائه ورؤسائه وجيرانه وبقية المواطنين. الثقافة ليست ترفًا عقليًّا ولكنها ضرورة بشرية، تمامًا مثل الخبز والحرية، فبدون ثقافة يستحيل الإنسان إلى حيوان آكل شارب نائم متناسل؛ إذ الذي يصنع الإنسان والذي يفرق بين الإنسان العظيم والتافه هو الكم المضاف إلى عقله ليس فقط من معلومات وإنما من قدرة على ترتيب هذه المعلومات بحيث يستطيع الإنسان في النهاية أن يعتنق فلسفة خاصة به يزاول بها حياته ووجوده، ويُسعد بها نفسه ومواطنيه.

بل إنه بانعدام المحصول الثقافي للإنسان تصبح أية دابة أحسن منه؛ فهو دونًا عنها مزوَّد بعقل لا بدَّ أن يعمل، وإذا لم يعمل في اتجاه صالح فلا بد أن يعمل في اتجاه خاطئ وأحيانًا إجرامي.

•••

أطلقت ثورة يوليو إذن العنان للطبقة المتوسطة تتناسل بلا حدود وتسكن المدن والشوارع والأزقة والمقابر كما يحلو لها وتهاجر كما تشاء، وتعود بعربات تتكدس في الشوارع كما تريد وحتى هذا كله لم يكن كافيًا، فبعصر الانفتاح والانفلات حُلَّت جميع الصواميل الباقية، استيراد كما تشاء، سوق سوداء، رشاوي، اختلاسات، ما دمت شاطرًا ولا تستطيع أن تقع تحت طائلة القانون فافعل ما بدا لك. وحتى لو وقعت تحت طائلة القانون، فتَّح مخك يا أخي، تفوت.

والطبقة المتوسطة بطبيعة تشكيلها وتكوينها طبقة متمردة تخاف ولا تختشي، هوايتها الخروج على القانون، والتنافس الرهيب الذي يسود بينها، بطبيعة تكوينها كما قلنا، يجعل الأنانية عندها هي القاعدة والانفلات هو القانون؛ ولهذا فالدول حتى الرأسمالية منها تسنُّ القوانين الباترة لتنظيم حركة هذه الطبقة ومنع بعضها من الطغيان على بعضها الآخر. وفي نفس الوقت تحاول الدول باستمرار أن ترفع المستوى الثقافي لتلك الطبقة؛ إذ إن رفع المستوى الثقافي يحد كثيرًا جدًّا من نهم تلك الطبقة وجشعها وجبروت كثير من أفرادها.

وقد تنبَّهت ثورة يوليو بعد سنوات من قيامها إلى أهمية الثقافة في حياة الأمة الجديدة، وبدأت في تكوين شركات قطاع عام للسينما وهيئات للمسرح والكتاب وأكاديمية للفنون، وما كادت تلك المؤسسات تقف على أقدامها حتى تكفلت الهزيمة العسكرية عام ٦٧ وما تلاها من أزمات بإغلاق أبوابها أو كادت، وهكذا بقيت روح هذا الشعب الثقافية وديعة غير محافظ عليها كليةً في أيدي القطاع الخاص الذي أحال المسرح إلى كباريه، وأحال مسلسلات التليفزيون إلى وسيلة لإنقاص وزن العقول والاستخفاف بها، ومات الكتاب وماتت المجلات الثقافية والعلمية، وتحولت الجامعات من دور للثقافة العليا إلى مدارس متوسطة يتخرج فيها أنصاف حِرفيين بدرجة بكالوريوس وليسانس، وتحول جنون التناسل إلى مواسير هائلة الضخامة تصبُّ على البنية الأساسية الضعيفة من البداية لمجتمعنا كميات هائلة من البشر تُولد ولا بد أن تتعلم ولا بد ومن المحتَّم أن تتخرج من الجامعة، وما دام لا قانون هناك ولا قاعدة، فليصبح الاستثناء هو القاعدة، وعشرات الاستثناءات تسمح لعشرات الفئات بصبِّ بناتها وأولادها ليُحشروا ضمن زمرة الجامعيين بلا أي مؤهل أو ذكاء.

وكأنما أصبحت الحكومة تُنافق الشعب كما تعوَّد الشعب أن يُنافق الحكومة ويتملَّقها، ونفاقًا بنفاق أصبحت حياتنا الآن على ما هي عليه: بَشَر بَشَر بَشَر، كميات هائلة من البشر، ولا نظام ولا احترام لأي شيء، الأرض الزراعية تُجرَّف، أرض الحكومة ينهبونها، البنوك الأجنبية فاتحة أفواهها تبتلع مال المصريين القليل وتضخُّه إلى بنوك أوروبا وأمريكا.

في مثل هذا المجتمع الذي لم تعد تنطبق عليه — كما سبق وقلت — قوانين المجتمعات؛ إذ القوانين في المجتمعات موضوعة لتُطبَّق على الأفراد ونحن لم نعد أفرادًا، نحن الآن «كميات» من البشر، لا بد أن نخترع لها قوانين «كم» لتحفظ النظام والنظافة والوجود بين «الكميات» وبما أن الثقافة دائمًا مسألة فردية، مسألة اجتهاد من الفرد في التحصيل يقابله اجتهاد من الدولة لتقديم السلع الثقافية، وبما أن الدولة مشغولة تمامًا «بطعام» تلك الكميات من البشر، مجرد ملء حلوقهم وكسائهم، ولا وقت لديها، ولا حتى إمكانيات لإطعام عقولهم، فلنترك المسألة نهائيًّا للصُّدف المحضة تقرر كم ونوع الثقافة التي يتغذى بها شعبنا.

ولكن السؤال هو: هل فعلًا ليست لدى حكوماتنا إمكانيات ثقافية متاحة لترفع بها المستوى الثقافي لشعبنا؟

إن لدينا بالتأكيد إمكانيات، ولكنها مُهدَرة تمامًا.

والمثل قريب وساخن؛ فالمتتبِّع للانتخابات الأخيرة، وللتهم المتبادلة بين حزب الحكومة وأحزاب المعارضة، يجد أن الفاعل الحقيقي في كل ما حدث كان هو الجهل والتخلف وانحطاط المستوى الثقافي، يقابله في نفس الوقت تخلف أجهزتنا الإعلامية وعلى رأسها التليفزيون والإذاعة والصحافة عن التصدي للمعركة الانتخابية تصديًا جادًّا حقيقيًّا. بدل هذه المسلسلات الهابطة الواردة لنا من عجمان والسعودية واليونان، كان مفروضًا أن يتحوَّل التليفزيون بالذات إلى مدرسة للديمقراطية تُعلِّم جماهير الشعب وشبابه التي حُرمت من الانتخابات الحرة ردحًا طويلًا من الزمن تعلمهم هذا الشيء الخطير تمامًا، حق الانتخاب وضرورته وأهميته، بدل أن تخاف من هذا الحزب أو ذاك حتى لا ينال بعض الأصوات في الانتخاب نتيجة لتأثر جمهور المشاهدين بمثل هذا الحزب أو ذاك.

كان من الممكن، منتهزين فرصة الانتخابات، أن يخرج الشعب لا بمجلس جديد فقط وإنما يتخرج شعبنا ديمقراطيًّا ويكتسب باعًا طويلًا يستطيع بواسطته أن يُساند كل ما يتمخض عنه المجلس الجديد من تشريعات ومناقشات، وإذا كانت بلوانا الرئيسية هي في سلبية المواطن، فشكرًا لأجهزة إعلامه؛ لأنها تحرضه على السلبية تحريضًا وتكاد تقول له خلي عنَّك انت، نحن نفكر لك، وننتخب لك ونختار، وإذا أردت الانبساط فنحن أيضًا الذين سنبسطك.

ولكنها سياسة نفاق الشعب وتحويل الشعب إلى منافقين سلبيين.

•••

نعم لدينا إمكانيات.

مسارحنا بعد أن كانت الرئة الروحية للأمة، تسلَّط عليها القطاع الخاص بالرشوة أحيانًا وبالحرق وبالغلق، ليتاح لأربعة أو خمسة أفراد من مُلَّاك المسرح الخاص أن يصبحوا مليونيرات على حساب كل قيمة بشرية وإنسانية.

وبنفس الإمكانيات التي «جمَّلنا» بها القلعة كان ممكنًا أن نُنقذ بيوتنا الروحية المسرحية بل وحتى نبنيها من جديد، وببضعة آلاف من الجنيهات كان ممكنًا أن نُنقذ ممثلينا وجمهورنا ومخرجينا وكُتَّابنا من التلطع في استوديوهات الخليج ونريح بها شعبًا قويًّا لا يأكل الدود روحه في تلك المسلسلات الساقطة.

•••

نعم لدينا إمكانيات.

فمطابع الهيئة العامة للكتاب هي أكبر مطابع في مصر، والموظفون والعمال في تلك الهيئة يُعدُّون بالآلاف ومع ذلك فإن كُتابنا الشبان والكبار لا يجدون مكانًا للنشر هنا، وتفتح لهم بيروت وبغداد ودمشق أذرعها.

نعم لدينا إمكانيات.

هذا المسمى بالمجلس الأعلى للثقافة الذي لا يفعل شيئًا بالمرة إلا أنه يحجب الجوائز عن مستحقيها أو أنه يجتمع في العام مرة ليُحلل بدل حضور الجلسات، هذا المجلس الذي اختيرت أغلبيته من الموظفين، والمتعلمين الذين هم بلا لون أو طعم أو رائحة أو حتى تاريخ وكأن كل أجهزتنا الثقافية والعلمية قد عُقِّمت تعقيمًا شديدًا حتى لا يتسرب لها نبض أو رأي أو وجهة نظر جريئة تقتحم العنكبوت المُخيِّم على تلك الأجهزة وتقهر البيروقراطية وتسمح للنور والهواء أن يدخل معاقل الغباء والتخلف تلك.

نعم لدينا إمكانيات.

إن التليفزيون وحده يكفي في عام واحد أن يرفع مستوى شعبنا الفكري والروحي والثقافي بما يُعادل عشر سنوات من التربية والتعليم، ولكنه حتى وهو ينهى الناس عن الضجة أو عن إلقاء القاذورات يتصور أن الناس أنعم من أن يقول لهم: لا، لا بد أن يقولها راقصة ضاحكة مشخلعة حتى يبتلع المشاهدون كلمة «لا» المُرة.

•••

نعم لدينا إمكانيات.

وشكوانا المستمرة من السلبية والفوضى وانعدام الضمير والقيم وتفشِّي الفساد والمحسوبية، شكوانا من الازدحام الحيواني والهرجلة والارتجال في المشروعات والحلول، شكوانا من الضعف القيمي الذي ساد أفرادنا ومؤسساتنا.

تقريبًا كل شكاوانا الخاصة بالإنسان سببها أننا تحولنا إلى مجتمع جاهل حتى وإن كان بعضه متعلمًا. مجتمع غير واعٍ أو مدرك أي غير مثقف، مجتمع همه على بطنه وأقصى متعة للمليونير فيه أن يأكل كبابًا ويشرب ويسكي، مجتمع ليس له صفوة قائدة مثقفة محترمة تتمسك بالقيم وتدافع عنها وتدعو إليها. مجتمع نجومه ونجماته أشد ظلامًا وخمولًا من السماء الملبَّدة بالغيوم.

ولدينا إمكانيات النهضة.

ولكن المشكلة هل لدينا الهِمة؟

أعرفنا لماذا نطالب ونلحُّ بالتغيير؟!

من أجل أن يتولى أمورنا أناس ذوو همة.

إننا ننحدر ثقافيًّا وبالتالي سلوكيًّا بدرجة خطيرة، والغوغائية — نتيجةً لانعدام الثقافة — تسود إلى درجة تُهدد فيها باكتساح وجودنا كله. ومع وجود هذه الكميات المخيفة من البشر في هذا الحيِّز الضيق للوجود فإننا ذاهبون إلى كارثة محقَّقة — لا قدر الله — إذا لم نُولِ رفع المستوى الفكري والثقافي للشعب الأهمية القصوى الجدير بها.

فالثقافة أخطر من أن تكون من كماليات الحياة.

فالحياة نفسها هي الوجود المثقف للكائنات.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤