الفصل الثالث

أركاديوس

مكثت بربارة بقية ذلك اليوم في القصر، وهمَّت في اليوم التالي بالمسير إلى الحصن قبل قدوم الجيش، فركبت سفينة حتى أتت الجسر الممتد بين الجيزة والروضة فقطعته على قدميها إلى الجزيرة، ثم عبرت الجسر الآخر الممتد بين الجزيرة والحصن، فدخلت من بابه الجنوبي الكبير فلم يعترضها الحرس لأنهم يعرفونها، فصعدت إلى كنيسة المعلقة، فلاقتها الراهبات هناك واحتفين بقدومها لما يعلمن من منزلتها عند المقوقس، فتظاهرت برغبتها في زيارة الكنيسة وتقبيل الأيقونات، ثم أخذت تفكر في طريقة توصلها إلى مرامها، فلما كانت الظهيرة انتشر خبر قدوم الجنود في الحصن، وأخذت الراهبات يتساءلن عن سبب ذلك، فلما علمن بحقيقة الحال جعلن يصلين ويتضرعن إلى الله تعالى أن يلطف بهن ويهيئ ما فيه الخير، ورأت بربارة أن تمكث هناك تلك الليلة تنتظر ما يكون، فلما كان المساء وصل الجنود مدججين بالسلاح، وفي مقدمتهم موكب يرأسه أركاديوس بن الأعيرج وعليه لباس قواد الرومانيين، فلما رأته خفق قلبها قلقًا على سيدتها ومكثت تلك الليلة ساهرة تدبر الحيلة، بينما الجند يعدُّون معدات الدفاع من هدم وبناء، والراهبات يتضرعن إلى الله أن ينجيهن من عاقبة تلك الحرب.

ولما خيَّم الغسق، سمعن طرقًا عنيفًا على باب الدير، وجلبة وقرقعة نصال، ففرغت الراهبات، وذهبت أحداهن لفتح الباب وفرائصها ترتعد، فلم تكد تفتحه حتى دخل منه جماعة من الجند الرومان يتقدمهم شاب في لباس فاخر على رأسه الخوذة الرومانية وإلى جانبه السيف الصقيل، وقد تقلد الخنجر في منطقته وارتدى طيلسانًا يجر ذيله وراءه، فلما رأته بربارة عرفت أنه أركاديوس، وسمعتهم يكلمونها بلسانهم فلم تفهم مرادهم، ثم تقدم واحد منهم وكلمها بالقبطية قائلًا: «إن القائد يأمركن بإخلاء هذا المكان ليجعله معقلًا لفرقة من الجند؛ لأنه واقع فوق باب الحصن.» فنادت بربارة رئيسة الدير وأفهمتها الأمر، فتضرعت هذه إليهم أن يختاروا مكانًا غير الدير لأنهن لا يعرفن مكانًا يلتجئن إليه سواه، ولكنهم أصروا على عزمهم، ولم ينتظروا رضاءهن بل جعلوا ينتهرونهن ويصيحون بهن، فخرجن يولولن ويصحن باكيات، وخرجت بربارة معهن، ولم يكن أحد من هؤلاء الرومانيين يعرفها، ولو عرفها أركاديوس أو عرف ما جاءت من أجله لأذعن لما أرادت، فذهبت الراهبات وبربارة معهن إلى مأوًى تحت الكنيسة كن يدخرن فيه مئونتهن من الطعام والشراب. فجلسن هناك وقد علا صياحهن وعويلهن، فدنت بربارة من الرئيسة وخاطبتها على انفراد، ووعدتها بإعداد وسيلة تنجيهن من تلك الحال.

فقالت الرئيسة: «وما الوسيلة وقد أصبح هؤلاء الجند أبغض إلينا من عدو يغتالنا؟! أما كفانا ما يسوموننا من الخسف والجور وإهانة رجالنا وقتل بطاركتنا، حتى جاءوا يخرجوننا من هذه الكنيسة ليجعلوا أماكن العبادة معاقل وحصونًا؟!»

فقالت بربارة: «طيبي نفسًا، ولا بد من أن يقتصَّ الله من أهل الجور والفجور، ولا بد لحكمهم من نهاية، وأرجو أن يكون ذلك بخروج هذه البلاد من أيديهم، وما على الله عسير.»

فوقفت الرئيسة وقد خنقتها العبرات، وقالت وهي تمسح دموعها بمنديلها: «أطلب من الله بكرامة العذراء مريم صاحبة هذا الدير أن يُسقط في أيديهم ويخرجوا من هذه البلاد على أعقابهم؛ فإن أية أمة تحكمنا بعدهم أخف وطأة علينا منهم.» فقالت بربارة: «آمين، وكل آتٍ قريب.»

وكن أثناء ذلك يسمعن جلبة الجند فوقهن، ينقلون العدة والذخيرة وأدوات الحرب، أما بربارة فما فتئت تفكر في وسيلة تضمن لها الفوز بقضاء مهمتها، وتذكرت سيدتها والحالة التي فارقتها عليها فانفطر لها قلبها، وجعلت تبحث عن طريقة توصلها إلى أركاديوس، ثم رأت أنها إن وصلت إليه فلن تستطع مخاطبته؛ لأنها لا تعرف اللغة اللاتينية، ثم تذكرت أنه رُبِّي في مصر وتعلم لغتها وهو يفهمها ويُحسن التكلم بها، خلافًا لبقية أبناء جلدته فقد كانوا يحتقرون لغة الوطنيين وينفرون ممن تعلمها، أما هو فكان ميالًا إلى معرفة تاريخ البلاد، كما كان يحب أهلها إكرامًا لحبيبته، ولكن كيف تصل إليه وهو فيما هو فيه من الانهماك والتأهب للحرب؟

وقضت معظم الليل في هذه الهواجس لا تستطيع رقادًا.

أما أركاديوس فقد دخل الكنيسة مع رجاله ليجعلوها معقلًا لهم وتركهم ينزعون الأيقونات، ويحطمون كل ما في طريقهم من الآنية أيًّا كان نوعها، وأخذ هو يهيئ منازل رجاله ويرتب فرقهم، فجعل كلًّا منهم في موقفه بسلاحه، ثم نزل إلى الأماكن الأخرى يرقب الجند بالنيابة عن أبيه إلى منتصف الليل، فلما انتهى من مهمته هذه عاد إلى كنيسة المعلقة، وكان الجند قد أعدوا فيها غرفة مشرفة على النيل من نافذة صغيرة، فدخل الغرفة ونزع خوذته وسلاحه، وجلس بجانب النافذة وأطل على النيل وهو يجري بجانب الحصن من غربيِّه، ويحيط به من الجهات الأخرى البساتين والغياض، وفيها شجر النخيل والكرم، وقد امتد شجر الدوم على ضفاف النيل يتخلله البرديُّ، ومد بصره إلى البر الثاني عن بعد فأشرف على ضفته الغربية، برِّ الجيزة وما وراءها، وكانت الليلة مقمرة كما قدمنا فوقع نظره على الهرم المدرَّج في جهات سقارة بقرب منف فاستأنس به لقربه من مقام حبيبته، فتذكر حاله معها وحبه لها، فهاجت عواطفه، وودَّ لو كانت له أجنحة تحمله إليها، وهو على يقين أنها تحبه مثل حبه لها، ولولا ما بين أبيه وأبيها، وبين طائفته وطائفتها من النفور لهان عليه الأمر، ولكن المركب خشن ودون بلوغ المنى خرط القتاد.

•••

لبث أركاديوس على تلك الحال حينًا لا يتحرك، وقد هدأ الجو ورقَّ النسيم، واستولى السكون على الحصن فلم يكن يُسمع فيه صوت غير خرير الماء وملاطمة مجراه لجدار الحصن من جهة، وحفيف سعف النخل على ضفاف النيل من جهة أخرى، ثم هبَّ من غفلته بغتة فتذكر صديقه أرسطوليس شقيق أرمانوسة وما بينهما من الود والألفة، فقال في نفسه: «لماذا لا أكاشف هذا الصديق بما في قلبي من لواعج الغرام؛ لعله يفرج كربتي أو يرفع عني أثقال هذا الكتمان، فإذا عرف قوة حبي لأخته فقد يأخذ بيدي وينصرني.» وفيما هو في تلك الهواجس إذ سمع وقع أقدام قرب الغرفة، وإذا القادم واحد من رجاله جاء ليخبره بأن القائد أرسطوليس بالباب، فعجب لهذه المصادفة وأذن بدخوله، فلما دخل تصافحا وتعانقا، ثم سأل أركاديوس صديقه أرسطوليس عن سبب مجيئه في ذلك الوقت، فقال: «إنما جئت أيها الصديق ملتمسًا منك أمرًا لا يصعب قضاؤه.»

قال: «قل ما شئت، إني فاعل ما تريد.»

قال: «جاءني بعض من كن في هذا الدير من الراهبات يشتكين مما قاسينه من الإهانة بإخراجهن من بيتهن، وأنت تعلم أنهن محترمات لانقطاعهن للعبادة والتقشف، وقد كان في إمكانكم حفظ كرامتهن، فأرجو أن تخلي لهن مكانًا يقمن فيه أو يخرجن من هذا الدير بإكرام.»

فقال أركاديوس: «ولكننا لم نخرجهن إلا لنتخذ هذا المكان حصنًا ندفع به الأعداء عنا وعنهن، وهن إذا بقين فيه لا يعملن عملنا أو يدفعن مهاجمًا.»

قال: «لا يدفعن مهاجمًا ولكن كدرهن ونقمتهن على الجند لما لاقينه من الإهانة، ودعائهن على المسيء إليهن، يقف عثرة في سبيل دفاعنا؛ فإننا نعتقد أن دعاءهن مجاب.»

قال: «نحن لا نرى ذلك، ولكني على استعداد للقيام بما تشير به، على شرط ألا يكون في ذلك ضرر على الجند. أما هذا المكان الحصين فلا نتخلى عنه لأحد، فإذا رأيت أن يخترن لهن مكانًا غيره فإني أساعدهن في الحصول عليه.»

قال: «سأستخيرهن في مكان يخترنه غير هذا المكان، وإذا رأين الخروج من الحصن فإني أرسل معهن من يوصلهن إلى حيث شئن.»

ثم أمر أركاديوس بإخلاء مكان لهن بالقرب من الدير أقمن فيه، وعاد إلى صديقه فقال: «وأنت ماذا فعلت؟ هل أعددت العدة لجندك؟»

قال: «أعددت كل شيء تقريبًا، ومتى جاء والدانا فإننا نتم تدبير الأمر، فمتى يأتيان؟»

فقال أركاديوس: «أما أبي فأظنه يصل إلى الحصن غدًا، وأما أبوك فلا أدري يوم مجيئه، ولا ريب أنك أعلم مني بأمره، ولا أراه إلا مترددًا في شأن هذه الحرب، ولم يغرَّني منه التظاهر بالاستعداد وإدخالك في هذه الحملة، ولا أنه يوناني الأصل، فإن ماضي أعماله يخالف كل ذلك؛ فهو قبطي المشرب قائم بدعوة الوطنيين، لا يريد سلطانًا عليهم.»

فوقف أرسطوليس بغتة وهو يحاول دفع هذه التهمة عن أبيه فقال: «كيف تقول ذلك وأبي أول مدافع عن دولتنا، فحالما سمع بقدوم العدو أخذ في التأهب للدفاع، ووجودي في جندكم أكبر دليل على رغبته هذه؟»

فتبسم أركاديوس مستخفًّا بتلك الحجة، وقال له: «مهلًا أيها الصديق، فأنت تعلم حبي لك، ولا تجهل أني أحترم قدر أبيك، ولا أنكر عليك تحامل رجالنا ودولتنا على جماعة الأقباط، وما أنا بناسٍ نفورهم؛ لأن نفور أصحاب البلاد من فاتحيها أمر طبيعي لا مفر منه، وبخاصة إذا لقوا منهم ما لقي أهل مصر من تحامل بعض حكامنا، وما سبب ذلك إلا الاختلاف في المذهب الديني الذي تعلمه، ولكنني لا أسلم بأن والدك المقوقس غير قائل بقولهم، وأنه يود من صميم فؤاده خروج هذه البلاد من حوزتنا ودخولها في حوزة غيرنا مهما يكن جنسهم. أما دخولك في جندنا فلا تتخذه حجة لدفع هذه التهمة عنه، بل قد يكون مؤيدًا لها، ولكن ما لنا ولذلك الآن؟ فسوف يظهر الحق ويزهق الباطل. أما نحن فسندافع عن هذه البلاد جهد طاقتنا إلى آخر نسمة من حياتنا، وفي أيدينا أوامر مشددة بالمحافظة على هذا الحصن ودفع العرب عنه، وأظنهم يحسبون الظروف تساعدهم هنا كما ساعدتهم في بلاد الشام وبيت المقدس، ولو كان في رءوس حامية تلك البلاد الشهامة الرومانية ما سلَّموا منها حجرًا، ولكنهم فسدوا وغدروا، ولم يكن عندهم مثل هذا الحصن المنيع ولا رجال مثل رجالنا.» قال ذلك وكأنه شعر بما يتخلل عبارته هذه من الحدَّة فصمت برهة ريثما خفَّت حدَّته، ثم عاد فخاطب أرسطوليس قائلًا: «أخبرني الآن هل أنفذت الرجال لعمل التحصينات كما أخبرتك؟»

قال أرسطوليس: «وقد بدءوا بعملها منذ وصولنا، ولكنهم ناموا الآن التماسًا للراحة، ولا يقبل الصباح إلا وهم قيام على إتمامها، وقد جئت بكل معدات التحصين وفي جملتها حسك الحديد لنبذره في قنوات الخندق فلا يستطيع البدوي عبوره قبل أن تدمى قدماه ويعجز عن المشي، هذا إذا لم نقتله بسهامنا عند الأسوار قبل وصوله إلى الخندق.»

فقال أركاديوس: «وأين هم الأعداء الآن؟»

قال: «أنبأنا الجواسيس أنهم قاموا من العريش بعدَّتهم ورجالهم، ولكن دون وصولهم إلى هذا الحصن خرط القتاد.»

وكان أرسطوليس عالمًا بمقاصد أبيه حق العلم، وقد تحقق أن الحامية لا يمكنها دفع العرب، وكان يحب أركاديوس كثيرًا فأراد أن يكاشفه بذلك لئلَّا يكون في جملة من تقع عليهم المكيدة، ولكنه خاف افتضاح الأمر قبل أوانه فتضيع أعمال والده سدًى فأبقاه مكتومًا إلى حين، ونهض فودع صديقه وخرج يلتمس الرقاد بقية ذلك الليل فودعه أركاديوس وعاد إلى مقعده فعادت إليه هواجسه.

أما أرسطوليس فتحول عن الغرفة إلى السلم وهو يفكر في شأن أبيه مع الرومانيين، وقد حمل سيفه بيده لئلَّا يصطدم بجدران السلم فيوقظ أحدًا من الجند، فلما بلغ آخر درجة سار في زقاق ضيق مظلم قاصدًا إلى غرفته، فسمع صوتًا منخفضًا يناديه من جانب الزقاق، فنظر فإذا شبح قادم إليه أمسك بيده وهو يقول: «لعلك سيدي أرسطوليس؟» فجذب أرسطوليس يده قائلًا: «نعم، ومن أنت؟» فسمع صاحب الصوت يقول: «أنا خادمتك بربارة يا سيدي.» وعرف صوتها فقال لها: «وما الذي جاء بك إلى هنا؟ وكيف تركت البيت؟» قالت: «جئت لأمر ذي بال سأطلعك عليه إذا أذنت لي بخلوة.» قال: «تعالي معي إلى غرفتي.»

وسارا حتى دخلا بعض جوانب الحصن وأرسطوليس يحاذر أن يراها أحد خوفًا من وقوع الشبهة عليه، فلما دخلا الغرفة وأضاء المصباح تأمل في وجهها فإذا هي بعينها فقال لها: «ما خبرك؟»

قالت: «جئت بالأمس لزيارة كنيسة المعلقة كعادتي ففوجئت بالجنود يدخلون الحصن ويُخرجون مَن في الكنيسة من الراهبات فخرجت معهن يا سيدي، وكان من أمرنا ما قد علمت، فلبثت في ذلك الممر أنتظر الصباح لأعود إلى منف، وفيما أنا أخاطب رئيسة الدير أخبرتني أن راهبًا جاء في صباح الأمس يسأل عن سيدي المقوقس ومعه كتاب، فسألتها عن ذلك الراهب فذكرت أنه خرج من الكنيسة في ضحى هذا اليوم ولم تعد تراه ولا تعلم أين هو، ولكنه من رهبان دير في برِّيَّة تيبايس يحمل كتابًا من البطريق بنيامين الذي فرَّ من بطريق الإسكندرية إلى هناك، ولما علم بقدوم الجند الرومانيين إلى الحصن خاف أن يفتضح أمر الكتاب، فدفعه إلى الرئيسة لتخفيه ريثما يستطيع حمله إلى أبيك، فأخفته في صندوقها بين ثيابها ولم تكن تعلم أنهم سيخرجونها مع الرهبان، فلما جاءوا الدير وأخرجوهن منه لم تستطع لسرعتها ودهشتها أن تُخرجه، فبقي في الصندوق، وأخاف أن يصل إلى أيديهم، وربما كان فيه ما يؤاخذ سيدي عليه.»

فلما سمع أرسطوليس كلامها سكت لحظة وهز رأسه كأنه أدرك المراد من قدوم الراهب بذلك الكتاب، ولكنه خاف سوء العاقبة فاختلط عليه أمره وقال لبربارة: «وما السبيل إلى الحصول على الكتاب الآن وأنا لا أستطيع أن أطلبه من أركاديوس صريحًا؟»

قالت: «إذن أعطني كتابًا إلى أركاديوس تقول فيه إن رئيسة الدير تودُّ أخذ أيقونة من صندوقها للصلاة، وتطلب منه أن يأذن لي في الدخول إلى الكنيسة لإخراج تلك الأيقونة فقد تنفع هذه الحيلة.»

فسُرَّ أرسطوليس بحيلتها وأخرج قطعة من ورق البرديِّ كانت معه ثم ناولها إياها بعد أن كتب عليها ما أشارت به عليه، وقال لها: «لا تُطيلي الغيبة فإني في انتظار رجوعك.» فقالت: «طب نفسًا؛ إن غيابي لا يتجاوز فجر الغد.»

وهنا تذكر أرسطوليس شقيقته، فاستوقف بربارة وقال لها: «هل سافرت سيدتك أرمانوسة إلى بلبيس؟» قالت: «نعم يا سيدي.»

قال: «ولماذا لم تذهبي معها؟» قالت: «استأذنتها في البقاء بضعة أيام لأفي نذرًا عليَّ ثم ألحق بها.» وودعته وذهبت مسرعة.

ولبث أرسطوليس بعد ذهابها وحده، فنزع خوذته وسلاحه وتوسَّد مقعدًا يلتمس الراحة بعد ما قاساه من التعب في تصفيف الجند أثناء النهار، وأخذ يفكر في أمر الراهب وكتابه فأدرك أن الكتاب مرسل من بنيامين بطريرك الأقباط إلى والده، يحثه فيه على مسالمة العرب وبذل الجهد في التخلص من نير الرومانيين.

أما بربارة فسارت توًّا إلى الرئيسة فتناولت منها مفتاح صندوقها ومضت إلى كنيسة المعلقة، فاعترضها الحراس فأرتهم كتاب أرسطوليس إلى أركاديوس فأذنوا لها في المرور.

وكان أركاديوس لا يزال غارقًا في هواجسه وقد أطل من النافذة على النيل يفكر في محبوبته ويبحث عن وسيلة توصله إليها، وظل مترددًا بين اليأس والأمل لا يدري كيف يبلغها قصده، وكان أكبر همه أن يطلعها على شدة حبه لها، ويقنعها أن ما بين أبيه وأبيها لا يحول دون اقترانهما إذا بادلته هي حبه. على أنه كان يخشى عاقبة أمره إذا أطلع أباه على ذلك؛ لعلمه بما في قلبه من الضغائن على المقوقس، وما بين الأمتين من النفور، ولكن الحب سهَّل عليه كل عسير حتى إنه أحب أمة الأقباط كلها من أجل محبوبته، ومال إلى التشيع لهم رغبة في مرضاتها، ونقم على الساعة التي وُلد فيها رومانيًّا، وعلى الأحوال التي جعلت أباها يتشيع للأقباط؛ لأن كلا الأمرين حائل بينه وبينها.

وفيما هو في ذلك إذ دخل عليه أحد رجاله يخبره بأمر بربارة وكتابها، فعجب لأمرها وقال: «هاتِ الكتاب منها» فقال: «إنها لا تريد أن تسلمه إلا بيدها.» قال: «فلتدخل.» فدخلت وحدها وقبلت يد أركاديوس، فحالما رآها استأنس بمنظرها، وخيِّل إليه أنه رآها مرة من قبل، ولكنه لم يتذكر اسمها ولا الموضع الذي رآها فيه، على أنه ابتسم لها وتناول الكتاب منها وسألها عن أمرها فقالت: «نسينا الأيقونة يا سيدي في الصندوق، وهذا هو المفتاح، فهل تأذن لي بفتحه وإخراجها؟» فلما سمع أركاديوس كلامها ازداد استئناسًا بها، وأحب استطلاع حقيقة حالها فقال لها: «كيف تدخلين وحدك بين الجنود وهم يملئون الغرف؟»

قالت: «وماذا يخيفني إذا كنت قادمة إلى سيدي أركاديوس؟»

وكانا يتخاطبان باللغة القبطية، فقال لها: «لعلك من أهل هذا الدير، ولكني لا أرى عليك لباس الراهبات.»

قالت: «إنما أنا نزيلة جئت للصلاة ووفاء بعض النذور، فلما جاء الجنود خرجت مع الراهبات، وقد كلفتني رئيسة الدير أن آتيها بالأيقونة.»

فقال: «ولماذا لم تأتِ بنفسها أو ترسل إحدى راهباتها؟»

قالت: «إنها لا تجرؤ على مخاطبة سيدي أرسطوليس في شأنها، فبعثت بي لأكلمه في شأنها، فأعطاني هذه التوصية.»

فقال: «وكيف تجرأت أنت على ذلك؟»

قالت: «لأني من بعض خدم قصره.»

فلما سمع أركاديوس ذلك خفق قلبه، وتوسم الخير من حديثها، فعوَّل على تنسُّم أخبار محبوبته منها فقال: «وأي قصر تعنين؟»

قالت: «قصره بمنف، لأني وصيفة لشقيقته سيدتي أرمانوسة.»

فلما سمع اسم محبوبته هشَّت لها جوارحه، لكنه تجلد وقال: «لعلك خادمتها الخاصة؟»

قالت: «نعم يا سيدي، بل أنا مربِّيتها، وإذا شئت فقل إني بمنزلة والدتها.»

فتنهد حينئذ أركاديوس ودعا بربارة إلى الجلوس فجلست وأخذ يخاطبها همسًا لئلَّا يسمعه أحد، وهي تناجي نفسها: «ها قد قربت من بلوغ المرام.»

فقال أركاديوس: «قد أصابت أرمانوسة باتكالها عليك، لأني قرأت صورة الإخلاص على محياك. فهل عندك للسرِّ مكان؟»

قالت: «إني جعبة أسرار عميقة، فقل ما بدا لك ولا تخف.»

قال: «هل تعلمين من تخاطبين؟»

قالت: «نعم يا سيدي إني أخاطب أركاديوس بن الأعيرج قائد الجيوش الرومانية في مصر.»

قال: «وهل تعلمين ما بين الرومانيين والأقباط في مصر؟»

قالت: «إذا كنت تعني غير النفور بينهما فربما لا أعلم.»

قال: «بل إياه أعني، ويظهر لي أنك تعلمين من الأسرار ما لا يعلمه أعاظم رجالنا، فهل تعلمين بما في قلب أرمانوسة؟»

قالت: «نعم أعلم أنها تحب أباها ووطنها.»

قال: «لا تخيِّبي ظنِّي فيك، فأنا لم أسألك عما يخالج صدر كل قبطي، ولكني أسألك سؤالًا أرجو أن تجيبيني عنه جوابًا يفسح لي مجالًا للكلام معك فيما لم أكلم به أحدًا بعد.»

قالت: «وما الداعي للتحفظ في الكلام؟ قل وأفصح ولا تخف فإن نفسي في قبضة يدك، وأقسم لك بحبيبتي أرمانوسة أن سرَّك لا يتجاوز هاتين الشفتين إلا بإذنك.»

قال: «قد أحسنت الجواب، فاعلمي أن لي مأربًا عند سيدتك أرمانوسة، وقد أحببتها حبًّا شديدًا، فهل تعلمين شيئًا من ذلك قبلًا؟»

قالت: «وأي شيء تعني؟»

قال: «ألم تخبرك بأمر هذا الحب، أو لمحت من حديثها أنها تحبني؟»

قالت: «يجدر بي أن أكون السائلة هذا السؤال.»

قال: «وماذا تعنين؟»

قالت: «أعني أنك أعلم مني بذلك، فهل تشعر أنت أنها تحبك؟»

قال: «أراك تحاولين إخفاء الحقيقة، فأنا لم أسألك إذا كنت أنا أحبها ولكني سألتك إذا كانت هي تحبني.»

قالت: «وهذا ما أردته من سؤالي؛ لأن قلب المحب دليله كما يقال، فإذا كنت تحبها حبًّا حقيقيًّا، فلا شك في أنها هي أيضًا تحبك.»

قال: «إني أحبها وعلى هذا فهي تحبني، وهذا ما كنت أظنه، وقد أحسنت الدفاع عنها وكتم حبها خوفًا مما يخافه أهل الهوى في مثل هذه الحال. أما وقد تحقق ظني فأنا أعترف لك اعترافًا قلبيًّا أني أحب أرمانوسة حبًّا جمًّا يهوِّن عليَّ كل صعب.»

فقالت: «ما الفائدة من حبك لها وأنت تعلم ما يحول دون الوصول إليها، ولا أظن أن أباك يرضاها لك لما قدمت من الأسباب، فما الفائدة من هذا الحب؟!»

فهز رأسه وتنهد ثم قال: «لا أرى دون الوصول إلى أرمانوسة صعبًا لا يذلله حد هذا السيف.» وأشار إلى سيفه.

فقالت: «أنا أعلم أن عزائم الرجال تذلل الصعاب، ولكن الأمر أمر حقوق قد تكون أرهف حدًّا من الصوارم، فهل تعصي أباك يا سيدي؟! أرى ألا تعرِّض نفسك لغضبه، فإنك أدرى بما ينجم عن ذلك، ولكن هب أنك ذللت كل هذه المصاعب فماذا تصنع بقسطنطين؟»

فأدرك مرادها وكان قد سمع بخطبتها له ولم يصدق، فقال: «وأي قسطنطين؟»

قالت: «قسطنطين بن هرقل الإمبراطور.»

قال: «وما علاقته بهذا الأمر؟»

قالت: «يا للعجب كيف تتجاهل شيئًا لا يجهله أحد من أهل مصر؟»

قال: «وما هو؟ قولي.»

قالت: «ألا تعلم أنها مخطوبة له؟»

قال: «مخطوبة؟! هذا شيء عجيب، وهل قبلت هي؟!»

قالت: «لا أدري، ولكنني أعلم أنها سارت في صباح الأمس من قصرها تصحبها الحاشية مع أبيها إلى بلبيس لتكون في انتظار خطيبها.»

فلما سمع أركاديوس ذلك نهض عن كرسيه بغتة وصاح بها: «ويحك، ماذا تقولين؟»

قالت: «أقول الصدق يا سيدي، فإنها برحت القصر قبل أن أبرحه أنا، وهي الآن في طريقها إلى بلبيس.»

فاشتد غضبه وجعل يخطر في الغرفة ينظر تارة إلى بربارة وطورًا إلى النافذة، ثم يتشاغل بفتل شاربيه وأخيرًا وقف بغتة وقال لها: «يلوح لي أنها قبلت قسطنطين، فكيف تقولين إنها تحبني؟ لعل قسطنطين أقرب إلى قلبها مني!»

فقالت: «لم أقل يا سيدي إنها أحبته أو آثرته عليك، ولكنني قلت أنها سارت مع والدها إلى بلبيس، وأظنها فعلت ذلك إذعانًا لأمره، وهو لا يستطيع مخالفة الإمبراطور، ومهما يكن من أمر فإنها الآن في طريقها إلى بلبيس، ولا تدري متى يأتي خطيبها للاقتران بها. ها إني أخبرتك بالأمر كما وقع، وأما قلبها فاسأل قلبك عنه.»

فنظر إليها مغضبًا وقال: «أما قلبي فيحدثني بأنها لا تميل إلى سواي ولو أدَّى ذلك إلى عصيان أبيها.»

فقالت: كيف تتوقع منها ذلك وهي فتاة، وقد رأيتك وأنت شاب باسل تتردد في مخالفة أبيك إذا منعك منها.»

فحملق وقد احمرَّت عيناه وقال: «كيف تقولين إني أتردد وأنا أقول لك إنه لا شيء يمنعني من نيلها إلا الموت.» ووضع يده على قبضة حسامه وقال: «مادام هذا الحسام إلى جانبي فلن يحولني شيء عن ودها ولو قاومني قسطنطين، بل لو قامت عليَّ جنود أبيه برمَّتها، فما أنا براجع عن عزمي إلا إذا كانت هي راضية به، ولكن من يخبرني بما في ضميرها.»

فأدركت بربارة أنه مصمم على الاقتران بها ولو حالت دونه المصاعب فقالت: «إن في معرفته حلًّا لهذه المشكلة.»

قالت: «هب أنها لا ترضاه وأنها باقية على حبك، فما عُقبى ذلك؟»

فالتفت إليها وقد استلَّ حسامه وهزَّه قائلًا: «أما إذا تحققت بقاءها على ودِّي فإني أحارب في سبيل الوصول إليها جنود هرقل كلها، ولا أنفكُّ حتى أنالها أو أُقتل.»

قالت: «خفف عنك، واعلم أن ليس دون ذلك جنود هرقل فقط، ولكن دونه أيضًا غضب أبيك وأبيها.»

فقال: «ولكن إذا كان قلبها مثل قلبي فإننا لا نخشى شيئًا، ولو قامت علينا جيوش الدنيا كلها، فأخبريني عن كُنْه نيتها، وليكن في كلامك هذا القول الفصل، فإما أن أوطِّن النفس على أرمانوسة وأناضل عنها بحدِّ هذا السيف، وإما أن أقول عليها وعلى الدنيا السلام. قولي ولا تطيلي الكلام.»

فلما رأت ما هو فيه من الغضب نظرت إليه مبتسمة وقالت: «إذا كنت تحب أرمانوسة فتفضل واجلس لأنبئك بمكنون قلبها.»

فأجابها وقد هدأ غضبه: «نعم إني أحبها. قولي إذن.» وجلس.

فقالت: «اعلم يا سيدي أن أرمانوسة تحبك حبًّا ليس بعده غاية لمستزيد، أما قسطنطين فهي لا تعرفه، ولكن قلبها عالق بأركاديوس البطل الهمام، ولم آتِ هذا الدير إلا لأستطلع مكنونات قلبك وأعلم مقدار حبك لها. أما وقد عرفت ذلك فقد هان الصعب وخاب قسطنطين، ولن يدرك شعرة من رأسها، وها أنا ذا قد أخبرتك الحقيقة فتدبر الأمر، ولا ريب عندي أنها ثابتة في حبك ولا ترضى عنك بديلًا، مهما يكلفها ذلك من المشاقِّ، وبخاصة إذا علمت بما دار بيننا قبل مجيئي إليك، وقد فارقتها على أن أقابلك ونتواطأ على وسيلة تنقذها من مخالب ذلك الرجل.»

فأبرقت أسِرَّة أركاديوس ونظر إلى بربارة وقد فرح قلبه وأشرق وجهه وقال: «أما والحال على ما تقولين فلا نخاف أحدًا، وأنا لها وهي لي، ولا عبرة بما يسعى فيه الناس، فهم إنما يضربون في حديد بارد. أما قسطنطين فإذا لم يؤخذ بسيوف العرب في حرب الشام فإني قاتله بحدِّ هذا الحسام، ولكنني أحب أن تعلم أرمانوسة ذلك لتزداد ثباتًا حتى يقضي الله أمرًا كان مفعولًا، وما عليك الآن إلا أن تذهبي إليها وتخبريها بعزمي وتقولي لها إن أركاديوس حبيب ثابت في محبتك ثبات الجبال، فاثبتي أنت وانتظري الفرج من عند الله ومن سيف أركاديوس.»

فقالت: «أما إخبارها بهذا فعليَّ أنا العاجزة التي تتعهد ببذل نفسها في سبيلكما، فطيبا نفسًا وقرَّا عينًا، وغدًا إن شاء الله أدبر حيلة في الذهاب إليها وأطلعها على ما دار بيننا وأعلمك بما سيكون، فقد سرَّني كثيرًا ارتباط قلبيكما.»

ثم فكرت قليلًا وقلبها فرح بما علمت فرأت أن تثبت قوله بالعمل وتعود إلى سيدتها بما يحقق أملها فقالت: «ولكن يا سيدي ما الذي يثبت قولي لها ويوطد علاقة المحبة بينكما وأنتما إلى الآن لم تتشافها صريحًا؟»

فلبث أركاديوس يفكر ثم قال: «صدقت، ولكن ماذا عساي أن أرسل إليها، وما أنا على استعداد لذلك؟» ثم مد يده إلى خاتم في بنصره يريد إخراجه ولكنه توقف هنيهة ممسكًا بالخاتم كأنه يهم بسحبه ويعترضه خاطر فيمنعه، وأخيرًا نزعه وقدمه إلى بربارة وقال: «خذي هذا الخاتم فإنه خاتمي، وقد نقش عليه النسر الروماني واسمي، وسلميه إليها يدًا بيد، واحذري أن يعلم أحد بذلك، واعلمي أني قد سلمتك شرفي، ووضعت فيك ثقتي، وهذه هي أول مرة خاطبتك فيها فلا تخيبي أملي، وأطلب إليك أن تحفظي ما دار بيننا، واحذري أن تفوهي به أمام أحد، فإنك إذا أصغيت إلى مقالي وسلكت مسلكًا يرضيني نلت خير الجزاء. أما إذا بُحت بالأمر أو خالفت وصيتي فأنت تعلمين جزاءك.»

فتناولت الخاتم وقبَّلته وقالت: «طب نفسًا وقرَّ عينًا، فإني الخادمة الأمينة لك ولسيدتي التي هي أعز لدي من روحي.»

•••

ثم نهضت فقبَّلت يده وطلبت إليه أن يأمر بمن يوصلها إلى صندوق رئيسة الدير، وألا يتعرض لها أحد بشيء، فنادى خادمه الخاص وأوصاه أن يرافقها إلى حيث تريد، فسارت وأخرجت الكتاب خلسة وتظاهرت بحمل الأيقونة، ونزلت حتى أتت مقام الرئيسة والراهبات فأعطتها الأيقونة، وأخبرتها أنها أطالت المكث هناك حتى تمكنت من تدبير الحيلة لإخراج الكتاب وكانت قد خبأته في جيبها، وأرادت الذهاب به لتوِّها إلى سيدها أرسطوليس، ولكنها خافت أن تقع في أيدي الحراس فيفتضح الأمر، فلبثت بقية ذلك الليل حتى إذا أقبل الصباح ذهبت بالكتاب إليه، فإذا هو في انتظارها على مثل الجمر، فلما رآها مقبلة نهض لملاقاتها وأدخلها غرفته وسألها عن الكتاب، فمدت يدها إلى ثوبها وأخرجت أسطوانة من القصب الفارسي دفعتها إليه، فتناولها وقد علم أن الكتاب في داخلها، ففتحها من أحد طرفيها وأخرج الكتاب فإذا هو رقٌّ من جلد مطوي؛ إذ كان أكثر استخدام الرقِّ للكتابة في بلاد العرب وعند سائر أهل البادية، أما المصريون فكانوا يكتبون على البرديِّ، ففضَّ الكتاب وقرأه فإذا هو مكتوب بالقبطية من البطريرك بنيامين إلى المقوقس وهاك ترجمته:

ولدنا بالرب يوحنا قرقت حاكم مصر

قُضي عليَّ بالانزواء في هذا الدير، وأنت تعلم أني إنما أُبعدت إليه ظلمًا وعدوانًا بأمر أعدائنا دينًا ووطنًا ورئيسهم البطريق الإسكندري؛ لأنهم ضلوا سواء السبيل وحرفوا كلام الله عن مواضعه، ولست أنا أول من صبر على هذا الاضطهاد، فأنت تعلم أن كثيرين من البطاركة ذهبوا ضحية هذا الضلال، وأنا لا أطلب لهم إلا الهداية إلى الحق، ولا أدينهم ولكن الله يدينهم، وأما ما أوجب كتابة هذا إليك فهو أنني علمت عن ثقة أن العرب الذين قد ظهروا بالدعوة إلى الإسلام والجهاد في سبيله قد حاربوا الروم في العراق وفارس وسورية وفلسطين وتغلبوا عليهم، وأخذوا البلاد من أيديهم، والنصر من عند الله يؤتيه من يشاء من عباده، وقد علمت أنهم قادمون إلى مصر لانتزاعها من أيدي أعدائنا، وأنا أعلم أنك لا تستطيع المخاطرة بالانحياز إليهم كما أخبرتني غير مرة؛ لئلَّا يعود ذلك علينا بالوبال، وقد أعجبني ذلك منك؛ لأنه دليل على الحزم والدراية، ولكنني واثق بثباتك مع سائر أولادنا جماعة الأقباط الذين أثقل الدهر كاهلهم بالاستبداد والعنف، وقد مضت عليهم قرون وهم يئنون من وطأة هذا الظلم ولا مجير لهم.

وقد رأيت في ليلتي هذه حلمًا تفاءلت منه خيرًا، وعلمت أن هؤلاء العرب أرسلهم الله لإنقاذنا من أيدي الروم. على أننا لو أردنا دفعهم ما استطعنا إليه سبيلًا؛ لأن الله منحهم النصر فيما قاموا به، فلم يهاجموا حصنًا إلا فتحوه، ولا نازلوا جندًا إلا هزموه، ولا يخفى عليك أن الروم قد دالت دولتهم، ولو أراد الله نصرهم ما خرجت بلاد الشام من أيديهم، واعلم أيضًا أن هؤلاء العرب قد قاموا يدعون الناس إلى دينهم، فإما أن يقبلوا الدعوة أو يحاربوا إلى آخر نسمة من حياتهم أو يستسلموا ويدفعوا الجزية. أما أنا فلا أرى أن تخرجوا من دينكم الذي وُلدتم عليه، ولكن الاستسلام ودفع الجزية لهؤلاء العرب أولى بنا وأقرب إلى خلاصنا من الظلم، فإذا كنت لا تزال على ما أعلم فافعل وأنقذ البلاد من الشر، واحذر أن تتحول عن عزمك، وها إني أصلي ليلًا ونهارًا وأدعو الله أن يأخذ بيدك ويلهمك ما فيه خيرك وخير البلاد.

وأخيرًا أهديك البركة وأدعو لك ولسائر أبنائنا وإخواننا بالروح، والرب يحفظكم.

البطريرك بنيامين

فما جاء على آخر الكتاب حتى كلل العرق جبينه، وتذكر ما قام بين القبط والروم من الضغائن وما قاساه الأولون من الاستبداد والجور، ثم لفَّ الكتاب وخبأه في مأمن وقال لبربارة: «اذهبي بسلام، وإذا رأيت أبي فأخبريه بأن له معي كتابًا أريد إطلاعه عليه.» فقبَّلت يده وعادت تريد الخروج فناداها فرجعت فقال: «إلى أين تذهبين الآن؟» قالت: «إلى الدير» فقال: «لا تطيلي مقامك هنا لئلَّا تستبطئك سيدتك فيضطرب بالها لما نحن فيه، فأسرعي بالرجوع وأخبريها أننا في خير.»

قالت: «ولكنني أخشى ألا أدركها في عين شمس فيصعب عليَّ المسير وحدي إلى بلبيس.»

فقال: «وما العمل إذن؟»

قالت: «الرأي رأيك يا مولاي، وحبذا لو أذنت أن يرافقني اثنان من رجالك إلى عين شمس، فإذا كان الركب لا يزالون هناك انضممت إليهم وعاد الرجلان، وإلا رافقاني إلى بلبيس، والأمر أمرك.»

فقال: «هل علمت أن أبي سار برفقة أرمانوسة؟»

قالت: «بعث إلينا ونحن في منف أن نسير بسيدتي إلى عين شمس حيث يكون هو في انتظارنا فيرافقنا إلى بلبيس.»

قال: «الأرجح أنك ستشاهدين سيدك في عين شمس، فإليك هذا الكتاب وادفعيه إليه يدًا بيد واحذري أن يراه أحد غيره.» ومد يده وأعطاها الأسطوانة وفيها الرَّقُّ المعهود.

فتناولته وقالت: «وأين أخبئه؟ فإني أخاف إذا رآه أحد من الروم أن يأخذه مني وينكشف الأمر.»

قال: «اجعليه في ثيابك، وهم لا يفتشونك لأنك امرأة، فضلًا عن أنك من خدم أبي.»

ثم أمر باثنين من رجاله، فأتيا، فأوصاهما بأن يرافقاها إلى عين شمس وهي على مسيرة ساعتين أو ثلاث من الحصن، فإذا ظفرا بركب والده هناك تركاها وعادا، وإذا كان الركب قد أقلع رافقاها إلى بلبيس، وأعطاهما كتابًا إلى أركاديوس ليأذن لهما بالخروج من الحصن، وأمر لهما بمركبة يجرها ثوران قويان، فأخذا الكتاب وسارا إلى دير المعلقة، وكان أركاديوس هناك يفكر في بربارة وأرمانوسة، فلما جاءه الجنديان بكتاب أرسطوليس أذن لهما، ونظر إلى بربارة بطرفٍ خفيٍّ كأنه يوصيها بإتمام الأمر مع أرمانوسة والعودة إليه بالجواب حالًا، فأشارت إليه بعينيها مجيبة.

•••

خرج الثلاثة من الحصن وقد مالت الشمس إلى المغيب وليس في طريقهم إلى عين شمس إلا الغياض والبساتين من الكرم والجميز والنخيل وبعض الأبنية، ومعظمها كنائس وأديرة، وفي بعض هذه البقعة مما يلي جبل المقطم بنيت بعد ذلك الفسطاط والقاهرة.

وركبت بربارة المركبة وتناوب الجنديان الركوب على الثورين فمروا بتلك الحقول، وما زالوا يجدُّون السير حتى دنوا من عين شمس وكانوا قد عرفوا مكانها من مسلَّتها التي تُشاهد عن بعد، والمدينة إذ ذاك قد تداعت إلى الخراب وتهدَّم سورها سوى جزء صغير منه، أما هيكلها الذائع الصيت فبعد أن كان مدرسة تتسابق إليها الأمم من سائر أقطار العالم لاقتباس علوم المصريين وفلسفتهم وكهانتهم أصبح خرابًا بلقعًا ينعق فيه البوم، ولم يبقَ منه إلا بعض الجدران والأعمدة، وأما المسلَّتان العظيمتان عند بابه فكانتا لا تزالان قائمتين شامختين تناطحان السحاب، يكلِّل رأس كل منهما تاج من النحاس قد صدئ واخضرَّ، فلما نزل عليه المطر سال الصدأ على ما تحته، أما الأصنام الهائلة التي كان المصريون القدماء يعبدونها إبَّان دولتهم فكانت لا تزال قائمة، وقد غشاها الذل وغطاها التراب، على أن ضخامتها ما برحت داعية إلى الرهبة.

فلما بلغوا المدينة ترجَّلوا واجتازوا السور فإذا بالمدينة خالية خاوية، فأرادوا الاستفهام عن أمرها فشاهدوا بيوتًا حقيرة قائمة على أنقاض السور من الخارج، فتقدم الرجلان إلى بيتٍ منها وهما في لباس الجند، فلما رآهما أهل البيت ذُعروا وفرُّوا وتركوا البيوت وشأنها، ثم سمع الجنديان نباح الكلاب وشاهدوا كلبين كبيرين هجما عليهما ينبحان نباحًا شديدًا فناديا أهل المنزل فلم يظهر أحد، ثم سمعا خوار الثورين فالتفتا فإذا بهما قد ذُعرا لنباح الكلاب، فخافا أن يفرَّا بالمركبة ويتيها بين الأشجار، فرجع أحدهما وأمسك الثورين وشدَّهما إلى شجرة بحبل من ألياف النخيل، وعاد إلى رفيقه وبربارة وكانا قد مشيا وهما يحاذران أن يعضهما كلب، حتى بلغا بيتًا منها فإذا بالباب مغلق، فطرقاه فلم يجبهما أحد فعجبا لذلك، وخافا أن يكون في الأمر خطر، فمضيا إلى بيت آخر والكلاب تنبح، فلاقاهما رجل شيخ يتوكأ على عصاه وقد حناه الكبر وكلَّله الشيب، وأرسل شعر حاجبيه على عينيه وتدلَّت لحيته على صدره، فتقدما إليه وسلما فحياهما وجلس إلى حجر يلتمس الراحة، فسألوه عن سبب ما شاهدوه من نفور الفلاحين وفرارهم فقال: «وهل أنتم من جند الروم؟» قالا: «بل نحن من جنود مولانا المقوقس، وما سبب سؤالك؟»

قال: «إن على سؤالي هذا يتوقف جوابي، أما وقد علمت أنكم من إخواننا القبط وتحققت ذلك من لهجتكم فأخبركم أن سبب نفور هؤلاء الناس منكم أنهم رأوكم بلباس الجند فظنوكم من جنود الروم. ولا يخفى عليكم ما آلت إليه حالنا من معاملتهم لنا بالقسوة والجفاء، وكم مروا بنا مثل مروركم هذا وكلَّفونا ما لا طاقة لنا به من الأثقال، حتى كانوا إذا رأوا عندنا متاعًا أخذوه، أو حيوانًا ساقوه، أو طعامًا أكلوه، وآخر ما لاقيناه منهم منذ بضعة أيام إذ مر جماعة منهم يريدون قصر الشمع فلم يغادروا شيئًا في طريقهم إلا أفسدوه، فداسوا الزرع، وساقوا الماشية، ونهبوا البيوت، ولما كلمهم ابني وتضرع إليهم أن يشفقوا على حالنا أوسعوه ضربًا ولكمًا؛ فلا لوم على قومنا في الفرار، وأنا والله لولا عجزي عن الركض ما وقفت أمامكم، فالحمد لله على ما حصل، واعلموا أننا رهن إشارتكم في كل ما تريدون، فانزلوا على الرحب والسعة.»

قال أحد الجنديين واسمه مرقس: «أإلى هذا الحد تخافون رجال حكومتكم؟» فتأوَّه الشيخ تأوُّهًا عميقًا ورفع نظره إليهما وقد بلَّ الدمع عينيه، وقال: «كأني بكما لغضاضة شبابكما وحداثة سنِّكما لم تذوقا ما ذاقته هذه الشيبة، ولا قاسيتما ما قاساه هذه الشيخ، الحق أن حالنا مع هؤلاء الروم يتفتت لها الصخر، وقد مضى عليَّ ثمانون عامًا لم أذق فيها الراحة يومًا، ولا سمعت خبرًا مفرحًا، وقد وقعت في الخطر مرارًا، وذقت العذاب ألوانًا، وكم تمنيت أن يملك بلادنا هذه أهل البجة أو أهل الحبشة؛ فإنهم أقرب إلى الشفقة والرحمة من هؤلاء، ويلوح لي أن الزمن المنتظر قد اقترب.» وكان يكلمهما وهو مطرق لانحناء ظهره وهما مصغيان لكلامه حتى شُغلا عن سيدهما والسؤال عنه، ولكن بربارة ذكرتهما بما جاءوا من أجله، فقال مرقس للشيخ: «لقد سرَّنا حديثك ولذَّ لنا كلامك الذي هذَّبته الأيام وحنكته السنون، ولكننا نسألك قبل إتمام الحديث عن ركب مولانا المقوقس، هل مر بكم من هنا؟»

قال: «نعم إنهم باتوا البارحة هنا وأصبحوا فجر هذا اليوم وأقلعوا شرقًا، وهم الذين بشَّرونا بقرب الفرج.»

فلما رأى الجنديان ألَّا بد لهما من الذهاب إلى بلبيس مع بربارة، وأن الشمس قد مالت إلى المغيب، عوَّلا على المبيت حيث هم، فإذا أصبحوا ساروا إلى بلبيس، فمكثوا وقد طاب لهم حديث ذلك الشيخ، وقال له مرقس: «هل تأذنون لنا بالمبيت عندكم الليلة؟»

قال: «على الرحب والسعة يا ولدي.» ونادى أولاده فظهروا من وراء الجدران حيث كانوا مختبئين، وأسرعوا مهرولين، بعضهم قد ركب على ثور ويجر خلفه حمارًا يحمل بعض البرسيم، وآخر يسوق أمامه الماشية، وفيهم شاب قد ربط يده إلى عنقه، وكان مع ذلك يحمل بيده الأخرى عصا طويلة يسوق بها سربًا من الإوز، فالتفت الشيخ إلى مرقس وقال: «هذا هو أصغر أولادي الذي أشبعوه ضربًا كما أخبرتك.» فتقدم الأولاد وهموا بتقبيل يدي الجنديين وهم يرتجفون خوفًا، فابتدرهم والدهم قائلًا: «إنهما يا أولادي من رجال المقوقس، فلا تخافوا.» وأمرهم بأن يعدُّوا لهما طعامًا ومقامًا للمبيت، وأن يقدموا علفًا للثورين ويربطوهما بعمود بالقرب من البيت.

فقال الجنديان: «هلم بنا يا شيخنا ندخل هذا الهيكل فنتمَّ حديثنا هناك، وإذا تعبت أسندناك.» فنهض على عكازه وأعانه بعض أولاده فدخلوا جميعًا من ثغرة في السور حتى بلغا الهيكل فإذا بآثار وطعام وأقدام، فعلموا أنها آثار المقوقس وحاشيته، ثم جلسوا على أحجار ملقاة هناك وكانت من أحجار الهيكل فسقطت وفي جملتها قطعة من مسلة، وقد قام في صحن الهيكل شجرة من الجميز هائلة تظلل ذلك المكان، فجلس كل منهم على حجر وأخذوا بأطراف الحديث والشمس قد آذنت بالزوال، وأخذ الشفق في الظهور واستولى السكون على تلك الخرائب حتى يكاد الرجل يخشى رهبة المكان، وإذا التفت حوله فلا يرى إلا أنصابًا عظيمة تناطح السحاب، وأصنامًا ترعب قلوب الأبطال، ولولا ذلك ما دان لها الفراعنة العظام.

فلما استتب بهم المقام قال مرقس للشيخ: «رأيناك تبشرنا بقرب الفرج، فماذا عنيت؟»

قال: «قلت يظهر أن الفرج قد اقترب؛ وأعني أن الله قد أراد إنقاذنا من هؤلاء الظالمين. ولكنني أتكلم الآن وأخاف أن يسمعني واحد منهم.» فقال الجنديان: «قل ولا تخف، ليس منهم أحد هنا.»

فقال الشيخ: «سمعت من بعض جالية الشام أنه ظهر في بلاد العرب رجل عظيم دعا الناس إلى دين جديد، والتفَّت حوله عصابة قوية من الرجال الأشدَّاء، حاربوا الروم في بلاد الشام وغلبوهم، ويلوح لي أنهم لا يقعدون عن طلب مصر؛ فإنها أخصب بلاد الروم وأكثرها نتاجًا، ولا أظنهم يلاقون في فتحها مشقة، وقد سمعت بالأمس من بعض رجال مولانا المقوقس أن هؤلاء العرب قد عولوا على القدوم إلينا، والظاهر أنهم لا يزالون بعيدين.»

فقال مرقس — وكان أفصح من رفيقه جرجس وأكثر منه جرأة: «ما الموجب لظنِّك بُعدهم؟»

قال: «لأني أرى سيدي المقوقس ذاهبًا بموكبه يهتم بتزويج ابنته أرمانوسة بقسطنطين بن هرقل، وهذا ما علمته أيضًا من هؤلاء، فلو كان العدو على الأبواب ما حمل ابنته إلى بلبيس وهي في طريق العدو إذا جاء من ناحية الشام.»

فقال مرقس: «إن المصائب قد كُتبت علينا ولا ندري عاقبة هذه الحروب، ولكنا نرجو النصر لنا؛ لأن حصوننا ومعاقلنا منيعة، وليس هؤلاء العرب إلا فئة قليلة من البدو يركبون الجمال ويرعون الماشية، وأما جنود الروم فرجال محنَّكون، وأما هرقل فإنه شديد البطش، وقد حدثني أبي أنه هو الذي أخرج الفرس من مصر بعد أن ملكوها ورسخت أقدامهم فيها.»

فهز الشيخ رأسه ومشط لحيته بأصابعه كأنه تذكَّر أمرًا ساءه، ونظر إلى مرقس وقال: «لقد ذكَّرتني يا ولدي أمورًا كادت تذهب من ذاكرتي. نعم إن هرقل أخرج الفرس من مصر بالقوة، ولكنه لا يستطيع دفع العرب عن بلاده، والظاهر لنا من حاله وحالهم أن دولته قد دنا أجلها؛ لأن النصر مرافق لهؤلاء القوم، فلم يهاجموا مدينة إلا فتحوها، حتى ملكوا الشام والقدس والعراق واليمن وغيرها، ولم تستطع جنود الروم الوقوف أمامهم، وما ذلك إلا لما أراده الله من انقسامنا وقيام بعضنا على بعض، وإلا ما كان العرب ولا غيرهم يقوون على جندنا، وكيف يستطيع هرقل دفع هذا العدو عن بلاده وهو على ما تعلم من حاله معنا؟! أتظن القبط إذا جاءهم العرب محاربين يقاومون حبًّا للروم؟! بل أقول لك وأنا أحد الأقباط إني أفضل أية دولة تحكم هذه البلاد على دولة الروم لما قاسيناه من جورهم واستبدادهم؛ نعم إنهم مسيحيون مثلنا ولكن الوثني خير منهم، اسألوا هذه الشيبة فتنبئكم بما قاسيناه من ذلك؛ فكم هدموا من كنائسنا، وأهلكوا من بطاركتنا، وجردونا من أملاكنا، أهذه أعمال مسيحيين؟! انظروا إلى هذه البساتين؛ فإني أعمل في فلاحتها مع أولادي وأحفادي فنزرعها كرمًا ونخيلًا فلا يبقى لنا من النخيل إلا بعض القطع نجعلها سقوفًا لبيوتنا، وقليل من التمر نأكله، ولا يكاد يبقى لنا من الكرم إلا بعض العنب نصطنع منه شيئًا من الخمر، وأما الباقي فيأكله المارُّون من جند الروم ويغتصبه الجُباة وغيرهم، فضلًا عما يسوموننا من الخسف والذل. أما ماشيتنا فنصيبها مثل نصيب الزرع أيضًا، وبعد أن كانت ثيراننا عشرة نستخدمها للركوب أو لجر الأثقال لم يبقَ لنا منها إلا هذا الثور، وقد سمعت من رجل قدم من الشام حديثًا أن العرب بعد أن فتحوا الشام أمَّنوا النصارى على أموالهم وأعراضهم، وأباحوا لهم الصلاة في معابدهم لا يعارضهم أحد في ذلك، أليسوا إذن خير من الروم؟!

ولكن آه من حظنا نحن المصريين؛ فإن الشقاء قد كُتب علينا، وأذكر يوم جاء الفرس بلادنا منذ أربعين سنة — وقد كنت كهلًا، وكان مقامي في الإسكندرية أتَّجر في الغلال والذُّرة، وكنت في سعة من العيش — أننا سمعنا أن دولة الفرس قامت على الروم، وكان ملك الروم إذ ذاك يدعى «قوقا»، وكان ضعيفًا فحاربوه وفتحوا الشام وقدموا مصر، وكان ملك الفرس يدعى كسرى، وقد اشتهر بشدة البأس، فلما سمعنا بقدوم جنده إلى مصر قلنا في أنفسنا عساهم أن يكونوا خيرًا لنا من الروم فننجو من جورهم، ولكن وا أسفاه، لم يمضِ زمن حتى علمنا بدخولهم بلادنا، وكانوا كلما دخلوا بلدة قتلوا أهلها وخربوا كنائسها، وكسروا نخيلها، وقد أُحصيَ عدد ما أحرقوه من الأديار فبلغ ستمائة، فأُسقط في يدنا وخفنا عاقبة أمرهم، إلى أن وصلوا إلى الإسكندرية وأخذوها، فأظهروا لنا في بادئ الأمر أنهم يريدون بنا خيرًا، ولكنهم عاملونا بعدئذٍ معاملة لم يعاملنا بمثلها الروم؛ وذلك أنهم دعوا أهل المدينة إلى الاجتماع زاعمين أنهم يريدون الإنعام عليهم وإكرامهم، فتقاطر الناس أفواجًا إلى مكان الاجتماع، ولم أستطع الذهاب إليه لبعده وانشغالي بعملي، وكان اجتماعهم في قاعة كبيرة منيعة السور، في المكان الذي كان أجدادنا المصريون يعبدون فيه الصنم سيرابيس، وحكاية هذا الصنم تذكرني بما أتاه أباطرة الرومان القدماء من الخير لبلادنا، وما جاء به هؤلاء المتأخرون من الشر.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤