الفصل الحادي عشر

رحلة أخرى – وكشف أثري – وتسجيل اعتزام المستر بكوك حضور معركة انتخابية – ومخطوط من القسيس الشيخ.

***

وكانت ليلة هدوء وراحة في ذلك السكون التام الذي يحيط بمزرعة «دنجلي ديل»، وساعة كاملة في استنشاق أنسامها العليلة، وهوائها العطر، في صباح اليوم التالي، كافية لاستجمام المستر بكوك من أثر تعبه الجثماني الأخير، وقلقه النفسي، فقد غاب هذا الرجل العظيم عن أصحابه ومريديه يومين كاملين، فلا غرو إذا هو شعر بقدر من السرور والابتهاج، لا يستطيع الخيال العادي أن يتصوره على حقيقته، حين تقدم خطوة للسلام على المستر ونكل، وتحية المستر سنودجراس، عندما التقى بهما بعد عودته من رياضته في بكرة الصباح.

وكان السرور متبادلًا، ومَنْ ذا الذي ينظر إلى وجه المستر بكوك المشرق المتهلل، ولا يشعر بهذا الشعور؟ ولكن بدت على صديقَيْه غمامة لم تكن لتفوت عين ذلك الرجل العظيم، أو تخفى على مشاعره، وإن عجب وحار في تعليلها، فقد كان يلوح عليهما معًا شيء غريب، غير مألوف، بل مزعج أيضًا.

وقال المستر بكوك وهو يتلقى صاحبيه باليدين، ويبادلهما أصدق التحيات والترحاب: «وكيف حال طبمن؟»

ولم يحر المستر ونكل جوابًا، وإن كان السؤال موجهًا إليه خاصة، أو أكثر من صاحبه، بل أشاح بوجهه، وبدا عليه الاستغراق في تفكير أليم.

وعاد المستر بكوك يقول بجد: «كيف حال صديقنا يا سنودجراس؟ إنه ليس مريضًا؟»

وأجاب المستر سنودجراس وقد تحيرت دمعة في مآقيه كقطرة من قطرات المطر على إطار نافذة: «كلا، ليس مريضًا.»

ووقف المستر بكوك ينقل عينيه في صديقيه.

قال: «ونكل، سنودجراس، ما معنى هذا، أين صديقنا، وما الذي حدث؟ تكلَّمَا أستحلفكما بالله، أناشدكما، بل آمركما أن تتكلما.»

وكانت دعوة المستر بكوك إليهما مقترنة برهبة وجلال لا يستطيعان مقاومتهما.

وهنا قال المستر سنودجراس: «لقد ذهب!»

فصاح المستر بكوك: «ذهب! ذهب!»

وعاد المستر سنودجراس يقول: «ذهب.»

وصاح المستر بكوك قائلًا: «إلى أين؟»

وأجاب المستر سنودجراس وهو يُخرِج كتابًا من جيبه، ويضعه في يد صديقه: «ليس في وسعنا غير الحدس والتخمين بعد قراءة هذا الكتاب، وقد لوحظ صباح أمس حين وصل كتاب من المستر واردل، يقول فيه إنه عائد مع أخته ليلًا، أن الكآبة التي كانت مخيمة على صديقنا طيلة اليوم السابق قد أخذت تشتد، ولم يلبث أن اختفى سحابة النهار كله، وجاء بهذا الكتاب في المساء رسول من فندق «الكراون» في ماجلتون، وقال إنه تركه لديه في الصباح مع تعليمات مشدَّدة بألا يُسلَّم الكتاب قبل حلول المساء.»

وفض المستر بكوك الرسالة، فوجدها بخط صاحبه، وهي تحوي هذه الكلمات:

عزيزي بكوك:

إنك يا صديقي العزيز بعيد بمراحل من منال كثير من مواطن الضعف الخلقي التي لا يستطيع الناس الغلبة عليها، ولست تدري ما مدى مصاب رجل حين تهجره فجأة إنسانة محببة، ومخلوقة فاتنة، وحين يقع فريسة لاحتيال مجرم شقي، جعل يُخفِي بسمة الخبث والمكر خلف قناع المودة، وأرجو الله أن لا يعرضك يومًا لمثل هذا المصاب …

إن أي كتاب يرسل بعنواني هذا: «لذر بوتل — قربة الجلد، كوبهام — كنت» سيجدني، إذا فرضنا أنني سأظل حيًّا، إني مسارع من مشهد هذه الدنيا التي أصبحت قبيحة نكراء في عيني، فإنْ أنا سارعت من هذا العالم كله، فرحمة بي، ومغفرة لي.

إن الحياة يا عزيزي بكوك لم تَعُدْ تطاق عندي أو تحتمل، وإن الروح التي تحترق فينا لأشبه بعقدة الحمال يريح عليها المرء أثقال همومه، وأحمال متاعبه، فإذا هي خذلتنا، لم نعد نطيق لأحمالنا وأعبائنا احتمالًا، بل نروح تحتها … لك أن تنبئ راشل … آه … من ذلك الاسم! …

تراسي طبمن

وانثنى المستر بكوك يقول وهو يطوي الكتاب: «يجب أن نغادر هذا المكان في الحال … ما كان يجمل بنا أن نمكث فيه بأي حال بعد الذي جرى، ونحن الآن مضطرون إلى السفر لافتقاد صديقنا.»

ومشى في المقدمة صوب البيت.

وبادر إلى إعلان عزيمته، وكانت دعوات القوم له ومناشدتهم إياه البقاء صادقة ملحة، ولكن المستر بكوك لم ينثنِ عن عزمه، ولم يلن لرجاء، معتذرًا بأن عملًا كثيرًا يقتضيه الاهتمام العاجل به.

وكان القسيس الشيخ حاضرًا، فانتحى بالمستر بكوك ناحية، وأنشأ يقول: «لا أحسبك ذاهبًا في الواقع، أذاهب حقًّا؟»

فردَّد المستر بكوك القول بأنه فعلًا مسافر.

وقال السيد الكبير: «إذن هاك مخطوطًا صغيرًا كنت أرجو أن تتاح لي متعة قراءته عليك بنفسي، فقد عثرت عليه عند وفاة صديق لي من المشتغلين بالطب في مستشفى الأمراض العقلية ببلدنا، مع جملة أوراق أخرى ترك لي الخيار بين إتلافها، أو الإبقاء عليها إذا رأيتها تستحق الحرص عليها، ولا أكاد أعتقد أنه مخطوط حقيقي، وإن كان من المؤكد أنه ليس مكتوبًا بخط صاحبي، ولكن لتقرأه، ولتحكم بنفسك، سواء كان حقيقة من وضع رجل مجنون فعلًا أو مبينًا على تخريفات إنسان معذب، وهو ما أعتقد أنه الأرجح.»

وتناول المستر بكوك المخطوط، وودَّع الشيخ الخير الطيب، مبديًا له كثيرًا من الاحترام وصادق الدعوات.

وكان توديع أهل الضيعة الذين أكرموا مثواهم، وأحسنوا وفادتهم أشق وأصعب من توديع ذلك الشيخ، وأقبل المستر بكوك على الفتاتين يقبِّلهما، وقد هممنا أن نقول كما لو أنهما ابنتاه، لكن المقارنة ما كانت تصح، وإن كان من الجائز أن يبث في هذا السلام قدرًا أكبر من الحرارة، كما عانق السيدة العجوز عناق الابن لأمه، وربَّتَ بكفه خدود الخادمات في أبلغ صورة الأبوة وأصدق مظاهرها، وهو يدس في كف كل منهن بعض الأدلة المادية على رضاه وارتياحه. وكان تبادل التحيات بينهم وبين مضيفهم الكريم الكبير، والمستر تراندل أبلغ كثيرًا من ذلك، وأطول أمدًا، ولم يتمكن الأصحاب الثلاثة من الإفلات من مكرميهم إلا بعد أن نودي مرارًا على المستر سنودجراس، فخرج أخيرًا من دهليز مظلم، وتبعته وشيكًا إملي، وكانت عيناها البراقتان تلوحان قاتمتين على غير العادة، وراحوا يلقون عدة نظرات إلى الضيفة، وهم سائرون في طريقهم بخطى بطيئة، وكم من قبلة حمَّلها المستر سنودجراس الريح؛ ردًّا على شيء يشبه منديل سيدة كان ملوحًا به من إحدى النوافذ العليا، حتى بلغوا منعرجًا في طريقهم؛ فاحتجب البيت عن أنظارهم.

ولما وصلوا إلى ماجلتون استأجروا مركبة تقلهم إلى روشستر، وكانت شدة حزنهم قد خفَّت عند بلوغها إلى حد سمح لهم بتناول عشاء مبكر شهي فاخر، وبعد أن ظفروا بمعلومات ضرورية تتصل بالطريق إلى الوجهة المقصودة، عاودوا المسير إلى «كوبهام» مع الأصيل.

وكان السير بهيجًا، فقد كان الأصيل جميلًا في أحد أيام شهر يونية، وكان طريقهم يشق صميم غابة مترامية ظليلة، تهب عليها الأنسام فترسل حفيفًا رفيقًا وسط أوراق الشجر الألفاف، ويزيدها لطفًا وجمالًا شدو الأطيار الجامحة فوق الأغصان، ويتسلل خلالها اللبلاب والطحلب في عناقيد كثيفة متلوية حول الدوح، ويكسو العشب الناضر اللين الأرض بساطًا من سندس، وما زالوا يسيرون في وسط تلك الغابة حتى ألموا على أرض فضاء، وبستان نضير، وبناء قديم، يدل طرازه الأثري الجميل على أنه يرجع إلى عهد الملكة «إليزابث»، وتبدو على كل جانب صفوف طوال من أشجار السرو الرائعة الفخمة، وأسمطة من «الدردار»، وتشاهد قطعان كبيرة من الغزلان وهي ترعى الكلأ الندي الصبيح، وبين الفينة والفينة يتراءى أرنب بري وجل يعيث في الأرض، ويجول في رحابها بسرعة الظلال التي تلقيها السحب الخفاف الخاطفة على ذلك المشهد المشمس، كأنها أنفاس عابرة انبعثت من أعماق صدر الصيف.

وقال المستر بكوك وهو يجيل العين فيما حوله: «يُخَيَّل إليَّ أنه لو كان هذا هو الموضع الذي يأتي إليه كل الذين يشكون مما يشكو منه صاحبنا، لعاودهم وشيكًا تعلُّقهم القديم بهذا العالم.»

وقال المستر ونكل: «وهذا رأيي أيضًا.»

ومضى المستر بكوك — بعد أن أوصلهم المسير نصف ساعة إلى القرية — يقول: «وفي الحق، إن هذا الموضع أصلح ما يختاره كاره الناس، وأجمل نزل، وأشهى مستقر رأيته في حياتي.»

وأبدى كل من المستر ونكل والمستر سنودجراس موافقته أيضًا على هذا الرأي.

وبعد الاهتداء إلى حانة لذربوتل، وهي حانة قروية نظيفة رحيبة لشرب الجعة، دخل المسافرون الثلاثة وسألوا في الحال عن سيد يُدعَى «طبمن».

وقالت ربة الحان: «أرِ السادة قاعة الجلوس يا توم!»

وفتح غلام ريفي ضخم البدن بابًا في نهاية الردهة، فدخل الأصدقاء الثلاثة حجرة مستطيلة خفيضة السقف، فُرِشت بعدد كبير من المقاعد ذات ظهور ومساند مرتفعة، ووسائد من الجلد غرائب الأشكال، وازدانت جدرانها بعدة رسوم قديمة مختلفة الألوان، وصور أثرية أخرى، وفي طرفها الأقصى تقوم مائدة مكسوة بغطاء أبيض، وقد صُفَّت عليها دجاجة مشوية، ولحم خنزير، وشراب وما إليه، وقد جلس إليها المستر طبمن، وهو أبعد ما يكون شبهًا بالرجل الذي أراد أن يودِّع العالم ويترك الحياة.

وما إن دخل الصحب عليه، حتى وضع السكين والشوكة فوق المائدة، وتقدَّم للقائهم تبدو عليه سمات الكآبة والأحزان.

قال وهو يتناول يد المستر بكوك: «لم أكن أتوقع لقاءكم هنا، إن هذا منكم لكريم.»

وقال المستر بكوك وهو يجلس ويمسح عن جبينه العرق الذي تصبَّب من طول المسير: «آه، أكمِلْ غداءك، وتعال سِرْ معي، فإني أريد أن أتحدث إليك على انفراد.»

ففعل «طبمن» كما طلب إليه، وبعد أن أنعش المستر بكوك نفسه برشفة طيبة من الشراب، لبث ينتظر صديقه حتى ينتهي من طعامه على مهل، ولكن الطعام انتهى عاجلًا، فانطلقا يسيران معًا.

وكانا يبدوان خلال فترة تقرب من نصف ساعة رائحين غاديين في فناء الكنيسة، ويلوح المستر بكوك من بعيد منهمكًا في مقاومة الأمر الذي اعتزم صديقه الإقدام عليه، وليس ثمة فائدة من تكرار أقواله هنا وحججه؛ إذ ليت شعري أية لغة يمكن أن تعبِّر عن تلك القوة التي راح صاحب تلك الحجج البادهة يستعين بها على شرحها، ولا يهمنا أن نعرف هل كان المستر طبمن قد برم فعلًا بالعزلة التي أرادها، أو شعر بأنه العاجز كل العجز عن مقاومة تلك المناشدة البليغة التي سمعها من صاحبه، وإنما كل ما يهمنا أنه سلَّم في النهاية، وانثنى عن المقاومة، وأنشأ يقول إنه لم يعد يهمه أن يقضي البقية التعسة من أيامه في هذه الدنيا، ولكن ما دام صديقه قد أصر على أن يصحبه، ورضي برفقته الذليلة، فلا يسعه إلا قبول مقاسمته أسفاره ومخاطره.

وابتسم المستر بكوك، وتصافح الصديقان، وعادا أدراجهما ليوافيا رفيقيهما الآخرَيْن.

وفي تلك اللحظة بالذات تواتى للمستر بكوك ذلك الكشف الخالد الذي كان موضع فخار أصدقائه واعتزازهم، ومثار حسد كل عالم أثري في هذا البلد وسواه، فقد حدث وهما يجتازان الفندق، ويبتعدان قليلًا في بعض أرجاء القرية أن تذكَّرَا البقعة بالذات التي يقوم فيها، فتلفتا وراءهما، وعندئذٍ وقعت عين المستر بكوك على حجر صغير مكسور، يبدو جزء منه مدفونًا في الأرض أمام باب كوخ، فوقف لحظة ينظر، ثم أنشأ يقول: «إن هذا لشيء عجاب!»

وقال المستر طبمن، وهو ينظر بلهفة إلى كل ما هو منه قريب، ويحدق في كل شيء ببصره، عدا الشيء الذي يعنيه صاحبه: «ما هو هذا العجاب؟ يا عجبًا … ما الخطب، وما الأمر؟»

وكانت هذه العبارة الأخيرة صيحة تنم على الدهشة الشديدة، سببها أنه رأى المستر بكوك في حماسته للكشف، وولوعه بالتنقيب، يجثو على ركبتيه أمام ذلك الحجر الصغير، ويشرع في إزالة الغبار الذي علاه بمنديله.

وقال المستر بكوك: «أرى نقشًا هنا!»

وقال المستر طبمن: «أممكن هذا؟»

ومضى المستر بكوك يقول، وهو يحكه بكل ما أوتي من قوة، وينظر بانتباه بالغ من خلال منظاره: «إنني ألمح صليبًا، وأتبين حرف الباء، ثم حرف «التاء»؛ هذا شيء من الخطر بمكان، إنه بعض نقوش قديمة لعلها ترجع إلى ما قبل قيام الملاجئ القديمة في هذا الموضع بأمد طويل.»

ودق برفق باب الكوخ، فخرج له رجل يعمل في الأرض، فبادره المستر بكوك الخير الكريم بالسؤال قائلًا: «هل تعرف يا صديقي كيف أتى هذا الحجر إلى هنا؟»

وأجاب الرجل بأدب قائلًا: «كلا، لا أعرف يا سيدي، إنه كان هنا قبل أن أُولَد أو يُولَد أحد منا بعهد طويل.»

فنظر المستر بكوك إلى رفيقه نظرة المنتصر.

وانثنى يسأل الرجل وهو يهتز من شدة الفضول: «إنك، إنك … أحسبك لا توليه اهتمامًا خاصًّا، فهل ترضى أن تبيعه الآن؟»

وسأل الرجل وقد بدت على وجهه من الأمارات ما يغلب على الظن أنه ينمُّ عن المكر الشديد: «ولكن مَنْ ذا يرضى أن يشتريه؟»

وقال المستر بكوك: «سأعطيك عشرة شلنات في الحال إذا أنت حملته من مكانه لأجلي.»

ومن السهل أن تتصور مبلغ الدهشة التي استولت على القرية، حين رأوا المستر بكوك بعد أن تم انتزاع ذلك الحجر الصغير بضربة فأس واحدة، يحمله بجهد شديد بكلتا يديه إلى الفندق، ويضعه فوق المنضدة بعد مسحه بعناية وتنظيفه.

أما فرح البكوكيين وسرورهم به، فقد جاوزا الحدود، حين رأوا بعد الصبر والمثابرة على التنظيف والتشطيف والحك والدعك أن جهدهم كُلِّل بالنجاح.

وكان الحجر غير مستوي الأطراف، وكانت الحروف المنقوشة عليه متباعدة، وغير منتظمة، ولكن الجزء التالي من النقش كان جليًّا واضحًا:

ب أ ل س ت B I L S T
أ م U M
ب ش ي P SH I
س م S. M.
أ ر ك A R K

ولم تلبث عينا المستر بكوك أن برقتا بريق سرور بالغ، وقد جلس ينظر إلى هذا الأثر النفيس الذي كشفه منهوم العين، فقد حقَّق مطمعًا من أكبر مطامعه، وقد تواتى له في إقليم عُرِف بكثرة ما فيه من آثار العصور الغابرة، وفي قرية لا تزال تحوي شيئًا من تذكارات الأجيال الماضية، وقد تواتى له، وهو رئيس نادي بكوك أن يكشف نقشًا غريبًا عجيبًا، لا نزاع في قِدَمه، نقشًا غاب عن أعين كثير من العلماء الذين سبقوه، حتى لم يكن يصدِّق حواسه، أو يعتمد على شهادة مشاعره.

وقال لأصحابه: «هذا … هذا هو الذي يحدوني إلى تقرير خطتي، سنعود إلى المدينة غدًا.»

وصاح مريدوه المعجبون به: «غدًا؟»

قال: «أجل غدًا، إن هذا الكنز الثمين يجب أن يوضع في الحال حيث يتسنى فحصه، والتقصي في دراسته، وفهمه على حقيقته، وأدى سبب آخَر لاتخاذ هذا التدبير، وهو أنه بعد بضعة أيام سيُجرى انتخاب عن دائرة «إيتنزول» التي سيتولى فيها المستر بركر — وهو سيد التقيت من عهد قريب به — تأييد أحد المرشحين، وفي نيتي أن نشهد وندرس بدقة مشهدًا ممتعًا لنفس كل إنكليزي أقصى غاية الإمتاع.»

وصاح الرفقاء الثلاثة في نفس واحد بحماسة: «سنشهده حتمًا!»

وأدار المستر بكوك عينيه فيما حوله، فلم تلبث حمية مريديه، وشدة تعلقهم به أن أججتا جذوة الحماسة في صدره.

لقد كان زعميهم، وقد أحسن هذه الزعامة حقًّا.

قال: «لنحتفل بهذا الاجتماع السعيد في شراب ومرح.»

وتلقى أصحابه هذا الاقتراح الجديد بمثل ما تلقوا به الاقتراح الأول من الموافقة والارتياح العام، وبعد أن تولى بنفسه إيداع الحجر الخطير الشأن جوف صندوق صغير من الخشب، اشتراه من ربة الفندق لهذا الغرض، جلس في مقعد رحيب عند رأس المائدة، وترك المساء ينقضي كله في مهرجان وسمر.

وكانت الساعة قد تجاوزت الحادية عشرة — وهو وقت متأخر بالنسبة لسكان قرية كوبهام الصغيرة — حين أوى المستر بكوك إلى غرفة النوم التي كانت قد أُعِّدت لاستقباله، ومضى يفتح النافذة، ويضع مصباحه على المائدة، ويسبح في زاخر من الأفكار والتأملات بسبيل الأحداث السريعة التي جرت في اليومين السابقين.

وكان الزمان والمكان معًا ملائمين للتأمل، صالحين للتفكير، فلم ينتبه منهما إلا على دق ساعة الكنيسة الثانية عشرة، وكانت الدقة الأولى قد رنت رهيبة الوقع في أذنه، ولكن السكون حين كفت الساعة عن الدق بدا غير محتمل، كأنه شعر بأنه قد فقد رفيقًا؛ فاضطربت أعصابه، وهاجت هائجته، فأسرع إلى خلع ثيابه، ورفع المصباح فوق طنف المدفأة، وأوى إلى فراشه.

وكل إنسان منا قد جرب تلك الحالة النفسية السيئة التي يحاول فيها الشعور بالتعب الجثماني مغالبة الأرق عبثًا، ومقاومة استعصاء النوم عليه، وكانت تلك حال المستر بكوك في هذه اللحظة، فقد راح أولًا يتململ على أحد جنبيه، ثم مضى ينقلب على الجنب الآخر، ويغمض عينيه بإلحاح كأنما يداعب النوم مداعبة، ويغري نفسه بالاستسلام إليه … ولكن ذلك كله لم يجد نفعًا، ومهما يكن من شيء، سواء كان الإجهاد الذي عاناه ولم يكن يألفه، أو كانت حرارة الجو، أو البراندي والماء، أو نومه في فراش غريب عليه، فقد لبثت أفكاره تعود بشكل متعب إلى الصور البشعة المعلَّقة فوق الجدران في الطبقة الأولى من الفندق، والقصص القديمة التي أثارتها في فترة المساء، وبعد أن قضى نصف ساعة في مغالبة غير منتجة، وصل إلى قرار متعب، وهو أن لا فائدة من محاولة النوم، ونهض من فراشه، فارتدى بعض ثيابه وهو يقول لنفسه إن تأدية عمل ما خير من الرقاد في الفراش، وتصور كل ضروب المفزعات، وأطل من النافذة، وكان الظلام شديدًا، فعاد يمشي في الغرفة ذهوبًا وجيئة، وبدت الغرفة لخاطره قفرًا موحشة.

وبعد أن لبث لحظة يدور بين النافذة والباب، ومن الباب إلى النافذة، خطر بباله لأول مرة ذلك «المخطوط» الذي تلقاه من القسيس، فاستروح إلى الفكرة، وبدا له أنه إذا لم يجد قراءته ممتعة، فلعله سيدفع به إلى النوم، فأخرجه من جيب ردائه، وقرب مائدة صغيرة من سريره، وأصلح ذبالة المصباح، ووضع المنظار على عينيه وتهيأ للقراءة، وكان الخط غريبًا، والورق ملطخًا ممحوًّا في عدة أجزاء منه، وما لبث العنوان أن أحدث هزة فجائية في نفسه كذلك، فلم يتمالك نفسه من إلقاء نظرة ترقُّب وتوجس حول الغرفة، ولكنه عاد يفكر في سخف الاستسلام لهذا الشعور، فأصلح من ذبالة المصباح مرة أخرى، وأنشأ يقرأ القصة التالية:

قصة مجنون كتبها بخط يده

نعم … قصة مجنون … ما كان أشد وقع هذه الكلمة في قلبي، لو قيلت منذ عدة سنين، ولَكَمْ كانت ستثير الرعب الذي كان يتملكني أحيانًا، ويجعل الدم يصفر ويطن في عروقي، حتى ليقف العرق البارد من الخوف قطرات كبارًا على بشرتي، وترعش فرائصي من الفزع! ولكني الآن أستطيب ذلك الوصف واستروح إليه، إنه اسم بديع، أروني الملك الذي يخشى من عبسة غضبه مثل ما يخشى من حملقة المجنون، أو تروح حباله ومقصلته يومًا مضمونة نصف ضمانة قبضة المجنون على الرقاب، أجل، أجل! إنه لشيء عظيم أن يكون المرء مجنونًا، وأن يطل عليه كما يطل على الأسد المفترس من خلال قضبان قفصه الحديدية، وأن يصرف بأسنانه، ويعوي ويزمجر في سكينة الليل الطويل وهدأته، على رنين أصفاده، ولحن سلاسله الثقال، وأن ينقلب ويتلوى بين أكداس الفتن، نشوان ثملًا بتلك الموسيقى العذبة الأنغام، مرحى لدار المجانين؛ إنها لَمكان نادر، وموضع بديع!

إني لأذكر أيامًا كنت فيها خائفًا من أن أصبح مجنونًا؛ أيامًا اعتدت خلالها أن أستيقظ من نومي فأجثو ضارعًا إلى الله أن ينجيني من النقمة التي حلَّت بقومي، وكنت فيها أنفر من مشهد المرح والفرح، لأختبئ في مكان منعزل، أو ركن مهجور، وأقضي الساعات الطوال مراقبًا سير الحمى التي كانت تأكل عقلي أكلًا، فقد كنت أعلم أن الجنون ممتزج بدمي ذاته امتزاجًا، مختلط بنخاع عظامي اختلاطًا، وأن جيلًا بأكمله مر سليمًا لم تظهر فيه على أحد من أهلي أعراض هذا المرض وأدلته، وأنني سوف أكون أول مَن سيتجدد فيه، ويعاود الظهور عليه. لقد كنت أعلم أن الأمر سيكون كذلك «حتمًا»؛ لأنه هكذا كان من قبلُ، وكذلك سيكون من بعدُ، فكنت كلما قبعت في ركن مظلم من غرفة مزدحمة بالناس، ورأيتهم يتهامسون ويشيرون إليَّ ويديرون أعينهم نحوي، أيقنت أنهم إنما كانوا يتحدثون عن هذا المخلوق الذي قُضِي عليه بالجنون، فكنت أتسلل منصرفًا إلى العزلة والاكتئاب.

وكذلك فعلت عدة سنين، أي والله عدة سنين طوال؛ إن الليالي هنا طويلة أحيانًا، طويلة مفرطة في الطول، ولكنها ليست شيئًا يُذكَر إذا قيست بتلك الليالي القلقة التي كانت تتخللها الأحلام المفزعة، والرؤى البشعة، التي كلما ذكرتها الآن جعلت الدم يجمد في عروقي، لقد كانت تتراءى لي في زوايا الحجرة صور ضخمة مهزوزة، ذوات وجوه ماكرة، وسحنات مستهزئة ساخرة، تقترب مني فتنحني ليلًا فوق مضجعي، لتغريني بالجنون وتزينه لخاطري. لقد مضت تحدثني في همس خافت أن أرض البيت القديم الذي مات فيه جدي لأبي ملطخة بدمه، وأنه هو الذي أراقه بيده في ثورة جنون استولت عليه، فكنت أُدخِل أناملي العشر في أُذُني حتى لا أستمع إلى حديثها، ولكنها كانت تصرخ في رأسي حتى تدوي أرجاء الحجرة بصراخها، وكانت تقول لي: إن الجنون كان قد هجع وسكن قبل جدي لأبي بجيل من الزمان، ولكن جده هو عاش أعوامًا مقيَّد اليدين بالأصفاد؛ حتى لا يتمكن من تمزيق جسده بهما، وتقطيع أوصاله إربًا. وكنت أعلم أن الحق هو ما قالت … كنت أعرف ذلك حق المعرفة، وقد اهتديت إليه قبل ذلك بسنين، وإن حاولوا إخفاء هذه الحقيقة عني. ها، ها، لقد كنت أمكر منهم وأدهى، وإن حسبوني يومئذٍ مجنونًا.

وأخيرًا استولي الجنون عليَّ، فعجبت لنفسي كيف كنت من قبلُ أتوجس منه خوفًا، وأنا الآن أستطيع أن أشق طريقي في هذا العالم، وأضحك وأصرخ بين خيار أهله وصفوة بنيه؛ لقد أدركت أنني مجنون، ولكن الناس لم تخطر بأذهانهم شبهة ولا ريبة في أنني كذلك، ولكم رحت أعانق نفسي من فرط السرور كلما فكرت في الخدعة البديعة التي مضيت أخدعهم بها بعد تلك الإشارات التي كانوا يشيرون بها نحوي، والسخرية التي ينظرون بها صوبي، حين لم أكن مجنونًا، بل كنت موجسًا فقط من أن أصبح كذلك في يوم من الأيام، ولَكَمْ كنتُ أضحك فرحًا واغتباطًا كلما وجدتني منفردًا، وتمثلت في خاطري كيف كتمت عنهم سري، وكم تخيلت أصدقائي المشفقين وهم مسارعون إلى الابتعاد عني، والانفضاض من حولي، إذا هم عرفوا الحقيقة وأدركوها، ولكم هممت بأن أصرخ من فرط اللذة كلما خلوت إلى طعام برجل منهم ضحوك ممراح، وتصورت كيف سينقلب وجهه شاحبًا مسفوعًا، وكيف سيطلق للريح ساقيه إذا هو عرف أن هذا الصديق العزيز الذي يجلس بقربه، ويشحذ سكينًا لامع النصل في يده … مجنون، أوتي كل القوة، ونصف الإرادة، في تغييبه ذلك النصل في صميم قلبه. أواه، لقد كانت حياة مرحة مليئة بالبهجة واللذات!

لقد أصبح اليسار في هذا العالم لي، والثراء يتدفق عليَّ تدفقًا، وأنا أعربد وألهو بنعم ومتع زادها أضعافًا مضاعفة شعوري بسري المكتوم، لقد ورثت عقارًا، وخدعت القانون، القانون ذاته المديد البصر كعين النسر، فأين كل ذكاء أصحاب العقول السليمة الحداد الأبصار؟ أين براعة المحامين المدارية الذين لا ينثنون عن اكتشاف نقص ولو يسير، أو البحث عن أقل مخالفة للقانون؟ إن مكر المجنون قد فاق مكرهم جميعًا …

وكان المال في يدي، فكم تملقني الناس وكم تلطفوا، وجروا في أذيالي، ومضيت أنفق بسخاء وأفرط في البذل، ولكم مدحني الناس وأشادوا بي! وكيف ذهب أولئك الإخوة الثلاثة المتكبِّرون المتغطرسون يتطامنون، ويذلون لي، ويقفون خاشعين أمامي، وكيف جعل أبوهم الشيخ الأشيب أيضًا يوليني الإجلال، ويخاطبني بالاحترام والصداقة المتفانية. لقد كان يعبدني عبادة! وكانت للشيخ ابنة، هي للإخوة الثلاثة أخت، وكان الخمسة فقراء وكنت غنيًّا، فلما تزوجت الفتاة رأيت ابتسامة انتصار تخطف على وجوه أهلها المحاويج، حين رأوا خطتهم المرسومة قد نجحت، وأدركوا أنني وقعت لهم غنيمة باردة، ولكن كان الابتسام أولى به أن يكون من جانبي، فقد كنت أحق منهم بأن أبتسم وأضحك وأقهقه، وأقطع شعري تقطيعًا، وأتمرغ فوق الأرض صارخًا من المرح والسرور؛ لأنهم لم يكونوا يدرون أنهم زوَّجوا الفتاة لرجل مجنون.

وَلْنقف هنا لحظة لنسأل: هل تظنونهم كانوا منقذيها، إذا هم عرفوا خافية أمري؟ أسعادة أختهم أولى، أم ذهب زوجها؟ إن أقل ريشة أنفخها في الهواء لتعدل السلاسل البهيجة التي تعذب بدني.

ولكني على فرط مكري وخداعي كنت في أمر واحد مخدوعًا، فلو لم أكن مجنونًا؛ لأننا معاشر المجانين على حدة ذكائنا، وشدة فطانتنا، نضل أحيانًا وتفوتنا أشياء كثيرة — لَأدركت أن الفتاة كانت تؤثر أن توسد تابوتًا مظلمًا، وهي متخشية باردة خامدة الأنفاس، على أن يساق بها عروسًا محسودة إلى بيتي الفخم المتوهج الأضواء، لقد كان أولى بي أن أعرف أن قلبها يهفو إلى ذلك الشاب الأسود العينين الذي سمعت اسمه مرة، وهي تلفظه في نومها المضطرب، لقد ضحَّى بها عروسًا لي، لتنقذ من الفاقة ذلك الرجل العجوز الأشيب وإخوتها المتكبرين.

ولست أتذكر الآن شخوصًا ووجوهًا، ولكني أعرف أن الفتاة كانت حسناء، لقد كنت أعرف عن يقين أنها كذلك، فقد كنت في الليالي الصافية القمراء، أستيقظ من نومي، فأشهد قوامًا نحيلًا، وقدًّا أهيف واقفًا حيالي ساكنًا، لا يعير حراكًا في ركن من هذا المحبس الانفرادي، قوام امرأة ذات شعر فاحم مستطيل، تتدلى ذوائبه على ظهرها، ولا تحركه ريح من رياح هذه الدنيا، وعينين مستقرتين على وجهي، لا تطرفان ولا تغمضان. صه! إن الدم ليبرد في عروقي وأنا أكتب هذه السطور، إن ذلك القوام هو «قوامها»، وإن الوجه الشاحب، والعينين زجاجيتان، ولكني أعرفهما حق المعرفة، إن ذلك القوام لا يتحرك أبدًا، كما تفعل الأشباح الأخرى التي تملأ هذا المكان أحيانًا، إن ذلك القوام لأشد رهبًا، وأكثر رعبًا لي من تلك الأرواح التي كانت تغريني بالجنون منذ عدة سنين، إنه قادم من القبر لتوه وساعته، فهو أشبه بالموت كل الشبه.

ولبثت قرابة عام كامل أرى ذلك الوجه يزداد شحوبًا، وأبصر العَبَرَات تتسلل إلى خدَّيْها الحزينين، ولا أدري لذلك سببًا، ولكني اهتديت أخيرًا إليه؛ لأنه كان من المستحيل أن يظل خافيًا عليَّ طويلًا، لم تكن تطيقني، ولم يخطر ذلك يومًا بخلدي، لقد كانت تحتقر ثرائي، وتمقت الفخفخة التي كانت تعيش فيها، ولم أكن أتوقع ذلك، لقد كانت تحب غيري، وما كان ذلك ليدور يومًا في خاطري، واستولت على نفسي أحاسيس غريبة، وتملكتني أفكار تدفعها إلى خاطري قوة خفية مجهولة، فتدور كالدوامة حول عقلي، لم أكن أكرهها، وإن كنت قد كرهت الفتى الذي ظلت تبكي من أجله، لقد رثيت، نعم لقد رثيت لها، في تلك الحياة التعسة التي قضى بها عليها أهلها الجامدون القساة الأنانيون، وكنت أعلم أنها لن تعيش طويلًا، ولكني تصورت أنها قبل أن يدركها الموت قد تلد مخلوقًا منحوسًا مقدرًا عليه أن يورث أبناءه من بعده الجنون المتنقل في ذرارينا، فكان تصوري لهذا كله دافعًا دفعني إلى تقرير خطتي، لقد اعتزمت أن أقتلها.

فكرت عدة أسابيع في استخدام السم، ثم الإلقاء في اليم، وبعدئذٍ في الإحراق، وراقني مشهد البيت الكبير ولهب النيران مندلعة في جنباته، وزوجة المجنون محترقة في ناحية منه مستحيلة رمادًا، وتصورت أيضًا أضحوكة دفع مكافأة كبيرة، ومنظر إنسان عاقل يترنح في الفضاء عقابًا على فعلة لم يأتها؛ وذلك كله نتيجة مكر مجنون. فكَّرت كثيرًا في هذا، ولكني عدلت أخيرًا عنه. آه! ما أشد اللذة التي كنت أحسها، وأنا أشحذ الموسى يومًا بعد آخر، وأتحسس نصلها المرهف، وأتمثل الدم المتحبس الذي ستحدثه ضربة واحدة من نصلها الرفيع!

وجاءتني أخيرًا تلك الأرواح القديمة التي كانت من قبلُ توافيني، فهمست في أذني أن الوقت قد حان، ودست الموسى المفتوحة في كفي، فأمسكتها بقوة، ونهضت برفق من فراشي، وانحنيت فوق زوجتي النائمة، وكان وجهها مدفونًا في راحتَيْها، فأزحتهما عنه بلطف، فسقطتا متراخيتين فوق صدرها، لقد كانت تبكي؛ لأني رأيت العبرات لا تزال ندية على خدها، وكان مُحَيَّاها ساكنًا هادئًا، بل حين أطللت عليه أشرقت ابتسامه ساجية على قسماته المصفرة، فألقيت يدي برفق على كتفها، فأجفلت، كأنه حلم عابر … فعدت أنحني فوقها، وعندئذٍ صرخت واستيقظت …

حركة واحدة من كفي، فإذا هي خامدة إلى الأبد، لا تستطيع صراخًا، ولا تُخرِج صوتًا، ولكني ذعرت وتراجعت، لقد كانت نظراتها مستقرة على وجهي؛ فانزويت منها رعبًا ووجلًا، ولست أدري كيف حدث ذلك لي، بل لقد خارت حيالها عزيمتي، ونهضت من الفراش وهي لا تزال ترمقني بنظراتها، فارتجفت، وكانت الموسى في يدي، ولكني لم أستطع حراكًا، ومشت إلى الباب، وما كادت تقترب منه حتى تلفَّتَتْ، وتولت بعينيها عن وجهي، لقد زال السحر؛ فوثبت نحوها وأمسكت بذراعها، فسقطت فوق الأرض مرسلة صرخة بعد صرخة.

وكان في وسعي عندئذٍ أن أقتلها بغير مقاومة، ولكن الفزع ساد البيت، وطرق سمعي وقع أقدام فوق مدارج السلم، فرددت الموسى إلى موضعها المألوف في أحد الأدراج، وفتحت الباب، ورفعت صوتي أطلب النجدة.

فجاءوا … واحتملوها إلى فراشها، فرقدت فيه ساعات وهي هامدة لا حياة ولا حراك بها، ولكن حين عاودتها الحياة والنظرة والكلام، تخلت حواسها عنها، فجعلت تهذي هائجة ثائرة.

ودُعِي الأطباء، وكانوا رجالًا أساطين في عملهم، أتوا إلى باب داري في مركبات فاخرة، وجياد مطهمة، وخدم في ثياب مزخرفة، ولبثوا يترددون على سريرها عدة أسابيع، وعقدوا اجتماعًا كبيرًا، وتشاوروا في همس داخل حجرة أخرى، وانتحى أبرعهم وأشهرهم ناحية بي، وقال لي أنا المجنون أن أستعد لسماع ما هو أنكى وأدهى، لقد أبلغني أن زوجتي مجنونة! وكان واقفًا بجانبي عند نافذة مفتحة، وعيناه تنظران إلى وجهي، ويده ملقاة فوق ذراعي، وكان في وسعي بحركة واحدة أن أقذف به إلى الشارع، ولو فعلت لكان في ذلك متعة يندر أن يكون في الدنيا متعة مثلها، ولكني خليته ولم أفعل، فقد كان سري معرضًا للخطر، فأمسكت، وبعد بضعة أيام نبَّئوني أنه لا بد من وضعها تحت رقابة، ولا غناء عن تعيين حارس لها، فذهبت إلى الحقول حيث لا يستطيع أحد أن يسمعني، وضحكت ملء صدري حتى ردَّد الفضاء أصدية صرخاتي وضحكاتي.

وماتت في غداة اليوم التالي، وتبعها الشيخ الأشيب إلى القبر، وذرف الإخوة المتكبرون دمعة على جسد المخلوقة التي كانوا في حياتها ينظرون إلى ما تعانيه من آلام نظرات قاسية كأنهم جلمود من صخر أصم، وكان ذلك كله غذاء لفرحي المكتوم، فجعلت أضحك من خلف المنديل الأبيض الذي قربته من وجهي، ونحن عائدون أدراجنا من دفنها، حتى اغرورقت بالدموع عيناي …!

ولئن كنت قد نفذت غرضي وقتلتها، فقد ظللتُ قلقًا منزعجًا، وشعرت بأنه لن ينقصني وقت طويل حتى يعرف الناس سري حتمًا، ولم أعد أستطيع أن أخفي المرح الثائر، والسرور الهائج، اللذين كانا يغليان في جوانحي، ويجعلانني كلما خلوت إلى نفسي في البيت، أصفِّر وأصفِّق، وأرقص وأزمجر، وأصرخ صراخًا عاليًا. وكنت كلما خرجت وشهدت الناس مسرعين في الطريق، أو ذاهبين إلى المسرح لمشاهدة التمثيل، أو سمعت أنغام الموسيقى، أو رأيت القوم يرقصون، شعرت من فرط الفرح أني قادر على أن أندفع نحوهم، وأمزقهم إربًا، وأعوي من اللذة عواء، ولكني كنت أصرف بأسناني، وأضرب الأرض بقدمي، وأغيب أظفاري الحداد في كفي، وأكبت رغبتي، فلم يكن أحد يعرف بعدُ أنني مجنون.

وأذكر، وإن كان ما أذكره آخِر الأشياء التي لبثت قائمة في خاطري؛ لأنني الآن أصبحت أخلط بين الحقائق وبين أحلامي، ولكثرة أعمالي هنا، واستمرار نقلي من موضع إلى آخر، لا أجد متسعًا من الوقت أمامي لكي أفصل بين الحقائق والأوهام لاضطراب غريب يسودها جميعًا، وفوضى عجيبة تغمرها جملة — أذكر كيف تركت سري أخيرًا ينطلق من مكمنه.

ها، ها، أحسبني أشهد الآن نظراتهم المروعة إلى وجهي، وأحس الراحة والسرور في دفعهم بقوة عني، وضرب وجوههم المصفرة بجمع كفي، ثم أطلق للريح ساقي، تاركًا الناس صائحين صارخين في أثري. إن قوة عملاق جبار تتملكني كلما فكرت في ذلك كله أو تمثلته، أنظر إلى هذا القضيب الحديدي كيف يلتوي من قبضتي، حين أهيج وتثور ثائرتي، لقد أصبحت قادرًا على انتزاعه من مكانه، كما أنتزع عودًا من العوسج، أو فرعًا من الفروع، ولكن هنا دهاليز طويلة ذوات أبواب كثيرة، فلا أظنني مستطيعًا أن أهتدي إلى طريقي من خلالها، ولو استطعت، فلست أجهل أن هناك أبوابًا من حديد يحرصون على بقائها موصدة بالأقفال والمزاليج؛ لأنهم يعرفون أي مجنون ذكي بارع أنا، وهم فخورون بأن يبقوني هنا ليشهدني الناس، وأعترض عليهم.

دعني أنظر! أي نعم! لقد أخرجوني، وكان الليل قد أوهن حين بلغت داري، وكان أشد الإخوة الثلاثة كبرياء وعجرفة منتظرًا وصولي، وأذكر جيدًا أنه قال إنه كان يرتقب رؤيتي لمسألة عاجلة. لقد كنت أكره ذلك الرجل بكل كراهية مجنون، ولكم من مرات تلهفتْ أناملي على تمزيقه، وقيل لي: إنه في البيت يرتقبني. فمرقت صاعدًا السلم إليه، وأمرت الخدم بالانصراف، وكان الوقت متأخرًا، ونحن وحدنا لأول مرة.

وحرصت على أن أشيح بعيني عنه أولًا؛ لأني كنت أعلم أنه كان يعرف — ولكم كان اغتباطي بأنه يعرف — أن بريق الجنون كان ينبعث منهما كالشرر. وجلسنا بضع دقائق صامتين، وأخيرًا بدأ هو الكلام، فقال إن إسرافي في الأيام الأخيرة، وبعض الأقوال الغريبة التي صدرت مني عقب وفاة أخته، كانت إهانة لذكراها، وإن عدة ظروف أخرى وأمور فاته في أول الأمر أن يلاحظها، جعلته أخيرًا يعتقد أنني لم أكن أحسن مثواها؛ فهو يريد أن يعرف هل هو على حق إذا استخلص من ذلك كله أنني أقصد أن أُلقِي ظل عتب وملامة على ذكراها ومساءة إلى أسرتها، وكان اقتضاؤه مني شرحًا لذلك كله يرجع إلى الثوب العسكري الذي كان يرتديه.

وكان ذلك الرجل يحمل براءة رتبة عسكرية، براءة اشتراها بمالي، وبشقاء أخته «وكان هو في مقدمة الذين تآمروا على إلقائي في الشرك، ووَضْع أيديهم على ثروتي، لقد كان ذلك الرجل هو الأداة الكبرى في إرغام أخته على الزواج بي، وهو يعلم حق العلم أنها قد وهبت فؤادها لذلك الغلام المزقزق كالعصفور؛ كل ذلك لأنه يرتدي ثوبًا عسكريًّا، فلم ألبث أن أدرت عيني إليه، لقد فعلت ذلك على الرغم مني، ولم أنبس بكلمة واحدة.

ورأيت التغير الفجائي الذي بدا عليه من نظرتي، لقد كان شجاعًا جسورًا، ولكن لونه ارتدَّ مسفوعًا، وتراجع بمقعده، فجررت أنا مقعدي إليه وضحكت، فقد أحسست عندئذٍ بمرح بالغ، ورأيته يرتجف، وشعرت بالجنون يثور في أنحائي، لقد تولاه الرعب مني.

قلت: «لقد كنت مولعًا بأختك وهي في قيد الحياة كل الولوع.»

وراح هو يتلفت حوله قلقًا مضطربًا، ورأيت يده تقبض على مسند المقعد، ولكنه لم يُحِرْ جوابًا.

قلت: «أيها الوغد! لقد اكتشفتك، وأزحت النقاب عن مؤامراتك الجهنمية ضدي، أعرف أن قلبها كان مستقرًّا على إنسان سواي قبل أن ترغمها على الزواج بي إرغامًا … أعرف ذلك، أعرف ذلك.»

فوثب فجأة من مجلسه، ورفع المقعد عاليًا، وأمرني بأن أتراجع، فقد حرصت على أن أدنو منه رويدًا وأنا أتحدث إليه.

لقد كان قولي صراخًا أكثر منه كلامًا، فقد كنت أشعر بانفعالات صخابة هائجة، تتدفق في شراييني، والأرواح القديمة تهمس في أذني وتغريني بأن أمزق قلبه تمزيقًا.

قلت وأنا مندفع نحوه: «اللعنة عليك، أنا الذي قتلتها، أنا مجنون. فَلْتسقط، الدم! الدم! أريد دمًا.»

وبضربة واحدة من كفي أطحت بالمقعد الذي شهره في وجهي من فرط رعبه، وأطبقت عليه، وتمرغنا معًا على الأرض برجة شديدة.

لقد كان ذلك الصراع بديعًا رائعًا؛ لأنه كان رجلًا فارع القد، شديد المراس، يدافع مستميتًا عن حياته، وأما أنا فمجنون قوي باطش، أتعطش لدمه، وكنت أعرف أن ليس ثمة قوة على الأرض تعدل بأسي وبطشي، وكنت على حق، نعم كنت مصيبًا مرة أخرى وإن أصبحت مجنونًا. وبدأت مقاومته تفتر، وجثمت فوق صدره، وأمسكت بكلتا يدي القويتين عنقه المفتول، وخُيِّلَ إليَّ من لسانه المتدلي أنه يسخر مني، فشددت القبضة على مخنقه.

وإذا الباب يُفتَح فجأة في جلبة شديدة، ويدخل جمع من الناس مهرولين، وهم يتصايحون أن أمسكوا المجنون.

لقد كُشِف سري، وأصبح نضالي الآن في سبيل شيء واحد، وهو الحرية والفكاك، واستويت على ساقي قبل أن تصل يد إليَّ، وألقيت بنفسي في وسط المهاجمين، وشققت بينهم طريقي بذراعي القوية، كأني كنت أحمل فاسًا في يدي وأجندلهم به من أمامي صرعى مضرجين، وبلغت الباب، ونزلت السلم مسرعًا، وفي لحظة واحدة احتواني الطريق.

وعدوت لا ألوي على شيء، فلم يجرؤ أحد على إيقافي، وسمعت وقع أقدام من خلفي فضاعفت سرعتي، فلم يلبث وقعها أن وهن وخفت من بعيد، ثم تلاشى بددًا، ولكني طفقت أعدو مخترقًا مستنقَعًا، عابرًا جدولًا، متخطيًا سياجًا، قافزًا فوق جدار، في صيحة موحشة زادتها وحشة الصيحات المنبعثة من المخلوقات الغريبة التي تزاحمت حولي من كل ناحية، حتى راحت صيحاتنا مجتمعة تشق أجواز الفضاء. لقد كنت محمولًا على أذرع شياطين تمرق في الهواء كالريح، وتدك كل جسر وسياج يعترضها دكًّا، وتلف بي لفًّا، في حفيف وسرعة جعلتا رأسي يموج موجًا، إلى أن طرحتني أخيرًا عنها بهزة عنيفة، فسقطت على الأرض في رجة «أليمة»، وحين أفقت وجدتني هنا … هنا في هذا المحبس الانفرادي المظلم الذي قلما تدخله أشعة الشمس، ويتسلل القمر إليه، فلا يضيء إلا ليريني الظلال والأشباح السود الحوامة من حولي، وذلك النهج الصامت القائم على ذلك الركن المعهود، وكلما رقدت يقظان ساهرًا، سمعت أحيانًا صرخات غريبة، وصيحات منبعثة من بعيد في هذا المكان الرحيب، أما ما هي تلك الصيحات فلست أدري، وإنما كل ما أدريه أنها ليست آتية من ذلك الشبح الناحب الماثل في ذلك الركن، ولا هو بعابئ بها ولا مكترث؛ لأنه من أول خيوط الغسق إلى مطالع ضياء النهار لا يزال قائمًا، ثم جامدًا لا حراك به يستمع إلى أنغام سلاسلي الحديدية، ويرقب وثباتي وقفزاتي فوق فراشي الخشن.

وقد وردت في ذيل هذا المخطوط المذكرة التالية بخط آخَر:

«لقد كان الرجل المنكود الذي دوَّن هذيانه فيما سلف مثالًا محزنًا لعقبى القوى التي تتجه اتجاهًا سيئًا في الشباب، ونتيجة سوأى أليمة للإفراط المتمادي، حتى يصبح إصلاحها متعذرًا، فإن الإسراف في غير روية، والتناهي في الملذات بغير تفكير، والإباحية التي استبدت بأيام شبابه، جعلته محمومًا هاذيًا مخرفًا، كانت آثارها الأولى ذلك الوهم الغريب المبني على نظرية معروفة في عالم الطب، يؤيدها فريق من أهله، ويعارضها الفريق الآخر، وهي أن الجنون وراثي في الأسرة، فإن هذا الوهم الغريب أحدث لديه وجومًا مستمرًّا تطور مع الأيام إلى جنون سوداوي، ثم انتهى أخيرًا إلى جنون هاذٍ صاخب، وقد توافرت عدة أسباب تحمل على الاعتقاد بأن الحوادث التي رواها، وإن جاء وصفها مشوَّهًا بفعل خياله المريض، قد وقعت حقًّا، ومن العجيب للذين عرفوا مساوئ شبابه، وأدركوا طرفًا من أخبار مفاسد حداثته، كيف لم تؤدِّ به انفعالاته الثائرة — حين لم يعد للعقل سلطان عليها — إلى ارتكاب أفعال أكثر مما ارتكب هولًا ورهبًا.»

وكان مصباح المستر بكوك قد أوشك أن يخبو ضياؤه، حين انتهى من قراءة ذلك المخطوط الذي تلقاه من القسيس الشيخ، فلما انطفأ النور فجأة، دون رفيف سابق من ذبالته على سبيل الإنذار، أحس برجفة شديدة تسري في كيانه المضطرب، فأسرع في خلع ما كان قد ارتداه من الثياب عندما نهض من مرقده، وأقضَّه المضجع من السهد، ثم ألقى نظرة خوف حوله، وبادر في عجلة إلى التسلل تحت الأغطية، ولم يلبث أن راح في سبات عميق.

وكانت الشمس ساطعة في غرفته حين استيقظ، والصباح بدأ يدنو من الضحى، وكانت الكآبة التي استولت عليه وأرهقته في الليلة الماضية، قد تلاشت مع الظلال القاتمة التي كانت تكتنف المشهد المترامي من حوله، فأشرقت أفكاره وأحاسيسه إشراق الصباح ذاته، وما إن تناول الصحاب الأربعة فطورهم بشهية وإقبال، حتى انطلقوا سعيًا على الأقدام صوب «جريفسند»، يتبعهم رجلًا حاملًا الحجر في صندوقه الخشبي، فوصلوا إليها حوالي الواحدة بعد الظهر — وكانوا قد أمروا بأن تُرسَل أمتعتهم من روشستر إلى لندن رأسًا — ووجدوا لحسن الحظ أماكن لهم خارج مركبة حافلة، فدخلوا لندن في أصيل اليوم ذاته مشرقي النفوس، خفاف الأرواح، معافين.

وشغلتهم الاستعدادات التي كان لا بد من تدبيرها للرحلة التي اعتزموها إلى دائرة «إيتنزول» الانتخابية، طيلة الأيام الثلاثة الأولى أو الأربعة، ويقتضي الحديث عن هذه الرحلة الخطيرة فصلًا قائمًا بذاته، فلا يسعنا إلا أن نخصص بقية هذا الفصل لنقصَّ عليك فيه بإيجاز كبير تاريخ ذلك الكشف الأثري، وختام قصته.

والظاهر من محاضر النادي أن المستر بكوك ألقى محاضرة عنه في جمعية عامة، عُقِدت في مساء اليوم التالي لعودتهم، وتناول في المحاضرة طائفة من التفسيرات الطريفة، والتعليلات والنظريات البارعة، في معنى تلك النقوش ومرادها، كما يظهر أن رسامًا حاذقًا تولَّى رسم ذلك الحجر الغريب بكل معالمه ودقائقه في أمانة وإتقان، وأن هذا الرسم طُبِع على الحجر، وقُدِّمت نسخ منه إلى جمعية الآثار الملكية وغيرها من الهيئات العلمية، وأن الحسد والغيرة بمختلف أعراضهما ومظاهرهما المتعددة دبَّا في نفوس المنافسين؛ فذهبوا في الجدل حول موضوع الحجر كل المذاهب، وأن المستر بكوك نفسه كتب «رسالة» في ست وتسعين صفحة بالخط الدقيق، وساق سبعة وعشرين تعليلًا مختلفًا لمعنى تلك النقوش، والمراد منها، وأن ثلاثة سادات كبار السن حرموا أكبر أولادهم من الميراث، وقطعوا منه نصيبهم لافتراضهم الشك في صحة ذلك الأثر، وأن شخصًا آخَر اشتدت الحماسة به فقطع رقبته منتحرًا قبل الأوان؛ يأسًا من عجزه عن استقصاء معانيه، وأن المستر بكوك عيَّن عضوًا فخريًّا في سبع عشرة جمعية، بين أهلية وأجنبية؛ عرفانًا بفضل اكتشافه، وأن هذه الجمعيات السبع عشرة لم تهتدِ واحدة منها إلى شيء بسبيله، ولكنها كانت جميعًا متفقة على أنه كشف نادر خارق للمألوف حقًّا.

غير أن المستر «بلوتن» الذي يستهدف اسمه حتمًا لاحتقار أبدي من جانب المولعين بكل غريب، ورفيع وجليل، نقول: إن المستر بلوتن راح بذلك الشك، وتلك المكابرة، اللذين عُرِفَا عن العامة وأصحاب العقول السوقية، يذهب في تأويل هذا الكشف مذهبًا يحط من القدر، ويثير الضحك والسخرية، فقد أراد أن يطفئ بريق اسم «بكوك» الخالد، فقصد إلى «كوبهام» بنفسه، وعاد فألقى في النادي خطابًا يقول فيه ساخرًا متهكمًا: إنه اجتمع بالرجل الذي اشترى ذلك الحجر منه، وإنه يظن أن الحجر قديم، ولكنه نفى قطعًا أن النقش الظاهر عليه أثري؛ لأنه هو الذي نقشه بنفسه في بعض أوقات فراغه، وأن تلك الحروف لا يُراد بها أكثر ولا أقل من شيء واحد، وهو تكوين اسمه منها، فهو يدعى «بيل سطمبس» — هذه علامته — وأن المستر سطبمس لم يكن قد اعتاد الإنشاء، وإنما كل ما يسترشد به في نقش الحروف والكلمات هو «أصواتها» أكثر مما يستهدي بقواعد الكتابة والتشكيل ذاتها، ولهذا نسي اللام الأخرى من اسمه الأول.

وقد تلقى نادي بكوك — كما يُنتظَر من معهد مستنير مثله — هذا القول بما يستحقه من الاحتقار، وقرَّر فصل «بلوتن» — الجريء في دعواه، الضعيف السيئ الحال — من عضويته، وإهداء المستر بكوك منظارًا ذهبيًّا رمزًا لثقة النادي به، وموافقته على ما صرَّح به، فلم يكن من المستر بكوك في الرد على هذا العرفان إلا أن عهد إلى رسام برسم صورة زيتية له لتعليقها في قاعة النادي.

ولئن كان المستر بلوتن قد طُرِد من النادي، فقد ظل مناضلًا لا يُقهَر، وراح يوجِّه «رسالة» إلى الجمعيات العلمية السبع عشرة، الأهلية والأجنبية، مكررًا فيها البيانات التي سبق أن أدلى بها، وكاد خلالها يفصح عن رأيه في أن هذه الجمعيات السبع عشرة نصابة محتالة «مهرجة»، وغضبت الجمعيات السبع عشرة الأهلية والأجنبية لكرامتها، فلم تلبث أن ظهرت عدة رسالات أخرى في الموضوع ذاته، وتبادلت الجمعيات العلمية الأجنبية المكاتبات مع الجمعيات العلمية الأهلية، وتولت هذه ترجمة رسالات تلك إلى الإنجليزية، وتولت تلك نقل رسالات الأولى إلى لغاتها، وبدأ بذلك النقاش العلمي المشهور الذي عرفه الناس جميعًا، وأطلقوا عليه القضية البكوكية.

ولكن هذه المحاولة في سبيل إيذاء المستر بكوك في سمعته ارتدَّتْ في نحر صاحبها المفتري، فقد أجمعت الهيئات العلمية السبع عشرة على أن هذا المفتري بلوتن جاهل دَعِيٌّ، وشرعت في إعداد بحوث أخرى، ورسالات جديدة، ولا يزال ذلك الحجر إلى يومنا هذا قائمًا أثرًا مطماسًا غير مقروء من آثار عظمة المستر بكوك، بل أثرًا باقيًا من آثار صغار خصومه، وهوان أقدارهم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤