الفصل الرابع

المسيحيون ومظالم الرومان

قال مرقس للشيخ وقد حلا له حديثه؛ لكثرة ما أفاد منه: «وما حكاية الصنم سيرابيس يا سيدي؟» فقال الشيخ: «لا يخفى عليكم يا أولادي أن أجدادنا المصريين كانوا يعبدون الأصنام التي ترون بعضها أمامكم، وأمثالها كثير في أنحاء القطر، وبعد أن ظهرت الديانة المسيحية ودخلت هذه الديار تنصَّر أجدادنا الأقباط وبقي حكامنا الروم على اعتقادهم الوثني، وأذاقونا العذاب والاضطهاد ألوانًا، وأشد تلك الاضطهادات ما هو معلوم بيننا من أمر الإمبراطور دقلديانوس المشهور بظلمه، وهو الذي قتل الشهداء منذ ثلاثة قرون أو أكثر، فكان ذلك شر ما جناه الروم علينا، حتى إذا ما تولى قسطنطين الأكبر اعتنق الديانة المسيحية وحمى المسيحيين، وكانت أمه القديسة هيلانة التي ذهبت وعثرت على صليب المسيح كما تسمعون.

غير أننا ما زلنا نقاسي الاضطهاد ممن خلفوه إلى أن تولى العرش الإمبراطور الطيب الذكر ثيودوسيوس الأعظم منذ قرنين ونصف قرن، وكان حسن الإيمان فأفرج عن الأقباط، وبعث إلى مصر بهدم الهياكل الوثنية وبناء الكنائس على رغم الشعب الروماني، وكان في الإسكندرية هيكل اسمه هيكل سيرابيس فيه صنم هائل كسروا فكَّه بالفئوس فتراكضت منه أسراب من الفيران كانت تعيش فيه فسقطت منزلته لدى الوثنيين أنفسهم، ومن عهد ثيودوسيوس هذا ثبتت الديانة المسيحية وأخذت تنتشر، وعمد المصريون إلى إقامة الكنائس حتى قام ما قام من الانشقاق بين لاهوتيي الإسكندرية ولاهوتيي القسطنطينية بسبب مسألة الطبيعة والطبيعتين، مما جر علينا هذا البلاء، والبقية تعرفونها.»

قال مرقس: «وماذا كان من أمر الفرس وإخواننا الأقباط بعد أن جمعوهم في مكان واحد؟» قال الشيخ: «سمعنا أنهم قتلوا الآلاف منهم صبرًا، فلما سمعت بالواقعة حملت أولادي وأهلي وما خفَّ حمله من المال، وخرجت حتى جئت هذا الموضوع وأقمت به، وقد خسرت كل ما ملكت يداي، ورضيت بالفقر والمسكنة تخلصًا من الموت. أما الفرس فإنهم تمكنوا من دخول القسطنطينية وهي عاصمة الروم كما تعلمون، ثم علمت أن الروم لما رأوا ضعف ملكهم «فوقا» عزلوه ونصبوا «هرقل» هذا، وكان قبلًا واليًا على أفريقية، فجاء القسطنطينية وقتل فوقا وإخوته، وحارب الفرس مرارًا، ثم يئس من الفوز، فعزم على أن ينقل مقر ملكه إلى تونس، ولكن ذلك عظم على الروم، وقام البطريرك إذ ذاك وشد أزره، فرجع إلى محاربة الفرس، فمكنه الله منهم حتى دفعهم عن بلاده، وعادت مصر إلى حوزته، ولكنه عاد إلى ما كان عليه أسلافه من الاستبداد بنا واضطهاد بطاركتنا، وكان على الإسكندرية البطريرك بنيامين التقي الورع فاضطهده واستبدل به بطريركًا اسمه قورش، وأراد هذا القبض على بنيامين ففر من الإسكندرية إلى برِّيَّة أسقيط، وأقام في «تيبايس» حيث يكثر نصراؤه، وهو هناك إلى الآن.

على أن هرقل لم يكتفِ بهذا العمل، فلما فاته القبض على البطريرك قبض على أخيه مينا، وكان لا يزال في الإسكندرية، وأرسله مغلولًا إلى القسطنطينية، وقد سمعت أن هرقل تملَّقه استجلابًا له حتى يسلم برأيه وهو التعليم بالمشيئة الواحدة والطبيعتين، فلم يذعن له، فأمر به فطُرح في النار حتى كاد يحترق، ثم أخرجه منها وجعل يلكمه على فكيه حتى سقطت أسنانه، وأمر بكيس فمُلئ رملًا ثم وضعه فيه وأمر بإلقائه في البحر حيث مات شهيدًا.»

وسكت الشيخ قليلًا، ثم استأنف حديثه فقال: «هذه حكايتنا يا ولدي حكيتها لكم كما شاهدتها، وتحدثني النفس أحيانًا أن هؤلاء العرب يعاملوننا معاملة الفرس والرومان فتكون البليَّة الثانية شرًّا من الأولى، ثم تخطر ببالي معاملاتهم للبلاد التي افتتحوها إلى الآن فأراهم أفضل لنا من الروم.»

ولم يستطع الشيخ أن يتم حديثه لشيخوخته وضعفه، وكان الجنديان وبربارة وسائر الحضور مصغين إليه وقد ارتاحوا إلى حديثه واستأنسوا به، فالتفت مرقس إليه وقال: «قد سرَّنا حديثك أيها الشيخ، ولك شكرنا على ما جئتنا به من الفوائد، وقد صدقت في قولك بأننا خُلقنا لنشقى، ولكننا نتوسَّم في قدوم هؤلاء العرب خيرًا. أما إذا غلبتهم الروم فإننا في حوزة الروم نحارب بسيفهم، لنا ما لهم وعلينا ما عليهم، وإلا فإننا نكون مع الغالب.»

ثم نهض من مجلسه ودنا من الشيخ وهمس في أذنه قائلًا: «إن مولانا المقوقس مصمم على ما ذكرت، فإذا رأى الغلبة للعرب انحاز إليهم، وهو سيدنا ووالينا، ولولا الحامية الرومية المراقبة لأعماله لفتح للعرب صدر بلاده ولم يرمِ عليهم نبلًا.»

فقال جرجس — الجندي الآخر — وكان يسمع حديثهما: «ولكن كيف يكون هذا عزمه ويزوج ابنته لقسطنطين بن هرقل ويحملها بنفسه إلى بلبيس؟!»

فقطع الشيخ عليه الكلام قائلًا: «لا تتجاهل يا ولدي الحقيقة. كيف تستغرب ذلك وأنت تعلم أن تمنُّعه يجرُّ وبالًا على جميع الأقباط، وهو يودُّ كتمان هذا الأمر عن كل إنسان إلى أن يقضي الله ما يشاء.»

أما بربارة فكانت مستأنسة بالحديث فلما ذكرت حكاية أرمانوسة وقسطنطين تذكرت سيدتها وما تحمله إليها من الأخبار المهمة، وخافت أن يسبق السيف العذل فيأتي قسطنطين ويأخذ سيدتها قبل وصولها إليها بخبر أركاديوس، فقالت للشيخ: «اسمح لي أن أتطفل عليك بالسؤال عن أمر يهمني، سمعتك تقول خلال كلامك أنك عرفت رجلًا قادمًا من الشام، وهو الذي أخبرك عن معاملة العرب لأهلها، فهل أخبرك بشيء عن مجيء قسطنطين.»

قال الشيخ: «أظنه قال لي إن قسطنطين قُتل في بعض المواقع، ولكنني لم أتحقق الخبر.»

فلما سمعت بربارة ذلك اختلج قلبها في صدرها من الفرح، وأحبت أن ترى المخبر فقالت: «إن الخبر إذا تحقق كان من الأهمية بمكان؛ إذ يترتب عليه عودة سيدتي أرمانوسة إلى منف.»

فقال جرجس: «هل تظنين أنها تحزن إذا مات قسطنطين؟»

قالت: «لا أدري يا سيدي، فقد تحزن لأن اقترانها بابن إمبراطور الرومان شرف عظيم، ولكن الله يفعل ما يشاء، وأود كثيرًا أن أعرف الحقيقة؛ لأن أرمانوسة سيدتي وأنا وصيفتها، ويهمني هذا الخبر كما يهمها، فهل أستطيع لقاء هذا الرجل؟ وأين هو؟»

فقال الشيخ: «لا أعرف، ولكنه كان هنا منذ بضعة أيام وقد سافر لزيارة بعض الأديرة، ولا أدري أين هو الآن، على أن الخبر كان صحيحًا فلا أظنه يخفى على مولانا المقوقس والمواصلات جارية بينه وبينهم، والجواسيس منبثة في سائر الأنحاء، ويغلب على ظني أن العرب أشاعوا هذا الخبر تثبيطًا لعزائم الروم، وعلى كل حال فلا خفي إلا سيظهر.»

وبينما هم في الأحاديث إذ جاء أحد أبناء الشيخ حاملًا علبة من الخشب قدمها إلى الشيخ وفيها شيء من الخمر المصنوعة من التمر، فتناولها الشيخ وأعطى الجنديين إياها قائلًا: «إليكما قليلًا من الخمر فإنها من بقايا غلَّة نخيلنا هذا العام، وهي لذيذة.» فتناولا العلبة وشربا قليلًا وأعطيا الشيخ فشرب.

ثم قال الغلام: «إن الطعام قد حضر، فهل تتفضلون بتناوله؟» فنهض الجميع وكان الجوع قد أخذ منهم مأخذًا عظيمًا، وعادوا إلى البيت فإذا بمصطبة صغيرة قد مُدَّ عليها سماط بسيط عليه بعض الأطعمة في آنية من خشب الجميز وأقداح من الخزف وبعضها من الخشب أيضًا فيها بعض الخمر، والمصطبة مصنوعة من الخزف الملون، وقد مُدَّ فوقها سقف من جذوع النخل وسعفه، قائم على دعائم من خشب السنط.

وجعل الشيخ يعتذر لضيوفه عن تقصيره في ضيافتهم، فتناولوا ما حضر وقضوا هزيعًا من الليل في الأحاديث إلى أن جاءهم النعاس فناموا.

•••

فلنتركهم نيامًا ولنذهب بالقارئ في رفقة موكب المقوقس إلى بلبيس. أما الموكب فكان مؤلفًا من عربة المقوقس وهودج أرمانوسة، ورجال الحاشية وفيهم الراكب والراجل، وكان يحمل الهودج ستة من العبيد: أربعة من الوراء واثنان من الأمام، ووراء المركبة رجل يحمل مظلة من ريش النعام. ومركبة المقوقس يجرها فرسان من جياد الخيل عليهما السروج الفضية يقودهما سائسان في زي خاص بهما، وكلما مر الموكب بقرية أو بلدة خرج أهلها لاستقباله بالزهور والرياحين، وكانوا قد برحوا عين شمس في الفجر على أن يدركوا بلبيس مساء ذلك اليوم، فمالت الشمس نحو المغيب وقد أشرفوا على بلبيس، وهي قائمة على أرض مرتفعة قليلًا، وفي منتصفها قصر شامخ أعدُّوه لاستقبال العروس، وما دنوا من المدينة حتى خرج حاكمها وجندها ورجال حكومتها بالأزهار والموسيقى فاستقبلوا الموكب، وتقدمت جماعة من الجواري تتقدمهن نساء الحاكم بأكاليل الأزهار إلى خارج السور، فرافقته حتى اقترب من القصر فأنزلن العروس من هودجها، ودخلن الحديقة بين عزف الموسيقى وترتيل المرتلين، حتى وصلن إلى القاعة المعدة لاستقبالها، وهي مفروشة بأحسن الأثاث من الخز والديباج، ومزينة بأحسن الرسوم، ثم جاءت جواريها يعددن لها ملابسها لتغيير ثياب السفر بعد أن قدمن لها المرطبات والمنعشات، وكانت امرأة الحاكم تعد نفسها سعيدة لنزول تلك الضيفة عليها.

أما الحاكم فاستقبل المقوقس وحاشيته وأنزلهم على الرحب والسعة، وقد أووا إلى الفراش مبكرين التماسًا للراحة من وعثاء السفر، وفي الصباح أوصى المقوقس حاكم بلبيس خيرًا بابنته وودعها على أمل اللقاء قريبًا، فبكت هي لفراقه بكاء مرًّا، خوفًا من أن يكون الوداع الأخير لعلمها ما هي فيه وما أُعدَّ لها من الشقاء، وجلست بعد سفره وحيدة تفكر في حالها، وقد هاج بلبالها، وهي لا تستطيع بث شكواها لأحد وشعرت بافتقارها إلى بربارة خادمتها الأمينة إذ كانت لا تعلم بما جرى لها بعد دخولها الحصن، ولما تصورت الحصن تذكرت أمرها مع أركاديوس وقسطنطين، فاشتد عليها الحزن حتى بكت وهي تحاذر أن يراها أحد.

قضت سحابة ذلك اليوم في تلك الهواجس لا يهدأ لها بال، ولا تنفك مطلة تارة من هذه النافذة وطورًا من تلك، تنتظر مجيء بربارة، وتحسب شجر النخيل عن بُعد أشباحًا آدمية لفرط قلقها.

أما بربارة فقد باتت والجنديين في عين شمس على نية التبكير إلى بلبيس، فلما أصبحوا أعدوا المركبة وأطعموا الثورين علفًا كافيًا، ولكنهم خافوا ألا يكونوا على بينة من طريقهم، فسألوا الشيخ هل يعرف أحد أولاده الطريق؟ فقال: «إن ولدي هذا يعرفها جيدًا، وكثيرًا ما ذهب لابتياع بعض الأقمشة وبيع ما يفيض عندنا من غلة أرضنا.» ثم ناداه فحضر فقال: «عليك يا ولدي بمرافقة أصحابنا إلى بلبيس راكبًا الثور أبيس فتصل بهم إليها ثم تعود بلا إبطاء لئلَّا نقلق عليك.»

فلما سمع مرقس اسم أبيس تذكر اسم العجل الذي كان المصريون يعبدونه قديمًا فقال: «أراك دعوت ثورك باسم إله المصريين القدماء.» فضحك الشيخ ثم قال: «إنما دعوناه بذلك لحكاية غريبة اتفقت لنا وكانت سببًا لنفع عظيم.»

قال: «وما هي حكايته؟» فقال: «إن هذا الثور قوي العضل، قد عودناه المناطحة ففاق جميع الثيران، ولا يخفى عليكم أن مناطحة الثيران عادة قديمة في هذه البلاد ولكنها نادرة اليوم، أما هذا الثور فقد حافظ على تقاليد أجداده من إتقان هذا الفن، فاتفق أن بعض الناس ممن يأتوننا للمبادلة على الغلة بالكرم كان عندهم ثور مناطح، وكانوا معجبين ببطشه، فطلبوا إلينا أن نراهنهم على مناطحته ثورنا فراهناهم على بقرة نأخذها منهم إذا غلب ثورنا أو نعطيهم غلة نخيلنا هذا العام كلها إذا غلب ثورهم، فقبلنا الشروط، وتناطح الثوران، وكانت الغلبة لهذا الثور؛ إذ كسر قرن ثورهم، واستولينا على البقرة، ودعوناه من ذلك الحين «أبيس» إشارة إلى براعته في المناطحة مثل أجداده ثيران المصريين القدماء.»

فعجب الجنديان لهذه الحكاية، ثم أسرع المسافرون بالرحيل بعد أن تناولوا شيئًا من الطعام، وحملوا معهم التمر الجاف يتناولونه في أثناء الطريق إذا جاعوا؛ لئلَّا يمتنع عليهم الطعام في طريقهم، وملئوا قربتين من الماء، وساروا يتقدمهم ابن الشيخ راكبًا الثور أبيس وقد كممه لئلَّا تخطر له المناطحة في الطريق مع الثورين الآخرين، وودعوا الشيخ والقرية وساروا.

وما انفك الجندي مرقس منذ برحوا الحصن في شغل شاغل، وكان قد تمنى عند خروجه من الحصن ألا يجد المقوقس في عين شمس رغبة منه في الشخوص إلى بلبيس لحاجة في نفسه بالقرب منها، ولكنه أسرَّها ولم يخبر بها أحدًا، فلما جاءوا عين شمس وعلموا بإقلاع المقوقس سُرَّ كثيرًا، وعند ركوبهم في الصباح عزم على أن يمر بالبلدة التي له فيها ذلك الغرض دون أن يُعلم رفيقه.

فساروا سحابة يومهم، وبربارة قلقة خوفًا من تأخر الرسالة، فلما كانت الظهيرة وقفوا للاستراحة والغداء بالقرب من مزرعة لبعض الفلاحين، فيها ساقية تظللها جميزة كبيرة، ثم نهضوا وواصلوا سيرهم حتى أدركهم المساء وهم على مسافة طويلة من بلبيس، فأرادت بربارة أن يواصلوا السير حتى يصلوا إليها ولو ليلًا، فقال مرقس: «الأفضل أن نبيت الليلة في هذه البلدة ونصبح بلبيس في الغد؛ لأن الطريق لا يخلو من الخطر.» فاستحسن الرفاق رأيه وعرَّجوا على بلدة بالقرب منهم، وطلبوا مبيتًا في منزل قسيسها فرحب بهم وبخاصة لما عرف أنهم من جند المقوقس، فنزلوا عنده، وأقامت بربارة في دار النساء فبالغن في إكرامها وهن لا يعرفنها، أما صاحب أبيس فاستأذنهم في العودة لاستغنائهم عنه فأذنوا له وحمَّلوه السلام لوالده.

•••

سُرَّ مرقس كثيرًا لنجاحه في مأربه، وما كادوا يصلون إلى بيت القمص حتى ترك رفيقه هناك وسار إلى طرف البلدة الآخر، حتى بلغ منزلًا على ترعة صغيرة، وقد خيَّم الغسق، ووجد الباب مقفلًا وعليه بعض الجند، فلم يعبأ بهم بل طرق الباب طرقًا خفيفًا فناداه منادٍ من الداخل: «من الطارق؟» فأجاب: «أنا مرقس، افتحوا!» وكان ينتظر منهم أنهم حالما يسمعون صوته يتهللون فرحًا، ويبادرون إلى الباب يرحبون بالقادم، ولكنهم تباطئوا وسمع لغطًا وبكاء، ثم فُتح الباب وإذا بصاحب البيت وهو رجل شيخ يخرج وفي يده مصباح، فلما رآه مرقس سلم عليه وهمَّ بتقبيل يديه، فقبَّله الشيخ في عنقه، فشعر مرقس بدموعه تتساقط فبُغت ونظر إليه وسأله عن سبب ذلك فقال: «ادخل يا ولدي لأنبئك بما جرى.» فدخلا إلى غرفة الاستقبال وأقفلا الباب وراءهما، فإذا بامرأة جالسة حزينة، ومنديلها بيدها تمسح به دموعها، فازداد ذهوله وألحَّ في السؤال عن السبب وقال: «ما بالك يا خالة؟ ماذا جرى لكم؟ وأين هي مارية؟» فقالت المرأة وقد علا بكاؤها: «وأية مارية تعني يا ولدي؟» فأجاب وقد بغت: «أية مارية؟ أين هي مارية؟ قولي لي.» قالت وقد خنقتها العبرات: «إن مارية يا ولدي سيأخذونها بعد يومين، ولن تراها عيوننا. آه منهم.» قالت ذلك وشرقت بدموعها.

فصاح مرقس وقد ثارت فيه الحميَّة: «وإلى أين يأخذونها؟ ومن هم؟»

قالت: «سيأخذونها منا ويقدمونها ضحية للنيل يا ولداه.»

فعلم مرقس أن الاختيار قد وقع عليها في هذه السنة لتُلقى في النيل كما هي العادة عند المصريين؛ إذ كانوا يُلقون كل سنة في النيل فتاة بحُلاها استدرارًا للغيث ورغبة في الفيضان، وتحقق لديه أن حبه لها وخطبته إياها قد ذهبا أدراج الرياح، ولكن الحب غلب عليه فنادى بأعلى صوته: «إنهم لن يأخذوها، وإني لأفتديها بروحي ومالي. أريد أن أراها الآن.»

قالت: «وأين تذهب بها؟ ألم ترَ الشرطة واقفين بجوار البيت يترقبون حركاتنا وسكناتنا؟ فإذا أتينا أمرًا فإنما نجني على أنفسنا.»

فقال: «ولكن العادة ألَّا يأتوا هذا الأمر إلا برضاء أبيها، فهل رضي عمي بذلك؟»

فقطع عمه عليه الكلام قائلًا: «كيف أرضى بهذا الأمر؟ لقد حاولوا إرضائي فأبيت، فأرادوا أخذها بالعنف بدعوى أنهم ينفذون قضاء الله وأن القرعة في السنة الماضية وقعت على فتاة إسرائيلية، وفي هذه السنة وقعت على مارية.»

فصاح مرقس: «لا فاض النيل ولا ارتوت الأرض إذا لم يكن ذلك إلا بهذه الطريقة، اطمئنوا وألقوا الأمر عليَّ وأنا أنقذها. أين هي لأراها؟»

فقالت أمها: «هي في غرفتها تندب وتبكي يا ولداه وتأبى أن تكلم أحدًا أو ترى أحدًا.»

قال: «أريد أن أراها فلعلِّي أستطيع تعزيتها، وأنا أعلم أني قادر على إنقاذها.» وكان قد تذكر بربارة، وأنها مقربة إلى المقوقس، فبدا له أن يستنجدها، فتذكر أمر مارية للمقوقس أو ابنته فيصدر الأمر باستبدال أخرى بها، فقال: «أروني إياها ولا تيأسوا من رحمة الله.»

فأمسكته امرأة عمه وقادته إلى غرفتها وهي ترعش كيدًا وحزنًا، ولما سمعت الفتاة وقع أقدامها نادت بصوت ضعيف كالأنين من فرط ما ناحت وبكت وقالت: «آه أنقذوني من مخالب الموت، أو أروني مرقس قبل مماتي.» ثم خنقتها العبرات فأجابها مرقس قائلًا: «لا تخافي يا مارية ها أنا ذا قد جئتك، جاءك الفرج من عند الله.»

فلما سمعت صوته نهضت مسرعة لساعتها، وارتمت على قدميه قائلة: «آه إن مارية لم يبقَ لها في هذه الحياة إلا يوم وليلة، فأشفق على ضعفي وأنقذني إذا كان ثَمَّ أمل في الحياة. يا أبتاه ويا أماه، انتشلاني من مخالب الموت، أشفقا على صباي. آه من الحياة، ما أحلاها وما أمرَّها!»

فلم يتمالك مرقس نفسه عند سماع كلامها عن البكاء، ثم تجلَّد وأخذ بيدها، فإذا هي باردة كالثلج، وكانت الفتاة قد أُغمي عليها فرشُّوها بالماء حتى أفاقت فأجلسوها، وعينا مرقس لا تفارقانها وقلبه يكاد ينفطر، ثم نظر إليها وقال: «لا تخافي يا مارية، فإني قد دبرت وسيلة لإنقاذك، وأنا واثق بأن الله لا يحرمني من قربك.»

فلما سمعت الفتاة كلامه عادت إليها قواها وتجلَّدت، وجلست وهي تنظر إليه بعينين مملوءتين بالدمع، وقد ذبلت جفونهما وتكسرت أهدابهما، وامتقع لون وجهها، ولكن الجمال بقي متجليًا فيه، فازداد هيام مرقس بها حتى هان عليه الموت في سبيل إنقاذها، ثم رأى الوقت يكاد ينفد، ولم يبقَ لميعاد أخذها إلا يوم وبضع ساعات، فوقف ونظر إلى الفتاة وقال: «قلت لا تخافي يا مارية، فإن الذي أنقذ يوسف من البئر ودانيال من جب الأسود، قادر على أن ينقذك من مخالب الموت، وها أنا ذا ذاهب لأنظر في الأمر وأرجع إليكم في الغد إن شاء الله.»

قال ذلك وهمَّ بالخروج فأمسكت الفتاة بثوبه وقالت: «لا، لا تذهب؛ لأني لا أرى حيلة تستطيعها لإنقاذي، وقد قدر الله أن أذهب فريسة العادات والطقوس، فدعني أتمتع برؤيتك هذه الساعات القليلة.»

فازداد هيام مرقس، وثارت المروءة في صدره، واستسهل كل صعب وقال: «تشجعي يا عزيزتي وخففي عنك، فقد قلت لك إني قادر على إنقاذك إذا ذهبت الساعة، أما إذا بقيت هنا فالوقت يذهب وتضيع الفرصة من يدنا، فأستودعك الله إلى الغد؛ لأن الميعاد الذي ضربوه لك لا ينتهي قبل صباح بعد غد، وأنا أعود إليكم في ظهيرة الغد.»

وخرج فأحست مارية أن قلبها يتبعه، وأما أبوها فرافقه إلى الباب وقال له: «احذر يا ولداه أن يشعر الحرس بما أنت عازم عليه فيشددوا النكير علينا، فإذا كان لنا بقية أمل في النجاة قطعوها.» قال ذلك وتنهد، ولحقته امرأة عمه وهي تقبِّله وتقول: «اذهب يا ولدي في حراسة الله، وهو يكون معك ويبارك عملك.» فودعهما وخرج لا يكاد يرى طريقه لفرط ما ألمَّ به، وسار قاصدًا بيت قسيس البلدة على أمل أن يكلم بربارة تلك الليلة ويتضرع إليها أن تخاطب سيدتها أرمانوسة في الأمر، وهذه تسأل أباها أن يفرج عن الفتاة إما بالعفو، وإما بالاستبدال.

وبينما هو في طريقه رأى الحرس وقوفًا بالسلاح، وكان لم يعرهم التفاتًا حين مجيئه، وأما الآن فكان يرتاب في كل أحد؛ لفرط ما انتابه من الجزع، ولم يبلغ بيت القسيس إلا بعد العشاء، ولم يكن قد ذاق طعامًا، فطرق الباب فإذا القسيس قد أعدَّ طعامًا لضيوفه واستبطأ مرقس، فلما رآه عائدًا رحب به واستقبله وقال: «لقد أبطأت علينا يا ولدي، وها نحن في انتظارك على المائدة.» فشكر له ودخل، وأمارات الكدر والكآبة تلوح في وجهه وهو يحاول إخفاءها، فلحظ القسيس فيه ذلك فسأله عن سبب كدره فغالطه ودخل معه إلى المائدة، وكان رفيقه جرجس في انتظاره، وقد قلق لغيابه، فسلم عليه وسأله عن سبب غيابه، فذكر أنه ذهب لزيارة بعض أقاربه وعاد.

وأما مرقس لم يكن يستطيع الأكل، وأراد أن يكلم بربارة، فعلم أنها مع زوجة القسيس في الغرفة الأخرى تتناولان العشاء، ولا يستطيع مقابلتها إلا في الصباح، فصبر على مضض وجلس إلى المائدة، وتظاهر بأنه يؤاكلهم ولكنه كان مشغول البال لا يفوه بكلمة حتى كلمه القسيس سائلًا: «هل عرفت على من وقعت القرعة هذه السنة لتكون ضحية النيل؟»

فخفق قلب مرقس وارتعدت فرائصه عند سماع كلمة ضحية النيل، ولكنه تجلد وقال: «لا يا سيدي لم أعلم.» وغلب عليه الكدر حتى غصَّ بالطعام، ولكنه أراد سماع تتمة الحديث فقال: «ولكنك لم تقل لي على من وقعت؟»

قال القسيس: «وقعت على مارية بنت المعلم اسطفانوس العسال، وهي فتاة على جانب عظيم من التهذيب والتقوى والجمال، وقد جاء والدها إليَّ بالأمس وطلب أن أعاونه على إنقاذها فتفطَّر قلبي لما شاهدته من لهفته على ابنته، ولكن أنَّى لي أن أعينه؟!»

فقال مرقس وهو يحاول التجلد وتكاد عواطفه تقتله: «ولكن ما هذه العادة القبيحة؟! وهل تظن أن النيل يعقل حتى يكون لهذه الضحية تأثير في مجراه؟!»

قال: «لا يا ولدي، إنها من العادات الوثنية التي تنفر منها أذواقنا ويأباها الطبع ولا تسلم بها الديانة، بل تنهى عنها؛ لأنها قتل للنفس.»

فقال جرجس: «وا أسفاه على هذه الفتاة، كيف تكون حالها الليلة؟ وكيف يأتيها الرقاد؟ بل كيف حال أبويها، وماذا يصيبهما إذا نفذ الأمر! فإنها وحيدتهما»

فقال القسيس: «وإني لأعجب أيضًا كيف يحكمون باختيارها، وينفذون الحكم فيها بغير رضاء أبيها، والعادة أنهم إذا اختاروا فتاة أرضوا أباها بمال أو شيء آخر حتى يسمح لهم بابنته، وأنا أعلم يقينًا أن المعلم اسطفانوس لا يرضى ببيع ابنته، فإن ذلك عارًا مبينًا.»

فقال جرجس: «أي شيء يجري بيننا يا سيدي على سنة العدل، ونحن نقاسي كل يوم من الأمور ما تنهى عنه الديانة والطبيعة؟!»

فقال القسيس: «قلت لكم إني أعجب للحكم عليها بدون إرضاء والدها، ولكنني أعترف لكم بأمر عرفته سرًّا وهو الذي جر عليها هذا الحكم، فهل تعدونني بكتمانه إذا أخبرتكم به؟»

فتوسم مرقس بابًا للخير، وكان غارقًا في بحار الهواجس، فقال: «نعم نكتمه.»

فقال القسيس: «علمت أن شيخ البلدة طلب هذه الفتاة زوجة لابنه، فرفض أبوها، فحقد عليها ووشى بها إلى حاكم بلبيس وحمله على قتلها على هذه الصورة.»

فقال جرجس: «ولماذا لا يرضى أبوها بابن الشيخ، وهو خير أهل هذه القرية؟»

قال القسيس: «سمعت أن هذه الفتاة عالقة القلب بفتًى تحبه هي ويحبه أبوها كثيرًا، وقد عقد النية على تزويجها به، وهما يعلمان الآن أن سبب هذا الشر رفضهما ابن الشيخ، وقد سمعت الرواية ولا أضمن صحتها.»

فلما سمع مرقس هذا الكلام اقشعرَّ جسمه وهبَّت الغيرة فيه، وخنقته العبرات، فأمسك عن الطعام متظاهرًا بانحراف صحته، ونهض عن المائدة ملتمسًا قضاء حاجة له في حديقة البيت، فلم يعترضه أحد، فخرج حتى خلا إلى نفسه، فمسح دموعه واحتار في أمره هل يُطلع القسيس على حقيقة شأنه، أو يبقيه سرًّا مكتومًا، ولكنه تجلَّد وعاد يريد سماع تتمة الحديث إلى آخره، فإذا رأى فائدة من الكلام تكلم.

فلما دخل الغرفة عاد القسيس إلى كلامه فقال: «ومن الغريب أن هذه المسألة لم تجرِ العادة بالقطع بها إلا بعد البحث والتدقيق وموافقة مولانا المقوقس عليها، ولكنني عرفت أنه لم يعلم بها هذه المرة، ولعل ذلك ناتج عن انهماكه في أمر ابنته وزواجها وبالأخبار التي تواترت عن قدوم العرب على ما بلغنا، ولذلك فهو لن يحضر الاحتفال بضحية النيل هذا العام، ولن يحضره الأعيرج ولا رجاله؛ لأنهم في شغل شاغل كما قدمنا، ولكن شيخ هذه البلدة سيذهب هو وبعض رجاله، وهي فرصة انتهزها لانهماك المقوقس، ونراه مسرعًا في تنفيذها خوفًا من فواتها.»

ثم أظهر القسيس الملل من هذا الحديث وأراد تحويله فقال: «هل سمعتم شيئًا عن العرب؟»

فقال جرجس: «أما العرب فقد تحققنا قدومهم لحربنا، ونرى جنودنا في استعداد لملاقاتهم، ولكنهم لم يبلغوا الحدود بعد، وقد أرسل مولانا المقوقس جانبًا من الحامية إلى الحدود، وأقام جانبًا آخر في حصن بابل ليدفع بهم الأعداء عن مدينة منف.»

فتبسم القسيس متهكمًا ولم يُجب، فقال له جرجس: «وما الذي أوجب تبسمك أيها الأب المحترم؟»

قال: «أبتسم لقولك أن المقوقس يعدُّ رجاله لدفع العرب، والظاهر أنكم على كونكم من رجاله لا تعرفون حقيقة مقصده!»

فتجاهل جرجس خفة أن يكون في مجاهرته ضرر عليه لأنه من الجند، فقال: «وما الذي يُعلمنا؟ وهل لمثلنا أن يعلم بمقاصد رئيسه السِّرِّيَّة؟ نحن نعلم أننا نتهيأ للدفاع عن بلادنا ومحاربة العرب إذا جاءونا، هذا ما يظهر لنا من غرضه.»

فقال القسيس: «أما مقاصده الحقيقية يا أولادي فهي أن يُسلم هذه البلاد لأي فاتحٍ كان تخلُّصًا من جور الروم وسوء معاملتهم لنا معاشر الأقباط.» فبالغ جرجس في التجاهل لكي يتحقق ما سمعه فقال: «ربما كان قولك مبنيًّا على الحدس؛ لأن الظواهر الحالية تنفي هذا القول، فإن المندقور الأعيرج بعدَّته ورجاله الروم ورجالنا الوطنيين قد تحصَّنوا جميعًا في حصن بابل، فكيف تكون مقاصده كما تقول؟»

فهز القسيس رأسه مستهزئًا وقال: «يظهر يا ولدي أنك لم تختبر الدنيا، أتحسب هذه الظواهر دليلًا على حب المقوقس الدفاع؟ ألا تعلم أنه إنما يفعل ذلك خوفًا من الأعيرج قائد الحامية الرومانية؟ وقد قلت لي في أثناء حديثك أن جنود الرومان في الحصن مع الوطنيين، وهل من الوطنيين جند في مصر؟!»

قال: «أريد حاشية مولانا المقوقس.»

قال: «أما حاشية المقوقس فشرذمة لا يُعتدُّ بها، إنما العمدة على الجند الرومان، فهم حامية البلاد، فإذا علموا بسريرة المقوقس قتلوه لا محالة، وأنا أخبرك اليقين وأؤيد قولي بالبرهان، ولكنني أطلب منكم حفظ ذلك سرًّا.» ثم خفت صوته وتطاول بعنقه نحوهما وقال: «إن المقوقس جمعنا نحن القسس الأقباط في اجتماع سرِّيٍّ لم يعلم به أحد، وأطلعنا على مقاصده الحقيقية وأوصانا بالكتمان، ودربنا على الطريقة التي نتصرف بها عند الاقتضاء، فما رأيك بعد ذلك؟» فقال جرجس: «أما وقد قلت هذا فأنت أعلم بالحقيقة.»

وكان مرقس في أثناء تلك المحادثة غارقًا في بحار الهواجس، وأفكاره مشتغلة بأمر حبيبته ووالديها والطريقة المثلى لإنقاذها من هذا الشَّرَك، فأدرك القسيس ارتباكه فقال له: «مالي أراك صامتًا يا ولدي؟» فقال وقد أفاق من هواجسه: «إني أفكر في تلك الفتاة وما وقع عليها من الظلم، وأراني شديد الميل لنصرتها، وأعلم أني إذا فعلت ذلك أنقذت نفسًا من القتل.»

قال: «نعم يا ولدي وحبذا لو كان ذلك بيدي فلا أتوقف لحظة عن إغاثتها، ولكنني إذا أظهرت هذا الميل وقعت في شرٍّ مثل شرها؛ لأن حاكمنا ينتمي إلى الروم، وهم يصغون إلى ما يقوله ويعملون برأيه، وزد على ذلك أن الوقت قد فات، ولا وسيلة لإنقاذ الفتاة إلا بأمر من المقوقس نفسه وتصديق الأعيرج عليه، أما المقوقس فبعيد منا الآن؛ لأنه كان في بلبيس، ورأيناه عائدًا منها في هذا المساء جنوبًا، وأظنه يريد منف ولا حيلة في الأمر.»

فعظمت المصيبة على مرقس، ثم تذكر بربارة ودالَّتها على أرمانوسة، فأمل أن ينال بغيته على يدها، وتمنى لو استطاع أن يكلمها في تلك الساعة، ولكنه خاف مغبة الأمر فأعمل فكره، ثم قال للقسيس: «هل تسمح لي بكلمة على انفراد؟» فقال: «تعالَ يا ولدي.» فخلا به وقص عليه الخبر كما وقع، وأخبره أنه هو خطيب الفتاة، وأنه تعهد بإنقاذها من مخالب الموت، وأن الموت أهون عليه من التقاعد عن ذلك، ثم أنبأه بأمر بربارة وأنها خادمة أرمانوسة الخاصة، ولعلها تتوسط له عند سيدتها.

فقال القسيس: «ولكنني لا أرى أن في استطاعة أرمانوسة أن تعينك، فحاكم هذه البلدة ينتمي إلى الروم ولا يصدع إلا بأمرهم، ولا سيما أن له مأربًا في قتل الفتاة، ولكني سأدعو لك بربارة لعلها تعرف وسيلة أخرى.» ثم بعث إليها فحضرت، فقص مرقس حكايته من أولها إلى آخرها، وتوسل إليها أن تبذل جهدها في الغد لإنقاذ الفتاة.

فقالت بربارة: «إني أشارككما في الشفقة عليها، وسأبذل ما في وسعي لإنقاذها، والاتكال على الله، أما سيدتي أرمانوسة فإنها تعمل بكل ما أقوله لها، فإذا كان الأمر في يدها فثقوا أن الفتاة ناجية بإذن الله، وإلا فالأمر له يفعل ما يشاء.» ثم فكرت قليلًا كأنها تذكرت بابًا للفرج فقالت: «إني أضمن إنقاذها، إننا سنكون في بلبيس صباح الغد، وهم لن يأخذوا الفتاة إلى النهر إلا بعد غد، وسأجتمع بمولاتي قبل ذلك فتدبر الأمر.»

ولما انتهوا من حديثهم ذهب كل إلى منامه. أما مرقس فلم يغمض له جفن تلك الليلة، فبات تتقاذفه الهواجس بين اليأس والأمل والخوف والرجاء، وبكر في الصباح إلى بربارة فأعد المركبة هو ورفيقه وودعوا القسيس وساروا قاصدين بلبيس.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤