الفصل الخامس

الاحتفال بضحية النيل١

كان حاكم تلك البلدة قد همَّ بقتل مارية انتقامًا منها، فاتخذ أمر ضحية النيل ذريعة لتنفيذ مآربه وسعى جهده لدى حاكم بلبيس حتى أذن له بالنيابة عن المقوقس أن تُلقى الفتاة في النيل بعد غد ذلك اليوم، وجعل الحرس حول منزلها حرصًا على تنفيذ مأربه، لعلمه أنهم إذا تمكنوا من الوصول إلى المقوقس عرقلوا مساعيه.

وكان الحراس يقضون الليل ساهرين فلما جاء مرقس ودخل المنزل جعلوا يتجسسون ويتسمَّعون لما يدور من الحديث فسمعوا توعُّده وعزمه على إنقاذها، فلما خرج من البيت ذهب بعضهم إلى الحاكم وأخبره بما سمع، فخاف أن تذهب مساعيه عبثًا إذا أبطأ، فبكر في الصباح التالي وبعث إلى أهل الفتاة أن يعدوا عدتهم لأخذها إلى النيل في ذلك اليوم؛ زاعمًا أن دواعي خاصة ألجأته إلى الإسراع، وأمر بعض النساء المعدَّات لمثل ذلك الاحتفال أن يذهبن إلى الفتاة فيُلبسنها أفخر اللباس، ويجعلن عليها أحسن ما لديها من الحلي والمجوهرات، ويهيِّئنها كما هي العادة مع ضحية النيل، وبعث إلى قسس تلك البلدة أن يسيروا معها بالملابس الرسمية.

على أن العادة كانت أن يحضر هذا الاحتفال البطاركة والأساقفة والخدم والأعيان والوجهاء، ولكنه أراد الإسراع في الأمر لئلَّا تفشل مكيدته، وبعث إلى صاحب القارب المعدِّ لحمل الضحية أن يكون على أهبة الرحيل، وكان قد أحضر قاربه بقرب تلك القرية إلى ترعة متصلة بالنيل، ثم زينوا القارب بأحسن أنواع الزينة كالأعلام والصور الملونة، وعلقوا فيه أكاليل الأزهار والرياحين، وجاءوا إلى جوار بيت الفتاة، وفيه الحرس والجند بسلاحهم من الرماح والنبال والسيوف.

ولا تسلْ عما حلَّ بأهل الفتاة عندما جاءتهم النساء ليُلبسنها الثياب الفاخرة، فإنهم وقعوا في وهدة اليأس، ولم يعد لديهم باب يتوقعون منه فرجًا، ومما زاد في مصيبتهم أنهم لم يكونوا يستطيعون البكاء ولا الندب؛ لئلَّا يقال إنهم استكثروا الهدية على النيل فيغضب ويمسك عنهم ماءه.

دخلت النساء وألبسن الفتاة أحسن رداء عندها من الحرير الأحمر النقي، وجعلن على رأسها وكتفها إكليلًا من الأزهار تتدلى منه فروع على ذراعيها، وعلقن على رأسها وصدرها كل ما كان عندها من الحلي الثمينة، وغللن يديها ورجليها بسلاسل من الحديد علقن فيها أشياء ثمينة، وجللنها بإزار من النسيج الأبيض الرقيق غطاها من رأسها إلى قدميها، وأنزلنها إلى القارب، ونزل معها القسس بالملابس الرسمية يصلُّون وينشدون، ونشروا الشراع، فمضى القارب جنوبًا قاصدًا رأس الدلتا عند التقاء فرعي النيل، وقد غادروا أبويها في حالة يرثى لها، على أنهما لم يستطيعا البكاء إلا بعد أن مضى القارب وأمنا سماع نحيبهما.

أما القارب فسار يخترق عباب الماء، وقد علقوا على صدر الفتاة صكًّا ادَّعوا أنه صك الرضاء من والدها، ومعه الأمر الصادر بوقوع الاختيار عليها أن تكون غنيمة باردة لماء النيل، ولما وصلوا في الماء إلى ضفة النيل رسا القارب عند رصيف مبني من حجارة ضخمة عليه نقوش هيروغليفية، فأنزلوا الفتاة إلى البر، وقد نصبوا خيامًا لمبيتهم على نية التبكير في الصباح التالي لتقديم ضحيتهم.

وكانت مارية في أثناء ذلك بين الذهول والدهشة، فلما أنزلوها إلى البر قدم لها بعضهم طعامًا فأبته، وكانت لفرط ما بها كلما رأت شبحًا ظنته مرقس قادمًا لإنقاذها، وباتت تلك الليلة والناس يتأهبون للاحتفال بتضحيتها.

وكان ابن الحاكم لا يفتر لحظة عن التشفِّي منها، فأوسعها لكزًا بمباخرهم وصلواتهم يتوسلون إلى الله أن تكون ضحيتهم مقبولة لدى النيل، وكان في نية الحاكم أن يلقيها بغير احتفال ولا صلاة، فدار وفي الليل أتى إليها وتهددها قائلًا: «أين مرقس الآن؟ ها أنت ذي في قبضة يدي، وغدًا تذهبين ضحية النيل.» فصمتت ولم تجبه.

وفي الصباح التالي بكروا وحملوها وأوقفوها على حافة الرصيف، وعلقوا بأغلال قدميها ثقلًا من حديد للإسراع في إغراقها، ووقف القسس حولها دورة يصلون وينشدون ويبخرون، ثم داروا الدورة الثانية، وقد أحاط الجند والحرس بالناس وكانوا قد تقاطروا ألوفًا، والحاكم يستحث القسس على إتمام الصلاة، حتى إذا كانوا في الدورة الثالثة سمعوا صوت نفير عسكري يأمر بوقف الاحتفال، فالتفت الحاكم وإذا بمركبة مسرعة عليها جنديان يحملان علمًا عليه صورة المقوقس وكتابة يونانية وقبطية، فاخترقت المركبة صفوف الجماهير التي كانت تفسح لها الطريق حتى دنت من الحرس، فنزل أحد الجنديين بأسرع من البرق، وأخرج رقًّا من البرديِّ من صندوق صغير من خشب الصندل ودفعه إلى الحاكم. أما الجميع فلما شاهدوا المركبة بُهتوا وتطاولت أعناقهم ليروا ما جاء به الرجلان. أما الحاكم فتناول الكتاب وفضَّه ونظر إلى التوقيع فإذا هو خاتم أركاديوس ابن الأعيرج فبُغت وعلا وجهه الاصفرار، وجعل يقرأ الكتاب ويداه ترتعشان، فرآه مكتوبًا باللغة اللاتينية وهاك ترجمته:

من أركاديوس بن المندقور الأعيرج، إلى حاكم بلدة …

آمرك باسم والدي المندقور قائد جند الروم بمصر، أن تكف عن الاحتفال الذي أقمته لضحية النيل فور وصول هذا الكتاب إليك، وعليك أن تحل عقال الفتاة وترجع بها إلى بيت أبيها ريثما يصدر إليك أمر آخر، وإن أبطأت في تنفيذ أمرنا وقعت تحت طائلة العقاب، وقد أمرت حامل كتابي هذا، وهو من خاصتي، أن يراقب عملك وينبئني بما تعمل.

«كتبه أركاديوس بن الأعيرج، في حصن بابل سنة … لحكم الإمبراطور هرقل.»

فلما قرأ الحاكم الكتاب أصبح الضياء في عينيه ظلامًا، وأخذ يتأمل الخاتم ويكرر تلاوته، فلم يرَ مندوحة عن العمل به خوف العقاب، فأمر بحل عقال الفتاة والرجوع بها وبمن معه إلى بلدته كاسف البال وقد أُسقط في يده.

أما مارية فلما أخذوا يحلُّون قيودها ظنتهم يريدون إلقاءها في النيل وأن الساعة قد دنت، فجعلت تتوسل إليهم أن يتمهلوا، فأخبروها أنهم يحلون القيود للرجوع بها إلى بيت أبيها فلم تصدق وحملت ذلك منهم على محمل الخداع، فازدادت في البكاء، ولم تتحقق الأمر إلا لما رفعوا عنها الأزهار، فالتفتت إلى الجمع فرأت حبيبها مرقس بالقرب منها ينظر إليها والمركبة إلى جانبه وعليها علم المقوقس، فرجع صوابها إليها، وأيقنت بالنجاة، وهدأ روعها، فأنزلوها إلى القارب ونزلوا جميعًا ومرقس واقف إزاء المركبة ينظر إلى مارية مبتسمًا وعيناه تدمعان من الفرح، وهي تنظر إليه وتود أن يرافقها بالقارب، ولكنها أدركت أنها ستلاقيه في بيت أبيها.

وركب مرقس المركبة مع رفيقه جرجس وعاد توًّا إلى بلدة مارية، وأخبر والديها وأهل منزلها بما كان فطاروا من الفرح، وشكروا الله على ذلك، وخرجوا لملاقاتها على مسافة غير بعيدة من البلد، ولا تسل عن ساعة اللقاء ما كان أحلاها، وكم بكى الجميع بدموع الفرح.

أما الحاكم وابنه فقد ظلَّا حاقدين ومؤملين تنفيذ مأربهما في فرصة أخرى، على أن الحاكم كان عالمًا بأنه تجاوز حدَّه فأصبح خائفًا.

ولما نزلت الفتاة في بيتها أخذت تبحث عن طريقة نجاتها وعيناها لا تتحولان عن الباب في انتظار قدوم خطيبها لتشكره على مساعيه، وهي تستغرب حدوث ذلك منه، وتعجب بشهامته، وكان قد خرج في حاجة وما لبث أن عاد والتقى بمارية وجلسا يتشاكيان الغرام.

١  إن القول بضحية النيل عند المصريين لم يثبت، وإنما جئنا به هنا للإشارة إلى ما يقال من هذا القبيل وفيه لذة وتسلية، أما رأينا فتجده مفصلًا في الجزء الرابع والعشرين من السنة الثالثة من الهلال الصادر في ١٥ أغسطس سنه ١٨٩٥.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤