الفنان

وأنا في العراق، أهدتني المذيعة التليفزيونية الجميلة ابتسام عبد الله بعد أن أجرت لقاءً طويلًا معي على الهواء استغرق ساعة، أهدتني كتابًا قامت بترجمته. وحين عدت إلى الفندق تصفَّحت الكتاب فوجدته بقلم «ميكيس تيودوراكيس» الموسيقي اليوناني المشهور، أو المشهور عندنا على الأقل بموسيقى زوربا، مع أن زوربا ليست سوى الإيريال الواهن الظاهر لموسيقيٍّ عظيم متعدد المواهب والكفايات، ذلك الذي جدَّد الموسيقى اليونانية كما جدَّد كازانتزاكس الأدب اليوناني. ولقد كنت أعرف أن تيودوراكيس له — بجانب نشاطه كمؤلف موسيقى — مواقفُ ثورية كثيرة مع الحركة الوطنية اليونانية، وحتى منذ الحرب العالمية الثانية أيام أن كان اليونانيون يقاومون المحتلين الألمان مقاومة رهيبة. كنت أعرف هذا، ولكني حين بدأت أتصفَّح الكتاب، وجدت أن هذا الجزء الموسيقي الظاهر من ميكيس أيضًا ليس سوى الإيريال الواهي لمكافح وطني عظيم، كان ولا يزال من قادة الحركة الوطنية هناك، وألَّف تنظيمًا هائلًا اسمه منظمة شبيبة لاميراكبس، قامت بقيادته بما يشبه الثورة الثقافية في اليونان، وأنشأت وبجهودها الذاتية بيوت ثقافة ومكتبات ونواديَ، وكانت أحيانًا تُنشئ الطرق والكباري، وتحل للقرية أو للمدينة مشاكلَها بنفسها ودون انتظارٍ لإجراءات وأوامر الحكومة المركزية.

ولكن حدث الانقلاب العسكري المعروف في اليونان عام ١٩٦٧م، عام الهجوم الأمريكي الشامل في أوروبا والشرق الأوسط وآسيا، وقُبِض على ميكيس.

الكتاب الذي أهدتنيه ابتسام اسمه «يوميات المقاومة في اليونان»، وهو تقريبًا تاريخ لحياة تيودوراكيس الذاتية؛ فقد اعتقله الألمان أيام الحرب ووضعوه في جزيرة أحالوها كلها إلى معسكر اعتقال.

في هذا الكتاب يتحدَّث تيودوراكيس عن قضايا كثيرة، وعن خلافاته مع الفِرَق الماركسية المختلفة، وبالذات مع قيادة الحزب الشيوعي، والغريب أني وجدت اليوميات وكأنها ترجمة ذاتية لقصة خلافي مع الشيوعيين المصريين، بل حتى كل ما كان يدور عندهم داخل معسكرات الاعتقال، كان وكأنه يتحدث عما حدث لنا هنا في معسكرات اعتقالنا في أبو زعبل وسجن مصر والقناطر والواحات.

المهم أنني في قراءتي للكتاب وصلت إلى فقرة يتحدث فيها تيودوراكيس (وهو ينتقل هاربًا من السلطة من منطقة إلى أخرى) يتحدث عن ضيقه بحياة السياسة تلك، وأمله الأكبر أن ينتهي كفاحه ضد السلطة العسكرية بسقوطها كي يستطيع أن يتفرغ للتأليف الموسيقي وللفن.

والحقيقة لقد أغرقت في الضحك لسذاجة تيودوراكيس من هذه النقطة بالذات؛ فهو طوال الكتاب يتحدَّث عن الأشعار والأناشيد التي لحَّنها والموسيقى التي ألفها، ويهرب من بدروم إلى بدروم، ومن منفًى إلى منفًى، ومن سجن إلى سجن.

ضحكت لأني تصوَّرت أن كفاح تيودوراكيس هذا لو تُوِّج بالنجاح، وكفَّ هو عن النضال لما تفرَّغ للتأليف الموسيقي كما يقول، وإنما لَكفَّ عن التأليف والتلحين كليةً؛ فالفن، وبالذات الفن الحقيقي الثائر هو فن المقاومة، لا يُفرزه الفنان إلا وهو محموم يقاوم ما يتصوَّر أنه العبودية والظلم.

الفن يا عزيزي ميكيس هو المقاومة. وها أنت الآن في باريس، في عاصمة الفن في العالم، مُحاطًا بالشهرة وبإمكانية التأليف أربعًا وعشرين ساعة في اليوم لو أردت، فكم قطعة ألَّفتها؟ واحدة، اثنتين، ثلاث. إنك باعترافك لحنت أوبريتًا بأكملها في يوم واحد أيام كنت تقاوم، وكتبتها في بدروم على ضوء شمعة.

والآن أنت في قلب النور.

ولا مقاومة.

والنتيجة … لا فن!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤