الفصل الثاني والثلاثون

وصف مأدبة أعزب أقامها المستر بب سوير في مسكنه بالضاحية، وصفًا أوفى من أي مندوب قضائي في إحدى الصحف السيارة.

***

يسود شارع «لانت ستريت» في الضاحية هدوء شامل يسكب على النفس كآبة رقيقة، ويضفي على الخاطر سكينة محزنة، ولا يخلو الشارع أبدًا من عدة منازل للإيجار وهو شارع جانبي أيضًا، والكآبة الضافية على أفقه مهدئة، ولا يعد البيت القائم في هذا الشارع في مصافِّ البيوت التي من «الطراز الأول» فالمعنى الدقيق الذي يفهم من هذا التعبير، وإن كان موضعًا مرغوبًا فيه إلى أبعد حد. فإن شاء أحد أن يجرِّد نفسه من شئون هذه الدنيا، ويظل بمنأى عن المغريات، واحتمال قيام دافع يحمله على أن يطل من النافذة، فليسكن في ذلك الشارع بالذات.

وفي هذا المنعزل السعيد تقوم بضعة حوانيت للكوائين، وأخرى لمجلدي الكتب المتجولين، ودكان أو دكانان للوكلاء المختصين بمحكمة التفاليس، وعدة منازل صغيرة يقطنها المشتغلون في أرصفة الميناء والأحواض، وحفنة من حائكات المعاطف التي ترتديها النساء، وفئة قليلة من الخياطين بالقطعة، بينما توجه جمهرة سكانه نشاطها إلى تأجير الغرف المفروشة أو تتوفر على جندرة الملابس، وهي صنعة تكسب أصحابها الصحة والقوة والبأس، وأبرز المعالم في حياة هذا الشارع الهادئ المصاريعُ الخضر، والإعلانات عن مساكن للإيجار، واللافتات النحاسية لأسماء السكان المعلقة على الأبواب، ومقابض الأجراس، وأغلب مظاهر النشاط البشري فيه تتجلى في الغلام الذي يغسل الأواني، والشاب الذي يبيع الفطير، والرجل الذي يعرض البطاطس المسلوق، وسكان الحي المولعين بالهجرة الذين يختفون عادة قبل انتهاء مدة الإيجار، وهي في الغالب تُدفع كل ثلاثة شهور، ويكون اختفاؤهم في الجملة ليلًا، حتى لَقَلَّمَا تجبى العوائد والضرائب المطلوبة لحضرة صاحب الجلالة من هذا الحي السعيد، ولا يزال دفع الإيجار مشكوكًا فيه، وكثيرًا ما يقطع الماء عن سكانه.

وكان المستر بب سوير جالسًا بجانب النار في مسكنه في الطابق الأول، مساء اليوم الذي دعا فيه المستر بكوك، بينما جلس المستر بنجمن ألن في الجانب الآخر منها، وكانت الاستعدادات لاستقبال الأضياف تلوح مستكملة؛ فقد كومت المظلات التي في الردهة في ركن صغير خارج باب الغرفة الخلفية، وأزيلت قبعة خادمة ربَّة البيت ولفاعتها من فوق السلم ولم يبقَ غير نعلين خشبيين (قبقابين) على ممسحة الأرجل الموضوعة فوق عتبة الباب الخارجي، وفي المطبخ شمعة طويلة الذبالة تضيء على بسطة شباك السلم، وكان المستر بب سوير قد ذهب فاشترى الأشربة الكحولية من بعض المخازن وأقبية الخمور في شارع «هاي ستريت» وعاد إلى البيت قبل وصول حاملها، حتى يمنع احتمال تسليمها إلى بيت آخر خطأ، وكان «البنتش» جاهزًا في قدر حمراء اللون في غرفة النوم، واستعيرت منضدة صغيرة ذات غطاء أخضر من حجرة الجلوس للعب الورق عليها، وصُفَّتْ فوق «صينية» كل الأقداح والأكواب التي يحويها البيت، والتي استعير بعضها كذلك من الحانة المجاورة لهذه المناسبة، ووضعت الصينية على البسطة خارج البيت.

ورغم كل هذا التدبير الداعي إلى الارتياح البالغ، كان وجه المستر بب سوير وهو جالس بجوار الموقدة، مكفهرًّا ترهقه قترة، كما بدت على وجه المستر بنجمن ألن أمارات العطف على صاحبه، وهو جالس يُطيلُ النظر إلى الجذوات المتقدة فيها، ومضى يقول بلهجة محزنة، بعد صمت طويل: «إنه لمن سوء الحظ حقًّا أن يخطر ببالها أن تنقلب غضبى ثائرة في هذه المناسبة بالذات، لقد كان أولى بها على الأقل أن تنتظر إلى الغد.»

وأجاب المستر بب سوير بحدَّة: «إنه لحقد وغلٌّ منها، حقد وغل، إنها تقول: إني إذا كنت قد استطعت أن أقيم مأدبة؛ فقد كان أولى بي أن أدفع لها المبلغ الصغير المستحق لها.»

وقال المستر بن ألن: «ومنذ كم من الوقت لم يدفع هذا الحساب اليسير؟»

وعلى ذكر الحساب نقول: إن قائمة الحساب أعجب آلة محركة استطاعت عبقرية البشر ابتكارها، حتى لتظل سائرة جارية طول العمر مهما مدَّ في الأجل، وتراخى الزمن به، دون أن تقف يومًا من تلقاء ذاتها.

وأجاب المستر بب سوير: «منذ ربع سنة وشهر أو نحوه.»

وسعل بن ألن سعلة مَن لا حيلة له، وألقى نظرة فاحصة بين القضيبين العلويين من قضبان الموقدة.

وقال أخيرًا: «إن الأمر ليكون بالغ الإساءة لو خطر لها أن تأتي مطالبة بالأجرة، وهؤلاء الناس هنا، أليس كذلك؟»

وأجاب بب سوير: «إذن لكان ذلك رهيبًا أشد الرهبة.»

وسمعَا دقًّا خفيفًا بباب الحجرة، ونظر المستر بب سوير نظرة بليغة التعبير إلى صديقه، وطلب إلى الطارق أن يدخل، فإذا القادم فتاة قذرة رثَّة في جورب أسود من القطن، قد يظن أنها ابنة كنَّاس متقاعد في فاقة بالغة.

وقالت الفتاة وهي تطل برأسها من الباب: «يا مستر سوير، اسمع من فضلك، إن مسز رادل تريد أن تتكلم معك.»

وقبل أن يتمكَّن المستر بب سوير من الرد، اختفت الفتاة فجأة، بهزة ظاهرة، كأن أحدًا قد جذبها جذبة عنيفة من خلفها، وما كادت الفتاة تنصرف على هذه الصورة الغريبة، حتى دقَّ الباب مرة أخرى، دقة ظاهرة حادة، كأنما تقول: «هأنذي! إنني آتية.»

ونظر المستر بب سوير إلى صديقه نظرة خوف شديد وصاح مرة أخرى: «ادخل.»

ولم يكن هذا الإذن ضروريًّا مطلقًا؛ فقد اندفعت امرأة صغيرة البدن مفترسة إلى الغرفة، قبل أن ينطق بب سوير بهذه الكلمات، وهي ترعش من الغضب، ويصفرُّ وجهها من الحنق، وقالت المرأة الثائرة، وهي تحاول التظاهر بأتمِّ الهدوء: «اسمع يا مستر سوير إذا تكرمت بسداد هذا الحساب اليسير، كنت لك شاكرة؛ لأن عليَّ أن أدفع أجرة البيت بعد ظهر اليوم والمالك منتظر في الطبقة الدنيا.» وفركت المرأة القصيرة يديها وألقت نظرة مستطيلة من فوق رأس المستر بب سوير على الجدار القائم خلفه.

وقال المستر بب سوير بكل احترام: «إنني آسف أشد الأسف؛ إذ أكون سببًا في إزعاجك يا مسز رادل ولكن …»

وقالت المرأة القصيرة وهي تطلق ضحكة صافرة: «ليست المسألة مسألة إزعاج أو تعب، إنني لم أطلبها إلحافًا قبل اليوم على الأقل، ولكنها ستذهب إلى المالك مباشرة، فكان يحسن بك أن تحافظ على الموعد منذ وعدتني الدفع يا مستر بب سوير بعد الظهر، وكل سيد سكن من قبلك هنا كان حريصًا على كلمته يا سيدي كشيمة كل إنسان يدعو نفسه رجلًا مهذَّبًا.»

وطوحت مسز رادل برأسها، وعضت شفتيها، وعركت يديها أشد من قبل، ونظرت إلى الجدار نظرة أطول وأثبت من سالفتها، وكان من الواضح — كما قال المستر بب سوير بعد هذه وبأسلوب الشرقيين في التشبيه والاستعارة — «أن المرأة أخذ بخارها يتصاعد».

ومضى المستر بب سوير يقول بكل ذلة يمكن تصورها: «إنني آسف أشد الأسف يا مسز رادل، ولكن الواقع أنني عدت بخفي حنين من المدينة اليوم. يا للمدينة من مكان غريب! إن عددًا مدهشًا من الناس يعودون منها خائبي الرجاء في كل وقت.»

وقالت مسز رادل وهي مثبِّتة قدميها فوق صورة قرنبيطة زرقاء مرسومة على بساط في الغرفة: «ولكن يا مستر سوير ما شأني أنا وهذا؟!»

وقال المستر بب سوير مُغْضِيًا عن هذا السؤال: «لست أشك يا مسز رادل في أننا سنستطيع قبل منتصف الأسبوع القادم أن نسوِّي هذه المسألة بيننا، ثم نسير بعدئذٍ على نظام أحسن من النظام الذي نسير عليه الآن.»

وكان هذا هو كل ما تبغيه؛ فقد صعدت إلى غرفة المستر بب سوير التَّعِس وهي عازمة على تمثيل الانفعال، والتظاهر بالغضب أكثر من أي شيء آخر، حتى ليغلب علي الظن أن أداء الأجر كان أدعى إلى تخييب رجائها، أكثر من العجز عنه، وكانت على استعداد تامٍّ لرياضة خاطرها قليلًا بهذا النوع من الانفعال، بعد أن تبادلت بضع شتائم وزوجها المستر رادل في المطبخ توطئة لهذا الفصل الذي جاءت لتمثيله.

قالت وقد أخذت ترفع صوتها حتى يسمعه الجيران: «هل تظن يا مستر سوير أنني سأظل يومًا بعد آخر تاركة إنسانًا يشغل مسكني ولا يفكر في أداء الأجر ولا حتى ثمن الزبد الطازج والسكر اللذين يُقَدَّمَان إليه في الفطور، ولا ثمن اللبن الذي يُشتَرى من عند باب البيت؟ وهل تظن أن امرأة دءوبًا أقامت في هذا الشارع عشرين سنة، عشرًا منها في مسكن آخر فيه، وتسعًا وثلاثة أرباع في هذا البيت بالذات، لا عمل لها غير الكدِّ الشديد من أجل حفنة من الكسالى المتعطلين الذين لا ينقطعون عن التدخين والشراب والضحك، وكان أجدر بهم أن يجدوا لأنفسهم عملًا يساعدهم على أداء ما عليهم من حساب؟ وهل تظن …؟»

وقال المستر بنجمن ألن مقاطعًا على سبيل تهدئة خاطرها: «يا سيدتي الكريمة …»

وعاجلته مسز رادل، وقد قطعت فجأة تيار كلامها السريع الجارف، ووجهت الخطاب إلى هذا الشخص الثالث قائلة بتؤدة بالغة وجِدٍّ ظاهر: «من فضلك احتفظ بملاحظاتك لنفسك يا سيدي؛ لأنني لا أرى لك أي حق في توجيه كلامك إليَّ، ولا أعتقد أنني أجرت هذه الغرف لك يا سيدي.»

وقال المستر بنجمن ألن: «طبعًا، لم تؤجريها لي.»

وأجابت مسز رادل بأدب فائق: «حسن جدًّا يا سيدي، ويكفيك أن تقتصر على بتر أذرع المساكين وسيقانهم في المستشفيات، لا تتعدَّ شأنك يا سيدي، وإلا فإن هنا من يستطيع أن يرغمك على ذلك إرغامًا.»

وقال المستر بنجمن ألن محتجًّا متذمرًا: «ولكنك امرأة غير معقولة إلى حدٍّ بالغ.»

وقالت مسز رادل وهي تتصبب عرقًا باردًا من الغضب: «هل تتكرَّم أيها الشاب بأن تدعوني كذلك مرة أخرى؟»

وأجاب المستر بنجمن ألن وهو قلق مرتبك إلى حدٍّ ما: «إنني لم أقصد معنى سيئًا من هذه الكلمة يا سيدتي.»

وعادت مسز رادل تقول بصوت أجهر من قبل وأشدَّ تحكُّمًا: «أرجوك أيها الشاب، من هي التي تسمِّيها امرأة؟ هل وجهت هذه الملاحظة إليَّ يا سيدي؟»

وقال المستر بنجمن ألن: «رحمتك يا ربِّ.»

ولكنها قاطعته قائلة بشدة متناهية، وهي تفتح الباب على مصراعيه: «هل وجهت هذا الكلام إليَّ، إنني أسألك هذا يا سيدي؟»

وأجاب المستر بنجمن ألن: «نعم، بالطبع.»

وقالت مسز رادل وهي تتراجع شيئًا فشيئًا إلى الباب وترفع صوتها إلى أعلى حدوده، لكي يسمعه المستر رادل زوجها الجالس في المطبخ: «نعم، بالطبع وجهته إليَّ. نعم، وجهته إليَّ بالطبع، حتى أصبح كل إنسان يعرف أنه من الجائز أن يشتمني وهو آمنٌ مطمئن في بيتي بينما يجلس زوجي في الدور الأول نائمًا غير آبِهٍ ولا مكترث كأنني كلبة في الشارع. لقد كان أولى به أن يستحيي ويخجل من نفسه (وهنا انتحبت وأجهشت بالبكاء) إذ يترك زوجته تُعَامَل بهذا الشكل من حفنة من الشُبَّان قطاعي أجسام البشر وباتري الأذرع والسيقان، وهم سبة في هذا المسكن (وعادت هنا إلى النحيب) ويدعها مُعَرَّضة لجميع صور الإهانات والسباب. إنه لنذل، جبان، رعديد، يخشى الصعود إلى هنا ومواجهة هؤلاء القساة، إنه خائف من الحضور … خائف!»

وتمهلت مسز رادل لتصغي وتتبين هل أثار تكرار هذا الاستفزاز «نصفها الأفضل» أو لم يُثِرْ، وحين وجدت أنه لم ينجح في إثارته، أخذت تهبط الدرج مرسلة انتحابات لا عداد لها، وفي تلك اللحظة دقَّ الباب دقتين شديدتين، فانفجرت في نوبة تشنجية من النحيب مقترنة بأنين أليم استطال حتى تكرر الدق ست مرات، فإذا هي في نوبة أخرى لا تستطيع مغالبتها تلقي بكل المظلات على الأرض وتتوارى في الغرفة الخلفية مغلقة الباب في أثرها بعنف شديد.

وقال المستر بكوك حين فتح الباب: «هل يقيم المستر سوير هنا؟»

وأجابت الفتاة: «نعم في الدور الأول، ستجد الباب أمامك مباشرة حين تصعد السلم.»

وما كادت الخادم تنتهي من إعطاء هذه المعلومات — وهي خادم نشأت في وسط السكان الأصليين في ساوثوارك — حتى توارت وهي تحمل الشمعة في يدها، هابطة سلم المطبخ، مقتنعة كل الاقتناع بأنها قد أدَّت كل ما هو مطلوب منها في هذه الظروف.

وكان المستر سنودجراس آخر من دخل، فأغلق الباب المؤدِّي إلى الشارع بعد عدة جهود ومحاولات عقيمة، بجذب السلسلة الحديدية، وراح الأصدقاء يصعدون السلم متعثِّرين، حيث استقبلهم المستر بب سوير؛ فقد كان خائفًا من النزول؛ لئلا تمسك به صاحبة البيت.

وقال الطالب المرتبك: «كيف الحال؟ إني لمسرور بلقائكم. التفت إلى الأقداح!» وكان هذا التحذير موجهًا إلى المستر بكوك؛ لأنه راح يضع قبعته فوق الصينية.

وقال المستر بكوك: «رباه! أرجو المعذرة.»

وأجاب المستر بب سوير: «العفو، العفو، إن المكان ضيِّق كما ترى، ولا مفرّ من التسامح حين يأتي امرؤ لزيارة شاب أعزب، تفضل بالدخول. أحسبك قد رأيت هذا السيد من قبل؟»

وصافح المستر بكوك المستر بن ألن، وفعل أصحابه كذلك، وما كادوا يتخذون مجالسهم، حتى سمعوا دقًّا متكررًا بالباب.

وقال المستر بب سوير: «أرجو أن يكون الطارق جاك هبكنز. صه، نعم هو، اصعد يا جاك، اصعد.»

وسمع وقع أقدام ثقال فوق مدارج السلم وبدا جاك هبكنز للأعين وهو يرتدي صدارًا أسودَ من المخمل ذا أزرار من الرعد والبرق وقميصًا أزرق مخططًا ذا طوق أبيض مستعار.

وقال المستر بنجمن ألن: «لقد تأخرت يا جاك!»

وأجاب هبكنز: «لقد حجزني العمل في مستشفى برثولميو.»

– «هل من جديد؟»

– «كلا، لا جديد بالذات، مجرد حادثة طبية في عنبر الحوادث.»

وسأل المستر بكوك قائلًا: «وما هي هذه الحادثة يا سيدي؟»

قال: «حادثة لا تعدو سقوط رجل من شباك سلم ذي ثماني درجات، ولكنها حادثة متوسطة للغاية، حادثة متوسطة جدًّا، لا بأس بها.»

وقال المستر بكوك: «هل تقصد أن المريض في طريقه العاجل إلى الشفاء؟»

وأجاب هبكنز بغير اكتراث: «كلا، بل أعتقد أنه لن يتماثل إليه؛ إذ لا بد من إجراء عملية بديعة له غدًا، وستكون العملية مشهدًا رائعًا إذا تولاها سلاشر!»

وعاد المستر بكوك يسأل قائلًا: «وهل تعد المستر سلاشر جراحًا بارعًا؟»

وأجاب هبكنز: «أحسن الجراحين الأحياء، لقد انتزع ساق غلام من المفصل في الأسبوع الماضي، فلم تمضِ دقيقتان على العملية حتى كان الغلام يأكل خمس تفاحات ورغيفًا من الخبز الخليط، وقال الغلام: إنه لن يظل راقدًا في موضعه ليُلهى به على هذه الصورة، وإنه سيقول لأمه إذا لم يبدءوا.»

وقال المستر بكوك وهو مبهوت: «يا عجبًا!»

وقال جاك هبكنز: «وهل هذا شيء يهم؟ هل هو كذلك يا بب؟!»

وأجاب بب سوير: «كلا، أبدًا.»

ومضى هبكنز يقول، وهو ينظر إلى الانتباه البادي على وجه المستر بكوك نظرة لا تكاد تبين: «والشيء بالشيء يُذكَر يا بب، لقد جاءتنا حادثة غريبة في الليلة الماضية؛ فقد جيء بطفل ابتلع عقدًا.»

وقاطعه المستر بكوك قائلًا: «ابتلع ماذا؟ أي شيء يا سيدي؟!»

وأجاب جاك هبكنز: «ابتلع عقدًا، ولكنه لم يبتلعه مرة واحدة كما لا يخفى؛ لأن ذلك كثير جدًّا، لا تستطيع أنت أن تبتلعه، لو أن الطفل استطاع، يا مستر بكوك، ها، ها.»

وكان المستر هبكنز يلوح مسرورًا كل السرور بنكتته هذه، وقد استرسل يقول: «كلا، ولكن الذي حدث هو أن أبويه فقيران يسكنان في فناء وأن أخته الكبيرة اشترت عقدًا، عقدًا عاديًّا من الخرز الأسود الكبير المصنوع من الخشب، وكان الطفل مولعًا باللعب فاسترق العقد، وأخفاه، ولعب به، وقطع خيطه، وابتلع خرزة من خرزاته وهو يحسب ذلك لهوًا بديعًا، وتسلية جميلة، فذهب من غداته فابتلع خرزة أخرى!»

وقال المستر بكوك: «بالله، ما أبشع هذا! معذرة، أرجوك يا سيدي أن تستمر.»

ومضى هبكنز يقول: «وفي اليوم التالي ابتلع الطفل خرزتين، وبعد ذلك بيوم تناول ثلاثًا، وهكذا دواليك؛ فلم ينقضِ أسبوع حتى أتى على خرزات العقد كلها، وهي خمس وعشرون خرزة، فما كان من أخته وهي صبية دءوب قلَّما تنعم بشيء من الكماليات، أو تجد بعض المتع والترف، إلا أن راحت تبكي وتتشنج لضياع عقدها، وتبحث عنه في كل مكان، ولكنها طبعًا لم تجده، وبينما كانت الأسرة بعد أيام جالسة إلى الغداء، وقد أعدت كتفًا من لحم الضأن من تحته البطاطس، ولم يكن الطفل جائعًا فراح يلعب في أرجاء الحجرة؛ إذ سمعت فجأة صوتًا أشبه برخة صرد، فقال الأب: لا تفعل هذا يا بني. وأجاب الطفل: لم أفعل شيئًا. وقال الأب: لا تفعل ذلك مرة أخرى. وبعد صمت قصير عاد ذلك الصوت ثانية أشد من قبل، وصاح الأب بالطفل قائلًا: إذا لم تُطِعْ ما أقول يا بني فستجد نفسك في فراشك في أقل من همسة خنزير. وهز الطفل ليحمله على إطاعة أمره، فإذا صوت ينبعث أشبه بالكركبة لم يسمع أحد مثله، وصاح الأب قائلًا: يا للعجب! إن هذا الصوت منبعث من جوف الولد، ولا بد من أنه قد أصيب بذبحة الزور في موضع غير موضعها من جسمه. وقال الطفل وقد بدأ يبكي: كلا يا أبتِ، إنه العقد، لقد بلعته يا أبي، وبادر الأب فاحتمله وجرى به إلى المستشفى، وظلت الخرزات التي في جوفه تجلجل طيلة الطريق من أثر الاهتزاز، وراح الناس يُصَعِّدُونَ أنظارهم إلى الفضاء، وينظرون من تحتهم إلى الأقبية؛ ليروا من أين ينبعث هذا الصوت الغريب على أسماعهم.»

واستتلى جاك هبكنز يقول: «وهو الآن في المستشفى، يُحدث كلما مشى في أرجائه صوتًا عجيبًا، اقتضى لفه في معطف أحد الحراس مخافة أن يوقظ المرضى!»

وقال المستر بكوك وهو يضرب المائدة بقبضته مؤكِّدًا قوله: «هذه أغرب حادثة سمعت بها في حياتي.»

وقال جاك هبكنز: «إنها لا شيء! أليس كذلك يا بب؟»

وأجاب المستر بب سوير: «بلا شك!»

وعاد هبكنز يقول: «أؤكد لك يا سيدي أن هناك أشياء غريبة جدًّا تقع في مهنتنا.»

وأجاب المستر بكوك: «هذا ما يجعلني أتصور ذلك.»

ودقَّ الباب مرة أخرى.

وكان القادم شابًّا كبير الرأس ذا ضفيرة سوداء مستعارة يصحب فتى تتساقط «الهنبرية»١ من شعر رأسه، وهو يضع غطاءً مستطيلًا حول عنقه، وكان القادم التالي سيدًا في قميص مُرَصَّع بأزرار وردية تشبه «المراسي» وتبعه على الأثر فتى شاحب الوجه يعلق ساعته بسلسلة مفضضة، وكان قدوم ضيف آخر أنيق في قميص نظيف وحذاء من القماش، فسحبت المائدة الصغيرة ذات الغطاء الأخضر إلى الخارج، وأحضرت الدفعة الأولى من البنتش في قدر بيضاء، وانقضت الساعات الثلاث التاليات في لعبة من ألعاب الميسِر تدعى لعبة «واحد وعشرين» كل اثنتي عشرة «فيشة» فيها بستة بنسات، ولم ينقطع اللعب خلالها إلا مرة واحدة عندما قام نزاع يسير بين الشاب ذي الهبرية المتساقطة من شعره، وبين السيد ذي الأزرار الوردية، أبدى فيه ذلك الشاب رغبة شديدة في جذب السيد صاحب الأزرار من أنفه، الأزرار التي يعدها بشائر الأمل، ورد عليها هذا الأخير بإظهار رفضه القاطع لقبول أي سخرية بلا موجب، لا من الشاب السريع الانفعال، الذي يتساقط «القشر» من شعر رأسه، ولا من أي مخلوق آخر كائنًا من كان.

وعندما أعلن أن لعبة «الواحد والعشرين» قد انتهت وتمت تسوية حساب المكسب والخسارة من «الفيشات» والبنسات الستة، وانتهى الموقف برضى الجميع وارتياحهم، دق المستر بب سوير الجرس لإحضار العشاء، وحشر الأضياف أنفسهم في الأركان والزوايا ريثما يتم إعداده.

ولم يكن إعداد الطعام سهلًا إلى الحد الذي قد يتصوره بعض الناس؛ فقد كان لا بد أولًا من إيقاظ الفتاة، وكان النعاس قد استولى عليها فألقت بوجهها فوق منضدة المطبخ، وقد استغرق إيقاظها بعض الوقت، وحين ردت على الجرس ضاع ربع ساعة آخر في محاولات عقيمة لتنبيهها من ذهولها، وتصحيتها ولو قليلًا لكي تفهم المراد، وكان الرجل الذي كلف بتقديم الأصداف البحرية الحية قد جاء بها مغلقة؛ لأن أحدًا لم يطلب إليه فتحها ومن المشقة البالغة معالجة فتحها بسكين أو شوكة ذات إصبعين، ولذلك لم تتناول الجماعة الشيء الكثير منها، ولم يكن لحم العجول قد قطع أيضًا، ولحم الخنزير الذي اشتري كذلك من دكان الألماني بائع اللحوم الباردة القائم على ناصية الشارع قد ترك في حال مماثلة لم يعالجه أحد ولكن كان ثمة قدر وفير من «الجعة» في آنية من القصدير، وكفى الجبن الجميع؛ لأن كلًّا منهم قنع منه بقطعة صغيرة لشدة مذاقه، وجملة القول أن العشاء كان لا بأس به كما يكون العشاء عادة في هذه الأحوال ونحوها.

وبعد أن فرغ القوم منه أحضرت قِدر أخرى من «البنتش» فوُضِعَتْ فوق الخوان، وإلى جانبها صندوق من لفافات التبغ الكبيرة، وزجاجتان من الكحول.

وانقضت فترة سكون رهيبة، أدى إليها حادث مألوف كل الإيلاف في هذا النوع من المساكن، وإن كان مع ذلك حادثًا يثير أشد الارتباك، وهو أن الفتاة كانت تغسل الأقداح، وكان منها أربعة في البيت، ولسنا هنا في معرض الانتقاص من مسكن مسز رادل؛ فلم يكن في المساكن المُعَدَّة للإيجار مسكن لا يعاني عجزًا في الأقداح أو أزمة في الأكواب! وكانت أقداحها من النوع الرفيع المفرطح، بينما كانت الأقداح المستعارة من الحانة القريبة رقيقة الجدران رحيبة الجوف منتفخة الشكل، يقوم كل قدح منها فوق ساق ضخمة عرجاء غير ثابتة كأنها تشكو النقرس، وكان هذا وحده كافيًا لإفهام الأضياف حقيقة الحال، ولكن الخادم التي تتولى كل عمل في البيت حالت بينهم وبين احتمال هذا التصور، أو تسرب فكرة كهذه إلى أخلادهم؛ فقد انثنت تأخذ كل قدح من أمام كل ضيف منهم قبل أن يفرغ ما فيه من الجعة، وهي تقول بصوت مسموع رغم غمزات المستر بب سوير ومقاطعاته: إنها ستحمله إلى الطبقة الدنيا من المسكن لغسله في الحال.

ولكن تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن؛ فقد كان الرجل الأنيق الذي ينتعل حذاء من القماش قد حاول عبثًا أن يلقي «بنكتة» طيلة الوقت الذي استغرقته المأدبة، ولكنه وجد عندئذٍ الفرصة سانحة له فانتهزها، فلم تكد الأقداح تُرفع وتختفي من المائدة حتى شرع يروي حكاية طويلة تدور حول رجل ذي مكانة كبيرة نسي اسمه، ردَّ ردًّا بديعًا على ذي شخصية أخرى عظيمة مشهورة لم يستطع أيضًا أن يتذكر اسمه، ومضى يطنب إلى حد ما في الدقائق والجزئيات بسبيل عدة مواقف وظروف بعيدة الصلة بالحكاية التي يرويها، وعندئذٍ عجز كل العجز عن تذكر الحكاية ذاتها، وإن اعتاد أن يقصها خلال السنوات العشر الأخيرة ويظفر بدويٍّ من التصفيق والهتاف عند انتهائه منها.

وقال الرجل الأنيق ذو الحذاء المصنوع من القماش: «رباه، إن هذا لشيء عجاب!»

وانثنى المستر بب سوير وهو ينظر بلهفة إلى الباب متصورًا أنه سمع صوت الأكواب تقرع: «إنني آسف؛ لأنك قد نسيتها، آسف جدًّا.»

وأجاب الرجل الأنيق: «وأنا كذلك؛ لأني أعرف أنها كانت تسليكم كلَّ التسليةِ، ولكن لا بأس، أظن أني سأستطيع أن أتذكرها في خلال نصف ساعة أو نحوه.»

وما إن بلغ الرجل الأنيق هذا المدى من قوله حتى أعيدت الأقداح، وقال المستر بب سوير الذي كان مستغرقًا طيلة الوقت في التفكير: إنه يود كثيرًا أن يسمع هذه الحكاية إلى نهايتها؛ لأنها أحسن حكاية سمعها في حياته بغير استثناء.

ولكن صوت الأقداح أعاد بب سوير إلى شيء من الهدوء والاتزان اللذين فقدهما من أثر حديثه مع صاحبة البيت، فلم يلبث وجهه أن تهلل وبدا يلوح مرحًا منتشيًا.

وأنشأ يقول برقة بالغة، وهو في الوقت ذاته يوزع الأكواب التي أعادتها الخادم ووضعتها في وسط المائدة: «والآن يا بتسي، علينا بالماء الدافئ، هيا أيتها الفتاة النشيطة، أسرعي.»

وأجابت بتسي قائلة: «لا سبيل إلى ماء دافئ.»

وصاح المستر بب سوير مبهوتًا: «وكيف ذلك؟! ألا سبيل إلى ماء دافئ؟!»

وقالت الفتاة بهزة من رأسها أبلغ نفيًا من أي تعبير يتواتى لأي لغة من لغات الناس: «كلا؛ فقد قالت مسز رادل: إنك لا تعطى منه شيئًا.»

ورأى رب الدار الدهشة المرتسمة على وجوه أضيافه فألهمته شجاعة جديدة، فقال بعبوس شديد: «أحضري الماء الدافئ في الحال. هيا، في الحال.»

وأجابت الفتاة قائلة: «كلا، لا أقدر؛ فقد أطفأت مسز رادل النار التي كانت موقَدة في المطبخ قبل أن تأوي إلى فراشها وأقفلت على الوعاء.»

وقال المستر بكوك وقد فطن إلى انفعال بب سوير المرتسم على سحنته: «لا بأس، لا بأس، أرجوك ألا تنزعج من هذا الأمر التافه، الماء البارد يغني كل الغناء.»

وقال المستر بنجمن ألن: «إن فيه الغناء الذي لا نرجو خيرًا منه.»

وقال بب سوير وهو يبتسم ابتسامة قاتمة مكفهرة: «إن صاحبة البيت تنتابها أحيانًا نوبات خفيفة من الجنون، وأراني مضطرًّا أن أعطيها إنذارًا!»

وقال بن ألن: «كلا، لا تفعل!»

وقال بب سوير بلهجة الإصرار والبطولة: «أخشى أن أكون مضطرًّا، سأؤدي لها حسابها وأنذرها صباح غد.»

يا للمسكين! لكم تمنَّى مخلصًا أنه على ما يقول قدير.

وكانت محاولات المستر بب سوير الأليمة في سبيل التماسك والثبات تحت وطأة هذه الصدمة الأخيرة قد أحدثت أثرًا غير مشجِّع في نفوس الأضياف، فراح أكثرهم يجتهدون في تنشيطها بإظهار حماسة فائقة في الإقبال على شرب البراندي بالماء البارد، وكانت الآثار الأولى الظاهرة لهذا الإقبال تجدد الخصومة بين الشاب الذي تتساقط الهبرية من شعره وبين الشاب الذي يرتدي القميص، ومضى المتخاصمان يبديان احتقارهما المتبادَل فترة من الوقت في عدة أنواع من التجهمات والزرايات، حتى رأى الشاب الأول أنه لا مفرّ من الوصول إلى تفاهم ووئام ظاهر، فجرى الحديث التالي:

قال الشاب: «اسمع يا سوير.»

وأجاب المستر بب سوير: «نعم يا ندي.»

وقال المستر ندي: «يؤسفني جدًّا الأسف يا سوير أن أكون سببًا في إحداث أية مضايقة على مائدة صديق، ومن باب أولى على مائدتك أنت يا سوير، ولكن لا مندوحة لي عن انتهاز هذه الفرصة لأقول للمستر جنتر: إنه ليس سيدًا مهذبًا.»

وقال المستر جنتر: «ويؤسفني أنا كذلك كل الأسف أن أثير أي إزعاج في الشارع الذي تسكنه، ولكني أخشى أن أكون مضطرًّا إلى إزعاج الجيران بإلقاء الشخص الذي تكلم اللحظة من النافذة.»

وقال المستر ندي: «ماذا تقصد بهذا يا سيدي؟»

وأجاب المستر جنتر: «أقصد ما أقوله يا سيدي.»

وقال المستر ندي: «أحب أن أراك تفعل ذلك يا سيدي.»

وأجاب المستر جنتر: «ستشعر بأنني فاعله قبل أن يمضي نصف دقيقة يا سيدي.»

وقال المستر ندي: «أرجو أن تتكرم عليَّ ببطاقتك يا سيدي.»

وأجاب المستر جنتر: «لن أفعل شيئًا من هذا القبيل يا سيدي.»

وقال المستر ندي: «ولم لا تفعله يا سيدي؟!»

وأجاب المستر جنتر: «لأنك ستلصقها فوق طنف مدفأتك وتوهم زائريك كذبًا أن سيدًا مهذبًا جاء لزيارتك يا سيدي.»

وقال المستر ندي: «سيدي، سأوفد إليك في الصباح صديقًا من أصدقائي.»

وأجاب المستر جنتر: «سيدي، إنني شاكر له هذا التحذير كل الشكر وسأترك لخادمي تعليمات صريحة بأن يضع الملاعق في صوانها ويغلقه بالمفتاح والقفل.»

ولما بلغ التشاتم هذا الحد تدخل الضيوف واحتجوا مستنكرين عليهما هذا التصرف غير اللائق بهما، فطلب المستر ندي أن يقول: إن والده لا يقل مركزًا ولا احترامًا عن والد المستر جنتر. وأجاب هذا أن والده هو الآخر محترم كل الاحترام كوالد المستر ندي، وأن ابن والده ليس دون المستر ندي شأنًا ولا قدرًا في أي يوم من الأيام! وكان هذا القول يبدو مقدمة لعودة النزاع من جديد، فعاد القوم إلى التدخل، وتلا تدخلهم كلام كثير وصياح شديد، ترك المستر ندي خلالهما شعوره يتغلب عليه شيئًا فشيئًا، ويعترف بأنه يشعر دائمًا بعلاقة ودية خاصة نحو المستر جنتر، وأجاب هذا بقوله: إنه — على العموم — يؤثر المستر ندي على أخيه. فلم يكد الأخير يسمع هذا الاعتراف حتى نهض بشهامة وعظمة من مقعده ومد يده إلى المستر جنتر، فشدها هذا بحماسة ظاهرة، وقال الجميع: إن المسألة كلها جرت بصورة مشرفة لهما كل التشريف.

وعندئذ انثنى جاك هبكنز يقول: «والآن لا أرى بأسًا من أن أغني أغنية تعيدنا إلى سابق نشاطنا.» وانطلق من أثر التصفيق الصاخب الذي قوبل به اقتراحه يغني في الحال أغنية «الملك بارك الله له» رافعًا بها صوته إلى قمته، ومندفعًا في نغمة تتألف من أغنيتي «خليج فسقونية» و«يود لو كان ضفدعة»، وهي أغنية قوتها وروحها في مذهبها الذي راح الجميع يشتركون في ترديده، فذهب كل منهم يغنيه بالنغمة التي يعرفها أكثر من غيرها، فكان التأثير عجيبًا كل العجب.

وفي نهاية إنشاد الجمع البيت الأول من الأغنية رفع المستر بكوك يده كمن يصغي إلى صوت منبعث من الخارج، وأنشأ يقول حين ساد الصمت: «صه! أرجوكم، أحسبني سمعت أحدًا ينادي من الطابق العلوي.»

وإذا القوم ينصتون مرهفي الأسماع، ولوحظ الشحوب على وجه المستر بب سوير.

وقال المستر بكوك: «أظن أني أسمع الصوت الآن، تكرموا بفتح الباب.»

وما كاد الباب ينفتح حتى زال كل الشك في الأمر؛ فقد سمعوا صوتًا من البسطة يصيح: «يا مستر سوير! يا مستر سوير!»

وقال بب سوير وهو يلتفت حوله في جزع بالغ: «هذه صاحبة البيت. نعم يا مسز رادل.»

وأجاب الصوت قائلًا بصفير شديد ومنطق سريع: «ماذا تعني بهذا يا مستر سوير، ألا يكفي النصب علينا في أجرة الشقة، والمال الذي نعيره لك من جيوبنا أيضًا، حتى نُهان ويُساء إلينا من أصحابك الذين يدعون أنهم رجال، ويملأون البيت ضجيجًا يكفي لإحضار رجال المطافئ إلى هنا في الثانية صباحًا؟ أخرج هؤلاء المناكيد في الحال.»

وقال صوت المستر رادل الذي بدا كأنما قد انبعث من تحت غطاء الفرش: «أولى بكم أن تستحيوا من أنفسكم.»

وقالت مسز رادل: «يستحيون من أنفسهم! لماذا لا تنزل إليهم وتُلقي بكل واحد منهم من السلم، لو كنت رجلًا لفعلت؟!»

وأجاب المستر رادل: «لقد كنت أفعل لو أنني كنت اثني عشر رجلًا يا عزيزتي، ولكنهم متفوقون عليَّ في كثرة العدد يا عزيزتي.»

وأجابته مسز رادل باحتقار متناهٍ: «ويحك أيها الجبان! وأنت يا مستر سوير أتريد أن تطرد هؤلاء الأوغاد أم لا؟»

وقال المسكين بب: «إنهم منصرفون يا مسز رادل، إنهم منصرفون، وانثنى إلى أصحابه فقال: أخشى أن أقول إنه يحسن بكم الانصراف، لقد كان رأيي أنكم أحدثتم فعلًا ضجة أكثر مما ينبغي.»

وقال الرجل الأنيق: «هذا شيء يؤسَف له كثيرًا أن يحدث ونحن نوشك أن نمضي في سمر بديع»، وكان قد بدأ يتذكر الحكاية التي نسيها.

وقال وهو يتلفت حوله: «هذا شيء لا يطاق، شيء لا يطاق، أليس كذلك؟»

وأجاب جاك هبكنز: «ولا يحتمل، لنغنِّ البيت الثاني يا بب، هيا بنا.»

ولكن بب سوير عاجله قائلًا: «كلا، كلا، يا جاك، إنها أغنية بديعة بلا شك، ولكني أرى أنه يحسن ألا نغني البيت التالي؛ إن أهل البيت قوم غلاظ جدًّا.»

وقال هبكنز: «هل تريد أن أصعد السلم إليهم، وأكبس لك صاحب البيت، أو أظل أدق الجرس، أو أذهب إلى السلم فأجعر جعيرًا؟! مُرني يا بب أصدع بما تأمر.»

وقال المستر بب سوير التعس: «إني لمدين لك كثيرًا بصداقتك وطيبتك يا هبكنز، ولكني أظن أن الخطة المُثلى لتجنب أي نزاع آخر أن ينفض اجتماعنا في الحال.»

وارتفع صوت مسز رادل الصافر قائلًا: «والآن يا مستر سوير! أليس هؤلاء البهائم منصرفين؟»

وقال بب: «إنهم يبحثون عن قبعاتهم وهم منصرفون في الحال.»

وقالت مسز رادل، وهي تقذف بطاقية نومها من فوق الدرابزين في اللحظة ذاتها التي كان المستر بكوك وفي أثره المستر طبمن يخرجان فيها من غرفة الجلوس: «منصرفون! ولأي داعٍ جاءوا؟!»

وقال المستر بكوك محتجًّا وهو يرفع بصره: «يا سيدتي العزيزة.»

وأجابته مسز رادل في عجلة وهي تسترد طاقيتها: «اغرب من هنا أيها الشقي العجوز، إنك في سن جده أيها الوغد، وإنك لشرهم جميعًا.»

ووجد المستر بكوك أن لا فائدة من الدفاع عن نفسه، وإظهار براءته، فهرول مسرعًا إلى الشارع يتبعه المستر طبمن على الأثر والمستر ونكل والمستر سنودجراس وصحبهم المستر بن ألن، إلى جسر لندن، وكان الكحول والاضطراب قد استوليا عليه وأثَّرَا في نفسه تأثيرًا محزنًا، وانثنى في الطريق يُسِرُّ إلى المستر ونكل — وهو خير من يكاشف بالسر — أنه معتزم أن يقطع رقبة أي إنسان يتطلع إلى حب أخته أرابلا، غير المستر بب سوير، وما كاد يبدي عزمه على تأدية هذا الواجب الأليم الذي لا مندوحة لأخ عن تأديته، بكل العزم الواجب، حتى أجهش بالبكاء، وأرخى قبعته على عينيه، وانطلق عائدًا أدراجه، فدق دقتين بباب مكتب السوق في القصبة، وأغفى إغفاءة قصيرة على كل درجة من درجات السلم، حتى مطلع الفجر، معتقدًا أنه يقيم في ذلك المسكن وأنه قد نسي المفتاح.

ولما انصرف الضيوف جميعًا؛ تنفيذًا لإلحاح مسز رادل، وجد المستر بب سوير المنحوس نفسه وحده، فمضى يفكر فيما عسى أن يأتي به الغد، وفي المسرات التي شهدها المساء.

١  القشر الذي يتساقط من شعر الرأس.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤