الفصل الثلاثون

كيف تم التعارف بين البكوكيين وبين شابين ينتميان إلى إحدى المهن الحرة وتوثق رباط المعرفة بينهما؟ وكيف سلكوا في رياضة الانزلاق على الجليد؟ وكيف انتهت زيارتهما الأولى؟

***

وقال المستر بكوك لخادمه ذي الحظوة لديه حين دخل عليه حجرة نومه بالماء الدَّفِئ في صباح يوم عيد الميلاد: «إيه يا سام؟ ألا يزال الجو صقيعًا؟»

وأجاب سام قائلًا: «إن الماء في الحوض المعد لغسل اليدين مغطًّى فاستحال لكتلة من الجليد يا سيدي.»

وقال المستر بكوك: «إنه لجو قاسٍ يا سام.»

وأجاب المستر ولر: «بديع لمن يحسنون التوقي منه بسميك الثياب، كما قال دب القطب لنفسه وهو يتدرب على الانزلاق.»

وقال المستر بكوك وهو يفك خيط طاقية النوم: «سأنزل بعد ربع ساعة يا سام.»

وأجاب سام: «حسن جدًّا يا سيدي، إن في الطبقة الدنيا من البيت منشاري عظام.»

وقال المستر بكوك، وهو يستوي جالسًا في فراشه: «منشاري ماذا؟!»

وأجاب سام: «منشاري عظام.»

وسأله المستر بكوك وهو غير واثق هل تراه يعني حيوانًا حيًّا أو شيئًا يؤكل: «وما هو منشار العظام؟»

وقال المستر ولر: «ماذا أسمع؟ ألا تعرف منشار العظام يا سيدي؟ لقد كنت أظن أن كل إنسان يعرف أن منشار العظام هو الجَرَّاح.»

وابتسم المستر بكوك وقال: «إنه الجرَّاح؟»

وقال سام: «إنه هو، وإن كان الشابان اللذان يجلسان في الطابق الأول ليسا منشارين منتظمين مستكملين؛ لأنهما لا يزالان تحت التمرين.»

وقال المستر بكوك: «أو بعبارة أخرى: إنهما طالبا طب، أظن أن هذا هو ما تقصد؟»

فأومأ المستر ولر إيماءة الإيجاب.

ومضى المستر بكوك يقول، وهو يلقي بطاقيته بقوة فوق ملاءة الفرش: «إن هذا ليسرني؛ فإن طلبة الطب قوم ظرفاء للغاية، ولهم أحكام وآراء في الأمور ناضجة بفضل الملاحظة وطول الأناة والتفكير، كما أن لهم أذواقًا صقلتها القراءة، وهذَّبتها الدراسة … إني لفي غاية السرور.»

وقال سام: «إنهما يدخنان لفافات كبيرة بجانب موقدة المطبخ.»

وقال المستر بكوك، وهو يفرك يديه: «آه إنهما ليفيضان رقة وحيوية، وهو ما أحب أن أشهده بعيني.»

وانطلق سام يقول دون أن يلاحظ مقاطعة سيده: «وقد جلس أحدهما واضعًا ساقيه فوق المائدة وراح يشرب البراندي صرفًا، بينما تناول الآخر المشغول بالمحار برميلًا من القواقع البحرية الحية بين ركبتيه وجعل يفتحها بسرعة البخار، أو بالسرعة ذاتها التي يأكلها بها، ويقذف بالمحارات على الغلام السمين الذي يغط في النوم في ركن المطبخ.

وقال المستر بكوك: «هذا شذوذ العبقرية يا سام، لك أن تنصرف.»

وانصرف سام كما أُمِرَ، وبعد ربع ساعة نزل المستر بكوك لتناول طعام الفطور.

وصاح المستر واردل قائلًا: «ها هو ذا أخيرًا! يا مستر بكوك أعرفك بالمستر بنجمن ألن، شقيق مس ألن، ونحن ندعوه «بن»، ولك أن تدعوه كذلك إذا شئت، أما هذا السيد فهو صديقه المستر …»

وعاجله المستر بنجمن ألن قائلًا: «المستر بب سوير.»

وضحك المستر بب سوير والمستر بنجمن ألن في نفس واحد.

وانحنى المستر بكوك لبب سوير، وانحنى بب سوير للمستر بكوك، وانصرف بب وصديقه الحميم بعد ذلك إلى الهجوم على الأطعمة المصفوفة أمامهما في حماسة بالغة، وتواتى للمستر بكوك إلقاء نظرة عاجلة عليهما معًا.

وكان المستر بنجمن ألن شابًّا عبلًا ضخمًا مفتولًا ذا شعر أسود قصير إلى حدٍّ ما، ووجه أبيض طويل نوعًا، وقد تجمل بمنظار، ومنديل رقبة ناصع اللون، وقد بدت من تحت ردائه الأسود المسبغ المزرر إلى ذقنه ساقاه الشبيهتان بلون الفلفل الخليط بالملح، والمنتهيتان بحذاء منطفئ البريق يعوزه الصقل واللمعان.

وكانت سترته قصيرة الردنين، ولكنهما على قصرهما لا يكشفان عن أثر لكُمِّ قميص، وكان وجهه من الحجم بحيث لا يضيق عن توافر طوق للقميص ولكنه لم يتجمَّل بأقل شيء يمكن أن يشبه هذه الزائدة، وإن بدت بزته في الجملة عفنة الرائحة من طول العهد، ودبيب البلى، ويعبق منه شذى التبغ من فرط تدخينه.

وأما المستر بب سوير فقد كان مرتديًا سترة خشنة، زرقاء اللون، لا هي بالمعطف، ولا بالرداء المسبغ، ولكنها تشترك في طبيعتيهما، وصفاتهما معًا، كما تلوح عليه «الرشاقة» المرسلة بغير عناية، ولا احتفال بالهندام، وتبدو على مشيته التهادي من الخيلاء، وهو نزوع يغلب على الفتيان الذين يدخنون في الشوارع نهارًا، ويصرخون ويصيحون فيها ليلًا، وينادون غلمان «المشارب» بأسمائهم الأولى، بغير كلفة، ويأتون أفعالًا وحركاتٍ مماثلةً من التبذل والمجانة، وكان يرتدي سراويل مخططة، وصدارًا رحيبًا ذا شقين، وإذا خرج إلى الطريق حمل عصا غليظة ذات رأس كبير، ويلبس قفازًا، ويبدو في الجملة مخلوقًا يشبه بوجه عام ربنصن كروزو فاجرًا.

كذلك كان هذان الشابان اللذان قُدِّمَ المستر بكوك إليهما للتعارف، عندما اتخذ مجلسه إلى مائدة الفطور في صبيحة يوم عيد الميلاد.

وقال المستر بكوك: «صباح رائع أيها السادة.»

وأومأ المستر بب سوير إيماءة خفيفة بالموافقة وطلب إلى المستر بنجمن ألن، أن يقرب منه وعاء الخردل.

وانبرى المستر بكوك يسألهما: «هل جئتما في هذا الصباح من مكان بعيد أيها السيدان؟»

وأجاب المستر ألن بإيجاز: «من فندق الأسد الأزرق في ماجلتون.»

وقال المستر بكوك: «كان أولى لكما أن تكونا معنا الليلة البارحة.»

وأجاب بب سوير قائلًا: «كان يصح، ولكن البراندي كان من فرط الجودة بحيث لا ينبغي أن نتركه في عجلة، ألم يكن كذلك يا بن؟»

وقال المستر بنجمن ألن: «بلا شك، واللفافات الكبيرة لم تكن رديئة، وشرائح الخنزير أيضًا، أليس كذلك يا بب؟»

وأجاب بب: «لم تكن رديئة دون شك.»

وعاد الصديقان الحميمان يهجمان على الفطور أشد فتكًا من قبلُ، كأن ذكرى عشاء الليلة الماضية قد أضفت على طعام الصبح شهية جديدة.

وقال المستر ألن لصاحبه مشجِّعًا: «امض في الأكل يا بب.»

وأجاب هذا قائلًا: «هأنذا.»

وفي الحق كان كذلك، وانثنى يقول وهو يرسل عينيه حول المائدة: «لا شيء أفتح للشهية من التشريح.»

وشعر المستر بكوك من هذا القول برعدة خفيفة.

وقال المستر ألن: «والشيء بالشيء يُذكر يا بب، هل انتهيت من تلك الساق؟»

قال: «كدت … إنها ساق مفتولة العضلات لا يكون مثلها لطفل.»

وراح يلتهم نصف دجاجة وهو منطلق في حديثه.

وسأله المستر ألن بغير اكتراث: «أهي حقًّا كذلك؟»

قال وفمه بالطعام ممتلئ: «جدًّا.»

وعاد المستر ألن يقول لصاحبه: «لقد كتبت اسمي طالبًا ذراعًا تُرسَل إلينا في مسكننا، ونحن جميعًا باحثون عن موضوع ندرسه، أو مادة نتناولها بالبحث، حتى كادت قائمة الأسماء تمتلئ، ولكننا لا نستطيع أن نهتدي إلى أحد يريد رأسًا، أود لو أنك أخذت هذا الموضوع لنفسك.»

وأجاب بب سوير قائلًا: «كلا، لا أملك الإنفاق على الكماليات الكثيرة النفقة.»

وقال ألن: «هراء.»

وعاد بب سوير يقول: «لا أملك فعلًا، لا بأس عندي من أخذ المخ أما الرأس كله فليس في إمكاني أن أكفل نفقاته.»

وقال المستر بكوك: «صه، صه، أيها السيدان، إني أسمع وقع أقدام السيدات وهن يقتربن منا.»

وبينما كان المستر بكوك يقول ذلك عادت السيدات في حراسة السادة سنودجراس وونكل وطبمن من نزهة باكرة.

وقالت أرابلا بلهجة أقرب إلى الدهشة منها إلى السرور برؤية أخيها: «أأنت هنا يا بن؟!»

وأجاب بنجمن: «لقد جئت لأعود بك غدًا إلى البيت.»

وارتد وجه ونكل شاحبًا.

وقال المستر بنجمن ألن لأخته في لهجة قريبة من العتاب: «ألا ترين بب سوير يا أرابلا؟»

فمدت أرابلا برقة بالغة يدها إلى بب سوير؛ إقرارًا بوجوده، ولم يلبث قلب المستر ونكل أن أحس رعشة الكراهية، حين رأى بب سوير يضغط اليد المبسوطة إليه ضغطة ظاهرة.

وقالت أرابلا وقد احمرَّ وجهها حياءً: «يا عزيزي بن هل عرفوك بالمستر ونكل؟»

وأجابها شقيقها بلهجة الجد: «لم يعرفوني به، ولكني سأكون في غاية السعادة إذا تعارفنا يا أرابلا.»

وهنا انحنى المستر ألن للمستر ونكل، بينما راح المستر ونكل والمستر بب سوير ينظران نظرة ريبة متبادلة من طرفي عينيهما.

وكان من شأن مقدم هذين الزائرين الجديدين، وما أحدثه من رد فعل للمستر ونكل والشابة ذات الفراء المركب فوق حذائها، أن يكونا بلا ريب عائقًا غير سار يحول دون مرح القوم وابتهاجهم لولا لطف المستر بكوك وإيناسه، ولولا مجانة رب الدار ودعابته، وإقبالهما بكليتهما على المجون لإمتاع القوم وإدخال السرور على نفوسهم، وما لبث المستر ونكل أن سكن رويدًا إلى تحيات المستر بنجمن ألن وتلطفاته بل إنه راح يشترك في حديث ودي مع المستر بب سوير، وكان هذا من أثر البراندي ومتعة الفطور، ولذة الحديث، قد أوغل في المرح، وتناهى في المجانة، ومضى بفرح شديد يقص حكاية لطيفة تتصل بعملية إزالة خراج من رأس أحد الناس، وجعل يصوره للجمع بمحارة وكسرة من رغيف، وسر الجمع من ذلك سرورًا كبيرًا.

وخرج القوم جميعًا بعد ذلك ليذهبوا إلى الكنيسة؛ حيث لم يلبث المستر بنجمن ألن أن استولى عليه النعاس وانثنى المستر بب سوير يجرد نفسه من التفكير في أمور الدنيا ومشاغلها، من طريق نقش اسمه بمطواة على المقعد الذي اتخذه في صحن الكنيسة بأحرف ضخمة لا تقل عن أربع بوصات طولًا.

وانبرى المستر واردل يقول، عقب غداء دسم واحتساء قدر وفير من الجعة القوية والبراندي المصنوع من الكرز: «والآن ما قولكم في قضاء ساعة فوق الجليد؟ إن أمامنا فسحة كبيرة من الوقت.»

وقال المستر بنجمن ألن: «فكرة بديعة.»

وصاح المستر بب سوير: «من الطراز الأول.»

وقال المستر واردل: «إنك تحسن الانزلاق بالطبع يا ونكل؟»

وأجاب المستر ونكل مضطربًا: «أي نعم! أي نعم، ولكني تركت التمرين من وقت طويل.»

وقالت أرابلا: «بالله يا مستر ونكل انزلق! إنني أحب كثيرًا أن أراك تنزلق.»

وقالت شابة أخرى: «إنه لمشهد جميل جدًّا.»

وقالت ثالثة: «إنه لبديع.» وقالت رابعة: «إنه لأشبه بسبح البجع.»

وقال المستر ونكل، وقد احمرَّ وجهه: «يسعدني الانزلاق بلا شك، ولكن ليس عندي قبقاب.»

ولكن هذا الاعتراض أزيل في الحال؛ فقد كان تراندل يملك قبقابًا إضافيًّا، وقال الغلام البدين: إن لديهم في المخزن ستة أو نحوها من القباقيب، فلم يَسَعِ المستر ونكل إلا أن يبدي أشد السرور، وإن بدا عليه أشد الارتباك.

وانطلق الشيخ واردل يهم، وهو في الطليعة، إلى صفحة رحيبة من الجليد، وشرع الغلام البدين والمستر ولر يجرفان الثلج الذي تساقط عليهما الليلة الماضية، وأقبل المستر بب سوير على لبس قبقابه ببراعة بدت لعين المستر ونكل عجيبة كل العجب، بينما انثنى بب يرسم دوائر بساقه اليسرى وينقش أرقامًا تشبه الثمانية على صفحة الجليد، دون أن يقف لحظة ليتمالك أنفاسه، ويؤدي عدة ألعاب وحركات أخرى بديعة طريفة، لقيت ارتياحًا متناهيًا من المستر بكوك والمستر طبمن والسيدات، وهو ارتياح بلغ ذروة الحماسة، حين راح الشيخ واردل، وبنجامين ألن، بمعاونة بب، يؤديان معه بعض الألعاب الغريبة، والتشكيلات المبتكرة، التي يسمونها اللف والدوران.

وكان المستر ونكل طيلة ذلك الوقت، وقد ارتد وجهه ويداه مزرقة من البرد، يحاول جاهدًا إدخال مثقب في مشطي رجليه، ولبس القبقاب مقلوبًا، وجعل الأربطة في حالة تعقد واشتباك شديدين، وذلك بمساعدة المستر سنودجراس، وهو أجهل بالقباقيب من الهندي نفسه، وأخيرًا، وبعد معاونة المستر ولر، تيسر للقبقاب السيئ الحظ أن يثبت في مكانه ويتم ربطه وعندئذٍ رفع المستر ونكل من موضعه ليقف بالمزلاق على قدميه.

وقال سام مشجعًا: «والآن هيا يا سيدي انطلق لتريهم براعتك.»

وصاح المستر ونكل وهو يرتعش بشدة ويمسك بذراعي سام إمساكة الغريق: «قف يا سام، قف! إنه لمنزلق خطر يا سام.»

وأجاب المستر ولر: «هذا شيء مألوف على الجليد يا سيدي، تماسك يا سيدي واثبت.»

وكانت هذه الملاحظة الأخيرة التي أبداها المستر ولر تشير إلى حركة بدت في تلك اللحظة من المستر ونكل، توحي برغبة جنونية في رفع قدميه في الفضاء وضرب رأسه فوق الجليد.

وقال المستر ونكل وهو يترنَّح ولا يكاد يستوي على ساقيه: «هذه قباقيب سمجة، أليست كذلك يا سام؟»

وأجاب سام قائلًا: «أخشى يا سيدي أن يكون السمج هو السيد الذي يقف عليها.»

وهنا صاح المستر بكوك وهو لا يدري أن هناك حرجًا: «والآن يا ونكل، هيا، إن السيدات جميعًا في لهفة بالغة وصبر نافد.»

وقال المستر ونكل بابتسامة مروعة: «نعم، نعم، أنا قادم.»

وانثنى سام يقول وهو يحاول أن يتخلص من إمساكته به: «إنه سيبدأ اللحظة، والآن، هيا يا سيدي، انطلق.»

وقال المستر ونكل في جزع وهو يتشبث بالمستر ولر ويحتضنه احتضانة المتوسل المشتاق: «قف لحظة يا سام، لقد تذكرت أن لدي في البيت سترتين لست بحاجة إليهما، فلتكونا لك يا سام.»

وأجاب المستر ولر: «شكرًا لك يا سيدي.»

وقال المستر ونكل في عجلة: «لا داعي لرفع يدك إلى قبعتك يا سام، حتى لا تنتزعها مني، لقد كنت أريد في هذا الصباح أن أنفحك بخمسة شلنات بمناسبة العيد، ولكني سأقدمها إليك في الأصيل يا سام.»

وأجاب المستر ولر: «إنك كريم جدًّا يا سيدي.»

قال: «أمسك بي أولًا يا سام، أرجوك، أي نعم، هكذا، وسأعتاد الوقوف قريبًا، لا تسرع هكذا يا سام، رفقًا، رفقًا.»

وانحنى المستر ونكل إلى الأمام، تاركًا جسمه في نصف قوس، بينما مضى المستر ولر يعاونه على الانزلاق بشكل غريب أبعد ما يكون عن سبح البجع، وإذا المستر بكوك، وهو خالي الذهن تمامًا، يصيح من العدوة المقابلة: «يا سام؟»

وأجاب هذا قائلًا: «نعم يا سيدي.»

قال: «تعالَ هنا، إني بحاجة إليك.»

وقال سام للمستر ونكل: «اتركني يا سيدي، ألا تسمع السيد يناديني؟ اتركني من فضلك.»

وانثنى المستر ولر بجذبة شديدة يتخلص من هذا البكوكي المعذب، فكانت تلك الجذبة بمثابة دافع شديد للمستر ونكل المسكين، فانطلق هذا السيد السيئ الحظ، بدقة لا تكفلها البراعة بأي شكل من أشكالها، ولا المرانة في أية صورة من صورها، إلى وسط الحلقة، في اللحظة ذاتها التي كان المستر بب سوير فيها يؤدي حركة جميلة بارعة لا مثيل لها، فاصطدم به صدمة عنيفة فسقطا معًا سقطة شديدة ذات صوت مدوٍّ، جعلت المستر بكوك يعدو صوب الموضع، وإذا بب سوير ينهض على قدميه، ولكن ونكل كان أحكم وأعقل من أن يحاول شيئًا كهذا وهو في القبقاب، فلبث جالسًا فوق الثلج يحاول جاهدًا أن يبتسم، وإن ارتسم الألم البالغ على معارف وجهه، وسائر معالم صفحته.

وسأله المستر بنجمن ألن في قلق شديد: «هل أصابك أذى؟»

وأجاب المستر ونكل وهو يدعك ظهره دعكًا شديدًا: «ليس بأذى كثير.»

وقال المستر بنجمن بلهفة بالغة: «أود لو سمحت لي بفصدك.»

وأجاب المستر ونكل بعجلة: «لا، شكرًا لك.»

وقال ألن: «أظن حقًّا أن في ذلك خيرًا لك.»

وأجابه ونكل: «شكرًا لك، أفضل ألا أفصد.»

وسأل بب سوير المستر بكوك قائلًا: «ما رأيك أنت يا مستر بكوك؟»

وكان المستر بكوك هائجًا محنقًا، فأشار إلى المستر ولر وهو يقول بصوت غاضب: «انزع القبقاب من رجليه.»

واحتج المستر ونكل قائلًا: «كلا، ولكني لم أكد أبدأ الانزلاق.»

وكرر المستر بكوك الأمر بلهجة التوكيد: «قلت لك انزع المزلاق من قدميه.»

ولم يكن ثمة مفر من إطاعة هذا الأمر، فترك المستر ونكل لسام الامتثال له، وهو صامت لا ينبس.

وعاد المستر بكوك يقول: «والآن ارفعه.»

وأعانه سام على النهوض.

وابتعد المستر بكوك بضع خطوات من أعين النظارة، وأشار إلى صديقه بأن يقترب منه، وألقى عليه نظرة فاحصة، وقال مخافتًا بصوته، وإن كان قوله واضحًا قويًّا، تلك الألفاظ العجيبة: «أنت مخادع يا سيدى.»

وأجفل المستر ونكل وقال: «أنا ماذا؟»

قال: «مخادع يا سيدى، وإن شئت قولًا أصرح فأنت مدَّعٍ يا سيدى.»

فلما قال مستر بكوك هذا استدار ببطء وعاد إلى أصدقائه.

وبينما كان المستر بكوك يصارح صديقه بهذا الشعور الذي وصفناه، كان المستر ولر والغلام البدين يشتركان في الانزلاق، ويؤديان معًا حركات بارعة وألعابًا باهرة، ولا سيما سام ولر؛ فقد انطلق في انزلاقات جميلة بارعة كان يطلق يومئذٍ عليها قولهم: «دق باب الإسكاف»، وهي حركة تقتضي الانزلاق على أديم الجليد بقدم واحدة، ثم دقه من حين إلى حين بالقدم الأخرى، كما يدقه ساعي البريد، وهي انزلاقة طويلة متقنة، لم يسع المستر بكوك إلا أن يحسده عليها، وهو يرتعش بردًا من طول وقفته وجمود حركته.

وانثنى يقول للشيخ واردل، حين رآه متقطع الأنفاس لاهثًا من تلك الحركات المستمرة التي أحالت ساقيه إلى شيء أشبه «بفرجار»، ومن رسم مسائل معقدة على الجليد: «إن هذه الألعاب تبدو رياضة مدفئة، أليست كذلك؟»

وأجاب واردل: «إنها لكذلك حقًّا، هل تنزلق؟»

قال: «كنت أفعل ذلك في الشوارع على أغطية البالوعات وأنا صبي صغير.»

قال واردل: «جربه الآن.»

وصاحت السيدات جميعًا قائلات: «هلا جربت الانزلاق يا مستر بكوك؟»

قال مستر بكوك: «يسعدني أن أفعل أي شيء لإرضائكن، ولكني لم أفعل هذا أو نحوه منذ ثلاثين عامًا.»

وقال واردل وهو يخلع قبقاب الانزلاق من قدميه، منطلقًا بذلك التهور المعهود منه في كل عمل يأتيه: «هراء. هيا بنا، سأسايرك في الانزلاق، هلم بنا.» ومضى الشيخ اللطيف المرح على مزلاقه مندفعًا بسرعة لم يلبث أن أطبق بها على المستر ولر والغلام البدين، وبزهما في البراعة وفاقهما إلى حدٍّ بعيد.

وتمهل المستر بكوك، وفكر مليًّا، ثم نزع القفازين من يديه ووضعهما في القبعة، وراح يجري جريتين أو ثلاثًا قصيرات، ثم تردد طويلًا، ولكنه عاد أخيرًا يجري مرة أخرى، ثم يبطئ محتشمًا متزنًا على «مزلاقه»، فارجًا قدميه كثيرًا، في وسط حماسة النظارة وصرخات ارتياحهم وصيحات السرور المنبعثة من أفواههم.

وقال سام: «خلِّ القدر تغلي يا سيدي»،١ وانبعث واردل يعدو، ومن ورائه المستر بكوك، ثم سام، ومن خلفه جاء ونكل، ثم المستر بب سوير، فالغلام البدين، فالمستر سنودجراس، وهم متتابعون متلاحقون بلهفة حارة كأن مصائرهم في الحياة مرتهنة بتلك الرحلة العجلى على الجليد.

وكان أشد شيء إمتاعًا للعين رؤية المستر بكوك وهو يؤدي حركاته، ويقاسم اللاعبين ألعابهم، ومراقبة مدى القلق الشديد الذي كان ينظر به إلى اللاعب القادم في أثره، وهو يلاحقه فيعرضه لخطر وطئه بقدمه، ومشاهدته وهو يبذل تدريجًا جهده الأليم الذي أبداه في بداية الأمر، ثم ينعطف في رفق حول الحلقة، موليًا وجهه شطر البقعة التي بدأ منها، وتأمله وهو يبتسم تلك الابتسامة المرحة التي كانت تغمر محياه، كلما أتم اللف، وتلك اللهفة التي كان يدور بها كلما أتمها، ثم يعدو في أثر المتقدم عنه، وغطاء ساقيه وهو يهتز اهتزازة بديعة خلال الثلج، وعيناه تشعان ببريق البِشر والفرح من وراء منظاره، وكلما سقط — وهو ما كان يحدث غالبًا بعد كل ثلاث دورات — كان منظره أعجب ما يكون مشهدًا، وهو يتناول قبعته وقفازه ومنديله بسرور طافح على محياه، ويعاود اتخاذ مكانه من الحلقة بحماسة ولهفة لا ينال شيء منهما إطلاقًا.

وكان الانزلاق على أشده، وأسرع مداه، والضحك في أوج شدته، حين بلغ الأسماع صوت قعقعة حادة، وتلاه اندفاع سريع نحو الحافة، وصيحة مدوية من أفواه النساء، وصرخة من المستر طبمن، وتبين عندئذ أن كتلة ضخمة من الجليد توارت عن الأبصار، وأن الماء راح يحدث فقاقيع فوقها، وقبعة المستر بكوك وقفازه ومنديله طافية على أديمها، فلم يستطع أحد أن يشهد منه غير هذه الأشياء طافية.

وارتسم الذعر على الوجوه كلها، وشحبت وجوه الرجال، وأغمي على النساء، وتماسك المستر سنودجراس والمستر ونكل باليدين، وراحا ينظران إلى تلك بقعة التي هوى عندها زعيمهما بلهفة ورعب بالغين، بينما مضى المستر طبمن في سبيل البدار إلى المعونة، وإبلاغ الأمر إلى مسامع الذين يحتمل أن يكونوا قريبين من الموضع لتصوير مدى الكارثة التي وقعت في تلك اللحظة، يعدو بأشد سرعة ممكنة صارخًا «حريق!» بكل قوته.

وفي تلك اللحظة كان الشيخ واردل وسام ولر يدنوان من الثغرة التي انفتحت في الثلوج بخطى محاذرة بينما كان المستر بنجمن ألن يعقد مع المستر بب سوير مؤتمرًا عاجلًا بشأن إجراء «حجامة» للقوم كلهم، على سبيل التمرين قليلًا على المهنة وعملياتها، في تلك اللحظة ذاتها ظهر وجه، ورأس، وكتف من تحت الماء، فكشفت عن معالم سحنة المستر بكوك ومنظاره.

وصاح المستر سنودجراس قائلًا: «اثبت فوق الجليد لحظة، لحظة واحدة.»

وصرخ المستر ونكل وهو في أشد التأثر: «أتضرع إليك أن تثبت لحظة واحدة؛ إكرامًا لي.»

ولكن لم تكن ثمة حاجة إلى التوسل، وأكبر ظننا أنه إذا كان المستر بكوك قد رفض أن يثبت ويتماسك لحظة واحدة من أجل خاطر إنسان سواه؛ فقد كان أولى به وأدعى أن يتماسك ويثبت، من أجل نفسه هو ونجاته.

وقال واردل: «هل تحس القاع وأنت في مكانك هذا يا صاح؟»

وأجاب المستر بكوك وهو ينثر الماء عن رأسه ووجه، ويحاول استرداد أنفاسه: «نعم بلا شك فقد سقطت على ظهري، ولم أستطع في بداية الأمر أن أنهض على قدمي.»

وكان الطين الذي يلطخ الجزء الذي ظل فوق الماء من سترته دليلًا على صدق قوله، ومما زاد في طمأنينة القوم أيضًا تذكر الغلام البدين فجأة أن الماء لا يتجاوز عمقه في أي موضع خمس أقدام، وحينئذٍ بذلت جهود تدل على البسالة لانتشاله، وأخيرًا بعد قدر كبير من النضال والصراع والجهاد العنيف، تيسر إخراج المستر بكوك من هذا الموضع الخطر، وعاد يقف على اليبس.

وصاحت إميلي قائلة: «أخشى عليه من فتكة البرد.»

وقالت أرابلا: «واها له، دعني ألفك بهذه اللفاعة يا مستر بكوك.»

وقال واردل: «هذا خير ما تفعلينه، فإذا تلفعت يا صاح به فانطلق إلى البيت بأسرع ما تستطيع ساقاك أن تحملاك واقفز إلى السرير في الحال.»

وعرضت عليه في تلك اللحظة عدة لفاعات، وتم اختيار ثلاث أو أربع من أكثفها وبرًا فلفف المستر بكوك فيها، وانطلق في حراسة المستر ولر، وقد بدا شكله فريدًا، في صورة شيخ يقطر البلل منه، حاسر الرأس، لاصق الذراعين بجنبيه، طافرًا فوق أديم الأرض، على غير هدى منه، وبسرعة يبلغ معدلها ستة أميال في الساعة.

ولكن المستر بكوك لم يحفل بالمظاهر وهو في هذه الحال الشاذة، فظل على احتثاث المستر ولر له مسرعًا في مسيره، حتى وصل إلى باب «الضيعة»، وكان المستر طبمن قد وصل إليها قبله بخمس دقائق، وأثار الرعب في نفس السيدة العجوز، حتى جعل قلبها يخفق خفقانًا شديدًا؛ إذ حملها على الاقتناع الثابت بأن الحريق قد شب في مدخنة المطبخ، وهي كارثة كانت تتمثل دائمًا لخاطرها، في أوضح صورة، كلما أبدى أحد ممن حولها أقل هياج أو أدنى اضطراب.

ولم يتمهل المستر بكوك لحظة ولم يهدأ له بال حتى رقد في سريره، وأحس الدفء تحت الأغطية؛ فقد انطلق سام ولر يوقد في الحجرة نارًا ذات لهب، ويحضر له الغداء، ثم قارورة من البنتش بعده، وأقيم سمر ممتع؛ احتفالًا بنجاته، ولم يقبل الشيخ واردل منه النهوض من فراشه، فجعلوا من السرير مقعد الرياسة، وتولى المستر بكوك رعاية الحفل منه، وطُلبت قارورة أخرى فثالثة وعندما استيقظ المستر بكوك في صباح اليوم التالي لم يكن ثمة أثر فيه لوعكة برد، أو أعراض نقرس، وهو كما قال المستر بب سوير بحق دليل على أنه ليس هناك علاج أنجع في هذه الحالات ولا دواء أصلح من البنتش الساخن، وأنه إذا جاز يومًا ألا ينجع هذا الدواء، أو يمنع الإصابة بالداء، فلا يرجع الأمر إلا إلى وقوع المريض في ذلك الخطأ السوقي وهو عدم تناول كمية كافية منه.

وانفرط عقد الجمع المرح في غداة اليوم التالي، وانفضاض الجماعات أمر بديع في أيام الدراسة، ولكنه في الحياة أليم، وإن الموت والبحث عن المصلحة الخاصة، وصروف الحظ وتقلباته، لا تزال في كل يوم مفرقة للجماعات السعيدة، مشتتة الأحباب، ذاهبة بهم شرقًا ومغربًا، مفرقة بين الفتيان والفتيات فراقًا لا أوبة منه، ولسنا نريد بهذا أن نقول: إن هذه هي الحال، في هذه المناسبات بالذات، وإنما كل ما نريد أن يفهم القارئ لا يتجاوز القول: إن أفراد هذا الجمع قد انصرف كل منهم إلى موطنه، وإن المستر بكوك وصحبه عادوا يشغلون مقاعدهم فوق سطح المركبة الشاخصة من «ماجلتون»، وإن أرابلا انصرفت إلى المكان الذي كانت تقصده — أنى يكون هذا المكان — ولسنا نخشى أن نقول: إن المستر ونكل يعرف أين هو، وقد ذهبت في رعاية أخيها بنجمن وصديقه الولي الحميم المستر بب سوير.

ولكن هذا السيد والمستر بنجمن ألن، انتحيا قبل الرحيل بالمستر بكوك ناحية، بشكل غريب، وراح المستر بب سوير يدفع بسبابته بين ضلعين من أضلاع المستر بكوك، مبديًا بهذه الحركة مبلغ مجانته ونزوعه إلى المزاح، ومدى علمه في الوقت نفسه بالتشريح ومعرفة دقائق الجسم البشري ومختلف أجزائه، ومضى يسأله: «قل لي يا صاح: أين تقيم؟»

وأجاب المستر بكوك بأنه في الوقت الحاضر يقيم في فندق جورج والرخم.

وقال بب سوير: «أحب أن تجيء لتراني.»

وأجاب المستر بكوك: «لا شيء أحب إلى نفسي من ذلك.»

وأخرج المستر بب سوير بطاقته وقال: «هذا عنوان مقري، شارع لانت، قصبة لندن، بقرب مستشفى جاي؛ لأنه قريب من محل عملي كما ترى، ولا يبعد كثيرًا بعد أن تجتاز كنيسة القديس جورج، وتنعطف من شارع هاي ستريت يمنة.»

وقال المستر بكوك: «سأعرف كيف أهتدي إليه.»

وقال بب سوير: «تعال يوم الخميس بعد أسبوعين واصطحب الرفاق معك؛ فإني معتزم دعوة فريق من زملائي المنتمين إلى مهنة الطب في تلك الليلة.»

وأبدى المستر بكوك سروره للقائهم، وبعد أن حدثه المستر بب سوير بأن الاجتماع سوف يكون ممتعًا وأن صديقه «بن» سيحضره، تصافحَا، ثم افترقَا.

وفي هذا المقام نشعر بأن رُبَّ سائل سيسألنا: هل كان المستر ونكل خلال هذا الحديث القصير يهمس لأرابلا ألن؟ وما الذي كان يهمس به لها؟ وهل كان المستر سنودجراس أيضًا يحادث على انفراد إميلي واردل؟ وما الذي قال هو لها؟ وجوابنا أنه مهما يكن الحديث الذي دار بينهما وبين الفتاتين، فإنهما لم يقولا عنه شيئًا للمستر بكوك ولا للمستر طبمن، طيلة الرحلة إلى المدينة، وهي مسافة ثمانية وعشرين ميلًا، بل راحا يتنهدان ويزفران بين الفينة والفينة، ويرفضان تناول شيء من الجعة أو البراندي ولبثا واجمَيْن مكتئبَيْن، فإن استطاعت سيداتي القارئات القويات الملاحظة استخلاص شيء من هذه الوقائع فليفعلن غير مأمورات.

١  أي: استمر؛ لا تطفئ حرارة اللعب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤