الفصل السادس والثلاثون

وسنرى أن أبرز معالمه صورة صادقة لأسطورة الأمير «بلادود» وحادث غير مألوف يقع للمستر ونكل.

***

وكان المستر بكوك يفكر في إطالة المقام في باث شهرين على الأقل، ولهذا رأى من الخير أن يتخذ مسكنًا خاصًّا له ولأصحابه طيلة هذه الفترة، ولم تلبث أن سنحت له فرصة طيبة للظفر لقاء أجر معتدل بالجزء الأعلى من منزل في حي «الهلال الملكي» أرحب ممَّا كانوا يطلبون، فعرض المستر داولر وزوجته أن يستأجرا منهم غرفة نوم وحجرة جلوس فقبلوا الاقتراح في الحال، ولم تنقضِ ثلاثة أيام حتى استقروا جميعًا في مسكنهم الجديد، وبدأ المستر بكوك يشرب المياه المعدنية، عاكفًا عليها أشد العكوف؛ فقد أخذ يتناولها بنظام معين، فيتناول ربع فنت١ قبل الفطور، ثم يذهب صاعدًا الجبل، ثم يعود فيتناول ربعًا آخر بعد الفطور، ثم ينزل من الجبل، وهو عقب كل شربة جديدة يعلن في أشد عبارات الجد والتوكيد أنه يشعر بتحسن بالغ، فكان أصحابه يبتهجون بسماع ذلك منه كل الابتهاج، وإن لم يعلموا من قبلُ شيئًا عن مرضه، أو رأوا عليه أثر أي اعتلال.
وكانت القاعة الكبرى في مبنى الحمامات بهوًا فسيحًا، مزدانًا بأعمدة «كورنثية»٢ ومكان مخصص للموسيقى، وفيها ساعة جدار من النوع المعروف «بالتومبيون»، وتمثال «لناش»٣ ونقوش ذهبية يتعين على جميع «الشاربين»٤ الالتفات إليها؛ لأنها تتوسل إليهم أن يتبرعوا لعمل خيري يستحق البر والإحسان، وفي القاعة مكان شراب رحيب عليه آنية من المرمر يخرج الماء منه منبجسًا لطلابه، وقد صفت من فوقه أكواب صُفر يتناولونها فيها، وإنه لمشهد يرتاح إليه الخاطر كل الارتياح، أن ترى المثابرة والجد اللذين يبتلعون الماء بهما، وهناك حمامات على مقربة، حيث يستحم منهم فريق، وفرقة موسيقى تعزف الأنغام بعد الاستحمام، مهنِّئة إياهم بنعمة الحمام والشفاء، وثم حمام آخر تُساق إليه القواعد من النساء والعجائز والشيوخ ذوو العاهات في أنواع وأشكال مدهشة من المقاعد والمحفَّات ذات العجلات، حتى ليتعرض كل إنسان جريء أوتي قدمين سليمتين مستكملتي الأصابع لخطر فقدانها والخروج من المكان بغيرها، وثم حمام ثالث، يذهب إليه الذين اعتادوا الهدوء؛ لأنه أقل جلبة من الحمامين السابقين، ويكثر في هذا الموضع التمشي والفسحة والرياضة، بالعكازات أو بدونها، أو على العصي ومن غيرها، كما يكثر فيه الحديث، والفكاهة والمرح.

ويجتمع في كل صباح الشاربون بانتظام — ومن بينهم المستر بكوك — في تلك القاعة، فيتناولون قسطهم المألوف من الماء — ربع الفنت كما علمت — ويتمشون المشية الرياضية المعتادة، وفي مشية الأصيل يتلاقى هناك اللورد مطنهد، والسيد المحترم المستر كرشتن والسيدة اسنفنف، ومسز كرنل وجزبي، وكل العلية والأكابر، وجميع الشرب في الصباح، في حشد حاشد، وينطلقون بعد ذلك مشاة، أو في المركبات أو مسوقين فوق مقاعد الحمامات، فيتلاقون مرة أخرى، ثم ينصرف السادات إلى قاعات المطالعة، ويلتقون بمختلف أنماط الناس وأصنافهم، وبعدئذٍ ينقلبون إلى بيوتهم، فإن كان في الليل تمثيل فقد يتلاقون في دار التمثيل، وإن كان فيه اجتماع اختلفوا إلى القاعات، فإذا لم يكن هذا ولا ذاك، اجتمعوا غداة اليوم التالي، وهو نظام رتيب لطيف بهيج، وإن لم يخلُ من بعض التشابُه، وصبغة من التماثل المتكرر.

وكان المستر بكوك جالسًا وحده، عقب نهار قضاه على هذا النحو، فيكتب يومياته في مفكرته، وكان أصحابه قد آووا إلى مضاجعهم، وإذا هو ينتبه على دق رفيق بباب غرفته.

وجاءت مسز «كرادوك» ربة البيت تطل منه قائلة: «أرجو المعذرة يا سيدي؛ ولكن هل طلبت شيئًا آخر يا سيدي؟»

وأجاب المستر بكوك: «لا شيء آخر يا سيدتي.»

وقالت مسز كرادوك إن ابنتي الصغيرة قد ذهبت إلى فراشها يا سيدي، وقد تكرَّم المستر داولر فقال: إنه سيظل ساهرًا حتى تعود مسز داولر؛ لأن الحفلة لا ينتظر أن تنتهي إلا في موهن من الليل، ولهذا فكرت في سؤالك: «هل تريد شيئًا، قبل أن آوي إلى الفراش؟»

وأجاب المستر بكوك: «لا بأس يا سيدتي، اذهبي إليه.»

وقالت مسز كرادوك: «طاب ليلك يا سيدي.»

وأجاب المستر بكوك: «طاب ليلك يا سيدتي.»

وأغلقت مسز كرادوك الباب، وواصل المستر بكوك تدوين يومياته.

ولم ينقضِ نصف ساعة حتى فرغ منها، فجفف الصفحة الأخيرة في عناية بالنشاف، وطوى الكراسة، ومسح قلمه بذيل سترته من الداخل، وفتح الدرج الذي توضع الدواة فيه؛ ليردها في تأنٍّ إليه، وإنه لكذلك إذ أخذت عينَه ورقتان مكتوبتان، بحروف دقيقة، في جوف ذلك الدرج، وهما مطويتان طية تجعل العنوان ظاهرًا لرائيه، وهو مكتوب بأحرف كبيرة، وبدا له منه أن المكتوب ليس بوثيقة خاصة، بل تتعلق بمدينة باث الحمامات، وليست طويلة، فلم يسعه إلا أن نشرها من مطواها، وأضاء شمعة مخدعه حتى ترسل ضياءً ساطعًا قبل أن يفرغ من قراءة هاتين الصفحتين، وقرب مقعده من النار وراح يقرأ ما يلي:

أسطورة الأمير بلادود الحقيقية

منذ نحو مائتي عام أو أقل، ظهر على حمام من الحمامات العامة، في هذه المدينة، نقش لتخليد ذكرى مؤسسها العظيم، الأمير بلادود الذائع الصيت، ولكن هذا النقش قد محي الآن وطمست معالمه.

وكانت ثمة أسطورة قديمة تُروى قبل ذلك العهد بعدة مئات من السنين، ويتناقلُها الخلف عن السلف، جيلًا بعد جيل، وقد ورد فيها أن ذلك الأمير المجيد كان مصابًا بالبرص، حين عاد من تلقِّي ذخائر العلم، وجني حصاد المعارف، في أثينا، فرأى أن يتحاشى المقام في قصر الملك أبيه، فعكف في معزل على العيش مع الفلاحين وتربية الخنازير.

وكان من بين قطيعها — كما تقول الأسطورة — حلوف يبدو على سحنته الجد والوقار، فلم يلبث الأمير أن سكن إليه، وهو مثله الرزين الحكيم، وكان ذلك الحلوف المفكر المتزن، أسمى من أبناء جلدته، وأرهب منها شهيقًا وزحرًا، وأحدَّ منها في العض أسنانًا وأنيابًا وكشرًا، فلا عجب إذا راح الأمير الشاب يزفر من أعماق صدره كلما ألقى نظرة إلى وجه ذلك الحلوف الجليل المهيب؛ لأنه كان يذكره بجلالة والده، فلا تلبث عيناه أن تغرورقا بالعَبَرات.

وكان ذلك الحلوف الحكيم مولعًا بالاستحمام في وحل ندي غزير، لا في الصيف كما تفعل الخنازير العادية الآن للابتراد، وكما فعلت في تلك القرون الماضية، وهو دليل على أن ضياء الحضارة قد بدأ يطلع فجره، وإن كان لا يزال ضعيفًا، بل في أيام الشتاء القارس وزمهريره، حتى لقد راحت فروته تبدو أبدًا ملساء وملامحه صافية، فصحت نية الأمير على تجربة مزايا ذلك الماء الذي كان صديقه يعمد إلى الاستحمام فيه، واختبار مدى ما فيه من تنقية وتطهير، وفعلًا جربه، فإذا هو يرى من تحت ذلك الوحل، عين ماء ساخن في باث ينبجس له، ويتدفق عليه، فاغتسل فيه وزال البرص عنه، فبادر إلى قصر الملك، فأدى لأبيه أكبر الاحترام، وأصدق التحيَّات، ثم عاد مسرعًا إلى ذلك المكان، فأسس هذه المدينة وحماماتها المشهورة.

ومضى يبحث عن ذلك الحلوف بكل لهفة المودة القديمة التي توثقت بينهما، ولكن وا أسفاه! لقد كانت في تلك المياه منيَّته؛ فقد راح بطيشه وقلة بصيرته يستحم حمامًا شديد الحرارة إلى حد كبير، فلم يصبر عليها، ولم يطقها، وذهب ذلك الفيلسوف الطبيعي من الوجود، وجاء من بعده «بليني»، وهو أيضًا قد ذهب ضحية ظمئه للعلم، وعطشه للمعرفة.

تلك هي الأسطورة، فاسمع القصة الحقيقية …

كان في بريطانيا من قديم الزمان، وسالف العصر والأوان، ملك عظيم، سارت بذكره الركبان، وكان يُدعى لد هوديبراس مهيبًا عند الناس، ترتج الأرض إذا مشى فوق أديمها؛ لضخامته، وكان شعبه يستظل بنور وجهه، لشدة بريقه وحمرته، وفي الحق لقد كان ملء ثوبه، وبكل شبر فيه، ملكًا، على كثرة ما فيه من أشبار؛ لأنه وإن لم يكن مفرطًا في الطول، كان مفرطًا في العرض، والأشبار التي نقصت من طوله، استعاضها بوفرة محيطه، ولو جاز لنا أن نقارن بينه وبين أحد من الملوك المحدَثين، لقلنا: إن شبهه يصح أن يكون الملك «كول» المبجل.

وكان لذلك الملك زوجة، جاءته منذ ثمانية عشر عامًا، بولد سمي بلادود، وأرسل إلى مدرسة ابتدائية لتلقي مبادئ العلوم، في أراضي أبيه، حتى إذا بلغ العاشرة، أُرسل في رعاية رسول أمين إلى أثينا لاستكمال دراسته، ولم تكن المدرسة تتقاضى أجرًا إضافيًّا لقاء بقاء الطالب خلال الإجازة السنوية، ولا هو مطلوب منه تقديم إنذار قبل انتقاله منها، فلبث في المدينة ثمانية أعوام، وأوفد الملك عقب انتهائها كبير أمنائه إليه لدفع الحساب والعودة به إلى أرض الوطن، ولكن لم يكد كبير الأمناء يفعل، حتى استقبل بالصياح وأحيل من فوره إلى المعاش.

ولما رأى الملك ابنه الأمير ووجده قد أصبح فتًى جميلًا، لم يلبث أن حسَّن لديه البدار إلى تزويجه حتى ينجب ذرية تخلد مجده الباذخ، عبر الأجيال، كابرًا عن كابر، فبعث لهذا الغرض وفدًا خاصًّا مؤلَّفًا من كبار الأشراف الذين ليس لهم عمل معين يؤدونه، ويريدون مناصب تدرُّ الأموال عليهم، إلى ملك من جيرانه القريبين، يطلب يد ابنته الحسناء لابنه، وقال في الوقت ذاته: إنه يَوَدُّ أن يظل على أتم الوفاق والوئام، مع أخيه وصديقه، ولكن إذا لم يتسنَّ الاتفاق على تدبير هذا الزواج، فسوف يضطر كارهًا إلى غزو مملكته، وفقء عينيه، وكان الملك الآخر دونه قوة وبأسًا، فرد قائلًا: إنه شاكر لأخيه وصديقه كل الشكر كرمه وعظيم فضله، وأن ابنته على استعداد تام للزواج حين يود الأمير بلادود أن يأتي ليأخذها.

وما إن وصل هذا الرد إلى بريطانيا حتى استولى الفرح على الأمة كلها، فلم يعد يُسمع في مختلف أرجائها غير جلبة العيد، وأصوات القصف، وضوضاء الأفراح، اللهم إلا صوت المال الذي يدفعه الشعب إلى الجُباة الذين يجمعونه؛ ليملأوا به خزائن الملك، حتى ينفق في مطالب هذا الحدث السعيد.

وكان الملك في الاحتفال بهذه المناسبة قد استوى على عرشه، وجمع الأشراف والنصحاء والأمراء من حوله، ولم يلبث من فرط الفرح، وحماسة الشعور، أن نهض من فوق أريكته، فأمر كبير القضاة في مملكته أن يدعو السقاة إلى السعي بأعتق الخمور، ويأمر بحضور شعراء البلاط وهو فضل عظيم نسب من جهل المؤرخين القدامى إلى الملك «كول»، في تلك الأبيات المشهورة التي صور فيها جلالته «طالبًا مزماره، وإناء خمره وعزفته الثلاثة»، وهو ظلم ظاهر لذكرى الملك «لد»، وإشادة كاذبة بفضل الملك كول بين الملوك الصِّيد النابهين.

ولكن في بهرة ذلك المهرجان، ووسط هذه الأفراح البهيجة الحسان، كان شخص واحد بين الحاضرين، لم يذُق طعم الشراب، حين أديرت به الأكواب، تسطع فيها الصهباء ويشرق الحباب، ولم يرقص، حين تعالى عزف العازفين، ولم يكن ذلك الذي عزف عن الشراب، ولم ينهض للرقص أحد سوى الأمير «بلادود» ذاته، الذي كان الشعب بأسره، في تلك اللحظة، في سبيل تكريم قرانه والاحتفال بزواجه، يجهد بالهتاف حناجره، كما يستنفد كل ما في جيوبه من مال! والواقع أن الأمير كان قد نسي حق وزير الشئون الخارجية الذي لا نزاع فيه، في حب من يشاء بالنيابة عنه، فانثنى هو خلافًا لكل سابقة في السياسة والدبلوماسية يقع في الحب كما يشاء، ويقيم علاقة خفية بينه وبين حسناء، بنت نبيل في أثينا.

وهنا يتجلى لنا مثل رائع على عديد مزايا الحضارة وأفضال العصر الحديث، فلو أن الأمير كان يعيش في أحد هذه العصور المحدثة، لجاز له في الحال أن يقترن بمن اختارها له والده، وانطلق يعمل بجد على التخلص من هذا العبء الثقيل على كاهله، وكان في وسعه أن يحطم فؤادها بالدأب على إهانتها وإهمالها، أو إذا حملتها «نفسية» جنسها، وشعورها بما وقع عليها من مظالمَ على الاصطبار لقسوته، ومقاومة سوء معاملته؛ كان من الجائز أن يستعين بأية وسيلة على خطف حياتها؛ ليتخلص منها، ولكن شيئًا من هذا لم يتراءَ للأمير بلادود، فلم يجد بدًّا من التماس خلوة خاصة بأبيه، وفي الخلوة كاشفه بخافية أمره.

ومن حق الملوك من أقدم الأزمنة أن يسيطروا على كل شيء، إلا عواطفهم، فلا غرو إذا انثنى الملك لد حين سمع مقالة الأمير، وعلم بقصته، أن استشاط غيظًا، وطوح بتاجه إلى السقف ثم تلقاه باليدين؛ فقد كان الملوك في تلك الأيام يحفظون تيجانهم فوق هاماتهم، لا في البرج، وراح يضرب الأرض بقدميه، ويدق بكفه جبينه، ويعجب كيف سولت لابنه الذي من لحمه ودمه نفسه أن يتمرد عليه، وفي النهاية دعا حراسه إليه، فأمرهم باستياق الأمير في الحال إلى السجن في برج شاهق، وهي خطة كان ملوك ذلك الزمان عامة ينتهجونها إزاء أبنائهم حين يتبين لهم أن ميولهم الزوجية لا تتفق ورغبتهم الخاصة، وتتنافى ومشيئتهم واختيارهم.

ولما مضى على الأمير بلادود في البرج الشاهق الذي ألقي في غيابته، أكبر شطر من العام، لا ترى فيه عيناه غير جدار من الحجر، ولا يخالج خاطره سوى طول المقام في المحبس، بدأ بطبيعة الحال يفكر في وسيلة للهرب، وظل أشهرًا يعد العدة للفرار من سجنه، حتى تهيأت له السبيل، دون أن ينسى تغييب سكين مائدته في قلب سجانه مخافة أن يظن أن المسكين — فقد كان رب عشيرة — كان عليمًا بأمر فراره، فيتعرض لعقاب الملك الغاضب المحنق ويستهدف لنقمته.

وهاج الملك وثار حين انتهى إلى سمعه نبأ فرار ابنه، فلم يدر على أي رأس يصب جام غضبه حتى خطر بباله لحسن الحظ كبير أمنائه الذي أعاد ابنه إلى وطنه، فقطع معاشه ورأسه معًا.

أما الأمير فقد أحسن التنكر وأتقنه، وهام على وجهه في أراضي أبيه، تواسيه محنه وخطوبه تفكيره في الحسناء الأثينية؛ فقد كانت الفتاة المليحة وهي لا تدري سبب بلائه وعلة مصابه، ووقف بذات يوم بقرية ليريح، فرأى جلبة رقص مقامة على العشب النضير، وشهد وجوهًا مرحة تروح وتغدو على عينيه، فتشجع وسأل إنسانًا كان واقفًا عن كثب منه، عن سبب هذا المهرجان.

فكان جواب الرجل: «ألا تعرف السبب أيها الغريب، ولا تعلم نبأ المنشور الذي أعلنه ملكنا العظيم؟»

وأجاب الأمير قائلًا: «المنشور! كلا، أي منشور؟» ولا عجب في هذا التساؤل؛ فقد كان الأمير يتنقل في الطرق الصغيرة المهجورة التي قلَّما تطرقها الأقدام، فلم يعرف شيئًا عمَّا يجري في المدائن والبلدان.

وقال القروي: «إن الغادة الأجنبية التي كان الأمير يرغب في الاقتران بها قد تزوجت بشريف من أشراف بلادها، وقد أصدر الملك هذا المنشور معلنًا النبأ فيه، وداعيًا خلاله إلى إقامة مهرجان عام؛ لأن الأمير بلادود، سيعود بطبيعة الحال، ويقترن بالغادة التي اختارها له أبوه، والتي يقال إنها في مثل جمال الشمس في رابعة النهار، فلنشرب في صحتك يا سيدي، حفظ الله الملك!»

ولكن الأمير انطلق في سبيله ولم يعقب، موغلًا في أكثف الأدغال الألفاف في جوف غابة شاسعة، وظل هائمًا على وجهه ليل نهار، تحت الشمس المحرِقة، وظلال القمر البارد الشاحب، وخلال حر الهجير، وهواء الليل الرطب البارد، وفي مطلع ضياء النهار، وحمرة شفق المساء، غير حافل بالزمن، ولا عابئ بالأشياء، ولا مقصد له سوى بلوغ أثينا، ولكنه كان قد أوغل في جوبه، وأمعن في تجواله، حتى أَلَمَّ على الموضع الذي تقع فيه باث.

ولم تكن ثمة مدينة، ولا أثر لسكان، ولا علامة على بشَر، وإنما كانت هنالك الأرض الطيبة ذاتها، والرُّبَى المترامية، والوديان الفساح، والمضيق الجميل يتسلل من بعيد، ويرى من مكان ناء، يحجب بعضه غمام الصبح، ويخفيه بياضه، يزيل خشونة الأرض، ويخفف من وعورة جبالها، فلا يغمرها إلا الدعة، ولا يضفو عليها إلا النعومة والجمال، وتأثر الأمير بحسن هذا المشهد وبهائه، فتهالك على العشب النضير، ومضى يغرق قدميه المتورمتين من طول المسير في فيض دموعه.

وقال الأمير وهو مشتبك اليدين، متطلع بعينيه في أسى إلى السماء: «رباه، هلا جعلت ختام مطافي في هذا الموضع، وهلا جعلت هذه الدموع الشاكرة التي أبكي بها على أمل ضائع، وحب ممتهن، تفيض إلى الأبد، في سلام!»

واستجيب دعاؤه، وكان ذلك في عصور الكفر حين كانت الأرباب تأخذ الناس أحيانًا بكلامهم، في سرعة تبدو في بعض الأوقات غريبة مستغلقة على الأذهان، وانشقت الأرض من تحت قدمي الأمير فهبط في الأخدود، وأطبق عليه لساعته، ولم يترك إلا عبراته السخينة تنبثق من جوف الأرض، ولا تزال تنبجس من ذلك الحين.

وممَّا يلاحَظُ إلى يومنا هذا أن فريقًا كبيرًا من السيدات والسادة المتقدمين في الأعمار الذين خابت آمالهم في الظَّفَر بالشركاء، ومثلهم أو نحوهم من الشباب المتلهفين على الفوز بهم، يتوافدون كل عام إلى باث؛ لينهلوا من مياهها، ويستمدون القوة والراحة من شربها، وهو ما يزيد كثيرًا في فضل الأمير بلادود ودموعه، ويؤيد بقوة صحة هذه الأسطورة.

وقد تثاءب المستر بكوك عدة مرات، حين بلغ نهاية هذا المخطوط الصغير، فطواه بعناية ورده إلى مكانه من الدرج المخصص للدواة، وانثنى والتعب البالغ بادٍ على وجهه يضيء شمعة نومه، ويصعد السلم إلى فراشه.

ووقف بباب المستر داولر كعادته ودقه ليقول له: طاب ليلك.

وقال مستر داولر: «آه، أذاهب إلى النوم؟ ليتني مثلك، ليلة كئيبة، إن الرياح شديدة أليست كذلك؟»

وأجاب المستر بكوك: «جدًّا، طاب ليلك.»

– «طاب ليلك.»

وأوى المستر بكوك إلى الفراش، وعاد المستر داولر إلى مجلسه قبالة النار؛ إنجازًا لوعد تسرَّع فيه، وهو أن يظل ساهرًا حتى تعود زوجته.

وقلَّما يوجد في الحياة على تعدُّد متاعبها وهمومها، شيء أسأم للنفس من السهر في انتظار أحد من الناس، وخاصة إذا كان هذا الإنسان المنتظر سهران في إحدى الحفلات؛ لأنك لا تستطيع عندئذٍ أن تمنع خاطرك من تخيُّل سرعة انقضاء الوقت في تقدير المدعوين، وشدة بطئه وتراخيه في نظرك أنت وتصورك، وكلما أطلت التفكير في هذا الأمر، أخذ أملك من سرعة عودتهم يفتُر ويضعف، وتبدو لك دقات الساعات المعلقة فوق الجدران عالية شديدة الطنين، وأنت جالس وحدك، حتى ليخيل إليك أنك في جوف شبكة من نسج العناكب، فتحس أولًا شيئًا يخزك في ركبتك اليمنى، ثم تحس هذا الوخز ذاته في اليسرى، ولا تكاد تغير مجلسك، أو وضعك، حتى يعاودك في ذراعيك، فإذا ما تململت ومددت أوصالك في مختلف الأشكال والأوضاع، شعرت بذلك الوخز يعود فجأة فيظهر في أنفك، فتفركه فركًا، كأنما تريد أن تمحوَه محوًا، وهو أمر لو استطعته لفعلته، وكذلك العينان، لا تلبثان أن تنقلبا مصدرًا للتعب، فتتراءى لك ذبالة الشمعة أطول من حقيقتها في اللحظة التي ترفع فيها ذبالة الأخرى، وهكذا تجعل هذه المضايقات الصغيرة وأمثالها السهر طويلًا في انتظار أحد — بعد أن أوى الناس إلى مراقدهم — شيئًا لا يمت إلى الرضا والراحة بسبب.

وكذلك كان شعور المستر داولر وتفكيره، وهو جالس قبالة النار، وأحس غضبًا صادقًا من أولئك السُّمَّار القساة القلوب الذين أطالوا المُكث في الحفل وتركوه على هذا النحو يقظان متضجِّرًا، ولم يُعِدْهُ إلى هدء خاطره التفكير في أنه هو الذي أبى في بداية المساء إلا أن يتصور أنه مصاب بالصداع فتخلف لذلك في البيت، وأخيرًا بعد كثرة تهويم وإغفاء وانتباه فجائيٍّ منه، على الاصطدام بسياج الموقدة، والتطويح برأسه إلى الخلف؛ مخافة أن يكوى بالنار على وجهه، بدا له أن يتمدَّد فوق الفراش في الغرفة الخلفية ليفكر، لا لينام بالطبع.

وقال المستر داولر لنفسه، وهو يتهالك على الفراش: «إن نومي ثقيل، فلأبقَ يقظانَ، وأظن أنني سأسمع الدَّقَّ من هنا، نعم، هذا صحيح، هأنذا أسمع الحارس، إنه اللحظة يتمشى، والصوت مع ذلك يضعف، إنه الآن أضعف قليلًا، هو اللحظة ينعطف عند الناصية، آه!»

وما كاد المستر داولر يصل إلى هذا الحد حتى انعطف هو عند الناصية التي طال لديها تردده، فهبط في سبات عميق.

وما إن دقت الساعة مؤذِنَةً الثالثة حتى اندفع في ذلك الشارع مع الريح هودج تجلس مسز داولر في جوفه، ويتعاون على حمله حمَّال قصير بدين وآخر طويل نحيل، وقد تعبا كثيرًا في توازن جسديهما ومد صُلبيهما، فضلًا عن الهودج ذاته واستقامة حركته، ولكن في تلك الأرض العالية، وفي شارع الكرسنت بالذات، ذهبت الريح تلف وتدور، كأنما تهم بأن تقتلع أحجار إفريزه، وهي غاضبة ثائرة، فلا عجب إذا شعر الحمالان بسرور شديد حين أنزلا الهودج فاستقر فوق الأرض، وانثنيا يدقان باب الشارع دقًّا شديدًا مزدوجًا.

وانتظرا قليلًا فلم يستجب أحد.

وقال الحمال قصير القامة مدفئًا يديه على لهيب الشعلة التي يحملها غلام في المقدمة: «يظهر أن الخدم الساعة بين ذراعي بوربس.»

وقال الآخر الطويل: «ليته يضمهما ضمة شديدة فيوقظهما.»

وصاحت بهما مسز داولر من الهودج: «دقا الباب ثانية، من فضلكما، واجعلا الدق مثنى وثُلَاثَ.»

وكان الحمال القصير يوَد أن ينتهي من هذا العمل بكل سرعة ممكنة، فوقف على العتبة، ودق الباب أربع دقات مزدوجة أو خمس، كل واحدة منها تعدل ثماني طرقات أو عشرًا، بينما مشى الحمَّال الطويل إلى الطريق وتطلَّع إلى النوافذ لعله يرى نورًا من خلالها.

ولكن لم يأتِ أحد، وظل السكون سائدًا، والظلام غامرًا.

وقالت مسز داولر: «يا إلهي! يجب أن تدقا مرة أخرى من فضلكما.»

وقال القصير: «ليس للباب جرس، أله جرس يا سيدتي؟»

وقال حامل الشعلة: «أي نعم، وقد لبثت إلى اللحظة أدقُّه، دون فائدة.»

وقالت مسز داولر: «إنه ليس إلا زرًّا؛ فإن الأسلاك مقطوعة.»

وزمجر الحمال الطويل قائلًا: «ليت رءوس الخدم تُقطع كذلك.»

وقالت مسز داولر بمنتهى الأدب: «لا يسعني إلا إتعابكما.»

وعمد القصير إلى دق الباب عدة دقات أخر، ولكن دون جدوى مطلقًا، وجاء الطويل وهو نافد الصبر فتولى عن زميله طرق الباب ثانية، كل دقة منه تشمل طرقتين شديدتين قاصفتين، كدق ساعي البريد مذهوب اللُّب.

وأخيرًا بدأ المستر ونكل يحلم أنه في أحد الأندية وأن الأعضاء في هرج ومرج، مما اضطر الرئيس إلى دق المنصة عدة مرات لحفظ النظام، ولكنه عاد ينتقل إلى حلم آخر غير واضح المعالم، فرأى في المنام أنه في قاعة مزاد علني، وليس فيها مزايدون، وأن «الدلَّال» هو الذي مضى يشتري كل شيء فيه.

ولكن المستر ونكل في النهاية بدأ يظن أنه من المحتمل أن أحدًا من الناس يدق باب الشارع، ولكنه ظل هادئًا في فراشه؛ لكي يستوثق تمامًا، ولبث عشر دقائق أو نحوها مصغيًا، وبعد أن عد اثنتين أو ثلاثًا وثلاثين دقة، اقتنع كل الاقتناع، ونسب إلى نفسه فضلًا كبيرًا في أنه المتنبه اليقظان!

وتوالت الدقات شدادًا آخذة بعضها برقاب بعض!

وعندئذٍ وثب المستر ونكل من فراشه، في عجب شديد، لا يدري ماذا جرى، ولا يعرف ما الخطب، وبادر إلى جوربه، ونعله فلبسهما، وطوى حواشي جلبابه من حوله، وأشعل شمعة من اللهيب المنبعث من الموقدة، وهبط السلم مهرولًا.

وقال الحمال القصير: «ها هو ذا واحد ينزل السلم أخيرًا يا سيدتي.»

وزمجر الحمال الطويل قائلًا: «أتمنى لو أني من خلفه بمثقب.»

وصاح المستر ونكل وهو يفك السلسلة: «من الطارق؟»

وأجاب الحمال الطويل بتأفف شديد، معتقدًا أن القادم أحد الخدم: «لا تقف لتلقي أسئلة يا ذا الرأس المصنوع من الحديد الزهر، ولكن افتح الباب.»

وأضاف الآخر قائلًا: «هيا، افتح عينيك يا ذا الأجفان المصنوعة من الخشبِ.»

وكان النوم لا يزال يغالب المستر ونكل، فامتثل للأمر اعتباطًا، وفتح الباب قليلًا وأَطَلَّ منه، فكان أول شيء أخذ عينيه لهيب الشعلة وضياؤها الأحمر، فاستولى عليه الخوف فجأة من أن يكون قد شبَّ حريق في البيت، فبادر إلى فتح الباب على مصراعيه، ورفع الشمعة فوق رأسه، وأطلق بصره في لهفة ليرى ما الخطب، وهو غير واثق أن ما رآه هو هودج أو آلة مطافئ! وفي تلك اللحظة هبَّت الريح هبة عنيفة فانطفأ النور، ووجد المستر ونكل نفسه مضطرًّا إلى الوقوف في مكانه فوق العتبة لا يملك من الأمر شيئًا، واندفع الباب من شدة الريح، فأحدث صوتًا قاصفًا من خلفه.

وقال الحمال القصير: «عملتها أيها الفتى الصغير، أهكذا عملتها؟»

ولمح المستر ونكل عندئذٍ وجه سيدة في شرفة الهودج، فأسرع ليستدير إلى الباب، وأخذ يعالج الأكرة بكل قواه، ويصيح بالحمَّال وهو مروع الخاطر أن يأخذ الهودج ويعود به من حيث أتى.

ومضى يصرخ قائلًا: «انصرف به، انصرف به إن هناك إنسانًا يخرج اللحظة من بيت آخر، خذني في الهودج، خبئني، افعل شيئًا في سبيل إنقاذي.»

وكان يرعش من البرد، وكلما رفع يده ليمسك بالأكرة، هبت الريح على جلبابه فتناولته بشكل مؤلم يستطير اللب منه، فذهب يصيح قائلًا: «إن الناس قادمون من ناحية الشارع في هذه اللحظة، ومعهم سيدات، فغطني بشيء، أو قف أمامي لتحجبني!»

ولكنَّ الحمالين كانا من شدة إغراقهما في الضحك لا يقويان على تقديم أقل معونة إليه، بينما كانت السيدات بين لحظة وأخرى مقتربات منه شيئًا فشيئًا.

وهنا دق المستر ونكل الباب الدقة الأخيرة يائسًا، ولم يكن بينه وبين السيدات القادمات غير بضعة أبواب، فألقى بالشمعة بعيدًا، وكان قد لبث كل ذلك الوقت ممسكًا بها فوق رأسه، واندفع نحو الهودج حيث كانت مسز داولر جالسة، فدخل فيه.

وفي تلك اللحظة كانت مسز كرادوك قد سمعت دق الباب، وجلبة تلك الأصوات، فلم تنتظر إلا ريثما تضع شيئًا على رأسها أفضل مظهرًا من طاقية نومها ثم جرت إلى قاعة الجلوس التي فوق الباب لتستوثق من أمر الطارق وشخصيته، ففتحت النافذة، في اللحظة ذاتها التي كان المستر ونكل فيها مندفعًا نحو الهودج، فما إن لمحت هذا المشهد البادي لعينيها تحت الشرفة، حتى أطلقت صرخة مدوية مزعجة، وهي تتوسل إلى المستر داولر أن ينهض في الحال من نومه؛ لأن زوجته هاربة مع سيد سواه.

فلم يكد المستر داولر يسمع هذا القول حتى قفز من الفراش كالكرة المصنوعة من المطاط، واندفع إلى الغرفة الأمامية، ووصل إلى إحدى نوافذها، في اللحظة عينها التي وصل فيها المستر بكوك إلى نافذة أخرى، فكان أول من وقع بصرهما عليه المستر ونكل وهو يندفع إلى جوف الهودج.

وصرخ المستر داولر في حنق شديد: «أيها الحارس، قفه، أمسك به، شدد القبض عليه، احبسه، حتى أنزل، سأقطع رقبته، أعطوني سكينًا، أجزر رقبته من الأذن إلى الأذن، يا مسز كرادوك إني لفاعل»، وانتزع نفسه من يد ربة البيت الصارخة المولولة، وتخلص من يد المستر بكوك، وتناول الزوج الغاضب الهائج سكينًا صغيرًا من أدوات الموائد واندفع إلى الشارع.

ولكن المستر ونكل لم ينتظره، فلم يكد يسمع ذلك الوعيد الرهيب من صرخات المستر داولر حتى قفز من الهودج بالسرعة ذاتها التي وثب بها إلى جوفه وألقى بنعله في الطريق، وأطلق للريح ساقيه، وعدا في الشارع لا يلوي على شيء، بينما مضى داولر والحارس في أثره، ولكنه ظل متقدِّمًا عنهما، وكان قد لف حول الناصية، ثم حاد، فوجد الباب مفتوحًا، فدخل البيت مسرعًا، وأغلق الباب بعنف في وجه داولر، وصعد إلى غرفة نومه، فأغلق الباب بالقفل، وأقام متاريس خلفه، من حوض الغسيل، وصوان الثياب والمنضدة، كما جمع بضعة أشياء ضرورية؛ استعدادًا للفرار من أول خيوط النهار.

وصعد داولر السلم ووقف خارج الباب، يقسم من خلال ثقوبه أنه لقاطع رقبة المستر ونكل في اليوم التالي، وبعد هرج وجلبة وأصوات مختلطة في قاعة الجلوس، كان صوت المستر بكوك مسموعًا خلالها وهو يحاول تهدئة الموقف وإعادة السكينة، تفرق القوم منصرفين إلى مخادعهم، وعاد السكون يسود البيت كما كان.

ورب سائل سيقول: «وأين كان المستر ولر كل هذا الوقت؟» وجوابًا عن هذا السؤال نقول: إننا سنبين ذلك في الفصل القادم.

١  جالون Pint.
٢  أي من طراز البناء عند الإغريق، وقد اشتهرت كورنثا القديمة بهذه الأعمدة.
٣  من الأدباء الإنجليز المعاصرين لشكسبير.
٤  شاربي المياه المعدنية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤