من سِفر الحياة والموت

وقفت في ميدان طلعت حرب مبهورًا أتطلع إلى الوجوه، كان المفروض أن أعبر ولكني في وسط الطريق أدركت فجأة أني كالمارين المسرعين في الميدان لا نرى ما يجب أن نراه، كل منا في عالم داخلي شديد الظلام والتعقيد، العيون مفتوحة، ولكن ما في الأنفس من ضباب يحجب الرؤية. العصر ذهب. المغرب حلَّ. نسمات الغروب تُعيد إلى القاهرة إنسانية فقدتها طول النهار من فرط القيظ والزحام، الأضواء، الألوان، الحركة، الابتسامات، الأيدي الممدودة في رفق تُطبق على الأيدي، الحياة. أجل الحياة. بعمق رحت أتنفس، آخذ الشهيق بسرعة وعلى عَجَل وكأني أخشى ألا آخذه، ثم ببطء وبإرادة وباستمتاع على مهل أخرجه، وأتحكم فيه، وأُثبت لنفسي أني فعلًا أتنفس، وأني ما دمت أتنفس فأنا أحيا، ولأني حي فالحياة جميلة جدًّا، حتى ما فيها من عذاب جميل. ضجة الأصوات والأبواق والحركة تدغدغ أذني، الوجوه من فرط ما هي حية أحس أنها تبتسم، ومن فرط ما أتخيل ابتسامها حقيقيًّا أحس أنها سعيدة، ولكنها لا تبدو سعيدة تذكرني بتلك القصة الصينية القصيرة جدًّا الهامة جدًّا.

قصة الرجل الصيني الذي كان سائرًا مرة في الشارع جوعان، حافيًا لم ينم، ولم يجد مكانًا للمأوى. نظر إلى السماء وقال: يا إلهي، إني أتعس مخلوقاتك. ومضى الرجل في طريقه ولكنه بعد لحظة رأى شخصًا آخر قادمًا في الاتجاه المقابل، ساقه مقطوعة ويحاول بكل ما يستطيع أن يسير على عكاز. والسير متعب ومرهق ومعذب، وهنا نظر بطلنا إلى السماء من جديد وقال: يا إلهي، اغفر لي، أنا أسعد مخلوقاتك. إن مالك الشيء لا يحس به من فرط امتلاكه، والأحياء يبدو أنهم من فرط امتلاكهم للحياة وإحساسهم بامتدادها يفقدون الشعور بها، بل يفقدون، وهذا هو الأهم، الشعور بمتعة أنهم أحياء.

ولست هنا في مجال أن أروي القصة كاملة؛ فهي في الواقع أغرب وأبشع، والمدهش أنها أيضًا أروع وأمتع قصة أُتيح لي ليس فقط أن أُعايشها وإنما يتعلق وجودي نفسه بخيط واهٍ دقيق بين أبهج ما في الحياة من إحساس وبين سكوت الموت والعدم، قصة لحظات مواجهة القوة الإلهية المهولة الحالقة البانية والقوى الشريرة الأخرى الهادمة، قصة طويلة ليس هذا أوانها على أية حال؛ فأنا لا أريد أن أكتب الآن قصصًا، وليس هذا وقت اعتصار النفس لإفراز الفن، يكفي أني أنتزع نفسي من الإحساس البريء العظيم أني حي بين أحياء، وأضيق الفتحة كي لا تسري الحياة إلا من خلال مِداد القلم. لحظة لا أملك فيها إلا دردشة أحس فيها بحنين جارف إلى القارئ حتى ولو لم يحس هو بحنين لي. لحظة رسالة لا أبعثها من عالم آخر، أو من على شفا عالم آخر، وإنما أبعثها من قلب هذا العالم الموجود، لا أقول فيها — لمن يهمُّهم الأمر — إن الحالة طيبة، والقوى الظالمة لم تجتح كل شيء بعد. لا تزال الحياة قوية نابضة رائعة وارفة الظلال، ولا زلنا، والحمد لله، أحياء أقوياء قوة الخير والحق والجمال وإنما أيضًا أقول للأحباب وللأصدقاء وللقراء: لا تخافوا، ليس بالتحديد من الموت؛ فالخوف من الموت غريزة قبل أن تكون دعوة أو نصيحة، الخوف من الموت هو بالضبط الحياة في أدق تعريفاتها، إنما أقول، لا تخافوا حتى وإن جاء.

والحق أني أقولها كمجرب، وكمجرب لا تزال التجربة بالنسبة إليه طازجة لهيبها يلفحه. تجربة المواجهة الغريبة بيني وبين الموت. وكلنا لا بد قد مرَّ بالتجربة بطريقة أو بأخرى و«كُتب لنا فيها عمر جديد» ولكن الفرق أنها تجارب تحدث رغمًا عنا ولا نوقن أنها حدثت إلا بعد مرورها. أما أن ترى الموت القادم رأي العين، ليس لومضة وإنما لساعات طوال، أن تراه ويراك، هكذا نِدَّيْن غريمين غريبين تتأملان بعضكما البعض في شيء غير قليل من الاستنكار والشماتة. إذن فهذا أنت أيها الموت الذي طالما خوفونا بك، وطالما أرعبتَنا في صحونا وفي نومنا، طالما سبَّبت لنا من ذعر، بل أنت الذعر الأكبر نفسه ولا شيء سواه، فتلك قضية أخرى، بل ربما لأنه الذعر الأكبر تربى في نفوسنا أو في نفسي أنا بالذات حب استطلاع شديد تجاهه، وأحيانًا كثيرة كنت بخيال الكاتب، وبلا تشاؤم أو اكتئاب أتطلَّع إلى اللحظات الفاصلة، حين تجيء النهاية، كيف ستجيء وماذا بالضبط سيحس الإنسان حين ينتقل من كونه حيًّا إلى حالة العدم، أيظل يعي، أيتحول الوعي إلى روح تدرك وتتصاعد وتظل محلقة تفهم وتشارك دون أن تملك القدرة على التأثير والحركة؟ كانت أسئلة كثيرة كهذه تدور ببالي وكان الخوف الغامض في الغالب يوقفها ويدفع الإنسان دفعًا إلى أن يفكر في شيء آخر.

ولكن الأمر هذه المرة لم يكن أمر أسئلة، وإنما كان أمر واقع حي أواجهه وأحس أني قد أموت حتى من رعب المواجهة، ولكني لا أملك لها منعًا أو دفعًا فقد أصبحت حقيقة من المستحيل تجاهلها.

ولا أعرف لماذا حدث هذا، أو كيف؟ فلست ذلك الشجاع الذي يرقب قدوم شيء مخيف كهذا وعلى فمه ابتسامة استخفاف، بل أنا لا أعتقد أن أشجع الشجعان لا يخاف الموت، إنما هو شجاع لأنه يرتعب خوفًا من الحدث القادم، ولكن إرادته تفوق رعبه ربما يكون السبب أن المواجهة جاءت نهاية قصة صراع طويلة، بيني وبين الحياة، وبين الحياة والموت، وبين الشك واليقين، وبين التسليم والمقاومة.

•••

أن ترقد في فراشك وعيناك معلقتان، رغم أوامر الأطباء والسسترات المشددة بعدم النظر، ولكن ماذا نفعل في هذه النفس البشرية المحبة للاستطلاع الكامنة فيك؟ عيناك معلقتان برسام تليفزيوني كهربي بجوار الفراش يسجل كهرباء القلب ويرسمها ويوضح جيدًّا ما يحدث لها من ارتباك ويشير إلى لحظة الخطر القادمة. الحياة. كل حياتك معلَّقة بذلك الخيط الدقيق من النور الصناعي يعلو ويهبط في رتابة مطمئنة أحيانًا، أحيانًا يتوقف لومضة، وأحيانًا تركب دقة فوق دقة. غابة من الرعب يحتويها الجهاز الصغير المركب بجوارك. تأمر نفسك وتنهرها بشدة أن تكف عن النظر ولكنك لا تكف إلا للحظات، فكيف تكف عن متابعة مصيرك يتحدد وبمنتهى الوضوح أمام عينك؟ تزحف العينان ببطء إلى حيث الجهاز.

هذه الدَّقَّة قد تكون الأخيرة، آخر دقة يدقها القلب. ماذا يحدث إذا حدثت؟ هل يغمى عليَّ؟ وما هو الإغماء؟ وما الفرق بين إغماء العافية وإغماء العدم، إغماء تعود منه وإغماء لا رجعة فيه، ما الفرق؟ أم تكون، حتى الآن قد مت فعلًا وروحك هي التي تتابع الموقف، وما الذي يحدد إن كنت حيًّا لا أزال؟ قرص جلدي؟ ولكن القرص والإحساس يحددان اليقظة من النوم. أية علامة أخرى أو دليل يحدد الحياة من الموت؟ إني أتنفس؟ ولكن ماذا لو كنت «أعتقد» أني أتنفس؟ ما الفرق بين الحقيقة والوهم هنا؟ وكل شيء يبدو حقيقيًّا تمامًا وكل شيء يبدو وهميًّا تمامًا، بل ليس هناك حد فاصل بالمرة؟ فبجواري مباشرة الفِراش الذي توفيت عليه سيدة الغناء العربي أم كلثوم، بل إن الأجهزة التي استُعمِلت في إبقائها حية لا تزال موجودة ومركونة، حية رغم أن الحياة منها كانت قد ذهبت قبل أن تصل المستشفى، حية بالأجهزة، الفارق كبير بين حالتي وحالتها، أيكون إدراكي لهذا الفارق هو العلامة الوحيدة الدالة على أني لا أزال أحيا، أم أنا أحلم؟ وهذا كله لا يدور في الحقيقة، إنما هو كابوس مرعب، مليء بالأشباح، ونحن الرجال لا نزال نخاف كالأطفال من الأشباح، ولكن الأشباح التي تخيفنا ليست كالأشباح في الحواديت والأساطير؛ فتلك كانت ولا تزال تُخيف الأطفال، الأشباح التي تخيفنا اليوم من صنعنا نحن، أشباح بيضاء معدنية مليئة بعشرات المؤشرات، أجهزة، تكنولوجيا، جملة قصيرة في تحليل طبي، اسم لاتيني علمي، ديابيتس، كانسر، إبثيليوما، كلمة ترد في تقرير طبي أو فحص أشعة، أحس بالثقل الشديد في أجفاني، أريد النوم، أليس هذا علامة أكيدة على أني حي أو على الأقل على أني لا أحلم؛ فالإنسان لا يحلم بأنه يريد أن ينام. الإنسان لا ينام في الأحلام، ولكنه دائمًا يحلم أنه يستيقظ من نومه، ولكن، لماذا لا أكون أحلم أني أريد أن أنام، وأن النوم يُناديني بإغراء يُفكِّك المفاصل ويرخي العضلات، وأني لم أعد أدري؟

وإلى الآن، وأقول لكم الحق، إني لا أزال لا أدري، ولا أزال غير متأكد أني اجتزت البرزخ، ومن أي اتجاه، هل إلى متسع الحياة أم إلى متسع الأبدية، أصافح وأسلم وأتكلم، وأحس وأشعر، ولكن من قال إن هذا كله دليل حياة، من قال حتى إنه دليل يقظة؟

ولكن إذا كانت هذه — ولتسمحوا لي بتحفظ آخر — هي الحياة، وأننا لا نزال في عِداد الأحياء، فلا أعتقد أن الفضل في هذا يعود إلينا، ولا بالتحديد لأي منا، وإنما الفضل لخالق كل شيء وخالقنا، وبقينا أحياء أو موتى هذا لا يهم، المهم أننا في ملكوته لا نزال. ولكن لأننا جزء منه وهو أيضًا منا، فإرادتنا هي الأخرى من إرادته، وإرادات كثيرة قد ساهمت في أن أظل معكم، ربما آخرها جميعًا إرادتي أنا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤