إلى نزار قباني!

عفوك يا نزار؛ فأنا لا أريد بكتابتي أن أؤلمك، ولكن ماذا أفعل حين تصبح المواساة نفسها مؤلمة، ماذا يفعل الصديق إذا ألمَّت بصديقه كارثة ما كان يتوقعها له أشد أعدائه خبثًا وخِسة؟ ماذا أفعل يا نزار وأنا حتى لا أعرف عنوانك في بيروت لأرسل لك، وإذا عرفته فأنا لا أعرف إن كان لا يزال قائمًا أو أن كل صناديق البريد في بيروت قد انفجرت هي الأخرى وتلاشت؟ لي شهران يا نزار وأنا حائر غاضب مفجوع لا أدري ماذا أفعل. نفس جلستك يا نزار أمام السفارة العراقية المدمَّرة تنتظر بمعجزة تعيد لك الأسطورة التي سحقها الأشرار، جلستك العاجزة الغاضبة ذلك الغضب الجنوني الذي لا بد يجتاح المرء حين يرى الشر بكل قيمه رأي العين، يراه حرًّا طليقًا بينما أنت الحرُّ مقيد مرغم عاجز حتى أن تفتح فمك. نفس جلستك كانت نفس حبستي مع شعوري تجاهك، العجز الغاضب المجنون، ويدي مكبلة وفمي مكبل، وطائرتي مكبلة، وأنا لا أعرف أيهما أشد وطأة، حزني على بلقيسك أم حزني عليك، أم حزني على حياتك كلها التي اشتبكت مع مأساتنا العربية ومأساتنا حتى صرنا جميعًا نغوص في طينها ونغوص حتى غطَّى الطين طاقات الأنوف ولم نعد نستطيع؟

كان لك «توفيق» فأخذه القدر غدرًا، وغدرًا حاول أن يغتالك من قلبك وكانت المعجزة في رأيي أنك بقيت حيًّا.

وعرفت السر حين تعارفنا أسريًّا أكثر، وعرفت بلقيس، وعرفت أنك لم تمت فوق رحمة الله التي سبغها على عبيده في لحظات القضاء المدلهمة تلك لأنها كانت بجوارك.

قبل أن يأخذ الله منك «توفيق» كانت مشيئته كي يبقى لهذه الأمة شاعرًا من خيرة شعرائها على مر الزمان، أن يعطيك بلقيس، إذ قدمت أنت عضويًّا، ولكنها روحيًّا حفظتك حيًّا.

بل وأكثر من هذا، عوضتك عن «توفيق» بابنك الرائع تمامًا «عمرو» الثاني، وقبله كانت قد أعطتك «زينب» وأعطتك النبع والإلهام والحياة المزغردة بالفرحة التي كنت تحياها وسط أو رغم بلادنا التي كانت بالنكبات المولولة تتساقط.

وفي بناء ينهار فيه كل يوم ركن. ويتهاوى حائط، لا بد أن يكون للشاعر فردوسه المفقود أو بالأصح اللاموجود، وإلا لجن، أو اكتأب إلى حد الموت أو مات اكتئابًا. لم تتبادلا أمامنا — نحن أصدقاؤكما اللصقاء — قبلة، ولا مدحتها أو مدحتك بكلمة. لم تنشر علينا وعليها أمامنا كلمات عشقك، ولا زاولت أبدًا معها اللعب، وأنت الأستاذ بالكلمة، ولكنا، جميعًا قُراءك وسامعيك الذين لا يعرفونك كنا نحس أن مؤامرة حب رهيبة تدور بينكما. ذلك الحب الذي لا يقال ولا ينطق أو يستنطق القدسية في جريانه صامتًا ودون أي ملامح خارجية أو تفكير، إنه كالكهرباء السارية في السلك أمامك، والسلك أمامك يحمل الشحنة الصاعقة ولكنك لا تراها ولا حتى يشعر الناس بها.

حب أروع ما فيه أنك لا تقوله أو تعبر عنه، وإنما هكذا، في صمت، تحياه وتتنفسه ولا تفلت أي لحظة من لحظاته.

لقد رأيتها في شعرك كثيرًا، وكثيرًا ما ذكرتها في شعرك، وكثيرًا ما تحدثت عن «حبك» هذا في قصائدك، ولكنك أبدًا لم تصل إلى تصوير عُشر معشار ما كنت أحسُّ أنا أو غيري، وكأنك تتحدث عن بلقيس أخرى، تتعمد أن تخفي نورها ودورها عن أعين الناس؛ فأعين الناس دائمًا حسادة، وإلا ففسِّر لي بربك، أو أنت يا غير المؤمن فسِّر لي، بأي قانون علمي تعتنقه أن يحدث لك هذا؟ اكذب حتى وحاول أن تفسر فأنا قابل، حتى الكذب الواضح أقبله. أن تموت منك بلقيس هكذا.

ميتة كالحالة التي لا تحدث إلا مرة في كل مليون مرة، كحالة ابنك الحبيب «توفيق»، بل ربما هذه أندر.

أن تكون موظفة في سفارة والسفارات مفروض أنها أشد الأمكنة أمانًا وأمنًا، هكذا منذ أن عرفت الدنيا سفارات، بل وأقصى شيء حدث لها أو فيها من ابتكارات الإرهاب أن هوجمت بمسلحين أو أُخذ موظفوها رهائن، أما أن تدك السفارة دكًا بقنابل المدافع وفي وضح النهار، لا ديناميت مخبأ أو طائرة برقت في السماء وألقت حملها واختفت قبل أن تلمحها أو تدركها عين، لا، هذه المرة قنابل مدافع حتمًا استغرقت لتعمل عملها وقتًا كان كفيلًا في أي مكان على سطح الأرض أن يوقف هجومًا فورًا، أو على أقل القليل يعرف مصدرها، أو أن ينجو من جحيمها أحد.

أي تفسير، أي شيء هذا الذي يحدث لنا وفينا وبنا؟

اللهم إن بشريَّتنا لم ترَ شيئًا يماثله أبدًا، وربما بعدنا لن ترى له مثيلًا بالمرة.

اللهم إن هذا ليس موتًا حتى لو كان الميت حبيبًا ونادرًا ندرة بلقيس، ليس موتًا حتى يجد الإنسان لنفسه سلوكًا تجاهه، يعزى أو يواسى أو يذرف الدمع عجزًا، أبدًا ليس موتًا. وإن تكن ضحيته واحدة من غلاة ضحاياه، بلقيس بالذات، ملهمتك، أنت الشاعر المرهف الذي تبكيه فعلًا ميتة نحلة.

لكي يجسد القبح بأشد ما يكون التجسيد قبحًا.

والغدر بأشد ما يكون الغدر خساسة.

والفجيعة بأبشع ما تكون الفواجع عُهرًا.

ليس موتًا وإنما هو إشارة إلهية، ضحيتها صحيح بلقيسك، وإنما كان لا بد أن تكون الضحية في مثل براءتها وطهرها وعفتها، كعروس النيل.

كلحظة الصلاة، كأول بسمة لطفل، علامة قادرة من عند الله سبحانه.

لقد أراد أن يرينا أين وصلنا، وكيف أصبحنا وكم أصبحت وحشيتنا كما ذكرت في قصيدتك وحشية ترتعد لها وحشية الوحوش ويصيبها الذعر وتتوب عن وحشيتها وترتعب وتهرب. إنها أبدًا ليست صدفة.

فلا شيء في الكون يحدث صدفة، إنها الألم الحقيقي الذي يوجع ولا يرحم. لم يعد سوى الألم الموجع، الألم الجلدي والنخزي المدبب وسيلة ينبِّهنا بها الله سبحانه إلى أننا كلنا قد صرنا غلاظًا شدادًا، بحيث لم يعد يكفي أن يتوعدنا الله بجهنم وإنما لا بد يُقيم في حياتنا الأرضية نفسها جحيمًا أكبر، جحيمًا لا يمكن أن يفلت من الإحساس به أبجة الوحوش حتى لو كانت مثلنا بشرًا.

لقد أوقعتني، بقصيدتك عن بلقيس يا نزار، في حيرة كبرى.

فهي قصيدة لا يمكن أن يكتبها سواك، ولا يمكن لك أن تكتبها إلا إذا اختطفت منك بلقيسك وعلى تلك الصورة المخيفة الشوهاء، فلقد أفزعتني وأنت تصور لنا حقيقة ما أدت إليه خلافاتنا، حقيقة صورتنا في مرآة أي مفجوع منا، وكم من فواجع دارت وتدور لنا، ولكنَّ أحدًا لا يمسها أو يدرك وجودها.

عبَّرت بفجيعتك عن أغلبية مفجوعة صامتة لا تجد من يعبِّرون عنها.

فأغلب المصريين يحبون حياة المرتاحين البعيدين تمامًا عن الخطر.

وأنت وحدك اخترت ليطعنك الخطر فتصرخ، وويل لأمة يستحيل شعراؤها إلى صرخات ولعنات تنصبُّ عليها، ويا له من جحيم ذلك الذي يعاديك فيه أعداؤك ويطعنك فيه أصدقاؤك!

صرخت يا نزار: هكذا صرنا لا نبالي أين المسير!

إن ما يبقينا أحياء هو فقط بعض الأمل في مستقبلنا، ولقد أرعبتني قصيدتك، أرعبتني الظروف التي خلقت مولدها، وأرعبني كل ما قيل فيها، وأرعبني أكثر رؤيتي للمستقبل، مستقبل أمتنا من خلالها.

اللهم اجعل ما نراه وما نحياه كابوسًا حتمًا سنفيق منه ونكتشف أنه كان مجرد كابوس، واجعل ما عشناه وقرأناه قصيدة شاعر طُعن في أحصن مكان للحب وللحياة فيه وليس واقعًا ظللنا نتجاهله حتى جسدته لنا قصيدة شاعر.

أما أنت يا نزار، فأي كلام لك أو معك يكشف تمامًا عبث أي كلام أصبحنا نقوله.

إن لك أن تزأر مجروحًا على مدى مائتين وخمسين بيتًا من حزن فولاذي إذا به لهيب الغضب و«تدلقه» على أمة حجر قلبها التكرار المتعمد للفجيعة والفواجع حتى أصبحت لا تستنكر أن يحدث السفارة العراقية ولبلقيسك، ولكل بلقيس ولأي بريء أو طفل أو عجوز، ما حدث ويحدث.

أن لا تتحرك أمة يحدث لها كل يوم ما يحدث لنا كل لحظة لدليل إما على أنها ماتت فعلًا، أو تحجرت قلوبها، أفلح الأعداء في تحجير قلوبها على أنفسها حتى أصبح وجودها وعدمها سواء.

ولأني أعرف، وأنت أيضًا أيها الطفل الحبيب الكبير تعرف أنها ليست هكذا أبدًا وإنما هكذا أرادوا لنا أن نصير، وهكذا أرادوا لنا أن نرى أنفسنا أو تهولنا الرؤية عاجزين مكبَّلين لا نملك لحركتنا حرية أو قدرة على التعبير، نتعذب ونتعذب صامتين لدرجة أننا في النهاية نتحجر، والإنسان إذا تحجر توحَّش وأصبح أغلظ الوحوش جميعها، وبعقلية المتوحش هذا لا يعود يهمه أن يؤلم أو يتألم.

نجح الدهاة أن يشوِّهوا وجه أمة، حتى، وأخيرًا، في عين شاعرها. وويل لأمة لا يعود شاعرها يحس إلا بمدى بشاعتها وقبحها.

ولكن، اغفر لي يا نزار، فما يبقيني ويبقيك ويبقينا جميعًا أحياءً إلا شعاع أمل ضئيل تمامًا وكل يوم يضؤل، ولكن أكاد أقسم لك أنه موجود لا يزال.

وإن بلقيس لا يمكن أن تكون قد تركتك إلى الخواء الأكبر، وإلى أمة رحمها من شوك وديناميت وغلظ.

إنها فقط إرادة الله الأكبر.

إن يضغط على قلبك أنت يا نزار، فالكل يُفجع ويبكي ولكن الشعر وحده هو القادر على أن يُفجع ويزأر، فالزئير هو بكاء القادر مثلما الدموع وسيلة العاجز.

وأنت في وسط ألمك النبيل العظيم، القادر، أن بنا، وبكل ما نملك من قدرة بكل ما لاقاه ويلاقيه كل منا من ألم، تزأر:

لا.

لن تمر المهزلة.

لا يمكن، بعد كل ما فعلوه بنا أن يكفِّرونا بأنفسنا.

فالإيمان هو آخر ما تبقَّى لنا. إن في دنيانا العربية عشرات الملايين من بلقيس تحيا فوق ألغام، بتوقيت دقيق تنفجر.

فازأر؛ كي نبطل مفعولها نزار.

لا.

لن تمر المهزلة.

لن يحولوا جمال كل بلقيس إلى أجساد وأيدٍ وأوجه ممزقة وعِبر.

فبلقيس قد تركتك للقلم.

لا خلاص يا نزار إلا بأن تستحيل الفاجعة على لسانك إلى زئير عودة للبشرية وللإنسانية وللأرض وللإحساس والحب.

أم أنها، كلها كلمات، تجعلني مثلما عبرت تمامًا، الكلمات الفضيحة، وعزائي.

إن كلماتك أبدًا لم تكن فضيحة؛ فالكلمات حين تصبح زئير أسود مجروحة، مخيفة شرط أن تكون زئير أسود حتى لو كانت مجروحة، بل حبذا لو كانت مجروحة.

جرح عرضه الأرض والسما.

جرحك يا نزار، جرحنا.

يا كل نزار ازأر.

فما دام الموت قد أصبح قدرنا الذي لا نهرب منه، فلنمت ونحن نزأر.

إذ ما أخيب أن نموت ونحن نعوي!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤