الفصل الرابع والعشرون

وفيه تشتد الغيرة بالمستر بيتر ماجنس، وتعرف السيدة النَّصَف فتوجس، وينتهي الأمر بوقوع البكوكيين في قبضة القانون.

***

ولما نزل المستر بكوك إلى القاعة التي قضى فيها المساء السابق مع المستر بيتر ماجنس، وجدَه قد لبس وتجمَّل بأغلب الحلل والأشياء الأخرى التي كانت في الحقيبتين، وعلبة القبعات، والرِّزمة الملففة، بادية عليه بكل ما فيها من روعة وجمال، بينما كان هو يذرع القاعة رواحًا وغدوًّا في أشد القلق والاضطراب.

واستقبله المستر ماجنس قائلًا: «طاب صباحك يا سيدي ما رأيك في هذا يا سيدي؟»

وأجاب المستر بكوك وهو يتأمل ثيابه ويبتسم ابتسامة طيبة: «مؤثر جدًّا.»

وقال المستر ماجنس: «أي نعم، أظن هذا يكفي، لقد أرسلت بطاقتي إليها يا مستر بكوك.»

قال: «هل فعلت حقًّا؟»

قال: «وقد عاد الغلام يقول إنها ستقابلني في الحادية عشرة، في الحادية عشرة يا سيدي، أي لم يبقَ على الموعد غير ربع ساعة.»

وقال المستر بكوك: «لقد اقترب الموعد كثيرًا.»

وأجاب المستر ماجنس: «أي نعم، اقترب جدًّا حتى كاد المرء يضطرب منه. آه! يا مستر بكوك!»

وقال المستر بكوك: «إن الطمأنينة مهمة في هذه المواقف ولها أثر بالغ.»

وأجاب المستر ماجنس: «أعتقد أنها كذلك يا سيدي، وإني لجد مطمئن يا سيدي، وفي الحق لست أدري لماذا يتوجس المرء خيفة من موقف كهذا يا سيدي، فلعمري ما هو؟ إنه شيء لا يُستحيى منه ولا يُخاف، إنه مسألة تبادل عواطف لا أكثر ولا أقل، زوج في جانب، وزوجة في الجانب الآخر، هذا هو رأيي في الموضوع يا مستر بكوك.»

وأجاب المستر بكوك: «هذا رأي فلسفي جدًّا، ولكن الفطور ينتظر يا مستر ماجنس، فهلم إليه.»

وجلسا لتناوله، ولكن على الرغم من ادِّعاء المستر بيتر ماجنس الثقة بنفسه، والطمأنينة إلى موقفه، بدا جليًّا عليه أنه كان رهن اضطراب عصبي شديد كان من أوضح أعراضه فقدانه شهوة الطعام، ونزوعه إلى قلب أواني الشاي، ومحاولته الظهور بمظهر المرح والمجانة، وميله الذي لا يغالب إلى النظر في الساعة بين ثانية وأخرى.

وضحك المستر ماجنس مترائيًا بالابتهاج وهو يلهث من فرط الاضطراب: «هيه، هيه، هيه، لم يبقَ من الزمن إلا دقيقتان يا مستر بكوك، أتراني مصفرَّ الوجه يا سيدي؟»

وأجاب المستر بكوك: «ليس كثيرًا.»

وساد السكون لحظة.

وعاد المستر ماجنس يقول: «عفوًا يا مستر بكوك إذا أنا سألتك: هل جربت شيئًا من هذا القبيل في زمانك؟»

وقال المستر بكوك: «أتقصد الخطبة؟»

– «نعم.»

وأجاب المستر بكوك بكل قوة: «أبدًا، أبدًا.»

وقال المستر ماجنس: «ليس لديك إذن فكرة عما يحسن أن نبدأ الكلام به.»

وأجاب المستر بكوك: «لعلِّي قد كونت بعض الأفكار في هذا الشأن، ولكني لم أعرضها يومًا معرض الاختبار والتجربة؛ ولهذا يؤسفني إذا أنت استهديت بها في اتخاذ تدابيرك ووضع خطتك.»

وقال المستر ماجنس وهو يلقي نظرة أخرى على الساعة وكان عقربها قد اقترب من الدقيقة الخامسة بعد الحادية عشرة: «أكون شاكرًا لك يا سيدي إذا أنت أسديت إليَّ أية نصيحة في هذه المسألة.»

وأنشأ المستر بكوك يقول بجِدٍّ بالغ اعتاد ذلك الرجل العظيم الالتجاء إليه كلما أراد أن يجعل لملاحظاته قوة وأثرًا فعَّالًا في النفوس: «إذن استمع لي يا سيدي، لو أني كنت مكانك لكان أول شيء أبدأه أن أنوِّه بجمال السيدة وأشيد بسجاياها الحسان، ثم أعطف من ذلك التنويه والإشادة إلى الكلام عن نفسك والحديث عن قلة جدارتك ونقص فضلك.»

وقال المستر ماجنس: «حسن جدًّا، ثم ماذا؟»

ومضى المستر بكوك يقول: «قلة جدارتك بها، تذكر هذا ولا تنسَهُ، ولو كنت في مكانك لأثبتُّ لها أنني لست مجردًا من الفضل جملة، ولمضيت أشرح لها خلاصة من ماضي حياتي وشيئًا موجزًا عن حاضري، ولقلت على سبيل التمثيل والاستشهاد: إنني لا بد من أن أكون في عين إنسانة سواها موضع رغبة صادقة، ثم أذهب بعد ذلك أصف مبلغ حرارة حبي وعمق ولائي، وصدق إخلاصي، ولعلي بعدئذٍ مجترئ على محاولة الإمساك بيدها.»

وقال المستر ماجنس: «أي نعم، فهمت ما تقول، هذه نقطة عظيمة جدًّا.»

واستتلى المستر بكوك يقول وقد بدأت حماسته تزداد؛ لظهور الموضوع في ألوان زاهية لعينيه: «وعندئذٍ أهجم يا سيدي عليها بسؤال واضح بسيط وهو قولك: «فهل ترتضينني؟» وأحسبني معذورًا إذا افترضت أنها عند سماعها هذا السؤال ستشيح بوجهها.»

وقال المستر ماجنس: «أتظن أن هذا سيؤخذ قضية مسلمًا بها؟ لأن الأمر سينتهي بارتباك إذا هي لم تفعل ذلك في الموضع المناسب.»

وأجاب المستر بكوك: «أعتقد أنها ستفعل ذلك وعندئذٍ يا سيدي اضغط يدها، وأظن، أظن يا مستر ماجنس أنه لن يكون رفضٌ ما بعد ذلك، ثم أزيح في رفق المنديل الذي يحملني علمي اليسير بالطبيعة البشرية على الاعتقاد بأن السيدة ستدنيه من عينيها في تلك اللحظة، وأختلس منها قبلة محترمة، أعتقد يا مستر ماجنس أن لا بد من تقبيلها، وأنا في هذا النقطة أقرر جازمًا أنها ستغمغم في أذني كلمة قبول في استحياء، إذا كانت فعلًا مقبِلة على الرضا بي، جانحة إلى قبولي.»

وراح المستر ماجنس ينظر مليًّا في وجه المستر بكوك الذكي، وهو في صمت، لحظة قصيرة، وكان عقرب الساعة قد وصل إلى الدقيقة العاشرة بعد الحادية عشرة، فصافحه بحرارة، وانطلق مستيئسًا من الغرفة لا يلوي على شيء.

وانثنى المستر بكوك يذرع القاعة في رفق، وكانت الساعة قد حذت حذوه، فبلغت النصف، وإذا الباب يفتح فجاة، فاستدار ليرى المستر بيتر ماجنس عائدًا، ولكنه أبصر حياله وجهًا متهللًا، وهو وجه المستر طبمن، وطلعة هادئة ساجية، وتلك طلعة المستر ونكل، وصفحة تتجلى فيها مخايل الذكاء، وتلك صفحة المستر سنودجراس.

وبينما كان المستر بكوك يحييهم ويسلم عليهم؛ إذ دخل المستر بيتر ماجنس مهرولًا، فقال المستر بكوك: «ها هو ذا السيد الذي كنت أتحدث إليكم عنه، وهؤلاء أصحابي يا مستر ماجنس.»

وقال المستر ماجنس، في حالة ظاهرة من الحماسة والاضطراب: «خادمكم أيها السادة، اسمح لي يا مستر بكوك بالكلام معك لحظة واحدة يا سيدي.»

ومضى يدخل سبابته في عروة رداء المستر بكوك ويحذبه إلى نافذة في ركن من القاعة.

قال: «هنئني يا مستر بكوك، لقد اتبعت نصيحتك بالحرف الواحد.»

وسأله المستر بكوك: «وجاءت النتيجة على ما يرام، أليس كذلك؟»

قال: «كذلك، ولم يكن في الإمكان أحسن مما كان، لقد أصبحت لي يا مستر بكوك.»

وأجاب المستر بكوك متحمسًا وهو يشد كف صاحبه الجديد: «أهنئك من صميم قلبي.»

وقال المستر ماجنس: «لا بد من أن تراها يا سيدي، من هنا إذا تكرمت، اسمحوا لنا بدقيقة واحدة أيها السادة.»

وفي هذه العجلة مشى المستر ماجنس بالمستر بكوك منصرفين من الحجرة، ووقف بالباب التالي في الدهليز، وطرق الباب برفق.

وانبعث صوت نسوي يقول: «ادخل.»

«فدخلا.»

وقال المستر ماجنس: «يا آنسة وذرفيلد اسمحي لي أن أقدم إليك صديقي الحميم المستر بكوك، ويا مستر بكوك أقدم إليك الآنسة وذرفيلد.»

وكانت السيدة واقفة في الطرف الأقصى من الحجرة، فلما انحنى المستر بكوك لها في أدب، أخرج منظاره من جيب صداره فوضعه فوق عينيه، ولم يكد يفعل حتى أفلتت منه صيحة دهشة، وتراجع عدة خطوات، بينما مضت السيدة ترسل صرخة مكتومة، وتخفي وجهها بيديها، وتتهالك على مقعد، ووقف المستر ماجنس جامدًا في مكانه، ينقل عينه بينهما، وقد بدت على وجهه أبلغ علامات الاستنكار والذهول.

وكان هذا المشهد في ظاهره تصرفًا غامضًا بلا شك، ولكن الواقع أن المستر بكوك ما كاد يضع المنظار على عينيه حتى عرف في الحال أن عروس المستر ماجنس ليست سوى السيدة التي دخل عليها الحجرة غير مأذون في الليلة الماضية، ولم يكد المنظار يستقر فوق أنفه، حتى عرفت السيدة في التو واللحظة ذلك الوجه الذي شهدته بالأمس محاطًا بكل شنائع «طاقية النوم»، فكان ذلك سر صرختها، وباعث صيحته.

وصاح المستر ماجنس وقد تملكته الدهشة: «يا مستر بكوك، ما معنى هذا يا سيدي؟ وما مراده؟»

وأضاف تلك الكلمة الأخيرة في لهجة وعيد وبصوت مرتفع.

وأجاب المستر بكوك في شيء من الغضب لهذا التغيُّر الفجائي في لهجة المستر ماجنس وتحوله إلى صيغة الأمر: «سيدي، إنني أرفض الإجابة عن هذا السؤال.»

وقال المستر ماجنس: «أترفض يا سيدي؟»

وأجاب المستر بكوك: «نعم يا سيدي، إنني أمتنع عن قول شيء قد يحرج هذه السيدة أو يثير في نفسها ذكريات أليمة، دون موافقتها وإذنها.»

وقال المستر بيتر ماجنس: «يا آنسة وذرفيلد أتعرفين هذا الشخص؟»

وأجابت السيدة النصف: «أعرفه.» ولبثت مترددة لا تزيد شيئًا.

وأجاب المستر ماجنس بحدة: «نعم، هل تعرفينه يا سيدتي؟ لقد سألتك هل تعرفينه؟»

قالت: «لقد رأيته من قبل.»

قال: «أين؟ أين؟»

ونهضت السيدة من مقعدها وأشاحت بوجهها قائلة: «هذا ما أرفض أن أبوح به مهما كلفني الرفض!»

وقال المستر بكوك: «إنني مدرك ما تعنين يا سيدتي، وأحترم هذا الإحساس الرقيق الذي أبديته، وثقي بأنني أيضًا لن أبوح آخر الدهر به.»

وقال المستر ماجنس: «يمين الله يا سيدتي إنك بهذا القول، وبالنظر إلى المركز الذي أصبح لي عندك، تريدين أن تخفي هذه المسألة بهدوء ظاهر، واستخفاف واضح يا سيدتي.»

قالت: «إنك لقاسٍ يا مستر ماجنس.»

وهنا راحت السيدة تبكي بدمع سخين.

وتدخل المستر بكوك قائلًا: «لتوجه ملاحظاتك إليَّ أنا يا سيدي، إن كانت ثمة لائمة فأنا وحدي الملوم.»

وقال المستر ماجنس: «أأنت وحدك الملوم يا سيدي؟ فهمت إذن، إنك نادم على ما كنت معتزمًا أن تفعله، أنادم أنت؟»

وقال المستر بكوك بدهشة: «على ما كنت معتزمًا؟!»

وأجاب المستر ماجنس: «نعم يا سيدي، لا تنظر إليَّ هكذا يا سيدي، لقد تذكرت كلامك لي في الليلة الماضية، لقد قلت إنك جئت إلى هنا يا سيدي لتكشف خيانة شخص وتفضح غدره، وكان صدقه ووفاؤه من قبل موضع ثقتك التامة، إنه …»

وهنا راح المستر ماجنس يطيل إليه نظرة هزء وازدراء، وينزع عن عينيه منظاره الأخضر اللون ويديرهما في كل ناحية، بشكل مخيف، وصورة مروعة.

وعاد يقول: «آه» ويكرر نظرته الهازئة المزدرية بحركة متزايدة «ولكنك ستجيب يا سيدي.»

وقال المستر بكوك: «عمَّ أجيب؟»

وقال المستر ماجنس، وهو يمشي في الحجرة ذهابًا وجيئة: «لا بأس يا سيدي، لا بأس!»

وأكبر ظننا أن في قول الناس: «لا بأس» معنى جامعًا متواضعًا عليه، فلا نذكر أننا شاهدنا شجارًا في الطريق، ولا مشادة في الملهى، ولا نزاعًا في محل عام، أو مكان سواه، إلا كان الجواب فيه عن كل سؤال يوجهه الخصم إلى خصمه، هو هذه العبارة بالذات «لا بأس» أو «حسن»، فيقول أحدهما للآخر: «هل تسمي نفسك إنسانًا مهذبًا يا سيدي؟» ويجيب هذا بقوله: «لا بأس»، ويقول بعضهم: «هل رأيتني أقول شيئًا للشابة يا سيدي؟» ويجيب الآخر قائلًا: «حسن»، أو ينثني أحد الناس يقول: «هل تريد أن أحطم لك رأسك في هذا الجدار يا سيدي؟» ويرد الآخر قائلًا: «لا بأس يا سيدي»، ويلاحظ أيضًا أن هذه العبارة بالذات تنطوي على شيء من التقريع يثير في صدر الشخص الذي تُوَجَّهُ إليه غضبًا أشد مما يثيره أفحش المثالب والسباب.

ولسنا نقصد بهذا أن نقول: إن توجيه هذه العبارة إلى المستر بكوك أثار في صدره ذلك الغضب الذي تثيره أبدًا في صدور الناس عامة، وإنما نريد أن نسجل ما حدث فعلًا في تلك اللحظة؛ فقد تقدم المستر بكوك نحو الباب ففتحه وراح ينادي قائلًا: «يا مستر طبمن تعالَ إلينا.»

وفي الحال جاء المستر طبمن، وهو مبهوت في دهشة بالغة.

وابتدره المستر بكوك قائلًا: «أي طبمن، إن سرًّا ينطوي على شيء من الحرج ويتصل بهذه السيدة كان اللحظة سببًا لخلاف بيني وبين هذا السيد، فإذا أنا أكدت له بحضورك أن لا صلة لهذا السر به، ولا علاقة له مطلقًا بشئونه، فلا أراني بحاجة إلى إحاطتك علمًا بأنه إذا استمر في مناقشتي في صحته، فمعنى ذلك أنه يشك في صدقي، وهو شك سأعده مهينًا لي أبلغ الإهانة.»

وما كاد ينتهي من قوله هذا حتى نظر إلى المستر بيتر ماجنس نظرة شاملة محيطة، وكانت صراحته وحفاظه، وقوة منطقه، وبداهة حجته — وهي جميعًا أبرز مزاياه — كفيلة بإقناع أي إنسان أوتي مسكة من العقل، ولكن عقل المستر بيتر ماجنس — في تلك اللحظة بالذات — لم يكن ساكنًا في رأسه، ولا مستقرًّا في تفكيره، وبدلًا من أن يتلقى شرح المستر بكوك كما كان ينبغي له أن يتلقَّاه، راح يستسلم لانفعال شديد محرِق ثائر يتملكه من جميع نواحيه، ويتحدَّث عمَّا يجب في حق إحساسه، ويقول كلامًا من هذا القبيل ونحوه، ويشد شعره، ويأتي بحركات مضحكة ويروح ويغدو في الحجرة مهددًا بقبضة يده في وجه المستر بكوك المفعم برًّا وعطفًا.

وكان المستر بكوك نفسه — وهو عالم ببراءته — واثقًا من صدقه ونزاهته، هائج الخاطر؛ لإحراج السيدة وإشراكها لسوء الحظ في هذه المسألة الكريهة، قد فقد سكينته المألوفة وهدوء نفسه المعروف، فكانت النتيجة أن الكلام طال، والنقاش احتد، والأصوات ازدادت ارتفاعًا، وانتهى الأمر بأن قال المستر ماجنس للمستر بكوك أنه سيرسل إليه من يبلغه مشيئته، فكان جواب المستر بكوك بأدب جدير بالثناء أنه من الخير أن يعجل، وعندئذٍ اندفعت السيدة مروعة من الحجرة، وجر المستر طبمن صديقه تاركين المستر بيتر ماجنس وحده لتفكيره.

ولو أن تلك السيدة النَّصَف كانت من النساء اللاتي اختلطن كثيرًا بالناس، وعرفن شئون الدنيا، أو أفدن بعادات الذين يضعون فيها القوانين، وآداب الذين ينشئون فيها العرف والأخلاق، لعرفت أن هذا النوع من العنف والحدة هو أبعد الأشياء من الأذى، وأخلاها من الضرر، في الطبيعة، ولكنها عاشت أكثر حياتها في الريف ولم تقرأ في يوم من الأيام محاضر المناقشات التي تدور في البرلمان، ولم تدرك غير طرف يسير من هذه المسائل الدقيقة التي تتصل بالحياة المتحضرة ودنيا السادات والمهذبين، فلا عجب إذا هي أوصدت على نفسها الباب، حين هرعت إلى غرفتها، وأخذت تفكر في ذلك المشهد الذي جرى أمامها، وتصور لخاطرها صورًا مروعة للقتل والدمار وسفك الدماء، وتتمثل من بينها صورة كاملة للمستر بيتر ماجنس محمولًا من بين أربعة رجال، مزدانًا بخزنة كاملة من الرصاص في جنبه الأيسر، وكلما فكرت في ذلك كله، ازدادت رعبًا، وامتلأت خيفة، وانتهى بها التفكير إلى تقرير الذهاب إلى دار العمدة؛ لتطلب إليه البدار إلى اعتقال المستر بكوك والمستر طبمن بغير إبطاء.

وقد ألجأتها إلى إتخاذ هذا القرار عدة اعتبارات؛ أهمها: إقامة الدليل الذي لا نزاع فيه، والبرهان الذي سيتوافر به، على إخلاصها للمستر بيتر ماجنس، وقلقها على سلامته، وكانت تعرف حق المعرفة شدة غيرته، وسرعة تأويله الخاطئ لسبب اضطرابها عند رؤية المستر بكوك، وكانت واثقة كذلك من نفوذها وقوة سلطانها على ذلك الرجل الصغير الجثة ومقدرتها على إطفاء نار غيرته المتأججة، إذا تواتى لها إزالة المستر بكوك من الطريق، ومنع الاشتباك بين الرجلين.

واستولت هذه الأفكار عليها، فلبست قبعتها وأخذت ملفعتها وقصدت إلى دار العمدة في الحال.

وكان المستر جورج نبكنز — عمدة البلدة الذي أسلفنا ذكره — أكبر شخصية يستطيع أسرع «مشاء» أن يهتدي إليه، بين مشرق الشمس ودلوكها، في الحادي والعشرين من شهر يونية الذي تتحدث التقاويم عنه بأنه أطول يوم في العام كله، ويتسع فيه للباحث عنه بالطبع أكبر وقت للاهتداء إلى مكانه.

وكان المستر نبكنز في صباح ذلك اليوم بالذات في أشد حالات الاضطراب والهياج لقيام اضطرابات ومشاغبات في البلدة؛ فقد تآمر طلبة المدارس النهارية، في أكبر مدرسة لهذا النوع من التعليم على تحطيم واجهة حانوت بائع تفاح ممقوت، بعد أن جرُوا في أثر شماس الكنيسة وأوسعوه صفيرًا وسخرية وازدراءً، ورشقوا دار الشرطة بالأحجار.

وكان الشرطي فيها رجلًا مكتهلًا في حذاء طويل، لبث في عمله المتصل بحفظ النظام منذ فتائه، أي من نصف قرن على أقل تقدير.

وكان المستر نبكنز جالسًا في مقعده الرحيب مقطبًا في جلال، يغلي من الغضب، حين قيل له: إن سيدة تريد الدخول عليه لأمر عاجل وشأن خاص، فبدَا عليه الغيظ المكتوم، وأمر بأن يسمح لها بالمثول، فأطيع ذلك الأمر في الحال، ككل أمر يصدره ممثلو الملوك والأباطرة والقضاة والحكام الكبار في الأرض.

ودخلت الآنسة وذرفيلد مضطربة مرتبكة.

وقال العمدة: «يا مزل.»

وكان «مزل» هذا حاجبًا طويل البدن، قصير الساقين.

– «يا مزل.»

– «نعم يا سيدي.»

وانثنى إلى السيدة فقال: «والآن يا سيدتي قصي ما الخبر؟»

وأجابت الآنسة وذرفيلد: «إنه لأمر أليم يا سيدي.»

قال: «مرجح جدًّا يا سيدتي، هدئي روعك»، وهنا بدا المستر نبكبز رحيمًا رفيقًا، «فإذا هدأت فنبئيني ما الذي أقدمك علينا يا سيدتي؟»

وهنا استطاع القاضي أن ينتصر على الإنسان، فعاد ينظر بتجهم وعبوس.

وقالت الآنسة وذرفيلد: «إنه لجد أليم لنفسي يا سيدي أن أفصح عن باعث قدومي، ولكني أخشى أن تحدث مبارزة هنا.»

وقال العمدة: «أتقولين هنا؟ أين يا سيدتي؟»

قالت: «في إبسويتش.»

قال وقد روعته الفكرة كل الترويع: «في إبسويتش يا سيدتي! مبارزة في إبسويتش! هذا مستحيل يا سيدتي، إنني مقتنع أن لا شيء من هذا القبيل يمكن التفكير فيه هنا في هذه البلدة، سبحان الله يا سيدتي! أتعرفين مدى نشاط الموكلين فيها بحفظ النظام، وسلامة الأمن؟ ألم يبلغك يومًا يا سيدتي أنني بادرت إلى حلقة مباراة في الرابع من شهر مايو الماضي، ولم يكن معي غير ستين شرطيًّا خاصًّا، معرِّضًا نفسي للوقوع فريسة غضب جمهور محنق وهياجه، فمنعت مباراة في الملاكمة بين الملاكم ضمبلنج الذي ينتمي إلى ولاية مدلسكس وبين الملاكم بانتام من ولاية سافوك. مبارزة في إبسويتش يا سيدتي؟! لا أظن، لا أظن، وهنا مضى ذلك الرجل القائم على صون النظام بقوة السلطان يتحدث إلى نفسه: «لا أظن أن رجلين يجرؤان على تدبير شيء كهذا مخلٍّ بالنظام في هذا البلد.»

وقالت السيدة النَّصَف: «إن علمي بالأمر للأسف جد صحيح؛ فقد كنت حاضرة المشاجرة.»

وقال العمدة وهو مبهوت: «هذا شيء خارق للمألوف يا مزل!»

وأجاب الحاجب: «نعم يا سيدي.»

قال: «ادع المستر جنكس إلى الحضور هنا فورًا، في هذه اللحظة.»

وأجاب الحاجب: «سمعًا وطاعة يا سيدي.»

وانصرف الحاجب، ودخل الحجرة كاتب في منتصف العمر أصفر اللون حاد الأنف، يبدو عليه السغب ونقص التغذية، وتلوح على زيه وثوبه رقة الحال.

وناداه العمدة قائلًا: «يا مستر جنكس، يا مستر جنكس.»

قال: «نعم يا سيدي.»

ومضى العمدة يقول: «إن هذه السيدة قد جاءت تبلغنا نبأ اعتزام رجلين المبارزة في هذه البلدة.»

ولم يدرِ المستر جنكس ماذا هو صانع، فابتسم ابتسامة الحائر المرتبك.

فانتهره العمدة قائلًا: «مِمَّ تضحك يا مستر جنكس؟»

وعندئذٍ بادر المستر جنكس إلى اتخاذ سمات الجد في الحال.

وقال العمدة: «يا مستر جنكس، إنك أحمق.»

فنظر المستر جنكس نظرة ذلة وانكسار إلى الرجل العظيم وعض طرف قلمه.

ومضى العمدة قائلًا: «قد تجد شيئًا مضحكًا في هذا البلاغ يا سيدي، ولكن في وسعي أن أقول لك هذا يا مستر جنكس، وهو أن ليس ثمة شيء يضحكك.»

وتنهد جنكس المسكين الساغب، كأنما أدرك أنه لا يوجد في الواقع شيء يدعو إلى الضحك، ولم يكد يؤمر بأن يأخذ أقوال السيدة، حتى دلف إلى مقعد وبدأ يكتب البلاغ.

ولما انتهى من تدوين المحضر، انثنى العمدة يقول: «أفهم من هذا أن الرجل الذي يدعى بكوك هو أصل البلاء.»

وأجابت السيدة: «نعم هو.»

وقال العمدة: «والمشاغب الآخر، ماذا يدعى يا مستر جنكس؟»

قال: «طبمن يا سيدي.»

– «هل طبمن هو الثاني؟»

– «نعم.»

– «هل قلت يا سيدتي إن الأول اختفى؟»

وأجابت الآنسة وذرفيلد بسعلة قصيرة: «نعم.»

قال: «حسن جدًّا، إن أمامنا إذن رجلين من السفاحين جاءَا من لندن إلى هنا للقضاء على أرواح رعايا جلالة الملك؛ ظنًّا منهما أن يد القانون عاجزة شلَّاء ما دامت هذه البلدة بعيدة من العاصمة، لسوف نجعلهما عِبرة لمن يعتبر، أَعِدَّ الأمر بالقبض عليهما يا مستر جنكس، يا مزل.»

وقال الحاجب: «نعم يا سيدي.»

قال: «هل جرمر في الطابق الأول؟»

– «نعم يا سيدى.»

– «ادعه إلينا.»

وانصرف مزل الممتثل الخاضع، ولم يلبث أن عاد ومعه السيد المكتهل الذي ينتعل حذاءً طويلًا والذي اشتهر بضخامة أنفه كأنه الزجاجة، وخشونة الصوت، وردائه الذي يضرب إلى لون «السعوط» وعينه الحوامة لا تستقر على شيء.

وقال العمدة: «جرمر.»

وأجاب هذا: «نعم يا سيدي.»

– «هل المدينة هادئة الآن؟»

– «في خير حال يا سيدي، لقد هدأ الشعور العام إلى حدٍّ ما، بعد أن تفرق الغلمان وذهبوا إلى الكريكت.»

وقال العمدة في لهجة العزم والحزم: «لا شيء يجدي في هذه الأيام غير التدابير الشديدة يا جرمر، فإذا استهتر أحد بسلطة رجال الملك وأجناده فليس أمامنا إلا أن نقرأ عليه قانون التجمهر والاجتماعات، وإذا عجزت السلطات المدنية عن حماية هذه النوافذ يا جرمر، فمن واجب السلطات العسكرية أن تحمي السلطات المدنية والنوافذ كذلك، وأعتقد أن هذا هو حكم الدستور يا مستر جنكس أليس الأمر كذلك؟»

وقال: «هذا بلا شك يا سيدي.»

قال وهو يوقع الأمر: «حسن جدًّا، اذهب يا جرمر فأحضر هذين الشخصين أمامي في هذا الأصيل، ستجدهما في فندق «الحصان الأبيض الكبير» هل تتذكر حادث الملاكمين ضمبلنج وبانتام يا جرمر؟»

وأشار المستر جرمر بهزة من رأسه إشارة توحي بأنه لن ينساه أبدًا وليس من المرجح في الواقع أن ينساه، ما دام القول فيه، أو الحديث عنه، يُذكر في كل يوم ويتكرر الاستشهاد به.

وواصل ممثل السلطة التنفيذية حديثه قائلًا: «ولكن حادث اليوم أكثر مخالفة لأحكام الدستور، وأشد إخلالًا بالنظام، وانتهاكًا لحقوق صاحب الجلالة … لأنني أعتقد أن المبارزة من حقوق جلالته التي لا نزاع فيها، أليس الأمر كذلك يا مستر جنكس؟»

وأجاب هذا قائلًا: «لقد نص عليها صراحة في «الماجنا كارتا» — «العهد الأعظم» — يا سيدي.»

وقال العمدة: «وهي درة من أسطع الدرر في التاج البريطاني، انتزعها الأعيان من جلالته انتزاعًا، أليس هذا صحيحًا يا مستر جنكس؟»

وأجاب جنكس: «أي نعم يا سيدي.»

واشرأب العمدة بعنقه كبرياءً وزهوًا وقال: «حسن جدًّا، فلن تنتهك هذه الوثيقة في هذا الجزء من المملكة. يا جرمر، خذ معك أعوانًا، ونفِّذ هذا الأمر بلا إبطاء. يا مزل.»

وقال الحاجب: «نعم يا سيدي.»

– «تقدم السيدة إلى الخارج.»

وخرجت الآنسة وذرفيلد متأثرة بالغ التأثر بسعة علم العمدة ودراساته، وانصرف المستر نبكنز لتناول الغداء، وأوى المستر جنكس إلى نفسه وانطوى عليها، وكان ذلك هو الملاذ الوحيد لديه، إذا استثنينا المتكأ الذي اتخذ منه فراشًا في الغرفة الصغيرة التي اعتادت أسرة صاحبة البيت أن تقضي فيها ساعات النهار، وانصرف المستر جرمر أيضًا؛ لكي يمحو — بطريقته الخاصة في تنفيذ المهمة التي عهد بها إليه — الإهانة التي لحقت به وبغيره من ممثلي حضرة صاحب الجلالة — ونعني به حضرة الشماس — في صبيحة ذلك النهار.

وبينما كانت هذه التدابير الحاسمة تُتَّخذ لصيانة الأمن وحفظ النظام، كان المستر بكوك وأصحابه — وهم أخلياء الأذهان من الأحداث العظيمة التي توشك على الوقوع — جالسين في هدوء إلى طعام الغداء، يتجاذبون أطراف الأحاديث، كأحسن ما يكون الصحب والخلطاء، وكان المستر بكوك يقص عليهم واقعة الحال التي جرت له في الليلة الماضية، وهم بسماعها فاكهون، وبخاصة المستر طبمن، وإذا الباب يفتح ووجه تقتحمه الأبصار يطل عليهم منه، وإذا ذلك الوجه المنفر ينظر باهتمام بالغ إلى المستر بكوك عدة ثوان، وقد بدا عليه أنه قد اقتنع بنتيجة بحثه؛ فقد تقدم إلى الحجرة، يمشي في حذاء طويل، ولكيلا نطيل على القارئ انتظار معرفة شخص ذلك الطارئ على المستر بكوك وصحبه، نقول: إن هاتين العينين الخلاجتين الحوامتين اللتين أطلتا عليهم من الباب، هما عينا المستر جرمر، وإن الشخص الذي تقدم نحوهم هو شخص ذلك السيد ذاته.

وكانت طريقة المستر جرمر في الإجراءات «فنية» ولكنها خاصة لا يجرى فيها على طرائق سواه؛ فقد كان أول عمل أتاه أنه أقفل الباب من الداخل، وكان الإجراء الثاني أنه راح يمسح رأسه ووجهه بكل عناية بمنديل من القطن أخرجه من جيبه، والثالث أنه وضع القبعة والمنديل في جوفها على أقرب كرسي منه، والرابع أنه أطلع من جيب الصدر في سترته هراوة قصيرة يعلوها تاج نحاسي، فأشار به إلى المستر بكوك بشكل جدي رهيب كأنه شبح من الأشباح.

وكان المستر سنودجراس أول من قطع السكون الذي ساد القوم من الدهشة؛ إذ مضى يطيل النظر إلى المستر جرمر لحظة، ثم انثنى يقول بلهجة التوكيد: «إن هذه غرفة خاصة يا سيدي … غرفة خاصة!»

فهز المستر جرمر رأسه وأجاب قائلًا: «ليس هناك غرفة خاصة في نظر صاحب الجلالة، متى اجتيز الباب المؤدي إلى الشارع العام، هذا هو القانون، إن بعض الناس يقولون: إن مسكن الإنجليزي هو حصنه المنيع. هذا كلام فارغ.»

وهنا تبادل البكوكيون النظر في دهشة وعجب.

وقال المستر جرمر: «أيكم يدعى المستر طبمن؟»

وكان قد عرف المستر بكوك بالبداهة، وأدرك أنه هو في الحال.

وقال المستر طبمن: «أنا؟»

وأجاب المستر جرمر: «وأنا أدعى القانون!»

قال: «ماذا؟»

وأجاب المستر جرمر: «القانون! السلطة المدنية والتنفيذية، هذه هي ألقابي، وهذه هي سلطتي، طبمن الاسم الأول على بياض، وبكوك شرحه، الإخلال بالنظام في أراضي مولانا الملك. وقد أخذت الأقوال المتعلقة بهذه القضية، وتمت الإجراءات التي ينص عليها القانون، ولهذا ألقي القبض عليك يا بكوك وأنت يا طبمن، السالفي الذكر.»

ونهض المستر طبمن من مجلسه قائلًا: «ماذا تعني بهذه القحة؟! اخرج من الحجرة.»

وقال المستر جرمر وهو يتراجع بسرعة إلى الباب «يا من هنا!» ثم يفتح منه قدر بوصة أو بوصتين، وينادي: «يا ضبلي …!»

وانبعث صوت أجش من الدهليز قائلًا: «نعم.»

قال: «تقدم يا ضبلي.»

وجاء على هذا الأمر رجل قذر السحنة عملاق ضخم البدن فحشر نفسه حشرًا من خلال الفتحة الصغيرة حتى احمر وجهه من هذا الجهد الذي بذله في الدخول.

وقال المستر جرمر: «هل الشرطيون الآخرون وقوف في الخارج يا ضبلي؟»

وأجاب الرجل، وكان من عادته الإيجاز وقلة الكلام، بإيماءة من رأسه.

وقال المستر جرمر: «مُرِ القسم الذي أنت موكل به يا ضبلي بالدخول.»

ففلى ضبلي ما طلب إليه، وإذا ستة رجال يحمل كل منهم هراوة قصيرة ذات تاج من نحاس، يتدفقون على الحجرة، ورد المستر جرمر هراوته إلى مكانها ونظر إلى المستر ضبلي، وأعاد هذا هراوته إلى موضعها ونظر إلى رجاله، ورد هؤلاء هراواتهم إلى أماكنها، ونظروا إلى المستر طبمن والمستر بكوك ونهض المستر بكوك وأصحابه نهضة رجل واحد.

وقال أولهم: «ما معنى هذا التهجم المنكر على حياتي الخاصة؟»

وقال المستر طبمن: «من الذي يجرؤ على اعتقالي؟»

وقال سنودجراس: «ماذا تريدون هنا أيها الأشقياء؟»

ولم يقل المستر ونكل شيئًا، ولكنه رمق جرمر بعينيه، ونظر إليه نظرة لو كان لديه أي خالجة من الشعور لنفذت في رأسه، ولكنها والحالة هذه لم تُحدث فيه أثرًا ظاهرًا.

ولما تبين ممثلو السلطة التفيذية أن المستر بكوك وأصحابه يهمون بمقاومة سلطة القانون، شمروا عن أذرعهم كأنهم مقدِمون على جندلتهم في الحال، واستياقهم بعد ذلك، وهو إجراء عادي تقتضيه المهنة، وينفذ بمجرد التفكير فيه دون تردُّد، وقد فطن المستر بكوك لتلك الحركة في الحال، فأخذ المستر طبمن في ناحية وتحدث إليه بضع لحظات، وأبدى استعداده للذهاب إلى دار العمدة مكتفيًا بتوجيه أنظار الحاضرين إلى أن في نيته فعلًا أن يحتج على هذا التهجم البشع على حقوقه بوصفه مواطنًا عقب الإفراج عنه مباشرة، فضحك الحاضرون لهذا القول ساخرين، خلا المستر جرمر الذي كان يعد أي شك ولو يسير في حقوق السلطة التنفيذية المقدسة تجديفًا لا يغتفر.

ولكن عندما أبدى المستر بكوك استعداده للانحناء أمام قوانين بلاده، وعندما رأى الخدم والغلمان والوصيفات وصبيان المرابط والمركبات العامة الذين كانوا يتوقعون أن يشهدوا منظرًا لطيفًا، على إثر عناده وتهديده، أنه قد امتثل للأمر، انصرفوا خائبي الأمل مشمئزِّين، وعندئذ قامت صعوبة لم يكن أحد قد توقعها؛ وذلك أن المستر بكوك مع احترامه التام للسلطات الدستورية، امتنع أشد الامتناع عن الظهور في الشوارع العامة محاطًا بالشرطة والحراس كما يحاط بالمجرمين العاديين، كما امتنع المستر جرمر، بالنظر إلى حالة الاضطراب، وهياج الشعور العام؛ فقد كان اليوم نصف عطلة، وصبية المدارس لم يعودوا بعدُ إلى دورهم، وأبى كل الإباء أن يستغني عن حراسة المقبوض عليهما، ويسير في الجهة الأخرى من الطريق، ويقبل من المستر بكوك التعهد بشرفه أن يسير رأسًا إلى مقر العمدة، بل لقد رفض المستر بكوك والمستر طبمن أيضًا أن يتحملا أجرة مركبة نقلهما إليه، وكانت هذه هي الوسيلة الوحيدة المحترمة التي يتسنى في هذا الموقف الحصول عليها، وهكذا اشتد الخلاف وطال أمد المأزق، وبينما كان ممثلو السلطة التنفيذية يوشكون أن يتغلبوا على اعتراض المستر بكوك على السير مشيًا إلى دار العمدة، بحمله عنوة؛ إذ خطر بالبال أن في فناء الفندق مقعدًا قديمًا كالهودج كان قد صُنِعَ في الأصل لحمل سيد غني كان يشكو داء المفاصل، وهو يتسع للمستر بكوك والمستر طبمن بلا عناء، ويشبه على الأقل عجلة أو مركبة صغيرة، فاستؤجر وأُحْضِرَ إلى بهو الفندق وراح المستر بكوك وصاحبه طبمن ينحشران فيه ويرخيان أستاره، وجيء في الحال برجلين يحملان الهودج بينهما وخرج الموكب في مظهر فخم، ونظام بديع، وأحاط الأشراط بالمركبة، بينما تقدمها المستر جرمر والمستر ضبلي يمشيان في الطليعة مشية المنتصرين، وجاء المستر سنودجراس والمستر ونكل في الساقة يسيران ذراعًا لذراع، وغوغاء إبسويتش الذين لا يعرفون للصابون قيمة ولا قدرًا يؤلفون المؤخرة.

ولم يكن أصحاب الحوانيت في البلدة قد عرفوا جلية الأمر، ولا حقيقة التهمة، ولكن هذا المشهد كان كافيًا لتلقينهم وإفهامهم مدى سطوة القانون، وإدخال الارتياح والطمأنينة على نفوسهم؛ فقد رأوا بأعينهم يد القانون الشديدة البأس، مسلطة في العشرين رجلًا من سدنته وحراسه، يستاقون جانيين من أهل العاصمة ذاتها، وينفذون سلطان القانون بأمر عمدة البلدة التي يعيشون فيها، ويعتقلون الجانيين الأثيمين بكل تلك الجهود المشتركة التي تعاونت عليها أدوات القانون ودواليبه، في ذلك المحيط الضيق، وهما داخل هودج واحد، وقد تجلت مظاهر السرور والإعجاب بأجلى آياتها في تحية المستر جرمر وهو على رأس هذا الموكب، والهراوة في يده، فكانت هتافات الغوغاء القذرين مدوية. وانطلق الموكب الهوينا في وسط هذه المظاهر المجتمعة التي تدل على الارتياح العام، وراح يشق الطريق في هيبة وجلال.

وكان المستر ولر مرتديًا سترة الصباح ذات الأردان المصنوعة من البفتة السوداء، وعائدًا في حزن وخيبة أمل من بحث غير موفَّق حول البيت الغريب ذي الباب الأخضر، وإذا هو يرفع عينيه فيبصر زحامًا في الطريق، محيطًا بشيء قريب الشبه بهودج، فأراد أن يصرف عن خاطره كل تفكير في خيبة مشروعه، فوقف في ناحية يشهد الموكب وهو يمر ووجد الناس يهتفون، فرحين راضين، فبدأ على سبيل التسرية عن نفسه، ونفى الهم عن صدره، يهتف بكل قواه مع الهاتفين.

ومر المستر جرمر، ومر المستر ضبلي في أثره، واجتاز الهودج، واجتاز الحراس، وظل سام مستجيبًا لحماسة الناس، مشتركًا في هتاف الغوغاء، وملوحًا بقبعته في الفضاء كأنه في أقصى حدود الابتهاج والإشراق — وإن لم تكن لديه بالطبع أقل فكرة عن الموضوع — ولكنه لم يلبث أن وقف عن حركاته تلك وحماسته، حين ظهر لعينيه فجأة المستر ونكل والمستر سنودجراس.

فصاح سام: «ما الخبر أيها السيدان؟ ومن تراهم يحملون في هذه المحفة المحزنة؟»

ورد السيدان عليه معًا، ولكن كلامهما ضاع في وسط الجلبة الصاخبة.

فعاد يصيح قائلًا: «من قلتما؟»

وجاءه الرد المشترك مرة أخرى، ولكنه لم يسمعه، وإن كان قد أدرك من حركة شفاههما أنهما قد نطقا بتلك الكلمة الساحرة «بكوك.»

وكان هذا حسبه، فلم تنقضِ دقيقة واحدة، حتى شق طريقه في غمار الزحام، وأوقف الحمالين اللذين يحملان الهودج بينهما، وواجه جرمر ذا الصولة والصولجان.

قال: «ما هذا أيها السيد الكبير؟ من هذا الذي تحمله في هذه النقالة؟»

وقال المستر جرمر: «ابعد يا هذا.»

وكان هذا الإعجاب الذي بدا له من جانب الجمهور قد زاد في هيبته، كغيره من الناس، ورفع من مكانته وأبهته.

وقال المستر ضبلى: «اطرحوه أرضًا إذا لم يمتثل.»

وأجاب سام قائلًا: «أشكرك كثيرًا أيها السيد الكبير لعنايتك براحتي، وأشكر أيضًا السيد الآخر الذي يبدو كأنه قد فَرَّ لساعته وتوه من قافلة عملاق على اقتراحه الجميل، ولكني أفضل أن تعطيني جوابًا عن سؤالي، وإذا لم يكن في ذلك بأس لديك. كيف أنت يا سيدي؟» وكان هذا السؤال الأخير موجهًا بلهجة عطف ورعاية إلى المستر بكوك، وكان هذا قد أطل من خلال النافذة الأمامية.

وعندئذٍ أخرج المستر جرمر — وهو لا يكاد يقوى على النطق من شدة الغيظ — الهراوة ذات التاج النحاسي من الجيب الخاص بها ورفعها أمام عيني سام.

وقال: «هذا آه، إنها لعصا مليحة جدًّا، وبالأخص تاجها الذي يشبه التاج الحقيقي الآخر إلى حدٍّ بعيد.»

وصاح المستر جرمر في غضب: «إلى الوراء.» وعلى سبيل زيادة الأمر الصادر منه قوة، راح يدفع الشارة النحاسية رمز التاج الملكي في طوق سام بإحدى يديه، ويمسكه من رقبته بالأخرى، وهى تحية رد عليها المستر ولر بدفعة ألقته على الأرض، وكان قد سبقها — رعاية واحترامًا له — بجندلة أحد الحمالين، لكي يسقط المستر جرمر فوقه، ويجد فراشًا يستلقي عليه.

ولسنا متأكدين هل كانت نوبة جنون التي استولت عندئذٍ على المستر ونكل بسبب التأذي من هذا المشهد، والاستياء من رؤيته، أو كان سببها التأثر بتلك الشهامة التي أبداها المستر ولر؟ ولكن المؤكد أنه لم يكد يرى المستر جرمر يسقط على الأرض، حتى هجم هجمة مروعة على غلام صغير كان واقفًا بجانبه، بينما راح المستر سنودجراس — بروح مسيحية صادقة، وحتى لا يأخذ أحد من الناس على غرة — يعلن بصوت مرتفع أنه سيبدأ القتال، وأنشأ يخلع سترته بمنتهى التأني والتؤدة، ولكن الشرطة بادروا إليه فحاصروه وأمسكوا به، ومن الإنصاف له وللمستر ونك أن نقول: إنهما لم يحاولا أقلَّ محاولةٍ لإنقاذ نفسيهما أو إنقاذ المستر ولر الذي قاوم أشد المقاومة، ولكن الكثرة تغلبت على الشجاعة فأحيط به.

وعاد الموكب إلى نظامه ورفع الحمالان جملهما وتابع القوم المسير.

وكان غضب المستر بكوك خلال هذا الحادث من بدايته إلى نهايته قد جاوز الحدود؛ فقد رأى سام وهو يجندل الأشراط ويكر ويفر في كل ناحية، ولم يستطع أن يرى أكثر من ذلك؛ لأن باب الهودج استعصى عليه، والأستار أبت أن ترتفع، وأخيرًا — وبمعاونة المستر طبمن — تمكن من فتح السقف، والصعود فوق المسند، والتوازن على قدميه ما أمكن، بوضع يده فوق كتف صاحبه، وراح يخطب في الجماهير متحدثًا عن الطريقة الجائرة التي عومل بها، ومناشدتهم الشهادة بأن الشرطة هم البادئون بمهاجمة خادمه.

وعلى هذا النحو وصل الموكب إلى دار العدالة، الحمالان يسيران بالمحفة جنبًا، والسجينان يتبعانهما والمستر بكوك يخطب، والغوغاء يتصايحون …

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤