الفصل السادس

أرمانوسة في بلبيس

تركنا أرمانوسة في قصر حاكم بلبيس على مثل الجمر في انتظار بربارة لتعلم ما جرى أو ما كان من أمر حبيبها، وكانت جالسة إلى النافذة تفكر في حالها وما هي فيه من الخطر بين أن تذهب ضحية عواطفها أو تسلم نفسها إلى من لا تحبه، فأخذت تتلهى بما يقع عليه نظرها من بلبيس وضواحيها، فرأت القصر الذي فيه أرفع مكان في المدينة، ورأت الناس يتزاحمون في بعض الأسواق. والجند يهتمون في بناء الأسوار أو ترميمها، وشاهدت على الأسوار أبراجًا عليها الأعلام الرومانية، ووراء الأسوار سهول بعضها رملي وبعضها غياض فيها الأغراس من النخيل والكرم، تتخللها أبنية قديمة أكثرها قد تداعى إلى الخراب فهجرها الناس.

وبينما هي في ذلك، وقد خيَّم الغسق، جاءتها إحدى الجواري فوقفت بين يديها فقالت: «ما وراءك؟» قالت: «امرأة الحاكم تسأل عن حضرتك وتريد المثول بين يديك.» فتكدرت أرمانوسة من تلك الزيارة لرغبتها إذ ذاك في الخلوة لتفكر في حالها، ولكنها رأت أن تأذن لها لئلَّا تستنكر أمرها أو تحسب ذلك خشونة منها، فقالت: «لتدخل.» فدخلت وقد تزينت بأحسن ما لديها من اللباس احتفاء بنزيلتها، وكان لباسها رومانيًّا مع أنها غير رومانية ولا مصرية، ولكنها من عائلة فارسية قديمة قد شاركت المصريين في معتقدهم وعاداتهم، وهي تناهز الأربعين من العمر، فوقفت لها أرمانوسة ورحبت بها وأجلستها إلى جانبها وأخذت تبش لها وتحادثها، فقالت المرأة: «لقد نزلت أهلًا ووطئت سهلًا، ونحن نعدُّ أنفسنا سعداء بنزولك بيننا، ونطلب إليه تعالى أن يتمم أسباب سعادتك باقترانك بابن إمبراطورنا المفخم.» قالت ذلك وهي تظن أنها تسرها به، فاضطربت أرمانوسة عند سماعها أمر الاقتران، فتجلَّدت وأظهرت ارتياحها لذلك التلطف بغير أن تجيبها حياء، ولكنها غيرت الحديث قائلة: «إني أعد نفسي سعيدة أيتها السيدة الفاضلة.»

فقالت المرأة: «وأرجو أن تكوني مسرورة من إقامتك في بلبيس، وأن تتمتعي بما تريدينه، وتأمرينا بكل ما ترتاحين إليه، فإننا أوقفنا أنفسنا لخدمتك.»

قالت أرمانوسة: «أشكرك جزيلًا فقد استأنست بك كثيرًا، وأشعر بارتياح كبير إلى لطيف حديثك.»

فقالت المرأة: «وإن أكن يا سيدتي فارسية الأصل فإني أعدُّ نفسي وطنية؛ إذ قد ولدت في هذه البلاد ورُبِّيت فيها، وآنست من أهلها رقَّة ودعة تنسي الغريب بلاده، وبخاصة ما نلاقيه من مولانا والدك من الأنس واللطف والاهتمام بشئوننا، وقد سمعت زوجي يقول إنه مسرور سرورًا عظيمًا لاختيارك بلبيس موطئًا لقدميك، فإنه يزداد فخرًا بقدوم مولانا قسطنطين إمبراطور الرومان إليها، وهذا شرف قلَّما تحصل عليه مدينة، فنطلب إليه تعالى أن يعجِّل بمجيئه لنفرح بك ونراك عروسًا لابن الإمبراطور.»

فوقعت هذه الكلمات في أذني أرمانوسة وقع الصاعقة حتى كادت الدموع تتناثر من عينيها لعظم تأثرها، فحولت وجهها إلى النافذة ولم تبدِ جوابًا، فحملت المرأة ذلك منها على الحياء من التكلم في أمر الزواج، وأرادت أن تبالغ في ملاطفتها فقالت: «يظهر أنك غير مرتاحة أيتها السيدة إلى حديث العجائز، فهل أدعو لك ابنتي قسطنطينية لتجالسك؛ فإنها فتاة في سنك ترتاحين إلى حديثها، ولا سيما أن اسمها يشابه اسم خطيبك؟»

فازدادت أرمانوسة كدرًا لتلك الملاطفة وودت أن ترفض ذلك الاقتراح، ولكنها لم تستطع إلا إظهار الارتياح، فصفقت المرأة وإذا بجارية حبشية قد حضرت، فأمرتها باستدعاء السيدة قسطنطينية، فجاءت تجر ذيل ثوبها الأرجواني، وكانت قد خاطته خصيصًا لتلبسه يوم مقابلة أرمانوسة عندما سمعت بقدومها إلى بلبيس، وجعلت عليها كل حليَّها، فحيتها أرمانوسة وبشَّت في وجهها وأظهرت الائتناس بحضورها، فجلست الفتاة متأدبة تعدُّ نفسها سعيدة بالمثول بين يدي ابنة المقوقس، وكانت قد سمعت بجمالها وتعقلها، وأخذت تتأملها وتنظر إلى ملابسها وحليِّها، وكانت تسمع بحسن زي أهل منف ولا سيما ابنة حاكم البلاد.

أما أرمانوسة فحالما رأت الفتاة وتذكرت أن اسمها مثل اسم من تكرهه نفر قلبها منها، وتشاءمت من رؤيتها، وندمت على قبولها دخولها عليها، ولكنها تجلَّدت وأخذت تحادثها وتلاطفها، وأفكارها مشغولة بأمر بربارة وأركاديوس، ثم بدأت قسطنطينية حديثها وقد وجهته إلى والدتها قائلة: «هل سمعت يا أماه على من يقع الاختيار هذه السنة لتكون ضحية النيل؟»

قالت أمها: «سمعتهم يتحدثون في ذلك، وقد فهمت من أبيك أنهم اختاروا المعلم اسطفانوس من قرية … وقد قُضي الأمر على عجل بغير استعداد.»

فقالت أرمانوسة: «وما هذه العادة القبيحة التي جرينا عليها في هذه البلاد؟! هل يحسبون النيل ذا عقل يغضب ويرضى حتى يقتلوا بنات الناس من أجله؟! إني لم أنفك أكلم أبي في أمر هذه العادة وحثِّه على إبطالها، وهو يعتذر بأنها عادة متمكنة من أهل هذه البلاد فلا يستطيع نزعها، على أني حينما أتصور ذلك العمل الفظيع يقشعرُّ بدني.»

قالت الفتاة: «الحقيقة يا سيدتي أنه عمل فظيع وبخاصة لأن هذه الفتاة مخطوبة وكانت تتأهب للاقتران، فكيف يكون حال خطيبها إذا علم بأمرها؟»

فلما سمعت أرمانوسة ذلك انفطر قلبها على تلك الضحية، وودت لو تستطيع إنقاذها من ذلك المهلك، ولكنها عادت إلى هواجسها، وأرادت قطع الحديث لتخلو إلى نفسها وتفكر في حبيبها على انفراد، فقضت برهة في مثل تلك الأحاديث حتى آن وقت الرقاد، فذهبوا بها إلى غرفة أعدوا لها فيها سريرًا مجلَّلًا بالأغطية الثمينة، فأوت إليه وهي تخاف ألا تستطيع رقادًا تلك الليلة؛ لفرط ما بها من القلق وما يتقاذفها من الهواجس، ولكن تعب الطريق سهَّل عليها النوم فنامت حتى الصباح، ولم تُفِق إلا على صوت أهل القصر وهم يرحبون ببربارة، فنهضت من فراشها مذعورة وأخذ قلبها يخفق مسرعًا شوقًا إلى معرفة ما تم من أمر أركاديوس، ثم سمعت قارعًا يقرع الباب فأذنت، فإذا ببربارة تدخل عليها وهي لا تزال بثياب السفر، فقالت لها أرمانوسة: «أغلقي الباب وراءك وتعالي.» فأغلقت الباب وأخذت تُقبِّل سيدتها والدموع تسيل من عينيها، وبشائر الخير على وجهها.

فقالت أرمانوسة: «أخبريني يا بربارة عما فعلتِه فإني قد قلقت لغيابك.»

قالت: «لا تقلقي يا مولاتي فإني جئت بالأخبار الطيبة، وأبشري بنجاتك ونيل مرامك، فإن البطل أركاديوس حبيبك أمين في حبك ثابت على ودك لا يستصعب أمرًا في سبيل قربك.»

قالت: «اصدقيني الخبر يا بربارة، واشرحي الحكاية كما هي.» فمدت بربارة يدها إلى جيبها وأخرجت الخاتم وقالت: «خذي هذه الأمانة أولًا.»

فتناولته أرمانوسة، ولما قرأت اسم أركاديوس عليه جعلت تقبِّله وهي تقول: «اعذريني يا بربارة إذا استسلمت إلى عواطفي، وهذا خاتم حبيبي فكيف لا أقبِّله؟! ولكن كيف سلَّمه إليك وهو خاتم لا غنى له عنه في أعماله؟»

قالت: «دفعه إليَّ على عجل، ولم يفكر في العاقبة، وقد أراد أن تتخذيه دليلًا على ثقته فيك.» وقصت عليها الحكاية من أولها إلى آخرها، وأرمانوسة مصغية كل الإصغاء حتى نهاية الحديث، فسُرَّت لثبات حبيبها وعزمه على التفاني في سبيل إنقاذها وقالت: «أشكرك يا بربارة على هذه الخدمة فإنها ثمينة لديَّ وسأكافئك عليها أحسن مكافأة.»

فقالت بربارة: «هل تشعرين بأني عملت عملًا يستحق رضاك؟»

قالت: «كيف لا وقد غمرتني بفضلك؟»

قالت: «إذا كنت تشعرين بذلك وتحبينني فأرجو أن تساعديني في إنقاذ فتاة النيل، مسكينة!»

قالت: «ومن تعنين بفتاة النيل؟»

قالت: «أعني الفتاة التي سيُلقونها في النيل غدًا ظلمًا وعدوانًا، وحكايتها تشبه حكايتك على ما سمعت.»

قالت: «كنا في حديثها أمس، ولكن كيف تشبه حكايتي؟»

فحكت لها كل مل سمعته عن حال مرقس، وأخذت تُطنب في شهامته وتبالغ في شرح ظلم الفتاة إلى أن قالت: «فإذا أنقذتها من يد هذا الظالم ينقذك الله من مصيبتك.»

فقالت: «وكيف العمل يا بربارة هل أكتب إلى أبي ليأمر بإنقاذها؟»

قالت: «إن الوقت لا يساعدنا على ذلك لأنهم سيحتفلون بإخراجها غدًا صباحًا، وسيدي أبوك قد سافر إلى منف على ما علمت فلا نستطيع الوصول إليه والرجوع بأمره قبل فوات الفرصة، وزيدي على ذلك أن الحاكم روماني، وقد لا يكتفي بأمر والدك وحده بل يطلب أمرًا من الأعيرج.»

فقالت: «وما العمل إذن لإنقاذ هذه الفتاة؟ دبري الحيلة وأنا أفعل كما تقولين.»

قالت: «أليس خاتم سيدي أركاديوس واسمه عليه؟»

قالت: «بلى، هل أبعث به إلى الحاكم؟» قالت: «لا، ولكننا نكتب أمرًا على لسانه نأمره بإيقاف العمل إلى وقت آخر ونختمه بهذا الخاتم، فأنت تعرفين اللغة الرومانية، وأنا آتيك بورق تكتبين عليه الأمر، وأنا الضامنة لنجاح الحيلة، ولا أظن سيدي أركاديوس يعاتبك على استعمال خاتمه في إنقاذ هذه البريئة من القتل.»

•••

سُرَّت أرمانوسة لهذه الحيلة، وكتبت الورقة وختمتها وسلمتها إلى بربارة، فتركت سيدتها في الغرفة ونزلت إلى الحديقة، وكان مرقس في انتظارها عند الباب وقلبه يتَّقد قلقًا وخوفًا لئلَّا يذهب سعيه عبثًا، فلما جاءته بربارة بالكتاب سُرَّ كثيرًا وتناوله وشكرها وخرج يريد القرية، وبينما هو خارج من بلبيس سمع الناس يتحدثون بخروج القس وبالاحتفال للذهاب بفتاة النيل في ذلك اليوم، فعاد إلى بربارة وأنبأها الخبر فاستأذنت سيدتها أن يركب مرقس ورفيقه مركبتها الخاصة ليدركا القوم قبل فوات الفرصة، فأذنت لهما في ذلك، فركبا المركبة وسارا حتى أدركا الفتاة كما تقدم.

وتذكرت بربارة ما سمعته من الشيخ الريفي عن قتل قسطنطين فهرولت إلى سيدتها وعلى وجهها أمارات البشر وقالت: «تذكرت أمرًا ذا شأن كان يجب أن أطلعك عليه قبل كل شيء، ولا أدري ما أنسانيه؟! قالت: «وما هو؟» قالت: «سمعت أن قسطنطين قُتل في حربه مع العرب في الشام.»

فلما سمعت أرمانوسة الخبر خفق قلبها سرورًا وقالت: «ماذا تقولين يا بربارة؟» قالت: «سمعت ذلك يا سيدتي من الشيخ الذي بتنا عنده في عين شمس، ولكنه قال إنه لم يتحقق الخبر.»

فرفعت أرمانوسة يديها إلى السماء قائلة: «لا أريد بأحد سوءًا يا رباه، ولكن لا بد لأحدنا من الموت حتى لا نجتمع، فإن كنت قد قضيت على قسطنطين فلتكن إرادتك.» ثم التفتت إلى بربارة وقالت لها: «وهل يمكننا أن نتحقق ذلك فإن تحققه يهمنا كثيرًا.»

قالت: «ليس لنا يا مولاتي إلا أن نبعث رسولًا إلى الشام يتجسس الخبر وينبئنا.»

قالت: «هلم نبعث أحدًا، ومن تظنينه أهلًا لذلك؟» فأطرقت بربارة برهة ثم قالت: «أرى أن نبعث إلى مرقس، فإنه شهم مقدام، ولنا عليه أننا أنقذنا له خطيبته من القتل، فإذا عاد وقد نال مرامه بعثنا به يستطلع الحقيقة، وأظنه أفضل رجل يمكننا الاعتماد عليه في هذه المهمة.»

قالت: «قد أصبت المرمى، ولكن متى يعود؟» قالت: «أظنه يعود غدًا.» قالت: «إذا عاد فكلفيه بذلك لعله يزيل هذا العناء، فتكون خدمته لنا مثل خدمتنا له.»

قالت: «حسنًا.» ثم تذكرت كتاب البطريق بنيامين إلى المقوقس وأنه لا يزال معها فقالت: «وقد نسيت شيئًا آخر لا أدري ما ذهب به عن ذاكرتي.»

قالت: «وما ذلك؟» قالت: «هذا الكتاب.» وأخرجته من جيبها، فتناولته أرمانوسة وفضَّته وقرأت ما فيه، وقالت: «هذا يجب إيصاله إلى والدي سريعًا، فما العمل؟» فقالت: «نبعثه مع جرجس، فإني قد اختبرت صداقته أيضًا، ولكنه ذهب مع صديقه لإنقاذ مارية.»

قالت: «أرسليه بالجواب حالما يعود ولا تبطئي.»

قالت: «حسنًا» وباتتا تلك الليلة تفكران في هذه الأمور، فلما أصبح الصباح من نافذة القصر المشرفة على الطريق، كانت بربارة وسيدتها مطلتين من نافذة القصر المشرفة على الطريق، فشاهدتا المركبة وعليها الرجلان والعلم، وبعد قليل وقفت المركبة بإزاء القصر، فنزلت بربارة واستقبلتهما وسألتهما عما كان فأخبراها بنجاة الفتاة من مخالب الموت، وقال مرقس: «إني غريق فضلك وفضل مولاتنا أرمانوسة، ولا أدري كيف أكافئها على هذه المنة، فلا أكاد أصدق أني رأيت مارية حية.»

فقالت بربارة: «هل أنت عازم على المكافأة؟» قال: «نعم.»

قالت: «تمهَّل قليلًا فأخبرك، وأنت يا جرجس تعالَ معي» فتبعها حتى خلت به في غرفة من غرف القصر وقالت له: «أتحب مولانا المقوقس؟» قال: «نعم، والله يشهد بذلك وأنت تعلمين.»

قالت: «هل عندك للسر مكان؟» قال: «هذا أمر لا تجهلينه أيضًا.»

قالت: خذ هذا الكتاب واعلم أنه كتاب سرِّيٌّ عليك الاحتفاظ به جيدًا، وتطلب إليك مولاتي أرمانوسة أن تخفيه بين أثوابك وتحمله إلى والدها في حصن بابل وتدفعه إليه بغير أن يشعر بك أحد، فهل تستطيع ذلك؟»

فأمسك جرجس الكتاب فقبَّله وقال: «عليَّ القيام بأمرك، وليكن قلبك مطمئنًا، فإن الكتاب سيكون بين يدي سيدي المقوقس غدًا إن شاء الله.»

فقالت: «احذر أن ينكشف أمره؛ فإن انكشافه يكون سببًا لهلاكنا جميعًا. أفهمت ما أقوله لك؟»

قال: «نعم يا سيدتي، قد فهمته جيدًا، وهل أذهب الآن؟» قالت: «خير البر عاجله، ولكن احذر يا جرجس أن يطلع أحد على السر.»

فطمأنها وخرج وقد أخفى الكتاب تحت خوذته وتقلد سيفه وقوسه وسار يريد مقر المقوقس.

أما بربارة فنادت مرقس وأجلسته في غرفة بالقرب من غرفة مولاتها، ثم دخلت إلى مولاتها أخبرتها بما فعلت بشأن الكتاب ثم قالت: «وهذا مرقس ينتظر أمرك.»

قالت: «أريد أن يذهب حالًا إلى الشام فإذا لاقى في طريقه أحدًا فليستطلعه الخبر، وليعد إلينا حالًا، وإلا فليصل إلى بيت المقدس، فإن العرب الآن في طريقهم من بيت المقدس إلى هنا، فلعله يعثر بهم في الطريق، أو يواصل السير إلى هناك.»

فخرجت بربارة ونادت مرقس فأسرع إليها، فدخلت به على أرمانوسة، فقبَّل الأرض بين يديها، وتأدَّب في الوقوف، فأذنت له بالجلوس، فجلس مطرقًا، فقالت له بربارة: «أتذكر يا مرقس أن شيخ عين شمس أخبرنا بمقتل قسطنطين بن هرقل؟»

قال: «نعم يا مولاتي، وأذكر أنه لم يتحقق الخبر.»

قالت: «صدقت، ومرادنا الآن تحقيق الخبر على يدك؛ لأنه يهمنا كثيرًا.»

فوقف مرقس وحنى رأسه مطيعًا وهمَّ بخوذته ليضعها على رأسه ويخرج، فقالت بربارة: «ماذا تفعل؟» قال: «إني ذاهب لاستطلاع هذا الخبر ومعرفة حقيقته.»

قالت: «بورك فيك أيها الشاب، وقد أعجبتني مبادرتك، ولك عليَّ أن أحمي مارية من عدوها في أثناء غيابك، فسِرْ في حراسة الله، ولكن احذر أن يطلع أحد على ما أنت ذاهب من أجله؛ فإنك إذا أطلعت أحدًا عليه وقع عليك غضب مولاتنا، وأنت تعلم ماذا تكون النتيجة.»

قال: «سمعًا وطاعة»، وخرج يدبِّر وسيلة يسير بها، غير أنه ما لبث أن أدرك خطر تلك المهمة لأنه سيسير منفردًا في أرض عدوهم، وهو لا يعرف لغة العرب ولا يفهم كلامهم ولا شيئًا من أحوالهم، ولكنه صمم على تنفيذ الأمر قيامًا بواجب الخدمة نحو من كانت السبب في إنقاذ حبيبته من القتل، فمكث بقية ذلك اليوم في بلبيس يفكر في الأمر حتى أمسى المساء، فذهب لوداع بربارة، فحالما رأته بشَّت له وسألته عما فعله فقال: «ها أنا ذا ذاهب الليلة.»

قالت: «لا أرى أن تسير ليلًا خوفًا عليك من خطر الطريق، ولكنني قد تذكرت شيئًا أقوله لك وأظنه يساعدك كثيرًا في إتمام هذه المهمة.»

قال: «وما هو؟» قالت: «أرى أن تستحضر ثوبًا مثل أثواب العرب، لأنك إذا التقيت بهم وأنت بهذا اللباس قتلوك.»

فقال: «ولكنني لا أعرف لباسهم، ولا أذكر أني شاهدت أحدًا منهم.»

قالت: «أنا أعرف لباسهم لأني شاهدت عربيًّا جاء مرة إلى سيدي المقوقس بكتاب، وكان ملتحفًا شملة بيضاء وعلى رأسه عمامة من نسيج تلك الشملة، فعليك بثوب من نسيج القطن الأبيض أو من القباطي وهو كثير عندنا، وأنا أصنعه لك ثوبًا وأعلمك كيف تلفُّ العمامة.»

قال: «فأْذني لي بالذهاب الآن لإحضاره.» فأذنت له فخرج وقد ازداد تهيُّبه لذلك السفر، وخاف أن يُقتل أو لا يرجع إلى حبيبته ولا يراها، فرأى أن يغتنم تلك الفرصة لوداعها فسار مسرعًا إلى القرية، وكان قد ترك مارية رغمًا عنه ليلاقي بربارة ويشكرها على صنيعها ويسلِّم المركبة إليها، وكانت مارية تنتظر عودته سريعًا، فلما أبطأ انشغل بالها عليه، وقلق والدها لغيابه، فلما جاء المساء انقبضت نفس الفتاة، وجعلت تتردد إلى باب الدار، وتطل على الطريق تتفرس في المارَّة لعلها تراه قادمًا، وكلما رأت شبحًا ظنته هو، وبينما هي كذلك رأت رجلًا مسرعًا نحو الباب فعرفت من حركاته أنه مرقس، فدخلت وأخبرت والديها ففرحا كثيرًا وخف الجميع لاستقباله، ورحَّب به والداها وقبَّلاه. أما الفتاة فبقيت واقفة مطرقة وقلبها يختلج فرحًا فحوَّل وجهه نحوها وحيَّاها فمدت يدها تسلِّم عليه فأحس بيدها باردة كالثلج، فشعر كل منهما بقشعريرة الحب، أما هو فتذكر ما جاء من أجله واضطراره إلى الرجوع حالًا فانقبضت نفسه، ولكنه تجلَّد وأظهر الانبساط، فدخل الجميع إلى غرفة الاستقبال وهم يرحبون بمرقس ويبالغون في مدحه والثناء على شهامته لما أتاه من الهمة في إنقاذ مارية، وهو لا يجيبهم خجلًا، فلما أكثروا من المدح التفت إليهم قائلًا: «يجب علينا جميعًا أن نشكر الذي كان السبب الحقيقي في هذا الخير.»

فقالوا: «ومن هو حتى نذهب إليه ونشكره ونقدِّم أنفسنا عبيدًا له؟»

قال: «وماذا يستحق هذا الفاعل عندكم؟»

فأجابوا جميعًا بصوت واحد: «يستحق كل خير، وأمره علينا لا مردَّ له.»

قال: «إن السبب في ذلك الخير كله مولاتنا أرمانوسة ابنة مولانا المقوقس، فما قولكم؟»

فصاحوا بصوت واحد: «لتعش أرمانوسة، ولكننا لا يمكننا مكافأتها لأنها لا تحتاج إلينا في شيء، وعندها من الخدم مئات مثلنا.»

فقال: «ولكن هبُوا أنها احتاجت إلى أحدنا في خدمة فهل نقضيها لها؟»

قال الوالد: «نعم هذا فرض واجب حتى لو أدَّى إلى الموت.»

فقال: «إذن لا تستعظموا الخبر، فقد كلَّفتني قضاء حاجة بعيدة الشُّقَّة، وأنا على يقين أن كثيرين غيري يودُّون أن تكلِّفهم أية خدمة يؤدُّونها ابتغاء مرضاتها؛ لأنها ابنة الوالي الأكبر وزمام والدها بين يديها، واقتراحها عنده لا يردُّ، فإذا قضيت لها هذه الخدمة فإنها تسعى عنده في ترقيتي، وربما أنعمت عليَّ إنعامًا يريحني من شقاء الخدمة العسكرية.»

وقد أراد بذلك أن يهون عليهم أمر ذهابه ويرغِّبهم فيه، ولكنهم بُهِتوا، وامتقع لون مارية خوفًا على حبيبها من طول الغياب، بعد أن كانت ترجو بقاءه عندهم هذه المرة أيامًا بل أن يبقى دائمًا، فأرادت منعه عن السفر ولكنها رأت في ذلك جرأة غير محمودة فضلًا عما عاينته من استحسان والديها للقيام بخدمة أرمانوسة فصمتت.

أما الوالد فقال: «وما هي هذه المهمة؟» قال: «إلى مكان بعيد لا أقدر أن أذكره لكم، لأني عاهدت أرمانوسة ألا أبوح به إلى أحد، ولكنكم ستعرفونه بعد عودتي إن شاء الله تعالى، فأطلب إليكم أن تصلُّوا وتسألوا الله أن يأخذ بيدي.»

فجعل كل منهم ينذر نذرًا لدير من الأديار دون أن يعرف أحدهم ما نذره الآخر، وبقي مرقس برهة هناك وقد نسي ما جاء من أجله، ثم هبَّ بغتة وودعهم جميعًا وبخاصة مارية، فإنه شدَّ على يدها عند الوداع كثيرًا، فتناثرت الدموع من عينيها، وأما هو فتجلَّد وقبَّل أيدي والديها وخرج وعيونهم تتبعه، ولكن الظلام حال بينهم وبينه، فسار توًّا إلى مكان يعرفه، فابتاع قطعة من القباطي وقصد بلبيس ماشيًا، وكانت بربارة قد استبطأته وشُغل بالها عليه، فخافت أن يذهب قبل الاستعداد، ولكن بينما هي جالسة إلى سيدتها وقد مضى هزيع من الليل إذ جاءها بعض خدم القصر ينبئونها بقدومه، فنزلت واستطلعته الخبر، فأراد التظاهر بحيلة، ثم حدثته نفسه ألا يلوث ضميره بالكذب وهو سائر إلى غربة وخطر، فأخبرها بجليَّة الخبر فعذرته، ولكنها قالت له: «اعلم أن نيل خطيبتك معقود بتنفيذ هذه المهمة.» وأخذت الثوب منه فقصت منه قطعة جعلتها مثل العمامة، وقطعت القطعة الأخرى على مثال الشملة، وألبسته إياها وقالت: «فلتكن هذه الثياب معك مطويَّة حتى تدرك مكان العرب، فتخلع لباسك هذا وتلبسها، أما إذا لبستها منذ الآن فستكون في خطر من جندنا، وربما انكشف أمرك.»

قال: «ولكن ربما سُئلت في الطريق عن سبب سفري وعليَّ لباس الجند، فبماذا أجيب؟» قالت: «قل إنك ذاهب بأمر من السيدة أرمانوسة إلى حاكم الفرما في حدود مصر شرقًا، فإذا تجاوزت الفرما قليلًا دخلت حدود الشام، فإذا التقيت بالعرب وتمكنت من طريقة لاستطلاع حالهم فافعل. أما خبر قسطنطين فأنفذه إلينا حالًا.»

•••

بات مرقس تلك الليلة في مكان قريب من بلبيس استعدادًا للسفر باكرًا، فلما طلع الفجر نهض وسار حاملًا ثياب البدو وبعض الزاد ليتغذى به إذا جاع، وفيه تمر جافٌّ وبعض الخبز، فقضى سحابة النهار وبعض ليلة سائرًا، وبات في إحدى القرى، وبكَّر في الغداة، وما زال حتى أمسى عليه المساء وقد علم أنه على مقربة من الفرما، فتردد بين أن يبيت تلك الليلة حيث هو ثم يصابح البلدة، أو أن يواصل السير حتى يصل إليها ليلًا، فجلس في ظل نخلة يتناول بعض التمر من جرابه، فلاحت منه التفاتة في عرض تلك الصحراء، فإذا بنار تضيء، فجعل يفكر في أمرها فخُيِّل له أنها نيران بعض أهل هذه الناحية، فقال لعلِّي إذا ذهبت إليهم أسمع منهم خبرًا أو أبيت عندهم الليلة، فنهض، وسار طويلًا قاصدًا النار وهو يحسبها قريبة، وقد خيَّم الليل وهدأ الجو واستولى السكون على تلك الأنحاء، فخاف أن يعترضه حيوان مفترس في ذلك الخلاء، ولكنه تشجع وواصل السير حتى سمع صوتًا استغربه، فأصاخ بسمعه فإذا هو صوت حيوان لم يذكر أنه سمعه من قبل، فخاف أن يكون وحشًا ضاريًا، فوقف صامتًا، والتجأ إلى شجرة من السنط فإذا بالصوت قد انقطع، ثم عاد فسمعه، فأخذ يتفرس في الأفق من جهة الصوت لعله يعرف نوع الحيوان فلم يفلح، وفيما هو ينظر في عرض الصحراء لاح له شبح هائل عند بعد، فدنا مرقس من الشجرة واستلقى على الرمال، وجعل يحدق بعينيه في الأفق، فرأى فارسًا راكبًا حيوانًا غير الجواد طويل العنق لا يسمع لوقع أقدامه صوت، فكان أول وهلة يظنه زرافة لأنه رآها في حديقة المقوقس في منف، ولكنه لا يعهدها تصلح للركوب، فتربص برهة وإذا بالفارس يقترب من تلك الناحية وظهر له من جهة قدومه أنه آتٍ من مكان النار، وكان سيره حثيثًا، فما عتَّم أن وصل إلى الشجرة، ومرقس لا يزال منبطحًا على الرمال، ولم يكن يريد النهوض ظنًّا منه أن الفارس يمر ولا يراه، فإذا به قد ناداه عن بعد بلسان الروم قائلًا: «من الرجل؟»

فلم يرَ مرقس بدًّا من الإجابة، وبخاصة لما سمعه يخاطبه باللغة اليونانية، وكان مرقس يعرفها جيدًا، فنهض وقال: «جندي، ومن أنت؟» قال: «وأنا كذلك.» ثم سمعه ينيخ مركبه بصوت كالشخير، وإذا بالحيوان قد توسد الأرض جثوا وأخذ بالجعير، فتأمله فإذا هو الهجين، ولم يكن رآه، لأن الهجن والجمال لم يكن يعرفها المصريون ولا رأوها إلا مع العرب إذا جاءوا مصر في قوافلهم. وكان قدوم القوافل إلى منف نادرًا، ولكن مرقس شاهد الهجين مرة، وقد جاء عليه رسول بكتاب من بلاد العرب إلى المقوقس، فلما رأى ذلك الرجل قادمًا على الهجين علم أنه آتٍ من معسكر العرب، ولكنه عجب لتكلمه اللغة الرومية، فأوجس خيفة وأعد خنجره للدفاع إذا اقتضت الحال، ثم رأى الرجل قد شد حبلًا عند ثني ركبة الهجين ومشى نحوه، فناداه: «قف عندك من أنت قبل أن تقرب.» فقال: «إذا كنت من جند الروم بمصر فلا تخف فإني من جندهم في بلاد الشام.» وأقسم له بالمسيح والقديسين أنه لا يؤذيه، فدنا منه مرقس وهو لا يزال يحاذر، فإذا الغريب بلباس الجند الروماني، ولكنه ما برح مرتابًا في أمره لركوبه الهجين، فقال له: «كيف تقول إنك روماني وأراك راكبًا هجينًا؟» قال: «سأقص عليك خبري متى جلسنا.» فدنا منه، ولم يستطع تمييزه جيدًا لشدة الظلام، ولكنه تحقق من ملامحه أنه روماني، وبخاصة لما رأى لباسه وسمع كلامه.

فلما اقتربا سلَّما فسأله مرقس: «ما اسمك وما خبرك؟ إني لا أزال مستغربًا ركوبك الهجين وهو خاص بالعرب، ولم يدخل إلى بلادنا إلا قليلًا، وأنت من جند الروم ولسانك يشهد عليك.»

فأمسكه بيده وجلسا على حجر وقال له: «أما اسمي فهو بروفس، وأنا جندي من جنود البطريق يوقنا عامل الروم على حلب الشهباء، وأما ركوبي الجمال فله أسباب سأقصها عليك متى أخبرتني من أنت.»

قال: «إني رسول من مولاي المقوقس، ذاهب إلى الفرما بمهمة خاصة.»

قال: «لعلك جاسوس؟»

قال: «لا، ولكنني رسول كما أخبرتك.»

قال: «لا فرق عندي مهما تكن مهمتك، ويكفيني أنك من جند الروم، وأشكر الله لأني التقيت بك هنا فأستفيد منك أمورًا ربما كفتني مئونة المسير إلى بلبيس.»

قال: «لعلك كنت ذاهبًا إليها؟»

قال: «نعم كنت ذاهبًا إليها برسالة إلى أرمانوسة بنت المقوقس.»

فلما سمع اسم أرمانوسة استأنس بالرجل واستبشر خيرًا فقال: «ومن أرسلك بهذه الرسالة؟ فإنك قد وقعت على خبير؛ لأن أرمانوسة سيدتي، وقد كنت عندها أول البارحة، فما غرضك منها؟»

قال: «أما مرسلي فالبطريق يوقنا صاحب حلب، وهو الآن في هذا المعسكر عند هذه النار، وأما رسالتي فهي لا علاقة لها بالحرب.»

قال: «وما الذي جاء بكم إلى هنا وأنتم من حامية حلب؟»

قال: «لما استولى العرب على حلب أخرجونا منها، فالتقى سيدي بقسطنطين ابن الإمبراطور وهو في قيسارية، فبعث به مع جماعة من جنده ليحمل إليه خطيبته أرمانوسة.»

فقال: «وأين قسطنطين الآن؟» قال: «هو قادم في بحر الروم بمراكبه التي سترسو عند دمياط، حيث يكون في انتظارنا ليحمل خطيبته إلى القسطنطينية.»

فاتضح الأمر لمرقس وعلم أنه أصاب ضالَّته عفوًا فقال: «إذا كانت الحال كما ذكرت فأخبرك بالحقيقة إني رسول مولاتي أرمانوسة لا مولاي المقوقس، وكل ما تريد أن تعلمه عنها أطلعك عليه لأني عالم بكل شيء.»

قال: «هل هي في خير، ومستعدة للمسير إلى مولانا؟»

قال: «نعم إنها كذلك، وقد جاءت بلبيس منذ أيام في انتظاره، ولكنك لم تخبرني عن سبب ركوبك هذا الجمل وأنت روماني.»

قال: «أراك تدقق السؤال، ولكنني قد استأنست بحديثك وتوسَّمت فيك الصدق، فأخبرك أنه لما فتح العرب حلب أمسكوا مولاي يوقنا وجماعة من رجاله، وفي جملتهم أنا، فبقينا نؤاكلهم ونشاربهم ونرافقهم في أسفارهم، فتعودنا ركوب الجمال والهجن، لأننا رأيناها أسرع عدوًا من الخيل، فعولنا عليها في السفر السريع.»

فقال مرقس: «وهل في معسكركم هذا جند من العرب؟» قال: «لا.»

فقال: «وهل علمتم شيئًا عن عزمهم على غزو مصر؟»

قال: «علمنا أنهم قادمون إليها بحملة، ولعلهم الآن في العريش.»

فبُهت مرقس وأخذ يتأمل ما سمعه من بروفس، فلم يره منطبقًا على أحكام العقل، ولم يفهم كيف أنهم خالطوا العرب وآكلوهم وعاشروهم حتى تعلموا ركوب الجمال، وكيف أنهم قادمون لحمل أرمانوسة إلى قسطنطين، فقال له: «وهل اعتنق مولاكم يوقنا ديانة هؤلاء العرب؟»

فتوقف بروفس عن الجواب برهة ثم قال: «قد اتَّهمه بعضهم بذلك، ولكنه بريء منه.»

فأدرك مرقس أن الحكاية ليست بالحال التي تصورها، وأساء الظن فيما سمعه من الرجل، ولكنه خاف إذا أظهر الارتياب أن يغدر به، فتظاهر بتصديق كلامه ثم قال: «ولكننا سمعنا خبرًا كدرنا كثيرًا عن قسطنطين.» وأراد إتمام الكلام فابتدره بروفس قائلًا: «أما إذا أردت ما أشاعه العرب عن قتله فهو عارٍ عن الصحة؛ لأن مولانا قسطنطين في خير وسلامة ينتظر وصول عروسه.»

فقال مرقس: «ألا تخافون أن يلقاكم العرب في عودتكم من بلبيس، وأنتم تقولون إنهم قادمون وقد وصلوا إلى العريش فلا يلبثون أن يكونوا هناك قريبًا؟»

فقال بروفس وقد ارتبك في الجواب: «لا، لا أرى علينا بأسًا؛ لأنهم يعتقدون فينا الإخلاص لهم.»

فقال مرقس في نفسه: «قد تحققت بقاء قسطنطين حيًّا، فهل أرجع بالخبر أو أواصل الاستقصاء عن حال العرب وقوَّتهم لعلِّي أعود بشيء مفيد لسيدي المقوقس فأنال حظوة في عينيه؟» فرأى أن يواصل السير في الحديث فقال لبروفس: «إنك إذا قدمت إلى سيدتي أرمانوسة، وأنبأتها ببقاء قسطنطين حيًّا، تُسَر بك كثيرًا، فعجِّل بالمسير، وأخبرها بأنني قد علمت ذلك منك، وأني ذاهب لإتمام مهمتي في الفرما.» وقد أراد أن يتمم استقصاء أخبار العرب، ولكنه رأى أن يغتنم تلك الفرصة لكي يدخل إلى معسكر يوقنا فيستفيد منهم شيئًا يساعده على مرامه فقال لبروفس: «هل لك أن ترافقني إلى مولاك يوقنا لعله يريد أن يستخبرني، أو يسألني شيئًا؟»

فقال: «لا أستطيع العودة معك، ولكنني أعطيك شعار الليل، فإذا وصلت إلى المعسكر وسألك أحد من أنت؟ قل له: «السلام عليكم» وأفهمه نطق هذه اللفظة بالعربية، وهو لا يفهم معناها، فظنها اسمًا لرجل أو بلد، ولو فهم معناها لأدرك أنها كلمة تدل على إسلام قائلها أو انتمائه للمسلمين، فكررها مرارًا على سمعه حتى حفظها، ثم تأمل مرقس في ثياب بروفس فإذا هي تختلف عن ثيابه، فخاف إذا دخل معسكر يوقنا بثيابه أن ينكشف أمره، فأراد أن يحتال على بروفس ليأخذ ثيابه فقال: «ألا تخاف يا أخي إذا مررت بثيابك هذه أن يرتاب فيك المصريون؟» قال له: «ولماذا؟» قال: «إنهم يرونك غريبًا، فربما أوقعوا بك شرًّا، وبخاصة وأنت لابس هذا اللباس. وبما أنك سائر إلى سيدتي أرمانوسة أرى أن أخلع لك ثيابي هذه فتلبسها، وهي لباس جند مصر، فإذا مررت في البلاد لا يستغربك أحد.»

قال: «وأنت ماذا تلبس؟» قال: «أعطني ثيابك فألبسها.»

فاستحسن بروفس الرأي، وتبادلا الثياب، وقد فرح مرقس فرحًا لا مزيد عليه بنجاح حيلته، ثم نهض بروفس وركب هجينه وودع مرقس، وأخبره أن فسطاط يوقنا بالقرب من تلك النار، وسار قاصدًا بلبيس.

أما مرقس فظل ناظرًا إليه حتى توارى عنه، فجعل يفكر في حاله وما سمعه منه ويقيسه ويطبقه بعضه على بعض، فأدرك أن في الأمر خداعًا أو مكيدة، فقال في نفسه: «فلأذهب إلى معسكر يوقنا لعلِّي أعلم دخيلة الأمر.»

وسار قاصدًا تلك النار حتى كاد يقترب منها، فسمع هدير الجمال عن بعد فخُيِّل له أنه ذاهب إلى معسكر العرب لا معسكر الروم، ولكنه توكَّل على الله ومشى، وإذا بفارس قد اعترضه قائلًا: «من أنت؟» فأجابه مرقس: «السلام عليكم.» فأخلى سبيله، وقال له: «أين كنت؟» قال: «خرجت من المعسكر لأمرٍ وعدت.»

قال: «ادخل.» وقد ظنه من معسكرهم وبخاصة أن لباسه كلباسهم فمشى مرقس وهو يتأمل المعسكر، فإذا هو مؤلف من عشرات من الخيام بعضها بدوي وبعضها روماني، فجعل يخطر بينها ينظر في حال الجند، فإذا هم من الروم وفيهم بعض البدو، فاستغرب ذلك واختلط بهم وتظاهر أنه واحد منهم كان قد تخلف في الطريق ثم لحق بهم، وما زال سائرًا حتى أتى خيمة البطريق، فرأى الحراس محيطين بها بسلاحهم، وكانت فسطاطًا كبيرًا يتسع لجماعة، فقال: «لأنتظرن إلى الغد لأرى ماذا عسى أن يكون.»

ثم عرج إلى خيمة فيها جمع كبير، فدخل بينهم وتناول الطعام معهم، فظنُّوه من جندهم ولا عبرة بلونه وملامحه المصرية، فقد كان ذلك الجند خليطًا من الروم وأهل حلب وما جاورها، وربما كان فيه بعض المصريين؛ لأن هرقل استنجد المقوقس في أثناء حروبه مع العرب في الشام، فأرسل المقوقس إليه مددًا وفيهم بعض القبط.

فبات تلك الليلة وهو يسمع الأحاديث ويحفظها، فاستنتج منهم أن يوقنا في حلف مع العرب، وأن العرب قد أصبحوا على مقربة من هناك.

ولما أقبل الصباح بكَّر مرقس إلى فسطاط يوقنا، فإذا بالحراس وقوف عند بابه ويوقنا جالس في صدره وعليه رداء غير رداء الرومان، فتأمل الرداء فإذا هو يقرب شكله من الملابس التي جلبها معه، ولكنها أحسن حالًا، وفوق الرداء جبة، وعلى رأسه عمامة، وسمع الناس إذا ذكروه سمَّوه بغير اسمه الأصلي، فرجح لديه أن الرجل قد اعتنق الإسلام، أو هو في خدمة المسلمين، وأيد ظنه هذا خلو المعسكر من شعائر النصرانية، وأهمها الصلبان التي كان الروم يتخذونها شعارًا لهم في الحروب، فيحملونها مع الأعلام في مقدمة الجند، فإذا عسكروا نصبوها بجانب الأعلام.

ثم تحول عن الخيمة وجعل يطوف المعسكر يتفقد حاله لعله يقف على شيء من أمر العرب، فوصل إلى أطراف الخيام فشاهد رجلًا جالسًا على ربوة بالقرب من المعسكر ينكت الأرض بعصًا بيده كأنه يفكر في أمر أقلقه، وقد قبض في إحدى يديه على شيء يشبه الرَّقِّ، فوقف مرقس عن بعد يتأمل في حركاته وسكناته، فإذا بالرجل في لباس جند يوقنا، ينكت الأرض تارة وينظر إلى ذلك الرَّقِّ طورًا، وهو يحاذر أن يراه أحد، ثم التفت إلى جهة المعسكر فرأى مرقس فعجَّل بإخفاء الرَّقِّ وتظاهر بأمر يتشاغل به.

وأمعن مرقس النظر في وجهه فإذا هو ليس رومانيًّا ولا مصريًّا، فعجب لأمره، وأراد الدنوَّ منه لعله يقف على خبر جديد فخاف أن تحول جرأته هذه بينه وبين ما يريد، فتجاهل وتحوَّل عن المكان، ودخل المعسكر على أن يغتنم فرصة أخرى ليجتمع به ويستطلعه حاله، وما برح يراقبه حتى رجع إلى المعسكر في المساء واختلط بالجند، فلما أمسى المساء التقى به في بعض الخيام يتناول العشاء مع الجند، فتأمل وجهه فتذكر أنه يعرفه، ولكنه لم يذكر أين شاهده، ولا ما اسمه، فبقي صامتًا ينظر إليه تارة ويتشاغل عنه تارة أخرى لئلَّا يلحظ منه ذلك، ثم رآه ينظر إليه كأنه يريد التعرف به، فتجاهل مرقس هذه النظرة خيفة انكشاف أمره ولكنه كان كثير التشوق إلى معرفة حاله وما هو قادم من أجله، فلبث ريثما مضى وقت العشاء، وأخذ الناس يتفرقون، فإذا بذلك الغريب قد خرج من تلك الخيمة ومشى إلى خيمة من خيام العرب ودخلها وجلس إلى بعض من فيها وجعل يكلمهم بلسانهم، فعجب مرقس لمعرفته اللغة العربية فضلًا عن اليونانية، وازداد تشوقًا لمعرفة حكايته، ولم يعلم كيف يبادئه الكلام، فصبر ينتظر الليل فقال في نفسه: «لننتظر إلى صباح الغد.» ثم ذهب إلى منامه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤