واحد قانون

كانت القاهرة حبيبة، قريبة إلى القلب، حافلة بمواطن الذكريات، كانت مدينة يقطنها مواطنون قاهريون لهم طريقة خاصة في التعامل، ولغة، وبالذات على ألسنة نسائها، رقيقة، محببة إلى الأسماع. كانت عاصمة تكاد تكون جميلة، لبلاد تكاد تكون جميلة، وكان شعورنا تجاهها ونحن في مطلع الصبا شعور الأبناء نحو أمٍّ راقية حنون. الأم المثقفة، المتعطرة، المتحدثة، اللبقة لأبناء معظمهم قادم من ريف أو صعيد يتعثرون في خجل عدم الثقة بالنفس، يتطلعون بانبهار إلى جمال الأم، يحسون بالفخر أنهم أصبحوا في النهاية ينتمون إليها.

والآن، ماذا حدث؟ لكأنه الغزو الداخلي والخارجي معًا حدث للمدينة ولكل مدينة في قُطرنا. غزو حاشد رهيب. لكأنما فجأة تمخَّض رحِم مصر الولود، ومن أعماقها تفجرت وتناثرت ملايين الناس والأطفال والكلاب الضالة والقطط وأكوام الزبالة والذباب والمجاري والناموس وأكوام اللحوم البشعة المحمولة مكشوفة فوق عربات وموتوسيكلات. أعشاب وشجيرات وغابات شيطانية نبتت وامتلأت المدينة بالمستنقعات والبحيرات. جحافل البشر بالآلاف، بالآلاف، في الطوابير في الأوتوبيسات في الشوارع في المتاجر في الوزارات والمصالح والسلالم والأسانسيرات. أناس أطفال وأطفال أناس، مئات بالمئات، آلاف، عشرات الآلاف، مئات، ملايين، فوق القطارات وتحت القطارات، على سطح النيل وفي أعماق المجرى، في محطة مصر وكل المحطات والمطارات وعربات نرى الأرض ولا للشرفات، معالم المدينة الكارو والتاكسيات والمتنزهات لم تعد، ضاعت وطليت بالوجوه والرءوس والأجساد.

حسن جدًّا. ليكن أن الشعب المصري في نوبة دفاع غريزي عن النفس قد قرر أن يطلق العنان للأرحام لتحمل وتلد وتمتلئ بلادنا إلى ما فوق حافتها بالناس، بحيث أصبح برميلنا البشري وكأنما يفيض بالمخلوقات فتتأثر من حالته موجات إثر موجات، لا هجرة تقع ولا تصدير خادمات بيوت وخادمات مخادع، ولا عمال بناء وحمَّالين وسوَّاقين ومثقفين ودكاترة ومحاسبين، موجات إثر موجات، ولكن الفوران لا يكفُّ، والبرميل على جوانبه يفيض بالبشر وداخله ازدحام لا يُطاق.

ليكن هذا قد حدث، وليكن أننا بعد أن خفنا أن ننقرض بسياسة الكيف والانتقاء، اندفعنا نثبت الوجود بسياسة الكم والإغراق، بل حتى لتكن النتيجة أن المدينة والمدن كلها شاهت، ودِيست معالم الذكريات، ولم يعد هناك مكان لجمال أو تنسيق؛ إذ أصبح ليس هناك مكان لقدم. ليكن إننا قد تحولنا إلى كمٍّ هائل من البشر، مسافر إلى أقصى الصعيد تجده، على شواطئ المنزلة والبرلس تجده، في أية حارة مصرية وزقاق ما أن تضع قدمك فيه حتى تبدأ تغرق، شرِّق تغرق داخل طوفان من مئات الأولاد والبنات والقادمين الجدد، وتتطلع حولك واجف القلب تتساءل: يا إلهي ماذا سيحدث لنا غدًا حين، أيضًا، يكبر هؤلاء، ويتحولون بدورهم إلى آباء وأمهات، وكلها خمس أو عشر سنوات ويتمُّ هذا بإذن الله.

•••

تواردت هذه الخواطر على ذهني وأنا أقرأ كتابًا عن «ميكانيكا الكم» وهو بالضبط عن أحدث النظريات في تركيب الذرة ومن ثَم تركيب الكون. هي النظرية التي جاءت لتأخذ مكان نظرية النسبية في تفسير قوانين الذرة أو بالضبط قوانين المادة، ومع أن الكتاب يتابع — كالقصة البوليسية — منشأ النظرية وتطورها، وموقفها الآن إلا أن ما بهرني فيه ليس الحقائق العلمية الفطرية والعملية وإنما هو الفلسفة التي يمكن للإنسان أن يستخلصها من تصرف المادة تجاه المشكلة الأزلية التي تواجهها وهي مشكلة الكمِّ. فالذرة نفسها لم تعد أصغر مكونات المادة إنما اتضح أن الذرة مستعمرة بالغة الضخامة مليئة بمئات، ومن يدري، ربما سيكشفون أنها ملايين، من مكونات أخرى أصغر بكثير جدًّا من الأجسام الأدق؛ لتصل في دقتها إلى درجة يستحيل معها فصلها عن الأثير الكائن حولها، أو التمييز بين ما هو مادي وما هو غير مادي. الذرة إذن «كم» والكون «كمٌّ هائل»، والإنسان نفسه «كمٌّ ضخم» من الخلايا ومن ثم الجزيئات والذرات. لا شيء إذن فرد، كلنا ذرات، وأفلاك وأكوان وبشر، كمٌّ هائل نحيا ونتواجد على هيئة كم هائل. هذا الكم الهائل نفسه يحتم بالضرورة أن توجد له «قوانين» تحكم وجوده؛ ففي داخل الذرة نفسها لا يوجد لكل مكون من مكوناتها قانون خاص يتحرك بمقتضاه ولكن القانون الموجود هو قانون «الكم» أي القانون الناشئ عن وجود أعداد هائلة من المكونات. وانفجار الذرة أو تبعثر محتوياتها لا يحدث إلا بتدخل خارجي في قانون «الكم» الخاص بها؛ فالذرة أيضًا لا توجد وحدها، ولكنها توجد ضمن مجموعة هائلة دائمة من الذرات تكوِّن الجزيئات، والجزيئات لا توجد بمفردها ولا المركبات الناتجة عنها، ولا حتى الكواكب والمجرات، هناك دائمًا أنت جزء من كل وجزء من «كم»، وقانون الكم هو المسيطر والحاكم.

ولكنا نعود إلى قضية الإنسان في مصر، الإنسان الذي أصبح كمًّا هائلًا من البشر. المشكلة في ذلك الكم الهائل أنه بشر وأنه مكون من «أفراد» وأن الميزة الأساسية (وربما العيب الأساسي) للإنسان الفرد أنه يستطيع أن يتحرك حركة ذاتية خاصة به لا تخضع للقانون العام. وهذا هو بالضبط ما يُحدث الارتباك؛ فلا نحن ذرات تلقائية تتصرف وفق قانون الكم ولا نحن كائنات سماوية لا تخضع أو مفروض أنها لا تخضع لأي قانون. أي أننا لسنا آلهة نصنع القوانين ولسنا جمادًا نخضع الخضوع الكامل لها. وهكذا لم تكن كثرتنا الهائلة بناءً على قانون أو حكمة وإنما هي بناء على تفكير عشوائي قطيعي لا يرى أبعد من يومه أو أسبوعه. ونحن الآن أمام الواقع الكمي الرهيب يكاد يُحيلنا إلى غزو جهادي يهدد الحياة نفسها ويأكل الحرث والزرع ويأتي على الجمال وكل ما يحيل سطح الأرض إلى مكان جدير حقًّا بالإنسان. ذلك أنه «كم» بلا نظام، بلا حتى قانون الكم الجمادي التلقائي، والنتيجة انظر إلى مشاريعنا، كم من الأقوال والوعود، أوتوبيساتنا، طريقة ركوبنا في الأوتوبيس، الانتظار في المحطات، السير في الشوارع، قطْع التذاكر، التدافع، نظام العمل ونظام الإجازة، دفع الأجور، أن نسكن، أن نطلب الحق، أن نشكو، أن نثور. كم هائل من الانفجارات الفردية بلا قانون، كم عام يُحيل التضارب والتناقض الفردي والجماعي إلى حركة مستقرة عامة إلى أمام. لكننا خمسون مليون كرة، مزدحمون في حجرة ضيقة تتضارب في كافة الاتجاهات، تضاربًا يؤدي إلى تبديد الطاقة ونشوء معارك وخلافات لا معنى لها بالمرة؛ إذ هي ليست الخلافات الرئيسية ولا المعارك الحقيقية الضرورية لتقدم الحياة إلى أمام. معطلات ومعوقات ودهوسة بالأقدام، لا يحكمها حتى قانون الجماد ولا قانون الغاب، ولا قانون البقاء، ولا أي قانون.

فلنكن تكاثرنا، فلنكن مزدحمين، نتضارب ونتهايش ونتناقض، فلنكن أي شيء، ولكن المشكلة في رأيي أننا وصلنا إلى أوضاع أصبحنا فيها نكاد نُفني بعضنا البعض حقدًا واحتكاكًا وصراعًا بلا أي معنًى، وما دام الجذب إلى أسفل وكلنا نغرق فليغرق كل شيء وكل قيمة معنا.

إن الصورة رهيبة فعلًا وكل ما نقرؤه عن «حلول» لها يبدو كأضغاث الأحلام ولم نكن بحاجة إلى أن تصبح ثورة ٢٣ يوليو ثورة حقيقية، على الأقل لوضع قانون واحد نتفق عليه ونحيا به مثلما نحن بحاجة إليه وإليها الآن. ربما هو حظنا أننا في الوقت الذي كنا فيه بحاجة إلى سيادة القانون قامت الثورة لتلغي القوانين السائدة، وفي الوقت الذي أصبحنا فيه في أمس الحاجة إلى الثورة، يسود القانون.

لماذا لا يكون شعارنا الآن: الثورة لسيادة القانون. أو على الأقل لسيادة قانون واحد، وليكن قانون الكم، أو العدل الحاسم أو حتى قانون الجماد؟ قانون واحد نخضع جميعًا وكلنا لسلطانه ولا يكون سلطان لأحد عليه، قانون ينبع منا، ونبتر — وبحدة حسم — أي خارج منا عليه.

قانون واحد، أو مبدأ واحد فقط أو حتى شيء واحد فقط نُجمع عليه، ينظم حركتنا حتى ليجعل لها الحد الأدنى من النظام ولو كان نظام الجماد، فلو بدأ النظام ولو بحده الأدنى لبدأت كافة القوانين الأخرى في الانضباط ولبدأت حياتنا يصبح لها طعم الحياة.

قانون واحد فقط. واحد قانون.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤