التثقيف اللاسلكي أيضًا

ختامًا لموضوع التثقيف اللاسلكي، أحب أن أقول إن ما يمكن كتابته حول هذا الموضوع لا نهاية له. فالموضوع ليس فقط موضوع الدراما في الإذاعة والتليفزيون (وبالمناسبة عاتبني بعض الأصدقاء لأني لم أذكر بعض المسلسلات ذات المستوى التي أُذيعت خلال شهور ماضية مثل: الأيام، وهي والمستحيل وسهرة استقالة عالمة ذرة وتحقيق وغيرها) ولقد عجبت من العتب والعتاب، فما من شك أن هذه أعمال كانت جيدة. ولكن، ماذا تكون؟ قطرة في بحر؟ أنا لم أكن بصدد «نقد» ما يقدمه التليفزيون والإذاعة من أعمال درامية، لقد كنت بصدد مراجعة شاملة للمادة الدرامية التي وصلنا إلى أنها في حاجة إلى ١١٣ مؤلِّفًا مسرحيًّا متخصصًا باعتبار أنها في حجم مئات المسرحيات. وهذا شيء مختلف تمامًا عن تقييم بعض ما قدم. كنت أريد أن أقول إن المساحة المخصصة للدراما في الإذاعة والتليفزيون أكبر بكثير من إمكانياتنا التأليفية والإخراجية والتمثيلية. والدليل بسيط: إننا لا نستطيع أن ندلل إلا بضرب أمثلة لمسلسلة أو مسلسلتين أو سهرة أو سهرتين بينما الساحة تُشكل مئات المسلسلات والسهرات والتمثيليات.

وليس المساحة الدرامية فقط. إن خارطة البرامج للإذاعة والتليفزيون في حاجة قصوى إلى إعادة نظر؛ فبعد ظهور التليفزيون أصبح الراديو في العالم كله مصدرًا لشيئين رئيسيين: الموسيقى والأخبار. كل إذاعات العالم الآن لا تعتمد إلا على هاتين المادتين، أما بقية المواد، ومن بينها الدراما، فإنها توضع على الخارطة بحساب دقيق وبحشد هائل لإمكانيات فنية تُحتِّم على المستمع ألا يغلق الراديو أو يتحول لمحطة أخرى، وما أسهل ما أصبح في استطاعة المستمع أن يتحول لمحطة أخرى.

مطلوب إذن من أي خارطة جديدة للإذاعة أن تحفل بكثير جدًّا من الموسيقى، وقليل جدًّا من الكلام، كثير جدًّا من الأخبار وقليل جدًّا من الأحاديث والتعليقات. كثير جدًّا من الحقائق وقليل جدًّا من الحقائق الموجَّهة (إن صح التعبير).

أما التليفزيون فإن ما نحتاجه في الحقيقة هو، بعد تغيير مفهوم الرقابة والأُسس التي تُختار عليها المادة الدرامية سواء أكانت مسلسلات أم أفلامًا قديمة أم حلقات مستوردة فلا بد من مفهوم جديد تمامًا للأحاديث وللمقابلات التليفزيونية وبالذات للبرامج الدينية. برنامج المسلم الصغير مثلًا الفكرة ممتازة إذ المطلوب أن يعرف الأطفال كثيرًا من أمور دينهم. ما نفعله أننا حولناه إلى مسابقة في «حفظ» الآيات والأحاديث. وجانب الحفظ هذا ليس إلا جانبًا واحدًا من جوانب كثيرة نربي بها الطفل، فإذا اقتصرنا على «تحفيظه» الدين، «وتحفيظه» مواد الدراسة من لغات وعلوم، و«تحفيظ» الهندسة والطب وغيرها؛ فالنتيجة أننا سنحصل على «أشرطة تسجيل» ممتازة، ولكن أن نحصل فعلًا على مواطنين أطباء ومهندسين وعلماء وعمال وعاملات ومدرسات وعالمات فمسألة أخرى مختلفة تمامًا. أذكر وأنا في نيويورك أنني شاهدت برنامجًا في التليفزيون منقولًا عن لوس أنجيلوس، كان برنامجًا غنائيًّا، فتيان وفتيات جميلات جدًّا، سنًّا ووجوهًا وقامات وصحة، يرتدون أزياء بسيطة رائعة الألوان (كان البرنامج ملونًا) وتصاحبهم على البيانو عازفة زنجية سمحة الوجه والملاح، وكان الغناء يدور كله حول معنى واحد: الحب. كيف يبدأ الإنسان بحب نفسه ثم حب أبويه وأقاربه وأصدقائه ثم الناس جميعًا، الحب بمعناه المطلق، حب الإنسان والحيوان والنبات، حب الوطن والناس، حب الجار والجارة والزميلة والزميل. كانت الشمس رائعة تذهب المشهد والألوان مبهرة، والموسيقى تجسد الحب كلمات صافية وألحانًا، وتتسع زاوية التصوير لترينا بانوراما للمشهد، وإذا به فناء كنيسة في لوس أنجيلوس، واليوم أحد، والبرنامج برنامج ديني عن الحب.

أن نغرس في نفوس أطفالنا الدين حبًّا وإيمانًا وتضحية وشجاعة في الحق وصدقًا مع الآخرين والنفس وعطفًا على المسكين وإدراكًا لمعنى أن يكون الإنسان فقيرًا أو محتاجًا. أن يتحول الدين من «كلمات» إلى «معانٍ» و«قيم» لا يمكن أن يحدث بأن يأتي شيخ مُسنٌّ فاضل و«يأمر» الناس بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى. ولهذا فالأحاديث المباشرة والنصائح الجافة المباشرة والردع بالكلمات المهولة المخوِّفة ليس هو الطريق إلى قلب لا الأطفال ولا الكبار، والدين والقيم والمُثل مكونات لا بد أن «تتسرب» إلى النفس البشرية كالبذور لا يمكن «بالأمر» أن تنبت، وإنما بالماء والسقيا والرعاية والكلمة الموحية تزدهر وتنبت.

حديث الروح مثلًا. أتوقع أنا وأنت أن يظهر لنا عالم شاب غارق إلى أذنيه بين أدوات معمله يرفع رأسه فجأة ويفتح لنا طاقة من نفسه تطل منها روحه ويشركنا معه في ذوب وجدانه الغارق في ماديات العلم والعالم. أن تلتفت لنا ربة بيت أنهكتها شقاوة الأولاد ومرض البنت والوقوف في طابور الجمعية، ومع هذا، تترك ما في يدها، وما يشغلها، وتسمو بنا فجأة إلى حيث روحها الغنية، تقف وراء هذا كله، وتمدها بالطاقة لتحمل هذا كله.

ولتعرف الفارق، أُحيلك إلى برنامج حديث الروح في التليفزيون، وانظر أنت وقارن.

ويجرنا هذا إلى الأحاديث السياسية في التليفزيون.

لا بد أن نعرف أن «تصديق» المشاهد للمتحدث وللحديث أهم ألف مرة من محتوى المتحدث أو الحديث. ومشكلة العصر هي مشكلة التصديق. ولا فائدة في أعظم الأحاديث والبرامج إذا لم يصدقها المتفرج أو أدار لها ظهر وعيه. وكان التليفزيون قد ابتدع برامج سياسية شدت انتباه الجمهور حين كانت تحتوي على الرأي والرأي الآخر، ولكن المتفرج ما لبث أن أزورَّ عنها حين أصبحت لا تحتوي إلا على الرأي دون الرأي الآخر. ذلك أن المتفرج لا يفتح التليفزيون ليجعل من نفسه تلميذًا في مدرسة ولو كانت مدرسة سياسية، إنه مستعد أن يفتحه «ليفكر» وليس فقط لأن «يتلقَّى» والرأي وحده يحيله إلى متلقٍّ، بينما الرأي والرأي الآخر يحيله إلى «مفكر» وشتان بين الموقفين.

والمتتبع للبرامج التي تناقش حياة الناس يفجعه أنه لا يسمع في هذه البرامج إلا تصريحات المسئولين عن هذه المشكلة أو تلك. وكأن «مناقشة» المشكلة تتقلص إلى أن تصبح مجرد «عرض» لوجهة نظر المسئول عنها. المطلوب أن «يُناقَش» المسئول فيما يقول، وفي مسئوليته، وأن تُوضَّح العقبات، ولهذا فيعتبر برنامج لو كنت المسئول خطوة على الطريق، إنما هي خطوة واحدة لا بد أن تليها خطوات تصل في النهاية إلى أن نكون مستعدين، تليفزيونًا وحكومة، أن نسمع الصوت المعارض فعلًا وإلا لاعتبرنا التليفزيون — كما هو حادث حاليًّا — احتكارًا لحزب الأغلبية، في حين أن التليفزيون مِلك للمواطنين جميعًا، أغلبية وأقلية، أو هكذا يجب أن يكون.

وفي النهاية نجيء إلى البرامج الثقافية. الغريب أو المضحك أننا في الوقت الذي نشكو فيه من ضحالة ما يقدمه التليفزيون من ثقافة نفاجأ ببرامج مثل عالم الباليه وصوت الموسيقي لا يمكن أن يُقدَّما إلا في بلاد كالسويد مثلًا أو البرنامج الثاني من هيئة الإذاعة البريطانية، فالباليه والموسيقى الكلاسيكية نماذج للثقافة الرفيعة التي لا يحفل بها إلا إنسان شبعان ثقافيًّا، قبل أن نستمع لكونشرتو البيانو رقم ٢ لرحمانينوف ونستمتع به، أعتقد أنه من العدل أن نقدم أولًا برنامجًا نعرف به الفرق بين الموسيقى الشرقية والموسيقى الغربية، ثم الفرق بين السيمفونية والكونسير، والفرق بين كونسير الفيولينة وكونسير البيانو، وبين المدرسة الكلاسيكية الروسية مثلًا والألمانية، ثم نعرف تطور الموسيقى الروسية ثم نصل إلى الخمسة الكبار وأخيرا إلى رحمانينوف وإنتاجه ثم في النهاية كونشرتو البيانو رقم ٢. وهكذا الأمر في باليه بحيرة البجع وغيره. بمعنى أنه إذا كان على جهاز شعبي كالتلفزيون أن يتعرض للباليه وللموسيقى الرفيعة فهو لا بد أن يتعرض لها كإلمام بها وكتعريف، وليس أبدًا كاستمتاع، فمن غير المعقول أن أقدم على قناة جمهورها أربعة ملايين برنامجًا لن يفهمه وبالتالي لن يستمتع به إلا واحد في الألف من جمهوره. إن هذا هو التخبط بعينه. هذه عينات من الثقافة الخاصة التي تقدم لجمهور خاص لا يمكن أن يزيد أبدًا عن جمهور البرنامج الموسيقي الإذاعي، ولندع الاستمتاع به إن شاء الله للخطة الخمسية الثقافية التالية بعد أن نكون قد عرفنا، مجرد معرفة، موسيقانا على الأقل وهضمناها.

•••

من أجل هذا، ولأن الموضوع أضنُّ بوقت القارئ أن يضيع فيه؛ إذ مجاله مؤتمر محدود، نقول فيه للمسئولين عن الإذاعة والتليفزيون ولوزير الدولة برئاسة الجمهورية الأستاذ منصور حسن المسئول الأول عنهما ما نراه، وما يراه غيرنا، مؤتمر «تفكير» وليس مؤتمر نقد ولوم، تفكير جماعي نحاول به أن يساهم كل منا برأي أو اقتراح أو وجهة نظر فليس من المعقول أن نترك لموظف واحد أو بضعة موظفين وإن كانوا يحملون أعلى المؤهلات أن ينفردوا بالتفكير والتخطيط وامتاع وتثقيف وتسييس الملايين.

فإني أُحيل الموضوع كله لمؤتمر محدود كهذا، أرجو أن ينعقد في القريب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤