الفصل السابع والثلاثون

بيان أمين عن غياب المستر ولر، ووصف حفلة مسائية دُعِيَ ولر إليها فلبى الدعوة، وكيف عهد إليه المستر بكوك أيضًا بمهمة خاصة دقيقة وخطيرة.

***

وقالت مسز كرادوك في صباح هذا اليوم الحافل بالأحداث: «يا مستر ولر، هنا خطاب لك.»

وقال سام: «شيء غريب جدًّا، أخشى أن يكون في الأمر شيء؛ لأنني لا أتذكر أن في دائرة معارفي أحدًا يقدر على كتابة خطاب.»

وقالت مسز كرادوك: «ربما حدث شيء غير مألوف.»

وأجاب سام وهو يهز رأسه متشكّكًا: «لا بد من أن يكون شيئًا غير مألوف فعلًا، حمل صديقًا من أصدقائي على أن يكتب لي خطابًا، ولا يمكن أن يكون أقل من تشنج طبيعي، كما قال الشاب حينما استولت عليه نوبة النوبات.»

ونظر إلى العنوان ومضى يقول: «ولا يمكن أن يكون من المعلم؛١ لأنه يكتبه بحروف الطباعة عادة كما أعرف؛ فقد تعلم الكتابة من الإعلانات الضخمة التي تعلق بجانب شباك التذاكر … حقًّا إنه لشيء عجيب، لا أدري من أين جاء هذا الخطاب؟!»

وراح سام يفعل ما يفعله خلق كثير من الناس حين يشكُّون فيمن عسى أن يكون الكاتب، وهو أن ينظروا إلى الختم، ثم إلى وجه الخطاب وظهره وجانبيه، وإلى الكلام المكتوب في رأسه، وأخيرًا يظنون أن لا بأس أيضًا من النظر إلى داخله، محاولين أن يكتشفوا منه شيئًا.

وقال سام وهو ينشر الخطاب: «إنه مكتوب على ورق مذهَّب الحواشي، ومختوم بخاتم برنزي ذي رأس كمفتاح باب، والآن فلنقرأ ما فيه.»

وراح المستر ولر يقرا ببطء، وقد بدا الجد واضحًا على وجهه:

تقدم نخبة مختارة من الحجاب في مدينة باث تحياتها إلى المستر ولر وترجو منه أن يتكرم في هذا المساء بحضور حفلة مسائية تقيمها، وسيكون الطعام فيها مؤلَّفًا من فخذ ضأنٍ مسلوقة وحولها لوازمها المعتادة، وستبدأ الحفلة في تمام الساعة التاسعة والنصف بالضبط.

وكان مع الخطاب رقعة أخرى جاء فيها ما يلي:

يرجو المستر جون سموكر الذي حظي بلقاء المستر ولر في دار صديق الطرفين المستر بنتم منذ بضعة أيام أن يتقبَّل المستر ولر الدعوة المرسلة مع هذا الخطاب. وإذا تكرم المستر ولر بزيارة المستر سموكر في الساعة التاسعة، فسوف يسر المستر سموكر مرافقته إلى الحفلة وتقديمه إلى أصحابه.

التوقيع «جون اسموكر»

وكان العنوان المكتوب على الغلاف باسم «السيد ولر – طرف المستر بكوك» وبين قوسين في الزاوية اليسرى من الغلاف كتبت هاتان الكلمتان «جرس هوائي»؛ «تنبيهًا لرافع الخطاب.»

وقال سام: «شيء عجيب، ما سمعت به في حياتي: فخذ ضأن مسلوقة تدعى قبل اليوم حفلة مسائية، فما بالك إذا كانت محمَّرة؟!»

ولكنه لم ينتظر حتى يبحث في هذه النقطة، بل ذهب من توه إلى المستر بكوك فالتمس منه الإذن في الغياب ذلك المساء، ولم يتردد سيده في الإذن له. وأخذ سام الإذن، ومفتاح الباب الخارجي، وانطلق قبل الموعد المضروب بقليل، فأخذ يمشي الهوينا متجهًا صوب ميدان الملكة، فلم يكد يبلغه حتى سرته رؤية المستر جون اسموكر مسندًا رأسه المجمل بالمساحيق إلى عمود المصباح على قيد خطوات منه، وهو يدخن لفافة كبيرة من مبسم خشب مصنوع من الكهرمان.

وابتدره المستر جون اسموكر، رافعًا قبعته بلطف بالغ بإحدى يديه، بينما ذهب يلوح بالأخرى متنزلًا من عليائه: «كيف أنت يا سيدي؟»

وأجاب سام: «في دور النقاهة، إلى حد معقول، وكيف حالك أنت يا عزيزي؟»

وقال المستر جون اسموكر: «بين بين.»

وقال سام: «آه، لقد كنت مجهدًا في العمل هذا ما كنت أخشاه، إن الكد في العمل كما تعلم لا يفيد ولا يغني، لا يصح أن تستسلم لهذه الروح التي لا هوادة فيها، والتي تمكنت منك.»

وأجاب المستر جون اسموكر: «ليس هذا هو السبب، بل الغالب هو الخمر الرديئة، أخشى أن أكون قد أسرفت فيها أخيرًا.»

وقال سام: «آه، قل لي هذا، إن هذا مرض سيئ جدًّا.»

وقال المستر جون اسموكر: «ولكنه الإغراء يا مستر ولر كما تعلم.»

وقال سام: «صحيح، فعلًا.»

وتنهد المستر جون اسموكر وقال: «الانغماس في دوامة المجتمع كما تعرف.»

وأجاب سام: «فظيع حقيقة!»

وقال المستر جون اسموكر: «ولكن هذه هي الحياة دائمًا، فإذا قدر لك الاختلاط بالحياة العامة، والمجتمع، فلا تنتظر طبعًا أنك لن تتعرَّض للمغريات التي نجا منها الآخرون يا مستر ولر.»

وقال سام: «هكذا كان عمي يقول، كلما اختلط بالحياة العامة، وكان الرجل على حق؛ لأنه ظل يشرب حتى مات في أقل من ثلاثة أشهر.»

وبدا الغضب الشديد على المستر جون اسموكر من هذه المقارنة بينه وبين المرحوم، ولكنه حين رأى وجه سام في أتم الهدوء لا تختلج فيه خالجة، سكن غضبه، وعاد يتهلل ويبتسم.

وقال وهو ينظر في ساعة نحاسية تقيم في قاع جيب عميق مخصص لها، وقد رفعها في مكمنها هذا بخيط أسود يتدلى مفتاح نحاسي من طرفه الآخر: «أظن أنه يحسن بنا أن نمشي.»

وأجاب سام: «يحسن، وإلا غيروا «الأمسية» فيفسد الأمر.»

وأنشأ رفيقه يسأله وهما متجهان صوب هاي ستريت: «هل شربت المياه يا مستر ولر؟»

وأجاب سام: «مرة واحدة.»

– «وما رأيك فيها يا سيدي؟»

وأجاب سام: «رأيي أنها رديئة جدًّا.»

وقال المستر جون اسموكر: «آه، لعلك لم يعجبك مذاق «الكليبيت» الذي فيها؟»

وأجاب سام: «لا أعرف كثيرًا عن هذا الصنف الذي تقوله، ولكني شعرت بطعم حار جدًّا كأنه حديد محمي.»

وقال المستر جون اسموكر باحتقار لهذا الجهل البادي من كلام رفيقه: «هذا هو الكليبيت.»

وأجاب سام: «إن كان هذا هو فعلًا؛ فإن هذا اللفظ قاصر دون التعبير الصحيح عنه، ولكن جائز؛ فإنني لا أعرف شيئًا كثيرًا في علم الكيميا، ولهذا لا أستطيع الحكم»، وهنا بدأ سام ولر يصفر بفمه، فريع المستر جون اسموكر وبهت ممَّا رأى.

وقال وهو متأذٍّ أشدَّ الأذى من هذا الصوت الخالي من الرقة واللطف إلى أبعد حد: «لا تؤاخذني يا مستر ولر، إذا أنا طلبت إليك أن تأخذ ذراعي.»

وأجاب سام: «شكرًا لك على هذا الكرم، ولكني لا أقبل أن أحرمك منها، إن عادتي أن أضع يدي الاثنتين في جيوبي، إذا كان هذا لا بأس منه عندك.» وراح سام يضعهما فعلًا في جيبيه، ويزداد صفيرًا بفمه.

وقال صديقه الجديد وكأنما قد بدأ يرتاح لانتهاء الطريق، وهما يعطفان على شارع جانبي: «من هنا، لن نلبث أن نكون هناك.»

وأجاب سام دون أن يتأثر إطلاقًا بما سمعه عن قرب الوصول إلى حفلة النخبة المختارة من الحجاب: «أحقًّا اقتربنا؟»

وقال المستر جون اسموكر: «نعم، لا تنزعج يا مستر ولر.»

وأجاب سام: «كلا.»

ومضى المستر جون اسموكر يقول: «سترى حللًا جميلة يا مستر ولر، وربما تصورت أن بعض السادات يلوحون في أول الأمر متكبِّرين، ولكنهم سيعودون بعد ذلك فيأنسون إليك.»

وأجاب سام: «هذا عطف كبير منهم.»

وواصل المستر جون اسموكر حديثه بلهجة تنم عن الرعاية السامية: «ولا يخفى أنك غريب عنهم، وربما رأيتهم خشنين قساة عليك في بداية الأمر لهذا السبب.»

وسأل سام قائلًا: «وهل ستكون هذه القسوة شديدة أو ماذا؟»

وأجاب المستر جون اسموكر وهو يخرج رأس الثعلب ويتناول قدرًا من السعوط كما يفعل السادات المهذبون: «كلا، كلا، نعم بيننا بعض الفكهين ممن يجيدون التنكيت، ولكن كل كلامهم مزاح كما تعلم، فلا يصح أن تهتم بكلامهم، أو تتأثر بمزاحهم.»

وأجاب سام: «سوف أجتهد في احتمال المباراة مع هذه المواهب.»

وقال المستر جون اسموكر وهو يرد رأس الثعلب إلى موضعه، ويرفع رأسه هو: «هذا كلام طيب، وسأقف بجانبك.»

وكانا قد وصلا عندئذٍ إلى دكان خضري صغير فدخل المستر جون اسموكر الحانوت، وتبعه سام، وما كاد يمشي وراءه، حتى دخل في سلسلة من أعرض الابتسامات، وأصخب القهقهات، وأبدى من الأعراض المماثلة ونحوها ما يوحي بأنه في حالة مرح نفسي يحسد عليه.

واجتازا دكان الخضر ووضعا قبعتيهما على السلم في الدهليز الصغير القائم خلفه، فدخلا قاعة صغيرة، وهنا بدت لعين المستر ولر فجأة روعة المشهد بكل مظاهرها؛ فقد رأى خوانين لصق أحدهما بالآخر في وسط القاعة، وغُطِّيَا بثلاثة أغطية أو أربعة مختلفة الأعمار وتواريخ الغسيل، وقد نُسِّقَتْ تنسيقًا يجعلها أشبه كثيرًا بغطاء واحد بقدر ما تسمح الظروف، ووضعت فوقها سكاكين وشوك لستة أشخاص أو ثمانية، وكانت مقابض بعض السكاكين خضرًا، وبعضها الآخر حمرًا، وقليل منها صفرًا، ولكن الشوك كلها كانت سود المقابض، فكان اختلاط الألوان على هذا النحو ظاهرًا أشد الظهور، وكانت الصحاف المطلوبة لهذا العدد ذاته من المدعوين تدفأ خلف الموقدة، في حين جلس هؤلاء أنفسهم يستدفئون أمامها، وبدا كبيرهم، وأخطرهم شأنًا، رجلًا يميل إلى البدانة في سترة أرجوانية زاهية ذات أذيال طوال وسراويلَ حمراء قانية، وقبعة مرفوعة الحاشية، وهو واقف مولٍّ ظهره إلى الموقدة، والظاهر أنه جاء منذ لحظة قصيرة؛ لأنه كان لا يزال يضع القبعة فوق رأسه، وكان يحمل في يده عصا طويلة كالعصي التي اعتاد أرباب مهنته رفعها في وضع منحدر فوق رفوف المركبات.

وقال السيد ذو القبعة المقلوبة الحاشية: «اسموكر، يا بني، امدد يدك.»

وتقدم المستر اسموكر فشبك خنصر يده اليمنى في الجزء ذاته من يمين الرجل، وقال: إنه مسرور غاية السرور لرؤيته بخير وعافية.

وقال الرجل: «إنهم يقولون لي إنني أبدو في هذه الأيام متفتحًا كالزهر، وهذا شيء عجيب؛ لأنني منذ أسبوعين لا أنقطع عن المشي خلف عجوزنا الدردبيس نحو ساعتين في اليوم، وإذا كان مجرد تصور شكلها وهي لا تكف عن النظر إلى ثوبها القديم «اللوندي» اللون من خلفها لا يكفي لأن يجعل الإنسان منقبض النفس حزينًا إلى الأبد، فليقطعوا مرتبي الذي أتقاضاه مرة كل ثلاثة شهور.»

وضحك أفراد النخبة المختارة لهذا القول من أعماق صدورهم، وهمس سيد منهم في صدار أصفر في أذن جارٍ له في سترة خضراء قائلًا: «يظهر أن صاحبنا طكل منشرح الصدر الليلة.»

وعاد المستر طكل يقول: «وبهذه المناسبة يا ولدي اسموكر، أنت …» وراح يهمس بباقي الجملة في أذن المستر جون اسموكر.

وقال هذا: «يا سلام … إي وربي، لقد نسيت أن أقدم إليكم أيها السادة صديقي المستر ولر.»

وقال المستر طكل بإيماءة من رأسه كأنه يعرفه ولا يحتاج معه إلى شيء من الكلفة: «آسف؛ لأني حجبت النار عنك يا ولر، أرجو ألا تكون شاعرًا ببرد.»

وأجاب سام: «كلا يا سيد «بليزيس»٢ إن كل شخص يشعر بالبرد، وأنت واقف أمامه لا بد من أن يكون في أشد درجات «القشعريرة»؛ لأنهم لو وضعوك خلف مدفأة في قاعة انتظار بمحل عمومي لوفرت عليهم قدرًا كبيرًا من الخشب والفحم!»

وكان هذا الرد يبدو إشارة خاصة إلى الحلة الحمراء التي يرتديها المستر طكل، ولهذا وقف بضع ثوانٍ متعاظمًا، ثم أخذ يبتعد عن النار شيئًا فشيئًا، وبابتسامة متكلفة انثنى يقول إنها نكتة ليست رديئة.

وأجاب سام: «أشكر لك كل الشكر حسن تقديرك يا سيدي، وسنتقدم بالتدريج، وسأجتهد في أن أقول أحسن منها بعد هذا.»

وهنا انقطع سياق الحديث بوصول سيد في حلة برتقالية اللون، يصحبه آخر من الجماعة المختارة في ثوب أرجواني، وجورب مفرط في الطول، ولم يكد الحاضرون يرحبون بالقادمين الجدد، حتى سأل المستر طكل الجماعة هل يأمر بإحضار العشاء، فوافق الأعضاء بإجماع الآراء.

وجاء عندئذ الخضري وامرأته فوضعا على المائدة فخذًا مسلوقة من الضأن، ساخنة، بالمرق، واللفت والبطاطس.

واتخذ المستر طكل مجلس الرياسة، بينما جلس في الطرف الآخر السيد ذو الحلة البرتقالية اللون، وانثنى الخضري يلبس قفازًا من الجلد القابل للغسيل لكي يقدم الصحاف به، ووقف خلف مقعد المستر طكل.

وقال المستر طكل بلهجة الأمر: «هاريس!»

وأجاب الخضري: «نعم، يا سيدي.»

– «هل لبست قفازك؟»

– «نعم، يا سيدي.»

– «ارفع الغطاء إذن.»

فصدح الخضري بما أُمِرَ، في ذلة ظاهرة، وراح يقدم إلى المستر طكل بخشوع سكين التقطيع، ولكنه تثاءب عرضًا وفغر فاه.

وقال المستر طكل بحدة شديدة: «ماذا تقصد يا سيدي؟»

وأجاب الخضري مطأطئ الرأس: «معذرة يا سيدي لم أقصد ذلك يا سيدي، ولكني كنت سهران إلى ساعة متأخرة في الليلة الماضية يا سيدي.»

وقال المستر طكل بلهجة قوية: «أتريد أن أقول لك عن رأيي فيك يا هاريس؟ أنت بهيم سوقي جدًّا.»

وقال هاريس: «أرجو أيها السادة ألا تكونوا قساة عليَّ صارمين يا سادة، إنني شاكر لكم كل الشكر هذه الرعاية التي تخصونني بها، وتوصياتكم خيرًا بي كلما طلب أحد خدمة إضافية، وأرجو أيها السادة أن يكون عملي موضع ارتياح لديكم.»

وقال المستر طكل: «كلا يا سيدي، إنك أبعد من ذلك كثيرًا.»

وقال في أثره السيد ذو الحلة البرتقالية: «إننا نعدك شخصًا دنيئًا مهملًا لا يقظة لديه.»

وأردف ذو الحلة الخضراء: «ولصًّا سافلًا.»

وتبعه ذو الحلة الأرجوانية قائلًا: «ومخلوقًا لا صلاح له.»

وجعل الخضري المسكين ينحني بكل ذلة وانكسار عقب كل نعت من هذه النعوت الجميلة التي تخلع عليه بروح الطغيان في أصغر أشكاله ومظاهره.

وبعد أن انتهى كل واحد من قول شيء يظهر به سمو مكانه، ورفعة شأنه، شرع المستر طكل في تقطيع الفخذ وتوزيع أجزائها على الآكلين.

ولم يكد هذا العمل الخطير في ذلك المساء يبدأ، حتى فتح الباب بسرعة، وبدا سيد آخر في حلة زرقاء زاهية الزرقة وأزرار رصاصية.

وابتدره المستر طكل بقوله: «هذه مخالفة للقواعد، لقد جئت متأخرًا … متأخرًا فوق ما يجب.»

وقال السيد ذو الحلة الزرقاء: «كلا، كلا، لم يكن في تأخيري واللهِ حيلة، إنني أرفع الأمر إلى الجماعة، لقد عاقتني مسألة غرام، موعد في دار التمثيل!»

وقال السيد المرتدي حلة برتقالية: «آه! أهذا هو السبب حقًّا؟»

وأجاب السيد ذو الثوب الأزرق: «إي والله، شرفًا هذا ما حصل؛ فقد كنت قد وعدت أن أحضر السيدة الصغيرة لدينا في الساعة العاشرة والنصف، وهي بنت لطيفة جدًّا، فلم يطاوعني قلبي على إخلاف موعدي لها، ولا تؤاخذوني يا سادة، ولا إساءة، ولكن طلب الغانيات يا سيدي لا يمكن رفضه!»

وقال طكل، حين أخذ القادم الجديد مجلسه بجوار سام: «لقد بدأت أشك في أن هناك شيئًا من هذا القبيل؛ فقد لاحظت مرة أو مرتين أنها تميل كثيرًا على كتفك وهي تدخل المركبة أو تنزل منها.»

وقال ذو الحلة الزرقاء: «في الحقيقة لا يصح أن تشك يا طكل، هذا ظلم، وأمر لا يليق، ولعلي قلت لصديق أو صديقين: إنها مخلوقة نقية طاهرة جدًّا، رفضت خطبة أو خطبتين بغير سبب ظاهر، ولكن لا، لا يا طكل لا يصح لك أن تقول هذا، وأمام الغرباء أيضًا! هذا لا يليق، الذوق يا صديقي العزيز، الذوق، هذه مسائل دقيقة»، ومضى الرجل ينظم قميصه وطوق سترته، ويومئ ويعبس كأن لديه كلامًا آخر يمكنه أن يقوله إذا شاء ولكن الشرف يلزمه السكوت.

وكان ذلك الرجل ذو الحلة الزرقاء الخفيف الشعر، القوي الرقبة، الحر السهل اللين العريكة، الذي تبدو عليه أمارات الخيلاء والصراحة قد اجتذب من بداية الأمر نظر المستر ولر واهتمامه الخاص، ولكنه حين ظهر على هذه الصورة، ازداد سام شعورًا بوجوب توثيق الصلات به، فدخل في الحديث للتو واللحظة، بكل روح الاستقلال المستأصلة فيه.

وقال سام: «في صحتك يا سيدي، إنني أحب كلامك كثيرًا، وأعتقد أنه كلام جميل كل الجمال.»

وابتسم الرجل كأنها تحية ألِف كثيرًا سماعها، وإن راح ينظر إلى سام موافقًا مستريحًا، وقال: إنه يرجو أن يزداد به معرفة؛ لأنه بلا ملق ولا رياء مطلقًا تبدو عليه مخايل الرجل اللطيف، والإنسان الذي صادف هوى في نفسه.

وقال سام: «أنت كريم جدًّا يا سيدي، وما أحسن حظك وأسعد نجمك!»

وقال الرجل ذو الحلة الزرقاء: «ماذا تقصد؟!»

وأجاب سام: «هذه السيدة الصغيرة التي تتكلم عنها، إنها تعرف كل ما في الأمر، آه، أنى أعرف ذلك.» ومضى المستر ولر يغمض إحدى عينيه ويهز رأسه من ناحية إلى أخرى، بشكل يرضي غرور الرجل ذي الحلة الزرقاء وخيلاءه كل الإرضاء.

وقال الرجل: «أخشى أن تكون إنسانًا ماكرًا يا مستر ولر.»

وأجاب سام: «كلا، كلا، أنا تارك كل المسألة لك؛ لأنها توائمك أنت أكثر مما توائمني، كما قال الرجل الواقف خلف جدار البستان للآخر الواقف أمامه حين رأى الثور الهائج قادمًا يعدو في الزقاق.»

وقال السيد ذو الحلة الزرقاء: «جميل، جميل، يا مستر ولر، أعتقد أنها لاحظت أحوالي وتصرُّفاتي يا مستر ولر.»

وأجاب سام: «وأعتقد أنا أن ذلك لا يمكن أن يخفى عليها.»

وقال الرجل ذو الحلة الزرقاء المحظوظ لدى سيدته الصغيرة، وهو يخرج خلة أسنان من جيب صداره: «هل لك شيء صغير من هذا القبيل في متناول يدك يا سيدي؟»

وقال سام: «ليس الأمر كذلك تمامًا، فليس في المكان الذي أخدم فيه بنات، وإلا لكنت بالطبع عملت على كسب محبة واحدة منهن، ولكني لا أعتقد أنني يمكن أن أرضى بأقلَّ من مركيزة، وقد لا أجد بأسًا من قبول امرأة شابة غنية صاحبة ملك، ولكن ليست بذات لقب، إذا هي أحبتني حبًّا عنيفًا، ولكني لن أقبل ما هو دون ذلك.»

وقال السيد الأزرق الثوب: «طبعًا لا يا مستر ولر؛ لأن الإنسان لا يريد المتاعب، كما تعرف، وكما نحن عارفون يا مستر ولر، فنحن الذين دُرْنَا في هذه الدنيا وعرفناها، إن الذي يلبس حلة جميلة يجب أن يشق طريقه إلى قلوب النساء عاجلًا أو آجلًا، والواقع أن هذا هو الشيء الوحيد — وأنا أقول لك هذا بيني وبينك — الذي يجعل الخدمة في البيوت مقبولة.»

وقال سام: «هو كذلك، طبعًا.»

وعندما بلغ هذا الحوار الخاص هذا الحد، صُفَّتِ الأقداح حول المائدة، وراح كل سيد يأمر بالشراب الذي يفضله على سواه، قبل أن تغلق الحانة أبوابها، فأما السيد صاحب الحلة الزرقاء، والآخر ذو الحلة البرتقالية، وهما الزعيمان البارزان في الحفل؛ فقد طلبا «روما» باردًا بالماء، ولكن الآخرين طلبوا «جنا» وماءً خليطًا بالسكر، وهو فيما يبدو الشراب الأثير لديهم، ونادى سام الخضري قائلًا له: إنه مجرم موغل في الإجرام وطلب قدحًا كبيرًا من «البنتش»، وهما أمران رفعا شأنه كثيرًا في نظر النخبة المختارة.

وقال السيد ذو الحلة الزرقاء بلهجة متناهية في الأناقة: «هيا، لنشرب نخب السيدات.»

وقال سام: «مرحى، مرحى، بل قل: في صحة الآنسات الصغيرات.»

وهنا ارتفع صوت ينادي: «النظام.» وانثنى المستر جون اسموكر وهو السيد الذي قدم المستر ولر إلى الهيئة وعرفها به، يرجو منه أن يفهم أن الكلمة التي فاه بها منذ لحظة ليست كلمة «برلمانية» يليق أن تقال في هذا المجلس!

وسأله سام قائلًا: «أي كلمة هذه يا سيدي؟»

وأجاب المستر جون اسموكر بعبسة مزعجة: «كلمة آنسات يا سيدي، إننا هنا لا نعترف بهذه الألقاب وأمثالها.»

وقال سام: «جميل جدًّا، سأصحح التعبير إذن وأدعوهن المخلوقات العزيزات إذا سمح لي بليزيس بهذا الوصف.»

وبدا كأن بعض الشك قد جال في خاطر السيد ذي الحلة الخضراء في هل يصح قانونًا أن يخاطب الرئيس بهذا الاسم «بليزيس» أو لا يصح؟ ولكنه تبين أن القوم أميل إلى التمسك بحقوقهم منه، فلم يُثِرْ هذه المسألة في الاجتماع، وأما الرجل ذو القبعة المقلوبة الحاشية؛ فقد لهث وحدج سام بنظرة طويلة ولكن الظاهر أنه رأى أنه يحسن ألا يقول شيئًا حتى لا يسمع ما هو شر منه.

وبعد سكون قصير انبرى سيد يرتدي سترة مزركشة تصل إلى كعبيه، وصدارًا من النوع ذاته جعل نصف ساقيه دافئتين، وهو يحرك الجن والماء في كأسه بحركة قوية، فنهض فجأة مستويًا على قدميه، بجهد شديد، فقال: إنه يريد أن يلقي بضع كلمات أمام الجمع، وأجاب الرجل ذو القبعة المقلوبة الحاشية بقوله: إنه لا يخامره شك في أن الجمع يسعده أن يسمع أية كلمات يود السيد ذو السترة الطويلة أن يلقيها أمامهم.

وقال السيد الطويل الرداء: «أيها السادة، إني لأشعر بحرجٍ شديد حين أتقدم إليكم بالكلام، وأنا الذي كتب عليه سوء الحظ أن يكون حوذيًّا، والذي تفضلتم فقبلتموه عضوًا فخريًّا في حفلاتكم المسائية اللطيفة، ولكني أيها السادة أشعر بأنني مضطر، أو إذا سمحتم لي قلت: إنني محشور في ركن ضيق، إلى إبلاغكم عن ظرف سيئ وصلت أخباره إلى علمي، ووقع في «دائرة» مشاهداتي وأفكاري اليومية، أيها السادة، إن صديقنا المستر وفرز — وهنا نظر كل فرد منهم إلى السيد ذي الحلة البرتقالية — قد استقال من وظيفته.»

ووقع هذا النبأ على السامعين موقعَ الدهشة العامة، حتى انثنى كل منهم ينظر إلى وجه جاره ثم يتحول بعينه إلى الحوذي الخطيب.

واسترسل الحوذي فقال: «وقد تدهشون كثيرًا أيها السادة، ولست أريد أن أبين أسباب هذه الخسارة التي لا تعوَّض للمهنة، ولكن أرجو المستر وفرز أن يبدي هذه الأسباب بنفسه؛ لموافقة أصحابه المعجبين واتخاذه أسوة حسنة.»

وقوبل هذا الاقتراح بموافقة مدوية، وانبرى المستر وفرز يشرح تلك الأسباب؛ فقال إنه كان بلا ريب يوَد أن يبقى في تلك الوظيفة التي استقال أخيرًا منها؛ فإن الحلة طيبة، والخدمة حسنة المرتب، وسيدات الأسرة لطاف كل اللطف، ولا يسعه إلا أن يقول إن واجبات الوظيفة لم تكن شديدة الوطأة؛ فإن كل ما كان مطلوبًا منه هو أن يطل من شرفة البهو أكثر ممَّا يمكن، مشتركًا في ذلك مع سيد آخر، قدم استقالته أيضًا، وكان يَوَدُّ لو أغنى عن الجمع ألم سماع التفاصيل المؤلمة والدقائق الثقيلة على النفس التي يوشك أن يدخل فيها، ولكن ما دام قد طلب إليه شرحها، فلا حيلة له غير أن يعلن بجرأة ووضوح أنه استقال؛ لأنهم طلبوا إليه أن يأكل لحمًا باردًا.

ولا يستطيع أحد أن يتصور مبلغ الاشمئزاز الذي أثاره هذا التصريح في صدور السامعين؛ فقد ارتفعت الأصوات صائحة: «يا للعار!» ممتزجة بأصوات استنكار واستهجان، ولبث هذا الصخب ربع ساعة قبل أن يسود السكون الاجتماع.

وهنا أضاف المستر وفرز يقول: إنه يخشى أن يقال: إن بعض الغضب الذي استولى عليه يرجع إلى نفوره الخاص، ونزوعه الشخصي، ولكنه يتذكر جيدًا أنه رضي في ذات مرة أن يأكل زبدًا مختلطًا بالملح، وأنه أيضًا في مرة أخرى أصاب فيها أحد أفراد الأسرة مرض فجائي، تغاضى عن كرامته، فحمل وعاء الفحم إلى الطابق الثاني من البيت، وأنه على ثقة بأنه بهذا الاعتراف الصريح بأغلاطه لا يصغر من قدره عند أصدقائه، ولا يحط من كرامته في أعينهم، وأنه يرجو أن تكون السرعة التي أبى بها قبول العدوان الصارخ أخيرًا على كرامته، وهو الحادث الذي سبقت الإشارة إليه، حافزًا إلى رد اعتباره، وعودته إلى مكانه، من حسن ظنهم، أن كان يومًا قد ظفر بحسن الظن منهم.

واستقبل هذا الخطاب الذي ألقاه المستر وفرز بصيحات الإعجاب، وشرب القوم نخب هذا «الشهيد» الكريم بأشد الحماسة، ورد الشهيد عليها بالشُّكْرِ وشرب نخب ضيفهم المستر ولر، وهو السيد الذي لم يتشرف بمعرفته الوثيقة، ولكن حسبه أنه صديق المستر جون اسموكر؛ فإن ذلك يكفي لتزكيته عند أي مجتمع من السادات كائنًا من كان، في كل مكان، وأنه كان يَوَدُّ لهذا السبب أن يطلب الشرب في صحة المستر ولر بكل سرور وتكريمه لو أن أصدقاءه يشربون النبيذ، ولكن بما أنهم يتناولون الأشربة الكحولية، على سبيل التنويع، وقد يضطر الأمر إلى إفراغ الكأس في كل نخب — فهو يقترح أن يكون هذا التكريم مضمرًا غير ظاهر.

وما إن انتهى الخطيب من خطبته هذه حتى تناول كل سيد منهم رشفة من الكأس في صحة سام، فلم يكن منه إلا أن تهوَّر فشرِب كأسين مليئتين من «البنتش»؛ تكريمًا لنفسه، وانبرى يرد على ذلك التكريم بخطاب طريف.

قال — وهو يغترف من البنتش بلا أدنى ارتباك أو أقل تردد: «إنني شاكر لكم كثيرًا أيها الإخوان، هذه التحية التي غمرتني من جانبكم، وهي تحية يزيد من قدرها زيادة أنوء بها لأنها جاءت من هيئتكم الموقرة؛ فقد سمعت الكثير عنكم في مجموعكم، ولكني أقول: إنني لم أكن أتصور أنكم ظرفاء إلى هذا الحد غير المألوف الذي لمسته هنا منكم، وكل رجائي أن تحرصوا على أنفسكم، ولا تنزلوا عن شيء من كرامتكم، وهو مشهد فاتن بديع يبدو لعين الإنسان كلما خرج للمشي والرياضة، وكم سعدت به مذ كنت صبيًّا يقرب طولي يومئذٍ من نصف العصا ذات المقبض النحاسي التي يحملها صديقي المحترم بليزيس الحاضر هنا، أما شهيد الظلم الذي يلبس الحلة الصفراء في لون الكبريت، فكل ما في وسعي أن أقوله عنه هو أنني أرجو أن يجد الوظيفة الطيبة التي يستحقها، وعندئذٍ لن يضايقه أكل اللحم البارد مرة أخرى.»

وجلس سام وهو يبتسم مسرورًا، وقوبلت خطبته بهتاف مدوٍّ، وانفض الاجتماع.

وقال سام ولر لصديقه المستر جون اسموكر: «ما هذا؟ هل تقصد أن تقول: إنك ذاهب يا أخي؟»

وأجاب المستر اسموكر: «أنا مضطر فعلًا، لقد وعدت بنتم.»

وقال سام: «آه! جميل جدًّا، هذا شيء آخر، وربما يستقيل هو الآخر إذا أنت أخلفت وعدك، وأنت أيضًا منصرف يا بليزيس؟»

وقال ذو القبعة المقلوبة الحاشية: «نعم، منصرف.»

وعاد سام يقول: «كيف هذا؟! أتنصرف وتترك ثلاثة أرباع زجاجة البنتش خلفك؟! كلام هراء، عد إلى الجلوس.» ولم يكن المستر طكل ليستطيع الامتناع عن إجابة هذه الدعوة، فوضع القبعة والعصا جانبًا بعد أن كان قد تناولهما، وقال: إنه سيشرب كأسًا واحدة من أجل الزمالة الطيبة.

وكان طريق السيد ذي الحلة الزرقاء إلى البيت هو عين الطريق الذي سيسلكه المستر طكل، فألحَّ عليه في البقاء فرضي بالجلوس، وقبل أن يفرغ نصف البنتش أو يكاد، طلب سام بعض الأصداف البحرية من حانوت الخضري، وكان تأثير الشراب والمحار مفرحًا للغاية، جعل المستر طكل ذا القبعة المقلوبة والعصا، يرقص الصدفات فوق المائدة رقصة الضفدعة، بينما انثنى السيد ذو الحلة الزرقاء يتبع حركات الرقص على آلة موسيقية ابتدعها، باستخدام مشط شعر وورق يستعمل لتجعيده، وفي النهاية، حين فرغ «البنتش» كله وكاد الليل ينتهي كذلك، انطلقوا جميعًا ليترافقوا حتى بيوتهم، وما كاد المستر طكل يخرج في الهواء الطلق حتى استولت عليه رغبة فجائية في النوم على الإفريز، ورأى سام أنه لا يليق به أن يعارضه في تلك الرغبة فتركه يفعل ما يشاء، وإذ كانت القبعة ستتلف إذا تركها فوق الأرض؛ فقد رأى سام مراعاة لها أن يجعلها «مسطوحة» على رأس السيد ذي الحلة الزرقاء، ووضع العصا الكبيرة في يده، وظل يدفعه حتى أوصله إلى باب بيته، ودق له الجرس بنفسه، ثم انصرف في رفق إلى بيته.

وهبط المستر بكوك مدارج السلم وهو مشتمل بثيابه، في صباح اليوم التالي، مبكرًا كثيرًا على غير عادته، ودق الجرس.

ومضى ينادي: «سام!» وحين ظهر المستر ولر استجابة لهذا النداء، أهاب به قائلًا: «أغلق الباب.»

وفعل سام كما أمر.

وأنشأ المستر بكوك يقول: «لقد وقع في الليلة الماضية يا سام حادث يؤسف له جعل المستر ونكل يتوقع عنفًا من المستر داولر.»

وأجاب سام: «هكذا سمعت من السيدة العجوز التي في الطابق الأسفل يا سيدي.»

ومضى المستر بكوك يقول وعلائم الارتباك الشديد بادية على وجهه: «ويحزنني يا سام أن أقول: إن المستر ونكل خشي هذا العنف فخرج ولم يعد.»

قال سام: «خرج ولم يعد!»

وأجاب المستر بكوك: «نعم، غادر البيت في بكرة الصبح، دون أن يتصل بي مطلقًا قبل خروجه، ولست أدري أين ذهب؟»

وأجاب سام باحتقار: «لقد كان أولى به أن يبقى ويناضل يا سيدي؛ لأن التغلب على هذا المدعو داولر لا يتطلب جهدًا كبيرًا.»

وقال المستر بكوك: «اسمع يا سام، قد أكون أنا كذلك في شك من شجاعته الكبيرة وقوة عزيمته، ولكن مهما يكُن من الأمر؛ فقد ذهب المستر ونكل ولم يعد، ولا بد من العثور عليه يا سام ورده إليَّ.»

وقال سام: «وافرض أنه لم يشأ أن يعود يا سيدي؟!»

وقال المستر بكوك: «فليرغم على العودة إرغامًا.»

وسأل سام وهو يبتسم: «ومن الذي يرغمه يا سيدي؟!»

وأجاب المستر بكوك: «أنت.»

وقال سام: «حسن جدًّا يا سيدي.»

وعلى أثر هذه الكلمات غادر المستر ولر الغرفة وسمعت عقب ذلك مباشرة حركته وهو يغلق الباب الخارجي في أثره، ولم تنقضِ ساعتان حتى عاد هادئًا كل الهدوء كأنه قد أُرْسِلَ لتأدية مهمة عادية للغاية، وأبلغ المستر بكوك أن شخصًا تطابق أوصافه من كل وجه أوصاف المستر ونكل قد ذهب إلى برستل صباح اليوم مستقلًّا المركبة العامة التي تقوم عادة من فندق رويال.

وتناول المستر بكوك يد خادمه وقال: «إنك يا سام لانسان بديع لا تقدر بثمن، فلتقتفِ أثره إذن.»

وأجاب المستر ولر: «بلا ريب يا سيدي.»

وقال المستر بكوك: «واكتب إليَّ في الحال عندما تهتدي إليه، فإذا حاول الهرب منك، فاصرعه أو احبسه، فإني مخوِّلك كل السلطة.»

وأجاب سام: «سأعنى كل العناية يا سيدي.»

ومضى المستر بكوك يقول: «وأبلغه أنني في أشد الثورة، والاستياء، والغضب، من هذا المسلك الشاذ الذي رأى أن يسلكه.»

وأجاب سام: «سأفعل يا سيدي.»

وقال المستر بكوك: «وقل له: إنه إذا لم يعد إلى هذا البيت معك، فسيعود معي أنا؛ لأنني سأذهب بنفسي فأعيده إليه.»

وأجاب سام: «سأذكر ذلك له يا سيدي.»

وقال المستر بكوك وهو يتفرس بجد في وجهه: «هل تظن أنك واجده يا سام؟»

وأجاب سام في ثقة بالغة: «سأجده مهما يكن موضعه!»

وقال المستر بكوك: «حسن جدًّا، وكلما أسرعت كان ذلك خيرًا وأجدى.»

وبهذه التعليمات راح المستر بكوك يضع قدرًا من المال في يدي خادمه الأمين، وأمره أن يسافر إلى برستل في الحال لمطاردة الهارب.

ووضع سام بعض الحاجيات في حقيبة مصنوعة من قطعة بساط وتهيَّأ للذهاب، ولكنه وقف عند نهاية الدهليز ثم عاد أدراجه في رفق وأطل برأسه من الباب، وهمس قائلًا: «سيدي.»

وأجاب المستر بكوك: «ماذا يا سام؟»

قال: «إنني فاهم التعليمات تمامًا، أليس كذلك يا سيدي؟»

وقال المستر بكوك: «أرجو ذلك.»

وعاد سام ليسأل: «لقد تفاهمنا على مسألة ضربه وصرعه، أليس كذلك يا سيدي؟»

وأجاب المستر بكوك: «تمامًا، كل التفاهم، افعل ما تراه ضروريًّا، وهذه أوامري.»

وأطرق سام إطراقة اليقين، وسحب رأسه من فتحة الباب، وانطلق في سبيل تنفيذ مهمته بقلب مفعم سرورًا وابتهاجًا.

١  يعني والده.
٢  سمَّاه سام «بليزيس» أي الوهج واللهب؛ لثيابه الحمراء، وبنى على هذه التسمية كل تلك الدعابة الجميلة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤