الفصل الثامن

يوقنا وأرمانوسة

فلنتركهم ذاهبين لمداواة مرقس، ولنرجع إلى أرمانوسة وما كان من أمرها، فإنها لبثت في بلبيس بعد مسير مرقس تنتظر عودته بصبر نافد لتعلم حقيقة خبر قسطنطين، فمضى يوم وثانٍ وهي في لهفة وتحرُّق، لا يهنأ لها طعام ولا شراب، فلما كان مساء اليوم الثاني بعثت إلى بربارة فجاءتها مهرولة، فقالت لها: «ألم يكن من الحكمة يا بربارة أن أبعث بك من قبل إلى أركاديوس لإبلاغه ما نحن فيه، فلعله إذا علم أننا متفقان قلبًا وقالبًا أسرع إلى إنقاذي من قسطنطين؟ إني أخاف إذا أبطأت عليه الجواب أن يظن بي تغييرًا فيتغير، أو يظن بي سوءًا فيغضب، فما رأيك؟»

فقالت بربارة: «لا أظنه يستبطئنا إذا تأخر جوابنا أسبوعًا؛ لعلمه بصعوبة المراسلات، وأظن أن انتظارنا عودة مرقس أولى حتى نعلم اليقين، لأننا إذا تحققنا قتل قسطنطين أغنانا ذلك عن مشقات جسيمة، ويكون فيه القول الفصل، وإذا ثبت أنه لا يزال حيًّا باقيًا على عزمه عمدنا إلى وسيلة للنجاة، وعلى كلتا الحالين فالرأي لسيدتي، مريني أفعل ما ترين.»

فصمتت أرمانوسة مدة، وكانت متكئة على سريرها فتنفست الصعداء وقالت: «لا أراني قادرة على الفصل في الأمر، فأشيري عليَّ بما ترين.»

فقالت بربارة: «ننتظر إلى الغد، فإذا لم يأتِنا مرقس تدبرنا أمرنا، والله يلهمنا ما فيه خيرنا.» فباتتا تلك الليلة وقد صلت بربارة صلاة حارة، ونذرت نذرًا لكنيسة المعلقة رجاء إنقاذ سيدتها. أما أرمانوسة فكانت لا تفكر إلا في أركاديوس وقسطنطين، وتقابل بينهما، فيُخَيَّل إليها أنهما ملاك وشيطان يمران أمام عينيها. وفي الصباح جاء حاكم بلبيس يطلب مقابلة أرمانوسة في غرفتها، فأذنت له وقد استغربت مجيئه، وهو قلَّما طلب مقابلتها.

فلما دخل حيَّاها باحترام فردَّت التحية، وهي لفرط ما قاسته من الوجد والهيام قد هزل جسمها وامتقع لونها، ونظرت إلى الحاكم فإذا هو ممتقع اللون أيضًا فازداد قلقها فقالت: «ما وراءك أيها الحاكم؟»

قال: «قد أتتنا الجواسيس بنبأ دخول العرب حدود مصر، وأن فرقة منهم وصلت إلى الفرما، فهل أرسل إلى سيدي المقوقس بذلك؟ فإنه أوصاني عندما كان هنا في زيارته الأخيرة أن أستشيرك في مثل هذه الأمور لما يعهده فيك من الحكمة والدراية.»

فلما سمعت أرمانوسة قوله خفق قلبها، ولم تعلم بماذا تجيبه، وبعد التأمل برهة قالت: «لا بد من إبلاغه الخبر حالًا واستنجاده، فإن العرب لا يلبثون أن يصلوا إلينا، ولا أظن حامية بلبيس كافية لدفعهم.» فقال: «إذا أمرت مولاتي أنفذت من يطلب المدد.» فقالت: «لا بد من ذلك فافعل.» فخرج مهرولًا.

ولما خلت بربارة بسيدتها قالت لها: «ربما ذعرت يا سيدتي لهذا الخبر ولكني أحسبه بابًا للفرج.» قالت: «وكيف ذلك يا بربارة؟»

قالت: «لأن سيدي المقوقس في الحصن الآن، وإذا جاءه الخبر أبلغه الأعيرج فيعلم به سيدي أركاديوس، فإذا كان محبًّا لأرمانوسة حقيقة جاء بنفسه مددًا لحامية بلبيس، وهذا ما نتمناه.»

قالت أرمانوسة: «صدقت يا بربارة، فافعلي ما تريدين لأني لا أعي شيئًا، وسأنتظر عودة مرقس لأرى ما حدث لذلك الرجل (تريد قسطنطين).» ولحظت بربارة عظم ارتباك سيدتها وقلقها فقالت لها: «هلم بنا يا مولاتي ننزل إلى الحديقة فتنزهين طرفك في الرياحين والأزهار، ولنترك المقادير تجري في أعنَّتها، والله يدبر الأمر كيف يشاء.»

فقالت أرمانوسة: «إني أفضل الانزواء على التنزه؛ لأن قلبي لا يُسَرُّ لشيء، ولا يرتاح لي بال قبل الوقوف على حقيقة الخبر.»

فقالت: «دعي التدبير لله.»

قالت ذلك وأمسكتها بيدها وأنهضتها، وجاءتها برداء أرجواني ثمين ألبستها إياه، وزينتها بحليِّها وجعلت على رأسها شبكة ثمينة من اللؤلؤ، وضفرت شعرها، ومشت أمامها إلى الباب، فخرجت أرمانوسة في أثرها، ولما علمت نساء القصر بخروج أرمانوسة أطللن من النوافذ ليشاهدن حسن زيِّها، فقد كن معجبات بجمالها وهندامها.

فسارت في الحديقة تخطر بين الأشجار وهي لا ترتاح إلى شيء لتعاظم هواجسها، فجعلت بربارة تسلِّيها بالحديث وهي لا تنطق ببنت شفة.

وكانت الحديقة مشرفة على سهل خارج البلدة، فلاحت من بربارة التفاتة فإذا بفارس قادم عن بعد، وعليه لباس مرقس فظنته هو، فالتفتت إلى سيدتها بلهفة وقالت: «هذا هو مرقس يا سيدتي، فلعله جاءنا بخبر يسرُّ.» فالتفتت أرمانوسة إلى القادم ثم قالت: «ولكني أراه راكبًا جملًا من جمال العرب، فهل ذهب راكبًا.» فنظرت بربارة إلى الرجل وهو يقترب من البلدة ثم قالت: «لا، ليس للجمال عندنا وجود، ولكن يظهر أنه مرقس، ولا أعلم من أين أتى بالجمل؟»

وما كادتا تتمَّان الحديث حتى وصل الهجان إلى سور المدينة، فحطَّ رحله إلى جذع شجرة، فخرج بعض حامية بلبيس لاستقباله وسؤاله عن مراده، وجاء أحدهم يقول: «إن القادم رسول من قسطنطين بن هرقل إلى المقوقس.» ثم تقدم إلى أرمانوسة يسألها هل تريد مقابلته؟

فلما سمعت أرمانوسة ذكر قسطنطين أجفلت وانقبضت نفسها، وقالت: «لا، لا أريد مقابلته.» فسارت بربارة إلى باب الحديقة، وأشارت إلى الحراس أن يأذنوا له بالدخول، فدخل فإذا هو جندي من جنود الروم بلباس جند مصر، وهو لباس مرقس بعينه فقلقت بربارة على مرقس وقالت للرجل: «من أنت؟»

قال: «رسول من مولاي يوقنا، صاحب جند حلب، أرسلني بمهمة إلى المقوقس من الأمير قسطنطين.»

قالت: «وأين صاحب هذه الثياب؟ لعلك قد لقيت رسولنا؟»

قال: «نعم يا سيدتي، وهو في خير، وقد تركته بالمعسكر معتزمًا الذهاب إلى الفرما بمهمة من السيدة أرمانوسة، وأوصاني أن أطمئنكم عليه.» قالت: «وأين كتاب الأمير قسطنطين؟» فمد يده إلى جعبة معلقة بكتفه وأخرج حقًّا من الفضة، وقدمه إلى بربارة فتناولته، وقالت للرسول: «امكث هنا ريثما أعود إليك بالجواب.»

ثم تركته، ودخلت بسيدتها إلى غرفتها، وهي لعظم كدرها لا تلوِّي على شيء، فلما دخلتا الغرفة فتحت بربارة الحق ففاحت منه رائحة العطر، وأخرجت الكتاب فإذا هو من ورق ناعم حسن الصنعة، فتناولته أرمانوسة لتقرأه لأنها لم تكن تعرف اللاتينية، فأخذت أرمانوسة الكتاب ويداها ترتجفان، ونظرت إلى مكان الإمضاء، فرأت إمضاء قسطنطين باسمه، فاختلج قلبها واغرورقت عيناها بالدموع، وصاحت: «تبًّا له ألا يزال حيًّا؟» فقالت لها بربارة: «اقرئيه يا سيدتي لنفهم ما فيه، فلعل فيه خيرًا، ولو كنت أحسن القراءة لما كلفتك قراءته.»

فأخذت أرمانوسة تقرؤه فإذا فيه ما ترجمته:

من قسطنطين بن هرقل ملك الروم إلى المحترم المقوقس والي مصر
بسم الآب والابن والروح القدس

أما بعد: فإني عزمت على الشخوص إلى القسطنطينية بعون الله، فبعثت محبنا البطريق يوقنا حاكم حلب إليكم لكي تعتمدوا عليه في إرسال خطيبتنا أرمانوسة ليأتي بها إلينا، ونحن ننتظر وصوله عند سواحل دمياط، وقد عهدنا إليه بهذه المهمة لاعتقادنا فيه الإخلاص، فلا تترددوا في تسليمه أرمانوسة، والسلام.

فلما قرأته أرمانوسة خارت قواها، وألقت بنفسها على السرير، وأجهشت بالبكاء وهي تقول: «لا، لا أذهب معه، ولا أخرج من هذه الغرفة قبل أن تخرج روحي من جسدي.»

فجعلت بربارة تخفف عنها وتقول لها: «لا تجزعي يا سيدتي، فلست بذاهبة بإذن الله إلا مع سيدي أركاديوس، ولكن علينا أن نستعين في الأمر بالحيلة، فبماذا نجيبه الآن؟»

فقالت أرمانوسة، وقد أظلمت الدنيا في عينيها: «لا تسأليني أمرًا؛ فإني لا أفهم ما تقولين ولا أعلم بماذا أجيب، ولكنني أقول لك إني لا أريد الخروج من هذا المكان أبدًا، وافعلي ما يبدو لك.»

فتركها في الغرفة وخرجت، وبعثت إلى حاكم المدينة فهرول مسرعًا؛ لأنه كان يود أن يخدم أرمانوسة إرضاء لوالدها، لعلمه بما لها من المنزلة عنده، فلاقته بربارة وانفردت به، وأطلعته على كتاب قسطنطين وقالت: «إن هذا الكتاب باسم المقوقس، ونحن لا نستطيع إجراء شيء إلا بأمره، فابعث أحد رجالك بهذا الكتاب إليه حتى يأتينا بالجواب.»

قال: «سمعًا وطاعة.» وهمَّ بالخروج فقالت: «قف قليلًا.» فوقف فقالت: «هاتِ الكتاب.» فسلمه إليها، فقالت: «ابعث إليَّ رجلًا تثق به لأسلِّمه وأوصيه بشيء آخر.»

فخرج وعاد بشاب كان يثق فيه كل الوثوق وقال: «هذا هو الرسول، فأوصيه بما تشائين.» فنادت الشاب وقالت له: «امكث هنا قليلًا حتى أعود إليك.» ثم خرجت إلى الحديقة وبعثت إلى الرسول القادم من يوقنا فدخل فقالت له: «لقد سُرَّت سيدتي أرمانوسة من هذه البشارة، فأين هو سيدك يوقنا الآن؟»

قال: «هو عند الفرما برجاله ينتظر عودتي حتى يأتي ليذهب بالسيدة أرمانوسة حالًا، لأن الوقت قصير، وقد أعد لها كل معدات الاحتفال والزينة.» فقالت: «هل جاء في جند كبير؟»

قال: «نعم، إنه جاء في خمسمائة من خاصة رجال سيدي قسطنطين حراسًا للسيدة أرمانوسة في مسيرها.»

قالت: «بارك الله فيه، اذهب إليه وأخبره أن السيدة أرمانوسة تهديه السلام، وتشكر حسن صنيعه، وأنها تتأهب للمسير معه حالما يأتيها الجواب من سيدي المقوقس.» ومدت يدها ونقدته مالًا وقالت: «وستنال تمام المكافأة فيما بعد، فاذهب بسلام.» فودَّعها وعاد إلى هجينه فركبه، وسار يطوي البيداء.

أما هي فدخلت على سيدتها فإذا بها لا تزال مستلقية على السرير وعيناها تذرفان الدموع، فدنت منها وقبَّلتها مبتسمة وقالت: «تجلَّدي يا سيدتي وتبصَّري فيما سأقوله، فإن الأمر يحتاج إلى الحزم، وثقي جيدًا أن قسطنطين لن ينال منك شعرة بهمَّة سيدي أركاديوس، إنما علينا أن نُعلِم أركاديوس بما تم حتى يأتي لنجدتك، ولا شك عندي أنه يجيء مسرعًا إلينا، وقد يكون مجيئه في النجدة التي سيرسلها أبوه إلى بلبيس، فكيف نُعلِمه بذلك؟»

قالت: «قلت لك يا بربارة إني لا أملك حواسي، فافعلي ما تشائين، ولكنني خائفة من سوء العاقبة.»

فقالت بربارة: «لا تخافي يا سيدتي، بل تجلَّدي، وأصغي لما أقوله لك.» قالت: «قولي ما بدا لك، وافعلي ما ترتئينه.»

فقالت: «أين هو خاتم سيدي أركاديوس؟» قالت: «هو في جيبي.» فأخرجته، وجاءت بقطعة من البرديِّ، وختمتها به، وكتبت اسم أرمانوسة بالقبطية إلى جانب الختم، وأحاطت الاسم بدائرة سوداء، ولفت الورقة وجعلتها في حُقٍّ صغير، وخرجت بالحُقَّين إلى الرسول وخلت به، وأعطته قطعة من الذهب وقالت: «هذه هدية من السيدة أرمانوسة.» فأثنى عليها، فقالت: «خذ هذين الحقين، فادفع هذا إلى سيدك المقوقس حيثما وجدته، وهذا ادفعه إلى أركاديوس بن الأعيرج يدًا بيد. أفهمت ما أقول؟ واحذر أن يراك أحد، فإن سيدتي أوصت والدها بأن يزيد في عطائك إذا قمت بما أقوله لك.» فقبل الحقَّين وخبأهما في جيبه، وخرج إلى جواده فركبه وسار قاصدًا حصن بابل فرحًا بما نال.

وعادت بربارة إلى سيدتها، وجعلت تطمئن قلبها، وتخفف عنها، فقالت أرمانوسة: «لا شيء يعزِّيني يا بربارة أبدًا، فإن يوقنا اللعين سيأتينا قريبًا فبماذا نجيبه؟»

قالت: «نقول له أننا لا نستطيع إجابة طلبه قبل وصول الجواب من سيدي المقوقس.»

قالت: «وما الفائدة من ذلك؟ فلعل أبي يجيبه إلى طلبه، أليس هو الذي ألقاني في هذا المأزق؟! سامحه الله.»

قالت: «أراك لا تنظرين إلى الحوادث إلا من وجهها المظلم، خلِّي عنك الظنون؛ لأننا لا ندري ما يكنُّه القضاء لنا، وأراني شديدة الأمل في سيدي أركاديوس، فإنه سيدفع عنك كل غائلة بسيفه، وأنا أقول لك إننا لا نسلم أرمانوسة قبل وصول أركاديوس، مهما يكن الأمر، ومتى وصل كان الأمر إليه، وهو أكثر ميلًا للدفاع عنك من كل إنسان.»

فأحست أرمانوسة عند ذكر أركاديوس براحة، وسكن روعها، وهانت عليها المشكلات، ثم نظرت إلى بربارة وقالت: «هل عاد رسولنا مرقس من مهمته؟»

قالت: «لا، لم يعد يا سيدتي، وأنا في انشغال بالٍ عليه، وبالأمس جاءني والد خطيبته يسألني عنه؛ لأنهم ينتظرون مجيئه بفارغ الصبر، ولا يخفى عليك انتظار الخطيبة لخطيبها إذا كانت تحبه.»

فتنهدت أرمانوسة تنهدًا عميقًا وسكتت، ثم قالت: «ولكني أخاف أن يصيبه سوء لأجلنا؛ إذ قد انتهت مهمته ولم يعد.»

فقالت: «ولكني كنت أوعزت إليه إذا لقي العرب أن يجتهد في تجسس أحوالهم، فلعله تأخر لهذا السبب.»

ومضى عليهما يومان في انتظار ما يكون، وفي صباح اليوم الثالث أفاقت أرمانوسة على صوت الناس وضوضائهم، فأرسلت بربارة تستطلع الخبر، فعادت تقول: «إن أهل بلبيس في قلق من أمر العرب؛ لأنهم هاجموا الفرما، وقد وصل إلى هنا بعض أهلها فارِّين من ساحة الحرب، واستقدم الحاكم بعضهم إلى منزله يستطلعهم أخبار العرب سرًّا؛ لأنهم شهدوا حربهم واختبروا قوتهم.»

فارتبكت أرمانوسة وزادت هواجسها وقالت: «هذه مصيبة أخرى يا بربارة، فقد أصبحت بين أربعة عوامل تتسابق إلى القضاء عليَّ، أولها وأشدها وطأة عليَّ ذلك الرجل الذي لا أحبه، وهذا هو رسوله ربما جاءنا غدًا لكي يحملني إليه، بل إلى جنهم أعوذ بالله، وثانيها أبي الذي وافقه على هذه الفعلة، وهو عون له على شقائي، وثالثها هؤلاء العرب الذين جاءونا محاربين، وهم أشداء على ما يظهر، وربما ملكوا رقابنا عنوة، ورابعها، آه من رابعها!» وسكتت، فقالت بربارة: «أكملي العدد يا سيدتي، ما هو رابعها؟ ربما كنت أنا هو ذلك الرابع.» قالت: «لا يا بربارة، حاشاك، إنك وحدك تعزيتي في كل هذه النكبات، أما الرابع فهو قلبي، هذا الذي قد علق بأركاديوس وعصاني في هواه، وأنا بعيدة عنه يائسة من لقائه، وقد كان لي بقية أمل في رؤيته من قبل، أما الآن فأراني يئست من حبه.»

قالت ذلك وشرقت بدموعها، فقالت بربارة وقد انفطر قلبها: «دعي عنك الأوهام وتجلَّدي، فقد قلت لك: ألقي حملك عليَّ، فإني ناصرتك بإذن الله، وعليَّ الضمان أن قسطنطين لن ينال منك شعرة، وأنك ستنالين من تحبينه رغم الناس كافة، فاصبري وتدبَّري الأمر بالحزم، واجلسي حتى أذهب إلى الحاكم وأسمع كلام الفارِّين لعلِّي آتيك منهم بقبس من نور.»

وتركتهما في الغرفة وذهبت توًّا إلى منزل الحاكم بجوار القصر، وكان الحراس يعرفونها فلم يمنعوها، فلما رآها الحاكم وقف لها واستقبلها، وأراد أن يدخلها غرفة الاستقبال فقالت له: «لا حاجة إلى ذلك، فإني جئت لأسمع كلام الفارِّين.» فدخل بها إلى غرفة فيها رجل عرفت من لباسه أنه من ضباط الجند، ولكنه ليس رومانيًّا، وإنما أصله من جند أنطاكية، فلما رأته علمت ما قاساه من أنواع العذاب قبل وصوله إلى بلبيس، وكان لا يزال في ثياب الحرب، وعليه الدرع، وقد تلطخت بالدماء، وفي كفِّه جرح أصابه من نبال كادت تخترق عنقه لو لم يستقبلها بكفه، فجلست على مقعد من الحرير المزركش، وجلس الحاكم إلى جانبها، ونادى الضابط فدنا منه فقال: «اروِ لنا ما رأيت بلا زيادة أو نقصان.»

فقال وهو يتنفس الصعداء: «إني لا أكاد أصدق يا سيدي أني على قيد الحياة؛ لفرط ما قاسيته من التعرض للخطر، فإن هؤلاء العرب أشداء أقوياء، ولا أظن جندنا يقوى على حربهم.»

فابتدره الحاكم قائلًا: «اخفض صوتك لئلَّا يسمعك أحد فيقع الرعب في الناس، واشرح لنا حالك.»

•••

قال الضابط: «علمنا منذ ثلاثة أيام بوصول العرب إلى ضواحي الفرما بعدتهم وخيلهم، فأخذنا في التأهب، فملأنا الأسوار بالجند، ورفعنا الأعلام، وأقمنا الصلوات في الكنائس، ونصبنا الصلبان على الأسوار، وظننا أنهم يتريثون قبل منازلتنا التماسًا للراحة من وعثاء السفر، ولكننا لم نكد نتم التأهب حتى رأينا غبارهم يتصاعد، وجموعهم تزحف نحو المدينة، ثم انكشف ذلك الغبار عن جيش جرار تتقدمه الأعلام والفرسان، وما زالوا حتى عسكروا أمام المدينة، ولكننا لم نشاهد معهم خيامًا ولا أثقالًا، فعلمنا أنهم تركوا الخيام بعيدًا، فلبثنا ننتظر ما يكون منهم، وكنت أنا في حاشية حاكم الفرما نتشاور في أمرهم، وبعد الظهيرة بقليل رأينا واحدًا منهم يتقدم نحو الأسوار حاملًا علمًا أبيض، إشارة إلى أنه رسول، فلم نتعرض له، فلما وصل إلى السور أشار بيده أن معه كتابًا يريد رفعه إلى كبيرنا، فأمرني الحاكم فنزلت إلى باب السور ففتحته، وأردت تناول الكتاب منه فأعرض عني، كأنه لا يريد أن يعطينيه، وفهمت منه أنه يريد تسليمه للحاكم يدًا بيد، فاستأذنت في دخوله، فدخل بقدم ثابتة، كأنما هو داخل منزله، وكنت في أول الأمر مستخفًّا به لرثاثة لباسه؛ لأنه كان لابسًا شملة ملتحفًا بها كأنه متسول، ولكن تحول احتقاري إلى احترام حين أراد الدخول على الحاكم ويده على قبضة حسامه، فلما أردنا أن ننزع سلاحه أبى، فأتينا بالترجمان وحاولنا إقناعه بأن العادة عندنا أن يتجرد الرسول، فقال: «لا أنزع السلاح أبدًا، فإذا لم تقبلوني كذلك عدت من حيث أتيت»، فارتفعت منزلته عندنا، وأُذن الحاكم بدخوله كما يشاء.

فدخل ودفع إلى الحاكم كتابًا مكتوبًا على ورق من جلد الشياه وليس من البرديِّ مثل رقوقنا، فتناوله الترجمان وفسره، فإذا هو من أمير العرب يطلب إلينا الاستسلام العاجل حالًا، أو الدخول في دينهم، أو تأدية الجزية، أو القتال.

فعظم ذلك علينا، وقال له الحاكم: «ليس عندنا إلا الحرب»، فتحول العربي، ويده لا تفارق حسامه، وعيناه تراعيان حركاتنا وسكناتنا كأنه يخاف غدرنا به، وعاد إلى معسكره، فصعدت إلى مرمى النبال على السور ونظرت إلى معسكر العرب فإذا هم قد وقفوا صفوفًا، والفرسان متفرقون بينهم، فعلمت أن هؤلاء الفرسان إنما هم قوادهم، ولم تمضِ مدة يسيرة حتى انبرى منهم فارس مدجج بالسلاح وعليه درع يمانية، وكنت قد شاهدت مثلها عند بعض قوادنا، يوم كنت في أنطاكية، وأغار بجواده حتى دنا من السور مشهرًا حسامه، فخاطبه الترجمان من أعلى السور يسأله عن مراده فقال: «إذا كان لا بد لكم من الحرب فاخرجوا إلينا، أو ليخرج منكم فارس تعتمدون عليه نبارزه، فإما أن تكون الغلبة لكم إذا غلب، أو لنا إذا غلبنا، ومبارزة الأفراد خير من سفك الدماء».

فالتفت الحاكم إليَّ وقال: «ما الرأي؟» فقلت له: «إن في المبارزة حقنًا للدماء.»

فقال: «ومن يخرج منكم إلى هذا الفارس؟» فانبرى قائد كبير منا، وكان ممن حنكته الأيام وتمرس بالحروب، وعليه الخوذة، والدروع على الصدر والكتفين والذراعين، وقد غطاها كلها برداء من الحرير المزركش، وتقلد الحسام والخنجر، وحمل الترس، وجاء القسيس فصلى له ورشَّه بماء المعمودية تبركًا وتيمنًا، وعلق على صدره صليبًا من الذهب نعتقد فيه الحماية من الضر، فقبَّل الصليب والإنجيل، وجاء إلى باب السور فركب جوادًا سمينًا مكسوًّا بالدروع أيضًا، وبرز إلى العربي، وليس فيه ولا في الجواد مكان للسيف إلا غطته الدروع.

أما العربي فكانت الدروع على رأسه وصدره فقط، والجواد عارٍ، وكنت ظننته فرسًا ضئيلًا لفرط ضعفه وقلة لحمه، ولكنني شاهدت من خفَّته في الجري ما ذكَّرني بما كنت أسمعه عن خيول العرب من الخفَّة والشدة على قلة لحمها.

وأخذ الفارسان يتبارزان، وأبصار الجيشين شاخصة إليهما، وكلٌّ يصلي ويطلب النصر لفارسه، ثم رأيت الفارس العربي يتقهقر كأنه اندحر، فلحق به فارسنا، ثم ما عتَّم أن رجع فكَرَّ عليه، فتقهقرت قلوبنا معه، ثم عاد إلى المبارزة، واشتد الضرب حتى كدنا نسمع وقع السيوف على الدروع. كل ذلك والأساقفة يصلون ويتضرعون إلى الله استمدادًا للنصر حتى أمسى ولم يظهر أحد منهما على رفيقه، فافترقا على أن يعودا إلى المبارزة في الصباح.

فلما رجع فارسنا سألناه عما لاقاه من ذلك العربي، فاعترف بأنه لو لم يدركه الظلام لذهب فريسة له، قال ذلك سرًّا فيما بيننا، وكان يُظهر خلاف ذلك لدى الآخرين، فاجتمعنا تلك الليلة وتشاورنا في أمر أولئك العرب، فأجمع الرأي على أن نأخذهم بالحيلة، فنخرج إليهم في الصباح مُظهرين الوقوف صفوفًا لمشاهدة المتبارزين، ونجعل فرقة من جندنا في كمين على يسار الجند عن بعد، ثم نشغلهم في حربنا، ويدور الكمين من ورائهم، ونهاجمهم من كل الجهات فنضايقهم، وكنت أنا في جملة من سار للكمين، وجعلنا علامة الهجوم دق الأجراس، فنزلت مع الكمين ليلًا واختبأنا وراء أكمة على مسافة من المعسكر، وفي الصباح نزل باقي الجند أمام الفرما، واصطفوا هناك وقد رُفعت الأعلام والصلبان فوق رءوسهم، ونزل المتبارزان، وبعد هنيهة سمعنا دق الأجراس فهجمنا على العرب من روائهم، وكان باقي جندنا قد هاجموهم من الأمام، وعلا الصياح من الجانبين وحمي الوطيس.

أما نحن فهجمنا عليهم من الوراء، فما شعرنا إلا وقد أغار علينا ساقتهم — وفيهم كثير من النساء — بالعمد والعصي، وكانت الواحدة منهن تهجم على العشرة والعشرين وفي يدها عصا طويلة تضرب بها ذات اليمين وذات اليسار، فلاقينا من شدة أولئك النساء أضعاف ما لاقيناه من الرجال. وما زلنا في ذلك حتى انتصف النهار وخارت قوانا فلم نستطع الثبات، ثم رأيت نبلة ساقطة عليَّ تكاد تصيب نحري، فاستقبلتها بيدي فجرحتني، وكان الترس قد وقع من يدي، فخفت على نفسي، فطلبت الفرار في عرض الصحراء حتى بعدت عن المعسكر، وفرت معي جماعة كبيرة، فالتفت إلى الفرما فإذا بالعرب يتسلقون أسوارها، ولا ريب أنهم دخلوها واستولوا عليها، وقد واصلت السير ليلًا ونهارًا حتى وصلت إليكم وأنا لا أصدق أني نجوت من الموت.»

وكان الحاكم وبربارة في أثناء ذلك يتطاولان بعنقيهما يصغيان إلى ما يقول وقلباهما يخفقان. فلما أتم حديثه امتقع لون الحاكم، ووقع الرعب في قلبه، ولكنه أظهر الاستخفاف وقال: «إنكم أخطأتم الحيلة، وكان يجب أن تبارزوهم وجهًا لوجه، فما هم إلا شرذمة قليلة، وليس لديهم من العدة والسلاح مثل ما لنا، فلئن جاءوا بلبيس لأذيقنهم العذاب ألوانًا.» ثم قال للرجل: «احذر أن تُطلع أحدًا من حامية بلبيس على جليَّة الخبر لئلَّا يستولي عليهم الخوف، وهذا هو شأن الحرب؛ يوم لك ويوم عليك.»

أما بربارة فعادت إلى سيدتها وقد استولى عليها الخوف، فرأتها واقفة إلى النافذة، وقد أسندت رأسها إليها تنظر إلى الحديقة كأنها تتشاغل بها عن هواجسها لعلها تنسى ما هي فيه من الارتباك، فلم تشعر بدخول بربارة حتى نادتها، فتحولت إليها وسألتها جليَّة الخبر فقصت عليها الخبر كما سمعته إلى أن قالت: «وهذا ما كنا نخشاه في أول الأمر، وهو الذي حمل سيدي على مسالمة العرب؛ فإنه تنبأ بظهورهم على الروم حيثما نازلوهم، ولا يبعد أن يكون قد خابرهم سرًّا، وعقد معهم عهدًا ألا يؤذوا أحدًا من القبط، وعلى كل لن تقوم للروم قائمة.»

فقالت أرمانوسة: «وما الرأي يا بربارة؟» قالت: «الرأي أن نتربص لنرى ما يأتي به القدر، ولا بد من أن يأتينا الفرج إما من أركاديوس وإما من مرقس، إلا أن يكون هذا المسكين قد أصيب بسوء.»

فقالت أرمانوسة: «لا سمح الله بذلك، فإني على شدة هواجسي لم تبرح حكايته بالي، وأراني في وجل على خطيبته لئلَّا يكون قد أصيب بسوء نحن السبب فيه.»

•••

وقضيتا بقية اليوم في مثل هذه الأحاديث، وفي الصباح خرجت بربارة تتنسم الأخبار لعلها تسمع شيئًا عن مجيء مرقس، فرأت الحاكم يسير مسرعًا فسألته عن الخبر فقال: «أما رأيت الغبار المتصاعد في عرض الأفق؟»

قالت: «لا، وما ذلك؟»

قال: «أخبرنا الجواسيس أن يوقنا قادم مع رجاله لحمل سيدتي أرمانوسة، وقد جئت لأبشرها.»

فقالت: «أشكرك نائبة عنها، وسأبلغها هذه البشارة عنك.»

ثم تركته وصعدت إلى نافذة أطلت منها على ضواحي المدينة، فرأت الغبار يتصاعد، وقد دنا القادمون، فهرولت إلى سيدتها وأخبرتها، ولكنها مزجت الخبر بأمارات الاطمئنان خوفًا عليها. أما أرمانوسة فلم تعبأ إلا بالحقيقة، فلطمت وجهها، وأخذت تفرك يديها كأنها وقعت في مصيبة، وبربارة لا تستطيع تخفيف اضطرابها، ولكنها قالت لها أخيرًا: «إننا على موعد مع يوقنا في انتظار جواب والدك.»

فقطعت أرمانوسة كلامها قائلة: «وما خوفي إلا من ذلك الجواب، سامح الله والدي؛ فإنه هو الذي جلب عليَّ كل هذه المتاعب.»

فقالت بربارة: «ألا تريدين أن تطلِّي من النافذة لمشاهدة القادمين؟»

قالت: «دعيني من النوافذ فإني مقيمة بهذه الغرفة لا أبرحها أبدًا.»

وبينما هما في ذلك سمعتا قارعًا يقرع الباب، فخرجت بربارة لاستقباله، فإذا هو الحاكم يحمل حُقًّا وعلى وجهه أمارات البشر، فسألته عن أمره فقال: «إن الحُقَّ مرسل من البطريق يوقنا إلى السيدة أرمانوسة.» فهمست في أذنه: «إن سيدتي الآن في الفراش، ولا شك أنها ستشكر لك هذه الهمَّة، وسأبلغها الرسالة متى أفاقت، وربما دعوتك لمقابلتها.»

فشكر لها ومضى. أما هي فأخذت الحُقَّ، وهو صندوق رأت فيه قطعة ثمينة من الحلي على مثال النسر، مرصعة بالحجارة الكريمة من الماس والزمرد والياقوت، بديعة الصنعة، وإلى جانب النسر رَقٌّ محلى بالذهب مكتوب باللاتينية، وفي صدره صورة النسر الروماني، فعلمت أنه من قسطنطين، فدخلت على سيدتها والنسر بيد والرَّقُّ باليد الأخرى، وكانت أرمانوسة جالسة على مقعد في صدر الغرفة وقد أطرقت إلى الأرض تنتظر عودة بربارة، فلما رأتها داخلة والرَّقُّ في يدها ظنتها تحمل كتابًا من أركاديوس، فنهضت وهمَّت بتناول الكتاب منها في لهفة، ولكنها ما لبثت أن رمت به إلى الأرض وقد استحالت لهفتها إلى انقباض وقالت: «ما الذي جئت به؟ وما هذا الذي بيدك؟» قالت: «ألم تقرئي الكتاب يا سيدتي؟»

قالت: «لم أقرأه، ولا أريد أن أقرأه؛ لأنه مذيل باسم الذي تكرهه نفسي.»

قالت: «اقرئيه لعل فيه خيرًا.» قالت ذلك وتناولت الرَّقَّ ودفعته إليها، فأخذت أرمانوسة تقرؤه فإذا ترجمته:

بسم الآب والابن والروح القدس

من قسطنطين ابن الإمبراطور هرقل ملك الملوك إلى عروسنا أرمانوسة الحبيبة

قد أرسلنا إليك مع عزيزنا يوقنا نسرًا رومانيًّا مرصعًا، ووكلت إليه أن يأتي بك إلينا، وكتبت أيضًا إلى أبيك عاملنا على الديار المصرية، ونحن في انتظارك بمراكبنا عند بحر دمياط، فأسرعي في المجيء، والسلام.

قسطنطين

وما أتمت قراءته حتى صاحت بأعلى صوتها: «لا، لا، لا أريد أن أذهب إليك ولو كنت ابن رب الأرباب.» ورمت الكتاب إلى الأرض، وعادت إلى المقعد.

فوقفت بربارة صامتة لا تدري كيف تسلي سيدتها، وقد ازداد الأمر إشكالًا، ثم تركتها وذهبت إلى الحاكم وقالت له: «قد أطلعت سيدتي على الكتاب، وهي في انتظار الجواب من سيدي المقوقس؛ لأنها لا تقدر أن تبرح المكان قبل وصول جوابه.»

فقال: «إن رسول سيدي المقوقس عاد الآن يحمل كتابًا إلى يوقنا وآخر لمولاتنا أرمانوسة، فدفع هذا إليَّ وسار لإيصال كتاب يوقنا إليه.» وقدم لها كتابًا كان على مائدة أمامه، فتناولته وفضَّته فإذا هو بالقبطية يحرض المقوقس فيه ابنته على التأهب للمسير مع يوقنا، ويعتذر من عدم حضوره بنفسه لاشتغاله في الحصن بإعداد الجند لدفع العرب، فتغير لون وجهها وخرجت، فخبأت الكتاب في مكان ما، ولم تُطلع سيدتها عليه لئلَّا يزيد يأسها، ولكنها لبثت تنتظر عودة ذلك الرسول من عند يوقنا، لتسأله عما فعله بالعلامة التي أرسلتها إلى أركاديوس، فخرجت إلى الحديقة وجعلت تتطاول إلى الطريق لعلها تشاهد الرجل قادمًا فتستطلعه الخبر، فما لبث أن جاء، ومعه رسول آخر عرفت من لباسه أنه بروفس الذي جاء في المرة الأولى برسالة من يوقنا، فاستعاذت بالله منه.

فلما وصلا إلى باب الحديقة استأذناها في الدخول، فأذنت أولًا لرسول أركاديوس فدخل، فسألته عن كتاب أركاديوس فقال: «وصلت إلى الحصن يا سيدتي مساء، فسألت عن القائد أركاديوس فقيل لي إنه ذهب في جماعة من رجاله إلى خارج الحصن ليقطعوا الجسر المنصوب بين الحصن وجزيرة الروضة، وهو جسر مصنوع من المراكب يعبرون عليه من الحصن إلى الجزيرة، ومثله الجسر الموصل بين الجزيرة والجسر الغربي.»

فقالت: «ولماذا يقطعونهما؟»

قال: «أرادوا ذلك عندما جاءهم الخبر بنزول العرب بالفرما وعزمهم على الهجوم على الحصن، فأمروا بقطع هذين الجسرين ليمنعوهم عن منف وسائر البر الغربي.»

قالت: «وماذا فعلت عند ذلك؟»

قال: «سرت إلى سيدي المقوقس فدفعت إليه كتابه فقرأه، وكان في شاغل بالاستعداد وتقوية الحصون، فكتب إليَّ كتابين، وأوصاني أن أوصل أحدهما إلى سيدتي والآخر إلى يوقنا، وأمرني بسرعة الرجوع بهما، فلم أعلم كيف أوصل كتابك إلى أركاديوس، وخفت إذا تأخرت هناك وعلم سيدي المقوقس بتأخيري أن تنكشف حقيقة أمري، وربما كان في ذلك ما يغضبك أو يغضب سيدتي أرمانوسة، فرأيت هناك جنديًّا كنت أعرفه منذ صباي، وهو صديق لي، فدفعت الكتاب إليه وأوصيته أن يدفعه إلى القائد أركاديوس حالما يعود من مهمته، فوعدني أن يقوم بذلك، وجئت بالرسالتين كما قدمت.»

فقالت وقد ذُعرت وكادت تيأس من نجاة سيدتها: «إذن لم تشاهد أركاديوس؟»

قال: «لا يا سيدتي، وقد بينت لك السبب.» وخاف أن يشتد غضبها عليه فسكت.

فقالت: «ومن هو هذا القادم معك؟»

قال: «هو رسول يوقنا إلى سيدتي أرمانوسة، أرسله يوقنا على أثر تلاوة كتاب سيدي المقوقس.»

فعلمت أنه أرسل يطلب ذهابها إليه وقد وقعت الواقعة وانقطع الرجاء، فاشتد بها الأسى، وترقرقت الدموع في عينيها، ولكنها تجلَّدت وأرادت تحقق الخبر فقالت: «ادعُ الرسول إليَّ.» فدعاه، فلما دخل تحققت أنه الرسول الأول بروفس، فقالت: «ما وراءك؟» فسلم ودفع إليها كتابين، فتناولتهما فعلمت أن أحدهما من المقوقس إلى يوقنا والآخر من يوقنا إلى أرمانوسة، فأخذتهما ودخلت على سيدتها فرأتها لا تزال غارقة في بحار الهواجس، فلما دخلت بربارة ذعرت والتفتت إليها كأنها تسألها ما خبرها؟ وكانت بربارة مرتبكة، والدموع ملء عينيها، وهي تحاول إخفاء الكتب، فأدركت أرمانوسة ارتباكها فعاجلتها بالسؤال عما في يدها، فقالت وقد شرقت بدموعها: «ليس في يدي شيء يا مولاتي.»

قالت: «قولي يا بربارة ماذا في يدك؟ أفصحي. هل انقطع الرجاء؟» قالت: «لا، لم ينقطع الأمل يا سيدتي بعد، فإن اتكالنا على الله وحده، وهو قادر على إنقاذنا من مخالب الموت.»

قالت: «ما هذه الكتب؟ هل جاء الجواب من أبي؟ قولي، ولا تظني أني كنت أنتظر فرجًا منه.» قالت: «نعم هو جواب والدك.»

قالت: «وأين كتاب أركاديوس؟» فأطرقت ولم تُجب، فازداد ارتباك أرمانوسة وعظم قلقها، وألحت على بربارة قائلة: «ألم يرسل أركاديوس كتابًا؟»

قالت: «لا يا سيدتي، ولكنه سيبعث قريبًا.»

فلم تفهم مرادها فأمسكتها بيدها وقالت: «كيف لم يجب؟ هل هجرني وتخلَّى عني؟»

قالت: «كلا يا سيدتي، ولكن الرسول لم يرَه في الحصن، وسلم الكتاب إلى صديق له ليسلمه إليه حال رجوعه.»

فاستلقت أرمانوسة إذ ذاك على المقعد، وأجهشت بالبكاء، فخافت بربارة أن تطلعها على كتاب يوقنا لئلَّا يزيد يأسها، فوقفت ساكتة لا تبدي حراكًا، ولكنها جعلت تفكر في حيلة تخفف بها عن سيدتها، فلم ترَ وسيلة فجثت إلى جانب سريرها، وأخذت تقبِّل يديها وتقول لها: «تجلدي يا سيدتي؛ فإن الله قادر على أن يأتينا بالفرج القريب.»

ولبثتا برهة في ذلك فإذا بقارع يقرع الباب، وقدم خادم ينادي بربارة من الخارج، فنهضت ومسحت دموعها، وأبلغها الخادم أن الحاكم يطلب مقابلتها، فذهبت إليه فوقف لها وقال: «قد علمنا أمر مولانا المقوقس بتسليم السيدة أرمانوسة ليوقنا صاحب هذا الجند، وقد بعث إليَّ الآن ليستعجلني، وهو لا يستطيع إلا الإذعان لأمر مولانا قسطنطين كما تعلمين، فهل تأهبت السيدة أرمانوسة للذهاب؟»

فقالت بربارة على الفور: «إنها سُرَّت بما علمت، ولكنها لا تستطيع الخروج؛ لتعبٍ ألم بها. فاستمهل الرسول إلى الغد.»

قال: «حسنًا، وقد أمرت الجند بالتأهب للاحتفال اللائق بمقامها، فزيَّنَّا القصر والطريق قيامًا بواجب الطاعة لسيدي المقوقس.»

قالت: «بارك الله فيك، ونطلب إليه تعالى أن يعافيها لتستطيع الخروج غدًا.»

ثم عادت بربارة وهي لا تدري كيف تبلغ الخبر إلى سيدتها، وكانت أرمانوسة كلما سمعت صوتًا أو طرقًا اضطربت حواسها لشدة تأثرها، فلما طُرق الباب وخرجت بربارة ابتدرتها — حين عادت — بالسؤال عما حدث، فحاولت مغالطتها ولكنها لم تقتنع بغير الحق، فلما رأت إصرارها على معرفة الحقيقة قالت لها: «اجلسي يا سيدتي لأطلعك على جلية الخبر، ولكني أرجو منك أن تتمسكي بالحزم، وتتعلقي بأذيال الصبر كما هو دأبك، فإن أهل مصر ما برحوا يتحدثون بتعقلك وثباتك ودرايتك، فلا تُطلقي لعواطفك العنان لئلَّا تزيدي الخرق اتساعًا، فنكون في شر فنقع في أعظم منه.»

فقالت أرمانوسة: «لا تذكري التعقل والحزم، فإن عواطفي غلبت على كل تعقل وحزم، ولا أراني قادرة على ضبطها، ولكن أكملي، ماذا تريدين مني؟»

قالت: «أريد منك أن تتجملي بالحزم وتتمسكي بالصبر وتصغي لما أقول.»

قالت: «قولي.»

قالت: «اعلمي يا مولاتي أن سيدي والدك قد أمر بأن تذهبي مع يوقنا، وهذا أرسل رسوله إلى الحاكم، فأعد معدات الاحتفال بخروجك إليه اليوم، ولكنني أمهلته إلى الغد بدعوى توعُّك صحتك. وسيدي أركاديوس لا بد أن يكون قد بلغه كتابي، وإذا لم يصل إليه فسيسمع خبر يوقنا من أبيك أو أحد أتباعه أو من سيدي أرسطوليس لأنه صديق له، ولا شك أنه حالما يسمع الخبر يأتينا على جناح السرعة، وهو كفيل بإنقاذك، والأمر عند ذلك في يده، فإذا لم يستطع إنقاذك فالأمير قسطنطين أبقى لك.»

فلما سمعت أرمانوسة اسم قسطنطين ارتعدت فرائصها وقالت لها: «لا، لا تذكري اسمه. إن النار أحسن عندي من جواره.»

قالت: «لا أقول لك أن تؤثريه على البطل أركاديوس، ولكنني أريد أن تمسكي الحبل من الطرفين، وأخشى أنك إذا صرحت بعدم رضائك بقسطنطين، وأمسكت عن العمل برأيه، أن يغضب عليك، وربما أخذك بالعنف، وقد يتفق أن لا يأتينا أركاديوس على عجل، أو يأتي ولا يستطيع الدفاع عنك، فماذا تكون النتيجة؟ أما إذا أظهرت القبول وسرت إلى معسكر يوقنا فإننا نطاوله ونطلب إليه الانتظار هنا مدة، ونبعث رسولًا مستعجلًا إلى سيدي أركاديوس بصريح الخبر، فلا يمضي يومان أو ثلاثة حتى يأتي لإنقاذك. هذا ما أراه والأمر لسيدتي.»

فبُهتت أرمانوسة وأخذت تفكر فيما سمعته من بربارة، فإذا هو عين الصواب، ولكن العواطف كانت تسيطر عليها فلم تُجب.

فقالت بربارة: «ما بال سيدتي لا تجيبني؟»

قالت: «انظري يا بربارة، إني أثق بدرايتك وإخلاصك وثوقًا تامًّا، وهذا أمر لا تجهلينه، ولكني غير قادرة على العمل بذلك، وهل تحسبينني إذا عجز أركاديوس عن إنقاذي أرضى بقسطنطين؟! إني وحب أركاديوس وماله من المنزلة في هذا القلب، إذا تحققت وقوعي بيد قسطنطين وقنطت من أركاديوس فلا شيء يشفي غليلي إلا الطعن بهذا الخنجر.» قالت ذلك واستلَّت خنجرًا مرصعًا كانت قد خبأته بين أثوابها، فذعرت بربارة عند رؤيتها الخنجر وقالت: «ما هذا يا مولاتي؟ أتقولين الصدق؟»

قالت: «هذا هو الصدق بعينه يا بربارة، ولكني أعدك أني لا أقدِم عليه إلا إذا تحققت وقوع القدر، وأظنك عند ذلك تكونين أكبر مساعد على قتلي؛ لأن فيه خلاصي من عذاب دائم.»

فحاولت بربارة أن تأخذ الخنجر منها فلم تستطع، غير أن أرمانوسة أعطتها عهدًا ألا تعمد إلى الإضرار بنفسها إلا بعد فشل كل حيلة، فوافقتها بربارة على نية أن تسرق الخنجر منها في فرصة مناسبة.

•••

عرفنا أن البطريق يوقنا كان حاكمًا على حلب من قِبل هرقل إمبراطور الرومانيين، فلما فتح المسلمون الشام تظاهر بالإسلام وسمَّى نفسه عبد الله وقام لنصرتهم، وهم بين مؤمن بإخلاصه وبين مرتاب فيه، فلما عزم عمرو بن العاص على فتح مصر سار في ركابه متظاهرًا بنصرته، وكان عالمًا بخطبة قسطنطين لأرمانوسة، فحدَّثته نفسه أن تكون أرمانوسة عند فتح مصر غنيمة له، وكان قد سمع بجمالها، وأسرَّها في نفسه حتى أتى الفرما، وهو واثق أن عمرًا فاتح البلاد لا محالة، ولا بد من وقوع أرمانوسة في الغنائم، ولكنه خاف أن يسبقه إليها أحد فعمد إلى الحيلة، فزوَّر كتابًا على لسان قسطنطين يطلبها كما قدَّمنا، ثم جاء بنفسه إلى بلبيس، وترك جند عمرو مشتغلًا بحرب الفرما، معتقدًا أنه يتمكن بحيلته هذه من الذهاب بأرمانوسة بعد القبض عليها، قبل وصول عمرو إلى بلبيس، وكان يظن أن عمرًا سيمكث في الفرما زمنًا طويلًا، فلما جاءه كتاب المقوقس يوافقه على حمل أرمانوسة، بعث برسول يطلب مجيئها إليه، وبعث إلى حاكم المدينة ليسرع في ذلك، فأجابه أن السيدة أرمانوسة مريضة، فعزم على أن ينتظر شفاءها، ولكنه علم تلك الليلة أن عمرًا قد فتح الفرما، ولا يلبث أن يأتي بلبيس فخاف إذا أبطأ هو في أخذ أرمانوسة أن تذهب حيلته ضياعًا، فأرسل في صباح الغد كتابًا إلى الحاكم شديد اللهجة يطلب منه سرعة الخروج بأرمانوسة في ذلك اليوم، وأنه إذا أبطأ في إجابة طلبه عمد إلى القوة.

فبعث الحاكم إلى أرمانوسة وأطلعها على طلب يوقنا، فاتفق رأي بربارة وأرمانوسة على أن تخرجا إلى معسكر يوقنا، وأن تستمهلاه بضعة أيام قبل السفر، ولم تعلما بما عزم عليه من الإسراع، فأقيم الاحتفال، وخرج الحاكم بأرمانوسة من قصره بالشموع والصلبان، واصطفَّت الجنود على الطرق، وصدحت الموسيقى، ورتل المرتلون، وأخرجوها كما يُخرجون العروس في موكب العرس، فسارت أرمانوسة تجر ذيل ثوبها، وبربارة إلى جانبها، والقسيسون أمامها بالملابس الرسمية والمباخر والصلبان، حتى خرجوا من المدينة، فإذا بيوقنا قد خرج من معسكره برجاله محتفيًا بها، حتى اقترب منها فأخذ بيدها وأدخلها خيمة خاصة بها، فدخلت وتظاهرت بالتعب والضعف، فتركوها في الخيمة مع جواريها وبربارة، وتركها الحاكم بعد أن ودعها وعاد برجاله، ومكثت هي في الخيمة، وانفردت ببربارة وقد اسودَّت الدنيا في عينيها، وعظم الأمر عليها، وخُيِّل إليها أنها أصبحت في القفص، ولم يعد لها مفر منه، وكانت بربارة تعزِّيها بأنها أرسلت رسولًا مستعجلًا إلى أركاديوس، سيصل بعد يومين، ثم لم تمضِ برهة حتى سمعت ضوضاء فخرجت فرأت يوقنا قادمًا بنفسه، وقد لبس الثياب الرومانية وتظاهر برومانيته، وطلب مقابلة أرمانوسة فأذنت له، فدخل، فحالما رأته تشاءمت من منظره، ولا سيما لأنه رسول قسطنطين، لكنها تجلَّدت وتظاهرت بالضعف والتعب، وكانت مستلقية فجلست، فجلس بين يديها يتلطف ويواسي وقال: «بماذا تشعر سيدتي؟ أرجو أن تكون في خير.» قالت: «لا أزال أشعر بالضعف.»

قال: «وقاك الله من كل شر يا سيدتي، ها أنا ذا أحمل سلامًا إليك وإكرامًا من مولانا ابن الإمبراطور.» فلم تجبه، فحمل ذلك منها محمل الحياء، وهو لا يعلم ما تضمره وقال لها: «أرجو أن تتحسن صحتك قريبًا بإذن الله، ولا سيما عندما تخرجين من هذه المدينة.»

قالت: «ولكنني لا أستطيع الركوب والسفر قبل بضعة أيام.»

فقال: «أرى الإسراع في المسير أولى؛ لأن سيدي ابن الإمبراطور ينتظر قدومك بفروغ صبر على سفنه، وقد أعد لك كل ما تقر به عيناك.»

فأمسكت عن الجواب وهي لا تدري بماذا تجيب، فلاحظت بربارة التغير في وجهها فابتدرته قائلة: «ألا ترى أن سيدتي خائرة القوى لا تستطيع الركوب؟»

قال: «نعم، أرى ذلك، ولكنها ستُحمل في الهودج على أكتاف الرجال، فلا تشعر بشيء من التعب.» قالت: «ألا تظن أن حر الطريق يضر بصحتها؟»

فقال: «وهل تظنين أننا فاتنا تدارك ذلك؟ لقد أعددنا للسيدة أرمانوسة هودجًا تظلله المظلات من ريش النعام على أفخر زينة. تعالي انظريه.»

ثم نهض وخرج بها من الخيمة، فرأت الهودج يحمله الرجال، والجند آخذين في تقويض الخيام والتأهب للرحيل، فتحققت حبوط مسعاها، وضياع أملها، فاغرورقت عيناها بالدموع، ولكنها أمسكت نفسها خيفة أن يظهر ذلك عليها، وعادت إلى الخيمة مع يوقنا صامتة، فأتم هو حديثه قائلًا: «إن وصيفتك قد شاهدت الهودج بنفسها معدًّا لحملك، فإذا أذنت مولاتي فلنتأهب للسفر أصيل هذا اليوم.»

فلما سمعت أرمانوسة ذلك رجفت وقالت: «لا أستطيع السفر في هذا اليوم.»

قال: «قلت لك أن كل شيء معدٌّ لسفرك المريح، وقد أمر مولانا قسطنطين أن أسرع بك إليه، ولا أستطيع مخالفته.»

فقالت: «لا أستطيع السفر وأنا مريضة، فأمهلني يومًا أو يومين، وأجرك على الله.» قال: «لا أستطيع الانتظار ساعة واحدة، ولا فائدة من الأخذ والرد في هذا الشأن.»

فتحققت أرمانوسة أن الساعة قد أتت وآن وقت الانتحار، وحالما صممت عليه شعرت بأنها يجب أن تبذل كل ما في وسعها قبل الشروع فيه، فتجلَّدت وقالت: «لا أرى موجبًا لهذا الإصرار، وأنا بين يديك مريضة كما ترى، أيحلُّ لك أن تعجل عليَّ؟»

فحملق يوقنا وقال: «قلت لك لا فائدة من الكلام، وها أنا ذا ذاهب تأهبًا، وسأعود إليك بعد قليل لنحملك، والسلام.»

قال ذلك وخرج وتركهما في الخيمة منفردتين، فالتفتت أرمانوسة وقالت: «ما رأيك الآن يا بربارة؟ ألم يحن وقت الانتحار؟» قالت ذلك ومدت يدها إلى خنجرها، ولم تكن بربارة قد سرقته بعد، فارتمت عليها وأمسكت يدها قائلة: «لا أصدق يا مولاتي أن يدك اللطيفة تستطيع الإقدام على القتل. ألا تعلمين أنك بهذا ترتكبين جريمة؟»

فقالت: «إن موتي وهلاكي في أسفل الدركات خير لي من أن أستبدل رجلًا آخر بأركاديوس حبيبي.» قالت ذلك وخنقتها العبرات ثم أغمي عليها، فأسرعت بربارة إلى الخنجر فأخفته، وخرجت لتنادي بعض الجواري ليساعدنها برشِّ الماء، فأسرع يوقنا إلى الخيمة ليرى ماذا حدث، فجاءوها بالماء ورشُّوها، فأفاقت ورأت يوقنا أمامها وقد تأثر لما شاهده من جمالها وقد ذبلت عيناها وتكسرت أهدابها من كثرة البكاء، ولكنه ما زال يهددها، مصرًّا على الذهاب بها في ذلك اليوم.

ضاقت فلما استُحكمت حلقاتها
فُرجت وكنت أظنها لا تُفرج

وبينما هم في ذلك إذ دخل أحد رجال يوقنا يستأذنه بدخول رسول من الأمير عمرو بن العاص، فبُغت يوقنا وبُهت، ولكنه أذن له بالدخول، فدخل فإذا هو بلباس السفر، وقد علاه الغبار، وعلى رأسه العقال، فحيا يوقنا ودفع إليه كتابًا ففضه وقرأه، وأرمانوسة وبربارة تنظران إلى الرسول وتتأملانه وترجوان خيرًا من قدومه، فنظر هو إليهما وحياهما، وهمَّ بيد أرمانوسة كأنه يحاول تقبيلها، وسلم على بربارة، فتفرست فيه فإذا هو مرقس، فأشارت إلى سيدتها، وهمست في أذنها إنه مرقس رسولها، فالتفتت إليه أرمانوسة فآنست في وجهه أمارات البشر، ونظرتا إلى يوقنا وهو يقرأ الكتاب فرأتا لونه يتغير، والرَّقُّ يرتجف بيده من شدة التأثر، وما أتم قراءته حتى ظهر عليه الارتباك، ووقف برهة صامتًا ينظر إلى الكتاب كأنه يقرؤه، ولكنه كان غارقًا في بحار الهواجس.

ثم تظاهر بالتجلُّد وقال لمرقس: «كيف فارقت الأمير؟» قال: «فارقته وقد ترك الفرما قادمًا إلى بلبيس.» فأسرع يوقنا في الخروج ولم يلتفت إلى أرمانوسة ولا إلى غيرها.

أما أرمانوسة فإنها توسَّمت في مجيء مرقس خيرًا وقالت: «بم جئت يا مرقس؟ وما الذي أوجب غيابك؟» فتقدم وقبَّل الأرض بين يديها قائلًا: «لقد جئت بالفرج يا مولاتي، وأما تأخري فقد كان بقضاء منه تعالى.» ثم أراد أن يقص حكايته فخاف أن يسمعه يوقنا، فكلمها بالقبطية قائلًا: «علمت بخيانة هذا الرجل، وأنه قادم بدسيسة متظاهرًا بأنه رسول قسطنطين وما هو بمرسل منه، ولكنه غادر خائن يسعى لخير نفسه، أما الكتاب الذي جئت به الآن فهو من عمرو بن العاص أمير العرب القادمين لفتح هذه البلاد، يهدده فيه ويأمره ألا يتعرض لك بسوء.»

فرفعت بربارة يديها إلى السماء قائلة: «نحمد الله على ما أتانا من الخير على يدك يا مرقس. إنك أهل لأعظم مكافأة على هذه الخدمة، والمستقبل بيننا.»

أما أرمانوسة فلم تعلم كيف تشكره، على أن علو مكانتها أمسكها عن كثرة الإطناب فيه، ولكن ظواهر الشكر كانت تتجلى على وجهها.

فقالت بربارة: «أخاف أن يحمله غيظه على الإسراع في أذيتنا انتقامًا منا.» قال: «لا أظنه يجسر على الإتيان بحركة بعد هذا الكتاب، فإنه يهدده تهديدًا شديدًا إذا مسَّكما بسوء، ولا أظنه إلا مبادرًا إلى الفرار حالًا، وها أنا ذا ذاهب لاستطلاع الخبر، لتكونا في اطمئنان وراحة، والاتكال على الله.» قال ذلك وخرج، فتقدمت بربارة إلى سيدتها وقبَّلتها قائلة: «الحمد لله يا سيدتي، إن باب الفرج قد فُتح.»

فقالت أرمانوسة: «لا أزال خائفة يا بربارة، وما أدرانا أن العرب يُحسنون معاملتنا، فقد نكون خلصنا من شر لنقع في شر أعظم.»

قالت: «ثقي بالعرب؛ لأنهم إذا أمَّنوك فأنت في أمان، مع ما نعلمه من مخابرة سيدي والدك لهم، وعلى كل حال فإن الأمر لله، فخفِّفي الآن ما بك واتكلي عليه.»

أما مرقس فخرج من الخيمة فرأى يوقنا ورجاله يحملون أحمالهم، وقد ركب يوقنا جواده وكان رجاله راكبين مستعدين للرحيل قبل مجيء مرقس كما قدمنا، فعاد بلهفة ينبئ أرمانوسة بفرار يوقنا، برجاله، وهم جماعة كبيرة فقالت: «إلى جهنم.»

ثم خرجت بربارة فرأت المكان قفرًا، وليس حولهم إلا بعض الأحمال التي تركوها سهوًا للهفتهم واستعجالهم، وقد أمعنوا في الهرب حتى كادوا يتوارون عن النظر، فنادت بربارة سيدتها فخرجت وهي لا تصدق أنهم فروا، فرأت المكان خاليًا إلا من خيمتها وخيمة جواريها.

فقالت: «يا مرقس أرى رجلًا بلباس عربي على تلك الأكمة فمن هو؟» قال: «هو يا سيدتي رسول من الأمير عمرو إلى سيدي أبيك، وسأحكي لك حكايته بعد أن يهدأ روعك.»

فأنفذته إلى حاكم بلبيس ليبعث من يحملها إلى منزلها، فأسرع الحاكم وجاء بجماعة من رجاله حملوا السيدة أرمانوسة وحاشيتها إلى قصرها وهم يعجبون لما تم، فقصت بربارة على الحاكم خيانة يوقنا، فحمد الله على نجاة أرمانوسة من الشَّرَك.

وكانت الشمس قد مالت إلى المغيب، وأراد مرقس الذهاب إلى القرية لتفقُّد خطيبته، فقالت له بربارة: «ثق يا مرقس أن سيدتي كثيرة الثناء على غيرتك. أتقص علينا قصتك أم تذهب لمشاهدة خطيبتك؟» قال: «لك الأمر، ولكني أحكي الحكاية باختصار.» وأخذ يسردها عليهما كما وقعت حتى وصل إلى سقوطه عن الجمل وكيف حمله ذلك العربي الطويل الأسود إلى المعسكر وضمَّد جراحه، وأنه انتظر أول فرصة قابل فيها عمرًا وأطلعه على حكاية يوقنا، فأعطاه ذلك الكتاب يهدده فيه ويأمره بألا يمس أرمانوسة إلى أن قال: «والعربي الذي شاهدتماه معي إنما هو زياد خادم يحيى النحوي.» وحكى لهما حكايته، وأنه يحمل كتابًا سرِّيًّا إلى المقوقس وفيه الأمان للقبط كافة. وبينما هم في الأحاديث، وقد خيَّم الغسق، إذا بخادم يقول: «بالباب رجل يستجير.» قالت: «دعوه يدخل.» وإذا هو كهل ينوح ويندب ويقول: «قد أخذوها يا سيدتي، قد ظلمونا يا مولاتي.» فعرف مرقس أن الباكي عمه المعلم اسطفانوس، فهبَّ من مجلسه وناداه: «ما الخبر يا عماه؟»

«فذعر الرجل وقال: «أأنت هنا يا مرقس وقد أخذوا مارية منك؟ آه يا ولداه.»

فصاح مرقس: «ومن أخذها يا عماه؟ أخبرني.»

قال: «أخذها ذلك الخائن الذي كان قد سعى في قتلها وإلقائها في النيل، فإنه لما رأى الجند قد حملوا على بلبيس، والحال حال حرب، جاءنا في هذا الصباح ببعض رجال أبيه وأوسعونا ضربًا ولكمًا وحملوا مارية وفروا بها.»

فاشتد غضب مرقس واسودَّت الدنيا في عينيه فحملق وقال: «إلى أين أخذوها؟» وهمَّ بالوقوف، وقبض على حسامه، فقال: «قد مضوا بها إلى حيث لا أعلم، ولكنهم ساروا غربًا، وربما قصدوا جهة عين شمس.»

فأراد الخروج وهو في أشد حالات الارتباك، فأمسكته بربارة قائلة: «تمهل يا مرقس، فإنك ربما سرت إلى جهة غير التي ساروا فيها.»

ثم بعثت إلى الحاكم فحضر فقالت له: «إن سيدتي أرمانوسة توصيك بمساعدة هذا الشاب، فإن ابن حاكم القرية قد اختطف خطيبته وفرَّ بها، فابعث شرذمة من رجالك بثَّها في الطريق التي قد يسير فيها ذلك الغادر، وليبحثوا عنه ويأتوا به وبالفتاة حيثما وجدوهما.» فبعث الحاكم رجاله فرسانا ومشاة في كل الجهات. أما مرقس فإنه أخذ شرذمة من الرجال وخرج بهم، فلقيه زياد فسأله الخبر فأطلعه عليه فقال: «أنا أسير معك يا صديقي، ولا تخف فسآتيك بمارية في خير.»

فتفرقت السرايا على هذه الحال، وبقيت أرمانوسة وبربارة تنتظران النتيجة بفارغ الصبر، وقد شغلهما أمر مرقس كثيرًا؛ لأن ذهاب خطيبته كان — إلى حدٍّ ما — بسببها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤