الفصل الخامس والثلاثون

وفيه يرى المستر بكوك أنه من الخير أن يقصد إلى «باث» — مدينة المياه المعدنية — فينفذ هذا الرأي.

***

وأنشأ المستر بركر يقول وقد وقف في غرفة المستر بكوك صبيحة اليوم التالي للمحاكمة: «ولكنك بلا شك يا سيدي العزيز لا تقصد حقًّا، ولا جدًّا، بِغَضِّ النظر عن أي انفعال أو غيظ، ألا تدفع تلك الأتعاب والتعويضات؟»

وقال المستر بكوك بإصرار: «ولا نصف بنس منها، ولا نصف بنس إطلاقًا.»

وقال المستر ولر، وهو يرفع الصحاف والآنية عقب انتهاء الفطور: «احترامًا للمبدأ، كما قال الدائن عندما رفض بتاتًا تجديد الكمبيالة.»

وقال المستر بكوك: «تفضل يا سام بالنزول.»

وأجاب سام: «بكل تأكيد يا سيدي.»

وانصرف امتثالًا لإشارة مستر بكوك اللطيفة.

ومضى المستر بكوك يقول بلهجة جِدٍّ بالغ: «كلا يا مستر بركر، لقد حاول أصحابي هنا أن يثنوني عن هذا العزم ولكن بلا جدوى، وسأنفق وقتي وجهدي، كدأبي وعهدي، حتى يتيسر لخصومي استصدار أمر أداء من القاضي، وإذا سولت لهم خستهم تنفيذه، وقُبِضَ عليَّ، فسوف أسلم نفسي بكل سرور وارتياح، فمتى يتيسر ذلك لهم؟»

وأجاب بركر: «في إمكانهم استصدار الأمر يا سيدي العزيز بأداء قيمة التعويض والأتعاب في الجلسة القادمة، أي بعد شهرين من هذا التاريخ يا سيدي العزيز.»

وقال المستر بكوك: «جميل جدًّا، ولست أريد أيها العزيز أن أسمع حتى هذا الموعد شيئًا آخر في هذا الشأن.»

والتفت إلى أصحابه فابتسم في وجوههم ابتسامة لطيفة، ولمعت في عينيه خطفة ضياء لم يستطع المنظار إخفاءها وقال: «والآن، لم يعد أمامنا غير مسألة واحدة، وهي إلى أين تكون رحلتنا التالية بعدئذٍ؟»

وكان المستر طبمن والمستر سنودجراس من فرط تأثرهما ببطولة صديقهما لا يقويان على الجواب، ولم يكن المستر ونكل قد أفاق تمامًا من ذكرى الشهادة التي أدلى بها في المحكمة، حتى يستطيع إبداء رأي في هذا الموضوع، ولهذا لم يجد المستر بكوك فائدة من التمهُّل والانتظار، فمضى يقول: «إذا أنتم تركتم لي إذن أن أقترح الموضع الذي نقصده، قلت: لنسافر إلى باث؛ فلست أظن أحدًا منَّا قد رآها قبل الآن.»

والواقع أن أحدًا منهم لم يرها، وتلقى المستر بركر هذا الاقتراح بحماسة؛ فقد رجح لديه كل الرجحان أن ينزع المستر بكوك عقب تبديل الهواء إلى حين، والاستمتاع بشيء يسير من البهجة والمتع، إلى الأخذ بفكرة أحكم من هذا في مسألة مصيره، وأخف رحمة من قبول الحبس في سجن المدينين؛ ولهذا أجمع الصحاب على التنفيذ، وأوفد سام في الحال إلى حانة هوايت هورس سلر لحجز خمسة مقاعد في المركبة العامة التي ستسافر في صباح اليوم التالي لتمام السابعة والنصف.

ووجد سام أنه لم يبقَ هناك غير مقعدين في داخل المركبة، وثلاثة فقط يتيسر حجزها في خارجها فاحتجزها جميعًا، وبعد أن تبادل بضع تحيات مع الكاتب الموكَّل بشباك التذاكر على قدر من الشراب يتعاطيانه معًا لقاء نصف كراون، حسبه الكاتب ما بقي بعد ثمن التذاكر، وانطلق سام راجعًا إلى فندق «جورج والرخم»، حيث انشغل إلى أوان النوم في كبس الثياب والأمتعة الأخرى لكي تشغل أصغر فراغ ممكن، واستخدام عبقريته ومهارته وخبرته في الآلات لابتكار جملة من الوسائل البارعة في ضغط أغطية الصناديق التي كانت خالية من الأقفال والمفصلات.

وكان اليوم التالي لا يناسب السفر إطلاقًا؛ فقد طلع الصباح نديًّا رطبًا يتساقط المطر فيه رذاذًا، وكانت الخيل المُعَدَّة للخروج في هذه الرحلة، قد جاءت تخترق شوارع المدينة، وهي ترسل من خياشيمها دخانًا يحجب الركاب الجالسين خارج المركبة عن الأبصار، كما بدا باعة الصحف مبللين تعبق منهم رائحة عفنة من شدة الرطوبة، وكانت قطرات المطر تتساقط من قبعات بائعي البرتقال، عندما يُدخلون رءوسهم من نوافذ المركبة، ويخففون الروائح المختنقة في جوفها، واليهود الذين يعرضون على الناس المطاوي ذوات الخمسين نصلًا، قد طووها يائسين من الظفر بالمشترين، والباعة الذين يطوفون بمحافظ الجيوب دسوها في جيوبهم، وكذلك ركدت سوق سلاسل الساعات وشوك الخبز الحميص، أو بيعت رخيصة، أما علب الأقلام والإسفنج فلم يعد أحد يطلبها في السوق.

وترك المستر بكوك وأصحابه سام ليستنقذ الأمتعة من براثن سبعة حمالين أو ثمانية ارتموا بوحشية عليها، في اللحظة التي وقفت المركبة فيها، وتبين لهم أنهم جاءوا مبكِّرين عن الموعد نحو عشرين دقيقة، فذهبوا يحتمون من المطر في قاعة المسافرين، وهي آخر ملجأ للناس إذا وجدوا أنفسهم في غمة أو حائرين.

وكانت قاعة المسافرين في هوايت هورس سلر بالطبع غير مريحة، وإلا لما كانت مستراحًا للمسافرين، فهي القاعة القائمة على يدك اليمنى، التي يخيل إليك أن موقدة من مواقد المطابخ قد مشت إليها، على أمل أن تكون مستدفأ مريحًا لطلاب الدفء، مصطحبة محراكًا متمردًا، وملقطًا عصيًّا، ومجرافًا على كوه، وهي مقسمة حواجز ومقاصير، للمسافرين وحدهم، وقد زُوِّدَتْ بساعة جدار، ومرآة، وخادم نشيط، وهذا الشيء الأخير من متاعها ورياشها محتجز في «وجار» وصغير لغسل الأقداح في ركن من القاعة.

وكانت إحدى تلك المقاصير في ذلك الصباح بالذات مشغولة، يجلس فيها رجل عابس النظرات، يناهز الخامسة والأربعين، أصلع الجبين، لا منبت في مقدم رأسه لشيء من الشعر، حتى ليبدو «لماعًا» صقيلًا، وإن كثر الشعر الأسود على فوديه ومؤخر ناصيته، وغزر شارباه الفاحمان، وقد زرَّر سترته السمراء إلى الذقن، وكانت قبعته المخصَّصة للسفر والمصنوعة من جلد كلب البحر، ومعطفه وقباؤه، موضوعة فوق المقعد بجانبه.

وتطلع ببصره من فوق طعام الفطور أمامه إلى المستر بكوك عند دخوله، في نظرة عنيفة قاسية، توحي الكبرياء ورفعة القدر، وبعد أن تفحصه مليًّا هو وأصحابه ما طاب له أن يتفحصهم، انثنى يغمغم ببعض الأنغام بشكل يؤخذ منه أنه قد حسب أن بعض الناس يريد التفوق عليه، ولكن ذلك لن يجدي، فلن يستطيع أحد أن يخدعه.

ونادى السيد ذو الشاربين الغزيرين: «يا غلام.»

وأجاب رجل قذر السحنة، يحمل فوطة قذرة مثله، وهو يخرج من الوجار الذي أسلفنا ذكره: «سيدي!»

– «قدر آخر من الخبز المحمر.»

– «حاضر يا سيدي.»

وقال السيد بوحشية: «لا تنسَ أنه بالزبد.»

وأجاب الخادم: «حالًا يا سيدي.»

وعاد الرجل ذو الشاربين الغزيرين، يدندن كما فعل من قبل، وتقدَّم إلى النار، ريثما يؤتى إليه بالخبز، وتناول أذيال سترته تحت ذراعيه، ونظر إلى حذائه، ومضى يطيل التفكير.

وقال المستر بكوك مخاطبًا في رفق صديقه المستر ونكل: «ترى أين ستقف هذه المركبة عند وصولها إلى باث؟»

وقال الرجل الغريب: «هم! آه! ماذا تقول؟»

وأجاب المستر بكوك، وهو على استعداد في كل لحظة للدخول في حديث مع أي إنسان: «لقد كنت أقول لصديقي هذا عند أي بيت تقف المركبة العامة عند وصولها إلى باث … لعل في وسعك أن تخبرني بهذا.»

وقال الغريب: «أذاهب إلى باث؟»

وأجاب المستر بكوك: «نعم، يا سيدي.»

– «وهؤلاء السادة الآخرون؟»

– «إنهم ذاهبون إليها كذلك.»

وهنا قال الغريب: «لا في داخل المركبة، اللعنة عليَّ في كل كتاب إذا كنتم مسافرين في داخلها!»

وقال المستر بكوك: «لسنا كلنا.»

وأجاب الغريب بلهجة التوكيد القاطع: «كلا، لستم كلكم؛ فقد حجزت فيها تذكرتين، فإذا حاولوا حشر ستة أشخاص في مكان ضيق لا يتسع إلا لأربعة، استأجرت مركبة خاصة ورفعت قضية عليهم، لقد دفعت لهم الأجرة، فلن يجوز هذا على مثلي، وقد قلت لصرَّاف التذاكر عندما حجزتهما: إن هذا لن يجوز؛ لأني أعرف أن أمورًا كهذه قد حدثت قبل الآن، بل تحدث في كل يوم، ولكني أنا لست بالرجل الذي يُخدع، ولن أُخدع في يوم من الأيام، وأخبر الناس بي وأكثرهم معرفة يعرفون ذلك عني أكثر من سواهم، يخدعني أنا!»

وعاد الرجل المتوحش يدق الجرس بعنف شديد ويقول للغلام: إنه لخير له أن يأتي بالخبز في خمس ثوانٍ، وإلا فسيعرف السبب.

وقال المستر بكوك: «اسمح لي يا سيدي الكريم أن ألاحظ أن هذا لا يدعوك مطلقًا لهذا الانفعال الذي تبديه، إنني لم أحجز غير تذكرتين في الداخل.»

وقال الرجل المتوحش: «يسرني أن أسمع ذلك، وأسحب ما قلت، وأقدم اعتذاري، ها هي ذي بطاقتي، فأعطني بطاقتك؛ لأتعرف بك.»

وأجاب المستر بكوك: «بكل سرور يا سيدي، سنكون رفقاء في السفر، وأرجو أن يطيب لنا جميعًا هذا الاجتماع الذي تواتى لنا.»

وقال السيد المتوحش: «أرجو ذلك، بل أعرف أننا سنغتبط به؛ إن وجهكم يروقني، وتسرني ملامحكم، أيها السادة، عليَّ بأيديكم وأسمائكم، أعرفوني.»

وتلت هذا الحديث اللطيف بالطبع تسليمات متبادلة وتحيات ودية، وانثنى السيد المتوحش في الحال ينبئ الصحاب بعين العبارات القصار المتقطعة القافزة التي أسلفناها عليك أنه يُدعى داولر، وأنه ذاهب إلى باث؛ طلبًا للنزهة والمتعة، وأنه كان من قبلُ في خدمة الجيش، ولكنه الآن يشتغل بالأعمال، وأنه سيد حر التصرف، وأنه ينفق على نفسه من الأرباح التي يجمعها من التجارة، وأن الشخص الذي حجز له المقعد الآخر ليس سوى مسز داولر قرينته الفاضلة.

ومضى المستر داولر يقول: «إنها امرأة ظريفة، وإني بها لفخور بحق.»

وقال المستر بكوك وهو يبتسم: «أرجو أن تكون لي متعة الحكم بنفسي.»

وأجاب داولر: ستكون لك، وستعرفك، وستقدرك. لقد كانت خطبتي لها في ظروف غريبة؛ فلقد ظفرت بها بسبب يمين طائشة، وإليك النبأ: رأيتها، أحببتها، خطبتها، رفضتني، قلت: أتحبين غيري؟ قالت: «لا تحرجني وتخجلني.» قلت: «أعرفه؟» قالت: «تعرفه.» قلت: «حسن جدًّا، إذا بقي هنا فسأسلخ جلده.»

وقال المستر بكوك رغم إرادته: «رحمتك يا رب!»

وسأل المستر ونكل وهو شاحب الوجه: «وهل سلخت جلده حقًّا يا سيدي؟»

وأجاب السيد المتوحش: «بعثت إليه بكتاب، قلت: إنه لشيء أليم. وكان ذلك فعلًا.»

وقاطعه المستر ونكل قائلًا: «بلا ريب.»

ومضى السيد المتوحش يقول: «قلت: إنني أقسمت بشرفي — وأنا سيد مهذب — أن أسلخه، وكنت محرجًا أخشى أن يضيع شرفي، لا سبيل أمامي غير تنفيذ وعيدي، وإنني بوصفي ضابطًا في خدمة صاحب الجلالة مضطر إلى سلخه، وكنت آسفًا لهذا الاضطرار، ولكن لا مفر منه، وكان ممن يقتنعون؛ فقد وجد أن قواعد الخدمة في الجيش ملزِمة فلجأ إلى الهرب، فتزوجتُها، ها هي ذي المركبة، ها هو ذا رأسها.»

وما كاد المستر داولر يُتم هذا القول، حتى أشار إلى مركبة قد وقفت عندئذٍ بالباب، وأطل من نافذتها المفتوحة وجه مليح، في قبعة زرقاء زاهية الزرقة، وهو يرسل نظره باحثًا بين القوم الوقوف فوق الإفريز، وأكبر الظن عن الرجل المتهور نفسه، وبادر المستر داولر إلى دفع حسابه، وأسرع بقبعته، ومعطفه، وقبائه، وانطلق المستر بكوك وصحبه في أثره ليحتلوا أماكنهم.

وجلس المستر طبمن والمستر سنودجراس في الجزء الخلفي من المركبة، واحتل المستر ونكل مكانه في داخلها، واستعد المستر بكوك للدخول في أثره، وإذا سام ولر يتقدم نحو سيده، ويهمس له في أذنه، راجيًا أن يأذن له في الكلام معه، وكان مظهره محيرًا غامضًا أشد الغموض.

وقال المستر بكوك: «إيه يا سام؟ ما الخبر الآن؟»

وأجاب سام: «شرك نُصِبَ لنا يا سيدي.»

وسأله المستر بكوك قائلًا: «ماذا؟»

وأجاب سام: «إنني أخشى كثيرًا يا سيدي، أن صاحب المركبة يلعب علينا لعبة جريئة يا سيدي.»

وقال المستر بكوك: «وكيف ذلك يا سام؟ أليست أسماؤنا مكتوبة في قائمة المسافرين؟»

وأجاب سام: «إن الأسماء ليست مكتوبة فيها فقط ولكن نسخة منها ملصوقة أيضًا بباب المركبة.»

وأشار سام إلى الباب حيث جرت العادة أن يكتب اسم صاحب المركبة في ناحية منه؛ فإذا ذلك الاسم السحري بكوك مكتوب فيها بأحرف كبيرة مذهبة.

وصاح المستر بكوك، وهو مأخوذ بهذه المصادفة: «يا عجبًا! ما أغرب ذلك وما أعجب!»

وقال سام: «ولكن ليس هذا هو كل ما في المسألة.»

وعاد يسترعى نظر سيده إلى باب المركبة، ومضى يقول: «إنهم لم يكتفوا بكتابة بكوك فقط، بل وضعوا أمامه كلمة موزس،١ وهو ما أسميه زيادة الطين بلة، كما قالت الببغاء، حين لم يكتفوا بنقلها من بلادها، بل علموها أيضًا كيف تنطق بالإنجليزية!»

وقال المستر بكوك: «هذا شيء غريب فعلًا يا سام، ولكننا سنفقد أماكننا إذا نحن وقفنا هنا نتكلم.»

وصاح سام مبهوتًا من هذا البرود الذي راح المستر بكوك يدخل به جوف المركبة: «ما هذا؟ ألا شيء يمكن أن يعمل في هذه المسألة يا سيدي؟»

وقال المستر بكوك: «يعمل! ماذا يصح أن يعمل؟!»

وأجاب سام ولر الذي كان ينتظر أن يطلب إليه سيده على الأقل أن يطلب حارس المركبة والسائق إلى الملاكمة في الحال: «ألا يجب تأديب أحد على هذه الجرأة يا سيدي؟»

وأجاب المستر بكوك بجد: «كلا، بلا شك إطلاقًا، هيا اقفز إلى مقعدك في الحال.»

وتمتم سام لنفسه، وهو يتولى عن سيده: «أخشى كثيرًا أن تحولًا قد طرأ على أحوال المعلم، وإلا لما قابل هذه المسألة بكل هذا الهدوء، أرجو ألا تكون هذه المحاكمة قد هدمت قواه، إن هذه حالة سيئة، سيئة جدًّا.»

ومضى المستر ولر يهز رأسه بأسف بالغ، ومما يجدر بنا ذكره لوصف مبلغ أسفه على هذا الأمر أنه يَفُهْ بكلمة واحدة، حتى وصلت المركبة إلى باب العوائد في كنسنجتن، وهي فترة طويلة جدًّا بالنسبة إلى رجل كثير الكلام مثله، أطول من أن يطيق فيها السكوت، فلا بأس من أن نعد هذه الحقيقة حادثًا لا سابق له!

ولم يحدث خلال الرحلة شيء يستحق الذكر؛ فقد مضى المستر داولر يروي نوادرَ عدةً، تُصَوِّرُ براعته الشخصية وجرأته، ويستشهد على صحتها بمسز داولر، فكانت زوجته تُذَيِّلُهَا بحكايات أخرى تروي بها واقعة ذات بال كان داولر قد نسيها أو لعله من التواضع أغفلها، وكلها تدل على أنه أغرب وأعجب ممَّا صور نفسه، وكان المستر بكوك والمستر ونكل يصغيان بإعجاب بالغ، وأحيانًا يتحدثان إلى مسز داولر، التي بدت محببة إلى النفوس جذابة تستهوي الأفئدة، وبفضل أقاصيص المستر داولر، ومجانة المستر بكوك، وحسن إصغاء المستر ونكل، استطاع الركب داخل المركبة أن يجعلوا الرحلة طول الطريق طيبة ممتعة.

وفعل الركب في الخارج كما يفعل المسافرون أبدًا فيه؛ فقد بَدَوْا مرحين، كثيري الكلام، في بداية الرحلة، ثم انقلبوا مكتئبين مهمومين في منتصف الطريق، ثم عادوا أيقاظًا فَرِحين مشرقي الوجوه قُبَيْلَ انتهائها، وكان من بينهم فتى في قباء من المطاط الهندي، ظل طيلة النهار يدخن اللفائف الكبيرة المستطيلة، وآخر جعل يمزح على معطف كبير، ويشعل عدة لفائف، ولا يكاد يأخذ من كل واحدة منها نفسين اثنين، حتى يبدو غير مستقر، فيلقي بها بعيدًا كلما ظن أن لا أحد منتبه إليه. وثالث طفق يتحدث عن الماشية؛ ليظن سامعوه أنه بها الخبير العليم. وكان من بينهم كذلك شيخ في المؤخرة خبير بالزراعة، وجمعٌ متوالٍ من الناس في سراويلَ رسمية سوداء، وأردية بيض، ظل حارس المركبة طيلة الطريق يدعوهم إلى الركوب تكرُّمًا منه، وهم يعرفون كل حصان وسائس على الطريق وعن جانبيه، وكان على المركبة «غداء» كان سيروح رخيصًا، لا تتجاوز أكلة الفرد نصف كراون لو أن عدد الآكلين كان كبيرًا.

وفي تمام الساعة السابعة من المساء انتهت الرحلة، وأوى المستر بكوك وأصحابه، والمستر داولر وزوجته إلى الغرف الخاصة التي أُعِدَّتْ لهم في فندق هوايت هارت المقابل لحمامات المياه المعدنية الكبرى في باث، حيث يحسب المرء أن غلمانه من ثيابهم هم خدم وستمنستر لولا أنهم يزيلون هذا الظن الخادع بأدبهم وحسن سلوكهم.

وما كادت الأواني تُرفع عن مائدة الفطور في صباح اليوم التالي، حتى جاء غلام يحمل بطاقة المستر داولر، ورجاء منه أن يسمح له بتقديم صديق له. وجاء المستر داولر على أثر الخادم الذي يحمل بطاقته يسوق إلى المستر بكوك وأصحابه صديقه الذي يرجو تقديمه إليهم.

وكان هذا الصديق شابًّا ظريفًا لا يتجاوز الخمسين كثيرًا، مرتديًا سترة زرقاء زاهية ذات أزرار برَّاقة، وفي سراويل سود، وحذاء لامع شديد اللمعان، دقيق إلى أبعد حدود الدقة، ومن رقبته يتدلى منظار ذهبي، في شريط قصير عريض، وقد أمسك بيسراه في خفةٍ علبة سعوط من الذهب، وتبرق في أنامله عدة خواتم ذهبية، ويتلألأ في قميصه دبوس من الماس المرصع بالذهب، وله ساعة من ذهب أيضًا، وسلسلة منه كذلك، وأختام كبيرة من الذهب مثلها، وهو يحمل عصا لدنة في لون الأبنوس، ذات مقبض كبير من الذهب، ويبدو قميصه أنصع ما يكون بياضًا، وأبدع ما يكون شكلًا، وأكثر ما يكون نشاء، وضفيرة شعره متناهية البريق، مفرطة في السواد، متجاوزة الحد في التجعُّد، وكان سعوطه من سعوط الأمراء، وعطره من رائحة بوكيه دي روا،٢ وقد لازمت تقاسيم وجهه ابتسامة لا تفتر عنه، وبدت أسنانه من الكمال والتمام بحيث يصعب من بعيدٍ التفريق بين الحقيقية منها والصناعية.

وقال المستر داولر: «يا مستر بكوك، هذا صديقي السيد أنجلو سايرس بنتم، من حملة وسام الصليب الحربي، يا مستر بنتم أقدم إليك المستر بكوك، تعارفا.»

وقال الصديق: «مرحبًا بك يا سيدي في باث، هذا تشريف لها حقًّا، مرحبًا يا سيدي في باث! لقد طال العهد كثيرًا يا مستر بكوك منذ شربت من مياهها، يخيل إليَّ من طوله أنه جيل من الزمان، يا مستر بكوك، شيء رائع!»

وبهذه العبارات تناول أنجلو سايرس بنتم حامل وسام الصليب الحربي يد المستر بكوك، وأبقاها في يده، وهز كتفيه، ولبث ينحني انحناءات متوالية، كأنما لا يقوى فعلًا على احتمال ترك المستر بكوك يسترد يده.

وأجاب هذا قائلًا: «إنه لعهد طويل حقًّا منذ شربت من هذه المياه؛ لأنني على قدر ما أعرف لم آتِ إلى هنا من قبلُ.»

وهنا صاح رئيس التشريفات وهو يترك اليد التي كان محتفظًا بها تتراخى دهشة واستغرابًا: «لم تأتِ قبل الآن إلى باث يا مستر بكوك؟! ولا مرة واحدة؟! ما هذا الكلام يا مستر بكوك؟! إنك لتضحك، لا بأس، لا بأس، جميل، جميل، ها، ها، ها، رائع!»

وأجاب المستر بكوك: «يخجلني أن أقول: إنني جادٌّ تمامًا فيما قلته؛ لأنني في الواقع لم آتِ إلى هنا قبل الآن.»

وقال رئيس المراسم وهو يبدو مغتبطًا كل الاغتباط: «آه، أنا فاهم، نعم، نعم، جميل، جميل، أجمل، وأجمل، أنت السيد الذي سمِعنا عنه، نعم، نحن نعرفك يا مستر بكوك، نحن نعرفك.»

وقال المستر بكوك لنفسه: «لا بد أن يكون مرجع ذلك إلى أخبار المحاكمة في تلك الصحف الملعونة، لقد علموا بكل شيء عني.»

واستتلى بنتم يقول: «أنت السيد الذي يقيم في كلابم جرين، والذي فقد قوة أطرافه من أثر التعرُّض بغير احتياط ولا حكمة للبرد بعد شرب النبيذ، حتى لم يعُد قادرًا على الحركة من حدة الألم، وجعلت المياه تأتيه معبَّأة في الزجاجات من الحمامات الملكية، بدرجة حرارة تبلغ مائة وثلاث درجات، وتُرْسَل إليه في المركبات إلى غرفة نومه في المدينة حيث استحم، وعطس، وفي اليوم ذاته تم له الشفاء، رائع جدًّا.»

وشكر المستر بكوك للرجل المجاملة التي انطوى هذا الظن عليها، ولكنه راح بتواضعه ينفي ما قيل عنه، وانتهز فرصة صمت حامل وسام الصليب الحربي لحظة، فقدم إليه أصحابه المستر طبمن، والمستر ونكل، والمستر سنودجراس، فاستولى على حامل الوسام لهذا التعريف الفرح، وغمره منه الشرف.

وقال المستر داولر: «إن المستر بكوك وأصحابه يا بنتم غرباء هنا، ولا بد لهم من كتابة أسمائهم، فأين الدفتر؟»

وأجاب حامل الوسام: «سيكون دفتر قيد أسماء كبار الزائرين في مبنى الحمامات في الساعة الثانية من صباح اليوم، فهلَّا مضيت بأصدقائنا إلى ذلك المبنى الفاخر وساعدتني في الحصول على توقيعاتهم.»

وأجاب داولر: «سأفعل، لقد أطلنا الزيارة وحان لنا أن ننصرف، وسأعود إلى هنا بعد ساعة … تعال بنا.»

وقال حامل الوسام: «وهو يتناول يد المستر بكوك مرة أخرى، عند نهوضه للانصراف: «هذه ليلة راقصة … إن الليالي الراقصة في باث هي لحظات مختلسة من الفردوس، تزيدها فتونًا، وسحرًا؛ الموسيقى، والجمال، والرشاقة، والأناقة، واللياقة، وفوق كل ذلك جميعًا، خلوها من أرباب الحرف والمهن؛ لأنهم لا يلائمون الفردوس مطلقًا، ولهم ليلة خاصة يجتمعون فيها بكل صنوفهم في قاعة الجلد هول مرة كل أسبوعين، وهو أمر أقل ما يقال فيه إنه رائع. إلى الملتقى، إلى الملتقى.» وظل وهو ينزل السلم يقول إنه في غاية السرور، والانشراح، والتأثر، والازدهار، حتى مشى إلى مركبة فاخرة كانت منتظرة بالباب فدرجت به.

وفي الموعد المعين ذهب المستر بكوك وأصدقاؤه، في حراسة المستر داولر، إلى قاعة الاجتماعات فقَيَّدُوا أسماءهم في الدفتر، فكان ذلك مثلًا من التنازل والتفضُّل قابله أنجلو بنتم بتأثرٍ أبلغَ من قبلُ، وكان حضور الحفلة التي ستُقام في المساء بتذاكر، ولكنها لم تكن أُعِدَّتْ، فتعهد المستر بكوك رغم اعتراضات أنجلو بنتم واحتجاجاته، أن يوفد سام ليتسلمها في الساعة الرابعة من الأصيل من دار حامل الوسام في شارع ميدان الملكة.

وخرج الصحاب لجولة قصيرة في أرجاء المدينة، ووصلوا بعد الجولة إلى رأي واحد، وهو أنَّ شارع بارك ستريت أشبه شيء بالشارع العمودي الذي يراه المرء في المنام، ولا يستطيع مطلقًا في الحلم أن يتسلَّقه، وعادوا أدراجهم إلى الفندق فأرسلوا سام في المهمة التي تعهَّد سيده أن يرسله إليها.

ووضع سام قبعته على رأسه بشكل رشيق كل الرشاقة، وبديع كل الإبداع، ودسَّ يديه في جيبي صداره، ومشى مشية التؤدة والخيلاء إلى ميدان الملكة صافرًا بفمه عدة أنغام وألحان شائعة في تلك الأيام، ويعزف بها على تلك الآلة الموسيقية البديعة، وهي الفم، أو المزمار، وحين وصل إلى رقم البيت الذي وجه إليه في ذلك الشارع، انثنى عن الصفير، ودق الباب دقة تنم عن البهجة والانشراح، فاستجاب لها في الحال حاجب طلا رأسه بالمساحيق، وارتدى حلة فاخرة، وهو سمهري القوام.

وسأل سام ولر دون أن يرتبك من هذا الرواء المتوهج الذي طلع فجأة على عينيه في شخص هذا الحاجب المتجمِّل المشتمل بتلك الحلة الباهرة: «أهذا مسكن المستر بانتام، أيها الشيخ؟»

وأجاب الحاجب المتكبر المزدهي بثوبه القشيب: «ولماذا تسأل أيها الفتى؟»

وقال سام: «لأنه إذا كان هو، فما عليك إلا أن تذهب إليه بهذه البطاقة وتقول له: إن المستر ولر منتظر من فضلك.»

وما كاد يقول ذلك حتى تقدم ببرود إلى الردهة وجلس.

وأغلق الحاجب ذو الرأس المجمَّل بالمساحيق الباب في أثره بعنف شديد، مزمجرًا بكل عظمة وكبرياء، ولكن سام لم يتأثر مطلقًا بذلك العنف، ولم يأبَهْ بتلك العظمة، وطفق يتأمل مشجبًا من خشب المجنة لتعليق المظلات بنظرة الناقد الخبير، والموافق الذي يعرف حق المعرفة كيف يقدر الأشياء.

والظاهر أن الاستقبال الذي استقبل به رب البيت البطاقة أحدث أثره الحسن في نفس الحاجب من جهة سام ولر؛ لأنه حين عاد من تسليمها ابتسم له ابتسامة مودة وقال: إن الرد سيأتي في الحال.

وقال سام: «جميل جدًّا، قل للسيد الكبير ألَّا يُجْهِدَ نفسه حتى يتصبب عرقًا، لا عجلة يا رَبَّ القوام السمهري؛ فقد تناولتُ غدائي والحمد لله.»

وقال الحاجب: «إنك تتعشى مبكرًا يا سيدي.»

وأجاب سام: «لأنني أجد نفسي مقبلة على العشاء كلما بكرت في الغداء.»

وسأل الحاجب: «هل قضيت وقتًا طويلًا في باث يا سيدي؛ لأني لم أحظَ بسماع شيء عنك قبل الآن؟»

وأجاب سام: «إنني لم أُحْدِثْ ضجة مدهشة هنا إلى الآن؛ لأنني أنا والسادات الكبار الآخرين لم نصل إليها إلا في الليلة الماضية.»

وقال الحاجب ذو الرأس المطلي بالمساحيق: «مدينة لطيفة يا سيدي؟»

وأجاب سام: «يظهر أنها كذلك.»

وعاد الحاجب ذو الرأس المطلي بالمساحيق يقول: «والمجتمع فيها لطيف يا سيدي، والخدم ظرفاء جدًّا؟»

وأجاب سام: «أعتقد أنهم كذلك، أناس لطاف لا تظاهر عندهم، ولا يقولون لأحد شيئًا.»

وقال الحاجب ذو الرأس المطلي بالمساحيق وقد عد ملاحظة سام تحية طيبة ومجاملة كريمة: «فعلًا يا سيدي، إن الأمر كذلك حقيقة … هل لك في شيء من هذا يا سيدي؟» وانثنى يخرج علبة سعوط صغيرة رُسِمَ على غطائها رأس ثعلب.

وأجاب سام: «نعم، ولكني أعطس منه دائمًا.»

وقال الحاجب المديد القامة: «لك حق، إنه صعب يا سيدي، يصح أن يؤخذ بالتدريج يا سيدي. إن القهوة أحسن عادة، وقد اعتدتُ تناولها يا سيدي من عهد بعيد، إنها شديدة الشبه بالسعوط.»

وهنا دق الجرس بعنف، فاضطر الحاجب كارهًا إلى إعادة رأس الثعلب إلى جيبه وأسرع في خشوع إلى مكتب المستر بنتم، وعلى ذكر الكتب، أقول من ذا الذي لم يَرَ يومًا رجلًا لا يقرأ في حياته ولا يكتب، ولكنه مع ذلك يملك حجرة خلفية صغيرة في داره يسميها مكتبًا؟!

وعاد الحاجب إلى سام فقال: «ها هو ذا الرد يا سيدي، أخشى أن تجده كبيرًا غير مريح.»

وتناول سام كتابًا ينطوي على شيء صغير قائلًا: «العفو، لا تعب ولا شيء من هذا، إنه ليس أكثر مما يستطيع الإنسان المجهد أن يطيقه.»

وقال الحاجب ذو الرأس المطلي بالمساحيق وهو يفرك يديه ويتبع سام إلى عتبة الباب: «أرجو أن نلتقي مرة أخرى يا سيدي.»

وأجاب سام: «إنك لكريم يا سيدي، والآن لا تجهد نفسك فوق طاقتك، إنك لإنسان ظريف، تذكر أن المجتمع محتاج إليك، فلا تؤذِ نفسك بكثرة العمل، بل في سبيل خير الناس، التزِم الهدوء ما أمكن، وفكِّر أي خسارة سيعانيها المجتمع من فقدك!»

وبهذه الكلمات المؤثرة انصرف سام ولر، تاركًا ذلك الحاجب يقول، وهو يرسل البصر في أثره، ويلوح على وجهه أنه حائر في أمره: «هذا شاب غريب جدًّا.»

ولم يقل سام شيئًا، بل غمز بطرف عينه، وهز رأسه، وابتسم، ثم غمز مرة أخرى، وانطلق بمرح وعلى وجهه من الأمارات ما يدل بوضوح على أنه مسرور كل السرور من شيء ما.

وقبل الثانية من مساء اليوم ذاته بعشرين دقيقة تمامًا، خرج السيد أنجلو سايرس بنتم رئيس التشريفات، من مركبة عند وصولها إلى باب قاعة الاجتماعات، وعلى رأسه الضفيرة ذاتها، وفي فمه الأسنان عينها، وفي قميصه الدبوس نفسه، وفي يده العصا المعهودة، وكل ما بدا على مظهره من التغيرات أنه جاء مرتديًا سترة أزهى زرقة، وبطانة من الحرير الأبيض، وأربطة سوداء، وجوربًا حريريًّا أسود، وحذاء رقص، وصدارًا ناصع البياض، وكان يبدو — إذا جاز لنا أن نقول — أكثر تعطُّرًا، وأفوح عبقًا.

ووقف رئيس التشريفات، وهو في تلك البَزَّةِ؛ ليؤدي الواجبات الخطيرة التي تتصل بمنصبه الخطير كل الخطورة؛ ليستقبل الجمع في الحجرات.

وكانت باث مزدحمة بالوافدين، فلا عجب إذا تدفق الناس، واستفاضت أقداح الشاي لقاء ستة بنسات، على تلك القاعات، زرافاتٍ وأفواجًا، وكانت الأصوات، ومواقع الأقدام — في قاعة الرقص، وقاعة الميسر المستطيلة الشكل، وقاعة اللعب الأخرى المثمنة الأضلاع — مدهشة مذهلة للأذهان، وللثياب فيها حفيف، وللريش خفق، وللأضواء وهج، ولكرائم الجواهر سناء يخطف بالأبصار، وكانت ثمة أنغام الموسيقى مترددة الأصداء، لا موسيقى رقصات الكوادريل؛ لأنها لم تكن قد بدأت بعد، ولكن موسيقى الأنغام الناعمة، والألحان التوقيعية الخفيفة، بينما كانت ترتفع بين لحظة وأخرى ضحكة مرحة زائقة، وإن كانت حلوة في الأسماع، من صوت أنثى، سواء في باث أو سواها، وكانت الأعين البراقة التي يلتمع في نظراتها بريق الانتظار، وخطف السرور، ترنو في كل ناحية، وتشع من كل جانب، فحيثما ألقيت البصر رأيت قدودًا مرهفة تتسلل في رفق وجمال من خلال الزحام، فلا تكاد تتوارى عن عينيك، حتى تطالعك أخرى في مثلها رقة وسحرًا.

وفي قاعة الشاي، وحول نضد اللعب، ترى أسرابًا حائماتٍ من الغيد الكبار في السن، وشيوخًا من العجزة ذوي العاهات، يتحدثون في سفاسف الأمور، وفضائح اليوم، بلذة بالغة، وحماسة ظاهرة تنم بجلاء عن شدة السرور الذي يجدونه من تلك الأحاديث، وقد اختلطت بهذه الجماعات ثلاث أمهات أو أربع، خاطبات لبناتهن، يلحن منهمكات في الحديث الذي يسهمن فيه، وإن مضين بين لحظة وأخرى يلقين نظرات جانبية إلى بناتهن، وقد تذكر أولاء نصيحة أمهاتهن لهن بوجوب الاستمتاع بشبابهن ما استطعن، فبدأن مقدمات فنون الغزل، بوضع اللفاعات في غير الأماكن المخصصة لها، ولبس القفازات، وصَفِّ الفناجين، وما إليها، وهي أشياء تلوح في ظاهرها تافهة، ولكنها قد تتطور بشكل مدهش إلى مواقفَ طيبةٍ ببراعة الخبراء.

وعلى الأرائك القريبة من الأبواب، وفي الأركان القصية، شهد جماعات من الفتيان الحمقى والسخفاء، يبدون أنواعًا منوعة من النزق والحماقات؛ ليدخلوا السرور على نفوس الحساسين القريبين منهم بالطيش والغرور، ويحسون أنهم موضع الإعجاب العام، وهو منزع حكيم رحيم، لا يدعو الرجل العاقل إلى الاشتجار بسببه، أو الدخول في نزاع عليه.

وأخيرًا، على بعض المقاعد الخلفية ترى نساءٌ عوانسَ، تجاوزن سن الزواج، وجئن فاتخذن مجالسهن لمتعة المساء، فلا يرقصن؛ لأنهن لا يجدن مُراقصين، ولا يلعبن الورق حتى لا يظن أنهن عانسات لا يرغبن في الزواج، ولا ينثنين عن العزوبة، فبقين لهذا كله في مركز موائم يتيسر لهن فيه التنديد بأي أحد أو السخرية من أي إنسان، دون أن تنعكس السخرية عليهن، وجملة القول أنهن القادرات على اغتياب أي إنسان؛ لأن كل إنسان هناك، لقد كان هذا التهانُف مشهدًا من ألوان البهجة البراقة، أو معرضًا من نفس الثياب، وأبدع الأزياء، وسط المرايا الجميلة، والأرضية المكسوة بالطباشير، والثريا والشموع وفي كل ناحية من هذا المشهد، ومن موضع إلى آخر، في رقة صامتة، وانحناءة ظاهرة، لهذا الجمع الجامع، مومئًا لهذا إيماءة الألفة، ومبتسمًا لذاك ابتسامة الرضى واللطف، بدا السيد أنجلو سايرس بنتم رئيس التشريفات، في زيه الأنيق وبزته المتقنة.

وقال المستر داولر بصوت مرتفع، موجهًا المستر بكوك، حين تقدم على رأس جمعه الصغير، وشابكًا ذراعه بذراع مسز داولر: اجلسوا في قاعة الشاي، وتناولوا منه بقدر ستة بنسات. إنهم يضعون الماء الساخن ويسمونه «شايًا»؛ اشربوه! وإلى قاعة الشاي اتجه المستر بكوك، فما إن لمحه المستر بنتم، حتى راح يشق طريقه في غمار الزحام ويرحب به في سرور شديد قائلًا: «شرفتنا كل التشريف يا سيدي العزيز، إن باث لسعيدة، يا مسز داولر إنك لزينة المكان، وأهنئك بهذا الريش الجميل، رائع.»

وقال داولر بلهجة المستريب: «هل أحد هنا؟»

وأجاب بنتم: «هل أحد هنا؟ إن هنا الصفوة المختارة والعلية كلها، ألا ترى يا مستر بكوك تلك الغادة التي تبدو في تلك العمامة الشفافة الناعمة؟»

وقال المستر بكوك ببساطة: «أتعني السيدة العجوز البدينة؟»

وأجاب بنتم: «صه يا سيدي العزيز، لا أحد في باث بدين ولا عجوز، وهذه هي السيدة اسنفنف العريقة المحتد.»

وقال المستر بكوك: «أهي حقًّا؟»

وأجاب رئيس التشريفات: «أؤكد لك أنها هي لا سواها، صه! اقترب قليلًا يا مستر بكوك، ألا ترى ذلك الشاب في الثوب الفاخر القادم نحونا؟»

وسأله المستر بكوك: «أتعني ذا الشعر الطويل والجبهة الصغيرة؟»

وأجاب بنتم: «هو ذاته، إنه أغنى شاب في باث هذه اللحظة، إنه اللورد الشاب مطنهد.»

وقال المستر بكوك: «لا تقل هذا الكلام، أحقًّا هو؟»

وأجاب رئيس التشريفات: «نعم، وستسمع بعد لحظة صوته يا مستر بكوك، إنه سيكلمني، أما السيد الآخر الذي معه في الصدار الأحمر وذو الشارب الأسود فهو السيد المحترم المستر كرشتن صديقه الحميم، كيف أنت يا سيدي اللورد؟»

وقال اللورد — وهو يلثغ: «حر شديد يا بنتم.»

وأجاب حامل وسام الصليب الحربي: «الجو حار جدًّا يا سيدي اللورد.»

وقال السيد المحترم كرشتن: «عليه اللعنة.»

والتفت السيد المحترم إلى المستر بنتم بعد لحظة سكوت كان اللورد مطنهد الشاب يحاول فيها أن يرمق المستر بكوك بنظرة طويلة مربكة: «هل رأيت مركبة البريد الخاص باللورد يا بنتم؟»

وكان المستر بكوك في تلك اللحظة يفكر في أي الموضوعات يحسن اللورد الكلام ويجيد الحديث.

وأجاب حامل الوسام: «لا واللهِ، مركبة للبريد؟! ما أبدع الفكرة! شيء رائع!»

وقال اللورد: «يا إله السموات، لقد كنت أظن أن كل إنسان قد رأى مركبة البريد الجديدة، إنها لأكثر ما رأيت أناقةً وإنها لأبدع وأجمل شيء جرى على عجلات، ذات طلاء أحمر مخلوط بلون الزبد.»

وقال السيد المحترم كرشتن: «وبها صندوق أحمر للبريد وكلها كاملة تمامًا.»

وتبعه اللورد قائلًا: «ولها مقعد صغير في المقدمة ذو سياج حديدي للسائق، وقد سقتها بنفسي إلى برستول صباح أمس الأول، وأنا مرتدٍ سترة حمراء، ومعي خادمان يركبان في مركبة أخرى على مبعدة ربع ميل مني، وقد خرج الناس من أكواخهم وشاهدوا مدى براعتي، حتى لقد ظنوا أنني ساعي البريد، شيء مفتخر، مفتخر!»٣

وضحك اللورد لهذه الحكاية التي حكاها من صميم قلبه كما ضحك لها السامعون طبعًا، وعندئذٍ وضع اللورد ذراعه تحت ذراع المستر كرشتن الخانع وانصرفا.

وقال رئيس التشريفات عقب انصرافهما: «اللورد الشاب لطيف جدًّا.»

وقال المستر بكوك بفتور: «أظنه كذلك.»

ولما بدأ الرقص، وبعد أن تعارف الحاضرون التعارُفَ الذي لا بد منه، وأُعِدَّتِ المعدات الأولية الضرورية، عاد السيد أنجلو بنتم إلى المستر بكوك فمشى به إلى قاعة اللعب، وفي تلك اللحظة بالذات التي دخلا القاعة فيها، كانت السيدة «اسنفنف» وسيدتان أخريان تلوحان قديمتين في لعب «الوست» عريقتين في القمار، حائمات حول مائدة لا يشغلها أحد، فما كادت أعينهن تستقر على وجه المستر بكوك القادم في حراسة أنجلو بنتم، حتى تبادلن النظرات؛ فقد رأين أنه الشخص المطلوب بعينه لملاعبته.

وقالت السيدة اسنفنف مداعبة: «يا عزيزي بنتم، ابحث لنا عن شخص ظريف لنستكمل به هذه المنضدة، ها هو ذا إنسان لطيف!»

وكان المستر بكوك بالمصادفة ينظر في تلك اللحظة إلى ناحية أخرى فأومأت السيدة برأسها صوبه وعبست عبسة ذات تعبير بليغ.

وقال حامل الوسام عملًا بهذه الإشارة: «إن صديقي المستر بكوك يا مولاتي سيكون أسعد إنسان، بلا شك، رائع! يا مستر بكوك، هذه هي السيدة اسنفنف، ومسز كرنل وجزبي ومس بولو.»

وانحنى المستر بكوك لكل سيدة منهن، ووجد الفرار مستحيلًا، فامتثل ووزَّع اللعب، فكان المستر بكوك ومس بولو في ناحية، والسيدة اسنفنف ومسز كرنل وجزبي، في الأخرى.

وفيما كانت الورقة الرابحة يلوح بها في بداية الدور الثاني، دخلت القاعة سيدتان في مقتبل العمر مهرولتين، فاتخذت كل منهما موقفها عن أحد جانبي مسز كرنل وجزبي.

وقالت هذه السيدة ملتفتة إلى إحدى الشابتين: «والآن يا جين، ما الخبر؟»

وهمست جين وهي أملح الفتاتين وأصغرهما سنًّا قائلة: «لقد جئت لأسأل يا أماه هل أرقص مع المستر كرولي الأصغر؟»

وأجابتها أمها مغضبة: «يا للعجب يا جين! كيف يمكن أن تفكري في هذه الأشياء؟! ألم تسمعي مرارًا أن أباه لا يملك أكثر من ثمانمائة في السنة وأن هذا الإيراد سيموت بموته؟! إني منك لخجلى، كلا لا تراقصيه بأي حال من الأحوال.»

وهمست الفتاة الأخرى، وكانت أكبر كثيرًا من أختها ولكنها تبدو تافهة، متصنعة: «اسمعي يا أماه، لقد عرفوني باللورد مطنهد، فقلت: إنني أظن أنني لست مخطوبة يا أماه.»

وأجابت مسز كرنل وجزبي قائلة وهي تلاعب خد ابنتها بمروحتها: «أنت بديعة يا حبيبتي يعتمد عليك في كل حين، إنه غني عريض الثراء يا عزيزتي، بارك الله فيك.»

قالت هذه الكلمات ثم قبَّلت ابنتها الكبرى قبلة حب شديد، وعبست عبسة وعيد في وجه الأخرى، وأكبت على أوراقها تتطلع فيها وترتبها.

ولم يكن المستر بكوك المسكين قد لاعب قبل الآن ثلاث مقامرات عريقات في الميسر مثل أولئك؛ فقد كن من الجرأة والحدة بحيث أشفق منهن وخاف خوفًا شديدًا، وإذا هو لعب لعبة مخطئة، أو ألقى بورقة سيئة، حدجته شريكته مس بولو بنظرة قاسية، وإذا هو تمهل ليفكر أي الأوراق التي في يديه أصلح للإلقاء بها، استندت السيدة اسنفنف إلى ظهر مقعدها، وابتسمت ابتسامة اختلط فيها القلق بالرثاء، في وجه مسز كرنل وجزبي فقابلتها هذه بهزة من كتفيها، وسعلة من سعالها، كأنما تريد أن تقول لها إنها لفي عجب لا تدري متى يلعب، وجعلت مس بولو في نهاية كل دور تتساءل في عبسة كئيبة، وزفرة عتب: لماذا لم يعمد المستر بكوك إلى استرداد «الديناري»، أو إلقاء «الإسباني» أو «البستوني» أو حجز «القلب» إلى النهاية، أو متابعة اللعب إلى «كسب الشرف»،٤ أو لماذا لم يُلقِ بالآس، أو يلعب «بالملك»، وما إلى ذلك ونحوه، فكان المستر بكوك في الرد على هذه التهم الخطيرة كلها، يرتبك ويعجز عن التشفع لنفسه، أو تبرير خطئه؛ لأنه من ارتباكه قد نسي كل شيء عن الميسر ولعبه، وجاء الناس، وأطلوا على اللعب أيضًا، فكان هذا سببًا آخر لارتباكه واضطراب أعصابه.
وكان الكلام الكثير الدائر بقرب المنضدة، بين أنجلو بنتم والآنستين متنترز اللتين جعلتا تُبديان لطفًا بالغًا لرئيس التشريفات على أمل أن يقدم إليهما شابًّا تائهًا من حين إلى آخر، لمحاولة اقتناصه؛ لأنهما عانسان لم يوفقا في ميادين الزواج، وكان هذا الكلام الكثير — فوق كل شيء — سببًا قويًّا في ربكة المستر بكوك وشرود باله، بل لقد اقترنت هذه الأسباب كلها بالضوضاء وأصوات الرائحين والغادين، ومقاطعاتهم، فجعلته لا يحسن اللعب، وتركت «الورق» يأتي معاكسًا له، وحين انفض اللعب بعد الحادية عشرة بعشر دقائق، نهضت مس بولو من مجلسها منفعلة انفعالًا شديدًا وانصرفت رأسًا إلى بيتها، وهي في فيض من الدموع والعبرات محمولة في محفة.٥

وتوافى إليه أصحابه مجمعين على القول أنهم قضوا ليلة نادرة قلَّما استمتعوا من قبلُ بمثلها، فاصطحبهم إلى الفندق، ومضى يرفِّه عن نفسه بشراب ساخن، ثم أوى إلى فراشه، فما كاد يلقي رأسه فوق الوسادة، حتى ذهب في سبات عميق.

١  «موزس» تعني «موسى» وقد اختلطت الأسماء فظن سام أن الأمر مدبر، وأراد اتخاذ إجراء فيه.
٢  رائحة عطرية من أذكى الروائح في تلك الأيام، ومعناها: «باقة الملك».
٣  جعل المؤلف هذا اللورد ألثغ مكثرًا من استعمال الراء يحيلها ملثغة «واوًا» ومضى يجعل الحديث كله هكذا، وهو ما لا سبيل إليه هنا.
٤  كلها رميات وألعاب معروفة عند لاعبي الميسر.
٥  كرسي خاص يجلس فيه Sedan chair العظماء ويحمله الخدم على الأكتاف.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤