الفصل الحادي عشر

العرب في بلبيس

كانت أرمانوسة في اطمئنان على أركاديوس، لظنها أنه سار إلى الحصن كما قدمنا، ولكنها أصبحت في خوف على نفسها من العرب، لم يكن يخفف من وقعه إلا ما علمته من اتصال أبيها بهم.

أما حاكم بلبيس فأخذ في الاستعداد للدفاع، فأعد الجند وفرَّقهم على الأسوار فرقًا، فلما أصبح ورأى العرب تأهبوا للهجوم على المدينة، نادى الجند وجاء الأساقفة والقسيسون فصلَّوا فيهم، وحرضوهم على الثبات، وقرءوا الأناجيل، وحملوا الصلبان والأعلام، ورشُّوا الجند بماء المعمودية، وكان عندهم زجاجة منه جاءتهم من القدس، فاحتفظوا بها من أزمان طويلة، فلما اجتمع الجند في ساحة المدينة للصلاة جاءوا بالزجاجة وصبُّوا منها شيئًا في وعاء كبير فيه ماء، وأخذوا من ذلك الماء ورشوا به الجند، وحملوا الشموع والمباخر، وتفرقوا على الأسوار تأهبًا للقتال.

وأطل الحاكم من أعلى السور ينظر إلى العرب، فرآهم قد ركبوا خيولهم واصطفوا صفوفًا، والأعلام تخفق فوق رءوسهم، وتقدم فارس منهم يطلب المبارزة، وأخذ يجول على جواده مناديًا: «البراز البراز» حتى الظهيرة، فلم يخرج إليه أحد ممن على السور، فعاد إلى معسكره، فاجتمع الأمراء وتشاوروا فرأى عمرو أن يسرع القوم باقتحام الأسوار قبل أن تأتي المدينة نجدة من حصن بابل، وسرعان ما تقدم العرب إلى الأسوار وأخذوا يتسلقونها.

وكانت أرمانوسة تنظر من نافذة قصرها إلى العرب وحربهم، فلما رأتهم يتسلقون الأسوار اضطربت وخافت خوفًا عظيمًا، ونادت بربارة فجاءت تجري وهي تقول: «لا تخافي يا سيدتي، إن لنا على أمير العرب عهدًا كما تعلمين.»

ثم سمعتا ضجيج أهل المدينة وصراخهم فأيقنتا أن العرب دخلوا بلبيس، فصاحت أرمانوسة: «ويلاه يا بربارة قد قُتلنا، وأمرت الحراس بإقفال أبواب القصر والتحصين فيه خوفًا من الفاتحين.» وجعلت تسترق النظر من النافذة فإذا بجيش الروم قد فر، وأهل المدينة في هرج لا يلوُّون على شيء، والعرب قد انتشروا في الحديقة، وجاء أحدهم يطرق باب القصر، فلم يجسر أحد من الخدم أن يفتح خوفًا على أرمانوسة، فسمعوه يقول: «افتحوا. لا تخافوا. إني رسول من الأمير عمرو إلى السيدة أرمانوسة.»

فلم يصدقوه، ولما ألح في القول أطلت بربارة من النافذة فوق الباب تستوضح أمره، فأجابها بالقبطية أنه رسول إليها من عمرو، فعجبت للباسه العربي، وكلامه القبطي، فقالت: «ماذا تريد؟» قال: «افتحوا. إني أريد أن أكلم السيدة أرمانوسة في أمر ذي بال من الأمير عمرو.» فلم تصدقه فأخرج من جيبه السلسلة وفيها الصليب، وأشار بها إليها، فلما رأت بربارة السلسلة عرفتها، وأسرعت إلى سيدتها تقص الخبر فصُعقت له ونادت في خدمها أن يفتحوا له الباب، فدخل مسرعًا إلى أرمانوسة، وهي في خوف شديد، فلما رأته عرفت أنه الرجل الذي كان مع مرقس يوم جاءها إلى الخيمة وهي عند يوقنا، فقال لها: «لا تخافي يا مولاتي. إن الأمير عمرًا قد أرسلني لأُدخل السكينة على قلبك؛ فإنك في أمان من هول ما ترين أنت وكل من يأوي إليك.» فأسرعت إليه، وأخذت السلسلة من يده وقالت: «من أين هذه؟» وحدقت فيها فإذا هي سلسلتها وصليبها، فاضطرب قلبها وجزعت وصاحت به قائلة: «وكيف وصلت إليك؟ وأين صاحبها؟»

قال: «لا تجزعي يا سيدتي إن صاحبها في خير، وهو أركاديوس بن الأعيرج، وقد عرفت قصته، وسأقص عليك خبره، فلا تخافي.»

فقالت: «قل حالًا، فإني لا أستطيع صبرًا. أين هو؟ وكيف وصل إليكم؟» فهمس في أذنها: «إنه أسير في معسكر العرب، ولا خوف عليه لأنهم لم يعرفوه، ومتى انقضت الحرب أسعى في إطلاق سراحه.»

قالت وقد اشتد قلقها، واضطربت جوارحها: «قل الآن وأفصح، كيف وصل إلى المعسكر؟! يا ويلاه! أُسِرَ أركاديوس يا بربارة.»

فهمَّت بربارة بسؤال زياد عن أمره فقال: «ولكن قبل أن أقص الخبر خذوا هذا العلم وانصبوه على باب القصر، ليعلم الجند أنكم في ذمتنا.»

فنادت الخدم، فأخذوا العلم ونصبوه على الباب، وجلس زياد يقص عليهما حكاية أركاديوس كما علمها منه، وأرمانوسة كلها آذان، وقد امتقع لونها وخفق قلبها واصطكَّت ركبتاها وما صدقت أن جاء على آخر الحكاية فقالت: «وهل هو أسير عند العرب الآن؟ قد يكونون أصابوه بسوء وبخاصة إذا عرفوا أنه ابن الأعيرج.»

قال: «إنهم لم يعرفوه، وهم لا يفتكون بأسراهم غدرًا، فلا تخافي، وها أنا ذا ذاهب لاستجلاء خبره وأعود إليكم.» وخرج زياد وقد ترك أرمانوسة على مثل الجمر تلطم كفيها باكية وتصيح: «يا ويلاه، أأركاديوس حي؟ آه من الدهر، كم يعمل على كيدي، وحتى متى؟»

فجعلت بربارة تخفف عنها وتعزيها ولو أنها لم تكن أقل قلقًا منها، وذهب زياد توًّا إلى معسكر العرب فرآه يكاد يكون خاليًا لاشتغال الرجال بالفتح، وقصد إلى محبس أركاديوس، فذهل ذهولًا عظيمًا لما دخله ولم يرَ به أحدًا، فخرج يطوف المعسكر يبحث عنه فلم يقف له على أثر، فعاد إلى الخيمة يفحص ما فيها لعلع يستطلع شيئًا عنه، فرأى أمراسًا من الشعر مقطعة بغير آلة حادة، وعلى بعضها أثر الدم، فظن أن الغزاة فكُّوا وثاقه وضربوه أو قتلوه ولكنه لم يرَ جثته، فوقع في حيرة وحزن شديدين، ورثى لحال أرمانوسة عندما تعلم ذلك، فوقف لا يدري ماذا يعمل.

فلنتركه في حيرته على أركاديوس، ولنعد إلى حصن بابل لنرى ماذا كان من أمر أبيه وأهل الحصن بعد خروجه.

•••

تركنا الأعيرج في غرفته بعد ذهاب أركاديوس، وقد حمي غضبه لما تخيله من خيانة المقوقس وهمَّ بأن يدعوه ويؤنبه، ولكنه آثر السكوت إلى أن تنقضي الحرب، وقد أضمر الشر.

وفي صباح اليوم التالي جاءته رسله ينبئونه بوصول العرب إلى بلبيس بعد أن فتحوا الفرما، فاضطرب، وبعث إلى أركاديوس ليشاروه في الأمر، فقيل له إن أركاديوس ليس في قلعته، فاستقصى خبره، فعلم أنه خرج مساء أمس ولم يعد بعدُ، فقلق، وعجب لذهابه بغير استئذان، في إبَّان الحرب، فأرسل إلى المقوقس، فجاءه وأخذا يتدارسان ما جاء من الأنباء، وسأله عن أركاديوس فأجاب بأنه لم يره، وما عتَّم أن شاع خبر غياب أركاديوس في أنحاء الحصن، وأخذ الجند والقواد والناس يتساءلون، فلم ينبئهم بخبره منبئٌ، فعظم ذلك على الأعيرج، وخارت قواه؛ لأنه كان يعتمد على أركاديوس في أمر الحصن والاستحكامات وما يتعلق بها، فبعث من يفتش عنه في ضواحي الحصن لعله يكون قد ذهب في حاجة فلم يقفوا له على أثر أو خبر، فخامرته الشكوك، فكان يتهم المقوقس باغتياله، ثم يراجع نفسه فيظنه ذهب على جواده لتفقد الحصون فكبا به الجواد فمات، فشُغل بهذه الهواجس عن إعداد المعدات وتحصين الحصون، ولاح له بعد لأْيٍ أن يُنفِذ جماعة من خاصته يبحثون عنه في الأماكن المجاورة، وأمرهم أن يستقصوا خبره ما استطاعوا، فتفرقوا في ضواحي الحصن، وأوغل بعضهم شرقًا إلى جوار بلبيس، فعثروا بمرقس واقفًا ومعه جواد أركاديوس وسيفه ودرعه، وقد فارقناه هناك ينتظر عودة أركاديوس، فأمسكوه وسألوه عن أمره وعن أركاديوس، فقال إنه لا يعلم شيئًا، فجاءوا به إلى الأعيرج، فلما رآه الأعيرج ومعه جواد ابنه وعدته وسلاحه وثيابه صاح به: «ويلك، أين أركاديوس؟» وهدده بالقتل أو يصدقه القول، فلم يزد على قوله إنه كان مارًّا بجوار بلبيس فرأى الجود والعدة، ولا يعرف شيئًا عن صاحبهما، فقال له: «ومن أين أتيت بهذا الثوب؟ إنه ثوب أركاديوس. لعلك قتلته وأخذت أسلابه؟» قال ذلك وبعث إلى المقوقس، فلما جاء سأل عن الرجل فصرح أنه من خدم ابنه أرسطوليس، وسأله فأصر على الإنكار، ولكنهم رجحوا الشبهة عليه، وارتابوا في أمره، ولا سيما عند رؤيتهم سيف أركاديوس ملوثًا بالدم وكان هذا على أثر مقتل خاطف مارية ليلًا، فاشتد غضب الأعيرج، وتراكمت عليه الظنون، وقال للمقوقس: «لا أعرف قاتل ولدي إلا منك، فإن مرقس هذا من رجالك، وقد وجدنا جواد ابني وسلاحه وثيابه معه، فأنت مطالب بدمه، وإذا كان قد قتله فدم الأقباط كلهم لا يكفيني دية له.» فعجب المقوقس لذلك الحادث الغريب، واستأذن الأعيرج في استجواب الشاب، فخلا به هو وأرسطوليس، وبذلا الجهد في استنطاقه فلم يفيدا منه شيئًا عن أركاديوس، فهدداه بالقتل فقال: «اقتلاني أو افعلا بي ما شئتما.»

فأمسكه أرسطوليس وقال له: «أما أرسلتك بكتاب البطريرك إلى أبي؟ فقص علينا ما فعلت بعد ذلك.» فحكى لهما من الحكاية ما لا يلقي شبهة على أركاديوس، وقد اعتزم أن يحافظ على سِرِّ أركاديوس جهده، ولو آل الأمر إلى قتله؛ لأنه كان عالمًا خوفه من أبيه إذا علم بما بينه وبين أرمانوسة، وكان يشعر بفضل أركاديوس عليه، فأبت عليه شهامته إلا الإنكار خوف الإيقاع به، فبقي مصرًّا، وعبثًا حاول المقوقس وأرسطوليس استجوابه.

وأخيرًا قال له المقوقس: «اعلم يا مرقس أنك بإنكارك هذا تجرُّ ويلًا عامًّا على الأقباط كلهم، وأنت تعلم أمرنا مع هؤلاء الروم، وما بيننا وبينهم من الضغائن، ونحن لا نكاد نستطيع دفع الشبهة، فإذا كنت أنت القاتل فقل وعلينا إنقاذك من القصاص، وإذا كنت تعرف القاتل فبُح ونجِّ نفسك ونجِّنا؟»

فقال مرقس: «لا أعرف شيئًا عنه، ولا أعلم أن هذا الجواد وتلك الثياب له، ولكني لا أرى ما يدعوكم إلى الظن بأنه قُتل.»

فقال المقوقس: «وما أدراك أنه لم يُقتل؟ وكيف يكون حيًّا وتُسلب منه ثيابه ودروعه؟»

قال: «لا أعلم، ولكني أقول إنه لم يُقتل.»

قال: «وهل أنت واثق أنه لم يُقتل.»

قال: «نعم إني واثق من ذلك، وأطلب إليك أن لا تلحَّ في السؤال إلى ما وراء هذا الحد، فإني لا أجيبك ولو قطعت رأسي.»

فقال المقوقس: «كيف تقول إنك لا تعلم عنه شيئًا، ثم تقول إنك واثق من حياته؟»

قال: «قلت لك يا سيدي إني لا أجيب عن سؤال آخر ولو قطعت رأسي، وهذه هي حياتي بين يديك فافعل ما تشاء.»

فأمر به فأخرجوه مغلولًا إلى المخفر، وانفرد المقوقس بابنه فقال: «ما قولك يا أرسطوليس؟»

قال: «أرى في الأمر سرًّا لا يعلمه إلا الله، ويلوح أن مرقس آل على نفسه ليكتمن السر، ولو كان هناك فائدة من قتله لقتلناه، ولكن قتله يزيد المشكلة تعقيدًا، فلنحبسه إلى حين، وما دام قد أكد أن أركاديوس حي، فلنتعهد للأعيرج بأننا مطالبون بدم ابنه أو نجده.»

وفيما هما في الحديث إذ جاءهما رسول الأعيرج يدعوهما إليه، فذهبا فرأياه يتَّقد غيظًا، فلما دخلا صاح وهو لا يدري ماذا يقول: «اعلم يا ابن قرقت (لقب المقوقس) أني لا أطلب دم ابني إلا منك، والقطرة الواحدة منه تساوي أهل مصر جميعًا.»

فجعل المقوقس يهدئ من غضبه ويقول: «لا تعجل بالأمر، فإن الرجل لا يجزم بموته، وأنا الكفيل لك بحياة أركاديوس، وها أنا ذا وابني بين يديك. لا نخرج من الحصن إلا عند عودته سالمًا، وما أدرانا؟ فلعله عند العرب؟ أو لعله غائب في مهمة؟ على أني لن أفتأ أستدرج الرجل حتى نعلم منه الحقيقة، والفرج يأتي من حيث لا ندري.»

ففكر الأعيرج برهة ثم نظر إلى المقوقس: «اعلم أيها الحاكم أني ملقٍ تبعة فقد ابني عليك وعلى ابنك، وكفاكما خداعًا، وأقسم بشرف الروم ورأس الإمبراطور هرقل لأمزجن دماءكم بمياه النيل إذا لم تأتوا بولدي أركاديوس حيًّا.»

فاضطرب المقوقس، وخشي العاقبة، لعلمه أنه حقًّا يخادع الروم، وأسرَّ لنفسه قائلًا: «إن العرب لا يلبثون أن يأتوا ظافرين لا محالة، فإذا غلبوا يرفعون عنا هذه التبعة. إنما الحيلة في إقناع الأعيرج بالصبر.» ثم خاطب الأعيرج قائلًا: «إني أشاركك القلق على أركاديوس، وإن ضياعه ليعز علينا جميعًا؛ لأنه من نخبة رجالنا، بل هو عمدتنا في حربنا مع هؤلاء العرب، وهذا فضلًا عن أننا في حال لا تأذن لنا بالانقسام فيما بيننا، ولا خفيَّ إلا سيظهر، وقد قلت لك إننا مطالبون بدمه، فاصبر إن الله مع الصابرين.» فقال: «سأصبر بضعة أيام، وأنتما في الحصن لا تخرجان منه، فبثا العيون والأرصاد للبحث عنه.»

ثم تركهما وخرج إلى الحصون، وأوصى قواده أن يمنعوا المقوقس وابنه من الخروج مهما يكن السبب.

أما مرقس فلبث في سجنه يفكر في حاله وقد تحير في أمره، لا يدري أيبقى على الكتمان فيعرِّض نفسه للخطر، أم يبوح بحقيقة الحال فيعرض أركاديوس لغضب أبيه؟ وفيما هو في ذلك إذ جاءه أرسطوليس وعلى وجهه أمارات الكآبة، فلما رآه مرقس ازداد بلباله، وشعر أن كتمانه هو السبب في هذه المصائب، فقال أرسطوليس: «أهكذا فعلت بنا يا مرقس؟»

قال: «وماذا فعلت يا سيدي؟» قال: «بينما أنت تؤكد لنا بقاء أركاديوس حيًّا، إذا بك تكتم عنا حقيقة حاله، والأعيرج مصرٌّ على طلب ابنه منا، وقد اتهمنا بقتله، وأنت تعلم أمرنا مع هؤلاء الروم، وقد بذلنا الجهد حتى لا تظهر لهم دخيلتنا، أفتفتح هذا الباب للإيقاع بنا؟!»

ففكر مرقس برهة ثم قال: «وكيف يتهمكم بقتله وقد خرج وأنتم لا تعلمون؟! وما شأنكم أنتم وشأني؟!»

قال: «ومن يصدِّق كلامنا هذا، والأعيرج لو عرض شكواه هذه على ديوان القسطنطينية لصادف أذنًا صاغية، وعادت العاقبة وبالًا علينا.»

فصمت مرقس قليلًا ثم قال: «وما رأيك إذا جاءهم كتاب منه يمهره بخاتمه ينبئهم بأنه على قيد الحياة؟»

فقال أرسطوليس: «ومن أين لنا ذلك؟» قال: «هبْ أنه جاءهم مثل هذا الكتاب، فهل يكفُّون عن اتهامكم؟»

قال: «لا شك أنهم يكفون، ولكن أنَّى لنا هذا؟» قال: «إذا أذنتم لي بالخروج من الحصن أتيتكم بالكتاب.»

فعجب أرسطوليس لهذا السر الغريب، ولم يفهم كيف يستطيع مرقس هذا الأمر، وكيف يقوله كأنه واثق من عمله؟

فقال: «أتستطيع هذا حقًّا يا مرقس؟»

فقال: «نعم يا سيدي، على أن لا تسألوني كيف آتي بالكتاب، ولا تقولوا للأعيرج أني ذهبت لآتي به، بل قولوا إني ذاهب للبحث عنه أسوة بما يفعل الآخرون.»

فبهت أرسطوليس ثم قال: «مهلًا حتى أُطلع أبي على ما تقول.»

وخرج إلى أبيه فإذا هو مبلبل الفكر لا يستطيع الكلام لفرط ما ألمَّ به، فلما دخل عليه حيَّاه فقال له: «ما وراءك يا أرسطوليس؟» فقص عليه الخبر.

فقال: «ما بال هذا الرجل يعرض علينا من المعجزات أنواعًا؟ ولماذا هذا التكتم؟ إن في المسألة سرًّا عميقًا، ولكنني أخاف يا أرسطوليس أن يتخذ خروجه من الحصن ذريعة للفرار، ومن يضمن لنا عودته؟»

قال: «لا حيلة لنا فيه، وهو مصرٌّ على كتمان أمره، فأرى أن نتحمل التبعة في إرساله لعله ينفعنا، أما بقاؤه مسجونًا فلا نفع لنا منه، وهب أنه فر فالتبعة علينا لا تزيد ولا تنقص! لأن غاية الأمر أن نُتهم بقتل أركاديوس، وهذا واقع فعلًا. هذا وإني أستشفُّ من كلام مرقس الصدق، ولا أظنه يخوننا، وقد عرفناه من زمن، وعلمنا بلاءه في خدمتنا.» فأطرق المقوقس برهة ثم قال: «أترى أن نثق به ونستأذن الأعيرج في إرساله؟»

قال: «هذا ما أراه، فلعله يأتينا بالخبر اليقين، أو لعل أركاديوس يعود من تلقاء نفسه.»

ثم ذهبا إلى الأعيرج وقالا له: «إن مرقس هذا أقدر الناس على البحث عن ابنك، فلنرسله عسى أن يقف على كُنْه الأمر.»

فقال: «وكيف نطلق سراحه وهو الذي قتله أو علم بقتله، وقد قبضنا عليه وجواد أركاديوس وعدته وثيابه معه؟»

فقال المقوقس: «يلوح لي أن الرجل برئ من القتل، ونحن نعرفه منذ أمد بعيد، ولا نراه محلًا للتهمة: فأرى أن نرسله في هذه المهمة كما أرسلنا سواه، فلعله يعود بالخبر اليقين.»

فقال الأعيرج: «فليذهب، وعليكما عبء ما يفعل.»

فأذعنا وجاءا إلى مرقس فأطلقا سراحه، وأوصياه بالعودة على عجل، فودعهما وخرج.

•••

أما زياد فإنه لما افتقد أركاديوس في محبسه ولم يجده، ولم يعثر عليه في ناحية من نواحي المعسكر، عاد إلى بلبيس ليطلع أرمانوسة على الأمر، وكانت أرمانوسة في قصرها ومعها بربارة والخدم، وهي على مثل الجمر في انتظار زياد، فلما أبطأ عليها أخذت تندب سوء حظها، وتقول: «يا بربارة، ويلي قتلوا أركاديوس، أين أنت يا أركاديوس؟ آه من جبروت الدهر!» وفيما هي في ذلك إذ سمعت غوغاء في الدار، وجاء خادم يقول لها أن رجلًا رومانيًّا بالباب، فخرجت بربارة إليه فإذا به أركاديوس يقرع الباب وعلى وجهه أمارة الرعب، وعلى زنده آثار الدم، فلما رآها صاح بها: «أين أرمانوسة؟ هل هي في خير؟»

قالت: «نعم في خير.» فدخل مسرعًا وهو لا يكاد يصدق أنه يراها على قيد الحياة، فلما وقع نظره عليها لم يزد على قوله: «الحمد لله. أنت حية!» فدهشت وقالت: «ما خبرك يا حبيبي؟ وكيف أتيت؟ هل رأيت زيادًا؟»

قال: «لا، لم أره.»

قالت: «كيف نجوت من الأسر؟»

قال: «نجوت منه بالرغم من الحبال التي شدُّوا بها وثاقي، وما ساعدني على تمزيقها إلا خوفي عليك، فقد كنت في الخيمة بعد ذهاب زياد بالصليب الذي أرسلته إليك، فسمعت قرع الطبول ونفخ الأبواق والعرب يهمون بالهجوم على بلبيس، فوقفت أرى ما يكون من أمرهم، فإذا بهم قد تسلقوا الأسوار ودخلوا المدينة، فأيقنت أنهم سيصيبونك بسوء، فهبَّت عواطفي واتَّقد دمي حتى غاب رشدي، وهممت بالمجيء للدفاع عنك عسى أن أموت دونك أو أنقذك، فحاولت قطع الوثاق فلم أستطع، لأنه كان أمراسًا مجدولة من الشعر، فأصبحت كالمجنون، وأخيرًا أسندت ظهري إلى عمود الخيمة، وجعلت أحك بالحبل به ذهابًا وإيابًا، فشعرت بنتوء حاد بارز من العمود فجعلت أمرر الحبل عليه كأني أحزُّه به حزًّا، وقد شعرت بقوة غريبة، فكنت أحك ظهري بالعمود صعودًا ونزولًا، وأحاول التملص من الوثاق وأضغط ذراعي بعنف، حتى غرز الحبل في لحمي وأنا لا أشعر، فانقطع الحبل بعون الله، فأسرعت إلى الأسوار لا ألوِّي على شيء، وجئت مسرعًا وأنا لا أكاد أصدق أني ألقاك، فالحمد لله على سلامتك.»

فأعجبت أرمانوسة بشهامته، وتناثرت الدموع من عينيها لعظم تأثرها، وقالت: «حماك الله من كل سوء، أنا في خير، وقد من الله علينا باللقاء.»

فقال: «لمن هذا العلم الذي على باب القصر؟» قالت: «هو علم عربي بعثوه إلينا لحمايتنا من السلب، وكأني بهم لا يريدون بنا سوءًا.» وغسلت له جرحه فإذا هو طفيف نتج عن شدة العنف في محاولته قطع الوثاق، فضمَّده ولبس الثياب، وأطل من النافذة فرأى العرب قد أمعنوا في المدينة قتلًا ونهبًا، فثارت حميته الرومانية، وجعل يتململ ويحزن على ما أصابه العرب منهم، فقالت أرمانوسة: «ما بالك تتململ؟» قال: «أتململ أسفًا على ما حل بجندنا، ألا ترين العرب ينهبون المدينة ويقتلون حاميتنا؟ مهلًا سوف يلقون منا في حصن بابل ما يردهم على أعقابهم.»

ولم تشأ أرمانوسة أن تحبره بما دار بين أبيها وبين العرب من الأخذ والعطاء خوفًا من الفضيحة عند الروم، فقالت: «حماك الله يا أركاديوس من نوائب الزمان، فلو كان في جند الروم مثلك لما مُكِّن للعرب في هذه البلاد، فاجلس الآن واسترح لنرى ما يأتي به الغد.»

قال: «آه يا أرمانوسة، لا أستطيع البقاء على هذا الذل، ولا أطيق أن أرى الروم يُذبحون ذبح الأغنام، وإن نفسي تحدثني بأن أتقلد الحسام وأهجم على العرب لأروي غليلي من دمائهم.»

قالت: «لا تُلقِ بنفسك إلى التهلكة، وسوف تلقاهم في الحصن، وما لنا وللحرب يا أركاديوس؟ فأنا لا أطيق فراقك.»

فعاد صوابه إليه وقال: «أما رأيت مرقس يا أرمانوسة؟» قالت: «لا لم أره، ولماذا؟ وكيف وقعت في الأسر؟ قل لي.»

قال: «خرجت من عندك إلى المكان الذي واعدت مرقس فيه، فلم أقف له على أثر، وفيما أنا أبحث عنه وصل العرب بخيولهم وقبضوا عليَّ، فوالله لو كنت على ظهر جوادي ما استطاعوا إليَّ سبيلًا.» ثم تذكر جواده وثيابه فقال: «ولا أدري كيف ذهب مرقس بثيابي والجواد، وأخشى أن يكون رجالنا قد قبضوا عليه وساقوه إلى الحصن واتهموه بقتلي، وربما قتلوه ظنًّا منهم أنه قتلني.»

فقلقت أرمانوسة على مرقس وقالت: «مسكين مرقس! إنه لا يستحق ذلك، وعسى أن يكون في مأمن، وسننظر في أمره. أما أنت فابقَ هنا ريثما ينجلي الأمر.»

فتنهد تنهدًا عميقًا وقال: «أتعلمين إنه لا أشهى إلى قلبي من جوارك، ولكن النجدة والمروءة يقتضيان اللحاق بالجند، وهم في حالة حربهم مع العرب، وإني لا أدري ماذا أُبدي لوالدي عندما أعود، ولا أظنه يصدق قولي مهما بالغت في الاعتذار.»

قالت: «غدًا نرى ما يكون.» وقضوا بقية اليوم وباب القصر موصد.

وباتوا ليلتهم، فلما جاء الصباح أقبل بعض رجال العرب يقودون رجلًا موثقًا، فلما دخلوا به القصر إذا به مرقس، فسألوا أرمانوسة عنه؛ لأنهم قبضوا عليه عند الأسوار فادعى أنه من خدم السيدة أرمانوسة، فقالت: «نعم هو من خدمي.» ورحَّبوا به، ولما رأى أركاديوس فرح فرحًا عظيمًا، وقص عليه قصته، وقال له إن المقوقس وابنه متهمان بقتله، وأنه إذا لم يعجل بالمسير سعى الأعيرج وسجنهما وقد يقتلهما.

فصاحت أرمانوسة: «ويلاه يا أركاديوس إن أبي وأخي في خطر الهلاك وحياتهما في يدك.»

فقال: «لا تخافي يا أرمانوسة، عليَّ إنقاذهما والذود عن كل من تحبين. لا تخافي، ولولا خوفي عليك لأسرعت إلى الحصن، ودفعت هذه التهمة عنهما، إنما يجب أن أبقى هنا لأرى ما يئول إليه أمرك.»

قالت: «أنا لا أريد أن تذهب إلى الحصن الآن، ولا أن تحضر المعارك، ولكني لا أريد أن يهلك أبي وأخي، فإن الروم ظلمة، لم يخرج منهم شهم غير أركاديوس.»

فقال أركاديوس لمرقس: «وكيف حالهم في الحصن؟» قال: «فارقت أباك قلقًا عليك، وقد بث العيون والأرصاد، وبعث الرسل للبحث عنك، ولما لم يعثروا عليك شدد النكير على سيدي المقوقس وابنه أرسطوليس، وهو ينوي الإيقاع بهما إذا لم يعلم خبرك، وأنا الآن أعترف لك أني جئت على نيَّة أن أزوِّر كتابًا عن لسانك وأختمه بخاتمك الذي عرفت منك أنه مع سيدتي أرمانوسة، وأذهب بالكتاب إلى أبيك بأنك حي وأنك آتٍ عما قليل.»

فقال أركاديوس: «أصبت يا مرقس، ونعم الرأي رأيك. إليَّ بقطعة من البرديِّ لأكتب الكتاب.» فلم يجد شيئًا من البرديِّ هناك فقطع قطعة من قماش كان غطاء للفراش، وهو نسيج كتاني يعرف بالقباطي من صنع مصر، كانوا يستعملونه للكتابة، وعليه كُتبت المعلقات السبع وعُلقت في الكعبة فكتب إلى أبيه يقول ما معناه:

أبي العزيز المحترم

لا ألومكم على قلقكم عليَّ لخروجي من الحصن وأنت لا تعلمون، وسأطلعكم على ما حملني على ذلك فيما بعد، وأما الآن فإني أكتب إليكم لتطمئن قلوبكم، فأنا حي مقيم ببلبيس، بعد أن أسرني العرب فنجوت من الأسر، وعرفت من أحوال هؤلاء العرب ما سأقصه عليكم، وفيه قوة لنا، ولولا جراح أصابتني في ذراعي لجئت إليكم بدل هذا الكتاب، ولكني سأسرع حالما أستطيع الركوب، وذلك قريبًا إن شاء الله.

كتبه ولدكم أركاديوس

فحمل مرقس الكتاب، وتقدم إلى أرمانوسة وسجد أمامها وقال: «أرجو منك يا سيدتي أن تشفقي على عبدتك مارية.»

قالت: «وما خبرها؟» قال: «مررت بالقرية في طريقي إليك وأردت الدخول إليها فأمسكني العرب وجاءوا بي إليك، وأخشى أن يكونوا قد أصابوا مارية بسوء، فأستحلفك بسيدي أركاديوس هذا أن تنظري في أمر إنقاذها.»

فأجابه أركاديوس قائلًا: «إن لك علينا أفضالًا تقضي بأن نذود عنك وعن مارية جهدنا، لا تخف، كن براحة بال.»

قال: «ولكنني لا أستطيع السفر قبل أن أعلم ما آل إليه أمرها في هذه الحرب.»

فالتفتت أرمانوسة إلى بربارة كأنها تستشيرها، فقالت: «الرأي يا سيدتي أن نبعث إلى الأمير عمرو فنخبره أن أهل مارية ممن ينتسبون إلينا، ونأتي بهم جميعًا ليكونوا معنا.» فقالت: «أحسنت يا بربارة، ومن يذهب؟» قالت: «زياد وهو لا يزال هنا.»

ثم خرجت فأتت به، فلما رأى مرقس سلم عليه وصافحه وسأله عن أمره، فقصت بربارة القصة عليه، فقال: «لا تخف يا مرقس، فإن أهلكم في ذمتي وها أنا ذا ذاهب لأنظر في شأنهم.» وخرج.

ولبث الجميع في انتظاره، ثم دق باب القصر وعلت الضوضاء وإذا بالخدم يقولون إن أمير العرب قد جاء يريد الدخول، فقالت أرمانوسة لأركاديوس: «الأولى أن تختبئ لئلَّا يراك فيعرفك.» فاختبأ في بعض غرف القصر، وخرجت بربارة لاستقبال الأمير، وهي أول مرة شاهدت فيها مثل هذا الرجل، فرأته كما تقدم وصفه، وقد أحاط به جماعة من قواده، وفي مقدمتهم وردان المترجم، فأسرعت بربارة إلى بهو كبير جلسوا فيه، فقال وردان: «إن الأمير جاء بنفسه ليطمئن أرمانوسة بألا خوف عليها ولا على أحد ممن في منزلها.» فقالت بربارة: «إننا نعجز أيها الأمير عن إيفاء الشكر حقه؛ فقد أمَّنتنا وجنَّبتنا الحرب وأوزارها.»

ثم خرجت وعادت بسيدتها، وقد لبست أحسن ما يكون من الثياب الفاخرة، وعلا وجهها احمرار الحياء فزادها جمالًا، فجلست وخاطبت عمرًا قائلة: «إن ما أوليتنا من الفضل لا يسعنا القيام بشكره.»

فأجابها عمرو وهو مطرق: «إن هذا في سليقتنا، وقد عاهدنا أباك على حمايتك، وساءني كثيرًا ما ارتكبه ذلك الخائن يوقنا من خداعك، ولو أدركناه لعاقبناه شر عقاب. أما الآن فاعلمي أنك في ذمتنا، وأنا لا نغدر في أعمالنا، فإذا شئت البقاء هنا بقيت، وإذا أردت المسير إلى أبيك بعثنا معك من يوصلك إلى حيث تريدين، فاختاري.»

فأطرقت أرمانوسة ثم قالت: «أؤثر الذهاب إلى أبي إذا أذن الأمير.»

قال: «لك ذلك.» وكان وردان يترجم بينهما، فقال له عمرو: «هيئ لها من يكون في ركابها إلى حيث تريد، وكن أنت حارسًا لهم.»

قال: «سمعًا وطاعة.»

وأرادت بربارة أن تقدِّم لضيوفها شيئًا من الخمر على عاداتهم، فقال لها وردان: «احذري أن تفعلي ذلك لأن الخمر محرَّم في ديننا، وليس عليكم إلا التأهب للمسير، وفي صباح الغد نبعث إليكم رجالًا يسيرون في حراستكم.»

فشكرته، ثم قام عمرو مودِّعًا وخرج، وخفَّت أرمانوسة إلى أركاديوس وأخبرته بما كان فقال: «إذن أسير أنا أيضًا معكم إلى قرب الحصن، ثم أنفرد وأدخله وحدي، وأنت تذهبين إلى منف.»

وعند الظهيرة جاء زياد ومعه مارية ووالدها، فطار مرقس فرحًا، وأوصى أرمانوسة بهم خيرًا، وقال لها: «فليذهبوا معكم إلى منف؛ لأنهم يكونون في مأمن هناك»، فوعدته خيرًا، ثم ودعهم وخرج يحمل كتاب أركاديوس إلى أبيه.

•••

لبث أهل الحصن في انتظار مرقس، ثم سمعوا بسقوط بلبيس، فتكدر المقوقس كثيرًا وخاف على ابنته، ولكنه كان مطمئنًا لما لديه من العهود، وفي اليوم التالي وصل مرقس بكتاب أركاديوس، فدفعه إلى أبيه فقرأه، واطمأن قلبه على ابنه، ولكنه بقي في حيرة لا يدري لخروجه سببًا، ولما خلا مرقس بالمقوقس أطلعه على ما أتاه عمرو من الجميل مع ابنته وأنها ستكون في منف بعد قليل، فبعث بعض رجاله لاستقبالها وتشييعها إلى قصرها.

ولبث الأعيرج يومًا آخر في انتظار أركاديوس حتى جاء ودخل عليه فقبَّله ورحب به وسأله عن سبب غيابه فقال: «أنت تعلم يا سيدي غيرتي على شرف الروم، وقد رأيت الجواسيس يأتوننا بالأخبار المتناقضة، فلم نفهم حقيقة قوة العرب، فحدثتني نفسي أن أذهب لاستطلاع حالهم، وأنا أعلم أنك لا تأذن لي خوفًا عليَّ، فخرجت على حين غفلة من الحراس، على ألا أغيب إلا يومًا واحدًا واثقًا من أني إذا عدت وأخبرتك بما استطلعته تعفو عن عملي.

فلما وصلت إلى جوار بلبيس خشيت أن يكون جوادي ولباسي الفاخر حائلين بيني وبين ما أريد، فرأيت رجلًا من جندنا خارج المدينة، فتبادلنا الثياب وتركت جوادي عنده، وسرت إلى معسكر العرب، وكانوا مخيمين أمام المدينة، وما كدت أن أخرج من المعسكر حتى قبضوا عليَّ وسجنوني، وبقيت إلى أن اقتحموا بلبيس، فغافلتهم وقطعت الوثاق، ودخلت المدينة وعلمت ما استطعت علمه، فإذا عددهم لا يزيد على أربعة آلاف مقاتل، ولكنهم، والحق يقال، يهجمون على الأسوار هجوم الأسود، ويزأرون كأنهم ذاهبون إلى مغنم، ولكننا بحول الله سنبدد شملهم أمام هذا الحصن، فإن بلبيس ليست مدينة حرب.»

فقال الأعيرج: «بورك فيك.» وهمَّ به وقبَّله وقال: «إنها شجاعة فائقة الحد يا ولدي لأنك عرضت نفسك للخطر الشديد.»

فقال: «ولا ينجح إلا المخاطر المجازف.»

فقال: «ولكني رأيت على سيفك أثر الدماء.» فأجاب في غير اكتراث: «لعله كان ملوثًا من قبل وهذه هي جليَّة الخبر، وما علينا إلا الاستعداد والتحصين، فإن العرب لا يلبثون أن يقدموا علينا.»

فأمر الأعيرج بالتأهب للقاء العرب، وبعث إلى كبار قواده، وخطب فيهم حاثًّا على الثبات والدفاع ناسبًا ما لقيه العرب من النصر في طريقهم إلى الحصن إلى ضعف جنود الفرما وبلبيس، ثم فرقهم في القلاع على السور، وأوصى ابنه بتعهدهم وتفقُّد الأسوار، فبعث أركاديوس رجالًا إلى خارج الحصن يتفقدون الخندق المحيط به، وأوصاهم أن يبذروا فيه حسك الحديد بذرا، أي أن يغرسوا الحسك في قاعه وجدرانه، فإذا هجم العرب على الأسوار حال الخندق بينهم وبينه، فإذا نزلوا الخندق دخل الحسك في أقدامهم، وأكثرهم عراة فتعوق تقدمهم.

أما أرمانوسة فإنها وصلت إلى ضفة النيل بموكبها، وكان أبوها وأخوها قد علما بقدومها فخرجا لملاقاتها، ورحَّبا بها وسألاها عن العرب، فروت ما حدث لها معهم، وأثنت على شهامة عمرو فاستبشروا بنجاح حيلتهما، وكانت القوارب معدَّة لاستقبالها فركبت ومن معها إلى منف، وأجالت نظرها في الحصن لعلها ترى أركاديوس فتتزود منه بنظرة، فإذا هو يرقبها من أعلى السور عند كنيسة المعلقة، فجرى قاربها وهي تسترق النظر إليه كأنها تودعه وتدعو له بالسلامة، وقلبها يخفق وجلًا لئلَّا يصيبه سوء، فقد خُيِّل إليها لما عاينته من شجاعة العرب وبطشهم أنه في خطر، فتناثرت الدموع من عينيها، وكان القارب قد جرى بعيدًا، وبربارة معها تنظر إليها وتراقب حركاتها، فأدركت ما هي فيه فخاطبتها قائلة: «سلِّمي أمرك إلى الله، وهو يحرسك يا مولاتي.»

وكانت مارية وأهلها قد ركبوا قاربًا آخر، وسارت القوارب تمخر عباب الماء، والوقت أصيل، فلما أشرفوا على ضواحي منف تذكرت أرمانوسة ما كان من أمرها مع أركاديوس وقسطنطين، وشكرت الله على نجاتها، ولكنها ما زالت توجس خوفًا على حبيبها، فأدركت بربارة ذلك فقالت لها: «ما لي أراك غارقة في بحار الهواجس؟ ثقي بالله وتوكلي عليه، فإن الذي أنقذك وأنقذ أركاديوس من مخالب الموت حتى الآن سيحرسكما إلى يوم اللقاء، وهو قريب إن شاء الله.»

فلما دنوا من شاطئ منف، ورسا القارب عند الرصيف، تذكرت أرمانوسة تلك الليلة المقمرة التي باحت فيها بسرها لبربارة، فانقبضت نفسها وغلب عليها الجزع، فطفرت الدموع من عينيها، وكان الخدم والحاشية في انتظارها على الرصيف، فاستقبلوها بالأزهار والرياحين، وجاءت الجواري واستقبلنها باسمات الثغور، يحمدن الله على سلامتها، وكن قد سمعن بما أحدق بها من الخطر في بلبيس، ورافقنها من الرصيف إلى الحديقة. كل ذلك وهي في شاغل عنهم جميعًا بهواجسها وخفقان قلبها، وما صدقت أن وصلت إلى قصرها حتى دخلت غرفتها، وكانت بربارة قد تركتها وذهبت لتعد مكانًا لنزول خطيبة مرقس وأهلها، وأوصت الخدم بهم خيرًا، ولم تكن مارية المسكينة أقل قلقًا من أرمانوسة لأجل مرقس، ثم عادت بربارة إلى غرفة سيدتها، وكانت الغرفة مزينة بأنواع الرياحين والأثاث الثمين، فرأتها قد استلقت على السرير، وأوغلت في البكاء والنحيب، فأخذت تخفف عنها وتؤمِّلها بالفرج القريب.

فتنهدت أرمانوسة وقد خنقتها العبرات، ولما سكن روعها قالت: «دعيني يا بربارة من الآمال الباطلة، فنحن قد عدنا إلى حيث كنا، وعادت مخاوفنا إلينا، وكان ما مر بي في أثناء هذه الغيبة أضغاث أحلام.» فأمسكت بربارة بيدها، وجلست إلى جانبها وهي تبتسم لتخفف قلقها وقالت: «كيف تقولين إنها أضغاث أحلام، وقد نلت ما كنت تتمنين؟! ألم تكوني في ريب من محبة أركاديوس، وقد رأيته وكلمته غير مرة، وتبادلتما عربون المحبة، ووثقت بحبه لك؟ ألم يكفِك ما رأيت من غيرته عليك وشغفه بك؟ ألم تكوني في ريب من أمر قسطنطين، وقد تحققت الآن نجاتك من قبضته؟ أليس هذا بالشيء الكافي الآن؟ فكيف تقولين إنها أضغاث أحلام؟»

فأجابتها أرمانوسة: «أجل، إنها أضغاث أحلام لأني قد عدت إلى هذه الغرفة كما خرجت منها؟ ولم أنل شيئًا غير الآمال، وما أحسب ما مر بي من رؤية أركاديوس وسماع كلامه إلا حلمًا مرَّ وزال، بل أراني أكثر قلقًا عليه من ذي قبل، فقد كنت في ريب من حبه، ولم أكن أشعر بمثل ما أنا فيه من القلق عليه، فهل تجود لي الأيام به، وأرى ذلك الوجه الباسم، وتينك العينين البراقتين؟» وشرقت بدموعها، فأخذت بربارة تخفف عنها وتشغلها بالآمال والوعود، وكانت الشمس قد مالت إلى المغيب، فأخذت بيدها وخرجت بها إلى شرفة القصر، فأطلت على الحديقة، وبربارة تمنِّيها بالأحاديث، وتذكِّرها بما مر بها لتصرفها عن هواجسها، وهي صامتة تنظر إلى البر الثاني من النيل تستأنس بقربه من الحصن، فأمرت بربارة الخدم فجاءوا بالوسائد وفرشوها في الشرفة، وجلستا تارة تتشاكيان، وطورًا تتأملان، وأرمانوسة لا يرضيها إلا الحديث عن أركاديوس، وبربارة تلهيها تارة به وطورًا بسواه.

حديثه، أو حديثٌ عنه يُطربني
هذا إذا غاب، أو ذياك إن حضرا
كلاهما حسن عندي أُسَرُّ به
لكن أحلاهما ما وافق النظرا

أما أركاديوس فلبث ينظر إلى أرمانوسة حتى توارى قاربها عن نظره، فوقف برهة كاسف البال يتأمل فيما يتهدده من الخطر، وما يحول بينه وبين حبيبته من العوائق، وبقي برهة على هذه الحالة حتى دعاه أحد جنود الحامية أن يذهب إلى أبيه لأمر يريده فيه، فسار حتى دخل على أبيه، فإذا هو جالس وحوله أرباب مجلسه يتداولون فيما هم فيه، فلما دخل حيَّا والده وجلس إلى جانبه، فآنس والده شيئًا من الارتباك في وجهه فابتدره قائلًا: «ما لي أرى أثر الانقباض في وجهك يا أركاديوس؟ هل داخلك خوف من أمر العرب؟» قال ذلك وهو يبتسم كأنه يمازحه.

فانتبه أركاديوس لحاله، وأظهر الاستغراب قائلًا: «أنت تعلم يا أبتاه أني لا أخاف الموت، ولا أحسب للحرب حسابًا، فكيف تقول إني خائف؟ وما الذي يخيفني وأنا تحت جناحك؟ لا سيما أني رأيت هؤلاء العرب، وعلمت من ضعفهم وقلَّتهم ما لا تعلمون، وأما ما ظننته فيَّ من الارتباك فإنما هو شدة اهتمامي بالاستعداد وتهيئة الوسائل لدفع الأعداء، ولا شك في فوزنا عليهم بإذن الله وهمَّة أبطال الروم.»

وأشار إلى الحضور، فأجابوه جميعًا: «إننا بين يديك متفانون في سبيل الرومان، ضاربون بسيف جلالة الإمبراطور إلى آخر نسمة من حياتنا.»

فأثنى الأعيرج على غيرتهم وصرفهم، فخرجوا يجرُّون سيوفهم وطيالسهم، فلما خلا الأعيرج بابنه أوصد الباب ودعاه إلى القرب منه وقال له: «أطلعني يا أركاديوس على ما خبرته من أمر هؤلاء العرب وقوتهم مما عاينته وشهدته، ودع الاستخفاف والبسالة جانبًا، وقل كيف استطاع هؤلاء البدو فتح حصون الفرما وبلبيس مع ما ذكرته من ضعفهم وقلَّتهم، ونحن نعلم أن حامية بلبيس قوية وحصونها منيعة؟»

فصمت أركاديوس برهة يفكر ولم يبدِ جوابًا لعلمه أن العرب لم يستطيعوا ما استطاعوه إلا بما أعارهم القبط من العون سرًّا وجهرًا، وتذكر أمر أرمانوسة وحماية عمرو لها، وما لاقته من الحفاوة والإكرام، وأيقن أن ذلك لم يكن نتيجة خلق العرب فقط، وحدثته نفسه أن يصرح بما خامره من الشك، ولكنه خاف أن يزيد الخرق اتساعًا، فتزداد الهوة الحائلة بينه وبين أرمانوسة، وكان أبوه يرقب ارتباكه، وينتظر جوابه بفارغ الصبر، فلما أبطأ في الجواب أعاد السؤال قائلًا: «مالي أراك صامتًا لا تجيب؟ أفصح وقل الصدق ولو كان علينا، فإن ذلك أول معدات الدفاع، لأننا إذا عرفنا قوة عدونا وثقل وطأته عرفنا السبيل الصواب إلى دفعه.»

فلم يدرِ أركاديوس بمَ يجيب؟ وخاف أن يسيء أبوه الظن به فتبسم وأظهر الاستخفاف وقال: «لم يكن سكوتي لشيء مما خامر ذهنك، ولكنني كنت أفكر في السبب الحقيقي فلم أهتدِ إليه، على أني أعلم أن الحرب سجال يوم لنا ويوم علينا، فلا عجب إذا انتصر العرب على بعض حصوننا الضعيفة، فلعل الله قدَّر أن يكون دفعهم على أيدينا فننال الفخر دون جند الروم بمصر.»

فقال الأعيرج: «بورك فيك يا ولداه، فأوصِ رجالك بالثبات، وشجعهم، وتفقَّد مراميهم وأسلحتهم. والاتكال على الله، ولا تنسَ الجسر بين الحصن والجزيرة فإننا كنا قد نزعناه ثم أعدناه لحاجة اقتضت إعادته، فأْمر بنزعه لئلَّا يكون للعرب سبيلًا للوصول إلى منف، وكذلك الجسر بين الجزيرة والبر الغربي، اعمل على إعادته لكي نتمكن من جلب المئونة والذخيرة من منف عند الحاجة، وبث العيون في جهات بلبيس لينبئونا بقدوم العرب، فنكون على بينة من أمر مسيرهم، فلا يأتوننا على غِرَّة، وأوصيك وصية أخرى أرجو ألا تنساها ولا أظنك تجهلها، وهي أن تحذر المقوقس ورجاله، فإنهم يمالئون العرب علينا.»

ثم افترقا، وسار أركاديوس إلى قلعته، فأوصى الجند بنزع الجسر، وإعادة الجسر الآخر الموصل إلى منف، وبعث الجواسيس إلى بلبيس، وأوصاهم باليقظة ليراقبوا حركات العرب، فإذا علموا بمسيرهم نحو الحصن عادوا إليه بالخبر، ثم تحول إلى غرفته، وكان الليل قد أسدل نقابه، فنزع خوذته وسلاحه وجلس إلى النافذة المطلة على النيل، وقد هدأ الجو، وأوت الطيور إلى أوكارها، وهبَّ النسيم عليلًا، وجرى النيل بإزاء الحصن هادئًا، وأطل البدر من وراء الأفق فأرسل أشعته على سطح الماء تتلألأ تلألؤًا ضعيفًا، فأرسل نظره إلى جهة منف، حيث تقيم أرمانوسة، وتصور حاله معها وما هو فيه، فغلبت عليه الهواجس، وتراكمت عليه الهموم، فانقبضت نفسه، وأظلمت الدنيا في عينيه، وتحير في أمره، فخُيِّل له أن العرب سيغلبون بما نالوه من عون القبط، فارتعدت فرائصه، وثقل عليه عار الانكسار، فقال في نفسه: «إني لأوثر الموت على الفرار، ولكن أرمانوسة جعلت الحياة عزيزة عليَّ.» ثم عاد فتصور أنهم تغلبوا على العرب وأعادوهم القهقرى، وأخذ يفكر فرأى أن ذلك أيضًا لا ينيله بُغيته من أرمانوسة، لما يعلمه مما بين أبويهما من الضغائن والأحقاد، فلبث يفكر في ذلك حتى شعر بالتعب والنعاس، فذهب إلى فراشه ينتظر ما يأتي به القدر، وقضى معظم اليوم الثاني في التأهب.

وفي مساء ذلك اليوم جاءهم الجواسيس ينبئونهم بإقلاع العرب عن بلبيس، وقدومهم نحو الحصن. فهاج الناس وماجوا، وأخذوا يطلون من المنافذ والمرامي ليشاهدوا العرب قادمين، فقضوا ليلتهم ساهرين بعدتهم وسلاحهم، والعرب لم يصلوا، وفي صباح الغد شاهدوا الغبار يتطاير من وراء المقطم، فتحولوا إلى شمالي الحصن يراقبون وصول العرب، فلما كان الضحى تكاثر الغبار وبانت من ورائه الأعلام والفرسان والهجانة، ثم وصلت الساقة، وعسكر الجميع في البقعة التي بين الحصن والمقطم، وكانت كلها بساتين وغياضًا لا شيء من العمارة فيها إلا بعض الأديار القائمة مبعثرة هنا وهناك، فنصبوا خيامهم فيما هو الآن جامع عمرو وما يحيط به، فشاهدهم الروم يضربون خيامهم، وينصبون أعلامهم، وكان أركاديوس في جملة الناظرين، فتذكر أيام بلبيس وما كان من أمره هناك.

أما المقوقس فتظاهر بالاهتمام والرغبة في دفع العرب، وذهب إلى الأعيرج وكلمه في شأن معدات الدفاع، وكان الأعيرج يكتم ما يعلمه عن المقوقس والعرب، فأجاب: «إننا لا نلبث أن نعيدهم على أعقابهم، وهم إنما غرهم ما لاقوه من ضعف حامية بلبيس.»

فقال المقوقس: «وإني لأعجب من فتحهم بلبيس وهم في مثل هذا العدد القليل، فإنك لو أشرفت على معسكرهم لرأيتهم شرذمة قليلة لا تلبث أن ترتد خاسرة إذا خرج جندنا إليها.»

فقال الأعيرج مستهزئًا بقول المقوقس الدال على الجهل بضروب الحرب: «ليس من الحزم أن نترك حصننا ونخرج إليهم طالما كانت المئونة ملء مخازننا وطريقنا إلى منف مفتوحة، ولكننا نتركهم وشأنهم حتى يملوا الانتظار، فإذا هاجموا الحصن رددناهم بالنبال والحجارة، فإن الحصن يمتنع على أضعاف أضعافهم؛ لما تعلم من مناعته، وبخاصة بعد حفر الخندق المحيط به، فإن هؤلاء العرب إذا هاجمونا واحتملوا نبالنا منعهم الخندق من الوصول إلى السور، فإذا نزلوا الخندق انغرست أشواك الحديد في أقدامهم وهم حفاة. كل ذلك والنبال تتساقط عليهم من مرامي السور.»

وقضوا ذلك اليوم في مراقبة العدو، والنظر إلى ملابسهم وخيامهم وأعلامهم عن بعد، لأنها تخالف ما عند الروم.

وكان أركاديوس قد راعه كل ذلك عن قرب، فوقف إلى جانب أبيه، وأطلَّا على بعض المرامي، وأخذ أركاديوس يصف لوالده خيام العرب، فدله على خيمة عمرو، وحظيرة الجمال، وخيام النساء والأولاد، ومواقع الرايات، والأعيرج يعجب ويستغرب لاختلاف ما عندهم عما عند العرب، فلما كان الأصيل رأى أركاديوس رجلًا قادمًا عن بعد ومعه علم أبيض يتبعه رجلان آخران، والكل مشاة، فعلم من لباسه أنه عربي، فأدرك أنه قادم لشأن من الشئون فأنبأ والده، فنادى الرسل من أعلى السور، وأمر بالترجمان فجاء، فلما دنا الثلاثة من الحصن تقدم أحدهم وخاطب الحامية بالقبطية، بلغة دلت على أنه ليس دخيلًا فيها، فأغناهم عمن يترجم كلامه، وكان مرقس في جملة الوقوف على السور، فعرف أن المتكلم زياد العربي صاحب يحيى النحوي، ومعه وردان ورجل آخر لم يعرفه، قالوا إنهم جاءوا بكتاب من أميرهم إلى المقوقس، ففتحوا باب الحصن وأدخلوهم، وقد تكأكأ الجند لرؤية لباسهم وهيئتهم، أما هم فساروا بأقدام ثابتة كأنهم دخلوا الحصن فاتحين، فرافقهم بعض الحراس حتى وصلوا إلى غرفة المقوقس، وكان جالسًا بجانب الأعيرج، وبجانبه ابنه، وبجانب الأعيرج أركاديوس، وبين أيديهم أرباب المجلس، ومعظمهم من الروم، فدخل وردان وقدم ملفًّا مكتوبًا بالعربية، فأمر المقوقس الترجمان، فتلاه عليهم وإذا فيه:

بسم الله الرحمن الرحيم، من عمرو بن العاص أمير جند العرب القادم لفتح مصر إلى المقوقس حاكم مصر. أما بعد، فإن الله قد كتب لنا النصر منذ دخلنا هذه الديار، ففتحنا الفرما وبلبيس عنوة، ولا بد لنا من فتح هذا الحصن إن عَنْوَة وإن صلحًا، ولا نبالي بمن يُقتل منا في سبيل فتحه، فإن أحدنا ينتظر ساعة الشهادة ليلقى وجه ربه، وها أنا ذا أعرض عليكم واحدة من ثلاث: فإما أن تدخلوا في ديننا فيكون لكم ما لنا وعليكم ما علينا، وإما أن تؤدوا الجزية عن يد وأنتم صاغرون، وإما السيف، فاختاروا لأنفسكم.

كتبه عمرو بن العاص

فلما أتم الترجمان تلاوة الكتاب تكدَّر الأعيرج، واشتد به الغضب، ونظر إلى المقوقس كأنه يستشيره في الجواب، فأمر بإخراج الرسل والاحتفاظ بهم حتى يعودوا بالجواب، وأخذ أهل المجلس يتفاوضون، فأظهر المقوقس أن التسليم لا يليق بهم، وهم لم يُغلبوا على أمرهم بعد، فأقروا الرأي وأجمعوا على أنهم يختارون السيف، وكتبوا الجواب ومهره المقوقس باسمه؛ لأنه الوالي الذي تصدر الرسائل عنه، وأعطوه إلى مرقس وكان بين يديه، ليوصله إلى رسل العرب، وأمرهم أن يشيعوا الرسل إلى باب الحصن، فلما ذهبوا خاف المقوقس أن يظن عمرو فيه سوءًا عندما يقرأ الكتاب، وكانت الشمس قد مالت إلى المغيب، فذهب إلى غرفته فخلا بابنه، وبحثا الأمر، فقال أرسطوليس: «أرى أن نبعث إلى العرب نستمهلهم الفتح، ونفهمهم أننا على عهدنا معهم.» فقال: «بأي لغة نكتب الكتاب؟ ومن يوصله؟» قال: «يوصله مرقس فإنه يعرف العرب، وأما كتابته فتكون بالقبطية، وترجمانهم يترجمه إلى لسانهم.»

فكتب أرسطوليس كتابًا بالقبطية أبان فيه أن الكتاب الذي بعثه أبوه ردًّا على خطابهم إنما كتبه ليموِّه به على من معه من الروم، وليريهم أنه يريد دفع العرب، ولكن الحقيقة أنه باقٍ على عهده معهم، ولا يلبث أن يسلم الحصن إليهم ويتفق معهم على شروط الصلح، ولكنه استمهلهم قضاء ذلك حتى سنوح الفرصة.

وجيء بمرقس إلى المقوقس والليل قد أرخى سدوله، فدفع إليه الكتاب، وأوصاه أن يحتفظ به، وسأله: «كيف توصله إلى معسكر العرب؟»

فقال مرقس: «أما الخروج إلى العرب فلا يخلو من الخطر، وهؤلاء الروم قد أساءوا الظن بنا، فهم يراقبون خطواتنا مثل خطوات عدوهم، فإذا اشتبهوا في أحدنا دققوا في استطلاع حاله، فكيف إذا رأوني سائرًا ليلًا نحو معسكر العرب؟ فالرأي أن أحتفظ بهذا الكتاب إلى فرصة أذهب فيها إلى منف لغرض ما، ثم أتحول من هناك إلى طريق آخر يؤدي إلى معسكر العرب، فلا يراني أحد.» فاستحسن المقوقس وأرسطوليس رأي مرقس وأبقيا الكتاب معه تلك الليلة، فذهب إلى مبيته فوق السور، وتذكر طريقة أركاديوس وأرمانوسة، وما لهما عليه من الفضل، أيقن أن مساعي المقوقس هذه تضر أركاديوس، وربما أذاقته حتفه إذا دخل العرب الحصن على غِرَّة، وأن أركاديوس إذا أصيب بسوء عاد ذلك بالوبال على أرمانوسة، وفي هذا ما يسيء والدها وأخاها، كما أن شرًّا يصيب أركاديوس يسيء والده.

فوقع في حيرة من أمره، فبينما حبه لأركاديوس ولأرمانوسة يدفعه إلى إطلاع أركاديوس على الأمر لينجو هو وخطيبته. تراه يأنف من خيانة المقوقس وهو مولاه ويذهب مذهبه في كره الروم، ثم بدا له في الصباح التالي أن خير سبيل لبلوغ الغايتين في آنٍ واحد إنما يكون في إبعاد أركاديوس عن الحصن عندما يقتحمه العرب، ولا سبيل لإبعاده إلا إذا جاء على يد أرمانوسة لدالة الحب بينهما، وأما أن يترك أركاديوس الحصن فرارًا من العرب فهذا مستحيل لما هو عليه من الشجاعة والنخوة.

فلما وضح له الرأي زال قلقه وسكن روعه، وذهب توًّا إلى مولاه المقوقس، فإذا هو في مجلس الأعيرج وابنه وجميع كبار القواد يتفاوضون، فانتظره حتى خرج، فأومأ المقوقس إليه أن يتبعه. فتبعه حتى وصل إلى غرفته فقال له: «لقد قررنا في جلستنا هذه أن نبقى متأهبين لا نفاجئ العرب بحرب، فربما طال حصارهم وقد نحتاج إلى مئونة، ولذلك رأينا أن نبعث فريقًا منا إلى منف، فتطمئن أرمانوسة علينا، فإذا ذهب الناس بأحمالهم فاسلك أنت طريقًا آخر إلى معسكر العرب وادفع الكتاب إلى أميرهم.» فقال مرقس: «حسنًا يا سيدي، وهل ترى يوم نجاتنا من هؤلاء الروم قريبًا؟» وقد أراد مرقس أن يستطلع رأي سيده ليكون على بصيرة من ساعة الخطر، فيسعى في إنقاذ أركاديوس، فقال المقوقس: «إن يوم النجاة قريب، قد يكون بعد بضعة أشهر، ولا يخفى عليك يا ولدي أن استسلامنا للعرب، أو تسهيل الفتح عليهم، يجب أن يبقى سرًّا، فإذا استعجلنا الأمر ظهر تواطؤنا على الروم وأننا نحن الذين ساعدناهم، أما إذا طال الحصار فإن الشبهة ترتفع عنا بعض الشيء، فاحذر أن يطلع أحد على شيء مما ذكرته لك.»

فخرج مرقس وفعل ما أوصاه به المقوقس، واطمأن على أركاديوس، فسار مع من ساروا إلى منف، فلقي خطيبته ووالديها، ففرحوا لرؤيته أيما فرح، واستطلعوه الخبر فطمأنهم وبشرهم بالفرج القريب، ومكث عندهم برهة يتمتع بحديث مارية ورؤيتها، وهي لا تدري أتبكي أم تفرح وقد تعاقبت الحوادث من كل جانب.

ثم لقي بربارة فذهب معها إلى أرمانوسة فلما رأته استبشرت، لعلمها بأنه مطلع على أسرار قلبها، عالم بما بينها وبين أركاديوس، وبأحوال والدها وشقيقها في الحصن، فاستطلعته الخبر فقال: «إن العرب نزلوا خارج الحصن، وقد كتبوا إلينا أن نُسلم، فأجبناهم بأننا مصرون على الدفاع إلى آخر نسمة من حياتنا.»

فضحكت بربارة وقالت: دعنا من المزاح وقل الحقيقة، فقد علمنا أن مولانا المقوقس أخذ عهدًا على أمير العرب؟ أفلا يزالان على العهد؟»

قال: «نعم يا سيدتي، إنهما باقيان على العهد، هذا كتاب من سيدي المقوقس إلى الأمير عمرو بهذا الشأن.» ومد يده وأخرج الكتاب ودفعه إلى أرمانوسة، فقرأته، فلما جاءت على آخره شعرت بانقباض، ولكنها صمتت برهة ثم قالت: «وماذا تكون عاقبة هذا التواطؤ على أركاديوس؟ ألا تظنه يصبح في خطر، وهو شجاع إذا لقي الموت لا يفر منه؟ فما هذا يا مرقس؟ إن العاقبة وخيمة علينا جميعًا على ما أرى.»

فابتسم وقال: «طيبي نفسًا يا سيدتي، فقد قضيت يومًا كاملًا أفكر كيف أنقذ سيدي أركاديوس من الخطر، فبدت لي حيلة إذا أطلعتك عليها استصوبتها لا محالة.»

قالت: «وما هي؟»

فأطلعها على ما دبر، فقالت: «بورك فيك، هذا هو الرأي الصواب واحذر أن تبطيء في إخباره، وإني أترك لك ملء الحرية في دعوتك إياه إليَّ عن قولي، وقد ألقيت الحمل عليك، ولك بعد ذلك الأجر من الله ومني.»

فجثا مرقس أمامها وقال: «إني عبدك وخادمك، وإذا سفكت دمي في خدمتك لا أفي جزءًا من فضلك.» فأنهضته وقالت: «بورك فيك من شهم غيور.» فقبَّل يدها وقال: «أرجو أن تأمري بإعداد قارب أركبه هذا المساء، وأنزل منه بعيدًا عن الحصن، حتى أصل إلى قبالة معسكر العرب، فأصعد إليهم وأبلغهم الرسالة.» فأمرت بربارة بذلك. أما هو فذهب إلى بيت خطيبته وقضى بقية ذلك اليوم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤