الفصل الخامس عشر

فتح الإسكندرية

بقي أركاديوس بعد ذهاب مرقس وحيدًا في غرفته، وقد أخذت الحميَّة منه مأخذًا عظيمًا، وصمم على الدفاع عن وطنه ودولته إلى آخر نسمة من حياته، فخرج لينبئ البطريق بما نواه العرب في الصباح التالي، فوصل إلى قصره فلم يجده هناك ولم يهده أحد إلى مقره، فألحَّ في طلبه، وأرسل الرسل في البحث عنه، فلم يقفوا له على خبر، فعرف من ذلك، ومن قرائن أخرى، أنه فر من الإسكندرية لما رأى أهلها يفرون، فشق الأمر عليه وقال: «لقد صدق يحيى النحوي، والله إن الدفاع عن هذه الدولة حرام. إن الله قضى عليها فماذا يجدي الدفاع؟» وحدثته نفسه أن يخرج هو أيضًا، ولكنه خشي أن يقولوا عنه كما قال هو عن البطريق، فعاد إلى حصنه وتهيأ للدفاع جهده، وبات بقية ليلته على حذر.

فلما طلع الفجر أفاق وأطل من مرامي السور، فرأى المسلمين بفرقهم ورماحهم ونبالهم وتروسهم قد تفرَّقوا، وأمامهم الفرسان يحملون الأعلام ويتأهبون للهجوم، فأمر رجاله بالاستعداد والوقوف عند مراميهم، ولبس درعه ولأْمته وتقلد حسامه وخنجره ووقف يرقب تقدمهم، فرأى كل فرقة منهم قد سارت وعلمها أمامها إلى ناحية من السور، وظلت فرقة صغيرة متجهة نحو حصنه، فأمر رجاله فرموها بالنبال فلم تجبهم، وبقيت تتقدم حتى صارت على مقربة من السور، وأمامها بضعة فرسان بالدرق والسيوف، فلما دنوا من السور أمرهم أميرهم فتحولوا إلى جانب من السور يبعد عن معقل أركاديوس، وأخذوا يتسلقونه متزاحمين كأنهم يتسابقون على وليمة، فلما سمع أركاديوس صوت القائد تنسم منه صوت عمرو بن العاص فقال: «هذا قائدهم، ها قد التقينا في حومة الوغى، وجاز لي قتاله كما قال مرقس، وليس في أغلال الحديد.» ولكنه لم يتثبَّته لأنه لم يرَ وجهه المغطى بالخوذة والدرع، فأطل من المرمى فلم يره، ولكنه رأى العرب قد دخلوا المدينة وعلا الصياح في أنحائها، ثم سمع ضجة في معقله من الداخل فاستلَّ حسامه، وتحول نحو الصوت فلقيه بعض رجاله فأنبئوه بدخول العرب المدينة وسقوطها فلم يبالِ، وظل سائرًا حتى رأى أصحاب الصيحة فإذا هم بعض العرب قد دخلوا معقله فصاح فيهم والسيف مشهَر في يمينه: «أين هو أميركم؟ فليبارزني. أنا أركاديوس بن الأعيرج.» فما أتم كلامه حتى رأى بدويًّا مدرعًا تقدم نحوه وسيفه مغمد ويداه فارغتان، فنكس أركاديوس سيفه، وقد عجب لذلك الرجل، وما لبث أن جاء العربي وحسر الدرع عن وجهه، فإذا هو عمرو بن العاص يبتسم، فاستغرب أركاديوس مجيئه في تلك الحال، وقال له: «جرد حسامك وعليك بالبراز.» فلم يفهم عمرو، وكلمه بالعربية فلم يفهم أركاديوس وإن تبين من ملامح وجهه أنه جاء مسالمًا لا محاربًا، والتفت عمرو خلفه فإذا بزياد قد دخل ومعه مرقس، فخاطب عمرو أركاديوس بوساطة زياد قائلًا: «إني لم آتِ لأقاتل أركاديوس البطل الشهير. إن مثلك لا يقاتَل، وقد جئتك وسيفي مغمد لعلمي أن الخيانة ليست من شيمتك.»

فعجب أركاديوس من مروءته وقال: «لماذا لم تأتني محاربًا؟ هيا نتبارز!»

قال: «لأني أشعر بجميلٍ لك عليَّ يوم ضمَّنا وإياك مجلس البطريق، واختلفوا في أمري، وكنت عالمًا بي فأغضيت، وهو جميل ذكرته لك، وما زلت أتوقع أن أكافئك عليه، فأنت صاحب الفضل السابق.»

وكان أركاديوس كثيرًا ما سمع بوفاء العرب وكرم أخلاقهم، فلما اختبر ذلك بنفسه، نظر إلى مرقس فإذا هو واقف مع زياد، وكل منهما ينظر إليه ويبتسم سرورًا بنجاته من الموت، فأدرك أركاديوس أن ذلك كله إنما كان بمساعي مرقس، فوقف يتردد بين الفرج بالنجاة شريفًا عزيزًا وبين الحزن لسقوط الإسكندرية ودخولها في حوزة المسلمين. أما عمرو فهمَّ بأركاديوس وصافحه قائلًا: «ها أنا ذا أصافحك وأؤاخيك منذ الآن، واعلم أنك صديقنا، ولا تحسبنا أخذناك في الحرب، فإننا جئناك زائرين لنشكرك على جميل سبق لك علينا، وها أنا ذا تارك عند معقلك جنودًا يمنعون رجالنا من دخوله.»

فازداد أركاديوس إعجابًا بتلك المروءة وقال: «بورك فيك من شهم، فأوصيك بالإسكندريين خيرًا. لا تدع رجالك يفتكون بهم، فقد كفاهم الأسر.»

فلما خلا أركاديوس بمرقس قال: «ماذا فعلت يا مرقس؟ وكيف حال أرمانوسة؟»

فهمَّ مرقس بيده يقبِّلها ويقبِّل الأرض كأنه لا يصدق نجاته من الموت، وقال: «الحمد لله على سلامتك يا سيدي، ها قد رأيت ما تشتهيه نفسي، ولا فضل لي في ذلك؛ لأن عمرًا شعر بفضلك عليه فعزم على أن يوافيك، وها قد نجوت من الخطر شريفًا بعد أن طلبته للمبارزة فلم يبارزك. أما أرمانوسة فإنها في قلق عظيم، ولا أدري ما حلَّ بها، فأْذن لي بالذهاب إليها لأبشرها بسلامتك، وأعود إليك فنسير معًا إليها.»

قال ذلك وخرج، وبقي أركاديوس وزياد، فدخلا الحجرة فقال أركاديوس: «ما علاقتك يا زياد بالعرب والروم؟»

قال: «إني خادم يحيى النحوي، ولكنني في الأصل صديق عمرو، وكنا نرعى الإبل معًا في الجاهلية، ثم افترقنا، فأقمت أنا في الإسكندرية، ودخل هو في الإسلام وصار من أمراء المسلمين، ولكنني أعرفه شهمًا غيورًا، فلما وقع في الأسر أحضروه إليَّ في مجلس البطريق، وكنت حاضرًا، فعرفك وخاف أن تذيع أمره، فلما رأى منك الكتمان عدَّ ذلك فضلًا لك عليه، وود إنقاذك. وقد كنا أمس عنده في المعسكر، فجاءه مرقس بعد نصف الليل، فسأله هو عنك وعن معقلك حتى يحميه، فأخبره، وجئنا في هذا الصباح معه كما رأيت.»

فقال أركاديوس: «وأين سيدك يحيى؟» قال: «مختبئ في مأمن.»

فقال أركاديوس في نفسه: «هذا هو الفساد وهذه هي الفوضى، وكيف يفوز قوم في حرب وقوادهم منقسمون، وعلماؤهم ناقمون؟! إنا لله وإنا إليه راجعون.» وعاد إليه رأيه في معاشرة المقوقس. ولكنه أصبح أكثر اتساعًا.

•••

وبعد بضع ساعات عاد عمرو ومرقس، فقال عمرو لأركاديوس: «إذا شئت الخروج إلى أهلك فإننا مشيعوك إلى حيث تشاء.» فعجب أركاديوس لعلم عمرو بعلاقته بأرمانوسة، ولحظ عمرو ذلك فقال: «لا تعجب، فقد علمت خبرك مع أرمانوسة، ويسرُّني أن أراكما الآن في وئام، ولا تظلم حماك المقوقس؛ فإنه معذور، وإذا أردت الخروج إلى عروسك فذلك إليك.»

فسأل أركاديوس زيادًا: «هل تعرف مقر يحيى النحوي؟» قال: «نعم.» فركبا وسارا، فلما أطلَّا على مريوط، وأشرفا على بيت الشيخ حيث تقيم أرمانوسة خفق قلب أركاديوس، فلقيهم مرقس فجرى ليبشر أرمانوسة، ولما دخل أركاديوس القاعة لقي فيها جمهورًا من الرجال، وفي صدرها يحيى النحوي، وبجانبه المقوقس، فلما رآهما اضطرب وتردد، فنهض يحيى إليه وقبَّله وأمسكه بيده وقدَّمه إلى المقوقس، فوقف المقوقس وضمَّ أركاديوس إلى صدره وقبَّله قبلة الأب لابنه، فخجل أركاديوس وشعر بزوال حقده على حميه، وهمَّ به فقبَّل يده وجلس إلى يمينه ويحيى بين أيديهما.

فقال يحيى: «لا تعجب يا بني من اجتماعنا في منزل أرمانوسة، فإننا عالمون بما في نفسك على حميك، وما كان في نفسه هو على جماعة الروم، وكلاكما معذور، وقد علمنا بما عقده الله بينك وبين أرمانوسة من الروابط المقدسة فأردنا التوسط بينك وبين حميك ليفهم كل منكما الآخر، فأنت الآن بمنزلة ابنه وهو بمنزلة أبيك.»

فقال المقوقس: «يعلم الله يا ولدي أنني أطلت البال، وصبرت صبر الرجال، وأنا رومي الأصل مثلك، ولكنني رأيت ذل القبط فأغثتهم فلم تصغِ الدولة لصراخنا ولا سمعت بكاءنا، وهذا أخي يحيى العالم شاهد على ما أقول. أما أنت فما برحت منذ عرفتك أشهد بشهامتك ومروءتك لأنك لم تأتِ عملًا تلام عليه.»

فقال أركاديوس، وقد صفا قلبه: «نعم يا عماه، إني مثل ولدك، ويكفيك شفيعًا عندي أنك والد أرمانوسة، وأنا وهي الآن واحد.»

فقال مرقس: «ما بالكم حجبتم أرمانوسة عنه وحجبتموه عنها؟»

ولم يتم كلامه حتى دخلت بربارة وهمَّت بيدي أركاديوس تقبِّلهما، ودخلت أرمانوسة على استحياء وعيناها ذابلتان لما قاسته في صباح ذلك اليوم، ولم تستطع إظهار عواطفها، فسلَّمت فنهض يحيى وأمسك بيد أركاديوس وأمسك المقوقس بيد أرمانوسة وجعلا يد كل من العروسين بيد الآخر وقال يحيى: «ما جمعه الله لا يفرقه إنسان.»

وفي صباح الغد هنأهم عمرو بن العاص، وخيَّر أركاديوس بين الإقامة في الإسكندرية أو بأي مدينة أخرى، فاستمهله حتى يكتب إلى أبيه، فكتب إليه مع رسول أنفذه إلى القسطنطينية، فعاد الرسول بنبأ موت أبيه في السجن ظلمًا بلا محاكمة، فبكاه وكره القسطنطينية وأهلها وفضَّل البقاء بالإسكندرية.

وكان عمرو قد كتب إلى الخليفة عمر بن الخطاب بفتح الإسكندرية، وسأل عن المكان الذي يقيم به، فكتب إليه: «إني لا أحب أن تُنزل المسلمين منزلًا يحول الماء بيني وبينهم شتاء ولا صيفًا، فمتى أردت القدوم إليكم فإني أركب راحلتي حتى أقدم إليكم.»

وكان بين الإسكندرية والحجاز نهر النيل، فانتقل عمرو إلى حصن بابل، وكان الفسطاط الذي تركه هناك لا يزال باقيًا وقد عشش فيه اليمام، فخيَّم حوله ونصب الأعلام وبنى هناك مدينة سماها الفسطاط، وهي أول عاصمة للمسلمين في مصر. أما أركاديوس فاختار الإقامة بالإسكندرية، وعاش مع عروسه في رغد، ومعهما بربارة ومرقس وأهله.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤