الفصل الخامس والعشرون

يصف — فيما يصف من مواقفَ سارةٍ وحوادثَ فكهةٍ — مدى هيبة المستر نبكنز ونزاهته، وكيف استطاع المستر ولر أن يرد على خدعة المستر جوب تروتر بلعبة أبرع منها، ومسألة أخرى سيجدها القارئ في موضعها.

***

كان غضب المستر ولر شديدًا وهو يحمل حملًا، فكثرت غمزاته ونكاته على أشكال المستر جرمر وزملائه، كما بدا جريئًا في تحديه لأي شخص من أولئك الجنود الستة، وإعلان تذمره واستيائه بينما مضى المستر سنودجراس والمستر ونكل يصغيان باحترام صامت إلى فيض البلاغة المتدفقة من المستر بكوك زعيمهما وهو فوق منبر «الهودج»، تلك البلاغة الزاخرة التي لم يستطع المستر طبمن أن يوقف تيارها المتقاذف لحظة واحدة، بكل ما حاوله وتقدم به من توسلات إليه أن يغلق غطاء المركبة، وينثني عن خطبته، ولكن غضب المستر ولر لم يلبث أن استحال إلى فضول، حين رأى الموكب قد انعطف نحو ذلك الفناء ذاته الذي التقى فيه بالهارب جوب تروتر، وما لبث هذا الفضول أن انقلب إلى دهشة سارة، وعجب عاجب، حين شهد المستر جرمر بجلالة قدره يأمر الحمالين بالوقوف ويتقدم بخطوات جليلة، وفي مشية أبهة وسلطان، نحو ذلك الباب الأخضر الذي خرج منه جوب تروتر، ويدق الجرس بجذبة قوية، وإذا خادمة رشيقة مليحة المحيا، تأتي فتفتح الباب، وما كادت ترى السجناء على تلك الصورة الثائرة، وتسمع كلمات المستر بكوك الجياشة الغاضبة، حتى رفعت يديها من فرط الدهشة، ونادت المستر مزل مستنجدة، وجاء هذا ففتح نصف الباب الذي تدخل المركبات منه؛ لكي يتسع لدخول «الهودج» والسجناء والأشراط، وبادر إلى إغلاقه بعنف في وجوه الغوغاء، فغضب هؤلاء من صدهم عن الدخول، ومضوا في سبيل تحقيق لهفتهم على مشاهدة ما سيجري داخل الدار، وإرضاء مشاعرهم، يركلون الباب بأرجلهم، ويدقون الجرس بأيديهم ساعة أو ساعتين متعاقبتين على هذا العبث بالدور، خلا ثلاثة أو أربعة منهم حالفهم التوفيق فاكتشفوا ثغرة في الباب لا تشرف على شيء فاكتفوا بالحملقة والنظر من خلالها بتلك المثابرة الملحة التي لا تعرف التعب، ولا يغالبها الضجر، تلك المثابرة التي تبدو من الناس في أكثر هذه المشاهد، فيزدحمون بباب صيدلية، ويضعون أنوفهم في واجهاتها الأمامية إذا دهمت مركبةٌ أحدَ السكارى في الطريق، فحمل إلى الصيدلية لإجراء جراحة له في الغرفة الخلفية منها.

وأوقف الهودج عند المنحنى الأول من مدارج سلم مؤدٍّ إلى باب البيت، وقد وضعت على كلا جانبيه «صبارة» من «الصبار» الأمريكي في حوض أخضر اللون، وسيق بالمستر بكوك وأصحابه إلى البهو حيث كان «مزل» قد أعلن من قبلُ حضورَهم، وأمر المستر نبكنز بدخولهم، فأدخلوا في حضرة ذلك السيد صاحب السلطان الحريص على سلطته.

وكان المشهد رائعًا يهز النفوس، وعلى هذا النحو دبر وروعي في تدبيره أن يقذب الرعب في قلوب الجناة، ويقنعهم بهيبة القانون وسلطانه؛ فقد جلس المستر نبكنز أمام مكتبة ضخمة، في مقعد كبير، خلف مكتب كبير، وأمامه مجلد ضخم، وبدا أكبر حجمًا من أي شيء فيها، على ضخامتها، وقد ازدانت المنضدة بأكداس من الأوراق، وفي الطرف الأقصى منها ظهر رأس المستر جنكس وكتفاه، وكان منشغلًا كل الانشغال بالتظاهر بأنه مشغول ما أمكن.

وبعد أن دخل الجميع، تقدم مزل فأغلق الباب بعناية واتخذ موقفه خلف مقعد مولاه؛ انتظارًا لأوامره.

واستلقى المستر نبكنز في مقعده بهيبة تسري لها رعدة في النفوس، وراح يتفحص وجوه الزائرين الذين جاءوا كارهين.

وأنشأ المستر نبكنز يقول: «والآن يا جرمر، من هذا الشخص؟»

وأشار إلى المستر بكوك وكان هذا قد وقف موقف المتحدث عن صحابه، والقبعة في يده، وهو ينحني بكل أدب واحترام.

وأجاب جرمر: «هذا هو بكوك يا حضرة العمدة.»

وهنا تدخل المستر ولر، وتقدم يدفع الآخرين بمرفقه؛ ليقف في المقدمة، وقال: «دعك من هذا كله أيها العجوز الشبيه بالشيخ القائل: «أشعل لي لفافة» عفوًا يا سيدي، ولكن ضابطك هذا ذا القبعة الحمراء البرتقالية اللون الذي لا يمكن أن يكسب قوته يومًا مديرًا للمراسيم، في أي مكان كان، هذا السيد يا سيدي.» قال هذا وهو يدفع جرمر في ناحية ويخاطب العمدة بغير كلفة إطلاقًا: «هذا السيد هو الوجيه الكبير س. بكوك وهذا المستر طبمن، وهذا المستر سنودجراس والآخر القريب منه في الناحية الأخرى هو المستر ونكل، كلهم سادات لطاف ظراف يسعدك يا سيدي أن تعرفهم، وكلما عجلت بإرسال ضباطك هؤلاء إلى الهراسة١ مدة شهر أو شهرين، كان ذلك خيرًا لنا ولك، لكي نصبح أحباء ونتفاهم، على أحسن ما يكون التفاهم، العمل أولًا، واللهو بعد ذلك، كما قال الملك رتشارد الثالث حين طعن بالخنجر الملك الآخر في البرج، قبل أن يخنق الولدان في المهد.»

وما كاد المستر ولر ينتهي من هذه الخطبة حتى أخذ يمسح قبعته بمرفقه الأيمن، ويومئ بشفقة لجنكس الذي لبث مصغيًا إليه طيلة الوقت الذي استغرقه في الخطبة برهبة لا توصف.

وقال العمدة: «من يكون هذا الرجل يا جرمر؟»

وأجاب المستر جرمر قائلًا: «شخص متهور جدًّا يا حضرة العمدة؛ فقد حاول إنقاذ السجناء وتهجم على الشرطة فتحفظنا عليه وأحضرناه إلى هنا.»

وأجاب العمدة: «لقد أحسنت صنعًا، الظاهر أنه من الأوشاب المتهورين.»

وقال المستر بكوك بغضب: «إنه خادمي يا سيدي.»

وقال المستر نبكنز: «إنه خادمك، هذه إذن مؤامرة لإحباط أغراض العدالة وقتل الموكلين بها، إنه خادم بكوك، اكتب هذا يا سيد جنكس.»

وفعل جنكس ما أمر به.

وصاح المستر نبكنز قاصفًا كالرعد: «ما اسمك يا هذا؟»

وأجاب سام: «ولر.»

وقال المستر نبكنز: «اسم يصلح للنشر في تقويم السجون.»

وكانت هذه نكتة؛ فلا غرو إذا انتابت جنكس، وجرمر، وضبلي، والشرطيين الستة، ومزل نوبةُ ضحكٍ استمرت خمس دقائق.

وقال العمدة: «قيد اسمه عندك يا مستر جنكس.»

وقال سام: «بلامين، لا لام واحدة يا أخ!»

وهنا ضحك ثانية شرطي سيئ الحظ، فبادر العمدة إلى تهديده بالعقاب في الحال؛ لأنه من الخطر البالغ الضحك ممن لا ينبغي الضحك منه في هذه الأحوال.

وقال العمدة: «وأين تقيم؟»

وأجاب سام: «في أي مكان أستطيع.»

وقال العمدة، وقد بدأ الغضب يبدو عليه: «اكتب هذا يا مستر جنكس.»

وقال سام: «وتحته خط.»

وقال العمدة: «إنه متشرد يا مستر جنكس، متشرد باعترافه، أليس كذلك يا مستر جنكس؟»

– «بلا شك يا سيدي.»

وقال المستر نبكنز: «سأحكم عليه بهذه الصفة.»

وقال سام: «هذا البلد معروف بالعدالة والنزاهة في القضاء، وليس فيه قاضٍ إلا حكم على نفسه مرتين قبل أن يحكم على الناس.»

وضحك شرطي آخر لهذا التهجم، ثم حاول أن يتراءى ساكنًا جادًّا أكثر مما في مقدوره، فاكتشفه العمدة في الحال وصاح وهو محمر الوجه من الغضب: «جرمر، كيف سوَّلت لك النفس اختيار شخص عديم الكفاءة سيئ السمعة كهذا الرجل ليكون شرطيًّا ممتازًا، كيف اجترأت على عمل كهذا؟»

وأجاب جرمر متلعثمًا: «إنني آسف أشدَّ الأسفِ يا حضرة العمدة.»

وقال العمدة المحنق: «آسف جدًّا، إنك ستندم على هذا الإهمال في واجبك يا مستر جرمر، وستجعل عبرة لأمثالك، اسحب من هذا المخلوق هراوته، فهو سكران، أنت سكران يا هذا.»

وقال الرجل: «أنا لست سكران يا حضرة العمدة.»

ورد العمدة قائلًا: «بل أنت سكران فعلًا، كيف تجرؤ على تكذيب قولي إنك سكران، حين أقول إنك كذلك؟! ألا تعبق رائحة الخمر منه يا جرمر؟!»

وأجاب جرمر: «بشكل بشع يا حضرة العمدة.»

وكان جرمر قد شعر برائحة «الروم» تنبعث من ناحية ما، ولم يكن متأكدًا أنها منبعثة من ذلك الشرطي بالذات.

وقال المستر نبكنز: «إنني متأكد أنه سكران، وقد فطنت إلى سكره لأول وهلة حين دخل الحجرة، من عينه المهتاجة، هل لاحظت عينه المهتاجة يا مستر جنكس؟»

– «بلا شك يا سيدي.»

وقال الرجل، وكان مفيقًا صاحيًا لنفسه ليس به سكر: «إنني لم أذقْ قطرة من الخمر في هذا الصباح.»

وقال المستر نبكنز: «كيف تجترئ على الكذب أمامي، أليس هو سكران في هذه اللحظة يا مستر جنكس؟»

وأجاب جنكس: «بلا شك سيدي.»

وقال القاضي: «إنني يا مستر جنكس أتهم هذا الرجل بإهانة المحكمة … أعدَّ ورقة الاتهام يا مستر جنكس.»

وكان الشرطي سيحكم بلا شك عليه، لولا أن جنكس الذي يتولى عمل «المستشار» لحضرة العمدة؛ لأنه سبق له التدرب على إجراءات القضاء ثلاثة أعوام في مكتب أحد المحامين في الريف، أقبل يهمس للقاضي قائلًا: «إن هذا الإجراء لا يجدي، ولا غناء فيه»، فما كان منه إلا أن ألقى خطابًا قال فيه: إنه بالنظر إلى أن الرجل رب أسرة، سيكتفي بتوبيخه وفصله من الخدمة، وتم فعلًا تأنيبه بشدة زهاء ربع ساعة، وأطلق سبيله وراح جرمر وضبلي ومزل وسائر الأجناد الآخرين يغمغمون بإعجابهم بعظمة المستر نبكنز ورفعة إحساسه.

وانثنى المستر نبكنز يقول: «والآن يا مستر جنكس، حلِّف جرمر اليمين!»

وأدَّى جرمر اليمين في الحال، ولكنه أطال في شهادته، وشرد كثيرًا في أقواله، وكان غداء العمدة قد أوشك أن يُهَيَّأَ له، فلم تكن ثَمَّةَ حيلة أمامه غير الاختصار، بتوجيه أسئلة معينة لجرمر، ورد هذا عليها في الغالب بالإيجاب.

وهكذا مضى الاستجواب هينًا لينًا، وثبت منه أن المستر ولر تعدى مرتين على الشرطة، كما ثبت التهديد على المستر ونكل، والتعدي بالإشارة على المستر سنودجراس.

ولما انتهى ذلك كله على ما يروم المستر نبكنز، أخذ في المداولة مع المستر جنكس همسًا ومخافتة.

ولم تستمر المداولة أكثر من خمس عشرة دقيقة، فعاد المستر جنكس إلى مجلسه في طرف المنضدة، واستوى العمدة في مقعده، وأرسل سعلة ونحنحة على سبيل التمهيد، وشرع في النطق بالأحكام، وإذا المستر بكوك يقاطعه قائلًا: «عفوًا يا سيدي عن مقاطعتك، ولكن قبل أن تشرع في إصدار القرار الذي قد تكون بنيته على أساس الأقوال التي أُدلي بها هنا، أرى لزامًا أن أطالب بحقي في سماع أقوالي، فيما يتعلق شخصيًّا بي.»

وقال القاضي بلهجة قاطعة: «أمسك عليك لسانك يا سيدي.»

وقال المستر بكوك: «أنا مضطر إلى الإذعان لأمرك يا سيدي.»

وعاد القاضي يقول: «أمسك عليك لسانك يا سيدي، وإلا أمرت ضابطًا بإخراجك.»

وقال المستر بكوك: «لك أن تأمر ضباطك وأشراطك أن يفعلوا ما تشاء يا سيدي فلا شك عندي بعد الذي رأيته من الخضوع الغالب عليهم، أنك مهما تأمرهم يفعلوا يا سيدي، ولكني أصارحك يا سيدي بأني لا أزال متمسكًا بحقي في سماع أقوالي، ما لم أخرج من هنا بالقوة.»

وهنا صاح المستر ولر بصوت مسموع: «بكوك والمبادئ!»

فانتهره المستر بكوك قائلًا: «سام، اسكت أنت.»

وأجاب الخادم: «كسكوت طبلة مثقوبة يا سيدي.»

ونظر المستر نبكنز إلى المستر بكوك في دهشة بالغة من هذا التهور الذي لم يألفه من أحد قبله، وهَمَّ بأن يرد عليه ردًّا عنيفًا كل العنف لولا أن جذبه المستر جنكس من كمه وهمس شيئًا في أذنه فلم يسع القاضي إلا أن يرد ردًّا هادئًا لا يكاد يبلغ الأسماع، وتجدد التهامس، والظاهر أن جنكس كان يعارض العمدة ويستنكر إجراءه.

وأخيرًا التفت العمدة إلى المستر بكوك بعد أن ابتلع على كُرْهٍ هذا الاعتراض على الامتناع عن سماع أقواله فقال بحدة: «ماذا تريد أن تقول؟»

وأجاب المستر بكوك، بعد أن أرسل من خلال منظاره نظرة جعلت نبكنز نفسه يعرق منها وتخور عزيمته: «أريد أولًا أن أعرف السبب الذي دعا إلى استياقي أنا وصاحبي إلى هنا.»

وهمس القاضي لجنكس: «هل يتحتم أن أنبئه؟»

وهمس هذا له: «أظن أنه يحسن أن تفعل يا سيدي.»

وقال القاضي: «لقد أبلغني شخص بعد حلفه اليمين أنه علم أنك عازم على مبارزة، وأن الرجل الآخر طبمن هو مساعدك فيها ومحرضك، ولهذا، آه يا مستر جنكس؟»

– «بلا شك يا سيدي.»

– «ولهذا أدعوكما، أظن أن هذا هو الإجراء الصحيح يا مستر جنكس؟»

– «بلا شك يا سيدي.»

– «ولهذا ماذا؟ يا مستر جنكس؟»

– «أن يقدم ضمانًا يا سيدي.»

– «نعم، ولهذا أطلب إليكما — كما كنت أريد أن أقول لولا أن قاطعني كاتبي — أن تقدما ضمانًا.»

وهمس المستر جنكس في أذنه: «ضمانًا مقبولًا.»

وقال العمدة: «ضمانًا مقبولًا.»

وعاد الكاتب يهمس له: «من أشخاص مقيمين في البلدة.»

وقال العمدة: «من أشخاص في البلدة.»

وهمس المستر جنكس: «خمسين جنيهًا عن كل واحد، ويتعين أن يكون الضامن من أرباب الأملاك طبعًا.»

وقال العمدة بصوت جهير وفي اعتزاز بالغ: «إنني أطلب ضمانتين، كل منهما بخمسين جنيهًا، ويجب أن يكون الضامن طبعًا من ذوي الأملاك.»

وقال المستر بكوك، وكان هو والمستر طبمن قد استولت عليهما الدهشة وتملكهما الغضب: «يا سبحان الله يا سيدي. إننا هنا غريبان عن البلدة وأهلها، ولا أعرف فيها أحدًا من ذوي الأملاك، كما لا أعرف شيئًا عن اعتزامي مبارزة أحد من خلق الله.»

وأجاب العمدة: «أريد أن أقول، أريد أن أقول، أليس كذلك يا مستر جنكس؟»

– «بلا شك يا سيدي.»

وسأل العمدة المتهم: «ألديك شيء آخر تقوله؟»

وكان لدى المستر بكوك شيء كثير يقوله، وكان بلا شك قائله، وإن لم يكن في صالحه، ولا ينتظر أن يرتاح العمدة له، لو لم يجذبه المستر ولر من كمه، على إثر انتهائه من كلامه، ويدور بينهما في الحال حديث جدي سريع، جعله يغض عن السؤال الأخير الذي وجهه العمدة إليه، ولم يكن المستر نبكنز بالرجل الذي يسأل السؤال مرتين؛ ولهذا راح بعد نحنحة أخرى ووسط صمت الهيبة والرهبة والإعجاب البادية على الشرطة، ينطق بالأحكام.

وكان الحكم على المستر ولر بجنيهين غرامة من التهمة الأولى، وثلاثة جنيهات عن التهمة الثانية، وعلى المستر ونكل بجنيهين، وعلى سنودجراس بجنيه واحد مع مطالبتهما في الوقت ذاته بألا يتعرضا لأحد من رعايا حضرة صاحب الجلالة، وأن يحرصا على إقرار الوئام بينهم، وبخاصة مع خادم جلالته دانيال جرمر.

أما بكوك وطبمن فقد سبق له الحكم عليهما بكفالة.

وما كاد القاضي ينتهي من الكلام حتى تقدم المستر بكوك، وقد بدت ابتسامة على وجهه الذي استعاد تهلله وإشراقه، فقال: «أستميح حضرة العمدة عفوًا، هل يأذن لي في حديث خاص معه بضع دقائق في أمر هام يتعلق بشخصه؟»

وقال العمدة: «ماذا؟»

وأعاد المستر بكوك السؤال.

وقال العمدة: «هذا الطلب مخالف للمألوف كل المخالفة، حديث خاص؟»

وأجاب المستر بكوك بثبات: «نعم، حديث خاص يتصل ببعض المعلومات التي أريد الإفضاء بها، والتي استقيتها من خادمي، ولهذا أريد أن يحضر هذا الحديث.»

ونظر العمدة إلى المستر جنكس، ونظر المستر جنكس إلى العمدة، ونظر الشرطة بعضهم إلى بعض في دهشة ظاهرة، وبدا المستر نبكنز فجأة شاحب اللون، هل ترى ذلك الرجل الذي يدعى ولر في لحظة ندامة وتأنيب ضمير قد أفضى بنبأ مؤامرة سرية على اغتياله؟ لقد خطرت له هذه الفكرة المروعة، إنه موظف عمومي، واشتد وجهه شحوبًا؛ إذ تمثَّل له يوليوس قيصر، وتصور ما جرى للمستر برسيفال.٢

وعاد العمدة ينظر إلى المستر بكوك، ثم أشار إلى المستر جنكس.

وغمغم يقول: «ما رأيك في هذا الطلب يا مستر جنكس؟»

ولم يكن المستر جنكس يدري ما رأيه فيه، كما خشي أن يقع في خطأ، فلم يزِد على ابتسامة واهية حائرة وزم رُكْنَيْ فمه، وهز رأسه ببطء من جانب إلى آخر.

وقال العمدة بجد: «يا مستر جنكس، إنك لحمار!»

وابتسم المستر جنكس مرة أخرى لهذا التعبير عن رأيه فيه، ابتسامة أوهى من الأولى، ولبث يتزحزح شيئًا فشيئًا حتى عاد إلى ركنه.

وخلا المستر نبكنز للمداولة مع نفسه بضع ثوانٍ ثم نهض من مقعده، وطلب إلى المستر بكوك وسام أن يتبعاه، وتقدمهما إلى غرفة صغيرة تفتح على ساحة القضاء وطلب إلى المستر بكوك التقدم إلى أقصى الغرفة، وألقى يده على الباب الذي تركه مفتوحًا نصف فتحة حتى يتهيأ له السبيل إلى الفرار إذا لمح أقل بادرة تنم عن الرغبة في العدوان عليه، ثم أبدى استعداده لسماع تلك المعلومات مهما يكن موضوعها.

وأنشأ المستر بكوك يقول: «سأدخل في صميم الموضوع في الحال بغير مقدمات يا سيدي، إنه أمر يتعلق بشخصك ويمس سمعتك إلى حَدٍّ كبير، إن لدي من الأسباب يا سيدي ما يحملني على الاعتقاد أنك تؤوي في بيتك نصابًا كبيرًا، ومحتالًا داهية.»

وقاطعه سام قائلًا: «بل اثنين لا واحدًا، هل نسيت يا سيدي الشخص التوتي الغزير الدموع، المطبوع على الخسة والتضليل؟»

وقال المستر بكوك: «اسمع يا سام، إذا كنت تريد أن يكون حديثي مع هذا السيد واضحًا جليًّا، فإني مضطر إلى أن أرجوك أن تضبط شعورك.»

وأجاب مستر ولر: «متأسف جدًّا يا سيدي، ولكني كلما أتذكر جوب هذا لا أتمالك نفسي من فتح الصمام قليلًا.»

وعاد المستر بكوك يقول: «وفي كلمة واحدة يا سيدي هل خادمي على حق في قوله: إن شخصًا يدعى الضابط فتز-مارشال اعتاد التردد على هذا البيت؟»

ورأى المستر بكوك أن المستر نبكنز يوشك أن يعترض على كلامه في غضب فأردف قائلًا: «لأنه إذا صح ذلك فإني أعرف أن ذلك الشخص …»

وقال المستر نبكنز وهو يغلق الباب: «اغضض من صوتك، تعرف عنه ماذا يا سيدي؟»

قال في حنق: «أعرفه أفَّاقًا لا يرعى عهدًا ولا ذمة، أعرفه شخصًا معيبًا غير شريف، مخلوقًا مفترسًا ينهش الناس ويتخذ من السليمي النية منهم مطايا لأغراضه، وهم ضحاياه الحمقى البله المساكين.»

وقال المستر نبكنز وقد احمرَّ وجهه وتغير مسلكه كل التغيُّر: «يا الله! يا للعجب يا مستر …»

وقال سام: «بكوك.»

وعاد العمدة يقول: «يا عجبًا! يا مستر بكوك! تفضل اجلس، هل تعني حقًّا ما تقول؟ هل الضابط فتز-مارشال فعلًا …؟»

وعاجله سام قائلًا: «لا تسمه ضابطًا ولا فتز-مارشال؛ لأنه لا هذا ولا ذاك، إنه ممثل متجول يدعى «جنجل» وإذا جاز أن ترى ذئبًا في زى توتي اللون؛ فإن جوب تروتر هو ذلك الذئب.»

وقال المستر بكوك ردًّا على نظرة الدهشة التي بدت على وجه العمدة: «هذه هي الحقيقة يا سيدي، إن كل مهمتي في هذه البلدة هي أن أفضح خافية هذا الشخص الذي نتحدث اللحظة عنه.»

وانطلق المستر بكوك يسكب في أذن المستر نبكنز المروَّع المبهوت قصة موجزة عن جرائم المستر جنجل وفظائعه، فروى كيف كان أول عهده بلقائه، وكيف هرب مع الآنسة واردل، وكيف فرح واغتبط بالتخلي عنها لقاء شيء من المال، وكيف وقع في شرَك نصبه له بدخول مدرسة للبنات في منتصف الليل، وكيف يشعر الآن — أي المستر بكوك نفسه — أن واجبه يقتضيه فضح حقيقة اسمه الحالي ورتبته العسكرية.

وكان دم المستر نبكنز خلال سماع هذه القصة يغلي في عروقه، ويرسل حمرته في كل أنحائه، حتى أرنبة أذنه؛ فقد التقط ذلك الضابط المزعوم في سباق للخيل غير بعيد من الموضع، وما لبثت زوجته وابنته أن فتنتا الضابط فتز-مارشال بكثرة أسماء معارف فتز-مارشال من العلية، وعديد رحلات فيتز-مارشال وأسفاره، وحسن صيت فيتز-مارشال، وجمال بزته، فجعلتا تقدمانه إلى الناس، وتنقلان طرائف أقواله وتحلانه مكان الصدارة من الصفوة المختارة من أصحابهما ومعارفهما، حتى كادت صديقتهم الحميمة السيدة بوركنهام وابنتها الآنسة بوركنهام وزوجها المستر سدني بوركنهام يتميزون من الغيظ والكمد، وشدة الغيرة! ثم هو الآن، بعد كل ذلك، يسمع أنه أفاق صعلوك، وممثل جوالة، وإذا لم نقل نصاب فشيء أقرب شبهًا إليه، حتى ليصعب التفريق بينهما! يا للسموات! ماذا عسى آل بوركنهام يقولون؟ وأي انتصار سيحرزه المستر سدني بوركنهام حين يتبين أن كل كلامه المؤدب، وخطبه الرقيقة أغض عنها، وامتهنت إيثارًا لذلك المزاحم المنافس عليه، وكيف سيواجه هو — أي المستر نبكنز — عين الشيخ بوركنهام حين يلتقيان في الدورة القادمة التي تنعقد مرة كل ثلاثة أشهر، وأي فرصة سوف تسنح للمعارضة في عمديته إذا تسامع الناس بهذه القصة؟

وانثنى المستر نبكنز وقد أشرق وجهه لحظة، بعد صمت طويل، قائلًا: «ولكن بعد هذا كله لا تزال هذه القصة مجرد كلام يقال، إن الضابط فتز-مارشال رجل جم الأدب جذاب، بل يصح لي أن أقول: إن له خصومًا وأعداء كثيرين، فأي دليل لديك على صدق ما رويت؟»

وأجاب المستر بكوك: «واجهني به، هذا هو كل ما أسأل، وغاية ما أرجو، واجهني به أنا وأصحابي هنا، وعندئذٍ لن نحتاج إلى برهان جديد.»

وقال المستر نبكنز: «ولم لا؟ إن هذا أمر سهل جدًّا، فسيأتي إلى هنا الليلة، فلا تبقى ثمة فرصة لكشف الأمر أمام الناس؛ مراعاة على الأقل لذلك الشاب، وأحب أن أستشير السيدة نبكنز في مدى وجاهة هذا التصرف قبل أن نفعل شيئًا، وعلى كل حال يا مستر بكوك لا بد لنا من صرف هذه القضية قبل أن نقدم على أي عمل، فتفضل بنا إلى القاعة المجاورة.»

وذهبا إلى القاعة.

وصاح العمدة بصوت مروع: «جرمر.»

وأجاب هذا بابتسامة رجل يعتقد أنه موضع حظوة لدى العمدة واحتساب: «نعم يا سيدي.»

وقال العمدة عابسًا: «دع عنك هذا يا سيدي، ولا ترني هذا الاستخفاف منك هنا؛ لأنه تصرف غير لائق مطلقًا، وإني أؤكد لك أن لا شيء يدعوك إلى الابتسام … هل الأقوال التي أبديتها هنا منذ لحظة صحيحة تمامًا؟ الآن احتط فيما تقول ولا تسرع يا سيدي.»

وقال جرمر متلعثمًا: «إنني يا سيدي …»

وصاح العمدة به: «أنت مرتبك، ألست مرتبكًا يا مستر؟»

وأجاب جنكس: «بلا شك يا سيدي.»

جنكس: «ألا ترى هذا الارتباك البادي عليه؟»

وقال العمدة: «والآن أعد أقوالك يا جرمر، وأعود فأحذرك مرة أخرى أن تحتاط. يا مستر جنكس، اكتب ما هو قائل.»

وأخذ جرمر المسكين في سرد شكواه من جديد، ولكن بين تأثير مشهد المستر جنكس وهو يقيد كل حرف، ويسجل كل كلمة، وبين ترديد العمدة لكل لفظة تخرج من فمه، لم تلبث نزعته الطبيعية إلى الشرود وارتباكه المتناهي، أن جعلاه يتورط بعد ثلاث دقائق في كلام متناقض، وقول معقَّد، إلى حد دفع بالمستر نبكنز إلى مصارحته بأنه لا يصدق ما قال، ولا يسلم بصحة شهادته، ويضطره إلى إلغاء الحكم بالغرامات التي نطق بها من قبل بها، ولم يستغرق المستر جنكس وقتًا في الاهتداء إلى الكفالة المحكوم بها على المستر بكوك وصاحبه، وبعد أن انتهت كل تلك الإجراءات الجدية على ما يرام، أمر العمدة بإخراج المستر جرمر من القاعة فكان ذلك مثلًا من الأمثال على أن «العظمة البشرية لا تستقر على حال، وأن الحظوة لدى العظماء لا تدوم.»

وكانت السيدة نبكنز امرأة ذات جلال تضع فوق رأسها عمامة ذات لون وردي من «الشاش» وضفائر بنية اللون غير قاتمة من الشعر المستعار وكانت الآنسة نبكنز تشبه أمها في كل كبريائها وزهوها، إلا العمامة، وتحكيها في كل طبيعتها الخشنة، إلا الضفيرة، ولئن جرت هاتان الصفتان البديعتان الأمَّ والفتاةَ إلى الوقوع في ورطات سيئة — كما كان يحدث غالبًا — فلا تزالان متفقتين دائمًا في إلقاء اللائمة على عاتق المستر نبكنز، فلا عجب حين قصد المستر نبكنز إلى زوجته وقص عليها الرواية التي سمعها من المستر بكوك، إذا هي تذكرت فجأة أنها كانت تتوقع دائمًا حدوث شيء من هذا القبيل، وأنها كانت أبدًا تقول إن ذلك سوف يقع حتمًا، وإن نصيحتها لم يؤخذ بها مطلقًا، وإنها لا تعرف حقًّا ماذا يظن المستر بكوك بها، وأي رأي يراه فيها، وكلامًا طويلًا من هذا النوع ونحوه.

وانثنت الآنسة نبكنز وهى ترغم دمعة صغيرة على الظهور في ركني عينيها: «تصوري أيضًا كيف خدعت وكيف استُغفِلت استغفالًا!»

وأجابت أمها قائلة: «آه … اشكري بابا يا عزيزتي، لَكَمْ توسلت ورجوت هذا الرجل أن يسأل عن هذا الضابط وروابطه «العائلية»، وكم ألححت وتضرعت إليه أن يتخذ خطوة قاطعة، وإجراءً إيجابيًّا، إنني واثقة أن أحدًا لن يصدق كلامي هذا مطلقًا.»

وقال المستر نبكنز: «ولكن يا عزيزتي.»

وقالت امرأته: «ليس لك كلام معي، أيها المستخف بالأمور حتى تتفاقم، لا تكلمني.»

وقال المستر نبكنز: «يا حبيبتي، أنت بنفسك اعترفت بميلك وولوعك بالضابط فتز-مارشال وأنت التي لم تكفِّي عن دعوته إلى بيتنا يا عزيزتي، ولم تدعي فرصة تسنح إلا انتهزتيها لتقديمه إلى الناس في بيوتهم!»

وصاحت السيدة نبكنز لاجئة إلى ابنتها في صورة المرأة التي أسيء كثيرًا إليها: «ألم أقل ذلك يا هنرييتا؟ ألم أقل: إن «بابا» سينقلب على عقبيه ويلقي بكل اللائمة على عتبتي أنا؟ ألم أقل ذلك؟»

وأجهشت بالبكاء.

وصاحت ابنتها محتجة: «أوه … با …»

وانتحبت هي الأخرى.

وعادت مسز نبكنز تقول باكية: «هذا كثير! كثير جدًّا، أن يكون هو الذي جلب كل هذا العار والشنار علينا، ثم يجرحني بزعمه أنني أنا السبب.»

وقال ابنتها: «كيف يمكننا الظهور في المجتمع؟»

وصاحت أمها: «وكيف يمكن أن نري وجوهنا لآل بوركنهام؟!»

وتبعتها ابنتها قائلة: «وآل جريجز؟!»

وقالت مسز نبكنز: «أو آل سلمنتوكنز؟!»

ولكن: «ماذا يهم بابا، وما شأنه هو؟»

وعند هذه الذكرى المروعة راحت مسز نبكنز تبكي بحرقة نفسية، وتبعتها ابنتها بكاءً ونحيبًا.

وكذلك ظلت عَبرات السيدة نبكنز متدفقة، حتى اتسع لها الوقت للتفكير في الأمر، وتقليب وجوه الرأي فيه، والقطع بأن الوسيلة المثلى هي دعوة المستر بكوك وأصحابه إلى البقاء لديهم حتى يأتي الضابط وعندئذٍ يُعطى المستر بكوك الفرصة التي يطلبها، فإذا تبين أنه قد قال حقًّا، تيسر طرد الضابط من البيت في هدوء حتى لا ينتشر النبأ بين الناس، ومن السهل عليهم عندئذٍ تعليل اختفائه عند آل بوركنهام بأنه قد عُيِّنَ بفضل نفوذ أهله في البلاط حاكمًا عامًّا في مستعمرة «سيراليوني» أو «سورجور بوبنت» أو أي منطقة من تلك المناطق الطيبة الهواء التي تفتن ألباب الأوروبيين بسحرها، فإذا نزلوا يومًا بها وأقاموا، فقلما يتسنى لهم إقناع أنفسهم بالعودة منها.

ولما كفكفت السيدة نبكنز عبراتها، وجففت ابنتها دموعها، وأبدى المستر نبكنز ارتياحه لتسوية المسألة كما اقترحت زوجته، وانتهى المستر بكوك وأصحابه من إزالة كل أثر لما حدث لهم، قدموا إلى السيدتين، وما لبثوا أن دُعوا إلى تناول الغداء، وأما المستر ولر الذي اكتشف العمدة بذكائه الغريب وفطانته الثاقبة، في نصف ساعة، أنه من أظرف الأحياء؛ فقد سُلِّمَ إلى المستر مزل ليوليه عنايته، ويكرم مثواه.

وقال المستر مزل للمستر ولر وهو يتقدمه إلى السلم المؤدي إلى المطبخ: «كيف أنت يا سيدي؟»

وأجاب سام: «لم تتغير حالي كثيرًا مذ رأيتك واقفًا خلف مقعد مولاك في القاعة منذ لحظة قصيرة.»

وقال المستر مزل: «اعذرني إذا لم أتنبه إليك كثيرًا في ذلك الوقت؛ لأن سيدي كما ترى لم يُعَرِّفْنَا بعضنا ببعض، بالله كم هو مولع بك يا مستر ولر، تأكد أنه يحبك كثيرًا.»

وقال المستر سام: «آه … إنه شخص لطيف.»

وأجاب مزل: «أليس هو كذلك حقًّا؟»

وقال سام: «وابن نكتة.»

وقال مزل: «وفياض في الكلام، انظر كيف تتدفق الآراء منه، وتفيض الأفكار، ما رأيك؟»

وأجاب سام: «بديع، إنها لتتدفق، ويضرب بعضها رءوس البعض الآخر بسرعة شديدة، حتى ليخيل إليك أنها تتضارب ويغمى عليها، فلا يعرف الإنسان ماذا يريد أن يقول … بالله عليك هل تفهم منها شيئًا؟»

وقال المستر مزل: «هذه هي أكبر مزية لأسلوبه في الكلام، تنبه إلى الدرجة الأخيرة من السلم يا مستر ولر، هل تحب أن تغسل يديك يا سيدي قبل أن تجلس إلى السيدات؟ هذا هو حوض فيه ماء يا سيدي وفوطة نظيفة معلقة خلف الباب.»

وقال المستر ولر وهو يضع قدرًا كبيرًا من صابون أصفر في الفوطة: «يحسن بي أن أنظف نفسي» وراح يحك بالصابون وجهه حتى عاد يبرق، وهو يقول: «كم سيدة عندكم؟»

وأجاب مستر مزل: «اثنتان فقط في مطبخنا: الطاهية والوصيفة، وعندنا صبي يشتغل مساعدًا وبنت تعاونه ولكنهما يأكلان في غرفة الغسيل.»

وقال المستر ولر: «آه، يأكلان في غرفة الغسيل، هل تقول جدًّا؟»

وأجاب المستر مزل: «نعم، لقد جربنا أكلهما معنا على المائدة حين قدما للعمل في البيت، ولكننا لم نستطع أن نبقيهما معنا؛ لأن تصرفات البنت سوقية بشكل بشع، والغلام يتنفس بصعوبة شديدة وهو يأكل، حتى وجدنا أنه من المستحيل علينا أن نجلس معه إلى مائدة واحدة.»

وقال المستر ولر: «يا له من درفيل صغير!»

واسترسل المستر مزل يقول: «مرعب! ولكن هذا هو أسوأ ما في خدمة الريف يا مستر ولر. الصغار دائمًا متوحشون، من هنا يا سيدي، من فضلك، الطريق من هنا.»

وتقدم المستر مزل بسام في أدب بالغ إلى المطبخ، وقال: «يا ماري» مناديًا الخادمة المليحة: «هذا هو المستر ولر، سيدٌ أرسله مولانا لإكرامه ما استطعنا.»

وقال المستر ولر وهو ينظر نظرة إعجاب إليها: «وإن سيدكم لفهيم ذكي، عرف كيف يرسلني إلى مكان طيب ولو كنت رب هذا البيت لوجدت كل أسباب الراحة متوافرة حيث تكون ماري.»

وقالت ماري بخجل: «يا له من كلام، يا مستر ولر!»

وهنا تكلمت الطاهية فقالت: «أما أنا فلا أجدها أبدًا.»

وبادر المستر مزل يقول: «يا للداهية! لقد نسيتك. يا مستر ولر دعني أعرفك بها.»

وقال المستر ولر: «كيف أنت يا سيدتي؟ إنني لفي سرور شديد لرؤيتك، وأرجو أن تكون معرفتي بك طويلة الأمد، كما قال أحدهم لورقة من فئة الخمسة الجنيهات.»

ولما انتهت حفلة التعارف على هذه الصورة، توارت ماري والطاهية في الغرفة الخلفية من المطبخ لتضحكا ملء أشداقهما، وعادتا بعد عشر دقائق باسمتين خجلاوين، فجلستا إلى المائدة.

وكان لظروف المستر ولر وسماحة أخلاقه وبراعة حديثه أثر لا يقاوم في نفوس أصحابه الجدد فلم تلبث الألفة أن سادت الجميع، وتوثقت بينهم المودة، وعرفوا تفاصيل جرائم جوب تروتر ودقائق قصته.

وقالت ماري: «لم أكن أطيق أبدًا هذا الجوب.»

وأجاب المستر ولر: «ولا يصح لك أن تطيقيه يومًا ما يا عزيزتي.»

وسألته ماري قائلة: «ولِمَ لا؟»

وأجاب المستر ولر: «لأن القبح والنصب لا يأتلفان والرشاقة والفضيلة أبدًا، أليس كذلك يا مستر مزل؟»

وأجاب هذا السيد: «مطلقًا.»

وهنا ضحكت ماري، وقالت: إن الطاهية هي التي جعلتها كذلك. وضحكت الطاهية قائلة: إنها لم تفعل.

وقالت ماري: «ليست لي كأس.»

وقال المستر ولر: «اشربي معي يا عزيزتي، ضعي شفتيك على حافة كأسي، فتكون قبلتي لك بالواسطة.»

وقالت ماري: «عيب يا مستر ولر.»

قال: «ما هو العيب يا عزيزتي؟!»

قالت: «الكلام بهذه الطريقة.»

قال: «كلام فارغ، هذا شيء لا بأس منه. إنه الطبيعة، أليس كذلك يا طاهية؟»

وأجابت الطاهية وهي في سرور شديد: «لا تسألني في كلام معيب.»

وضحكت ماري والطاهية مرة أخرى، وما لبثت البيرة واللحم البارد، والضحك المقترن بهما أن جعلت الطاهية توشك على الاختناق، فكانت أزمة مزعجة لم تزل عنها إلا بخبطات رفيقة على ظهرها، ومحاولات أخرى ضرورية تولَّى المستر صمويل ولر بذلها بمنتهى الدقة واللطف.

وفي وسط هذا المرح والقصف سمعوا جرس الباب الخارجي يدق عاليًا، فبادر الغلام الذي يتناول طعامه في غرفة الغسيل إلى الذهاب لفتحه، وكان المستر ولر في أوج غزله وتلطفاته للخادمة الحسناء، والمستر مزل منشغلًا بإعطاء الطعام حقه من الإنصاف والاهتمام، بينما كفت عنه الطاهية لحظة لتضحك، وهي ترفع قطعة كبيرة من الطعام إلى شفتيها، وإذا باب المطبخ يفتح ويدخل منه المستر جوب تروتر.

وقد قلنا «يدخل» ولكن هذا التعبير يغاير ما ألِفناه من الدقة في التزام الحقيقة، ووصف الواقع، والصحيح أن الباب فُتِحَ، وأن المستر جوب تروتر بدا لديه، وكان سيدخل، بل هَمَّ فعلًا بالدخول، لولا أن لمح المستر ولر فتراجع مرغمًا خطوة أو خطوتين ووقف يرمق هذا المشهد القائم حياله ولم يكن يتوقعه مطلقًا، وجمد في مكانه تمامًا، من فرط الذهول والرعب.

ونهض سام وهو في أشد الفرح قائلًا: «ها هو ذا. لقد كنا في سيرتك اللحظة بالذات، كيف الحال؟ وأين كنت؟ تعالَ، ادخل.»

وألقى يده على طوق جوب التوتي وهو لا يحاول مقاومته، وجرَّه إلى المطبخ وأغلق الباب، وسلم المفتاح إلى المستر مزل فأخذه بكل هدوء ووضعه في أحد جيوبه الجانبية وأحكم الزرار عليه.

وصاح سام: «هذه لعبة بحق. تصور أن سيدي سيحظى بلقاء سيدك في الطابق الأعلى، وتصور سروري الشديد بلقائك في الطابق الأسفل، كيف أحوالك، وكيف حالة البقالة التي تنوي فتحها؟ أنعم بك وأكرم! إنني لفي فرح بالغ برؤيتك، إنك تبدو سعيدًا راضيًا، إن مقابلتنا هنا لحظ جميل، أليس كذلك يا مستر مزل؟»

وقال هذا: «إنه لكذلك.»

وقال سام: «انظر كيف هو مشرق متهلل!»

وقال مزل: «ومنشرح النفس كل الانشراح.»

وقال سام: «لأنه حظي بمقابلتنا؛ فإن اجتماعنا يجعله مبتهجًا كل الابتهاج. اجلس، اجلس.»

واضطر المستر تروتر إلى الجلوس في مقعد بجانب المدفأة، وألقى نظرة من عينيه الضيقتين على وجه المستر ولر أولًا، ثم على المستر مزل ثانيًا ولم يقل شيئًا.

وقال سام: «والآن أمام هاتين السيدتين أحب أن أسألك، من باب الفضول، ألا تعد نفسك لطيفًا مهذبًا كأي شاب بديع، يضع منديلًا ورديًّا في جيب ردائه.»

وقالت الطاهية بغضب: «كمن يريد الزواج بطاهية، آه يا مجرم!»

وقالت الوصيفة في أثرها: «ويترك ماضيه السيئ ويفتح بقالة بعد ذلك.»

وقال المستر مزل، بلهجة جد شديدة، وغيظ من العبارتين الأخيرتين: «والآن اسمع أيها الشاب هذا الذي سأقوله لك: إن هذه السيدة — مشيرًا إلى الطاهية — هي صديقتي أنا، وحين تتكلم يا سيدي عن عزمك على الاتجار بالبقالة معها، تجرحني في أدق النقط التي يجرح فيها الرجل رجلًا آخر. هل فهمتني يا سيدي؟»

وسكت المستر مزل مرتقبًا الجواب، في اعتزاز ببلاغته التي يقلد فيها سيده.

ولكن المستر تروتر لم يحر جوابًا.

وعندئذٍ استرسل المسر مزل يقول بجد ظاهر: «من الجائز جدًّا يا سيدي أنك لن تدعى إلى الطبقة العليا من البيت قبل عدة دقائق؛ لأن سيدي منشغل في هذه اللحظة خاصة بعقاب سيدك وقطع دابره، فالوقت إذن متَّسِع لخلوة بيني وبينك وكلام خاص، هل فهمتني يا سيدي؟»

وسكت المستر مزل ثانية ليرتقب ردًّا، ولكن المستر تروتر خيب ظنه.

فمضى يقول: «حسن، إنني لشديد الأسف لاضطراري إلى الكلام أمام السيدتين وشرح قصدي، ولكن عذري أن المسألة عاجلة لا تسمح بالتأجيل. إن غرفة المطبخ الخلفية خالية ليس فيها أحد يا سيدي، فإذا تكرمت بدخولها يا سيدي، وليكن المستر ولر شاهدنا، واستطعنا أن نرضي كرامتنا، قبل أن يدق الجرس، فاتبعني يا سيدي.»

وما إن فاه المستر مزل بهذه الكلمات، حتى خطا خطوة أو خطوتين صوب الباب، وبدأ لكسب الوقت يخلع سترته وهو متقدم إلى الغرفة الأخرى.

ولكن الطاهية لم تكد تسمع هذه الألفاظ، وتدرك معنى التحدي الشديد الذي تنطوي عليه، وتشهد المستر مزل يهم بالتنفيذ، حتى أطلقت صرخة مدوية واندفعت نحو المستر جوب تروتر، فنهض من مقعده في الحال، وانقضت هي عليه تخدش وتقطع وجهه الضخم المسطوح بأظافرها بتلك النوبة التي تنتاب النساء إذا غضبن وخرجن عن طورهن، ومضت تغيب يديها في شعره الأسود الطويل، وتقتلع منه شعرات غزارًا تكفي لتكوين عدة خواتيم حداد، وما إن أتمت هذه الفعلة بتلك الحمية التي أوحى بها حبها الصادق للمستر مزل، حتى تراجعت خطوات فسقطت فوق الطنف، وهي مغمى عليها، من رقة إحساسها، وسرعة تأثرها وهياج عاطفتها.

وفي تلك اللحظة دق الجرس.

وقال سام: «هذا الجرس لك يا جوب تروتر.» وقبل أن يتمكن هذا من الاحتجاج أو الرد، بل قبل أن يتسع له الوقت لوقف النزيف من جروحه التي أحدثتها السيدة الغضبى في معالم سحنته، أمسك سام بإحدى ذراعيه وتناول المستر مزل الأخرى، وجره أحدهما من أمام، ودفعه الآخر من خلف، فاحتملاه إلى مدارج السلم وساقا به إلى قاعة الجلوس.

وكانت صورتهم على هذا النحو «لوحة» مؤثرة كل التأثير، وكان السيد المحترم الفرد جنجل، الشهير بالضابط فتز-مارشال واقفًا بقرب الباب، حاملًا قبعته بيده، وعلى وجهه ابتسامة، وهو هادئ لم يتأثَّر إطلاقًا بحرج موقفه، وكان المستر بكوك واقفًا قبالته والظاهر أنه كان يلقي عليه درسًا في الأخلاق ومكارمها؛ لأن يده اليسرى كانت تحت ذيل ردائه، واليمنى مبسوطة أمامه في الفضاء، كديدنه حين ينطلق في خطبة مؤثرة، وعلى قيد خطوات منه وقف المستر طبمن، والغضب بادٍ على وجهه، كلما هَمَّ بالوثوب على غريمه أمسكه صديقاه الآخران، وهما حريصان على منعه، بينما وقف في أقصى القاعة المستر نبكنز وزوجته وابنته في جلال يشوبه اكتئاب، وغيظ شديد لا يستطيعون مغالبته.

وقال المستر نبكنز في وقار وجلال، حين سيق بجوب إلى القاعة: «ما الذي يمنعني من احتجاز هذين الرجلين بوصفهما مجرمين أفَّاقين؟ إنها الرحمة البلهاء. ما الذي يمنعني؟»

وأجاب جنجل وهو هادئ: «الكبرياء أيها الشيخ، الكبرياء، لا فائدة من الاحتجاز، لقد قبضنا على الضابط، أه، ها، ها، حسن جدًّا، كان سيصبح زوجًا للابنة، هل نفضح أنفسنا أمام الناس؟ هذا مستحيل، لنبدو بلهًا مغفلين جدًّا!»

وقالت مسز نبكنز: «أيها الوغد، إننا لنسخر من تلميحاتك الحقيرة هذه.»

وأضافت هنرييتا قائلة: «لقد كنت أبدًا أمقته!»

وقال جنجل: «طبعًا، شاب ممشوق القد، حبيب قديم، سدني بوركنهام! غني، جميل، وإن لم يكن في مثل غنى الضابط، أبعدوه، أنقذوني منه. لا أحد أحسن من الضابط! لا إنسان مثل الضابط في كل مكان، وكل البنات به مجنونات! آه يا جوب؟»

وهنا ضحك جنجل ملء فمه، وراح جوب يفرك يديه من الفرح، وانطلق أول صوت خرج من فمه منذ دخل البيت، وكان ذلك الصوت ضحكة خافتة توحي بأنه يجد لذة بالغة في ضحكته تلك حتى لا يريد أن يترك لها صوتًا مسموعًا؛ لينفرد هو بلذتها.

وقالت الأم: «يا مستر نبكنز، إن هذا الحديث لا يصح أمام الخدم ليسمعوه، أخرج هذين الوغدين من هنا.»

وقال المستر نبكنز: «بلا شك يا عزيزتي، يا مزل.»

– «نعم يا سيدي.»

– «افتح الباب الخارجي.»

– «نعم يا سيدي.»

وقال المستر نبكنز، وهو يلوح بيده تلويحة قاطعة: «اخرج من البيت.»

وابتسم جنجل ومشى إلى الباب.

وصاح المستر بكوك به: «قف.»

ووقف جنجل …

وقال المستر بكوك: «كان في إمكاني أن أجعل ثأري منك أشد من هذا بكثير لقاء ما عانيته على يديك، وعلى يدي صاحبك المنافق هذا.»

وانحنى جوب تروتر بكل أدب ووضع يده على قلبه.

وعاد المستر بكوك يقول، وقد بدأ الغضب يتملكه رويدًا: «أقول كان في إمكاني أن أجعل ثأري أشد وأقسى، ولكني مكتفٍ بفضح سرك، وكشف حقيقتك للناس؛ لأنني أعد ذلك واجبًا عليَّ نحو المجتمع، إن هذه لسماحة يا سيدي أرجو أن تتذكرها.»

وعندما وصل المستر بكوك إلى هذه النقطة رفع جوب تروتر يده إلى أذنه بجد يشوبه الهزل، كأنما لا يريد أن تفوته كلمة واحدة من قول المستر بكوك.

ومضى هذا قائلًا وقد تملكه الغضب فعلًا: «وليس عندي ما أضيفه يا سيدي إلا أن أقول لك: إنك مجرم وشقي، وشر من رأيت من خلق الله أو سمعت، خلا هذا التقي الورع المتشرد في ثوبه التوتي اللون.»

وضحك جنجل قائلًا: «ها، ها، رجل طيب بكوك، قلب كريم، شيخ بدين! ولكن لا ينبغي لك أن تستسلم للغضب والاحتداد، شيء غير مستحب، جدًّا، وداعًا، سأراك يومًا ما، خلِّ عنك، عد إلى مرحك، والآن جوب تروت.»٣

وراح المستر جنجل بعد هذه الكلمات يحشر قبعته في رأسه على عادته، وانصرف من الحجرة بينما تمهل جوب تروتر وأجال البصر حوله وابتسم ثم انحنى بجدٍّ مزيج بسخرية للمستر بكوك، حين رأى المستر ولر ينصرف خلفه، كل وصف، وانطلق في أثر سيده المؤمل أبدًا الذي لا يعروه يأس.

وقال المستر بكوك حين رأى المستر ولر ينصرف خلفه: «سام!»

– «سيدي.»

– «ابق هنا.»

وبدا المستر ولر مترددًا.

وعاد المستر بكوك يكرر الأمر.

وقال المستر ولر: «ألا تسمح لي بتوديع جوب وتنفيض فروته في الحديقة؟»

وأجاب المستر بكوك: «كلا، قطعًا.»

قال: «أو أركله عند الباب يا سيدي على الأقل؟»

وأجابه سيده: «كلا، إطلاقًا.»

وبدا المستر ولر لأول مرة منذ دخل في خدمة سيده مستاءً متألمًا لحظة ما، ولكن لم يلبث أن تهللت أساريره؛ لأن المستر مزل الماكر، كان قد اختبأ خلف الباب الخارجي، ثم اندفع في اللحظة المناسبة ببراعة فائقة وأخذ في وجهه كلًّا من المستر جنجل وخادمه، وهما ينزلان السلم، فسقطا فوق حوضي «الصبار» القائمين في أسفله.

وانثنى المستر بكوك فقال مخاطبًا المستر نبكنز: «والآن يا سيدي وقد أديت واجبي، أودعك أنا وأصحابي، شاكرين لك حسن ضيافتك لنا، واسمح لي عن نفسي، وبالنيابة عن صحبي أن أؤكد لك أننا ما قبلنا دعوتك، ولا رضينا أن نخرج على هذه الصورة من المأزق الذي وجدنا أنفسنا فيه، لولا شعورنا بالواجب واحترامًا له، ونحن عائدون إلى لندن غدًا، فاطمئن إلى سرك عندنا، إنه في الحفظ والصون.»

وهكذا! انحنى المستر بكوك بأدب بالغ للسيدتين، بعد أن سجل احتجاجه على المعاملة التي لقوها في الصباح، وغادر الحجرة مع أصدقائه، رغم تشدُّد الأسرة في رجائهم البقاء.

وقال المستر المستر بكوك: «أحضر قبعتك يا سام.»

وأجاب سام: «إنها في الطابق الأسفل يا سيدي.»

وانطلق لإحضارها.

ولم يكن أحد في المطبخ غير الخادمة الحسناء، وكانت قبعة سام قد اختفت في مكان ما، فاضطر إلى البحث عنها، وجاءت المليحة بالمصباح لتنير له المكان وتعاونه، فراحا يبحثان وينقبان، وفي لهفتها على الاهتداء إليها، جثت على ركبتيها، ومضت تقلب كل الأشياء المتراكمة في ركن صغير بجانب الباب، وكان هذا الركن محرجًا؛ لأنك لا تستطيع الوصول إليه إلا إذا أوصدت الباب أولًا.

وصاحت المليحة قائلة: «ها هي ذي! ها هي ذي، أليست هذه؟»

قال: «دعيني أنظر إليها.»

فوضعت الحسناء الشمعة على أرض الغرفة، وكان ضوؤها بصيصًا لا يكاد يضيء، فاضطر سام إلى الزحف على ركبتيه ليتبين هل هي حقًّا أو لا، وكان ذلك الركن ضيقًا، فلم يكن الذنب على أحد غير البنَّاء الذي شيَّد ذلك البيت في التصاق سام بالجارية الحسناء بحكم الضرورة وضيق المكان.

وقال سام: «هي قبعتي بلا شك، وداعًا إذن.»

قالت: «وداعًا.»

وفيما كان يقول الوداع، سقطت القبعة من يده بعد كل ذلك العناء الذي لقياه في الاهتداء إليها.

قالت: «ما أغرب تصرفاتك، إنك ستفقدها مرة أخرى إذا لم تحرص عليها.»

ولكي تمنعه من إضاعتها وقفت تضعها فوق رأسه.

ولا يزال الشك قائمًا إلى اليوم هل بدا وجه تلك الخادمة المليحة أملح وأفتن حين رفعته نحو وجهه، أو كان مجرد نتيجة عرضية لتقاربهما وتلاصقهما، ولكن الثابت أنه قبَّلها.

وقالت المليحة: «أظنك لا تعني أن تقول إنك فعلت هذا قاصدًا.»

قال: «كلا! لم أقصد، ولكني سأقصد الآن.»

وقبلها مرة أخرى.

وسمع صوت سيده ينادي من السلم: «يا سام!»

واندفع يصعد المدارج قائلًا: «نعم، أنا آتٍ يا سيدي.»

وقال سيده: «لقد أطلت الغياب.»

قال: «لقد كان شيء خلف الباب يا سيدي منعنا من فتحه مدة طويلة.»

وكانت هذه هي المرحلة الأولى التي اجتازها المستر ولر إلى أول عهده بالحب.

١  آلة من آلات التعذيب تدار بالأقدام؛ لحمل المتهمين على الاعتراف؛ ولتأديب الجناة.
٢  من رجال السياسة في عهد دكنز واغتيل في أروقة مجلس العموم عام ١٨١٢.
٣  دكنز يلعب هنا بلفظة «تروتر» ومعناها في الإنجليزية «الذي يسير خببًا» وفعلها «تروت» أي «سر خببًا» أو انطلق.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤