الفصل العاشر

إزالة كل ما كان يساور النفوس من الشكوك «إنْ كان ثمة شيء منها» في أن المستر جنجل منزَّه عن الغرض.

***

لا تزال لندن تحوي عدة فنادق، كانت في سالف الدهر مركزًا للمركبات التي تؤدي الأسفار، وتقطع الرحلات في صورة أكثر جدًّا، وأفعل أثرًا مما يبدو من المركبات في هذه الأيام، ولكن تلك الفنادق قد انحطَّ شأنها اليوم، فلم تَعُدْ تزيد عن محطات ونقط لحجز أماكن في المركبات المسافرة إلى الريف، ولن يهتدي القارئ الآن إلى شيء من تلك الفنادق أو «الوكالات» القديمة، مهما يحاول البحث عنها بين فنادق الصليب الذهبي «الجولدن كروس»، و«الثور»، بل والأفواه «ماوثز» القائمة بواجباتها الرائعة في شوارع لندن التي دخل التحسين عليها، فإذا أراد فندقًا من تلك الفنادق القديمة، فَلْيوجه خطاه صوب أحياء المدينة المظلمة، ومعالمها الأثرية، فهو واجد في بعض زواياها المهجورة عدة فنادق كهذه، لا تزال قائمة تعلوها الكآبة، وينمُّ شكلها عن قوة التشبث بالبقاء في وسط الأبنية الحديثة المحيطة بها.

وفي قصبة لندن خاصة لا تزال ثمة بضعة فنادق عتيقة احتفظت بمعالمها الخارجية كما هي، فلم يطرأ عليها تغيير، ولم تتعرض لخطر الدعوة العامة إلى التحسين والتعمير، ولا استهدفت لمغامرات الأفراد بأموالهم في تجديد المباني وتشييد العمارات، وهي إلى اليوم تبدو عظيمة، متماسكة غريبة، ذات دهاليز وممرات ومدارج، ومن الرحابة وقدم العهد بحيث تكفي لتهيئة مواد موضوعات لمئات القصص عن المردة والعفاريت، إذا فرضنا أننا قد نتدهور إلى هذا الحد المؤسف من ابتكار شيء منها، أو وصل الإسفاف بنا إلى تأليف روايات على غرارها، أو إذا تصورنا أن الدنيا سوف تعيش حتى تستنفد الأساطير الصحيحة التي لا تُحصَى عن جسر لندن القديم، وما جاوره من الأحياء القائمة على جانب «صرى».

وفي فناء أحد تلك الفنادق، وهو فندق الأيل الأبيض (هوايت هارت) الذائع الصيت، كنت ترى ثمة رجلًا منهمكًا في تنظيف حذائه، في بكور الصباح التالي لليوم الذي وقعت فيه الحوادث التي سردناها عليك في الفصل السابق، وكان الرجل يرتدي صدارًا مخططًا تخطيطًا لا يدل على ذوق جميل، ذا ردنين أسودين من القطن، وأزرار زرق من الزجاج، وسراويل ذات لون كئيب، «وطماقًا» يكسو ساقيه، وقد لفَّ حول رقبته منديلًا أحمر خفيف الحمرة لفة غير محبوكة ولا متقنة، وألقى قبعة قديمة بيضاء بغير عناية على جانب من رأسه، وأمامه صفان من الأحذية، أحدهما قد فرغ من تنظيفه، وبقي الآخَر متسخًا لم يتناوله بعدُ، وكلما فرغ من مسح حذاء أضافه إلى مجموعة الأحذية التي نظَّفها، وكفَّ لحظة عن العمل يتأمل نتائجه بارتياح ظاهر.

ولم تكن ترتفع في جنبات الفناء تلك الجلبة التي امتازت بها أفنية الفنادق الكبيرة عادة، ولا بد فيه تلك الحركة الدائبة المعروفة عنها، بل كانت هنالك ثلاث مركبات أو أربع ضخمة، محملة أكداسًا من البضائع تلوح تحت أغطيتها الرحيبة، وترتفع إلى ما يقرب من ارتفاع النوافذ في الطبقة الثانية من أي منزل عادي، وهي مصفوفة تحت سقف مرتفع، يمتد على طول الفناء من أحد طرفيه، والغالب أنها كانت على وشك الخروج في ذلك الصباح؛ فقد أُخْرِجت من السقيفة إلى الجزء الفضاء من الفناء.

وحول جانبي الأرض الفضاء كليهما قام صف مزدوج من الدهاليز المؤدية إلى غرف النوم «بدرابزين» قديم مشوَّه الشكل، كما بدا صفان مزدوجان من الأجراس يحميهما من التقلبات الجوية سقف مغبر منحدر، من تحته باب يؤدي إلى «محل الشراب»، وغرفة القهوة، وقد سبقت عربتان صغيرتان وعربتان أخريان من عربات النقل إلى سقائف صغيرة مختلفة، وبين فترة وأخرى كان يرتفع صوت مركبة قادمة، أو حركة حلقات وسراج في الطرف الأقصى من الفناء، كأنما تعلن من يعنيه الأمر أن الإسطبل قائم في هذه الناحية من الفندق، فإذا قلنا أيضًا أن هناك بضعة غلمان في جلابيب فضفاضة بدوا رقودًا فوق الطرود الثقال، والرزم الضخمة، وغيرها من البضائع المتناثرة في أرجاء الفناء فوق أكداس من القش، فقد وصفنا بما فيه الكفاية مظهر فناء فندق الأيل الأبيض في «هاي ستريت»، ورسمنا صورته العامة كما كان يبدو في صباح ذلك اليوم الذي نتحدث عنه.

وأعقب ارتفاع صوت أحد الأجراس ظهور وصيفة رشيقة في الردهة العليا لغرف النوم، وبعد أن طرقت إحدى الحجرات وتلقَّتْ أمرًا ممَّن فيها، وقفت على رأس السلم تنادي قائلة: «يا سام …!»

وأجاب الرجل ذو القبعة البيضاء: «نعم!»

– «رقم ٢٢ يطلب حذاءه.»

– «اسألي رقم ٢٢ هل يريده الآن، أو ينتظر حتى يتلقاه؟»

وقالت الفتاة مداعبة: «هيا … يا سام … دَعِ الهزل والمزاح … العميل يريد حذاءه حالًا.»

فأجابها مساح الأحذية: «حسن، أنت شابة لطيفة تصلح للعمل مع فرقة موسيقية … انظري إلى هذه الأحذية هنا … أحد عشر زوجًا … ونعل لرقم ٦ ذي الساق الخشبية، والأحد عشر زوجًا مطلوبة في الساعة الثانية والنصف، والنعل في التاسعة … فمَن هو رقم ٢٢ حتى يتقدَّم الباقين جميعًا … لا … لا … كل إنسان بدوره … كما قال «جاك كش» حين راح يشد وثاق الجمع واحدًا بعد الآخر، آسف يا سيدي لأني جعلتك تنتظر … ولكني قادم إليك حالًا …»

وأقبل المساح على عمله، وكان يمسح حذاء طويلًا، وهو يضاعف نشاطه.

وتردد صوت جرس آخَر عاليًا، وظهرت ربة الفندق العجوز الكثيرة الحركة في الدهليز المقابل، وصاحت قائلة: «يا سام … أين ذلك البليد الكسول … آه … ها أنت ذا يا سام … لماذا لا ترد؟»

قال بخشونة: «ليس من حسن الذوق أن أردَّ حتى تنتهي من الكلام.»

قالت: «اسمع هنا … امسح هذا الحذاء لرقم ١٧ حالًا، وأحضره إلى قاعة الجلوس الخاصة رقم ٥ في الدور الأول.»

وطوحت ربة الفندق بحذاء أنثى في الفناء، وانصرفت مسرعة.

وتناول سام الحذاء، وأخرج قطعة من الطباشير من جيبه، وأخذ مذكرة على مشط النعل بها، وهو يقول لنفسه: «رقم ٥ حذاء سيدة، قاعة الجلوس الخاصة … لا أظنها جاءت في مركبة العفش.»

وصاحت الفتاة وهي لا تزال مستندة إلى سياج السلم: «لقد جاءت باكرة في هذا الصباح مع سيد في مركبة أجرة، وهو السيد الذي يريد حذاءه … أحسن لك أن تمسحهما … هذا هو كل ما في المسألة.»

قال في غضب شديد، مخرجًا الحذاء المشار إليه من الكومة المصفوفة أمامه: «لماذا لم تقولي ذلك من أول الأمر، فقد كنت فاهمًا أنه عمل غير ذي شأن من الذين لا يدفعون عادة أكثر من ثلاثة بنسات، وإذا بي أسمع … قاعة خاصة … وسيدة أيضًا، فإن كان سيدًا — كما قلت — فحقه أن يدفع شلنًا في اليوم، وأجرة الذهاب والإياب.»

وحفزه هذا الخاطر الملهم، فمضى في مسح الحذاء بالفرشاة بحماسة وإقبال صادقين، فلم تنقضِ بضع دقائق حتى كان الحذاء والنعل قد دُهِنَا بطلاء برَّاق، كان بلا ريب مثيرًا للحسد في نفس المستر وارن.

فقد كانوا في فندق الأيل الأبيض «هوايت هارت» يستعملون طلاء «داي ومارتن».

ووصل المساح إلى باب الغرفة رقم ٢٢.

وسمع صوت رجل من الداخل يقول: «ادخل.» ردًا على دَقَّة سام للباب.

وانحنى «سام» بأحسن ما لديه من الانحناءات، ومثل في حضرة سيدة ورجل كانا جالسين يتناولان طعام الفطور، وبعد أن سلم الحذاءين بكل الرسميات المطلوبة، ووضع أحدهما على اليمين، والآخر على اليسار عند قدمي السيد، ووضع حذائي السيدة مثلها عن يمينها ويسارها — تراجع خطوات نحو الباب.

وقال السيد: «الأحذية؟»

وأجاب سام: «نعم يا سيدي.» وهو يغلق الباب، ويُبقي يده على الأكرة.

قال: «هل تعرف … ما يسمى … بماذا؟ بحي الأطباء؟»

– «نعم يا سيدي.»

– «أين هو؟»

– «بحضرة كنيسة القديس بولس يا سيدي، وهناك باب مقوى خفيض على الجانب الذي تقف عنده المركبات، وبائع كتب في ركن منه، وفندق في الركن الآخَر، وحمالان في الوسط يعملان في استخراج الرخص.»

وقال السيد: «سمساران للرخص!»

وأجاب سام: «نعم، سمساران للرخص … وهما يلوحان في حلة بيضاء، ويلمسان قبعتيهما احترامًا عند دخولك، ويسألانك: «رخصة يا سيدي، رخصة؟» إنهما لَشخصان عجيبان يا سيدي … ومعلموهما عجيبون أيضًا … وكلاء محامين في محكمة «أولد بيلي»، وهذا كله صحيح لا خطأ فيه.»

وسأل السيد قائلًا: «وماذا يعملان؟»

قال: «يعملان … سبحان الله يا سيدي … يعملان ما لا يخطر ببال … يدخلان أشياء في رءوس أناس كبار السن لم يكونوا يحلمون بها في يوم من الأيام … كان والدي يا سيدي حوذيًّا … وكان أرمل أيضًا وبدينًا لا يصلح لشيء … سمينًا إلى حد غير مألوف … ماتت زوجته، وتركت له أربعمائة جنيه … فذهب إلى ذلك الحي لمقابلة المحامي ليسحب النقود … ذهب في هندام رشيق جدًّا … حذاء طويل، ووردة في عروة سترته … وقبعة عريضة الحاشية … ولفاعة خضراء … وجيه جدًّا … واجتاز الباب، وهو يفكر فيما عسى أن يفعل لاستثمار ذلك المال … وإذا السمسار يتقدم نحوه، ويرفع القبعة له ويسأله: «رخصة يا سيدي؟ … رخصة؟» فيقول والدي: «وماذا تكون هذه؟» فيقول صاخبًا: «رخصة يا سيدي؟» ويقول والدي: «أي رخصة تعني؟» فيجيبه السمسار: «رخصة الزواج!» ويقول والدي: «أي زواج! ما فكرت فيه مطلقًا.» فيعود السمسار يقول له: «أعتقد أنك محتاج إلى رخصة يا سيدي …» ويذهل والدي، ويفكر قليلًا ثم يقول: «لا … لا … إنني كبير في السن … ومفرط في السمنة إلى حد لا أصلح معه للزواج.» فيقول السمسار: «أبدًا والله … لست كذلك يا سيدي.» ويجيب الوالد: «لا أظن.» ولكن صاحبنا يقول له: «أنا متأكد أنك لست كذلك … لقد زوَّجْنا سيدًا في ضعفي بدانتك في يوم الإثنين الماضي.» ويقول الوالد: «أحقًّا؟» فيجيب السمسار: «فعلًا، وأنت طفل صغير بالنسبة إليه … من هنا الطريق يا سيدي، من هنا …» ومشى والدي في إثره كما يمشي القرد المستأنس خلف صاحبه حتى وصلا إلى مكتب منعزل، حيث جلس رجل وسط أوراق قذرة، وصناديق صفيح صغيرة؛ ليوهم أنه مشغول ولديه أعمال كثيرة، ويقول هذا المحامي للسيد الوالد: «تفضل اجلس ريثما أُتِم تحرير الإقرار.» فيقول أبي: «شكرًا لك يا سيدي.» ويجلس وهو محملق البصر، فاغر الفم على سعته، يتأمل الأسماء المكتوبة على الصناديق، ويسأله المحامي: «ما الاسم الكريم؟» فيجيب الوالد: اسمي «توني ولر». فيعود يسأله: «وأية أبرشية تتبع؟» ويقول أبي: «بل سفج.» وهو محل الشراب الذي كان قد عرج عليه في طريقه قبل حضوره، ولم يكن يعرف أية «أبرشيات»، أي والله لم يكن فعلًا يعرف، ويسأله المحامي: «وما اسم السيدة؟» فبهت الوالد، ولم يدرِ بماذا يجيب، قال: «والله لا أعرف.» ويقول المحامي: «لا تعرف! … كيف هذا؟» ويجيب والدي: «والله لا أدري … ألا يجوز أن نؤجل مسألة الاسم إلى ما بعدُ؟» ويقول المحامي: «مستحيل.» وهنا يفكر الوالد لحظة ثم يقول: حسنًا، اكتب «مسز كلارك». ويقول المحامي وهو يغمس القلم في الدواة: «أي كلارك؟» فيرد الوالد قائلًا: «سوزان كلارك ماركيز أوجرانبي من ناحية دركنج، فهي ستقبلني إذا طلبت ذلك إليها … أنا لم أقل شيئًا لها، ولكني أعرف أنها سترضى بي.» وهكذا تم تحرير الرخصة، والواقع أنها رضيت به، وأدهى من ذلك أنها الآن قابضة على خناقه، وأنا لم أَفُزْ بشيء من الأربعمائة جنيه … حظ سيئ … أرجوك المعذرة يا سيدي … كلما ذكرت هذه المظلمة، أجري كالعجلة الجديدة عقب «التشحيم».

وغادر «سام» الحجرة بعد أن وقف لحظة ليتبيَّن هل هو مطلوب لشيء آخَر.

وقال السيد: «ولسنا بحاجة إلى تقديمه للقارئ، فهو المستر جنجل بعينه، الساعة التاسعة والنصف … هذا هو الوقت الملائم … فلأذهب في الحال …»

وقالت العمة العانس بدلال ودعابة: «الوقت الملائم … لأي شيء؟»

قال وهو يضغط يد العمة العانس: «للرخصة يا أعز الملائكة، وإعطاء خبر للكنيسة لكي أدعوكِ مليكتي غدًا …»

وقالت راشل بحياء: «الرخصة …؟»

وردَّد المستر جنجل الكلمة، وترنم قائلًا:

«في سرعة العربة للرخصة أذهب …»

«وفي عجلة، دقات الجرس أءوب …»

قالت: «ما أشد استعجالك!»

قال: «استعجالي! لا شيء يقف أمام الساعات والأيام والأسابيع، والشهور والأعوام التي ستوحد بيننا وتجمعنا … أنا مستعجل، ستطير كلها … مقلقًا … وفوهة … وقاطرة … قوة ألف حصان … لا شيء.»

وسألت راشل: «ألا يمكن … ألا يمكننا أن نقترن قبل صباح غد؟»

قال: «مستحيل، لا يمكن … إبلاغ الكنيسة … استخراج الرخصة اليوم … الاحتفال بالقران غدًا.»

وقالت راشل: «إني في هلع من أن يكشف أخي أمرنا.»

قال: «يكشف أمرنا! … كلام فارغ … هزته كسرة المركبة هزة شديدة … وبجانب ذلك … اتخذتُ أشد الحيطة … تركنا المركبة … مشينا … أخذنا عربة مأجورة … جئنا إلى «الضاحية» … آخر مكان في العالم يخطر بباله أن يبحث فيه عنا … ها … ها … فكرة مفتخرة هذه، جدًّا.»

وقالت العانس بحب، وهو يلصق قبعته الضيقة برأسه: «لا تَغِبْ.»

قال: «أغيب عنك … أيتها الفاتنة القاسية!» … وأسرع في مجانة إلى العمة العانس، وطبع قبلة بريئة على شفتيها، واندفع من الحجرة وهو يرقص.

وقالت العمة العانس وهو يغلق الباب وراءه: «يا له من عزيز!»

وقال هو لنفسه وهو منصرف من الردهة: «يا لها من فتاة عجوز بديعة!»

ومن المؤلم للخاطر أن يتمثل المرء منا مبلغ غدر الإنسان ولؤمه، ولهذا لا نبغي أن نتابع خيط أفكار المستر جنجل وسلسلة تصوراته وهو منطلق في طريقه إلى حي الأطباء، وإنما حسبنا في هذا المجال أن نقول إنه أفلت من شراك السمسارين الواقفين بالمرصاد في بذلتيهما ذواتي اللون الأبيض.

ووصل إلى مكتب القسيس العام بسلام، وبعد أن ظفر بكتاب رقيق لطيف العبارة، محرَّر على ورق مصقول جميل من كبير أساقفة كانتربري إلى عزيزيه المخلصين «ألفرد جنجل»، و«راشل واردل» تحيات وسلامًا، وبعدُ … إلخ. وضع بكل حذر الوثيقة الشرعية في جيبه، وعاد أدراجه منتصرًا إلى المدينة.

وبينما كان في طريقه إلى الفندق؛ إذ دخل الفناء سيدان بدينان، وآخر نحيف، وتلفتوا حولهم للبحث عن شخص مسئول يمكن الحصول منه على بضعة معلومات، واتفق أن كان المستر صمويل ولر منهمكًا عندئذٍ في تلميع حذاء طويل لمزارع جلس يستمتع بغداء خفيف، يتألف من رطلين أو ثلاثة أرطال من اللحم البارد، وجرة أو جرتين من النبيذ، بعد متاعب السوق.

وتقدَّم السيد النحيف رأسًا إلى المستر صمويل ولر فقال: «يا صديقي!»

وقال «سام» لنفسه: «يظهر أنك من الذين يطلبون المشورة، ولا يدفعون شيئًا، وإلا لما حييتني هكذا مسرعًا، ودعوتني صديقًا …»

ولكنه أجاب السائل قائلًا: «نعم يا صديقي!»

وقال السيد النحيف بنحنحة مغرية: «اسمع يا صديقي … هل لديكم هنا نزلاء كثيرون الآن … والحركة طيبة؟»

واختلس سام نظرة إلى السائل، فبدا له أنه رجل نحيف، «ضامر» ذو وجه أسمر مغلق، وعينين صغيرتين خلاجتين، لا تكفان عن الغمز والاختلاج واللمع على كلا جانبي أنفه الدقيق الملح، وكان مرتديًا ثيابًا سوداء، ومنتعلًا حذاء براقًا كعينيه، وغطاء رقبة صغيرًا أبيض اللون، وقميصًا نظيفًا متغضنًا، وسلسلة ساعة ذهبية، وخاتمًا متدليًا من جيب صداره، وكان يحمل قفازًا أسود من جلد الماعز في يديه، لا عليهما، وكلما تكلم ألقى بمعصميه تحت ذيل ردائه، فِعْل الرجل الذي اعتاد حل المشكلات.

وعاد الرجل النحيل يسأل قائلًا: «الحركة طيبة، هه؟»

وأجاب سام: ««طيبة جدًّا يا سيدي، فلا يُنتظر أن نفلس، ولا أن نغتني، يكفينا أننا نأكل لحم الضأن المسلوق بغير قبار، ولا يهمنا الفجل الحراق ما دمنا نجد لحم العجول.»

وقال الرجل النحيل: «أراك ابن نكتة … أفأنت كذلك؟»

وأجاب سام: «كان أخي الكبير مصابًا بهذا المرض، ومن الجائز أنه من الأمراض المعدية … وقد اعتدت أن أنام معه.»

وعاد السيد النحيف يقول وهو يدير عينيه فيما حوله: «وهل هذا الفندق القديم العجيب لك؟»

وأجاب سام بكل برود: «لو كنت أرسلت خبرًا أنك قادم لأصلحناه ورممناه.»

وبدت على الرجل النحيف الحيرة من هذه الردود المسكنة؛ فاختلي بالسيدين البدينين للمشاورة، ولم يكد يتم تبادل الرأي حتى تناول شيئًا قليلًا من علبة سعوطه الفضية المستطيلة الشكل، وهَمَّ بتجديد الحديث، لولا أن أحد السيدين الضخمين، وهو رجل تلوح الطيبة على وجهه، ويضع منظارًا على عينيه، ويلبس «طماقًا» أسود اللون، بادر إلى التدخل قائلًا لسام: «إن واقع الأمر هو أن صديقي هذا — مشيرًا إلى السيد البدين الآخر — سيعطيك نصف جنيه إذا أنت رددت على سؤال أو سؤالين …»

ولكن السيد النحيل قاطعه بقوله: «كلا … يا سيدي العزيز كلا، يا سيدي العزيز! من فضلك اسمح لي يا سيدي العزيز! إن المبدأ الأول الذي ينبغي أن يراعى في هذه المسائل هو أنك إذا وضعت مسألة ما في يدي أحد أرباب المهنة، فلا يجوز لك بأية حال أن تتدخل في سيرها، بل يجب أن تضع فيه ثقتك المطلقة، وفي الحقيقة يا مستر …»

والتفت إلى السيد الآخَر البدين: «لقد نسيت اسم صديقك.»

وأجاب المستر واردل «بكوك»، ولم يكن الرجل المعني بالسؤال أحدًا غير صاحب هذه الشخصية المرحة.

وواصل السيد النحيف حديثه قائلًا: «وفي الحقيقة يا مستر بكوك أستميحك المعذرة يا سيدي العزيز، وفي الحقيقة إني ليسعدني أن أتلقى أية مقترحات منك «بصفة ودية» — كما نقول نحن رجال القانون — ولكن لا يخفى عليك بطبيعة الحال مبلغ الخطأ البالغ من تدخلك في تصرفاتي في هذه القضية، بهذا الاقتراح الذي تعرض فيه دفع نصف جنيه، إنه اقتراح من النوع الذي نسميه في اصطلاحنا القانوني «إغراء»، في الحقيقة يا سيدي العزيز، في الحقيقة …»

وتناول السيد النحيل قدرًا «جدليًّا» من سعوطه، وبدا عليه الجد المتناهي.

وقال المستر بكوك: «إن كل رغبتي يا سيدي هي أن أنهي هذه المسألة المؤلمة في أسرع وقت ممكن.»

وأجاب السيد النحيف: «صح … صح … تمام!»

وواصل المستر بكوك حديثه قائلًا: «وفي سبيل تحقيق هذا الغرض استعنت بالحجة التي علَّمتني التجارب أنها الوسيلة التي يغلب على الظن أنها الطريقة الناجحة في كل قضية.»

وقال الرجل النحيل: «حسن جدًّا … حسن جدًّا، فعلًا، ولكن كان يصح أن تقترحها عليَّ أنا أولًا، إنني واثق يا سيدي العزيز أنك لست تجهل مدى الثقة التي ينبغي أن تُوضَع في أرباب المهنة، وإذا لم يكن بد في هذه النقطة من الاستناد إلى السوابق والأمثال؛ فدعني يا سيدي العزيز أحيلك إلى القضية المشهورة في بارنول و…»

وهنا قاطعه سام، وكان قد لبث يستمع في دهشة خلال هذا الحوار القصير، فقال: «إن مسألة جورج بارنول لا تهم في الموضوع، كل إنسان يعرف أي نوع من القضايا كانت قضيته، وإن كان رأيى الذي لا أتحول عنه، أتفهمني؟ كان رأيي الثابت أن المرأة الشابة كانت تستحق الشنق أكثر منه، ولكن هذه المسألة — على أية حال — غير ذي بال، أنت تريد مني أن أقبل نصف جنيه، حسن جدًّا، وأنا قبلت، هذا هو ما أقوله، وليس عندي قول أحسن منه.» والتفت إلى المستر بكوك قائلًا: «هل يمكنني ياسيدي؟» وهنا ابتسم المستر بكوك وقال: «ثم ننتقل إلى المسألة الأخرى، ماذا بالله تريد مني، كما قال الرجل حين رأى العفريت؟»

وهنا قال المستر واردل: «نريد أن نعرف …»

وقاطعه السيد النحيف المترقب لكل كلمة: «والآن يا سيدي العزيز، يا سيدي العزيز!»

فهز المستر واردل كتفيه، ولزم الصمت.

وواصل السيد النحيف حديثه بجد بالغ: «نريد أن نعرف، نريد أن نسألك أنت؛ حتى لا نثير مخاوف في الداخل، نريد أن نعرف مَن هم النزلاء في اللحظة الراهنة في الفندق؟»

وأجاب سام: «مَن هم النزلاء؟» ولم يكن يعرف النزلاء إلا بذلك الجزء الخاص من ثيابهم الذي يقع تحت ملاحظته مباشرة، ونعني به «الأحذية»، ومضى يقول: «عندنا الساق الخشبية في رقم ٦، وعندنا زوجان من الروس في رقم ١٣، وعندنا «نصفان» في التجاري، وهذا الحذاء الطويل الممسوح للجالس في ركن منزوٍ من «محل الشراب» … وخمسة أحذية طوال أخرى في غرفة القهوة.»

وعاد السيد النحيف يسأله: «أليس هناك آخرون؟»

فأجاب سام وقد تذكر فجأة: «قِفْ لحظة، نعم عندنا زوج أحذية طراز ولنجتون، طال العهد على انتعاله، وزوج من أحذية السيدات في رقم ٥.»

وسأله واردل في عجلة، وكان هو والمستر بكوك قد استولى الذهول عليهما عند استعراض أوصاف النزلاء على تلك الصورة: «أي نوع من أحذية النساء هو؟»

فأجاب سام: «من صنع الريف.»

– «وهل كُتِب عليه اسم الصانع؟»

– «أي نعم، براون.»

– «ومن أي بلد؟»

– «من ماجلتون.»

فصاح المستر واردل قائلًا: «هما، والله لقد اهتدينا إليهما.»

وعاد سام يقول: «صه، أما الولنجتون فقد ذهب إلى حي (الأطباء).»

وقال السيد النحيف: «كلا، أأنت واثق؟»

فقال: «نعم، لأجل الرخصة.»

وعاد واردل يصيح قائلًا: «لقد أتينا في الوقت المناسب هيا، أرنا الحجرة، فلا ينبغي أن نضيع لحظة واحدة.»

وتدخل السيد النحيف قائلًا: «أرجوك يا سيدي العزيز، أرجوك، الاحتياط، الاحتياط.» وأخرج من جيبه كيسًا من الحرير الأحمر، ونظر طويلًا في وجه «سام» وهو يخرج من الكيس جنيهًا ذهبيًّا.

وتهللت أسارير سام على مشهده.

وقال السيد النحيل: «أَرِنا الحجرة في الحال، دون أن تعلن قدومنا.»

فألقى سام الحذاء الطويل الممسوح في ركن، وتقدَّم الجمع يشق الطريق من خلال دهليز مظلم، ويصعد بهم سلمًا رحيبًا، ووقف في نهاية دهليز آخر، ومد يده، وهمس للمحامي وهو يضع النقود في كفه: «ها هو ذا.»

وتقدَّم سام بضع خطوات يتبعه الصديقان، ومستشارهما القانوني، حتى وقف بباب هنالك.

وغمغم السيد النحيف قائلًا: «أهذه هي الغرفة؟»

فأومأ سام إيماءة الإيجاب.

وفتح الشيخ واردل الباب، ودخل الثلاثة كلهم في اللحظة التي كان فيها المستر جنجل قد عاد من مهمته، ووقف يبرز الرخصة أمام العمة العانس.

ولم تكد هذه تراهم حتى أطلقت صرخة مدوية، وارتمت على مقعد، وغطت وجهها بيديها، وطبق المستر جنجل الرخصة في كفه، ودسها في جيب ردائه، بينما تقدَّم الزائرون الثقلاء إلى وسط الغرفة، وصاح واردل وهو لاهث من شدة الغضب يقول: «أنت، أنت وغد عجيب، ألست كذلك؟»

وقاطعه السيد النحيف، وهو يضع قبعته فوق النَّضَد: «يا سيدي العزيز … يا سيدي العزيز! أرجو أن تفكر من فضلك — هذا سب علني يستوجب رفع قضية تعويض، هدئ روعك يا سيدي العزيز — أرجوك!»

وقال الشيخ: «كيف سوَّلت لك نفسك أن تجر أختي من بيتي؟»

وعاد السيد النحيف يقول: «هذا كلام صحيح … صح، تمام، يجوز لك أن تسأله هذا السؤال، كيف سولت لك النفس يا سيدي؟»

وقال المستر جنجل بلهفة حادة خشنة: «ومَن تكون أنت؟»

واضطر السيد النحيف من حدة لهجة السائل وخشونته إلى التراجع خطوة أو خطوتين.

وتدخل واردل قائلًا: «من يكون هو أيها الوغد؟ إنه المحامي عني المستر بركر من «جرايزان» … يا بركر، إنني أصر على مقاضاة هذا الشقي، ومحاكمته، وتخريب بيته، وأنتِ … (ملتفتًا فجأة إلى أخته) وأنتِ يا راشل في هذه السن التي كان أولى بك فيها أن تكوني أحكم وأحجى، ماذا تقصدين بالفرار مع متشرد كهذا، وتعريض سمعة أسرتك للعار، والاستهداف لهذا البؤس والشقاء؟ هلمي البسي قبعتك وعودي، ادع لنا مركبة يا هذا في الحال، وهات حساب هذه السيدة، هل سمعت؟ هل أنت سامع؟»

وأجاب سام، وقد جاء مهرولًا حين سمع دق الباب بعنف شديد؛ مما يثير الدهشة في نفس أي إنسان لا يعرف أن عينه كانت تطل من خصاص الباب طيلة هذا الحديث الذي دار في الحجرة: «حالًا يا سيدي!»

وعاد واردل يقول لأخته: «البسي القبعة!»

وقال جنجل: «لا تفعلي شيئًا كهذا، وأنت يا سيدي اخرج من هنا، ليس لك عمل هنا، السيدة حرة تتصرف كما تشاء؛ لأنها تجاوزت الحادية والعشرين.»

وصاح واردل باحتقار: «تجاوزت الحادية والعشرين! قُلْ الحادية والأربعين!»

وقالت العمة العانس، وقد تغلب الغضب في نفسها على اعتزامها الإغماء: «كلا، لم أتجاوزها.»

وأجابها أخوها قائلًا: «بل تجاوزتها، أنت لا تقلين عن الخمسين ساعة واحدة!»

وعندئذٍ أطلقت العمة العانس صرخة شديدة، وغابت عن رشدها.

وبادر المستر بكوك الإنساني الرحيم إلى مناداة ربة الفندق وهو يقول: «كوبًا من الماء.»

وصاح واردل في شدة غضبه: «كوبًا من الماء! هاتوا جردلًا فألقوه على بدنها كله لكي تفيق، إنها تستحق كل ما جرى لها.»

وصرخت ربة الفندق الحنون قائلة: «يا لك من حيوان! ما أشقاك يا أختي!» وطفأت تلاطفها قائلة: «هلمي أفيقي! اشربي قليلًا من هذا يفقك، لا تستسلمي هكذا يا حبيبتي.» إلى غير ذلك. وأخذت ربة الفندق بمعونة إحدى الوصيفات تمسح بالخل جبين العمة العانس، وتضرب كفيها، وتدغدغ أنفها، وتفك حمائل ثدييها، وتعطيها المنبهات ما تعطيه النساء الرحيمات عادة للسيدات اللائي يحاولن تهييج أنفسهن، والالتجاء إلى التشنج.

وقال سام وقد ظهر لدى الباب: «المركبة جاءت يا سيدي.»

وصاح واردل: «هيا بنا، سأحملها وأنزل بها السلم.»

وعند هذا الاقتراح عاد التشنج إلى العمة العانس بشدة مضاعفة.

وهمت ربة الفندق بالدخول في احتجاج شديد على هذا التصرف، وبدأت فعلًا تغضب وتسأل واردل هل يحسب نفسه رب الخليقة، وعندئذٍ تدخَّل المستر جنجل قائلًا: «مساح! ادعُ لي ضابطًا …!»

وأهاب السيد النحيف بالمساح قائلًا: «قف، قف.» والتفت إلى المستر جنجل فقال: «فَكِّرْ يا سيدي، فَكِّرْ.»

وأجاب هذا: «لن أفكِّر، إنها سيدة نفسها، وسأرى مَن الذي سيجرؤ على أخذها، إلا إذا شاءت هي.»

وغمغمت العمة العانس تقول: «لا يمكن أن أوخذ، لا أريد، وهنا عاودتها الغشية المروعة.»

وقال السيد النحيف بصوت خافت وهو ينتحي المستر واردل، والمستر بكوك ناحية: «يا سيدي العزيز، يا سيدي العزيز، إننا في موقف جد حرج، وقضية مؤلمة جدًّا، لا أذكر أنني شهدت يومًا أسوأ منها، ولكن في الحقيقة يا سيدي، في الحقيقة لسنا نملك السيطرة على تصرفات هذه السيدة، وقد حذرتك.»

وسأل المستر بكوك: «بأي نوع من الترضية تشير؟ قبل مجيئنا يا سيدي العزيز إنه لا سبيل أمامنا غير الترضية.»

قال: «إن صديقنا يا سيدي العزيز في موقف لا يسر، في موقف سيء جدًّا؛ فَلْنقنع بعرض بعض المال ولو خسرناه.»

وقال واردل: «إنني لأوثر أن أخسر شيئًا منه على التسليم بهذه الفضيحة، وتعريض هذه الحمقاء لشقاء مؤبَّد.»

وقال السيد النحيف الهمام: «أظن أن هذا ممكن … يا مستر جنجل، تفضل معنا إلى الغرفة المجاورة لحظة.»

وأجاب المستر جنجل الطلب، ودخل الأربعة حجرة خالية، وبدأ السيد النحيف الحديث بعد أن أغلق الباب بعناية فقال: «والآن يا سيدي، هل من وسيلة لتصفية هذه المسألة؟ تقدَّمْ خطوة إلى هذه الناحية يا سيدي ولو لحظة.»

تعال إلى النافذة يا سيدي؛ حيث تتيسر الخلوة لنا، هكذا يا سيدي، أرجو أن تجلس يا سيدي، والآن يا سيدي العزيز بيني وبينك إننا نعرف حق المعرفة أنك هربت مع هذه السيدة من أجل المال، لا تعبس يا سيدي، لا تعبس، بيني وبينك نحن نعرف ذلك، ونحن — أنا وأنت — من الرجال الذين يعرفون شئون العالم، ولا يخفى علينا نحن أن هذين الصديقين ليسا كذلك؟»

وبدأ وجه المستر جنجل ينطلق شيئًا فشيئًا، ويزول العبوس منه، ولاح شيء يشبه الاختلاج لحظة خاطفة في عينه اليسرى.

وقال السيد النحيف وقد لاحظ هذه الاختلاجة التي أحدثها كلامه: «حسن جدًّا … حسن جدًّا، والواقع أن السيدة لا تملك شيئًا كثيرًا، بل إنها عدا بضع مئات لا تملك في الحقيقة شيئًا قبل وفاة أمها، ولكن أمها يا سيدي العزيز عجوز دَرْدَبِيس، وصحتها قوية.»

وقال المستر جنجل بإيجاز، ولكن بتأكيد: «عجوز!»

ومضى المحامي يقول وهو يسعل سعلة خفيفة: «أي نعم يا سيدي العزيز، إنها عجوز تقريبًا، ولكنها سليلة بيت قديم، نعم يا سيدي العزيز، قديم بكل معنى الكلمة، لقد جاء مؤسس هذه الأسرة إلى ولاية «كنت» حين غزا يوليوس قيصر أرض بريطانيا، ولم يحدث يومًا أن فردًا من الأسرة — اللهم إلا واحدًا — لم يعش إلى الخامسة والثمانين، ولكن هذا الواحد مات شنقًا في عهد هنري ما، هنري هذا أو ذاك، والسيدة العجوز في الثالثة والسبعين فقط الآن يا سيدي العزيز.»

وتمهل السيد النحيف، وتناول قدرًا من سعوطه.

وقال المستر جنجل: «وماذا أيضًا؟»

قال: «والآن ألا تتنشق؟ هذا أفضل كثيرًا، عادة كثيرة التكاليف، وأنت يا سيدي العزيز شاب ملمٌّ بشئون الدنيا، وفي إمكانك أن تدفع بحياتك إلى الأمام إذا توافر لك شيء من المال.»

وعاد المستر جنجل يقول: «وماذا أيضًا؟»

قال: «هل تفهم مرادي؟»

أجاب: «ليس كثيرًا.»

قال: «أَلَا ترى يا سيدي العزيز؟ دَعْني أصارحك، أَلَا ترى أن خمسين جنيهًا والحريةَ خيرٌ من واردل والانتظار؟»

وعندئذٍ نهض المستر جنجل من مجلسه، وهو يقول: «لا يكفي، بل لا يكفي ولا نصف الكفاية.»

ولكن السيد النحيف أمسك به من زر ثوبه محتجًّا وهو يقول: «حسن، حسن، انتظر يا سيدي العزيز، رقم مستدير بديع، يستطيع رجل مثلك أن يبلغ به ثلاثة أضعافه في وقت قصير، إن خمسين جنيهًا يا سيدي العزيز تعمل عملًا كبيرًا.»

وقال المستر جنجل ببرود: «ومائة وخمسون تعمل أكثر.»

وعاد السيد النحيف يقول: «حسن … يا سيدي العزيز، لا يصح أن نضيع الوقت في تجزئة القش، قل … قل سبعين!»

قال: «لا يكفي.»

وقال المحامي: «لا تذهب يا سيدي العزيز، ولا تسرع، ثمانين، هلم، سأكتب لك صكًّا بها في الحال.»

وعاد المستر جنجل يقول: «لا تكفي.»

وقال السيد النحيف وهو يمسك به: «حسن، حسن، يا سيدي العزيز، قل لي أنت ما الذي يكفي إذن؟»

وأجاب المستر جنجل: «مسألة كلفتني نفقات كثيرة دفعتها من جيبي … أجور سفر تسعة جنيهات … رخصة ثلاثة جنيهات … الجملة اثنا عشر جنيهًا … ومائة بصفة تعويض … تكون الجملة ١١٢ … إخلال بالتعهد، وفقدان السيدة …»

وقال السيد النحيف بنظرة العارف: «نعم يا سيدي العزيز، نعم ولكن دعنا من الفقرتين الأخيرتين، يعني مائة واثني عشر جنيهًا، فَلْنقل مائة فقط، هيا!»

وأجاب المستر جنجل: «مائة وعشرون.»

وقال السيد النحيف بنظرة العارف: «نعم يا سيدي العزيز صكًّا بها.»

وجلس إلى المنضدة لتنفيذ هذا الاتفاق.

وقال وهو ينظر إلى المستر واردل: «سأجعل الوفاء بعد غد، وفي الوقت ذاته يمكننا أن نأخذ السيدة الآن.»

وأومأ المستر واردل إيماءة الموافقة وهو غاضب.

وقال المستر بركر: «مائة.»

وعاد المستر جنجل يقول: «مائة وعشرون.»

واحتج السيد النحيف قائلًا: «يا سيدي العزيز!»

وتدخل المستر واردل فقال: «أعطه القدر المطلوب، ودَعْه يذهب.»

وتم تحرير «الصك»، ودسه المستر جنجل في جيبه.

ونهض المستر واردل وهو يقول: «والآن انصرف من هذا المكان في الحال!»

وقال السيد النحيف «يا سيدي العزيز …»

وعاد المستر واردل يقول: «ولا تنسَ أنه ما كان شيء في هذا العالم ليحملني على هذا الحل، حتى ولا الإبقاء على كرامة أسرتي، لو لم أعرف أنك في اللحظة التي ستذهب فيها، والمال في جيبك هذا، ذاهب إلى الشيطان أسرع ما تكون خطى، وأعجل إذا أمكن مما كنت إليه ذاهبًا، وأنت لا تملك منه شيئًا.»

وعاد السيد النحيف يحتج قائلًا: «يا سيدي العزيز …!»

واستتلى واردل يقول: «اسكت يا بركر. وأنت يا سيدي انصرف من الحجرة.»

وأجاب المستر جنجل بكل صفاقة: «حالًا … وداعًا يا بكوك! إلى الملتقى.»

ولو أن امرءًا هادئ الطبع رأى وجه ذلك الرجل العظيم الذي وسم هذا الكلب باسمه، خلال الجزء الأخير من ذلك الحديث، لكاد يعجب لنار الغضب التي تأججت في عينيه كيف لم تُذِبْ زجاجة منظاره، فقد كان غضبه رهيبًا جليلًا، وخيشومه راعشًا، وقبضتا يديه مجتمعتين رغم إرادته، حين سمع اسمه ينبعث من فم ذلك المجرم الأثيم، ولكنه كبح جماح غضبه مرة أخرى، فلم … «يسحقه»!

ومضى ذلك الخائن الغليظ يقول وهو يلقي بالرخصة عند قدمي المستر بكوك: «خُذْ وغَيِّر الاسم، وعُدْ بالسيدة إلى البيت، إنها تصلح لطبي …»

وكان المستر بكوك فيلسوفًا، ولكن الفلاسفة مع ذلك ليسوا إلا بشرًا يلبسون دروعًا تقيهم الطعن والضرب، وقد أصابه السهم، ونفذ في دروعه الفلسفية إلى صميم قلبه فأصمه، وفي جِنَّة الغضب الذي استولى عليه راح يقذف بالدواة إلى الأمام في جنون، ويندفع هو نفسه وراءها، ولكن المستر جنجل كان قد توارى؛ فوجد المستر بكوك نفسه في أحضان «سام»!

وصاح هذا العامل الشاذ الغريب الأطوار: «ها! يظهر أن الأثاث رخيص في البلد الذي جئت منه يا سيدي، هذا حبر يكتب بنفسه يا سيدي، أَلَا ترى كيف كتب علامتك على الجدار أيها السيد الكبير؟ هدِّئ روعك يا سيدي، ما الفائدة من الجري وراء رجل ظفر بالحظ، ووصل إلى الطرف الآخر من الضاحية في هذه اللحظة؟»

وكان عقل المستر بكوك كعقول بقية العظماء حقًّا مهيأ للاقتناع، وهو المفكر السريع القوي العارضة، فلا غرو إذا كانت لحظة تفكير واحدة كافية لتذكيره بأن غضبه لا أثر له، ولا جدوى منه، فلم يلبث أن هدأ بالسرعة ذاتها التي هاج بها وثار، وراح يلهث وينظر نظرة حنان وطيبة إلى صديقَيْه.

والآن، هل نحدثكم عن العويل الذي جرى حين وجدت مس واردل نفسها مهجورة، قد تخلى عنها جنجل الغادر؟ وهل نحدثكم بشيء مما كتبه المستر بكوك من وصف رائع لذلك المشهد الذي يقطع نياط القلوب؟»

إن كناشته التي محت أسطرها دموع العطف الإنساني مبسوطة الساعة منثورة بين أيدينا، وكلمة واحدة تذهب بها إلى أيدي الصفاقين والطامعين … ولكن كلا! ينبغي أن نحزم الأمر، فلا نهز صدر الجمهور برسم ذلك الألم الشديد.

وحسبنا أن نقول: إن الصديقين والسيدة المهجورة عادوا بحزن ووجوم وبطء إلى البيت في غداة اليوم التالي في مركبة ماجلتون الكبيرة، كانت ظلال المساء القاتمة قد غمرت ما حولهم حين وصلوا إلى «دنجلي ديل»، ووقفوا في مدخل «ضيعة مانور».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤