الفصل الخامس والأربعون

وصف لقاء ممتع بين صمويل ولر وأفراد حفل «عائلي»، وطواف المستر بكوك بذلك العالم الصغير الذي يقيم فيه، واعتزامه الإقلال ما أمكن من الاختلاط بأهله.

***

وفي ذات صباح بعد انفراط بضعة أيام على دخول صمويل ولر السجن، وقد فرغ من تنظيف حجرة سيده بكل عناية ممكنة، انتظر حتى رآه قد أكب في راحة وهدوء على كتبه وأوراقه، ثم انصرف لقضاء ساعة أو ساعتين فيما يطيب له أن يقضيهما، وكان الصباح صافيًا، فخطر له أن قدرًا يسيرًا من الجعة في الهواء الطلق، كفيل بقضاء ربع ساعة من وقته في متعة طيبة، إلى جانب أية متع صغيرة أخرى قد تتيسر له.

وصح منه العزم على تنفيذ هذه الفكرة فذهب إلى غرفة الشراب، وبعد أن اشترى حاجته منه وابتاع أيضًا عدد الصحيفة الصادرة قبل يوم أول من أمس، قصد إلى ميدان الكرة، فاقتعد متكأ، وأخذ في إمتاع نفسه في هدأة، وبطريقة منظمة.

فبدأ أولًا بجرعة منعشة من الجعة، ثم تطلع ببصره إلى إحدى النوافذ فأنعم بغمزة أفلاطونية من طرف عينه على شابة تقشر البطاطس، ثم نشر الصحيفة بين يديه، وعاد فطواها بحيث جعل القسم الخاص منها بأنباء الشرطة إلى الظهر، وهو عمل شاق ومتعب إذا هبت ريح، مهما تكن خفيفة؛ ولهذا تناول جرعة أخرى حين تم له طيها، ثم قرأ سطرين منها ووقف عن القراءة، لينظر إلى رجلين كانا يوشكان أن ينتهيا من لعب الكرة والمضرب، فلما انتهيا منه صاح قائلًا: «جميل جدًّا» استحسانًا منه وارتياحًا، ومضى يجيل البصر في وجوه النظارة لكي يستوثق من أن شعورهم متفق وشعوره، واقتضى ذلك التطلع مرة أخرى إلى تلك النافذة، وكانت الشابة لا تزال واقفة عندها، فرأى من الأدب أن يعاود الغمز لها ويشرب في صحتها، في حركات صامتة، ومعرض أخرس بلا كلام، نهلة أخرى من الجعة، ففعل، ثم تجهم وعبس في وجه غلام صغير كان قد فطن إلى هذه الحركة الأخيرة منه ففتح عينيه مبهوتًا، وراح يلف ساقًا بساق ويمسك الصحيفة بكلتا يديه، وبدأ يقرأ باهتمام حقيقي.

وما أن أكب على القراءة وانقطع لها عن عداها حتى خيل إليه أنه سمع صوتًا ينادي باسمه من دهليز بعيد، ولم يخطئ ظنه؛ لأن ذلك النداء ما لبث أن انتقل من فم إلى آخر، فلم تمض بضع ثوان حتى كان الفضاء مليئًا بصيحات منادية: «ولر!»

وصاح سام بصوت عال: «نعم، أنا هنا، ما الخبر؟ من الذي يريدني؟ هل جاء رسول خاص ليقول: إن منزله الريفي قد شب فيه حريق؟»

وقال رجل كان قريبًا منه: «إن أحد الناس يطلبك في البهو.»

وقال سام: «احرص يا صاح على هذه الصحيفة، وهذه الجرة من فضلك، حتى أعود إليهما، ولو كانوا ينادونني إلى محل الشراب لما أحدثوا كل هذه الضجة التي أحدثوها.»

وشفع هذه العبارة بربتة رفيقة فوق رأس الفتى الذي أسلفنا ذكره، وكان هذا لا يشعر بأنه جد قريب من الشخص المطلوب، فلبث يصرخ مناديًا «ولر» بكل ما فيه من قوة، وأسرع سام يشق الميدان ويصعد السلم إلى البهو، فكان أول شيء وقع عليه نظره هو والده المحبوب جالسًا فوق الدرجة السفلى من السلم، ممسكًا قبعته بيده، صائحًا «يا ولر» بأعلى صوته، مكررًا الصيحة كل نصف دقيقة.

وقال سام بعنف وغضب بعد أن انتهى الشيخ من إطلاق صيحة أخرى: «لماذا تزأر هكذا، حتى يمتقع لونك وتبدو كالصانع النافخ في الزجاج؟ ما الخبر؟»

وأجاب الشيخ: «ها! لقد كنت قد بدأت أخشى أن تكون قد ذهبت لتمشي قليلًا يا سامي حول متنزه «الريجنسي» (نائب الملك).»

وقال سام: «كفى تهكمًا على ضحية جشعك، وقم من السلم، ما الذي جعلك تجلس هكذا فوقه؟ هل هذا هو المكان الذي أسكنه؟»

وقال المستر ولر الكبير وهو ينهض: «إن لدي شيئًا يسرك يا سامي.»

وقال سام: «انتظر لحظة، إن ظهرك كله ملطخ بالجير.»

وقال المستر ولر وقد أخذ ابنه ينفض ظهره: «هذا جميل منك يا سامي، أزل الجير عنه، فقد يبدو الأمر هنا عجيبًا إذا مشى الإنسان والبياض هكذا على ملابسه، أليس كذلك يا سام؟»

وأخذت أعراض نوبة ضحك تبدو عليه فبادر سام إلى وقفها بقوله: «هلا سكت وأقلعت عن الضحك! ما رأيت في حياتي شيخًا مثلك ولد لكي تكون صورته أنسب الصور المطبوعة على بطاقات، ما الذي يضحكك الآن؟»

وقال المستر ولر وهو يمسح العرق عن جبينه: «إنني أخشى يا سامي أن يأتي يوم أضحك فيه حتى أنفجر من الضحك، أو أصاب منه بصرع يا بني.»

وقال سام: «إذن لماذا تفعل ذلك؟ والآن ماذا تريد أن تقوله لي؟»

وقال المستر ولر وهو يتراجع خطوة أو خطوتين ويزم شفتيه ويمد حاجبيه: «من تظن الشخص الذي جاء معي يا صمويل؟»

وقال سام: «أهو بل؟»

وهز المستر ولر رأسه وامتد خده الأحمر وامتط من ضحكة تحاول أن تنبعث منه أو تجد من فمه طريقًا إلى الخارج.

وقال سام: «ربما كان الرجل ذا الوجه المرقط؟»

وعاد المستر ولر يهز رأسه.

وسأل سام: «ومن إذن؟»

وقال المستر ولر: «زوجة أبيك!»

وكان من حسن الحظ أن بادر إلى الإفصاح، ولولا ذلك لتصدع خداه حتمًا من تمددهما المتناهي إلى حد غير طيبعي.

وقال المستر ولر: «امرأة أبيك يا سامي والرجل الأحمر الأنف يا بني، هو، هو، هو!»

وما أن فاه بهذا الاسم حتى عاد إلى نوبة ضحك أخرى، بينما وقف سام يتأمله وقد بدأت ابتسامة عريضة تغمر سائر تقاطيع وجهه شيئًا فشيئًا.

وقال المستر ولر وهو يمسح عينيه: «لقد جاءا لحديث جدي قصير معك يا صمويل، فلا تذكر شيئًا عن الدائن المزيف يا سامي.»

وقال سام: «لماذا؟ ألا يعرفان من هو؟»

وأجاب الوالد: «لا يعرفان أي شيء عنه.»

وقال سام، وهو يبادل الشيخ ضحكاته: «وأين هما؟»

وأجاب المستر ولر: «في الخلوة، وإنك لتبدو ماهرًا حقًّا لو أمكنك أن تجد الرجل الأحمر الأنف إلا حيث يوجد الشراب، مستحيل يا صمويل، لا يمكن.» وقال مستر ولر حين أحس بأنه قادر على أن يتحدث بعبارات مفهومة: «وقد ركبنا ركبة لطيفة جدًّا على الطريق من حانة المركيز في هذا الصباح يا سامي، وقد أتيت بذلك الأصلع العجوز في هذه العربة الصغيرة التي كان يملكها زوج امرأة أبيك الأول، وقد وضعنا فيها كرسيًّا ذا مسند ليجلس الراعي فيه — وهنا بدت على وجه المستر ولر نظرة سخرية بالغة — وأحضروا أيضًا سلمًا متنقلًا إلى الطريق أمام الباب ليصعد عليه.»

وقال سام: «هل تقول جدًّا؟»

وأجاب الوالد: «صحيح يا سامي، وليتك كنت معنا لترى كيف راح يتعلق بالمجانين وهو صاعد كأنما كان يخشى أن يسقط من طوله مسافة ست أقدام فيتناثر جسمه مليون ذرة، واندلق أخيرًا في جوف المركبة، وانطلقنا. وأكاد أعتقد، أقول: أكاد أعتقد يا صمويل أنه وجد نفسه يرتج ويهتز حين كنا ننعرج على النواصي.»

وقال سام: «وأظن أنك اصطدمت أيضًا بعمود أو عمودين.»

وأجاب الوالد وسط نوبة من الغمزات: «أخشى أن يكون هذا ما حصل يا سامي، وكان يقفز من فوق المقعد طول الطريق.»

وهنا هز الشيخ رأسه يمنة ويسرة، واستولت عليه خضخضة باطنية مبحوحة، مشفوعة بانتفاخ شديد في وجهه، وامتداد فجائي في كل قسماته ومعارفه، فانزعج سام كثيرًا من هذه الأعراض التي بدت عليه.

وقال الشيخ بعد أن استعاد صوته بجهد جهيد وخبط تشنجي كثير بقدميه فوق الأرض: «لا تنزعج يا سامي، لا تنزعج! إنها نوع من الضحك الهادئ المكتوم أحاول أن أطلقه.»

وقال سام: «إذا كان الأمر كذلك فالأفضل ألا تحاول إطلاقه مرة أخرى، إني أخشى أن تجد في مرة ما أن هذا الاختراع خطر.»

وسأل الشيخ فتاه: «ألا تحب ذلك يا سامي؟»

وأجاب سام: «أبدًا.»

وقال المستر ولر ولا تزال الدموع تجري على خديه: «والله لو كنت أطلقتها لاسترحت كثيرًا، ولأغناني عن كثرة الكلام مع امرأة أبيك أحيانًا، ولكني أظنك على صواب يا سامي؛ لأنها أشبه ما تكون بالصرع كثيرًا جدًّا يا سامي.»

وكانا قد بلغا بهذا الحديث باب الخلوة — قاعة الجلوس — فوقف سام لحظة ريثما يرسل بصره من فوق كتفه، ويلقي نظرة ساخرة إلى والده المحترم، وكان هذا لا يزال يضحك وهو سائر خلفه، ولم يلبث أن تقدم إلى الحجرة.

وقال سام وهو يحيي السيدة بأدب: «إنني لشاكر لك يا امرأة أبي هذه الزيارة، وأنت أيها الراعي، كيف حالك؟»

وقالت مسز ولر: «آه يا صمويل! هذا شيء مروع.»

وقال سام: «ليس الأمر كذلك أبدًا، أهو كذلك يا حضرة الراعي؟»

ورفع المستر استجنز يديه، وقلب عينيه، حتى لم يعد يبدو منهما غير البياض — أو على الأصح الصفار — ولكنه لم يحر جوابًا.

وقال سام وهو يلتفت إلى امرأة أبيه مستفسرًا: «هل هذا السيد يشكو من مرض أليم؟»

وأجابت مسز ولر: «إن هذا الرجل الطيب محزون لرؤيتك هنا يا صمويل.»

وقال سام: «أكذا هو؟ لقد كنت أظن من شكله أنه يمكن أن يكون قد نسي أن يتناول الفلفل مع آخر خيارة أكلها. اجلس يا سيدي، إننا لا نطالب بأجر إضافي على الجلوس كما قال الملك حين هب في وجوه وزرائه.»

وقال المستر استجنز بتعاظم: «أخشى أيها الفتى أن السجن لم يصلح منك.»

وأجاب سام: «عفوًا يا سيدي، ما الذي تفضلت اللحظة فقلته؟»

وقال المستر استجنز بصوت مرتفع: «قلت: إنني أخشى أيها الفتى أن هذه العقوبة لم تلن من طبعك.»

وأجاب سام: «سيدي، إنه لكرم جدًّا منك أن تقول هذا، وأرجو ألا أصبح أبدًا رقيق الطبع يا سيدي، أنا شاكر لك حسن رأيك يا سيدي.»

وعند هذا الحد من الحديث ارتفع صوت يكاد يشبه الضحك من جانب المقعد الذي كان المستر ولر الكبير جالسًا فيه، فلم يكن من مسز ولر بعد تفكير سريع في جميع الظروف المحيطة بالموقف، إلا أن رأت أنه من واجبها أن تأخذ في التشنج شيئًا فشيئًا.

قالت: «يا ولر، أقبل علينا.» وكان الشيخ يجلس في ركن من الحجرة.

وأجابها المستر ولر: «شكرًا لك يا عزيزتي، ولكني مرتاح جدًّا حيث أنا.»

وهنا انفجرت مسز ولر منتحبة.

وقال سام: «ما الذي جرى يا أم؟»

وأجابت مسز ولر: «أواه يا صمويل! إن أباك ينغص علي عيشي، ألا شيء يصلحه؟»

وقال سام: «ألا تسمع هذا الذي قيل الآن؟ إن السيدة تريد أن تعرف هل من شيء يصلحك.»

وأجاب الشيخ: «إنني مدين كثيرًا لمسز ولر لسؤالها اللطيف يا سامي، وأعتقد أن قصبة تبغ تفيدني كثيرًا، فهل أجد طلبي هنا يا سامي؟»

وعندئذ أطلقت مسز ولر مزيدًا من الدموع وراح المستر استجنز يئن أنينًا.

وقال سام وهو يتلفت حوله: «ها هو ذا السيد السيئ الحظ يعاوده المرض، أين تشعر به الآن يا سيدي؟»

وأجاب المستر استجنز: «في الموضع ذاته أيها الفتى … في الموضع ذاته.»

وقال سام بسذاجة كبيرة ظاهرة: «وأين يكون هذا يا سيدي؟»

وأجاب المستر استجنز وهو يضع مظلته فوق صداره: «هنا في الصدر أيها الفتى.»

ولم تستطع مسز ولر عقب هذا الرد المؤثر أن تتمالك مشاعرها، فأجهشت بالبكاء، وأعلنت أنها مقتنعة بأن الرجل المحمر الأنف قديس، وهنا اجترأ المستر ولر الكبير فقال بصوت خافت: إنه لا بد أن يكون مندوبًا عن اتحاد أبرشيات القديس سايمن في الخارج والقديس ووكر في الداخل.

وقال سام: «إنني أخشى يا أم أن يكون هذا السيد بهذا الالتواء البادي على سحنته يشعر بالعطش من هذا المنظر الكئيب الذي أمامه، هل هذه هي الحقيقة يا أم؟»

فنظرت السيدة الفاضلة إلى المستر استجنز تلتمس عنده الجواب، فما كان منه إلا أن أدار عينه في محجرها عدة مرات، وقبض بيمينه على حنجرته، وقلد عملية البلع للإيحاء بأنه عطشان!»

وقال المستر ولر وهو بادي الحزن: «أخشى يا صمويل أن يكون شعوره هو الذي جعله هكذا فعلًا.»

وأجاب سام: «وما هو نوع الصنبور الذي تعودت الشرب منه يا سيدي؟»

ورد المستر استجنز قائلًا: «آه! يا صديقي الفتى العزيز، كل الصنابير واحدة، وما اختلاف أنواعها إلا غرور.»

وقالت مسز ولر وهي ترسل أنة خافتة وتهز رأسها هزة المؤمنة على قوله: «هذا صحيح، هذا صحيح جدًّا.»

وقال سام: «والله قد يكون هذا صحيحًا، ولكن ما هو غرورك أنت الخاص؟ أي غرور تستلطف طعمه أكثر من سواه يا سيدي؟»

وأجاب المستر استجنز: «آه يا صديقي الفتى العزيز! إنني أحتقرها جميعًا، وإذا كان من بينها ما هو أقل في كراهية الطعم والرائحة من غيره فهو الشراب الذي يسمى الروم، على شرط أن يكون يا صديقي الفتى العزيز ساخنًا مع ثلاث قطع من السكر في كل كأس منه.»

وقال سام: «آسف جدًّا يا سيدي إذ أقول: إنهم لا يسمحون في هذا المحل ببيع هذا النوع المخصوص من الغرور.»

وقال المستر استجنز: «يا لقسوة قلوب هؤلاء الغلاظ! ويا لغلظة نفوس هؤلاء الجبابرة العتاة!»

وما أن فاه المستر استجنز بهذه الكلمات حتى عاد يحرك عينيه ويضرب صدره بمظلته، ومن الإنصاف لهذا السيد المحترم أن نقول: إن غضبه بدا صادقًا حقيقيًّا لا تصنع فيه ولا افتعال.

وبعد أن عقبت مسز ولر والسيد الأحمر الأنف على هذه المعاملة المنافية للإنسانية، بكل قوة وعنف، وبعد أن صبَّا مختلف أنواع اللعنات الدينية على رءوس أولئك الذين كانوا السبب في ذلك، اقترح السيد زجاجة من نبيذ «البورت» مع قليل من الماء الدفيء والتوابل والسكر قائلًا: إنه مصلح للمعدة، أقل طعمًا من ناحية «الغرور» من أية أشربة أخرى، فأجيب إلى طلبه، وراح الرجل الأحمر الأنف ومسز ولر ينظران إلى المستر ولر الكبير ويئنان، ريثما يتم إعداد الشراب المطلوب.

وقال المستر ولر: «اسمع يا سامي، إنني أرجو أن تكون نفسك قد انتعشت بهذه الزيارة اللطيفة، كما أن الحديث الذي يدور فيها مبهج جدًّا ومصلح لنفسيتك، أليس كذلك يا سامي؟»

وأجاب سام: «أنت رجل رذل، وأود ألا توجه إلي كلامًا آخر من هذا النوع القبيح.»

ولم يهذب هذا الرد المناسب من نفس المستر ولر الكبير، بل بالعكس عاود الضحك، حتى جعل عناده هذا، السيدة والمستر استجنز، يغمضان أعينهما، ويهزان نفسيهما فوق مقعديهما في اضطراب ظاهر، وإذا هو يؤدي عدة حركات صامتة توحي برغبته في لكم أنف استجنز وكسره. وكان يبدو عليه الارتياح الشديد لتلك الحركات الصماء، وكاد يضبط وهو يؤدي إحداها، حين انتابت المستر استجنز هزة، عند وصول الشراب، جعلت رأسه يمس قبضة المستر ولر، وقد ظل بضع لحظات وهو يؤدي بها تلك الحركات والألعاب «النارية» في الهواء، على قيد بوصتين من أذنه.

وقال سام في عجلة شديدة: «لماذا تمد يدك إلى الشراب بهذه الصورة الوحشية، ألا ترى أنك صدمت السيد بقبضة يدك؟»

وقال المستر ولر وقد شعر بشيء من الحياء لوقوع هذا الحادث غير المنتظر منه: «لم أكن أتعمد فعله يا سامي.»

وقال سام حين رأى السيد يعرك رأسه وهو مغيظ: «حاول يا سيدي مداواتها من الباطن، ما رأيك في هذا الشراب أو هذا «الغرور» الساخن يا سيدي؟»

ولم يجب المستر استجنز بكلام ما، ولكن شكله كان أكثر من الكلام تعبيرًا، وراح يذوق الكأس التي وضعها سام في كفه، وألقى المظلة على الأرض، ثم عاد يذوقها، ثم شربها جملة في جرعة واحدة ومسح شفتيه بلسانه ورفع الكأس يطلب أخرى.»

ولم تتخلف مسز ولر في تأدية ذلك الشراب حقه من الإنصاف، فقد بدأت بالاحتجاج بأنها لا تستطيع أن تذوق قطرة منه، ثم تناولت قطرة صغيرة، فقطرة أكبر. فقطرات كثرًا كبارًا، وكان شعورها أشبه ما يكون بتلك المواد التي تتأثر كثيرًا بالمياه القوية، فجعلت تذرف دمعة مع كل قطرة ترشفها من ذلك الشراب، ومضت تفعل ذلك، مذيبة مشاعرها على هذا النحو، حتى وصلت أخيرًا إلى حالة سيئة من الشقاء تثير الإشفاق الشديد.

وفطن المستر ولر الكبير إلى هذه الأعراض والأمارات، فأظهر امتعاضًا شديدًا منها، وحين جاءت القارورة الثانية من الشراب ذاته، وبدأ المستر استجنز يزفر زفرات أليمة، راح المستر ولر يبدي استياءً واضحًا من كل هذه الحركات، بعدة كلمات متقطعة وعبارات غير مفهومة، لم تتبين الأذان منها غير تكرار لفظة «دجل».

وراح يهمس في أذن ابنه، بعد أن أطال النظر إلى السيدة والمستر استجنز: «سأقول لك ما في الأمر يا صمويل يا ابني: إنني أعتقد أنه لا بد من أن يكون هناك شيء خاطئ في بطن امرأة أبيك، وفي جوف هذا الرجل الأحمر الأنف.»

وقال سام: «ماذا تقصد؟»

وأجاب الشيخ: «أقصد أن هذا الذي يشربانه لا يغذيهما مطلقًا، ولا يفيدهما أبدًا، بل يتحول كله إلى ماء سخين، ثم ينزل دموعًا من أعينهما، تأكد يا سامي أنه اعتلال في البنية.»

وأبدى المستر ولر هذا الرأي «العلمي» مصحوبًا بعدة عبسات وإيماءات مؤكدة له، وفطنت مسز ولر إليها فاستخلصت منها أنها تنطوي على تلميحات وإشارات مزرية بها أو بالمستر استجنز، أو بهما معًا، وإذا المستر استجنز نفسه ينهض مستويًا على ساقيه قدر إمكانه، ويأخذ في إلقاء محاضرة قيمة لخير السامعين وفائدتهم، ولا سيما المستر صمويل خاصة، الذي ناشده في عبارات مؤثرة أن يحرص على نفسه، ويحتاط لها، في هذه البؤرة السيئة التي ألقي فيها، وأن يمتنع عن كل نفاق، أو كبرياء، وأن يتخذه هو — أي: استجنز نفسه — الأسوة الحسنة في كل شيء، وأنه إذا فعل ذلك فسوف يتبين إن عاجلًا أو آجلًا أنه رجل ذو أخلاق فاضلة مثله، وصفات لا تشوبها شائبة، وأن جميع من عرف قبل اليوم من الصحاب والخلطاء أراذل وأوغاد وشهوانيون لا صلاح لهم، وأنه لا يسعه إلا أن يشعر من هذه الناحية بمنتهى الارتياح.

وأهاب به كذلك أن يجتنب السكر قبل أي شيء سواه، فهو منقصة لا يعرف لها شبيهًا غير ولوغ الخنازير بالأقذار وتمرغها في الحمأة، وغير تلك العقاقير السامة المهلكة التي تمضغ في الأفواه، والتي يقال: إنها تذيب الذاكرة وتبددها تبديدًا. وما كاد السيد المحترم ذو الأنف الأحمر يبلغ هذا الحد من محاضرته، حتى بدا كلامه غير مفهوم ولا متماسك العبارات إطلاقًا، وراح يتمايل في حماسة بالغة حتى كاد يسقط لولا أن أمسك بظهر مقعد ليصلب طوله.

ولم يشأ المستر استجنز أن ينصح لسامعيه بالحذر والحيطة من أولئك المتنبئين الكذبة وأدعياء التدين الأثمة الدجالين، الذين تجردوا من كل نزوع إلى مناصرة تعاليم الدين وأصوله، وخلوا من كل شعور يدفعهم إلى التمسك بمبادئه وجوهر تعاليمه، فهم أشد خطرًا على المجتمع من المجرمين العاديين؛ لأنهم لا يرون بدًّا من أن يخدعوا، ويغرروا بالجهال، ويعرضوا للسخرية والامتهان ما كان أولى به أن يكون موضع التقديس والتعظيم، ويسيئوا بمسلكهم هذا إلى سمعة هيئات كبيرة تضم خلقًا كثيرًا من أهل الفضل وذوي الأقدار، في أحسن الطوائف، وأجدر الجماعات بالإكبار. ولكنه استند إلى ظهر المقعد لحظة طويلة، وأغمض إحدى عينيه، وأطال الغمز بطرف الأخرى، فكان المفهوم من ذلك أنه فكر في هذا كله وتدبره، ولكنه احتفظ به لنفسه.

وظلت مسز ولر خلال هذه المحاضرة تبكي وتنتحب عند نهاية كل فقرة من فقراتها، بينما جلس سام ملتف الساق بالساق على أحد المقاعد، مسندًا ذراعيه إلى السياج، ناظرًا إلى الخطيب نظرات اقتناع شديد بقوله، ولطف ظاهر على وجهه، وأن جعل بين لحظة وأخرى يلقي نظرة عرفان على الشيخ. وكان هذا قد بدا مغتبطًا في أول المحاضرة ثم ذهب في النوم عند وصولها إلى النصف أو قرابته.

وصاح سام حين رأى الرجل الأحمر الأنف عقب الفراغ من المحاضرة يلبس القفاز البالي، ويدخل أنامله في أطرافه المثقوبة، حتى بدت عقدها ظاهرة للأبصار: «مرحى! جميل جدًّا! بديع للغاية!»

وقالت مسز ولر بجد شديد: «أرجو أن ينفعك هذا القول الحكيم يا صمويل.»

وأجاب سام: «أعتقد ذلك يا أم.»

وقالت مسز ولر: «أتمنى أن ينفع والدك أيضًا.»

وأجاب المستر ولر الكبير: «شكرًا يا عزيزتي، وكيف تشعرين أنت بعد هذا الكلام الذي سمعته يا حبيبتي؟»

وصاحت مسز ولر: «يا ساخر.»

وقال المستر استجنز المحترم: «يا من تعيش في ظلمات الجهل!»

وقال المستر ولر: «إذا لم أجد نورًا أحسن من ضوئك هذا أيها المخلوق الفاضل، فأغلب ظني أنني سأستمر حوذيًّا «ليليًّا» حتى أتقاعد كليَّةً من العمل على الطرق، والآن يا مسز ولر، إذا أطال الأبلق الوقوف أكثر من هذا على ساقيه فلن يجد شيئًا يقف عليه حين نعود، ومن يدري، فقد ينقلب المقعد الكبير في ثغرة أو ما أشبه، هو والراعي معًا.»

وما أن سمع المستر استجنز المحترم هذا الافتراض وهو في ذهول ظاهر، وفزع بالغ، حتى جمع قبعته ومظلته واقترح الانصراف في الحال، فوافقت مسز ولر على اقتراحه، وسار سام معهم إلى الباب وودعهم وداعًا لائقًا.

وقال الشيخ: «وداعًا يا صمويل.»

وسأل سام: «ماذا تعني وداعًا هذه؟»

وأجاب الشيخ: «إذن أقول: نرى وجهك بخير.»

وقال سام: «آه، أهذا ما تقصده؟ إلى الملتقى إذن.»

وتلفت المستر ولر محاذرًا وهمس قائلًا: «اسمع يا سامي، سلم على سيدك وقل له: أن يتصل بي إذا غيَّر رأيه في هذه المسألة التي هنا، فقد فكرت أنا وصانع أثاث في طريقة لإخراجه من هذا المكان.» وراح يضرب ابنه على صدره بظاهر كفه، ويتراجع خطوة أو خطوتين وهو يقول: «صانع بيان يا صمويل، صانع بيان.»

وقال سام: «ماذا تقصد بهذا؟»

وقال المستر ولر بلهجة أشد غموضًا من قبل: «بيان أربعين يا صمويل يمكن أن يستأجره، بيان لا يعزف ولا يرسل أنغامًا يا سامي.»

وقال: «وما الفائدة منه؟»

وأجاب المستر ولر: «دعه يرسل إلى صديقي صانع الأثاث ليحضره إليه يا سامي. هل فهمت الآن؟»

قال: «كلا».

وأجاب الوالد مخافتًا بصوته: «يعني أنه لا يحتوي على شيء في جوفه، فهو بيان خالي العدد تمامًا، ومن السهل أن يدخل في جوفه هو وقبعته وحذاؤه، ويتنفس من طرفي رجليه. ويعد جواز سفر إلى أمريكا؛ لأن الحكومة الأمريكية لن تسلمه أبدًا، حين تعلم أن لديه مالًا ينفقه في بلادها يا سامي، ودع سيدك يبقى هناك حتى تموت مسز باردل، أو يشنق ددسن وفج، وإن كنت أعتقد أن شنقهما سيحدث غالبًا قبل وفاتها، وعندئذ يعود فيضع كتابًا عن الأمريكيين فيربح ما يعوض عليه كل المصاريف وزيادة إذا عرف كيف يستفيد منها.»

ولبث المستر ولر يلقي تفاصيل هذه «المؤامرة» بعجلة وهمس شديدين، وكأنما خشي أن يضعف تأثير هذه الفكرة الضخمة التي كاشف ولده بها، إذا هو أطال الكلام فيها، فحيا تحية السائقين، واختفى.

ولم يكد سام يسترد سكينته ويعيد إلى وجهه هدوءه المألوف بعد أن أزعجه كثيرًا هذا السر الذي أفضى به إليه والده المحترم، حتى أقبل عليه المستر بكوك وقال له ذلك السيد: «يا سام.»

وأجاب مستر ولر: «نعم يا مولاي.»

وقال المستر بكوك وهو يبتسم: «إنني ذاهب في جولة حول السجن وأحب أن ترافقني، إني أرى سجينًا نعرفه قادمًا نحونا يا سام.»

وسأل المستر ولر: «أيهما يا سيدي؟ أهو السيد الذي كل رأسه شعر أم السجين اللطيف ذو الجوربين؟»

وأجاب المستر بكوك: «لا هذا ولا ذاك، إنه صديق قديم لك يا سام.»

وصاح سام مبهوتًا: «صديق لي يا سيدي؟»

وأجاب المستر بكوك: «أؤكد لك أنك تذكره جيدًا يا سام، وإلا كنت أقل اكتراثًا بأصدقائك القدامى مما أظن، صه يا سام ولا كلمة، بل ولا حرف، ها هو ذا.»

وما أن فرغ المستر بكوك من هذا الكلام حتى تقدم جنجل، وكان يبدو أقل سوءًا، وأخف بؤسًا، مما بدا أول مرة، فقد جاء مرتديًا حلة نصف بالية، كان المستر بكوك قد أعانه على استردادها من راهن الثياب، وكان عليه قميص نظيف أيضًا، وقص شعره كذلك، وإن ظل شاحب اللون نحيفًا، وما كاد يدنو بطيء الخطى معتمدًا على عصا، حتى تبين أنه يعاني ألمًا شديدًا من المرض والحاجة، وأنه لا يزال واهنًا خائر القوى. ورفع قبعته للمستر بكوك حين حياه، وبدا عليه الحياء البالغ، والذلة الشديدة، عندما ألمت عينه بسام ولر.

وجاء في أذياله المستر جب ترتر الذي لا مكان في ثبت مساويه، على الحالات كلها، للغدر برفيقه أو عدم الإخلاص لصاحبه. وكان لا يزال يبدو في أسمال بالية قذرة لطول ما أُهملت، ولكن وجهه لم يكن غائرًا بالقدر الذي كان عليه عند أول لقاء بينه وبين المستر بكوك منذ بضعة أيام. وغمغم وهو يرفع إليه قبعته محييًا ببعض كلمات متقطعة يعبر بها عن عرفانه، ويتمتم بعبارات عن نجاته من الجوع.

وقال المستر بكوك وهو يقاطعه نافذ الصبر: «حسن جدًّا، حسن جدًّا، اذهب مع سام، فإني أريد أن أتحدث مع المستر جنجل، هل في إمكانك أن تمشي دون الاستناد إلى ذراعه؟»

وأجاب جنجل عن هذا السؤال الأخير الموجه إليه قائلًا: «بلا شك يا سيدي … أنا على استعداد تام … وإن كنت لا أسرع كثيرًا … الساقان راعشتان … والرأس يدور دورانًا عجيبًا … ويلف … نوع «زلزالي» من الشعور … جدًّا.»

وقال المستر بكوك: «هات ذراعك، هيا.»

وأجاب جنجل: «كلا، كلا، لن أفعل، أفضل ألا أفعل.»

وقال المستر بكوك: «كلام فارغ، استند إلى ذراعي، إنني أريد ذلك يا سيدي.»

وشاهد المستر بكوك ارتباكه واضطرابه وأنه حائر لا يدري ماذا هو صانع، فاختصر الكلام وسحب ذلك «المتجول» المريض من ذراعه وسار به، دون أن يفوه بكلمة أخرى.

وكان وجه المستر ولر طيلة الوقت يبدو في أشد الذهول والدهشة التي يتسع للخيال أن يصورها، وبعد أن مضى ينقل عينه بين جب وجنجل، وبين جنجل وجب، في صمت عميق، انثنى يقول برفق: «والله إني لفي حيرة شديدة»، وطفق يكرر هذه العبارة عشرين مرة على الأقل، ثم ارتج في النهاية عليه، وعاد ينظر إلى أحدهما، ثم يتحول بعينه إلى الآخر، في حيرة صامتة ودهشة خرساء.

والتفت المستر بكوك خلفه وقال: «يا سام.»

وأجاب المستر ولر: «أنا آتٍ يا سيدي»، وراح يتبع سيده مذهولًا شارد الخاطر، وهو لا يزال ينظر إلى المستر جب ترتر الذي كان يسير بجانبه صامتًا.

ولبث جب مطرقًا إلى الأرض لحظة، وسام لا يبرح ينظر إلى وجهه، حتى اصطدم بالذين كانوا يروحون ويغدون في ذلك المكان، وراح يدهم الأطفال الصغار، ويتعثر بالمدارج، ويتخبط في القضبان وهو لا يشعر، حتى رفع جب أخيرًا بصره خلسة إليه فقال: «كيف حالك يا مستر ولر؟»

وصاح سام قائلًا إنه: «هو بعينه.»

وما كاد يتحقق ذلك، ويزول كل شك كان يخامره، حتى ضرب ساقه بكفه ونفس عن شعوره بإطلاق صفير حاد مستطيل. وقال جب: «لقد تنكرت الدنيا لي يا سيدي.»

وأجاب ولر وهو ينظر إلى أسماله في دهشة لا يستطيع إخفاءها: «أعتقد ذلك، وهو تغير من سيئ إلى أسوأ يا مستر ترتر كما قال أحدهم حين تناول شلنين وستة بنسات رديئة أو مشكوكًا فيها مقابل نصف كراون من العملة الطيبة.»

وأجاب جب وهو يهز رأسه: «فعلًا، ولم يعد الخداع يجدي الآن شيئًا يا مستر ولر.» وهنا نظر نظرة خبث عابر وعاد يقول: «إن الدموع ليست الأدلة الوحيدة على المحن والخطوب، ولا هي بأحسنها ولا أقواها حجة.»

وأجاب سام وقد أدرك المراد: «نعم، ليست كذلك فعلًا.»

وقال جب: «إن الدموع يمكن التظاهر بها يا مستر ولر.»

وأجاب سام: «أعرف ذلك، وأعرف أن بعضهم يعدها إعدادًا، ويجهزها مقدمًا، وفي وسعه أن ينتزع الغطاء متى شاء فتنهمر انهمارًا.»

وأجاب جب: «نعم، ولكن هذه الأشياء لا يمكن تزييفها بسهولة يا مستر ولر، إن استثارتها عملية مؤلمة.» وأشار عندئذ إلى خديه الشاحبين الغائرين في صحن وجهه وشمر عن ساعده، فكشف عن ذراع بدت كأن عظامها توشك أن تنكسر من مجرد لمسها، فقد كانت تلوح متناهية في الضمور والنحول من تحت غطائها الواهن من اللحم.

وقال سام متراجعًا من بشاعة هذا المشهد: «ما الذي كنت تصنعه بنفسك؟»

وأجاب جب: «لم أصنع بها شيئًا.»

وقال سام مبهوتًا: «لم تصنع بها شيئًا!»

وأجاب جب: «لم أفعل شيئًا منذ عدة أسابيع، ولم أكن أؤدي عملًا، ولا أكاد أذوق شيئًا من الطعام والشراب.»

وألقي سام نظرة شاملة على وجه المستر ترتر الضامر النحيل، وثيابه البالية، ثم تناوله من ذراعه وبدا يسحبه بعنف شديد.

وقال جب وهو يحاول عبثًا التخلص من قبضة عدوه القديم «أين تذهب بي يا سام؟»

وقال سام: «هيا بنا، هيا بنا!»

ولم يحاول شرح مراده حتى وصلا إلى قاعة الشراب، فطلب جرة من الجعة، فجيء بها سريعًا، وانثنى يقول: «والآن، اشربها إلى آخر قطرة فيها، ثم اجعل عاليها سافلها، حتى أرى أنك قد شربت الدواء.»

وقال جب متمنعًا: «ولكن يا عزيزي المستر ولر.»

وقال سام بلهجة قاطعة: «هيا، اسكبها في جوفك!»

وامتثل المستر ترتر للنصيحة فرفع الجرة إلى شفتيه، وراح برفق، وعلى درجات لا تكاد تبين، يميلها في الفضاء، وقد تمهل مرة واحدة ليأخذ نفسًا طويلًا، وإن لم يرفع وجهه عن الوعاء، فلم تكد تمضي بضع لحظات، حتى أمسك بها على حبل ذراعه مقلوبة فارغة، لم يسقط منها غير ذرات قليلة من الرغوة، لبثت تنفصل شيئًا فشيئًا من الحافة وتتقاطر بطيئة متثاقلة.

وقال سام: «أحسنت، والآن كيف تشعر بعد شربها؟»

وأجاب جب: «أحسن حالًا يا سيدي، أعتقد أنني أحسن حالًا.»

وقال سام بلهجة المجادل المحاج: «بالطبع، إن هذا أشبه بوضع غاز في منطاد، وأرى بالعين المجردة أن هذه العملية نجحت، وأنك أقوى الآن مما كنت، ما رأيك في واحدة أخرى من عين الحجم؟»

وأجاب جب: «أفضل ألا أفعل، إنني شاكر لك كثيرًا يا سيدي، وأفضل كثيرًا ألا أفعل.»

وقال سام: «إذن ما قولك في تناول شيء من الطعام؟»

وأجاب المستر ترتر: «الفضل لمعلمك الفاضل يا سيدي، فقد تناولنا بمنه وكرمه نصف فخذ من الضأن أدخل الفرن قبل الثالثة بربع ساعة، ومن تحته البطاطس لنغني عن أنفسنا مؤونة سلقه.»

وقال سام: «ماذا أسمع؟ هل كان «هو» الذي يمدكما بالطعام؟»

وأجاب جب: «نعم، بل بأكثر من ذلك يا مستر ولر، فقد استأجر لنا غرفة حين رأى سيدي في مرض شديد، وكنا من قبل في وجار الكلاب، ودفع عنا الأجرة يا سيدي، وجاء ليتفقد أحوالنا ليلًا، حتى لا يعرف أحد شيئًا عما يفعله.»، وهنا اغرورقت عيناه لأول مرة بعبرات صادقة ومضى يقول: «إنني لا أتردد يا مستر ولر في خدمة ذلك السيد حتى أسقط ميتًا عند قدميه.»

وقال سام: «اسمع، أنا سأتبعك يا صاحبي، لا تقل مثل هذا الكلام أبدًا.»

وبدت الدهشة على وجه المستر ترتر.

وعاد سام يكرر بقوة: «قلت لك لا تتكلم هكذا، فلا أحد يخدمه سواي، والآن وقد أفهمتك هذا أحب أن أكاشفك بسر آخر» — وهنا دفع حساب الجعة — ومضى قائلًا: «إنني لم أسمع — انتبه لكلامي — ولم أقرأ في الروايات، ولم أشاهد في الصور ملكًا مثله في أربطته وحذائه وغطاء ساقه، ولا في منظاريه كذلك، وإن كان من الجائز أن يحصل شيء كهذا وأنا لا أعرف، ولكن انتبه لكلامي يا جب ترتر وافهم جيدًا، إنه ملك نشأ نشأة طيبة، وتربى تربية عالية، ودعني أشهد أحد يجرؤ على أن يقول لي: إنه عرف ملكًا١ أحسن منه!»، وبهذا التحدي وضع المستر ولر باقي النقود في أحد جيوبه الجانبية وزرره، وانطلق بعدة إيماءات وإشارات مؤكدة لقوله، في طريقه، يبحث عن السيد الذي كان موضوع حديثهما.

ووجدا المستر بكوك يتحدث إلى جنجل بجد ظاهر، غير ملق نظرة على الجماعات المحتشدة في ميدان الكرة، وهي جماعات مختلفة الأشكال والألوان تستحق المشاهدة، ولو من قبيل الفضول والعلم بالشيء لا أكثر ولا أقل.

وكان المستر بكوك يقول حين اقترب سام ورفيقه منهما: «سوف ترى كيف تصبح صحتك، وتفكر في الأمر خلال ذلك وتتدبره، وتعال أبلغني حين تشعر بأنك على هذه المهمة قدير، وسأبحث في الموضوع معك بعد أن أكون قد فكرت فيه ودرسته، والآن عد إلى غرفتك فإنك متعب ولا تتحمل المكث خارج الغرفة طويلًا.»

وانحنى المستر ألفرد جنجل في صمت، وقد فارقته حيويته القديمة فلم تبق منها ولا شرارة واحدة، وزال عنه أيضًا كل أثر لذلك المرح الحزين الذي اتخذ سماته حين عثر المستر بكوك عليه أول مرة في شدة بؤسه وفاقته. وأشار جنجل إلى جب ألا يتبعه، وتسلل في بطء منصرفًا.

وقال المستر بكوك وهو يجيل العين فيما حوله متفكهًا: «هذا منظر غريب يا سام، أليس كذلك؟»

وأجاب سام: «جدًّا يا سيدي»، ثم أضاف إلى ذلك وهو يتحدث لنفسه: «لن تنقطع في هذه الدنيا العجائب، ولست أظنني مخطئًا كثيرًا إذا لم يكن جنجل هذا معتزمًا أن يفعل شيئًا من «فصوله» القديمة!»

وكانت المنطقة التي يحدها الجدار في هذا الجزء من السجن الذي وقف فيه المستر بكوك من الرحابة، بحيث تتسع لميدان فسيح من ميادين الكرة، ولكنها لا تزيد على ذلك، فإن جانبًا منها يتألف طبعًا من الجدار ذاته، ويتألف الجانب الآخر من ذلك الجزء من السجن الذي يطل — أو كان ممكنًا أن يطل لولا قيام ذلك الجدار — على كنيسة القديس بولص، وكان خلق كثير من المدينين رائحين فيه أو غادين، أو جلوسًا في مختلف نواحيه، وهم في فراغ ممل، وتبطل مسئم، بكل مظاهر الفراغ ومختلف أشكاله وصوره، وكان أغلبهم منتظرين اليوم الذي يقدمون فيه إلى محكمة «التفاليس»، وآخرون منهم قد أُمهلوا عدة مهلات للوفاء، أو أُعلنوا بالحضور أمامها في مواعيد مختلفة، فراحوا يقضون المهلات فارغين لاهين ما شاءوا، وكان فريق منهم في ثياب ضيقة، وآخرون في أردية رشيقة، وكثير منهم بادو المقاذر، وقليلهم النظاف، وهم جميعًا في ذلك المكان بين متكئ، ورائح، وغاد، بلا نشاط، ولا همة، ولا غرض، كأنهم وحوش أوابد في حديقة الحيوان.

ومن النوافذ المطلة على ذلك الممشى الفسيح أشرف فريق آخر، بعضهم في حديث صاخب مع معارفهم في الأدوار السفلى من البناء، والبعض الآخر يلعب الكرة مع بعض رماتها والمطوحين بها وهم وقوف في الميدان، وآخرون قد وقفوا يشاهدون اللاعبين في رحابه، أو يرقبون الغلمان الذين يتصايحون في حماسة لهم، وبين لحظة وأخرى تمر نساء قذرات ينتعلن أخفافًا في طريقهن إلى المطبخ القائم في ركن من الفناء، بينما ترى الأطفال في صراخ أو شجار أو ملاعبة في ركن آخر منه، وقد اختلطت أصوات الكرة وهي تسقط فوق أديم الأرض بصيحات اللاعبين، وغيرها من عشرات الأصوات، حتى ليعج المكان جلبة وضوضاءً، إلا في سقيفة صغيرة حقيرة على قيد خطوات من الفناء، حيث يرقد في سكون رهيب، جثمان موظف المحكمة الذي فارق الحياة في الليلة الماضية، منتظرًا ما يسمى سخرية بالتحقيق في أسباب الوفاة. الجثمان! هذا هو الاصطلاح الذي تواضع عليه رجال القانون في وصف مجموعة الهموم واللهفات والحب والآمال والأحزان، تلك المجموعة القلقة الدوامة المتحركة، التي يتألف منها كيان الإنسان الحي. لقد ظفر القانون بجثمانه، وها هو ذا راقد ملفف في أكفان رهيبة، شاهدًا مروعًا على رحمة القانون وشفقته.

وسأل جب ترتر: «هل تحب يا سيدي أن تشهد دكان الصفير؟»

وسأله المستر بكوك: «ماذا تقصد؟»

وتدخل المستر ولر فقال: «دكان صفير يا سيدي.»

وسأل المستر بكوك: «وما ذاك يا سام، أهو دكان هاوي طيور؟»

وأجاب جب: «سبحان الله يا سيدي، ليس هو كذلك، إن دكان الصفير هو يا سيدي المكان الذي يبيعون فيه المشروبات الكحولية.» ومضى المستر جب ترتر يشرح بإيجاز كيف أن لوائح السجن تمنع الأشخاص من نقل هذه المشروبات إلى سجون المدينين، وإلا تعرضوا لعقوبات شديدة، وأن المساجين فيها نساء ورجالًا يؤثرون هذه الأشربة على سواها، ويحبونها حبًّا جمًّا، وقد خطر لبعض السجانين المغامرين، في سبيل الكسب، الاتفاق سرًّا مع سجينين أو ثلاثة مساجين على بيع شراب «الجن» الأثير عند نزلاء السجن لطلابه سعيًا وراء الربح والانتفاع.

وختم بيانه بقوله: «ومن هذا ترى يا سيدي؟ إن هذه الخطة أخذت تدخل جميع سجون المدينين شيئًا فشيئًا.»

وقال سام في أثره: «ولهذه الطريقة مزية كبيرة جدًّا، وهي أن السجانين يحرصون أشد الحرص على القبض على أي إنسان يحاول الاتجار لحسابه، إلا الذين يؤدون إتاوات إليهم، فإذا وصلت الأنباء إلى الصحف راحت تنوه بيقظتهم، وتمتدح همتهم، وهم بذلك يضربون عصفورين بحجر، فيرهبون غير صنائعهم من عاقبة الاتجار بهذه الممنوعات، ويرفع من شأنهم.»

وقال جب: «هو ذلك تمامًا يا مستر ولر.»

وقال المستر بكوك: «نعم، ولكن ألا تفتش هذه الحجرات يومًا للتثبت من أنها تحوي هذه الأشربة مخبأة فيها أو لا تحوي شيئًا منها؟»

وأجاب سام: «تفتش بلا شك يا سيدي، ولكن السجانين يعرفون الموعد مقدمًا وينبهون أولئك «الصافرين» ليأخذوا حذرهم، وأنت تستطيع أن تصفر لهم حين تذهب لتفتش عن الشراب.»

وكان جب في هذه اللحظة قد طرق بابًا، فجاء رجل منفوش الشعر، ففتحه ثم أغلقه وراءهم عقب دخولهم وهو يبتسم، فابتسم جب كذلك، وفعل سام مثله، وعندئذ رأى المستر بكوك أنه قد ينتظر منه هو الآخر أن يبتسم، فلبث مبتسمًا إلى نهاية الاجتماع.

وبدا على السيد ذي الشعر المنفوش الارتياح التام لهذا الإعلان الصامت عن طلبهم، فأخرج زجاجة واسعة الجوف من الفخار قد تتسع لعشرة أكواب، من تحت سريره، فملأ منها ثلاثة أكواب من الجن فشربها جب ترتر وسام بطريقة تليق بالعمال المهرة في الشراب.

وقال السيد «الصافر»: «هل تطلبون مزيدًا؟»

وأجاب جب ترتر: «كفى.»

ودفع المستر بكوك الحساب، وفتح الباب، فخرجوا، بينما راح السيد المنفوش الشعر ينعم بإيماءة ودية على المستر روكر الذي اتفق مروره في تلك اللحظة.

وانطلق المستر بكوك من ذلك الموقع يطوف بكل الدهاليز والردهات، ويصعد ويهبط كل المدارج، ويعود فيُلم بالمنطقة كلها، فبدا له أن سكان هذا المكان جميعًا، ونزلاءه على بكرة أبيهم، هم ميفنز واسمانجل، والقسيس، والجزار، والنصاب، مضروبين في عشرات من أمثالهم، وأن السجن متشابه الأدوات والطبقات والأرجاء، في القذارة ذاتها، والجلبة عينها، والضوضاء نفسها، وسائر الصفات العامة في كل ركن وزاوية، وبين خيارهم وأشرارهم على السواء، وخيل إليه أن المكان أخلى ما يكون من الهدوء، وأقفر ما يكون من السكينة، وأن أهله في زحام لا ينقطع، ورواح أو غدو مستمر، كأنهم أشباح في حلم ثقيل.

وقال المستر بكوك وهو يتهالك على مقعد في غرفته الصغيرة: «لقد شهدت ما فيه الكفاية، إن رأسي لمصدع، وإن قلبي لموجع، من هذه المشاهد المنكرة، ومن الآن سأظل سجينًا في غرفتي لا أبرحها.»

وقد بر المستر بكوك بعهده، ونفذ عزيمته، فلبث ثلاثة أشهر سويًّا في غرفته لا يفارقها نهارًا، وإنما يتسلل منها ليلًا ليستنشق الهواء حين يأوي أغلب زملائه المساجين إلى المضاجع أو يسمرون ويقصفون في داخل حجراتهم، حتى بدأت صحته تعتل من هذا الاحتجاز الشديد، ولكن لم تستطع توسلات بركر المتكررة، ولا إلحاح أصدقائه المستمر، ولا نذر المستر صمويل ولر ونصائحه المتوالية، أن تثنيه قيد أنملة عن عزمه الذي لا يلين.

١  ملاك، قديس.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤