الفصل العاشر

لقاء الحبيبين

باتت أرمانوسة تلك الليلة تفكر تارة في مرقس وخطيبته، وطورًا في تأخر أركاديوس عن المجيء لنجدتها بعد أن بعثت إليه مرتين، وكاشفت بربارة بذلك، فقالت: «أظنه لا يستطيع الخروج من الحصن خلسة خوف الفضيحة، أو لعله يأتي في صباح الغد.»

وأصبحت وهي تنتظر رجوع مرقس، أو من ينبئها بخبره أو خبر خطيبته؛ لأنها كانت في قلق عليها، فجاءتها بربارة تنبئها أن الحراس عادوا وأخبروها بظفره بمارية، وتمنَّت أن تظفر هي بأركاديوس أيضًا، فقالت أرمانوسة: «وكيف ظفروا بها؟ وماذا فعلوا بذلك الخائن؟» قالت: «قتله فارس لم يعرفوه بعد.»

وفيما هما في الحديث جاء بعض الخدم يقول: «إن رجلًا يريد السيدة أرمانوسة.»

فسألت بربارة عن الرجل، فقيل لها إنه من الجند، ولعله رسول، فهرولت وهي تحسب أنه رسول من أركاديوس، فإذا هو بلباس مرقس، أو مثل لباسه فظنَّت لأول وهلة أنه هو، ولكنها لما تأملته علمت أنه غيره، فقالت له: «ماذا تريد؟» فقال: «أريد السيدة أرمانوسة، فإني رسول إليها من صديقي مرقس، وقد جئت لأشكرها بالنيابة عنه.» فقالت بربارة: «إنها لا تزال في الفراش الآن، وسأعلمها بقدومك، ولا شك أنها تُسَرُّ كثيرًا بنجاة مارية، وقد يتيسر لك رؤيتها إذا عدت بعد قليل.»

فقال: «لا، بل أريد مقابلتها الآن، وكان يكلمها باللغة القبطية.»

فعجبت لهذه الجرأة، وتأملت وجه الرجل فإذا هو روماني، فلاح لها أنها تعرفه لما رأت بينه وبين أركاديوس من الشبه، ولكنها لم تكن تتوقع أن يكون أركاديوس نفسه لما رأت من لباسه وحاله.

فقالت: «قد لا تريد أن تقابل أحدًا الآن.»

فأمسك بيدها وقال: «أظنها إذا عرفت من أنا لا تمتنع عن مقابلتي، فإني رسول جئتها ببشارة من أركاديوس بن الأعيرج، فهل تعرفينه يا بربارة؟»

فلما سمعت لهجته رجح لديها أنه هو، فالتفتت إلى ما حولها فلم ترَ أحدًا من الخدم فقالت له: «لعلك سيدي أركاديوس؟» قال: «ربما كنت هو (وتبسم) فأين سيدتك يا بربارة؟»

فبغتت، وخفق قلبها فرحًا، وقالت: «تمهل قليلًا؛ لأن في دخولك الآن بغتة خطرًا عليها، فاصبر قليلًا غير مأمور لأمهد السبيل لملاقاتكما.»

ثم دخلت على سيدتها، وعلى وجهها أمارات البشر، وهي تضحك، فلما رأتها أرمانوسة عجبت لسرورها فقالت: «ما وراءك يا بربارة؟» قالت: «ما ورائي إلا الخير.»

قالت: «ومن القادم؟» قالت: يقول إنه صديق مرقس، وقد جاء لينبئك بنجاة عروسه من يد اللصوص.» قالت: «قد سررت كثيرًا بنجاتها، ولكنني لا أرى ذلك داعيًا لما يظهر من سرورك.»

قالت: «وما عسى أن يكون سبب سروري إذن؟ وهل يكون سروري برسول قادم من عند أركاديوس أكثر من ذلك؟ كلا، لأن هذا إنما يسرُّك أنت، وأما أنا فلا ناقة لي فيه ولا جمل.»

فبغتت أرمانوسة ونهضت قائلة: «هل هو رسول من أركاديوس يا بربارة؟ أخبريني ما هي رسالته؟»

قالت: «لا أعلم إذا كان رسولًا من أركاديوس أو هو أركاديوس عينه؟» وتبسمت، فقالت أرمانوسة: «ما بالك تخلطين؟! أفصحي. أتهزئين بعواطفي وتسخرين من قلبي؟!»

قالت: «حاشَ لله يا سيدتي، كيف تقولين ذلك وأنت تعلمين حرمتك عندي؟ إن الواقف بالباب الآن إما أن يكون أركاديوس أو رسولًا من عنده، وقد تركت أمر تمييزه حتى أستشيرك، فهل تريدين أن يكون أركاديوس أو رسولًا من عنده؟»

قالت: «لا أعلم، سلي قلبك، ولكن أرجو أن تسرعي في الإفصاح فقد نفد صبري، هل هو أركاديوس أو رسوله؟ قولي.»

قالت: «إذا كنت لا تغضبين مني فهو سيدي وحبيبك أركاديوس، فهل تأذنين له بالدخول؟» فخفق قلبها فرحًا، وعلا وجهها الاحمرار، ثم تلاه الاصفرار، وقالت وصوتها يرتجف: «فليدخل.» ثم استأنفت فقالت: «ولكن تمهلي يا بربارة. إني أرى قلبي يخفق كثيرًا، ولا أدري ماذا يحل بي عند مقابلته؟»

فقالت لها: «تجلَّدي، وإلا فإني أقول له إن سيدتي ليست هنا، أو أنها لا تريد مقابلتك. وليهدأ قلبك فإنه لابس لباس الجند حتى إنك ربما لا تعرفينه، فهل يدخل.»

قالت: «كيف لا أعرفه؟! فليدخل.»

فخرجت بربارة وعينا أرمانوسة تشيعانها، وقد أحست بارتعاش جسدها وبرود أطرافها، ولم تصدق أن أركاديوس على بضع خطوات منها، ولما وقع نظره عليها نزع خوذته عن رأسه، واقترب منها وهي جالسة تحاول الوقوف فيقعدها الحياء والرعشة. أما هو فمد يده يصافحها فأحس ببرد أناملها وارتعاشها، ونظر إلى وجهها فرأى الحياء يعلوه، وقد أطرقت لا تستطيع النظر إليه لشدة انفعالها.

ولكنها ظلت ممسكة بيده، وهو ينظر إلى تلك اليد الجميلة البضة تزيد جمالها الخواتم الثمينة المرصعة، وبقيا لحظة صامتين والهوى يتكلم، ثم بدأ هو فقال: «كيف حال ذلك الخاتم يا أرمانوسة؟»

فرفعت رأسها ونظرت إليه والحياء يمنعها عن الجواب، ثم أطرقت وقد ازداد خفقان قلبها حتى كاد يغمى عليها، فشعر أركاديوس بذلك فأراد مداعبتها، فقال وهو يضغط بأنامله على يدها: «أين وضعت ذلك الخاتم؟»

فنظرت إليه وهي تبتسم، وتنهدت وأشارت بيدها الأخرى إلى قلبها، تريد أن الخاتم في قلبها، وازداد وجهها احمرارًا.

فقال: «وماذا فعلت بقسطنطين؟»

فجذبت يدها من يده والتفتت إليه شبه مغضبة، كأنها تقول له: «لا تذكِّرني بمصائبي.» فقال: «ولمَ لم تذهبي مع رسوله وهو ينتظرك عند بحر دمياط؟»

فلم تتمالك نفسها عند ذلك وقالت: «دعني ومصائبي يا أركاديوس. كفاني ما قاسيته.»

فتناول كرسيًّا كان إلى جانبه وجلس، وقد أخذ منه الهيام مأخذًا عظيمًا، فأمسك بيدها وضغط عليها قائلًا: «بل كفاني توبيخًا يا أرمانوسة.»

قالت: «ومن قال لك أني أوبخك؟» قال: «عيناك.»

قالت: «لقد أخطأت الظن، وأنا المستحقة للتوبيخ لأني لم أصرح على رءوس الأشهاد بأني لا أريد ذلك الرجل، ولكنك تعلم حالي.»

فقال: «قلت لك يكفيني توبيخًا، وأنت تبالغين في توبيخي، فإذا كنت ترين في كتمانك قصورًا. فكم يكون قصوري؟ ولكنك لا تجهلين أمري أيضًا.»

قالت وهي مطرقة، وقد ازداد تورد وجنتيها وتلألأ العرق على جبينها: «إني أعلم أنك رهن مشيئة والدك، فلا لوم عليك إذا غادرتني مراعاة له، ولكنني أود قبل مماتي أن تتحقق مما لك في هذا القلب من …» قالت ذلك وشرقت بدموعها.

فازداد هيام أركاديوس، ورأى أنها توبخه لإمساكه عن التصريح بحبه لها، فأخرج منديلًا ومسح به جبينها ثم مسح به وجهه، فانتعش من ريحها، والتفت إليها فازدادت خجلًا، وبالغت في الإطراق، فقال لها: «هل تظنين إرادة أبي تحول بيني وبينك، وقد سلَّمتك خاتمي وقلبي؟! وما الذي ساقني إليك الآن مخاطرًا بحياتي، وأنا لا أدري ما يسوقني إليه غضب أبي إذا علم أني غادرت الحصن على حين غفلة، ونحن في حال حرب؟ وكم يكون غضبه إذا علم أني جئت لأجلك؟»

فجذبت يدها من يده وهي لا تزال مطرقة وقالت: «قلت لك إنك مقيد بإرادة أبيك فكذبتني.» فقال: «وهل أبي يحول بيننا؟!»

قالت: «وقد نظرت إليه نظر العاتب: «وماذا إذن؟! وأنا لا ألومك، فإن إطاعة الوالدين واجبة، لأنها من وصايا الله العشر.»

فشعر أركاديوس بثقل العبارة عليه، وما تتضمنه من التوبيخ، وثارت فيه الحمية الرومانية، واعتدل في مجلسه وقال لها: «اعلمي يا أرمانوسة أن أركاديوس لا يطيع أحدًا في سبيل إغضابك، ولا يثنيه عنك أمر في السماء أو الأرض، وهيهات أن ينال منك ابن الإمبراطور شعرة قبل أن تجري الدماء، ولا يحول بيني وبينك شيء إلا إذا أردت أنت التقرب من البلاط الملكي، وفضَّلت القسطنطينية وقصورها على هذا الأسير المفتون.»

فتنهدت تنهدًا عميقًا، والتفتت إليه قائلة: «أراك تستهزئ بعواطفي أو لعلك تستضعف النساء فلا تؤمن بثباتهن في الحب، ولا يعلم مقدار ما أنا فيه إلا هذه الرفيقة العزيزة التي هي بمنزلة والدتي، وإن في هذا الخنجر الذي لم يفارقني لأكبر شاهد على صدق محبتي لأركاديوس.» قالت ذلك وأشارت إلى الخنجر في بعض جهات الغرفة.

فخفق قلبه عندما ذكرت الخنجر وقال: «ماذا تعنين بالخنجر؟»

فتقدمت بربارة عند ذلك، وكانت مصغية إلى ما يتبادلان من عبارات الوداد، وقلبها يكاد ينفطر، ودموعها تتساقط على خديها من التأثر، وقالت: «إنها كانت تخفي عليَّ أمر هذا الخنجر، ثم علمت أنها كانت تريد الانتحار إن تحققت وقوعها في يدي قسطنطين، وقد كادت توقع بنفسها ضررًا عند قدوم يوقنا لو لم يصل مرقس الخادم الأمين بالبشرى.»

فأعجب أركاديوس بثباتها وشهامتها، وازداد تدلُّهًا بها فقال: «أتكونين في مثل هذا الثبات وتشكِّين في ثباتي؟! ثقي يا أرمانوسة أن هرقل وجنوده، وأهل الأرض قاطبة، لا يستطيعون مس شعرة من شعرك وأركاديوس حي يرزق، ولو علمت أن جهري بحبك الآن لا يأتيك بضرر لوقفت على قارعة الطرق وأشهرت غرامي، ولكنني رأيت من الحزم أن نصبر حتى يأتي الله بالفرج، فهل تبقين على العهد؟»

قالت: «أتسألني يا أركاديوس بعد ما رأيت وسمعت؟! أتسألني عن البقاء على العهد وقد خالفت الشرع والعرف من أجلك؟! أتسألني إذا كنت أصون عهدك؟!»

قال: «ليجمع الله بيننا، وهو على كل شيء قدير، فلنأخذ الأمر بالحزم والتروِّي، فإن قسطنطين لن يطمع فيك، والحالة لا تسمح بذهابك إليه ولو أراد أبوك ذلك، فإن العرب قد قطعوا السبيل على المارَّة، ولا بد من أن تنقضي هذه الحرب إما لنا وإما علينا، وستسمعين عن حبيبك أركاديوس ما يسرك، والله لأحاربن الروم والعرب في سبيل رضاك؟»

فأمسكت بيده قائلة: «لا تذكر الحرب ولا المحاربة، إني أخاف عليك النسيم، فكيف بالنبال والسيوف؟ وكيف تقول إنك تحارب عني؟»

قالت: «دعنا من الحرب، وهلمَّ بنا نرحل عن هذه البلاد، بلاد المخاطر والقلاقل.»

فوقف بغتة ويده على حسامه وقال: «أتريدين أن يفر أركاديوس من وجه العدو؟! وهل ترضين به جبانًا يخاف الموت؟! ولماذا هذا الحسام إذن؟!»

قالت: «لا وحبك، لا أحب الجبان، ولا أرضى أن يكون أركاديوس جبانًا، ولكن قلبي لا يحتمل أن أرى أو أسمع أن الناس يرمون النبال عليك.»

فقال: «دعيني إذن وشأني والوغى، فإذا سلمت بعدها كنت أهلًا لرضاك فلا تندمين على استبدالي بقسطنطين.»

فصمتت وهي تتردد بين الشهامة والحب، ولم تُجب، فنهض أركاديوس عند ذلك وهو يقول: «لا بد لي يا أرمانوسة من العودة إلى أبي الآن؛ لئلَّا يمسني عار لتخلفي عن الحصن خلسة ونحن في حرب؛ فقد خرجت منه ولا يعلم بي أحد، ولقيت في طريقي مارية، خطيبة خادمك مرقس، وقد اختطفها اللصوص. وسمعت صوتها تستنجد المارِّين، فخُيِّل إليَّ أن أرمانوسة في يد العدو، فأنقذتها وسرت وأنا ملثم أخاف أن يراني أحد فيعرفني، حتى جئت إلى ظاهر بلبيس، ولقيت مرقس وتعارفنا سرًّا، فلبست ثيابه متنكرًا، وتركت جوادي وثيابي معه، وقد توسمت فيه الخير، وهو الذي أخبرني بجليَّة الخبر عنك، وسنعتمد عليه في المخابرة حين الابتعاد، والآن لا بد لي من الذهاب.»

فنهضت أرمانوسة ونظرت إليه وهي حزينة ولا تريد فراقه، ولكنها قالت له: «سر بحراسة الله، وها أنا ذا باقية في بلبيس لا أدري ما يكون من أمرنا والعرب قادمون إلينا.»

قال: «سأحث أباك أن يستقدمك من بلبيس عندما يتحقق خيانة يوقنا.»

قالت: «افعل ذلك يا أركاديوس، فأنا على العهد إلى أن يقضي الله بما يشاء.»

فهمَّ بالخروج ولكنه عاد فقال لها: «فاتني أن أذكر لك سروري بالوسيلة التي أنقذت بها مارية من الإغراق في النيل.»

قالت: «لعلك تذكِّرني بجرأتي عليك واستعمالي خاتمك يا أركاديوس؟»

قال: «حاشَ لله، إني سلَّمتك قلبي أفلا أسلمك خاتمي؟! فاصنعي ما بدا لك، ولكن ألا ترين أن تُنعمي على أركاديوس بتذكار منك؟»

قالت: «وما عسى أن أقدم لك وقد ملكت كل عواطفي؟ إن لديَّ تذكارًا ثمينًا أخذته من أمي لم يفارق عنقي منذ صباي، وهو أثمن ما عندي من الحلي، وهو هذا الصليب.» ومدت يدها إلى عنقها وأخرجت سلسلة ذهبية عُلِّق بها صليب ذهبي مرصع، قد نُقش عليه اسمها بالقبطية، وناولته إياه فتناوله وقبَّله قائلًا: «لا ريب عندي أن هذا الصليب سيدفع عني كل غائلة ويقيني من كل شر.» قال ذلك وعلَّقه في عنقه وخبَّأه بين أثوابه، ثم أمسك يدها وودعها وهو يقول: «اذكري أركاديوس ولا تنسيه؛ فأنه سيذكرك ما بقي حيًّا، ويستعيذ باسمك في حومة الوغى يوم تتقارع السيوف، وتتصادم النبال.»

ثم خرج بعد أن ودع بربارة، فأحست أرمانوسة أن قلبها قد انخلع من مكانه، وظلت تنظر إليه وهو يمشي في أرض الغرفة حتى خرج من الباب، فتحولت إلى النافذة تشيعه بنظرها وهو يتلفت لوداعها حتى توارى.

•••

أسرع أركاديوس يطلب مرقس ليركب إلى الحصن، وقد أوجس خيفة من غضب أبيه، وكأنه كان في سكرة وصحا بغتة، فهرول يطلب مكان مرقس، فوصل إلى القرية ونظر يمنة ويسرة فلم يرَ أحدًا، فدخل القرية وجعل يبحث عنه لعله يراه فلم يظفر به، فشُغل باله، وهو لا يعلم أين يفتش عنه، ولا يعرف من يسأله عن أمره، ولا يعرف منزله، فجعل يطوف كالتائه، ولما لم يره خرج من القرية حائرًا لا يدري إلى أين يذهب، فحدثته نفسه أن يسير إلى مكان المعصرة حيث فارقه لعله بقي هناك مختبئًا، وبينما هو في سبيله رأى غبارًا يتصاعد عن بعد، فوقف ينظر إلى ما وراء ذلك الغبار، فإذا به قد انكشف عن جيش جرار تتقدمه الأعلام والفرسان، فعلم أن جيش العرب قدم إلى بلبيس، فوقف متحيرًا يحرق أسنانه لما أصابه في ذلك اليوم من فقد فرسه وسلاحه، ولبث يفكر في أمره، والجند يقترب نحوه، فخاف عاقبة وقوفه هناك وهو راجل لا يستطيع النجاة لو أدركه فارس من أولئك الفرسان، ولم يكد يفكر في ذلك حتى رأى فارسًا يعدو نحوه بأسرع من لمح البصر، فلم تطاوعه أنفته وشهامته على الفرار، فبقي واقفًا وقد تهيأ للدفاع، فإذا بالفارس أحد فرسان العرب، وعليه العمامة والشملة، وقد دنا منه وناداه بالعربية، فلم يفهم أركاديوس مراده، ورآه يهوي عليه بالرمح، فاستلَّ هو الحسام وهجم عليه، وقد أدرك مقدار الخطر المحدق به، ولكنه نسي نفسه وموقفه في سبيل شجاعته، وضرب الفارس ضربة أصابت رجل جواده، فنزل الفارس إليه وجعلا يتقارعان، فأعجب الفارس بشجاعة أركاديوس وأكبر أمره، وأراد أن يسوقه أسيرًا، ثم جاء فارس آخر، وتعاون الاثنان على أركاديوس، فطعنه أحدهما بالرمح فأصاب زنده، فسقط الحسام من يده. فهمَّ به الاثنان وأوثقاه، وسارا به إلى المعسكر، وكان جند العرب قد وصلوا إذ ذاك وأخذ العبيد في ضرب الخيام وإنزال الأحمال، ونصبوا خيمة الأمير في ميمنة المعسكر، وأنزلوا الهوادج، وجعلوا يشتغلون بتدبير شئونهم.

فحملوا أركاديوس إلى الأمير، وكان قد أوى إلى خيمته، وجلس أمراؤه بين يديه، ونصبوا علمه أمام الخيمة، وأركاديوس لا يفهم لسانهم، وقد عظم عليه الأمر كثيرًا، ولعن الساعة التي خرج فيها من الحصن، ورأى أنه في موقف حرج قد لا ينجو منه.

فأدخلوه خيمة الأمير، فوقف بين يديه موثقًا، وتقدم إليه وردان وسأله بلسان الروم قائلًا: «أمن جند الروم أنت أم من رجال المقوقس؟»

قال: «بل أنا من جند الروم، وكلنا جند واحد رومًا وأقباطًا.»

فقال له مترجم كلام عمرو: «وما الذي جاء بك إلى هذا المكان؟»

قال: «خرجت من المدينة في حاجة فظفر بي رجالكم منفردًا فأمسكوني، وليست هذه عادة الأبطال، ونحن نسمع أن العرب لا يغدرون.»

قال: «نعم إن العرب أصدق الناس عهودًا، وأحفظهم لمقام الرجال ولكن حال الحرب تقضي بالقبض عليك، فأخبرنا بما عليه جندكم، ولا تخف شيئًا فإنك أسير بين أيدينا ولا ينقذك إلا الصدق.»

قال: «ونحن لا نعرف غير الصدق شعارًا، ولولا ذلك ما امتدت سطوتنا على الخافقين، وأنا لا أخاف من الموت إذا هددتموني به. أما جندنا فأبطال لا يهابون الموت ولا يخافون العدو.» فقال عمرو لوردان: «دعه يجلس.»

فقال: «لا حاجة بي إلى الجلوس، وما نحن ممن يمل الوقوف.»

فعجب عمرو لرباطة جأشه، وما يتجلى في وجهه من الشجاعة، وما ينبعث من حدقتيه من الذكاء، فقال له: «أنت من أفراد الجند أم أنت من كبارهم؟»

قال: «بل أنا من أفراد الجند، وأما قوادنا فستلقونهم في ساحة الحرب.»

فازداد عمرو إعجابًا بشجاعته وأحبه. لأنه كان محبًّا للشجعان.

أما جلساء عمرو فاستنكفوا جرأته فقالوا لعمرو: «ألا أمرت بقتل هذا العلج، فإنه قد تجاوز الحد في جوابه؟»

فأسكتهم وقال لأركاديوس: «إني لأعجب بشجاعتك، ولم ألقَ بين جند الروم مثل هذه الجرأة. ولذلك فإني أُبقي عليك بشرط أن تخلص لنا الخدمة.»

فقال أركاديوس: «أما ما ترجوه من خيانتي فبعيد المنال، فتعجيلك بقتلي أجمل بك وبي.»

فمال عمرو إلى معرفة حقيقة حاله، فأجَّل الأمر إلى فرصة أخرى، وقال لوردان: «خذوه إلى مكان أمين، وليكن هناك حتى أطلبه.» فساقوه إلى بعض الخيام موثقًا، فصار يفكر في حاله، وما أحدق به من الخطر.

•••

أما أرمانوسة فإنها روضت نفسها على الصبر، وارتاح بالها، وسُرَّت بمقابلة أركاديوس، وأعجبت بشهامته وبسالته، ولما توارى عن نظرها عادت على بربارة وتنفست الصعداء قائلة: «نحمد الله تعالى على ما أولانا من النعم، فقد تخلصنا من الموت، وشاهدت حبيبي وكلمته وتحققت ثباته، أما قسطنطين، فلا أظنه يجسر على دخول هذه البلاد ولو كان حيًّا، وقد دخلها العرب، هي في حرب معهم، فأطلب إليه تعالى أن يطيل إقامتهم بيننا منعًا لذلك الرجل من دخول هذه البلاد إلى أن يقضي الله بما يشاء.»

فتبسمت بربارة وقالت لها: «ألم أقل لك يا سيدتي إن أركاديوس شهم باسل حازم أمين، وكم تقدمت إليك أن تُلقي حملك على الله، وهو ينقذك من مخالب الموت كما أنقذ مارية لخطيبها، فإنها كادت تذوق كأس المنون مرتين، والفضل في إنقاذها بعد الله لحبيبك أركاديوس. متعك الله به! هلم بنا ننزل إلى الحديقة ترويحًا للنفس بعد أن اطمأن بالك وسكن روعك.»

فنزعت أرمانوسة ثيابها، ولبست رداء سماوي اللون، وجعلت على رأسها شبكة من اللؤلؤ، وفي صدرها عروة من الذهب المرصع، وبيدها الأساور، وتطيبت، وأرخت ذوائبها على كتفيها، ومشت تجر ذيل ردائها ورائها، وبربارة تمشي إلى يسارها، فخرجت من الغرفة، ونزلت إلى رحبة الدار، ومنها إلى الحديقة، وبعثت إلى الجواري ألا يبرحن مكانهن؛ لأنها تفضل النزهة على انفراد، فدخلت الحديقة وجعلت تخطر بين الرياحين والأزهار، فلم تكد تمشي خطوتين حتى علت الضوضاء في المدينة، وهرول الحاكم مسرعًا يطلب مقابلتها، فأذنت له، فدخل وعلى وجهه أمارات الانقباض والبغتة، وحياها وهو مرتبك، فسألته فقال: «يسوءني أن أبلغك خبر مجيء العرب إلينا بعدَّتهم ورجالهم وخيلهم، وقد تصاعد غبارهم حتى بلغ عنان السماء.»

فلما سمعت أرمانوسة ذلك اضطرب قلبها، ولكنها حمدت الله على ذهاب أركاديوس فقالت: «وهل وصل الجند؟»

قال: «نعم يا سيدتي، وقد جاءني رسول منهم ومعه كتاب من أميرهم، يطلب إلينا أن نسلم المدينة.» فقالت: «وبم أجبته؟» قال: «أنتظر أمرك يا مولاتي؛ لأن مولاي المقوقس أوصاني بألا آتي أمرًا إلا بعد استشارتك، وها أنا ذا بين يديك.»

فقالت: «وكيف نسلم لهم وعندنا العدة والرجال؟! وهل بعثت إلى أبي في شأنهم؟»

قال: «قد بعثت إليه غير مرة منذ وصلوا إلى الفرما، وهو عالم بقدومهم، ولا أدري ماذا أعد لدفعهم؟»

فتغير لون أرمانوسة وجلًا، لعلمها بقوة العرب، ولكنها تذكرت ما قاله لها مرقس من أمر الأمان الذي كتبه عمرو لوالدها بشأن المحافظة على القبط خاصة، فسكن روعها، فقالت للحاكم: «عليك بالتأهب للدفاع، وبث رجالك على الأسوار والحصون حتى نرى ما يكون.» فعاد وأخذ يعد المعدات، ويبث رجاله في الحصون، وأجاب العرب بأنه لا يسلم.

وعادت أرمانوسة إلى قصرها مضطربة، تارة تحمد الله على ذهاب أركاديوس، وطورًا تقول: «ليته بقي ليدافع عنا إذا مست الحاجة.» وبينما هي تفكر في ذلك قالت بربارة: «ألم يكن من التعقل يا مولاتي أن نخرج من هذه المدينة قبل وصول العرب؟»

قالت: «قد خطر لي ذلك من قبل، ولكنني وثقت بعهد عمرو، وهو لا شك يوفي بالعهد، ولا يريد بنا شرًّا، وليتنا نبعث إليه مرقس نطلعه على أمرنا.»

قالت: «مرقس ليس هنا، ولم يعد منذ خرج للبحث عن خطيبته.»

قالت: «ولكنه ظفر بها، ألا تظنينه يعود إلينا اليوم؟»

قالت: «أخبرني سيدي أركاديوس أنه أبقاه ليحرس له جواده وثيابه حين جاء إلينا، ولعله يعود عندما يرجع إليه سيدي فنرسله إلى عمرو.»

ومضى ذلك اليوم في التأهب ولم تقع حرب.

•••

قضى أركاديوس سحابة يومه في حبسه لم يذق طعامًا، تتقاذفه الهواجس، فيفكر تارة في أبيه وفي إبطائه في الرجوع إليه، وتارة أخرى في جواده وفي مرقس، ثم يفكر في أرمانوسة وكيف أنها في بلبيس والعرب يهمُّون بفتحها، وكان إذا تذكر هذا ود لو أنه ظل قريبًا منها لعله يستطيع الدفاع عنها، ثم ينظر إلى يديه فيرى أنه مكبل لا يستطيع حراكًا، فتصغر نفسه في عينيه ويسأم الحياة. وبات ليلة لم تذق عيناه الكرى، حتى إذا لاح الفجر أغمض جفنيه، وما عتَّم أن سمع صوت المؤذن يدعو المؤمنين إلى الصلاة، فانتفض وعادت إليه هواجسه، وجاءه رجل بالطعام فأبى، ولما علم عمرو بذلك بعث إليه وردان يرغبه في الطعام ويستطلع حقيقة أمره، ولكنه لم ينثنِ عن عزمه ولم يذق طعامًا ولا شرابًا، فقال له وردان: «ألا تزال مصرًّا على عنادك، ترجو النجاة من هذا الأسر؟!»

فقال أركاديوس: «قلت لك إني لا أهاب الموت، وليس من شيم الروم أن يهابوه.» قال وردان: «والله لولا رحمة أميرنا لقتلناك.»

قال: «لا حاجة بي إلى رحمتكم فاصنعوا ما شئتم وكفى.»

فازداد وردان إعجابًا به، وأيقن أنه من خاصة الروم، وجعل ينظر إلى لباسه ويتأمله، فرأى في عنقه سلسة ثمينة من الذهب، لا يتأتَّى لمن كان في مثل لباسه أن يتقلدها، وقام في نفسه أنه من كبار القواد، فأراد التحقق وهمَّ بانتزاع السلسلة، فمنعه أركاديوس وقال له: «لا تمد يدك إلى ثيابي، فإنما أنتم تطلبون نفسي وهي في أيديكم.»

فأُخذ وردان من جرأته، وازداد رغبة في أخذ السلسلة، وقال له: «اخسأ ولا تُكثر من الهذر والهذيان وأنت مقيد في الأغلال، ولئن لم تنتهِ عن الإسراف في القول لأضربن عنقك بهذا الحسام.»

فجحظت عينا أركاديوس، وعض على شفتيه من الغيظ وقال: «كفى تهديدًا وثرثرة، إن الشجاعة لا تكون بقتل الأعزل، فأبلغ أميركم عني هذا، وإنني على استعداد لمبارزة أي شجاع من رجالكم.»

فهابه وردان، وتذكر أن عمرًا حظر قتله، فتركه وسار إلى عمرو ليخبره بما دار بينهما ويحرضه عليه. أما أركاديوس فظل الغيظ يشتد به حتى دمعت عيناه. لكنه تذكر أنه في الأسر ولا يليق به البكاء، فتجلَّد وانتظر ما يأتي به القضاء، وفيما هو في ذلك جاءه وردان يدعوه إلى الأمير، فسار معه يجر قيوده وهو لفرط غيظه لا يكاد يبصر أحدًا من الجنود العرب الذين خرجوا من خيامهم ليشاهدوه. حتى وصل إلى خيمة عمرو فوجده جالسًا في صدرها وبين يديه أمراء جنده، وبجانبه رجل في زي غير عربي، وابتدره عمرو قائلًا: «علمنا أنك لا تزال تطاول وتتحدى رغم ما أنت فيه من الأغلال.»

فقال أركاديوس: «ليس الأسر عارًا على الرجال، وإنما العار أن تقيدوني وأنا واحد وأنتم ألوف.»

فقال عمرو: «حلُّوا قيوده لنرى ما يكون من أمره.» ولما حلوها قال له عمرو: «ها قد حللنا قيودك فما شأنك؟» قال: «إن أنصفتم فلينهض إلى مبارزتي أحد رجالكم، فإن غلبني فدمي حلال له.»

فهمَّ أركاديوس بأن يفصح عن أمره، ولكنه أمسك، وقال: «إن ساحة الحرب تميِّز الوضيع من الرفيع.»

فازدادت رغبة عمرو في معرفته وقال: «أصدقنا الخبر يا رجل، ولك منا الإنصاف.» قال: «وماذا تريدون مني؟» قال: «قل من أنت، فإنا نراك فوق عامة جندكم شجاعة.»

قال: «إن بين عامة جندنا رجالًا أصعب مني مراسًا وأشجع، أم حسبتم أننا مثل من لقيتم من جند الشام؟»

فأمر عمرو بتقييده ثانية وقال له: «حسبنا فك قيودك سيحملك على ترك التطاول والعناد، ولكنك أخلفت ظننا بك.»

وبينما هم يعيدون تقييد أركاديوس، تقدم وردان إلى عمرو وهمس في أذنه مشيرًا إلى السلسلة الذهبية التي في عنقه وقال: «لعل هذه السلسلة تنبئنا بشيء من خبره.» فأمر عمرو وردان أن يأتي بها إليه، ولم تُجْدِ مقاومة أركاديوس؛ إذ كان وثاقه قد شُدَّ، ودفعوا بالسلسلة إلى عمرو، فأمر بحمل أركاديوس إلى محبسه، وكان هذا لا يكاد يعي شيئًا لفرط تأثره؛ إذ كان يؤثر قطع عنقه على أن تؤخذ منه السلسلة، فما ذهبوا به، أخذ عمرو يتأمل في الصليب المرصع الذي في السلسلة ثم قال: «إنه شبيه بما وجدناه في أسلاب الروم بالشام وبيت المقدس، ولكنه أثمن فيما يلوح لي.»

فقال وردان: «ذلك حملني على الشك في أمر الرجل، وجعلني أظن أنه من كبار القواد قد جاء متنكرًا.»

فالتفت عمرو إلى الرجل الذي بجانبه وقال له: «ماذا ترى في هذا الصليب يا زياد، فإنك أخبر بأحوال الروم ولباسهم؟»

وكان زياد حين ذهب إلى المقوقس في الحصن برسالة عمرو التي ضمَّنها الأمان للقبط، قد سمعهم هناك يتحدثون بغياب أركاديوس المفاجئ، وكان قد رآه قبل ذلك في الإسكندرية، ولكن أمره التبس عليه حين رآه في حضرة عمرو، فتناول السلسلة من يد عمرو، وأخذ يقلب الصليب بين يديه، فقرأ اسم أرمانوسة مكتوبًا على ظهره باللغة القبطية، ولكنه كتم ذلك، وقال: «هل يأذن لي الأمير في أن أستطلع سِرَّ الرجل بيني وبينه؛ فإني على رأي وردان فيه؟»

فقال عمرو: «افعل ما بدا لك.» فأخذ زياد السلسلة وسار توًّا إلى المكان الذي حُبس فيه أركاديوس، فوجده غارقًا في بحار الهواجس، وقد أخذ الغضب منه مأخذًا عظيمًا، وأجفل حينما رآه داخلًا عليه، غير أنه تجلَّد ليرى ما يبدو منه، ثم جلس زياد أمامه وقال: «بعثني الأمير عمرو بن العاص لأسألك في أمر، وأرجو أن تجيبني عنه.»

فقال أركاديوس: «وما ذلك؟» قال: «من أين لك هذه السلسلة؟» وأراه إياها، فما كادت عيناه تقعان عليها حتى اقشعرَّ جسمه وارتعدت فرائصه وترقرقت الدموع في عينيه. لكنه تجلَّد وقال: «جاءتني اتِّفاقًا.»

فقال زياد: «هذا بعيد الاحتمال؛ لأن مثلها لا يحوزه من كان من العامة.»

قال: «ليكن ذلك حقًّا، ولكني حصلت عليها اتفاقًا، والسلام.»

فقال: «وكيف كان ذلك؟» قال: «وجدتها في الطريق.»

قال: «قل لي ما اسمك؟» فكاد أركاديوس أن يبوح باسمه ولكنه أحجم حذر الموت وقال: «وماذا تريد من اسمي؟»

قال: «هذا ما يريد الأمير أن يعرفه.» قال: «اسمي طيطوس.»

قال: «أمن جند الروم أنت أم من الأقباط؟» قال: «بل من جند الروم.»

قال: «ومن أي سلاح؟» قال: «وما أدراك بجند الروم وتعدادها وأسلحتها؟» قال: «أعرفها جيدًا، فهل أنت من جنود الإسكندرية أم منف، أم من جنود النجدات التي جاءت أخيرًا من القسطنطينية؟»

فلحظ أركاديوس في أسئلته معرفة بأحوال الجند الروماني، رغم قيافته العربية، ولكنه مع ذلك يحسن الكلام باليونانية، فقال: «بل أنا من جند الإسكندرية.» قال: «ولعلك من فرقة القائد أركاديوس.» فبُغت وقال: «ربما كنت منهم، ولكن ما أدراك بجنود الروم؟ لعلك ممن سكن هذه البلاد؟»

قال: «كنت مقيمًا هنا بضع سنين، وما شأنك أنت وهذا؟ قل: هل تعرف أركاديوس؟»

فعجب أركاديوس من إلحاحه، وخاف أن يكون قد عرفه فيقع في الخطر العظيم فقال: «أعرفه، ولكنني أسألك أمرًا واحدًا فهل تجيبني إليه؟» قال: «وما هو؟»

قال: «أعطني هذه السلسلة وافعل بي بعد ذلك ما تريد، واسألني مهما شئت فأجيبك.»

فقال زياد: «لم يؤذن لي بذلك، ويهمني أمر هذه السلسلة أكثر مما يهمك، فإنها على ما يظهر لأرمانوسة بنت المقوقس، وأنت تقول إنك من بعض الجند فكيف وصلت إليك؟»

فأنكر أركاديوس عليه ذلك قائلًا: «لا أظنها لها، ولكنها وقعت إليَّ محض اتفاق.»

فقال زياد: «عجبًا لاضطراب كلامك، فبينما تقول أعطني هذه السلسلة واسألني مهما شئت، مما يدل على إعظامك لها، تعود فتقول إنها وقعت إليك اتفاقًا، فكيف هذا؟»

فارتبك أركاديوس، ولم يعد يستطيع التخلص من هذه الورطة فسكت، فاستنتج زياد من سكوته أمرًا حمله على زيادة التدقيق في السؤال، فعاد يستجوبه فلم يجبه، فألحَّ عليه فأصر على السكوت، فقال له أخيرًا: «إنك إن أصررت على السكوت فلن يصبك إلا الأذى فأفصح.» فلم يجب، فعجب زياد لسكوته وقال له: «لماذا لا تفصح؟ قل. أجب.» فرفع أركاديوس نظره إليه، وقد أخذ منه الغضب مأخذًا عظيمًا، وقال: «لا أجيبك إلا إذا أخبرتني أنت عن حقيقة حالك ومن أنت؟ فإني أرى أنك لست عربيًّا، وما الذي تخشاه وأنا مقيد اليدين بين يديك؟»

قال: «وما ينفعك تصريحي وما يضرك، هذا ليس من شأنك، وإنما أنت أسير بين أيدينا، ولا تظن تكتمك يخفي حقيقتك فقد عرفناك، وأنا أول من عرفك.»

قال متجاهلًا: «وكيف لا تعرفني وقد تسميت وانتسبت.»

فضحك زياد وقال: «أتريد أن أصدق أنك طيطوس، وأنت أعظم من ذلك بكثير. إذا أصررت على الإنكار فإن ذنبك يزداد ثقلًا.»

فقال أركاديوس: «قل من أنا إذن.»

قال: «أنت أركاديوس بن الأعيرج.»

فبغت أركاديوس، وخاف العاقبة، ولكنه ابتسم مظهرًا الاستخفاف، وقال: «من أين لسيدي أركاديوس أن يأتي إلى هنا وهو محاط بالأبطال، لا يخرج من معسكره إلا في المئات والألوف من الجند، ليتني كنت إياه، ولو آلَ ذلك إلى أن تفتكوا بي الآن.»

فانقلب شك زياد يقينًا لما ظهر على وجه أركاديوس من الاضطراب وقال: «دع عنك هذا، واعلم أن أركاديوس الذي لا يخرج من معسكره إلا محاطًا بالمئات والألوف قد خرج من حصن بابل وحده، وترك القوم هناك يفتشون عنه.»

فازدادت حيرة أركاديوس وخفق قلبه، وتراكمت عليه الهموم من كل ناحية، وقال في نفسه: «وما الذي أوصل هذا الرجل إلى الحصن، وهو من جند العرب؟ وكيف نجا منه؟» ثم فكر في الأمر قليلًا وقال: «أستحلفك يا أخا العرب بمن تعبد أن تخبرني من أنت؟ ومن تعبد حتى أستحلفك به؟» قال: «مالك ومن أعبد؟»

قال: «أسمع أن العرب أهل عهد وذمام، وإني أبوح لك بحقيقة أمري إذا وعدتني بأن تنجز أمرًا أطلبه منك.»

قال: «قد أعدك ولا أستطيع الوفاء؛ فليس أمري بيدي.»

قال: «أعلم ذلك، وأنا لن أعاهدك على ما لا يريده أميرك، فإنه إذا عرف من أنا قد يطمع في قتلي، وما أنا بخائف من الموت.»

قال: «ماذا إذن؟»

قال: «عدني، وأقْسم أنك ستفعل ما أقوله لك، ولو بعد مماتي.»

فارتاب زياد في الأمر، وعجب لطلبه هذا، وقال في نفسه: «إن للرجل سرًّا عميقًا لا بد من معرفته.» فقال: «أعاهدك على شرف العرب وشهامتهم أني أفعل ما تريده إلا نجاتك من الموت. قل ما بدا لك.»

فقال أركاديوس: «أما وقد وعدتني فإني أعترف لك بأني أركاديوس بن الأعيرج، وليفعل بي أميركم ما يشاء، وقد فهمت من حديثك أنك دخلت الحصن، وظهر لي أنك تستطيع الدخول بين جند الروم بغير أن ينكشف أمرك، فرجائي إليك أن تحتفظ بهذه السلسلة وهذا الصليب، حتى إذا قُضي عليَّ تدفعهما إلى صاحبتهما أرمانوسة سرًّا، وتقول لها أن أركاديوس مات شهيدًا.»

فعندما سمع زياد كلامه تعجب عجبًا لا مزيد عليه، ولم يفهم معنى هذه الرسالة لعلمه بما بين القبط والروم من عداوة شديدة، فكيف يصل هذا الصليب إليه وهو لأرمانوسة، فأراد أن يستطلع جلية الخبر فقال له: «وما العلاقة بينك وبينها؟»

قال: «هذا ليس لك، ولا هو من شأنك، فقد عاهدتني أن تفعل ما أطلبه منك، وهذا ما أرجوه، فإما أن تفي بالوعد أو تخلفه.»

قال: «أما الخلف فحاشَ لي أن أرتكبه، ولكنني أريد الإفصاح لعلِّي أستطيع أن أنقذك من الموت.»

قال: «قلت إنك لا تستطيع ذلك، ثم تقول الآن أنك تفعله! أتهزأ بي؟! دع عنك الوعود وافعل ما أقوله لك.»

قال: «أترضى بالموت ولا ترضى إفشاء سرك.»

قال: «إن الموت أسهل عليَّ من الإفشاء.»

فقال زياد: «أستحلفك بحياة صاحبة هذا الصليب، إذا كنت تحبها، أن تقول الحق ولا تخف، فإن تصريحك بالحقيقة أنفع لك.»

فأجفل أركاديوس عند ذلك وقال: «أراك شديد الميل إلى معرفة علاقتي بأرمانوسة، وتستحلفني باسمها كأنك تظن أني أحبها.»

قال: «وهل في الحب عار؟! فإذا كنت لا تريد الإفشاء خوفًا من غضب أبيك فثق أني أكتم عنه وعن سواه أمرك فقل ولا تخف.»

فقال: «أما وقد بلغ الأمر بيننا هذا الحد فقل لي من أنت؟»

فقال: «لست من جند العرب، وكفى، فقل ولا تخف.»

ففكر أركاديوس قليلًا فلاح له أن الرجل قد يكون من جواسيس المقوقس إلى العرب، أو ربما كان من جواسيس أرمانوسة، فاستبشر به وقال: «أما والحال كذلك، وقد أردت بي خيرًا فأبوح لك بأني أحب أرمانوسة وهي تحبني، وقد أخذت هذا الصليب تذكارًا منها لا يعلم به أحد سواك الآن، وحبي لها سِرٌّ لا يعلم به أبي ولا أحد من جند الروم، وهذه حكايتي والسلام، فأفصح أنت الآن وقل لي من أنت؟»

قال: «أنا من بعض موالي أرمانوسة، وقد جئت هذا المعسكر فلم يسيئوا الظن بي لأن أصلي عربي. أما وقد علمت الآن حقيقة أمرك فثق بالنجاة على يدي بإذن الله، وها أنا ذا عائد إلى الأمير.»

قال أركاديوس، وقد توسم فيه الخير: «لقد وثقت بك وثوقًا تامًّا، وأنت تعلم أني أستطيع أن أكافئك خيرًا، فابذل جهدك وصن سري.»

فعاد زياد إلى الأمير عمرو، وقد صمم على بذل الجهد في إنقاذه، ولكنه لم يصل إلا وقد ركب عمرو، وصاح في الناس: «النفير النفير.» وأخذ الجند في التأهب لمهاجمة المدينة، فلم يملك فرصة لمخاطبته في شأن أركاديوس، ولاح له أنه ربما استطاع إطلاق سراحه، والناس في شاغل عنه بالحرب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤