نحن غريزة وعقل

كي نعيش العيشة الفنية، ونحيا حياة الحكمة والتعقل يجب أن نعرف أن كلًّا منا مركب من غريزة وعقل؛ الغريزة هي قديمنا الموروث، هي التقاليد البيولوجية، هي ذاكرة النوع الجامدة، والعقل هو جديدنا الذي يتعلم وينمو ويميزنا بالفهم عن الحيوان.

ذلك أن الحيوان يعيش بالغرائز، أو أن ٩٩ في المائة من حياته كذلك، وفهمه للدنيا ذاتي على مستوى منخفض ليس له وجدان موضوعي، ولكن الإنسان بعقله ووجدانه يستطيع أن يجعل فهمه موضوعيًّا، وأن يصل إلى حقائق الدنيا كما هي في حقيقتها أو ما يقرب من ذلك. وعلومنا وآدابنا وثقافتنا وحضارتنا إنما هي ثمرات العقل وليست ثمرات الغرائز.

الحيوان في ذهول بغرائزه؛ يحيا وكأنه في حلم، والإنسان بالمقارنة به في تنبه ويقظة بعقله ووجدانه، هذا الوجدان الذي يجعله يتصرف وهو يدري أنه يتصرف، ولكن الحيوان لا يدري.

وهذا الوجدان هو الذي يجعلنا على دراية بالموت والفقر والكوارث حتى قبل وقوعها، ونحن بالطبع نشقى بكل ذلك؛ ولكن هذا الشقاء «إنساني»، ولا نرتضي النزول عنه كي نعيش بالغرائز، نعيش في ذهول كما يفعل الحيوان، وعندما نربي أنفسنا أو أبناءنا إنما نعمد إلى هذا الوجدان، ونستنبط التعقل ومحاولة التعرف إلى الأشياء كما هي في حقيقتها، وليس كما تصورها لنا غرائزنا.

وواضح أنه ليس هناك إنسان يعيش بوجدانه فقط يتعقل كل شيء، ويتفهم الدنيا تفهُّمًا موضوعيًّا؛ لأن كثيرًا من تصرفنا يعود إلى الغرائز التي نندفع بها أحيانًا اندفاع الحيوان، أو نسلط عليها الوجدان بالتعقل، فنُعيِّن لهذا الاندفاع سرعته وطريقته.

ومهما حَقُر الإنسان وهان وانحط؛ فإنه يستطيع، عندما يتأمل عقله، أن يقول: ما أعظمني! أي ما أعظم عقلي الذي يتجرد من غرائزي، ويبحث النجوم والأخلاق والشرف والسياسة ومستقبل البشر، وفلسفة الكون، وتطور الأحياء.

ومهما عظم الإنسان وسما ونضج؛ فإنه يستطيع، عندما يتأمل غرائزه، أن يقول: ما أحقرني! أي ما أحقر هذه الغرائز التي اندفع بها إلى الطمع والحسد والعدوان والاقتناء والانغماس والنهم والشر!

ولأن الإنسان عرف الخسَّة التي تنحدر إليها غرائزه، وأحس مضض النفس وصداع القلب في المواقف التي اصطدم فيها عقله بغرائزه؛ لأنه عرف هذه المواقف، عمد في كثير من الأحيان إلى جحد هذه الغرائز بالزهد والنسك، ومن هنا نشأت الرهبنة في بعض الأديان إنكارًا للغريزة الجنسية ولبعض الغرائز الأخرى؛ كالاقتناء والتسلط والحسد والانغماس … إلخ، كأن الغاية أن نعيش بالوجدان والعقل.

ولكن هذا الانحياز نحو التعقل وإنكار الغرائز لا يطيقه إلا الأقلُّون، بل يجوز لنا أن نشك حتى في هؤلاء «الأقلِّين»، وهل أطاقوا نسكهم؟ وهل استطاعوا إنكار غرائزهم أم بقيت هذه الغرائز كامنة مختبئة في أغوار نفوسهم تتحين الفرص، لا للثورة على العقل فقط، بل أيضًا للتسلل ملتوية منحرفة عن طريقها، حتى حملتهم على أن يسلكوا السلوك الشاذ، ويتصرفوا التصرف السيئ؟!

ونحن نعرف من السيكلوجية أن الغريزة وقت التهابها، عندما نسميها عاطفة، تفور بنا كالماء المغلي، وتطلب المنفس والمخرج، فإذا لم تجدهما اندست وبقيت بقوتها تبحث عن المخارج الضعيفة، حتى إذا وجدتها انفجرت، فلا يكون منها غير الأذى الفادح لشخصيتنا. وأولئك الذين حبسوا الغريزة الجنسية — مثلًا — لم ينجحوا قط في إلغائها ومحوها، وقصارى ما وصلوا إليه عربدة جنسية مختلفة الألوان والأسماء، أو هم قد خدعوا أنفسهم من حيث لا يدرون، فاتجه نشاطهم الجنسي إلى ألوان قاتمة من السلوك والتصرف تؤذي المجتمع، وتفتت شخصياتهم.

ولا يطالبنا فن الحياة بكظم العواطف، وقمع الغرائز؛ لأننا لا نستطيع أن ننكر طبيعتنا؛ إذ إننا غرائز وعقل، فيجب أن نصالح بينهما؛ أي أن نهذب غرائزنا، ونجعلها ملائمة لقواعد المجتمع الذي نعيش فيه دون قمع أو جحد.

وفي أغلب الأحوال ينتهي معنى التهذيب للغرائز إلى الاعتدال؛ فلا نسرف في الانقياد للعاطفة الجنسية، ولا نغلو في الطموح والغيرة والحسد والتسلط. وكلمة «غريزة» من الكلمات الغامضة؛ لأننا نجهل أصلها، هل هو طبيعي أم اجتماعي؟ ولكنا عندما نتأمل نشاطنا الاجتماعي كله، ذلك النشاط الذي ينظمه العقل، وإن كان مرجعه غريزيًّا، نجد أنه يعود إلى ما يشبه أن يكون غريزة واحدة هي شهوة الأمن والطمأنينة.

وهذه الشهوة أصيلة في الطبيعة البشرية، وهي التي تدفعنا إلى جمع المال واقتناء العقارات والمنقولات، والانغماس في الكسب، كما أنها هي الأصل في الغيرة والحسد والطموح والطمع. ونحن نمارس كل هذه الأشياء مدفوعين بالخوف؛ أي الرغبة في الطمأنينة، ثم ننساق في عادات هذا النشاط التي تتملكنا فلا نعرف أين نقف؛ كتلك البهيمة التي نشدها إلى الساقية فتدور وتجرها مكرهة، حتى إذا جئنا كي نحل رباطها ونطلقها رفضت واستمرت في دورتها بقوة الاندفاع الأول.

فهناك — مثلًا — من ينساق لغريزة الخوف ويطلب الطمأنينة بجمع المال. وهذا حسن إذا عرف أين يقف، ومتى يقنع بمقدار من المال يحقق هذه الطمأنينة، ولكن بعيد جدًّا أن يعرف هذا؛ لأنه حتى بعد أن يحقق هذه الطمأنينة، ويجمع من المال ما يكفيه هو وعائلته ينساق في عادة الجمع، فلا يكون المال خادمه، بل سيده الذي يستبد به، ويحمله على الجهد أكثر من عمَّاله الذين يخدمونه، حتى ليصل إلى مكتبه أو متجره قبل دخولهم، ويخرج بعد خروجهم.

هذا هو شأن كثير من الناس الذين يشقون لأنهم ينساقون مندفعين بغرائزهم دون أن يسلطوا عقولهم عليها؛ فيعتدلون وينظمون نشاطهم كي يعيشوا الحياة الفنية المتناسقة. ومن شأن الغرائز أنها تسرف وتغلو؛ لأن الطبيعة تحرص على بقاء النوع، وقد جهَّزتنا بهذه الغرائز قبل أن تجهزنا بالعقل؛ وذلك كي تكفل لنا البقاء والتغلب في ميدان التنازع بين أنواع الحيوان وأفراده للبقاء.

اعتبر — مثلًا — غريزة التناسل؛ فإن رجلًا واحدًا — واحدًا فقط — يحمل في جسمه من الجراثيم المنوية ما يكفي لتلقيح أناث النوع البشري كله! ونجد مثل هذا الإسراف في سائر الغرائز؛ فإن غريزة الحيوان تحملنا على الرغبة في التسلط بامتلاك هذا الكوكب إذا قدرنا، وقد حاول ذلك الإسكندر وتيمورلنك ونابليون وهتلر. وحين نشرع في الاقتناء نتوهم أننا يجب أن نجمع ما يكفينا ألف سنة!

وقيمة العقل أنه يتسلَّط على غرائزنا، ويحملنا على الاعتدال، ولكن بلا زهد أو نُسك؛ أي بلا إنكار للغرائز. وقد يكون لقليل من الزهد قيمة في التذاذ العيش؛ أي في التأنق في الاختيار بالامتناع عن قبول كل ما يرد؛ كالعطش يجعل الشراب أسوغ، ولكن الاستمرار عليه جنون قاتل.

وتقتضينا الحياة الفنية أن نعيش بالعقل والغريزة معًا في مصالحة ووفاق بين الاثنين، ولكن في تحيز نحو العقل؛ لأن العقل إنساني والغريزة حيوانية، ولأن الفرق بين الإنسان الإنساني والإنسان الحيواني هو أن الأول يعتمد في الأكثر على وجدانه وعقله، في حين يعتمد الثاني في الأكثر على غرائزه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤