المقدمة

كتبت هذا الكتاب في ضوء اختباراتي للوسط المصري، وقد عالجت موضوعه من جملة وجهات فلسفية وسيكلوجية واجتماعية.

ونحن نعيش في حضارتنا القائمة عيشًا مكيَّفًا بعادات المجتمع، موجَّهًا إلى أهدافه، مدرَّبًا على أساليبه؛ ولذلك ننساق انسياقًا كأننا ذاهلون، لا نقف ونسائل عن القيم البشرية في هذه العادات والأهداف والأساليب.

وليس شكٌّ أن غاية الحياة أن نحيا الحياة على مستواها السامي، ومعنى هذا الكلام هو أن نعيش بما لدينا من كفاءات بشرية تسمو على كفاءات الحيوان؛ أي يجب أن نعيش بالوجدان والتعقل، وليس بالغريزة والعاطفة. وفن الحياة هو في النهاية الارتفاع بكفاءاتنا الموروثة إلى ما كسبناه واقتنيناه من التراث الاجتماعي الثقافي.

ولكن هذا التراث الاجتماعي الثقافي يجب ألا يسوقنا وألا يضلَّنا عن القيم الأصلية في الحياة. وقد التفتُّ في الفصول التالية إلى ثلاثة أو أربعة أشياء لكل منها مكانة مركزية في البحث عن فن الحياة.

التفتُّ — أولًا — إلى أن النجاح يجب أن يكون كليًّا في الحياة، وليس في الحرفة أو الزواج أو الكسب؛ فإن كلمة النجاح في مجتمعنا الاقتنائي كثيرًا ما يشتبه معناها بمعنى الإثراء، ولكن الناجح الصادق هو الذي يجعل نجاحه شاملًا متوافيًا لنشاط حياته كلها.

والتفتُّ — ثانيًا — إلى أن المجتمع الذي نعيش فيه كثيرًا ما يضلل بنا، ويبعدنا عن القيم البشرية، بل هو أحيانًا يسخِّرنا في أهدافه التي قد تناقض ما ننشد من رقي أو سعادة؛ فهو منا بمثابة المدينة التي تكتنفنا بمساكنها وأضوائها الصناعية، وضوضائها واهتماماتها الزائفة، فنعيش فيها ونكاد ننسى أنه على مسافة ثلاثة أميال منا ينهض الريف في طبيعته النضرة، وأشجاره ومياهه وحيوانه. وقد نألف عادات هذا المجتمع فلا نجد النشاط إلى تغييرها، ولا ننهض إلى الخروج إلى هذا الريف القريب، وكذلك الشأن في تلك القيم الاجتماعية وأثرها في نفوسنا حين نعيش في أَسْر هذه القيم الزائفة مدى حياتنا.

وقد احتجت إلى أن أوضح أن السعادة، كما ينشدها الجمهور، إنما هي في أغلب الأحيان ذهول وتبلد، أو استرسال في العواطف الحيوانية التي تحركها غرائزنا السفلى، وإن هذه السعادة ليست جديرة بإنسان راقٍ يرتفع إلى أن يجعل من حياته فنًّا. وعندي أن الوجدان — أي التعقُّل — هو صميم السعادة، وأنه مهما فدحت الكوارث فإن الوجدان يواجهها في شجاعة وتحدٍّ وفهم.

كذلك التفتُّ إلى قيمة الثقافة من حيث إنها تكفل لنا توسُّعًا ذهنيًّا ينتهي إلى أن يكون توسُّعًا حيويًّا؛ لأنها — أي الثقافة — تزيد اهتماماتنا، وتعوِّدنا عادات إيجابية عندما نصل إلى الشيخوخة. وعلى القارئ أن يقرأ كتابي الآخر «كيف نسوس حياتنا بعد الخمسين»؛ فإني هناك أكدتُّ النبرة في هذا المعنى؛ أي القيمة من الدراسة والثقافة للشيخوخة السعيدة.

وكان يمكن أن أسمِّي هذا الكتاب «الحياة السعيدة» لولا أن كلمة السعادة قد ابتُذلت في معانٍ سفلية، كما أن هناك التباسات واشتباهات كثيرة عن حقيقة معناها. وقد احتجت إلى التنبيه عن ذلك، ولكن في عبارة «فن الحياة» ما يرفع القارئ عن مبتذلات كلمة «السعادة».

وأرجو أن يكون في الفصول التالية توجيه لقرائها من الشباب والكهول.

سلامة موسى

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤