الفصل السابع عشر

يبيِّن كيف تكون الإصابة «بالنقرس» في بعض الأحيان حافزًا لعبقرية الابتكار والابتداع.

***

لم تكن بِنْيَةُ المستر بكوك — رغم مقدرتها على احتمال قدر كبير من الجهد والإعياء — منيعةً ضد تلك الهجمات المجتمعة التي قاساها في تلك اللية المشهودة التي وصفناها في الفصل الماضي، فقد كان البلل الذي أصابه من تلك الليلة العاصفة المطيرة، والاحتجاز في غرفة ضيقة، خطرين كما هما فريدان في ذاتهما، فلا عجب إذا هو اعتكف في فراشه من وطأة النقرس.

ولكن إذا كانت القوى البدنية التي أوتيها ذلك الرجل العظيم قد تعرضت للتلف على هذا النحو، فقد ظلَّتْ قواه الذهنية محتفظة بشدة بأسها، ومرونتها الطبيعية؛ إذ كانت المرونة غالبة على قواه المعنوية، فلم يلبث أن استرد روحه الفكهة، حتى لقد توارى من خاطره ذلك الغيظ الذي أحسه عقب تلك المخاطرة الأخيرة التي أقدم عليها، فاستطاع أن يشارك في الضحك الصادق المنبعث من القلب، لكل تلميح أو إشارة تثيره في نفس صاحبه المستر واردل، دون غضب أو ارتباك، بل أكثر من هذا، أن سام ظل ملازمًا خدمته طيلة اليومين اللذين اعتكفهما في فراشه، فحاول في اليوم الأول الترويح عن سيده بالنوادر والأحاديث، ولكن المستر بكوك طلب في اليوم الثاني مسنَدًا وقلمًا ودواة، ولبث طيلة اليوم منهمكًا في الكتابة، وفي اليوم الثالث استطاع الجلوس في غرفته، وأوفد خادمه برسالة إلى المستر واردل والمستر تراندل يقول فيها: إنه ليسره السرور كله إذا تفضَّلَا بتناول شرابهما في حجرته في ذلك المساء، وجاء الرد بقبول الدعوة مع أجزل الشكر، وما إن جلسا إلى النبيذ واطمأن بهما المجلس، حتى أخرج المستر بكوك على استحياء القصة الصغيرة التالية، قائلًا إنه هو الذي أشرف على صياغتها وتحريرها بنفسه من واقع الملاحظات التي دوَّنها لما سمعه من رواية المستر ولر بفطرته الساذجة، وسليقته البريئة.

قس الأبرشية «قصة حب صادق»

كان في سالف الدهر، وفي بلدة صغيرة بسواد الريف، تبعد كثيرًا من لندن، رجلٌ قصير القامة يُدعَى «نثنايل بيبكن» يشتغل في أبرشية البلدة، ويقيم في بيت صغير في شارعها المتواضع الذي لم يكن يبعد عن الكنيسة أكثر من مسيرة عشر دقائق، وكان أكثر نهاره — من التاسعة إلى الرابعة — يقوم بتعليم الأطفال الصغار شيئًا من العلم، وكان نثنايل بيبكن هذا مخلوقًا وديعًا لا أذاة منه، ولا عدوان على أحد من جانبه، طيب القلب، سليم الطوية، له أنف مرتفع إلى أعلى، وساقان ملتويتان إلى الداخل، وفي عينيه حول، وفي مشيته عرج، وقد مضى يقسِّم وقته بين الكنيسة والمدرسة، معتقدًا عن يقين أن ليس على وجه الأرض رجل في مثل براعة راعي الأبرشية وذكائه، ولا مكان أروع من قاعة الصلاة فيها، ولا مدرسة في مثل نظام مدرسته وحسن تنسيقها، ولم يكن «نثنايل بيبكن» بل كان الحدث الأوحد الذي أزعج تيار فقط، أسقفًا حقيقيًّا في أردان خضر، وشعر مستعار، فقد شهده وهو يمشي، وسمعه وهو يتحدث في تثبيت العماد، حتى لقد استولى على نثنايل بيبكن في تلك المناسبة الجليلة، من فرط الرهبة والروع، حين ألقى الأسقف يده فوق رأسه، ما جعله يغمى في الحال عليه، فيحمله الشماس بين ذراعيه، ويخرج به من الكنيسة.

لقد كان ذلك حدثًا عظيمًا، وعهدًا مشهودًا، في حياة «نثنايل بيبكن»، بل كان الحدث الأوحد الذي أزعج تيار حياته الهادئة، حتى حدث في ذات أصيل رائق أن حانت منه وهو شارد الخاطر نظرة، بينما كان مكبًّا على لوح «الإردواز» ليفكر في مسألة حسابية يعطيها لصبي عقابًا له على خطأ ارتكبه، وإذا تلك النظرة تستقر فجأة على مُحَيَّا فتاة صبيحة تُدعَى «مرايا لوبز»، وهي الابنة الوحيدة للشيخ لوبز صانع السروج الكبير الذي تقع داره في الناحية المقابلة، وكانت عينا المستر بيبكن كثيرًا ما استقرتا من قبلُ، في الكنيسة وغيرها، على وجه مرايا المليح، ولكن عيني مرايا لوبز لم تبدوا قبل هذه المرة في مثل بهائهما وبريقهما، ولا لاح خداها يومًا في مثل تلك الحمرة التي بدت بهما في تلك المرة بالذات؛ فلا عجب إذا لم يستطع نثنايل بيبكن أن يرد عينيه عنهما، ولا غرو إذا هي تراجعت عن النافذة التي كانت تطل منها، حين رأت شابًّا يطيل النظر إليها، وأغلقتها وأسدلت الستار، ولا غرابة أيضًا إذا راح نثنايل بيبكن بعد ذلك مباشرة ينقضُّ على ذلك الصبي الصغير المخطئ فيوسعه ضربًا، ويمرغه تمريغًا؛ شفاءً لغليله، ولم يكن في ذلك كله من عجب، فقد كان شيئًا طبيعيًّا جدًّا لا غرابة فيه.

ولكن العجب مع ذلك أن امرأً في مثل طبيعة المستر بيبكن وانزوائه، وعصبية مزاجه، وقلة موارده خاصة، بدأ من ذلك اليوم يجرؤ على التطلع إلى خطبة يد تلك الابنة الوحيدة التي رُزِق بها الشيخ لوبز الحاد الطباع، والطمع في كسب قلبها، وهي ابنة ذلك «السروجي» العظيم، الذي كان في وسعه أن يشتري القرية كلها بجرة قلمه دون أن يشعر بأنه أنفق شيئًا، ذلك الشيخ «لوبز» الذي عُرِف عنه أنه يملك أموالًا طائلة مودعة في المصرف القائم في «البندر» المجاور … وذلك الشيخ الذي قيل أنه يختزن كنوزًا لا تُعَدُّ ولا تنفد، في تلك الخزانة الصغيرة ذات المفتاح الضخم، القائمة فوق «الطنف» في الحجرة الخلفية من البيت، ذلك الشيخ الذي تسامع الناس عن مآدبه وولائمه، وكيف كانت موائده تزدان بآنية شاي من الفضة الخالصة، وإبريق للقشدة، ووعاء للسكر، وكيف كان من عادته أن يفخر في زهوه وكبريائه بأن تلك «الفضيات» ستكون ملكًا لابنته حين تجد الرجل الذي تختاره لفؤادها، بل إني لأكرر أنه من العجب العجاب حقًّا أن يجسر امرؤ مثل نثنايل بيبكن على مد عينيه إلى هذه الناحية، ولكن الحب أعمى، وفي عين نثنايل — كما علمت — «حول»، ولعل هذين العاملين مجتمعين هما اللذان «حالا» بينه وبين النظر إلى المسألة في ضوئها الصحيح.

ولو كان الشيخ لوبز قد خامرته أقل فكرة عن الحب الذي دبَّ في قلب نثنايل بيبكن، لَعمد إلى المدرسة فدكَّها دكًّا، وسواها بالتراب، أو لَمَحَا معلمها من وجه الأرض، أو اقترف أمرًا آخَر لا يقل في نكره وبشاعته، وعنفه وقوته، عما وصفناه، فقد كان شيخًا مرهوبًا جبارًا، إذا مس امرؤ كبرياءه، أو أثار غضبه، وأنه ليست الأخضرين … حتى لتخرج ألفاظ السباب واللعنات والأيمان متدفقة منه مدوية قاصفة كالرعد في طريقها، حين يندد ببلادة صبيه المعروق، ذي السياقين النحيلتين، حتى ليزحف نثنايل بيبكن، ويسقط قلبه في حذائه من الرعب، ويقف شعر رءوس الأطفال الصغار في المدرسة من الفزع.

ومرت الأيام … فكان نثنايل بيبكن بعد انتهاء الدروس، وانصراف التلاميذ، يجلس قبالة النافذة الأمامية، متظاهرًا بأنه يقرأ في كتاب، وهو في الواقع يلقي نظرات جانبية على عدوة الطريق، باحثًا بعينيه عن عيني مرايا لوبز البراقتين، ولم تنقضِ عدة أيام عليه وهو ملازم مجلسه هذا، حتى ظهرت هاتان العينان البراقتان في إحدى النوافذ العليا، وصاحبتهما تبدو منهمكة في القراءة أيضًا، فكان ذلك باعث ابتهاجة وفرحة بالغة لقلبه، وكان حسب فؤاده أن يجلس على هذه الحال ساعات طوالًا، وينظر إلى ذلك الوجه المليح، وإن ظلت عيناها رانيتين إلى الكتاب لا ترتفعان عنه، ولكن بدأت مرايا لوبز ترفعانهما عنه، وترسلان أشعتهما صوبه، فلم يلبث فرحه وإعجابه أن تجاوزا كل حد. وفي ذات يوم، حين عرف أن الشيخ لوبز لم يكن في البيت، تجرأ نثنايل بيبكن على تقبيل يده «لمرايا»، ولكنها في هذه المرة لم تغلق النافذة، ولم تسدل الستر، بل راحت تقبِّل «يدها» له وهي تبتسم … فما أن رأى ذلك حتى صح منه العزم على أن يساير عاطفته بلا إبطاء، مهما تكن العاقبة.

ولعمري ما وطئت وجه الأرض قدم أجمل، ولا حوت الدنيا فؤادًا أكثر مرحًا، ولا مُحَيَّا أوفر أحوالًا وطوابع حسن، ولا قوامًا أهيف وأبدع، من قدم مرايا، وفؤادها، وطلعتها، وقوامها … لقد كان في عينيها المتلألئتين رنوة ماكرة لكي تشق طريقها إلى صدورٍ أقل حساسية من صدره، وفي ضحكتها المرحة وسوسة فرحة لا يسع أشد الناس سخطًا على الحياة، وتبرمًا بالدنيا، إلا أن يبتسم لسماعها، بل إن الشيخ لوبز نفسه، وهو في قمة وحشيته وذروة حنقه، لا يستطيع أن يقاوم ملاعبة ابنته المليحة الحسناء، وكلما مضت هي وابنة عمٍّ لها تُدعَى «كيت» — وهي فتاة ذكية، جريئة، فاتنة، صغيرة البدن — تسألان الشيخ حاجة، وكثيرًا ما تسألانه، لم يكن يستطيع أن يرفض لهما سؤالًا، حتى ولو طلبتا إليه أن ينزل لهما عن جزء من كنوزه التي لا تُعَدُّ ولا تنفد، والتي حجبها عن نور الشمس في تلك الخزانة الحديدية.

وجعل قلب نثنايل بيبكن يخفق في جوانحه حين شهد هاتين الساحرتين الصغيرتين على قيد بضع مئات من الياردات منه، في ذات مساء صائف في ذلك الحقل ذاته الذي طالما يجول في أرجائه إلى أوان الليل، وتمثَّل جمال «مرايا لوبز» في خاطره، وفكَّر في حسنها الفتان، ولَكَمْ فكَّر من قبلُ في التقدم بجرأة إليها، ومكاشفتها نجوى حبه، إذا تواتى له يومًا لقاؤها، ولكنه شعر حين وجدها في ذلك الحقل فجأة ماثلة حياله، تصاعد الدم كله في شرايينه إلى وجهه، من فرط الخجل والارتباك، فتخاذلت ساقاه لحرمانهما من نصيبهما من دمه، ورجفتا من تحته.

ولما وقفتا تقطفان شيئًا من الزهر، أو تستمعان إلى شدو طائر، وقف هو كذلك، وتظاهر بأنه مشغول بالتفكير، وإن كان ذلك هو الواقع؛ لأنه كان فعلًا يفكر فيما ينبغي أن يفعله، إذا هما تولتا بظهريهما، وتلاقَتَا به وجهًا لوجه، وهو ما ستفعلانه حتمًا بعد لحظة، ولئن خشي أن يتقدم هو نحوهما، فلم يكن ليحتمل احتجابهما عن ناظره، وحرمان عينه من رؤيتهما، فلا عجب إذا أسرع في مشيته حين رآهما تسرعان، وتباطأ كلما تباطأتا، ووقف كلما وقفتا، وكان من المحتمل أن تظلا منطلقتين على هذا النحو، حتى تحول عتمة الليل دونهما، لو لم تُلْقِ «كيت» بمكرٍ نظرة إلى الخلف، وتشير إشارة مشجعة إليه أن يتقدم، وكان في إشارتها شيء لم يستطع مغالبته، فاستجاب للدعوة، وبعد خجل شديد منه، وضحك كثير من تلك الصغيرة الماكرة، راح نثنايل بيبكن يجثو فوق الحشائش الندية، وأعلن أنه لن ينهض من جثوته تلك إلى الأبد، إلا إذا أذنت له مرايا لوبز بالنهوض حبيبًا مقبولًا منها، وعندئذٍ دوت ضحكات مرايا في أرجاء الفضاء، مبددة سكينة المساء، وإن لم تكدر صفاءه، أو تزعج هدأته؛ لفرط حلاوتها، وشدة عذوبتها، وانطلقت الصغيرة الماكرة تضحك أكثر من قبلُ، فازداد نثنايل بيبكن حياءً وخجلًا، وأخيرًا، وبعد إلحاح شديد من هذا الرجل الصغير الذي أضواه الحب، أشاحت مرايا بوجهها وهمست لابنة عمها، أن تقول له … وقد قالت كيت فعلًا: «على كل حال — كما بدا لك — إنها تشعر بشرف بالغ مما عرضته عليها، وتحدَّثت به إليها، وإن يدها وفؤادها تحت تصرُّف أبيها، وإن لم تخفَ على أحد مواهب المستر بيبكن، ولا يستطيع إنسان أن ينكرها عليه.»

وقد جرى هذا الكلام كله بجد ظاهر، وانطلق نثنايل عائدًا مع مرايا إلى البيت، وحاول جاهدًا أن ينتزع من وجنتها قبلة قبل الوداع، فلا عجب إذا هو أوى إلى فراشه سعيدًا قرير العين، وراح يحلم طيلة الليل أنه قد ذهب يترضى الشيخ لوبز، وينشد موافقته، ويفتح الخزانة، ويبني بمرايا، ويتم له الزفاف بها.

وفي اليوم التالي رأى نثنايل بيبكن الشيخ يخرج على مهره الأدهم، وبعد عدة إشارات من الصغيرة الماكرة، وهي واقفة في النافذة، وإن لم يستطع مطلقًا فهم الغرض منها، ولا إدراك معانيها، جاءه الصبي المعروق ذو الساقين الناحلتين ليقول له: إن سيده سوف لا يئوب إلى البيت في تلك الليلة، وإن السيدتين تنتظرانه لتناول الشاي معهما في تمام السادسة، ولا يدري نثنايل بيبكن، ولا تلاميذه الصغار يدرون أكثر مما تدري أنت، كيف انقضت الدروس في ذلك النهار، سوى أنها انقضت، على أية صورة انقضت، ولم يكد الصبيان ينصرفون، حتى أنفق نثنايل بيبكن الوقت كله إلى السادسة في تجميل بزته، وتزيين سمته، إلى أن رضي عن شكله، وراقته صورته، ولم يكن كل ذلك الوقت الطويل قد ذهب في اختيار الثياب التي يحسن به أن يرتديها؛ إذ لم يكن لديه منها ما يتعب في اختياره، أو يحار كثيرًا في اصطفائه، ولكنه انقضى في الارتداء ذاته، وعملية اللبس نفسها، وأحسن المظاهر المناسبة للاشتمال بها، فقد كان ذلك كله مهمة شاقة، وعملًا خطيرًا.

وكانت الحفلة صغيرة تتألف من مرايا لوبز، وابنة عمها كيت، وثلاث أو أربع بنات مرحات، فكهات، متوردات الخدود، وشاهد نثنايل بيبكن بعيني رأسه ما تحقق به أن ما يقال عن كنوز لوبز وأمواله المخبوءة لم يكن مبالَغًا فيه، فقد رأى حقًّا إناء الشاي، وإبريق القشدة، ووعاء السكر، وكلها من الفضة الخالصة، قوائم فوق المائدة، ورأى كذلك الملاعق، والصحاف التي وُضِعت فيها الفطائر، والخبز المحمر، من الفضة كذلك، وكان الشيء الوحيد الذي يؤذي العين ويقتحمه البصر، ابن عمٍّ آخَر لمرايا، وأخ «لكيت» كانت مرايا تدعوه «هنري»، فقد راح يستحوذ على مرايا كلها لنفسه في ركن من الخوان، ومن الممتع للعين أن نشهد المحبة بادية في أفق العشيرة، ولكنها قد تغلو حتى تتجاوز الحد، ولم يسع نثنايل بيبكن إلا أن يعتقد أن مرايا لا بد أن تكون مولعة إلى حد بعيد بأهلها، وذوي قرباها؛ إذ كانت تبدي من العناية بهم قدر ما هي مبتديته نحو ابن عمها هذا.

وحدث أيضًا بعد الفراغ من تناول الشاي أن اقترحت الصغيرة الماكرة على الجمع لعبة «الاستغماء»، فكان نثنايل بيبكن، وهو أبدًا أعمى معصوب العينين، كلما ألقى يده على ذلك الفتى الصغير، وجد مرايا في كل مرة على مقربة منه، وعلى الرغم من أن تلك الماكرة الصغيرة والبنات الأخريات جعلن يعركنه، ويجذبن شعره، ويضعن المقاعد في طريقه، ويفعلن به ما شاء العبث لهن، بدا له أن مرايا لم تكن تدنو منه أبدًا، وكان في وسعه أن يُقسِم في إحدى المرات أنه سمع صوت قُبْلة، ثم كلمة احتجاج من مرايا، فضحكات مكبوتة من البنات، وكان ذلك كله عجيبًا، متناهيًا في العجب، ولا ندري هل كان من الجائز أن يفعله نثنايل بيبكن في هذا الموقف لو لم تتجه أفكاره فجأة وجهة جديدة.

وكانت الظروف التي حملته على التفكير في ذلك الاتجاه الجديد هي صوت شديد بالباب، ولم يكن ذلك الطارق العنيف أحدًا سوى الشيخ لوبز نفسه، فقد عاد فجأة، وانطلق يدق الباب كما يدق «حامل الموتى» بالمطرقة نعش ميت؛ لأنه كان يريد عشاءه، وما كاد صبي، وصانع السروج المعروق الناحل الساقين يحمل هذا النبأ المزعج، حتى بادرت البنات إلى الصعود إلى مخدع «مرايا لوبز»، وألقي ابن العم ونثنايل بيبكن في غرفتين حبيستين داخل قاعة الجلوس؛ إذ لم يكن في البيت كله مخبأ أصلح من ذلك لهما، وما إن انتهت مرايا لوبز وابنة عمها الصغيرة الماكرة من إخفائهما على تلك الصورة، وإصلاح ما اضطرب من أثاث الحجرة — حتى فتحتا الباب للشيخ، ولم يكن قد كف عن الطرق منذ بدأه.

وحدث لسوء الحظ أن الشيخ كان من الجوع في غضب موحش، فاستطاع نثنايل أن يسمع زمجرته كعواء كلب ضخم مبحوح الحنجرة، وكلما دخل الحجرة ذلك الصبي المعروق التعس ذو الساقين الناحلتين، هَبَّ فيه ذلك الشيخ سابًّا لاعنًا، وهو في حنق شديد، لا لسبب ظاهر أو غرضٍ غير التنفيس عن صدره بإطلاق بضع لعنات أخرى، وأخيرًا وُضِع العشاء بعد تسخينه فوق المائدة، فأكبَّ الشيخ عليه كدأبه، وما لبث أن أتى عليه كله، وقبل ابنته، وطلب قصبته.

وكانت الطبيعة قد ركبت ركبتي نثنايل بيبكن تركيبًا جعلهما متقاربتين متلاصقتين، ولكنهما حين سمع الشيخ يطلب القصبة، اصطكتا، كأن كل ركلة منهما توشك أن تسحق الأخرى سحقًا، فقد رأى في الغرفة ذاتها التي احتبس فيها قصبة سوداء الجذع، فضية التجويف، متدلية من خطافين، وكانت هي القصبة التي يراها في فم الشيخ كل أصيل ومساء خلال السنوات الخمس الماضية، ونزلت الفتاتان إلى الطبقة الأولى من البيت لإحضار القصبة، ثم صعدتا إلى الطبقة العليا، ثم ذهبتا تبحثان عنها في كل مكان، إلا المكان الذي تعرفان أن القصبة فيه، بينما لبث الشيخ يعصف ويقصف أعجب العصف والقصف، ولكنه تذكَّر أخيرًا تلك الغرفة الصغيرة، فمشى إليها، ولم تكن ثمة جدوى من أن يحاول رجل صغير الجثة كنثنايل بيبكن سد الباب من الداخل، إذا كان الذي يشده من الخارج رجلًا ضخمًا شديد البأس كالشيخ لوبز، فلم يَحْتَجْ إلى أكثر من جذبة واحدة، وإذا بالباب ينفتح دفعة واحدة، وإذا نثنايل بيبكن واقف في الحجرة يرعش من الخوف، ويرجف من رأسه إلى أخمص قدميه. الرحمة يا رب! ما كان أبشع النظرة التي ألقاها الشيخ على المسكين، وهو يجره من رقبته جرًّا، ويوقفه على بُعْد الذراع منه.

وانثنى يصيح به قائلًا بصوت مخيف: «أي شيطان جاء بك إلى هنا؟»

ولم يستطع نثنايل بيبكن أن يجيب، فجعل الشيخ يهزه إلى أمام، ويرده إلى خلف، دقيقتين أو ثلاثًا كي يحمله على الكلام، والاهتداء إلى رأي أو حجة يعتذر بها.

وزأر لوبز قائلًا: «ماذا تريد هنا؟ أحسبك جئت من أجل ابنتي!»

وكان الشيخ قد قال هذه العبارة سخريةً منه، وازدراءً به؛ لأنه لم يكن يعتقد أن مثل نثنايل بيبكن يمكن أن تسول له النفس الإقدام إلى هذا الحد.

ولشد ما كان حنقه حين راح ذلك المسكين يقول: «يا مستر لوبز، لقد جئت في طلب ابنتك، إنني أحبها يا مستر لوبز.»

وهنا زفر الشيخ، وكاد الفالج يقدح في ساقيه من نكر هذا الاعتراف، وصاح به قائلًا: «ماذا تقول أيها الشقي، الماخط الأنف، المعوج الوجه، الناقص النمو؟ ماذا تعني بهذا؟ قُلْ هذا في وجهي لكي أخنقك خنقًا.»

وأكبر الظن أن الشيخ لوبز كان سيُخرِج ذلك الوعيد مخرج التنفيذ في فورة غضبه، لولا أن أمسك بذراعه شبح تراءى فجأة أمامه، ونعني به ابن عم مرايا ذاته، فقد خرج من محبسه، وتقدَّم نحو الشيخ قائلًا: «لا أستطيع أن أسمح يا سيدي بأن تقع التبعة عن خطأ أنا الذي اقترفته — إن صح أن يُدعَى ما فعلته خطأ، وأنا على استعداد للاعتراف به — على هذا الشخص العاجز عن الأذى الذي دُعِي إلى هنا، بحيلة بريئة من حيل البنات، إنني أحب ابنتك يا سيدي، وأنا هنا لكي أجتمع بها.»

وفتح الشيخ لوبز عينيه على سعتهما حين سمع هذا القول، ولكن عيني نثنايل بيبكن كانتا أكثر سعة، وأرحب حدقًا.

وقال الشيخ أخيرًا حين تمالك أنفاسه اللاهثة: «أأنت الذي فعلت؟»

– «نعم، أنا الذي فعلت.»

– «بعد أن منعتك من دخول هذا البيت منذ زمن بعيد.»

– «نعم، أنت منعتني، ولولا ذلك لما جئت إلى هنا سرًّا في هذه الليلة.»

وإني لآسِف أن أقرر هنا أن الشيخ كان سيهمُّ بالانقضاض على الفتى، لولا أن تعلقت ابنته الحسناء بذراعه، والدموع تنهمر من عينيها البراقتين.

وقال الفتي: «لا تمنعيه يا مرايا، فإن كان يريد أن يضربني فدَعِيه، فلن أمسَّ شعرة واحدة من رأسه الذي علاه المشيب، ولو أوتيت ما في الأرض من ثراء.»

وأطرق الشيخ خجلًا من هذا العتاب، والتقت عيناه بعيني ابنته، وقد ألمعت من قبلُ مرة أو مرتين إلى بريق هاتين العينين، ولكني هنا أقرر أن سلطانهما رغم اغروراقهما بالعَبَرَات، لم يقلَّ ولم ينقصْ شيئًا، وأشاح الشيخ بوجهه، كأنما يتحامى من فتنتهما، وإذا هو بمحض المصادفة يلتقي بوجه تلك الصغيرة الماكرة، وكانت من خوفها على أخيها، وضحكها من نثنايل بيبكن قد أبدت من سحر مُحَيَّاها، وفتون مكرها، وحيائها كذلك، ما لا يقوى أي رجل — سواء أكان شيخًا أم شابًّا — على مغالبته، وراحت تدخل في دلال ودعابة وإغراء ذراعها في ذراع الشيخ، وتهمس له كلامًا في أذنه، فلم يسع لوبز — وهو حيالها العاجز المستكين — إلا أن ابتسم، وإن تسللت في الوقت ذاته دمعة إلى خده.

ولم تنقضِ دقائق حتى دُعِيت الفتيات من المخدع، فجئن في ضحك كثير واستحياء، وبينما كان الشباب في سرور وهناءة بالغَيْنِ، تناول الشيخ لوبز القصبة، ومضى يدخن، وكان الظرف الذي أحاط بتلك القصبة دون سواها عجيبًا، فلا عجب إذا هو شعر بأنها ألطف قصبة دخنها في حياته، وأكثر شيء إمتاعًا وترفيهًا.

ورأى نثنايل أنه من الخير الرضى بما قُسِم له، والصبر على ما أصابه، فراح شيئًا فشيئًا يرتفع مكانه عند الشيخ لوبز، ويصيب حظوة متزايدة لديه، فجعل هذا يعلمه التدخين على الأيام، واعتادا الجلوس معًا في الحديقة كلما راق المساء، عدة سنين، يدخنان ويتعاطيان الشراب في مجلس ممتع، وخلوة هنية.

ولم يلبث أن نقه من أثر الحب؛ إذ لا يزال اسمه مدوَّنًا في سجلات الأبرشية، شاهدًا على زواج مرايا لوبز بابن عمها، والظاهر أيضًا من الرجوع إلى وثائق أخرى أنه في ليلة الزفاف وُضِع في سجن القرية وهو في حالة سُكْر بيِّن، وعربدة في الطريق العام، اشترك فيها معه وخفف من حدتها بجانبه، ذلك الصبي المعروق الناحل الساقين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤