الفصل الحادي والعشرون

وفيه ينطلق ذلك الشيخ متحدثًا عن الموضوع الأثير لديه ويروي قصته عن عميل غريب.

***

وقال الشيخ الذي وصفناه لك بإيجاز في الفصل السابق: «أها … من ذا الذي كان يتحدث اللحظة عن الفنادق؟»

فأجاب المستر بكوك: «أنا يا سيدي، وقد قلت إنها أماكن قديمة فريدة في نوعها.»

وقال الشيخ بسخرية: «أنت؟ وماذا تعرف أنت عن ذلك الزمان الذي كان الشباب فيه يحبسون أنفسهم في تلك الحجرات الموحشة، ويُكبون على القراءة ساعة بعد أخرى، وليلة بعد ليلة، حتى تضل عقولهم من طول دراساتهم حتى منتصف الليل، وحتى تعيا قواهم العقلية وتضمحل، وحتى يطلع النهار فلا يوافيهم بتجدد ولا انتعاش، ولا صحة ولا عافية، بل يغرقون في ذلك التوفر غير الطبيعي على كتبهم الجافة القديمة، ويفنون فيها شبابهم؟ وإذا نحن انتقلنا من ذلك العهد الغابر إلى عهد أقرب منه إلينا، وزمان مختلف عنه كل الاختلاف، فماذا تعرف أنت عن الرزوح البطيء تحت مرض الصدر، أو الذبول السريع من الحمى، أو تلك النتائج العظيمة الملازمة للحياة والإسراف على النفس، التي عاناها الناس في تلك الحجرات ذاتها؟ وكم من طلاب رحمة تظن أنهم عادوا كسيري القلوب من مكتب أحد المحامين ليجدوا موضع راحة أبدية في أمواه التاميز، أو ملاذًا لهم في جوف المحابس وغَيَابَةِ السجون؟ إن تلك الدور ليست عادية فما من لوح زجاجي في جدار قديم لو أوتي قوة النطق وملكة الذاكرة، لما تردد في الخروج من مكانه ذاك في الجدار؛ ليروي حديث ما شاهد من شقاء وعذاب وألم، إنها قصة الحياة يا سيدي، قصة الحياة، وقد تبدو تلك الأماكن اليوم عادية، ولكني أقول لك: إنها أماكن أثرية غريبة، وإني لأوثر أن أسمع أساطيرَ وقصصًا مروعة رهيبة ذات أوصاف وأسماء مخيفة، على سماع التاريخ الحقيقي لحجرة من تلك الحجرات التي تتألف الفنادق العتيقة منها.»

وكان في حماسة الشيخ على هذه الصورة الفجائية شيء غريب، وفي الموضوع الذي أثاره على هذا النحو عجب بالغ لم يكن المستر بكوك يتوقعه حتى يهيئ الجواب عنه، فانثنى الشيخ، وقد كبح من جماح حدته، وعاد إلى غمزاته، بعد أن اختفت حماسته السابقة، يقول: «انظر إليها من ناحية أخرى … أو قل: من أقل نواحيها غرابة، وأبعدها من الطرافة، ما أبدعها من أماكن للتعذيب البطيء! تصور ذلك البائس الفقير الذي أنفق كل ما كان لديه، حتى بات متسولًا، ومضى يسرق من صحابه، وذهب يدخل مهنة لن تأتيه بكسرة من الخبز. تصور اللهفة، والأمل، والخيبة، والخوف، والبؤس، والفاقة، وذبول الأماني، ونهاية المصير من انتحار أو حياة سكير في خرق بالية وأسمال ونعل مخصوف، ألستُ على حق فيما أتحدث به عنهم؟»

ومضى الشيخ يفرك يديه، ويغمز كدأبه من السرور لاهتدائه إلى وجهة نظر أخرى تتصل بالموضع الأثير لديه.

ونظر المستر بكوك إلى الرجل بدهشة بالغة وابتسم القوم ونظروا في صمت لا ينبسون.

وواصل الشيخ الحديث قائلًا: «فلتتحدثوا عن جامعاتكم الألمانية ما شئتم. يا للضلالة! إن في بلادكم من الطرافة وروعة الخيال ما يكفي، بل ما يغني عن الخروج منها ولو نصف ميل، ولكن الناس لا يفكرون أبدًا.»

قال المستر بكوك ضاحكًا: «الواقع أنني لم أفكر قبل الآن في طرافة هذا الموضوع بالذات.»

وأجاب الشيخ قائلًا: «بالطبع لم تفكر، بلا شك لم تفعل، كما اعتاد صديق لي أن يقول: ماذا في حجرات الفنادق من غريب؟ فكنت أقول: إنها أماكن قديمة غريبة، فكان يقول: كلا! وكنت أقول: «مهجورة»، وكان يرد قائلًا: ليست في شيء من هذا بتاتًا، ومات في ذات صباح بالسكتة وهو يهم بفتح باب بيته الخارجي، فسقط رأسه في صندوق الخطابات حيث لبث ثمانية عشر شهرًا، وظن الناس جميعًا أنه قد سافر من المدينة.»

وسأل المستر بكوك: «وكيف وجدوه في النهاية؟»

وأجاب الشيخ قائلًا: «لقد أصر القضاة على كسر بابه وفتحه؛ لأنه لم يكن قد دفع الأجرة منذ عامين، ففعلوا، وكسروا القفل عنوة، وعندئذٍ سقط هيكل عظمي علاه الغبار الكثيف، وهو في سترة زرقاء وسراويل سود إلى الركبة، بين ذراعي البواب الذي فتح الباب، أليس هذا غريبًا؟ ربما كان كذلك.»

وراح الشيخ يميل برأسه إلى ناحية أكثر من قبل ويفرك كفيه بفرح لا يوصف.

ومضى يقول: حين أخذت نواجذه وقسمات وجهه تهبط قليلًا: «وأعرف حادثة أخرى جرت في فندق كليفورد، وهي أن نزيلًا سيئ السيرة حبس نفسه في مخدعه وتناول جرعة من الزرنيخ، وظن كبير الخدم أن الرجل قد هرب، ففتح الباب، وعلق إعلانًا به، وجاء نزيل آخر، فاستأجر الغرب وفرشها وانتقل للمقام فيها، ولكنه لم يجد النوم مطاوعًا، فلبث يتقلب في فراشه قلقًا متعبًا، وانثنى يقول لنفسه: هذا شيء غريب، سأجعل الغرفة الأخرى منامة لي، وأتخذ هذه غرفة جلوس، وفعلًا أحدث هذا التغيير، وطاب له النوم ليلًا، ولكنه في المساء، وجد نفسه قلقًا هائج الأعصاب لا يستطيع القراءة، ولا يكف عن إصلاح ذبالة الشموع وإجالة البصر فيما حوله، وقال لنفسه ذات ليلة حين عاد من مشاهدة التمثيل وأخذ يرشف كأسًا من الخمرة، وهو مولٍّ ظهره إلى الجدار حتى لا يتمكن الوهم منه فيتصور أحدًا من خلفه: لست أدري ما السر في هذا القلق الذي ينتابني. وفي تلك اللحظة استقرت عيناه على الغرفة الضيقة التي ظلت مقفلة وإذا رِعدة تسرى في كيانه من قمة رأسه إلى أخمص قدميه، فقال في نفسه: لقد أحسست هذا الإحساس الغريب من قبل، ولا أتمالك الشعور بأن شيئًا غامضًا يحيط بتلك الغرفة. وجمع شتات شجاعته، وضرب قفل الباب ضربة أو اثنتين بمحرك النار في المدفأة، ففتح الباب، وإذا هو يبصر حياله المستأجر الأخير واقفًا منتصب القامة في الركن ممسكًا قارورة في يده، ووجهه، نعم أما وجهه …»

وما كاد الشيخ يبلغ من قصته هذا الحد حتى تمهَّل وأجال البصر في وجوه سامعيه المبهوتين، وهو يبتسم ابتسامة سرور رهيب.

وقال المستر بكوك وهو يتفرس في وجه الشيخ مستعينًا بمنظاره: «ما أغرب هذه الحكايات التي ترويها لنا يا سيدي!»

وقال الشيخ: «أتقول: أغرب؟! … كلام هراء، إنك تظنها غريبة؛ لأنك لا تعرف عنها شيئًا، إنها مضحكة، ولكنها ليست مستغربة.»

وقال المستر بكوك رغم إرادته: «مضحكة!»

وأجاب الشيخ بضحكة إبليسية: «نعم، مضحكة، أليست كذلك؟»

ومضى دون أن ينتظر الجواب فقال: «وقد عرفت رجلًا آخر، دعني أتذكر، عرفته منذ أربعين عامًا، كان قد استأجر بضع غرف قديمة رطبة عفنة في فندق من أقدم الفنادق ظل مقفلًا وخاليًا عدة سنين قبل أن يأتي الرجل فيستأجر تلك الغرف فيه، وكانت تحيط بذلك المكان حكاياتٌ ونوادرُ كثيرةٌ عن العجائزِ، والواقع أن المكان كان أبعد ما يكون من البهجة والإيناس، ولكنه كان فقيرًا والأجر رخيصًا، وكان رخص إيجارها سببًا كافيًا للرضاء بها لو أنها كانت أسوأ من حقيقتها عشرة أمثال أو تزيد، وقد اضطر إلى الاستغناء عن بعض الأشياء المركبة فيها، ومن بينها خزانة كبيرة للأوراق مصنوعة من الخشب البسيط ذات أبواب من الزجاج، ولها ستار أخضر من الداخل، وهي شيء لا نفع له منه إطلاقًا؛ إذ لم تكن لديه أوراق حتى يحفظها فيها. أما ثيابه فقد كان يحملها معه، ولم يكن حملها عبئًا كبيرًا يقتضي مجهودًا، وقصارى القول أنه نقل إلى تلك الغرف كل متاعه، ولم يكن أكثر ممَّا تتسع حقيبة كبيرة له، وراح يخرج الأمتعة منها وينثرها في أرجاء الغرفة نثرًا، حتى يجعل المقاعد الأربعة التي فيها تبدو كأنها من الكثرة اثني عشر مقعدًا أو تزيد، وإنه لجالس ذات ليلة أمام الموقدة، يشرب أول كأس من جالونين من الويسكي طلبهما بالدَّين مسائلًا نفسه: هل سيتاح له يومًا أداء ثمنهما، وإذا صح ذلك، فعلى مدى كم من السنين، وإذا عيناه تلتقيان بتلك الأبواب الزجاجية لهذه الخزانة الخشبية فقال في نفسه: «لو لم أكن مضطرًّا إلى أخذ هذه الخزانة القبيحة الشكل بالسعر الذي قدره لها الدلَّال لاستطعت شراء شيء مربح بالمال الذي أديته»، وراح يخاطب الخزانة بصوت مسموع؛ لأنه لم يجد أحدًا آخر يخاطبه: «اسمع يا صاح! لو لم يكن تحطيم جثتك العجوز أكثر نفقة من ثمنك بعد ذلك، لجعلتك في أسرع وقتٍ طعامًا للنار.»

ولكنه ما كاد يفوه بهذه الكلمات حتى سمع صوتًا كأنه الأنين الخافت ينبعث من جوفها، فأجفل في بداية الأمر، ولكنه ظن بعد التفكير في الأمر لحظة أنه لا بد أن يكون صادرًا من شاب في الحجرة المجاورة، كان يتغدى في الخارج، فوضع قدميه على سياج المدفأة ورفع محرك النار ليقلب به جذواتها، وإذا ذلك الصوت يتكرر، وأحد الأبواب الزجاجية ينفتح ببطء، فيكشف عن شبح شاحب اللون ناحل البدن في ثياب قذرة خلق منتصبًا في جوف الخزانة، وكان ذلك الشيخ مديد القامة نحيفًا، تلوح على وجهه سمات الهم والشجن، ولكن في لون بشرته، وجملة مظهره الهزيل الغريب عن هذه الأرض شيئًا لم يرَ أحد من أهل هذا العالم يبدو يومًا في مثله، فارتد المستأجر الجديد ممتقع اللون كثيرًا، وقد وقف المحرك في كفه، وصاح به قائلًا: من أنت؟ وراح يسدد المحرك إلى وجه ذلك الشيخ الرهيب، وإذا هو يجيب قائلًا: «لا تقذفني بهذا المحرك؛ لأنك مهما تحسن تسديده، فسينفذ في هيكلي بلا مقاومة وتتبدد قوته في الخشب القائم من خلفي، إنني روح.»

وتلعثم المستأجر وهو يسأله قائلًا: ولكن ماذا بالله عليك تريد هنا؟ وأجاب الشبح قائلًا: في هذه الحجرة تم دماري حين احتوتني الحياة الدنيا، حتى تسولنا أنا وأولادي وسألْنا الناس إحسانًا، وقد أودعت هذه الخزانة كل أوراقي التي أنفقت السنين الطوال في جمعها، وهي في ثوب طويل سابغ، وفي هذه الحجرة، حين مت من فرط الحزن، وخيبة الأمل على مر الزمن، راح بخيلان ماكران يقسمان بينهما الثروة التي كنت أجاهد في سبيل الظفر بها طيلة حياتي التعسة، والتي لم يبقَ أخيرًا منها درهم واحد لذريتي الشقية المنكودة الطالع، حتى لقد روعت أفرادها، وتركتهم يذهبون عني هائمين مشردين، ومنذ ذلك اليوم وأنا لا أكف في الليل — وهو الفترة الوحيدة التي أستطيع أن أرف على الأرض، وأزور الدنيا — عن الهيام والحومان حول موضع شقتي القديمة، ومكان بأسائي التي طال عليها العهد، إن هذه الغرف غرفاتي، فاتركها لي.

وأجاب المستأجر وكان قد تواتى له جمع شتات خاطره خلال حديث الروح وكلامه: إذا كنت مصرًّا على الحضور هنا، نزلت لك عن ملكيتي بكل سرور، ولكني أحب أن أسألك سؤالًا واحدًا إذا أذنت لي. وقال الشبح عابسًا: سل ما شئت. قال: لست أعنيك شخصيًّا بما أنا قائله؛ لأنه ينطبق بالسواء على أكثر الأشباح التي سمعت عنها، وهو أنه ليبدو لي عجيبًا أنكم كلما واتتكم الفرصة لزيارة أجمل بقاع الأرض — لأني أظن الفضاء ليس شيئًا بالنسبة لكم — لا تعودون إلا إلى البقاع التي عانيتم فيها أشد البؤس، ولا تزورون إلا الأماكن التي قاسيتم فيها أشد الشقاء، عجبي لكم كيف تفعلون! وأجاب الشبح قائلًا: يا لله! إن هذا صحيح، ولم يخطر ببالي من قبل. ومضى المستأجر قائلًا: ومن هذا ترى يا سيدي أن هذه الغرفة غير مريحة بتاتًا، ومن شكل هذه الخزانة أراني أميل إلى القول بأنها ليست خالية من «البق» وأعتقد أنك واجد مكانًا أفضل كثيرًا منها وأوفر راحة، ولست أحب أن أقول شيئًا عن جو لندن الكريه للغاية حتى لا يطيب المقام فيه. وأجاب الشبح بأدب قائلًا: أنت على حق يا سيدي، ولم يَدُرْ هذا بخلدي قبل الآن، وسأحاول تبديل الهواء وشيكًا. والواقع أنه أخذ يتوارى وهو يتكلم؛ فقد اختفت ساقاه كل الاختفاء، وراح المستأجر يناديه قائلًا: وإذا تكرمت يا سيدي أن تقترح على السيدات والسادات الآخرين الذين هم اليوم في شغل بزيارة البيوت القديمة الخالية أن يلتمسوا سواها مزارًا لهم، أوفر راحة وأهنأ مجالًا؛ أديتَ للمجتمع الإنساني صنيعًا كبيرًا. وأجاب الشبح قائلًا: سأفعل، نحن بلا شك أغبياء، أغبياء فعلًا، ولست أستطيع أن أتصور كيف بلغ بنا الغباء هذا المدى. ولم يكد الشبح ينتهي من هذه الكلمات حتى اختفى.

وهنا أضاف الشبح قائلًا وهو يلقي نظرة ماكرة حول المائدة: «ومن العجيب أنه لم يعد إلى ذلك المكان أبدًا.»

وقال ذو الأزرار الفسيفسائية وهو يشعل لفافة كبيرة أخرى: «هذه قصة لا بأس بها إذا كانت صحيحة.»

وصاح الشبح قائلًا وهو ينظر نظرة سخرية بالغة: «أتقول: إذا؟» وأردف يقول وهو يدير عينه إلى لوتن: «أحسبه قائلًا بعد «إذا» هذه: إن قصتي عن العميل الغريب الذي جاءنا وأنا أشتغل في مكتب محام ليست صحيحة هي الأخرى، ولكني لست أعجب …»

وقال ذو الأزرار الفسيفسائية: «لا أريد أن أقول شيئًا عنها إطلاقًا؛ لأني لم أسمعها قبل الآن.»

وقال المستر بكوك: «أتمنى لو أعدتها يا سيدي.»

وقال لوتن: «قلْها؛ لأنه لم يسمعها أحد سواي، وقد كدت أنساها.»

وأجال الشيخ بصره فيمن حوله، وغمر غمرة أشد من قبل نكرًا، كأنما قد انتصر بمشهد ذلك الاهتمام البادي على الوجوه كلها، ثم عرك ذقنه بكفه، وتطلع ببصره إلى السقف كأنما يحاول أن يستعيد الحادث إلى ذاكرته، ثم بدأ يقص القصة التالية:

قصة الشيخ الكبير عن العميل الغريب

قال الشيخ: لا يهم من الأمر أن أحدثكم متى وكيف وقع لي العلم بهذه القصة القصيرة، وإذا أنا رويتها لكم بالترتيب الذي وصلت إليَّ به، وجب أن أبدأ من الوسط، حتى إذا بلغت ختامها، عدت أدراجي إلى البداية، وحسبي أن أقول: إن بعض حوادثها جرى أمام عيني، وأما الباقي فأعلم أنه حدث فعلًا، وإن هناك أشخاصًا لا يزالون أحياء ويذكرونها كلَّ التذكرِ.

في حي «هاي ستريت» بقرب كنيسة القديس جورج، وعلى الجانب ذاته الذي تقع فيه يقوم — كما يعرف أكثر الناس — سجن «مارشالسي» وهو أصغر سجوننا التي يحبس فيها المدينون الذين لا يوفون بديونهم، وإذ كان ذلك السجن قد أصبح فيما بعد مكانًا آخر يختلف كلَّ الاختلافِ عن ذلك المكان المليء بالأقذار الذي كان من قبل؛ فإن التحسن الذي طرأ عليه لا يغري كثيرًا المسرف المتلاف، ولا عزاء فيه للعاجز عن الوفاء؛ فإن المحكوم عليه بالحبس يجد في سجن «نيوجيت» ما هو واجده المفلس المدين في سجن «مارشالسي» من الرياضة والمشي واستنشاق الهواء.١

ولكن هذا القسم من لندن موضع لست أطيقه، وقد يكون ذلك وهمًا في نفسي، أو لعل مرد نفوري منه إلى عجزي عن فصله من الذكريات القديمة المتصلة به؛ فإن الشارع عريض، والحوانيت رحيبة الجوانب، وأصوات المركبات الرائحة والغادية فيه، ومواقع أقوام السابلة الذين لا ينقطع سيلهم، وجلبة الحركة والمرور فيه، تتردد أصديتها في فضائه من مطلع النهار إلى منتصف الليل، ولكن الشوارع المحيطة به حقيرة وضيقة، والفاقة والفجور يتفشيان في أَزِقَّتِها المزدحمة، والعَوَز والبؤس معتقلان في سجنه الضيق لا يفارقانه، حتى لتبدو الكآبة والوحشة — في عيني على الأقل — محيطتين بذلك المشهد، مضفيتين عليه لونًا من الوجس والذبول والمرض.

وكم من أعين قد أغمضت أجفانها من عهد طويل في القبور، كانت فيما مضى تدير بصرها في ذلك المشهد، وتُلِمُّ به إلمامة عابرة، وهي تجتاز باب سجن «مارشالسي» القديم لأول عهدها به؛ فإن اليأس قلَّما يأتي مع أول صدمة أليمة من صدمات البؤس، وللمرء أبدًا ثقة بأصحابه الذين لم يجرب مروءتهم من قبل، وإنه ليذكر المرات الكثيرة التي عرض فيها أصحابه الأولياء عليه صنائعهم في أوقات لم يكن فيها محتاجًا إليها، فهو أبدًا يراوده الأمل، نعم الأمل فيمن لم يجرب بعد ولم يختبر، ومهما يرزح تحت الصدمة الأولى، فلا يني ذلك الأملُ أن ينهض في صدره، وينتعش من جديد إلى حين، حتى يسقط صريعًا تحت وطأة الخيبة والإخفاق والإهمال، وسرعان ما تذهب تلك الأعين ذاتها الغائرة في رءوسها، ترسل نظراتٍ شاردةً من وجوه ذبلت من الجوع، واصفرَّت من الحبس، في تلك الأيام التي ليس من باب التشبيه والمجاز أن نقول في وصفها: إن أولئك المدينين المحبوسين ريثما يؤدون ديونهم، مضوا يقضونها في غيابة المحبس يائسين، لا يرجون إفراجًا، ولا أمل لهم في حرية ولا خلاص! هنالك لا تعود لشناعة الحياة بكل مداها وجود تام، وإن بقي منها شيء يكفي لإتيانِ أفعالٍ واقترافِ جرائمَ تحيل القلبَ داميًا.

منذ عشرين عامًا، ألفت أم وطفلها الذهاب مع كل صباح إلى باب السجن، حتى لقد نحل أديم الإفريز من مواقع قدميها، وكم ذهبت مع مطالع النهار إليه بعد ليلة مؤرقة ألح عليها السهد فيها والبؤس والحسرات فجاءت باكرة إليه ساعة أو قرابتها، ثم لا تلبث الأم أن تتولى منصرفة في قنوط ويأس، ممسكة بيد طفلها، ذاهبة صوب الجسر القديم، فإذا بلغته رفعت الطفل بين ذراعيها لكي تريه الأمواه المتلألئة بضياء شمس الصباح، والحركة البادية على صفحة النهر؛ استعدادًا للعمل والمتعة التي يكفلها للناس في تلك الساعات الباكرة من النهار، ولتحاول اجتذاب عينيه إلى الأشياء المترامية أمامه، ولكنها لا تلبث أن تنزله من أحضانها، وتخفي وجهها في لفاعتها، وتطلق العِنان للعبرات التي ملأت عينيها؛ فقد بدا لها أنْ لا أثرَ لاهتمام ولا ابتهاج في وجهه الذليل النحيل؛ فقد كان الطفل لا يذكر شيئًا كثيرًا مما وقع له، ولكن القليل الذي ظل له ذاكرًا كان متشابهًا، أو من نوع واحد، وهو فاقة أبويه وبؤسهما، ولكم قضى الساعات جالسًا فوق ركبة أمه، يرقب في عطف صبياني الدموع التي كانت تتسلل إلى وجهها، ثم ينطلق في هدوء إلى ركن مظلم؛ لينام في إجهاش ونحيب. لقد عادت تلك الحقائق الأليمة، حقائق الحياة القاسية، وكل ما اقترن بها من حرمان وجوع وظمأ وبرد وعوز تقفز إلى ذاكرته مع بواكر الفهم، ومطالع التفكير، ولئن كانت الطفولة ماثلة فيه فقد غابت عنها، بفرحها وترحها، وعينيها المتلألئتين.

وكان الأب والأم يريان ذلك ويتبادلان النظر، وفي خاطر كل منهما تصورات أليمة لا يجرؤ على تصويرها كلامًا، والإفصاح عنها منطقًا، وكان ذلك الرجل السليم البنية القوي البأس، الذي كان في إمكانه أن يتحمل أية مجهدة، ويضطلع بأشقِّ عملٍ، قد راح يذوي في أفق المحبس المكتظِّ بالسجناء وجَوِّهِ الموبوءِ، بينما أخذت المرأة النحيفة الواهنة ترزح تحت وطأة عللها الجثمانية، ومرضها النفسي، وكان فؤاد الصبي كسيرًا تحطمه الأيام.

وهلَّ الشتاء، وجاءت في أثره أسابيع من برد شديد، ومطر غزير، فانتقلت المرأة المسكينة إلى حجرات صغيرة قريبة من الموضع الذي يقوم فيه السجن الذي احتبس زوجها فيه، ولئن كانت هذه النقلة قد جاءت ضرورة اقتضاها اشتداد فاقتها؛ فقد كانت نفسها أسعد حالًا من قبل لمقامها بقربه، وظلت شهرين ترقب في كل يوم هي ورفيقها الصغير الموعد الذي يفتح فيه باب السجن عادة، ولكنها في ذات يوم لم تأتِ إليه، ولم تكن من قبلُ تتخلف يومًا عنه، وجاءت في صبح يوم آخر وحدها؛ فقد مات الطفل!

وما درى الذين كانوا يقولون بكل هدوء إن ثكل الرجل كان نهاية سعيدة لذلك الطفل الراحل، وخلاصًا من آلامه، ورحمة بالغة بالأم التي بقيت في قيد الحياة؛ لأنها تخلصت من النفقة عليه. أقول: ما درى أولئك القائلون مبلغَ عذابِ الثكلِ، إن نظرة حب وإعزاز صامتة، حين تتولى الأعين الأخرى مشيحة بأنظارها، والشعور بأن لنا عند مخلوق واحد من العطف والحنان ما ليس لنا عند الآخرين حتى يتخلون عنَّا، ولا يشعرون مطلقًا بنا، هما سلوة وعون وسند، في خطوبنا وويلاتنا، ولا يكفله الثراء، ولا يشتريه بالمال، ولا يؤتيه سلطان في الأرض، وكان الطفل يجلس الساعات الطوال عند قدمي أبويه، ويداه الصغيرتان متشابكتان لا تنفصلان، ووجهه النحيل يتطلع إليهما، وقد شاهداه وهو يذوي على الأيام، ولئن لم تكن حياته القصيرة سوى وجود لا فرح ولا ابتهاج فيه، وقد انتقل عندئذٍ إلى ذلك الهدوء المقيم الذي لم يعرفه في هذا العالم الذي جاءه عابرًا؛ فقد كانا أبويه، وجاء ثكلهما له مصابًا أليمًا يحز منهما في شغاف الروح.

وكان جليًّا لأعين الذين كانوا ينظرون إلى التحول البادي على وجه تلك الأم الثكلى أن موتها لن يلبث أن يختم حياة البؤس الذي كانت تعانيه ويريحها من المحنة التي كانت تقاسيها، وكان زملاء زوجها في المحبس يخشون أن يتحدثوا إليه في أمر أحزانه وبلاياه، وتركوا له وحده الغرفة الصغيرة التي كان من قبل يشغلها مع رفيقين منهم، فجاءت زوجه تقاسمه تلك الغرفة، وتقيم معه صبورًا على الألم، ولكن بلا أمل، بينما ذهبت حياتها تذوي وتضمحل على الأيام.

وغلبتها الغشية في ذات مساء وهي بين ذراعي زوجها، فاحتملها إلى النافذة المفتوحة لينشقها الهواء، وإذا هو يبصر على ضوء القمر المشع على وجهها تغيرًا شديدًا في قسماته، جعله يتراجع مترنحًا تحت وطأة ثقلها كطفل لا حول له ولا قوة.

وقالت مخافتة: أنزلني يا جورج عن ذراعيك. فأجلسها وجلس هو بجانبها، ودفن وجهه في راحيته، وأجهش بالعبَرات.

قالت: إنه لجد أليم أن أفارقك، ولكن تلك مشيئة الله، فلتحتمل الخطب مرضاة لي. أواه! كم أنا حامدة لله أخذَه طفلَنا إلى جواره، إنه الآن سعيد في مقامه عند خالق السموات، ماذا كان صانعًا هنا، وأمه ذاهبة؟

وقال الرجل وهو ينهض من مجلسه: «لن تموتي يا ماري.» وذهب مسرعًا يروح ويغدو في المحبس، ضاربًا رأسه بقبضتيه، ثم عاد إلى مجلسه بجانبها، واحتواها بين ذارعيه، وأضاف في سكينة قائلًا: «تماسكي أيتها المرأة العزيزة، أتضرَّع إليك أن تتجلدي، إنك ستحيين.»

وقالت المرأة المحضورة: «لن أحيا بعد اليوم يا جورج، فدعهم يوسدوني بجانب طفلي المسكين، ولكن عِدني أنك إذا غادرت يومًا هذا المكان المخيف وأصبحت غنيًّا أخا ثراءٍ، فسوف تنقلنا إلى مقبرة هادئة في سواد الريف بعيدة من هنا، نائية نستطيع أن نرقد فيها بسلام! أي جورج العزيز، عدني أنك فاعل.»

وقال الرجل وهو يجثو ثائر العاطفة عند قدميها: «إني لفاعل، تكلمي يا ماري! كلمة واحدة، أو نظرة واحدة.»

وأمسك عن الكلام؛ إذ شعر بأن الذراع التي كانت مطوقة عنقه بدأت تتخشب وتثقل، وانبعثت زفرة عميقة من ذلك الهيكل الذاوي الماثل حياله، واختلجت الشفتان، وخطفت ابتسامة على ذلك الوجه المصفر، ولكن لم تلبث الشفتان أن سكنتا، وتلك الابتسامة أن استحالت إلى حملقة رهيبة، لقد أمسى وحيدًا في هذا العالم.

وفي تلك الليلة، ووسط الصمت والوحشة المخيمين على غرفته الحقيرة، كان الرجل المحزون التعس جاثيًا بجانب جثة امرأته، مُشهِدًا الله على موقفه أن يكرس حياته من تلك الساعة للثأر لموتها، وموت طفله، وأن يوجه آخر رمق في حياته إلى تحقيق هذا الهدف، وأن يجعل انتقامه طويل الأمد رهيبًا، وأن يبقى حقده حيًّا لا يعاجله موت، ولا ينطفئ له سعير، وأن يطارد خصمه في أرجاء الدنيا، ومختلف بقاع الأرض.

وقد أحال اليأس الشديد، والعاطفة الثائرة إلى حد يجاوز الطبيعة البشرية، وجه ذلك الرجل الحاقد الثائر، في ليلة واحدة، إلى صورة وحشية رهيبة جعلت رفقاءه في السجن ينزوون منه رعبًا كلما مَرَّ عليه ملأ منهم؛ فقد بدت عيناه متَّقدتين تقدحان شررًا ووجهه شاحبًا كوجوه الموتى، وبدنه منحنيًا مقوسًا كأنه ارتد شيخًا كبيرًا، وقد عض بنواجذه شفته السفلى حتى نفذت في لحمها، من شدة عذاب نفسه، ومضض روحه، وتساقطت منها قطرات الدم على ذقنه فلطخت بحمرتها قميصه وغطاء رقبته، دون أن تفلت دمعة من عينه، أو زفرة من صدره، ولكن النظرة القلقة الخلاجة، وتلك العجلة المضطربة التي مضى يقطع بها الفناء ذهوبًا وجيئة، كانتا دليلًا ظاهرًا على شدة الحمى التي كانت تستعر في أنحائه.

وكان لزامًا عليه أن ينقل رفات امرأته من السجن بلا إبطاء، وتلقَّى النبأ بهدوء تام، ووافق على النقل واحتشد أكثر السجناء لحضور نقل جثمانها، وأفسحوا الطريق وقوفًا على الجانبين، حين أقبل الزوج المحزون وهو يتقدم بخطى سراع، فيقف وحيدًا في داخل فضاء مسور عن كثب من باب السجن، بينما ابتعد الناس عن الموضع، بدافع إحساس غريزي استولى عليهم من دقة الموقف وحرجه، وحمل النعش البسيط الذي وضع الرفات فيه برفق على أكتاف الرجال، وساد الناسَ سكونٌ رهيبٌ، لا يبدده غير عويل النساء، ومواقع أقدام حملة النعش على الإفريز، ووصلوا إلى البقعة التي وقف فيها الزوج المحزون، فوضع يده فوق النعش وراح يسوي — وهو لا يشعر — الغطاء المنشور عليه، وأشار إليهم بمتابعة المسير، ورفع الحراس الوقوف عند الباب قبعاتهم للنعش حين مر بهم، ولم تمضِ لحظة أخرى حتى أُغلق الباب الضخم دونه، فأرسل الرجل نظرة فازعة إلى الجمع الحاشد قبالته، وخر مغشيًّا عليه.

ولبث عدة أسابيع رهن حمى شديدة، وهذيان رهيب، تحت رقابة الأساة ليل نهار، لا يفارقه لحظة الشعور بمصابه، ولا ذكرى العهد الذي عاهده، وتغيرت المشاهد على عينيه، وجعلت الأماكن والبقاع تتوالى على خاطره، والأحداث تتتابع في مخيلته، في عجلة الهذيان، ولكنها جميعًا كانت متصلة في صورة غريبة بذلك الهدف العظيم الماثل في ذهنه، وكان يخيل إليه أنه قد ركب البحر مارقًا على زورق في لج متقاذف، ويَمٍّ لا ساحل له، وتحت سماء حمراء بلون الدم، والأمواه الغاضبة الثائرة، تغلي وتتدفَّق في كل ناحية من حوله، وأمامه مركب آخر يغالب اللج ويصارع الأمواج، ويناضل حيال العاصفة المزمجرة، وقد راحت الرياح الهوج تعبث بأشرعته القائمة فوق السارية، وازدحم سطحها بأشباح تهتز وتتدافع إلى الجانبين، حين انطلقت الأمواج المتقاذفة تنفجر بين لحظة وأخرى، وترمي ببعض تلك الأشباح المناضلة إلى جوف البحر المزبد، ولكنَّ المركبين ظلا يسيران وسط تلك الكتل الزائرة المزمجرة من الماء، بسرعة وقوة لا يقف شيء في طريقهما، ولا يحول دونهما حائل، حتى استطاعت الجارية المطاردة أن تلحق بالجارية المتقدمة فتضرب سكانها وتحطمه تحطيمًا، ومن تلك الدوامة الضخمة التي أحدثتها الجارية المغرقة انبعثت صرخة عالية مدوية، هي صيحات الموت من أفواه عشرات الغرقى، اجتمعت كلها في صرخة موحشة واحدة، تعالت حتى غطت على صيحة الحرب التي أطلقتها عناصر الطبيعة الهائجة المحنقة، ولبثت تتردد حتى ليخيل إليك أنها مضت تشق الفضاء والسماء والأوقيانوس، ولكن ما هذا؟ ما هذا الرأس الأشيب الذي طفا فوق أديم الماء، ومضى في نظرات عذاب أليم، وصيحات استغاثة، يصطرع مع الأمواج؟ لقد ألقى نظرة واحدة، ثم قفز من جانب الجارية، وانثنى يضرب الماء بذراعيه ضربات قوية سابحًا نحوه، حتى بلغه وأطبق عليه، لقد كانت تلك الملامح ملامحه هو وتلك القسمات قسماته، ورآه ذلك الشيخ دانيًا منه، فحاول عبثًا الإفلات من قبضته، ولكنه أمسك به بقوة وجرَّه معه تحت اليم هابطًا به الأعماق، منحدرًا به إلى أبعد الأغوار، حتى غلبه الوهن من طول الصراع، فلم يلبث أن كف عن المغالبة، وسكنت نأمته بعد النضال، لقد مات، وهو الذي قتله، ووفى بالعهد الذي عاهده.

وتراءى له بعد ذلك أنه راح يشق طريقه فوق رمال محرقة في صحراء شاسعة، حافي القدمين وحيدًا، والرمال تخنقه وتعميه، وتنفذ حباتها الدقاق في جميع مسام بشرته، وتكاد من إلحاحها عليه تُفقده لبه، وتذهب بصوابه، وكانت كتل ضخمة منها، تحملها الرياح السافيات، وتكسوها أشعة الشمس المحرِقة من وهجها وبريقها، فتبدو له من بعيد كأعمدة من نار حية متأججة، وقد تناثرت عند قدميه عظام الذين بادوا في تلك المهامِهِ القفر، وكأن ضياءً رهيبًا قد أشع على كل شيء حوله، وإلى آخر مدى البصر لا يبصر غير أشباح من هول ورعب مواثِلٍ أمامه، وعبثًا حاول أن يطلق صرخة فزع ورعب؛ فإن لسانه قد جف حتى لصق بحلقه، فانطلق في طريقه كمن هو في جِنَّة، كأنما أوتي قوة خارقة للطبيعة، فمضى يشق الرمال لا يلوي على شيء، حتى أعياه المسير وبلغ منه التعب كلَّ مبلغ، فخرَّ مغشيًّا عليه. ولكن ما هذه الأنسام الندية العطرة التي أنعشته، وما هذا الصوت الثَّجَّاج الذي طرق أذنيه؟ أماء يبصر؟ أي والله هذا ينبوع يبدو لعينيه، وهذا جدول فضفاض رائق الأمواه يجرى عند قدميه. لقد مضى يعب منه وينهل، ويمد أوصاله الموجعة على ضفافه، ويهبط في أعماق غيبوبة لذة عذبة … وأفاق على وقع أقدام تدنو منه، وإذا شيخ أشيب يخطو خطى وئيدة؛ ليطفئ ظمأه المحرق. لقد رآه مرة أخرى فأسرع إليه وطوقه بذارعيه وردَّه عن الورود، فطفق الشيخ الأشيب يناضل ويصرخ؛ طلبًا للماء، ويلتمس قطرة واحدة منه لإنقاذ حياته، ولكنه أمسك بالرجل وحال بينه وبين الينبوع، وهو يتأمل مبلغ العذاب الماثل في عينيه الظامئتين الملهوفتين، حتى إذا هوى رأسه فوق صدره، انثنى يركل جثته بقدميه بعيدًا عنه.

ولما تركتْه الحمى وثاب إلى نفسه، صحا فوجد نفسه غنيًّا وحرًّا طليقًا، وعلم أن أباه الذي رضي له الموت في السجن، نعم «رضي» له الممات سجينًا، ذلك الأب الذي هان عليه أن يدع من هُم أعز عليه من حياته يموتون من الجوع والمرض الذي يعجز الطب عن علاجه، قد وُجِدَ ميتًا على فراشه الوثير ووسادته الناعمة، لقد رضي قلبه أن يترك ابنه يعيش من بعده متسولًا مستجديًا، واعتز بصحته وقوته، فأرجأ ذلك حتى دهمه الموت، ولعله الآن يصرف بأسنانه ويحرق الأرم في العالم الآخر؛ غيظًا وحنقًا من تصور ثرائه الذي تركه له بإهماله وتقصيره. لقد صحا لهذا ولأكثر منه، صحا ليذكر الهدف الذي كان يعيش من أجله، ويدرك أن عدوه هو الذي كان يعيش من أجله، ويدرك أن عدوه هو حموه، ذلك الرجل الذي زج به في غيابة السجن، ذلك الرجل الذي ذهبت إليه ابنته تحمل طفلها فجثت عند قدميه تسأله الرحمة، فطردهما من بيته، أوَّاه! كم راح يلعن ذلك الضعف الذي منعه من النهوض والحركة لينفذ انتقامه الرهيب!

وتركهم يحملونه من مشهد مصابه وبأسائه إلى دار هادئة على ساحل البحر، لا أملًا في استعادة سكينة نفسه ورغده؛ فقد تخلَّيَا عنه إلى الأبد، بل لاسترداد قواه الذابلة، والتفكير في هدفه العزيز عليه، وفي تلك الدار، أتاحت له روح شريرة الفرصة لتحقيق انتقامه الرهيب.

وكان الوقت صيفًا، فكان يخرج من البيت ساهمًا مستغرقًا في تفكيره الكئيب، على مطالع المساء، فيهيم على وجهه في درب ضيق تحت صخور البحر إلى بقعة قفراء منعزلة راقه الاختلاف إليها في هيَمانه وتجواله فيقتعد لديها حجرًا سقط من صخرة، ويمكث الساعات عندها دافنًا رأسه بين يديه، حتى لقد يطول به الجلوس أحيانًا، إلى غمرة الظلام، حين ترسل ظلال الصخور العابسة فوق رأسه حلكة كثيفة على كل شيء حوله.

وإنه لجالس ذات مساء هادئ في ذلك الموضع الذي اعتاده، رافعًا بين لحظة وأخرى رأسه ليرقب رفيف غر فوق صفحة البحر، أو يجيل العين في ذلك الدرب المستطيل على حمرة الشفق الرائع المشهد وهو يبدأ من بهرة الأوقيانوس، ثم يمتد كأنه مؤدٍّ إلى الحافة ذاتها التي تغيب الشمس عندها، وإنه لجالس في تلك البقعة؛ إذ تبدد ذلك السكون العميق الذي يغمر موضعه على انطلاق استغاثة تشق عنان السماء، فأرهف سمعه، وهو في شك من الأمر، فإذا الصرخة تتكرر وتشتد، فاستوى على قدميه، وبادر إلى البقعة التي انبعث منها، وإذا هو يبصر مشهدًا بليغًا في ذاته، يقص قصته؛ فقد رأى ثيابًا متناثرة على الرمال، ورأسًا بشريًّا يطفو فوق الموج، على مسافة قليلة من الشاطئ، وشيخًا يقلب كفيه من فرط الألم، يعدو فوقه ذهوبًا وجيئة، صارخًا يطلب الغوث، فلم يكن من ذلك المريض الذي كان قد استرد يومئذٍ قدرًا كافيًا من قواه، إلا أن خلع رداءه، واندفع إلى البحر، معتزمًا الوثوب إلى أمواهه، وجر الغريب إلى البر، وإذا الرجل الكبير السن يبادره في لوعة حرى، وهو متقدم إلى لقائه صارخًا: «باسم الله يا سيدي، الغوث، الغوث، البدار يا سيدي بحق السموات، إنه ابني يا سيدي، إنه ولدي الوحيد، وهو يموت أمام عيني أبيه!»

ولم يكد الغريب يسمع الكلمة الأولى من فم الشيخ حتى جمد في مكانه، ووقف مشتبك الذارعين، لا يعير حراكًا.

وإذا الشيخ يتراجع صائحًا في دهشة بالغة: «رباه! من أرى؟ هيلنج!»

فابتسم الغريب، ولبث صامتًا.

وصاح الشيخ قائلًا في ثورة عاطفته: «هيلنج! ولدي يا هيلنج! ولدي العزيز! انظر، انظر!»

وراح الشيخ المسكين المتقطع الأنفاس يشير إلى البقعة التي كان الفتى يناضل فيها ويصارع للنجاة بحياته.

وقال الشيخ: «اسمع! إنه يصرخ مرة أخرى. إنه لا يزال حيًّا، أي هيلنج! ناشدتك الله إلا ما أنقذته!»

ولكن الغريب عاد يبتسم، ولبث جامدًا في مكانه.

وصاح الشيخ وهو يجثو على ركبتيه ويشبك يديه: «لقد ظلمتك فخذ بثأرك مني، خذ كل ما ملكت يميني، خذ كل شيء، خذ حياتي، وألقِ بي في اليم عند قدميك، وإذا جاز للطبيعة البشرية أن تكبت صراعًا، وتمسك عن نضال، فسأموت دون أن أحرك يدًا ولا قدمًا، ألا أنقذه يا هيلنج! افعل ناشدتك، أنقذ ولدي، إنه صغير يا هيلنج، لا ينبغي له أن يموت.»

وأجاب الغريب وهو يمسك الشيخ بوحشية من معصمه: «اسمتع لي، النفس بالنفس، والحياة بالحياة، وهذه واحدة، لقد مات طفلي أمام عيني أبيه، ميتة أشد عذابًا وألمًا من هذه الميتة التي يلقاها اللحظة ذلك الفتى الواشي في حق أخته وفضلها، وقد ضحكت أنت في وجه ابنتك، حين كان الموت قد ألقى كفه على آلامنا وعذابنا، فماذا بقي في خاطرك عنهما الآن؟ انظر هناك، انظر هناك!»

وأشار الغريب إلى البحر، وإذا صرخة خافتة تتلاشى على أديمه، وإذا نهاية ذلك الصراع العنيف من ذلك الفتى الصغير المحضور تهيج الأمواج المتدفقة بضع ثوان، وإذا البقعة التي هوى عندها إلى قبره الباكر لم تعد تفترق في شيء عن الأمواه المحيطة بها.

وانفرطت ثلاثة أعوام.

ووقفت ذات يوم مركبة خاصة بباب محامٍ في لندن اشتهر يومئذٍ بأنه ليس على شيء كثير من النزاهة والأمانة في مهنته، ونزل منها سيد لا يلوح عليه أن جاوز ربيع الحياة، وإن بدا شاحبًا، ناحلًا، مهمومًا، فلا يحتاج رجل الأعمال فطنة حادة ليتبين بنظرة واحدة أن المرض أو الألم كان أفعل أثرًا في هذا التغير الذي طرأ على مظهره مما كان في إمكان الزمن أن يحدثه في ضعفي الفترة كلها التي انقضت من حياته.

وقال ذلك الغريب: «أريد أن تتولى عملًا قضائيًّا لي.»

وانحنى المحامي انحناءة أدب بالغ، ورمق ببصره إضمامة كبيرة من الأوراق كان الغريب يحملها في يده، ولاحظ الزائر نظرته تلك فمضى يقول: «ليس العمل الذي أريد أن أَكِلُهُ إليك عاديًّا، ولا هذه الأوارق وصلت إلى يدي هينة سهلة، بل جاءت بعد تعب شديد ونفقة باهظة.»

فعاد المحامي يلقي نظرة أكثر لهفة وفضولًا إلى تلك الرِّزمة، وأخذ الزائر يفك الخيط الذي رُبطت به، ويُخرج قدرًا من الأوارق والتعهدات وصورًا من عقودٍ ووثائقَ أخرى.

ومضى العميل يقول: «إن الرجل الذي تحوي هذه الأوراق اسمه — كما سترى — استطاع أن يجمع مالًا طائلًا منذ بضع سنين، وكان بينه وبين الذين وقعوا من بداية الأمر في يديه — والذين استطعت أن أشتري منهم شيئًا فشيئًا الأوراق لقاء ثلاثة أو أربعة أمثال قيمتها الاسمية — تفاهم واتفاق على وجوب تجديد هذه القروض من وقت إلى آخر، خلال فترة معينة من الزمن ثم لا تتجدد بعد ذلك أبدًا، ولكن هذا التفاهم لا يبدو له أثر في هذه الأوراق مطلقًا، وقد تعرض منذ عهد قريب لعدة خسائر، وإذا تراكمت عليه هذه الالتزامات مرة واحدة حطمته حتمًا وأسقطته.»

وقال المحامي وهو مُكِبٌّ على الأوراق: «إن جملة المال تصل إلى عدة آلاف من الجنيهات.»

وأجاب العميل: «هذا صحيح.»

وقال المحامي: «فماذا نحن صانعون؟»

وأجاب «العميل» بانفعال فجائي: «صانعون؟ نستعدي كل أداة في القانون القائم، وكل حيلة في وسع البراعة أن تتفتق عنها، وكل خدعة تعمد إليها النذالة، مع كل المهارة التي أوتيها أبرع المحامين، إنني أريد له موتًا أليمًا بطيئًا شديد العذاب، أريد أن أخرِّب بيته تخريبًا، وأحجز وأبيع كل أراضيه وأملاكه ومتاعه، أريد أن أشرده من بيت إلى بيت، وأنهي حياته متسولًا في شيخوخته، وأتركه يموت في السجن.»

وأجاب المحامي، بعد أن أفاق من دهشته العابرة: «ولكن النفقات يا سيدي العزيز، وتكاليف هذا كله، فإذا كان المدعى عليه فقيرًا مسكينًا فمن الذي سيؤدي النفقات يا سيدي؟»

وقال الغريب ويده ترعش بشدة من فرط الحماسة، حتى لا يكاد يقوى على الإمساك بالقلم الذي تناوله في يده وهو ماضٍ في قوله: «قل ما شئت، وعيِّنِ المال الذي تريد، يكن لك، لا تخشَ أن تعينه يا رجل، فلن أحسبه باهظًا إذا تحقق به هدفي.»

وعين المحامي قدرًا كبيرًا من المال خبط عشواء، عربونًا أو «مقدم أتعاب»؛ ليضمن به حقه إزاء احتمال الفشل، وجواز الإخفاق، بل فوق ذلك كله، ليعرف إلى أي مدى يعتزم عميله الذهاب، أكثر من التفكير من مبلغ تنفيذه لما يطلبه. ولكن الغريب كتب بالمال المطلوب صكًّا على البنك الذي يتعامل معه، وانصرف.

وصرف المال في حينه، ووجد المحامي أن عميله الغريب يصح الاعتماد عليه، فشرع في العمل بجد، ولبث المستر هايلنج أكثر من عامين بعد ذلك يجلس الساعات الطوال في المكتب مكبًّا على الأوراق ويعيد القراءة مرارًا وتكرارًا، وعيناه تبرقان فرحًا واغتباطًا، في كتب الاحتجاج، والتماسات التأجيل ولو إلى فترة قصيرة، وصور الدمار الذي سيحيق بالمَدين، ويتابع القضايا واحدة بعد أخرى، والدعوى تلو الدعوى في فيض غير منقطع، فوجد عن كل التماس يرجو به الشيخ مهلة قصيرة جوابًا واحدًا، وهو «لا بد من الوفاء»، وتبين له أن الأرض والعقار والأثاث كانت جميعًا تنتقل إلى حوزته؛ تنفيذًا لعديد الأحكام الصادرة بوجوب الاستيلاء عليها، حتى أمسى الشيخ نفسه مهددًا بالزج في السجن لولا أنه تمكن من الإفلات من رقابة الشرطة ولاذ بأذيال الفرار.

ولم يكن نجاح هذه المطاردة الملحَّة في إشباع كراهية هايلنج للشيخ، وإطفاء نار حقده عليه، بل زاده الدمار الذي أنزله به حقدًا وغلًّا، واشتد به الحنق حين علم بنبأ فراره، فجعل يصرف بأسنانه من الغضب، ويقطِّع شعر رأسه تقطيعًا، ويهاجم بالسب واللعن الذين عهد إليهم بأمر القبض عليه فتركوه يُفلت منهم، ولم يكن يسترد بعض الهدوء إلا بتكرار التوكيد له أن الاهتداء إلى مخبأ ذلك الهارب محقَّق، حتى لقد أوفد رسلًا للبحث عنه في كل مكان، واتخذ كل حيلة لمعرفة الموضع الذي أوى إليه، ولكن الجهود التي بذلت في هذه السبيل ذهبت جميعًا أدراج الرياح، وانفرط نصف عام ولا يزال الشيخ مختفيًا لا يعرف أحد أين تُراه ذهب.

ففي ذات مساء، ظهر هايلنج بعد غيبة عدة أسابيع عن مكتب محاميه، ودق باب البيت الذي يقيم وكيله فيه، وبعث إليه بمن ينبئه أن سيدًا يريد لقاءه في الحال، وقبل أن يتمكن المحامي — حين عرفه من صوته فوق السلم — من إصدار أمره إلى الخادم بدخوله عليه، كان هايلنج قد دخل حجرة الاستقبال شاحب اللون لاهث الأنفاس، وتقدم إلى الباب فأوصده حتى لا يسترق أحد السمع عليهما، وتهالك على مقعد وأنشأ يقول بصوت خافت: «لقد وجدته أخيرًا.»

وقال المحامي: «أحق هو؟ لقد أحسنت يا سيدي العزيز، لقد أحسنت.»

وأجاب هايلنج إنه الساعة يقيم في بيت حقير في «كامدن» ولعلنا قد أخفقنا في اكتشاف مقره؛ لأنه يعيش في ذلك البيت وحيدًا يقاسي أشنع البؤس طيلة الأيام وهو فقير، يعاني فاقة شديدة.»

وقال المحامي: «حسن جدًّا، وسنستصدر بالطبع أمرًا بالقبض عليه.»

وأجاب هايلنج: «نعم، بل تمهل! كلَّا، بل في اليوم التالي له! وأراك في دهشة من رغبتي في التأجيل»، ومضى يبتسم ابتسامة منكرة ويردف قائلًا: «لقد نسيت بادي الرأي؛ فإن بعد غد ذكرى مشهودة في حياته، فليكن اعتقاله بمناسبتها.»

وقال المحامي: «حسن جدًّا! ألا تكتب للضابط في هذا الشأن؟»

قال: «كلا، دعه يجتمع بي هنا في الثامنة من المساء فأصحبه بنفسي إلى مخبئه.»

واجتمعا في الموعد المضروب، فاستأجرا مركبة وأمرَا سائقها أن يقف بهما في طريق «بانكراس» عند الموضع الذي يقوم فيه مصنع «الأبرشية»، وكان الظلام قد حل حين نزلَا من المركبة في ذلك الموضع، فسارا حذاء الجدار القائم قبالة المستشفى البيطري، وعطفا هنالك على زقاق كان يُدعى يومئذٍ «شارع الكلية الصغيرة» وكان في تلك الأيام — وإن لم نَدْرِ ماذا صنع الله به اليوم — مكانًا مهجورًا، لا يحيط به غير الحقول والخنادق.

وأرخى هايلنج قبعته التي تلازمه في الأسفار على عينيه، وتزمل بقبائه، ووقف أمام أحقر بيت في ذلك الزقاق ودقَّ الباب برفق، فجاءت في الحال امرأة ففتحته وانحنت انحناءة تنم عن المعرفة، فهمس هايلنج للشرطي أن يبقى حيث هو، وتسلل وحده إلى الطبقة العليا من البيت، وفتح باب الحجرة الأمامية، ودخل في الحال.

وكان الشيخ قد أمسى مُقعدًا، وهو يجلس أمام منضدة خشبية عارية، من فوقها شمعة ضئيلة، فلم يكد يرى الغريب داخلًا عليه، حتى نهض متحاملًا على قدميه.

وقال الشيخ: «ماذا تريد الآن؟ أي بلاء جديد هذا؟ ماذا تريد هنا؟»

وأجاب هايلنج: «كلمة معك!»

وراح يجلس في الطرف الآخر من المنضدة ويخلع عنه قباءه وقبعته، ويكشف عن وجهه.

وإذا الشيخ يفقد في التو واللحظة قوة النطق ويسقط في مقعده ويشبك يديه ويرمق الشبح القائم حياله بنظرة امتزج فيها المقت بالخوف.

وأنشأ هايلنج يقول: «في مثل هذا اليوم من ستة أعوام خلت، طالبت بحياة طفلي التي كنت مدينًا بها لي، وقد أقسمت بجانب ابنتك وهي تجود بأنفاسها الأخيرة أن أحيا حياة ثأر وانتقام، ومنذ ذلك اليوم لم أنحرف لحظة واحدة عن هدفي، ولو انحرفت، لكان في ذكري الآلام التي صبرتْ عليها غير شاكية، ونظراتها الأليمة وهي تذبل رويدًا وتذوي، أو وجه طفلنا الساغب، ما يكفي حافزًا لي على تحقيق غايتي، ولعلك ذاكر أول ما بدا من انتقامي، وهذا اليوم هو الانتقام الأخير.»

وارتعد الشيخ وتخاذلت ذراعاه إلى جنبيه.

وتمهل هايلنج لحظة ثم مضى يقول: «إنني تارك هذه البلاد غدًا، والليلة أنا مسلمك إلى الموت الحي الذي أسلمتها إليه، إلى سجن أبدي لا أمل في الخروج منه.»

ورفع عينيه إلى وجه الشيخ وتمهل قليلًا، ثم قرب النور منه، ورده إلى موضعه في رفق، وغادر الغرفة.

وقال للمرأة وهو يفتح الباب: «يحسن بك أن تعني بأمر الشيخ، فإني أحسبه مريضًا»، وأشار إلى الشرطي أن يتبعه، وأغلقت المرأة الباب.

وصعدت في عجلة إلى الشيخ، فوجدته قد فارق الحياة.

وتحت أطباق الثرى، في جدث بسيط المظهر، في بقعة من أجمل البقاع، وفي المقابر المنعزلة، في إقليم «كنت»؛ حيث الأزاهر البرية مختلطات بأنضر الحشائش ويبدو المشهد المحيط بالموضع أبدع البقاع في البلاد كلها، ترقد عظام تلك الأم الشابة وطفلها البديع، ولكن رفات الأب لم يختلط بتلك العظام، ومنذ تلك الليلة لم يظفر المحامي بأي نبأ عمَّا كان من أمر ذلك العميل الغريب.»

وما كاد الشيخ يختم قصته، حتى تقدم إلى مشجب في ركن من الحجرة، فتناول منه رداءه وقبعته فلبسهما بتأنٍّ بالغٍ، وانصرف دون أن ينبس بكلمة واحدة.

وكان السيد ذو الأزرار الفسيفسائية قد استولى النعاس عليه، وراح أكثر أفراد الجمع في شغل شاغل بمداعبته ووضع دهن الشمع المذاب في كأسه، فانتهز المستر بكوك هذه الفرصة وانصرف دون أن يلحظ أحد منهم انصرافه، وبعد أن أدى حساب شرابه وشراب المستر ولر انطلقا معًا من حانة «العقعق والقرمة».

١  هذا السجن لم يعد له وجود (المترجم).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤