الفصل السابع والأربعون

أكثر ما يبحث فيه مسائل أعمال، والفائدة الموقوتة التي عادت على ددسن وفج، وعودة المستر ونكل إلى الظهور في ظروف غير مألوفة، وكيف تبين أن بر المستر بكوك أقوى من عناده.

***

ولبث جب ترتر يعدو غير مخفف من سرعته صوب «هولبورن»، سائرًا في عرض الطريق أحيانًا، وفوق الإفريز أحيانًا أخرى، وفوق البالوعات والمجاري تارة، تبعًا لتباين وطأة زحام السابلة من الرجال والنساء والأطفال والمركبات في كل مشروع من مشارع الطريق العام، غير عابئ بالحوائل، ولا متمهل لحظة في مسيره، حتى وصل إلى باب جريز ان. ولكنه رغم كل هذه السرعة التي قطع الطريق بها، وجد الباب مغلقًا منذ نصف ساعة قبل وصوله، وما كاد يهتدي إلى الغسالة التي تتولى خدمة المستر بركر، والتي تقيم مع ابنة لها متزوجة رضيت أن تهب يدها لغلام غير مقيم في أحد الفنادق، ويشغل غرفة في مسكن ما بشارع قريب من مصنع للجعة قائم خلف «جريز ان»، حتى لم يكن قد بقي على موعد إغلاق أبواب السجن دليلًا غير خمس عشرة دقيقة. ولا يزال الأمر مقتضيًا إخراج المستر لوتن من الغرفة الخلفية في حانة الماجباي واسطمب»، وما أن حقق جب هذا الغرض وأبلغه رسالة سام ولر، حتى دقت الساعة عشرًا.

وقال لوتن: «الوقت الآن متأخر جدًّا، ولن تستطيع العودة إلى السجن، إلا إذا كان معك المفتاح الخارجي يا صديقي.»

وأجاب جب: «لا ينشغل بالك بأمري، ففي إمكاني أن أنام في أي مكان، ولكن ألا ترى أنه يحسن أن نقابل المستر بركر الليلة حتى يتسنى لنا أن نكون هناك عند طلوع النهار؟»

وأجاب لوتن بعد أن فكر قليلًا: «لو كان الأمر يتعلق بإنسان آخر لما ارتاح المستر بركر أبدًا لذهابي إلى منزله في هذه الساعة، ولكن ما دام الأمر متعلقًا بالمستر بكوك، فإني أعتقد أنه لا بأس من الإقدام على أخذ مركبة ومحاسبة المكتب على الأجر.»

وما أن قرر المستر لوتن الأخذ بهذه الفكرة حتى تناول قبعته، وطلب إلى الزملاء المجتمعين تعيين نائب رئيس في غيبته إلى حين، وسار مع جب إلى أقرب موقف للمركبات، ونادى سائق أحسن مركبة شكلًا، وطلب إليه أن يسوق إلى شارع مونتاجيو في ميدان رسل.

وكان المستر بركر قد أقام حفلة عشاء في ذلك اليوم، كما يبدو من الأنوار الساطعة في نوافذ قاعة الطعام، وصوت معزف كبير أدخل عليه شيء من التحسين، وأنغام منبعثة منه قابلة للتحسين، ورائحة عباقة من اللحوم منتشرة في أفق السلم والمدخل. والواقع أنه اتفق قدوم مندوبين عن بعض الوكالات الكبيرة في الريف إلى المدينة في وقت واحد، فتألفت حفلة صغيرة للائتناس بهم، من المستر اسنكس أمين مكتب التأمين على الحياة، والمستر بروزي المستشار الكبير، وثلاثة محامين، وقاضٍ من محكمة التفاليس، ومحامٍ مترافع من التمبل، وتلميذ له في ريعان العمر صغير العينين وضع كتابًا قيمًا عن «قانون التركات»، ملأه بتعليقات وهوامش ونصوص ومراجع، وغيرهم من كبار ذوي المكانة ورفيعي الأقدار. واستأذن المستر بركر من هؤلاء السادة حين جاء الخادم فهمس له أن كاتبه قد حضر، فذهب إلى قاعة الطعام فوجد المستر لوتن وجب ترتر وهما يبدوان قاتمين كالأشباح على ضوء شمعة من شموع المطبخ، جاء فوضعها فوق المائدة السيد الذي تنازل فبدا في سراويل قصيرة وملابس داخلية من القطن، لقاء أجر يتقاضاه كل أربعة أشهر، وهو ينظر باحتقار إلى الكاتب وكل ما يتعلق بالمكتب.

وقال المستر بركر وهو يغلق الباب: «والآن يا لوتن ما الخبر؟ ألم يأت خطاب هام في طرد؟»

وأجاب لوتن: «كلا يا سيدي، هذا رسول من قبل المستر بكوك يا سيدي.»

وقال المستر بركر وهو يلتفت بسرعة إلى جب: «من المستر بكوك؟ آه، حسن — ماذا وراءك؟»

وأجاب جب: «إن ددسن وفج استصدرا حكمًا بالسجن على مسز باردل وفاء لأتعابهما يا سيدي.»

وصاح بركر وهو يضع يديه في جيبيه ويستند إلى المنضدة الجانبية: «لا تقل هذا!»

وأجاب جب: «بل هو الواقع، والظاهر أنهما استخلصا منها إقرارًا بها عقب المحاكمة مباشرة.»

وصاح بركر وهو يخرج يديه من جيبيه ويضرب بعقد يمناه راحة يسراه مؤكدًا: «يمين الله! إنهما لأبرع نصابين عرفتهما في حياتي!»

وقال لوتن: «وأحذق من عرفت يا سيدي من بين المشتغلين بالمهنة.»

وردد بركر هذه العبارة قائلًا: «حاذقين! لايعرف أحد كيف يمسك بهما.»

وأجاب لوتن: «هذا صحيح جدًّا يا سيدي، لا يعرف أحد كيف يمسك بهما.» ولبث المحامي وكاتبه يفكران بضع ثوان وعلى وجهيهما أمارات الحماسة والجد كأنهما يفكران في اكتشاف من أجمل وأروع الاكتشافات التي يمكن أن يتوصل إليها يومًا العقل البشري. وما كادا يفيقان نوعًا ما من غيبوبة هذا الإعجاب، حتى أنشأ جب ترتر يشرح بقية الرسالة التي حملها، وأطرق بركر مفكرًا وأخرج ساعته من جيبه.

وقال الرجل الصغير الجسم: «الساعة العاشرة تمامًا سأكون هناك، إن سام على حق، قل له هذا، ألا نتناول كأسًا من النبيذ يا لوتن؟»

وأجاب هذا: «شكرًا لك يا سيدي.»

وقال بركر وهو يلتفت إلى المنضدة الجانبية ليتناول زجاجة وقدحين: «أظنك تعني نعم.»

وكان لوتن يعني «نعم» فعلًا، فلم يسترسل في الموضوع، بل انثنى إلى جب فسأله بهمس مسموع عن رأيه في صورة بركر المعلقة قبالة الموقدة: «هل تشبهه إلى حد يثير العجب أو لا؟» فأجاب جب: بطبيعة الحال إنها لكذلك. وكان النبيذ عندئذ قد سكب في كأسيهما، فشرب لوتن في صحة مستر بركر والأولاد، وشرب جب في صحة بركر، ورأى السيد البادي في السراويل القصار أنه ليس ملزمًا أن يتقدم أشخاصًا من خدم المكتب إلى الباب، بينما عاد المحامي إلى قاعة الطعام، وذهب الكاتب إلى مجلسه المعتاد في حانة «الماجباي»، وقصد جب إلى سوق «كوفنت جاردن» لقضاء الليلة في سلة خضر!

وفي تمام الموعد المضروب في صباح اليوم التالي كان المستر بركر يدق باب غرفة المستر بكوك وهو منتعش صافي المزاج.

وخف سام ولر إلى فتحه، وأعلن المستر بكوك بقدوم الزائر قائلًا: «المستر بركر يا سيدي»، وكان المستر بكوك في تلك اللحظة جالسًا عند النافذة مستغرقًا في التفكير. وانثنى سام إلى المحامي فقال: «يسرني كل السرور أنك جئت مصادفة يا سيدي، فإني أعتقد أن المعلم يريد أن يقول لك كلمة ونصف كلمة.»

وألقى المستر بركر نظرة ذكية إلى سام توحي بأنه قد فهم المراد، وأدرك أنه لا ينبغي أن يقول: إنه قد طلب إليه المجيء، وأشار إليه أن يقترب وهمس في أذنه كلامًا موجزًا.

وقال سام متراجعًا من فرط الدهشة: «أتعني هذا حقًّا يا سيدي؟»

وأومأ بركر وابتسم.

ونظر المستر صمويل ولر إلى المحامي، ثم إلى المستر بكوك، وعاد ينظر إلى بركر، وابتسم ثم أرسل ضحكة عالية، وأخيرًا التقط قبعته من فوق البساط واختفى بغير شرح آخر أو بيان.

وسأل المستر بكوك وهو ينظر إلى بركر بدهشة: «ما معنى هذا؟ وما الذي جعل سام يبدو على هذه الصورة غير المألوفة؟»

وأجاب بركر: «أوه، لا شيء لا شيء، والآن أقبل يا سيدي العزيز وقرب كرسيك من المنضدة فإن عندي أشياء كثيرة أريد أن أقولها لك.»

وقال المستر بكوك حين رأى المحامي يضع فوق النضد رزمة صغيرة من الوثائق مربوطة بشريط أحمر: «ما هذه الأوراق؟»

وأجاب بركر وهو يفك العقدة بأسنانه: «أوراق قضية باردل وبكوك.»

وأراح المستر بكوك أرجل مقعده حتى حكت الأرض، وألقى بنفسه عليه، وشبك يديه، ونظر نظرة صارمة، إن صح أن المستر بكوك على هذه النظرة يومًا قادر، وانتظر ماذا يقول رجل القانون صديقه.

وقال هذا وهو لا يزال منشغلًا بفك العقدة: «ألا تحب سماع اسم القضية؟»

وأجاب المستر بكوك: «لا أحب سماعه فعلًا.»

واستتلى بركر قائلًا: «آسف لذلك؛ لأنه سيكون موضوع حديثنا.»

وقاطعه المستر بكوك في عجلة قائلًا: إنني لأوثر ألا يرد لهذا الموضوع ذكر بيننا مطلقًا يا سيدي.

وقال المحامي الصغير الجسم وقد فك الرزمة ونظر بلهفة إلى وجه المستر بكوك من زاويتي عينيه: «يوه، يوه، يا سيدي العزيز، ولكن ليس من ذكره بد، لقد أتيت إلى هنا لهذا الغرض خاصة، والآن هل أنت على استعداد لسماع ما سأقوله يا سيدي العزيز، لا عجلة، فإذا لم تكن مستعدًّا ففي وسعي أن أنتظر، وقد جئت معي بجريدة الصباح لمطالعتها، ووقتي تحت تصرفك، هأنذا بادئ القراءة.» وراح الرجل يضع ساقًا فوق أخرى، متظاهرًا بأنه سيبدأ القراءة بكل هدوء وجد.

وقال المستر بكوك وهو يرسل زفرة، ثم يتلطف فيبتسم في الوقت ذاته: «حسن، حسن، قل ما بدا لك، لعلها القصة القديمة؟»

وأجاب بركر وهو يطوي الجريدة بتؤدة ويردها إلى جيبه: «مع فارق واحد يا سيدي العزيز، فارق واحد، وهو أن مسز باردل المدعية في هذه القضية هي الآن حبيسة بين هذه الجدران يا سيدي.»

وأجاب المستر بكوك: «أعرف ذلك.»

وواصل بركر حديثه قائلًا: «جميل جدًّا، وتعرف أيضًا كيف جاءت إلى هنا، أقصد أن أقول: ما هي الأسباب، وبناء على طلب من؟»

وقال المستر بكوك متظاهرًا بالاستخفاف: «نعم، أو على الأقل لقد سمعت رواية سام عنها.»

وأجاب بركر: «إن روايته صحيحة تمامًا إذا أردت الحق، والآن إن أول سؤال أجدني مضطرًّا إلى توجيهه إليك هو: هل المراد أن تبقى هذه المرأة هنا؟»

وردد المستر بكوك العبارة ذاتها: «تبقى هنا!»

ومضى بركر قائلًا وهو يسند ظهره إلى المقعد ويتفرس في وجه موكله: «نعم، هل تبقى هنا يا سيدي العزيز؟»

وقال المستر بكوك: «وكيف يمكن أن تسألني هذا السؤال، إن الأمر يتعلق بددسن وفج، وأنت تعلم ذلك حق العلم.»

وأجاب بركر بلهجة قوية: «لا أعلم شيئًا كهذا، بل أعرف أنه ليس رهنًا بإرادة ددسن وفج، وأنت تعرفهما يا سيدي العزيز كما أعرفهما تمامًا، ولكن الأمر كله وبجملته رهن بمشيئتك أنت وحدك.»

وصاح المستر بكوك وهو ينهض بانفعال من مقعده ثم يعاود الجلوس في الحال: «بمشيئتي أنا!»

وطرق المحامي غطاء حق السعوط طرقتين اثنتين، وفتحه، وتناول قدرًا كبيرًا منه ثم أغلقه وكرر قائلًا: «نعم، بمشيئتك أنت.»

وكأنما استمد المستر بركر قوة وطمأنينة من السعوط فمضى يقول: «اسمع ما أقوله إلى آخره يا سيدي العزيز … إن سرعة إطلاق سراحها، أو بقاءها في السجن إلى ما شاء الله، رهن بمشيئتك، ومشيئتك وحدك، اسمعني إلى النهاية يا سيدي العزيز من فضلك، ولا تكن هكذا متحفزًا هائجًا؛ لأن ذلك سيجعلك تتصبب عرقًا، وليس في ذلك خير أو فائدة لك مطلقًا.»

ومضى بركر يقول، وهو يعد على أصابعه كل نقطة من نقاط كلامه بمجرد الفراغ منها: «أولًا، ليس في إمكان أحد أن ينقذها من هذه البؤرة الفاسدة سواك، وثانيًا، ألا سبيل أمامك إلى إنقاذها منها غير أداء نفقات هذه القضية وأتعابها المطلوبة من المدعية والمدعى عليه بالسواء إلى يدي هذين الحوتين المفترسين. والآن أرجوك أن تهدأ يا سيدي العزيز.»

وكان وجه المستر بكوك خلال هذا الحديث يبدو متغيرًا إلى حد يثير الدهشة المتناهية، وكان الرجل على وشك الانفجار من سورة الغضب، ولكنه لم يلبث أن هدأ من ثائرته قدر إمكانه. وعاد بركر يعزز قوى حججه بقدر آخر من السعوط، ومضى يقول: «وقد رأيت هذه المرأة في هذا الصباح، وأنت بأدائك الأتعاب تستطيع أن تحصل على إبراء تام من التعويض وإفراج في الحال، وهناك أمر آخر أعتقد أنه أحق لديك بالاعتبار يا سيدي العزيز، وذلك أن هناك إقرارًا اختياريًّا بخط يدها، في صورة كتاب موجه إلي بالذات، تعترف فيه بأن المسألة التي كانت موضوع النزاع أمام القضاء كانت من أولها إلى آخرها بإيعاز وتحريض من ددسن وفج، وأنها آسفة أصدق الأسف على أنها كانت أداة مسخرة لإيذائك وإزعاجك، وأنها لهذا ترجوني أن أتوسط لديك، وأطلب العفو عنها وأستميحك الغفران.»

وقال المستر بكوك بغضب: «إذا أنا طبعًا توليت عنها أداء الأتعاب، إنها لوثيقة قيمة حقًّا!»

وأجاب بركر بلهجة الانتصار: «ليس في الموضوع «إذا» يا سيدي العزيز، بل هناك هذا الكتاب بالذات الذي أتحدث عنه، جاءت به إلى مكتبي امرأة أخرى في التاسعة من هذا الصباح، قبل أن تطأ قدمي هذا المكان أو أتصل بمسز باردل نفسها، أقسم لك بشرفي أن هذا هو ما حدث تمامًا.» وانتزع الخطاب من الرزمة وألقاه عند مرفق المستر بكوك، ولبث دقيقتين يتناول سعوطًا وهو لا يطرف بعينيه.

وقال المستر بكوك برفق: «أهذا هو كل ما أردت أن تقوله لي؟»

وأجاب بركر: «ليس هذا هو كل ما أريد أن أقول تمامًا، وليس في إمكاني في اللحظة الراهنة أن أقول: هل ستكون صيغة «الإقرار» الذي كتبته المرأة بإيعاز من محامييها، ومدى الاعتبارات الظاهرة أمامنا، والدليل الذي نستطيع معًا أن نقيمه من واقع تطورات القضية ومراحل سيرها، كافية لتبرير اتهامهما «بالتواطؤ»، أخشى ألا تكون كافية يا سيدي العزيز؛ لأنهما أبرع وأذكى من أن يستهدفا لمثل هذا الاتهام، بل أشك في نجاحه، ولكني أريد مع ذلك أن أقول: إن الوقائع إذا أخذت مجتمعة فسوف تكون مبررًا كافيًا لتبرئتك في أعين جميع العقلاء مما اتهمت ظلمًا به، والآن يا سيدي العزيز ألخص لك الموقف فيما يلي: إن هذه المائة والخمسين جنيهًا أو المبلغ أيًّا ما يكون، إذا قربناه إلى عشرات الجنيهات ليس شيئًا يذكر بالنسبة إليك، وقد حكم المحلفون ضدك، لقد كان حكمهم ظالمًا خاطئًا، فليكن ذلك ولكنهم إنما قرروا ما قرروه اعتقادًا منهم أنه الحق، وهذا القرار ضدك، وأمامك الآن فرصة هنية مواتية لتضع نفسك في مكانة أعلى كثيرًا مما هي، تستطيع بلوغها ببقائك هنا؛ لأن الذين لم يعرفوك لن يعللوه إلا بأنه مجرد اختلال عقلي، وعناد سخيف، ولا شيء غير ذلك يا سيدي العزيز، فهل تتردد في تحامي هذا التعليل، هل تأبى إلا البقاء، ولا تريد أن تعود إلى أصدقائك، وجهودك القديمة، ومساعيك الغر، وصحتك، وألوان لهوك البريء؟ بل هل تأبى إلا أن يبقى خادمك الوفي الأمين في السجن معك طيلة حياتك؟ ولا تنس قبل كل شيء أن استجابتك ستمكنك من الأخذ بثأر كريم أعرف يا سيدي العزيز أنه ثأر يسكن إليه فؤادك، ويرتاح إليه خاطرك، وهو إعفاء هذه المرأة من مشاهد الشقاء والدعارة والفساد التي ما كنت لأرضى أن يتعرض رجل لمثلها إذا كان الأمر في يدي، فما بالك بتعريض سيدة لها، إن ذلك لأشنع وأرهب وأشد وحشية. والآن أسألك يا سيدي العزيز، لا بوصفي مستشارك القضائي فحسب، بل بوصفي صديقًا صدوقًا لك، هل أنت تارك الفرصة تفلت دون تحقيق هذه الأهداف كلها وإيتاء هذا الخير بجملته، لمجرد اعتبار تافه، وهو تسرب بضعة جنيهات إلى جيوب شقيين أثيمين لا فارق عندهما ولا حساب لشيء ما داما سيغتنمان من ورائه، وكلما أصابا غنمًا التمسا مزيدًا منه، وطمعًا في احتيال جديد سيؤدي حتمًا بهما إلى خاتمة سوأى، ونهاية أليمة، لقد بسطت هذه الاعتبارات أمامك يا سيدي العزيز ضعيفة مبتورة غير مستكملة، ولكني أرجو إليك أن تتدبرها، وتقلبها في خاطرك على مهل، وإني منتظر هنا بصبر لا ينفد لأتلقى الجواب.»

وقبل أن يتمكن المستر بكوك من الرد، وقبل أن يتسنى للمستر بركر أن يتناول جزءًا من عشرين من السعوط الذي يقتضيه حتمًا هذا الخطاب الطويل الذي لم يعتده، سمعت أصوات مغمغمة في الخارج، ثم دقة مترددة بالباب.

وصاح المستر بكوك وكان يبدو عليه أن توسلات صديقه قد أحدثت أثرها في نفسه: «يا للعجب! يا للعجب! أكثر ما يضايقني هذا الباب! من الطارق؟»

وقال سام وهو يطل برأسه: «أنا يا سيدي.»

وأجاب المستر بكوك: «لا أستطيع الكلام معك في هذه اللحظة يا سام، إنني مشغول الآن يا سام.»

وأجاب المستر ولر أستميحك عفوًا يا سيدي، ولكن هنا سيدة تقول: «إن لديها شيئًا خاصًّا تريد أن تفضي به إليك يا سيدي.»

وقال المستر بكوك وكان خاطره مزدحمًا بأخيلة مسز باردل وصورها: «لا أستطيع أن أقابل أية سيدة.»

وقال المستر ولر ملحًّا وهو يهز رأسه: «لست واثقًا من هذا كثيرًا يا سيدي، بل أعتقد أنك ستغير هذه النغمة إذا أنت عرفت من تكون، كما قال الصقر لنفسه وهو يضحك مسرورًا حين سمع شدو الطائر الأحمر الصدر من مكان قريب.»

وقال المستر بكوك: «ومن تكون؟»

وأجاب المستر ولر وهو ممسك الباب بيده كأن لديه حيوانًا غريبًا خلفه: «هل تريد أن تقابلها يا سيدي؟»

وقال المستر بكوك وهو ينظر إلى بركر: «أظن أنه لا بد.»

وصاح سام: «حسن جدًّا، هلموا، إن الرواية ستبدأ، دقوا الجرس، ارفعوا الستار، ليدخل المتآمران.»

ودفع سام الباب فانفتح، وإذا المستر نثنايل ونكل يندفع في ضجة إلى وسط الحجرة، وهو يقود بيده تلك الفتاة ذاتها التي كانت في ضيعة «ونجلي ديل» تنتعل الحذاء الذي يعلو الفرو وجهه، والتي بدت في هذه اللحظة مجموعة بديعة من الحياء، والخفر، والارتباك، والثوب الحريري في مثل لون السوسن، وقد زانت رأسها قبعة رشيقة، واختمرت بقناع شفاف، وبدت أملح من قبل وأبهر حسنًا.

وصاح المستر بكوك وهو ينهض من مجلسه: «الآنسة أرابلا ألن!»

وأجاب المستر ونكل وهو يهبط على ركبتيه جاثيًا: «كلا، بل مسز ونكل! عفوًا يا صديقي العزيز وغفرانًا!»

وكان المستر بكوك لا يصدق حواسه، وما نحسبه كان مصدقًا إياها، لولا اجتماع الشواهد على صحتها، بين الابتسام البادي على وجه بركر، ووقوف سام في المؤخرة مع الخادمة المليحة، وقد وقفا يراقبان ما يدور بأبلغ الرضا والارتياح.

وقالت أرابلا وهي غاضة من صوتها، كأنما روعها ذلك السكون: «أوه، يا مستر بكوك، هلا عفوت عن جرأتي؟»

ولم يجب المستر بكوك برد شفوي على ذلك الرجاء، بل أسرع في رفع المنظار عن عينيه، وتناول يدي الحسناء في يديه، وقبلها عدة مرات، قد تكون أكثر عددًا مما يقتضيه الموقف، وانثنى يقول للمستر ونكل، وهو لا يزال ممسكًا بإحدى يديها: إنه لكلب جريء وآمره أن ينهض من جثوته، وكان هذا قد لبث بضع ثوان يحك أنفه بحاشية قبعته فعل النادم المكفر عن ذنبه، فنهض ممتثلًا للأمر، فبادر المستر بكوك إليه، فضربه عدة لطمات على ظهره، ثم صافح بركر بحرارة، ولم يتخلف هذا عن الاشتراك في التحيات والمجاملات التي يدعو إليها الموقف، فحيا العروس، والخادمة المليحة، أصدق تحية، وشد يد المستر ونكل شدة ودية كريمة، وختم مظاهرة سروره وابتهاجه بتناول قدر من السعوط يكفي لجعل ستة رجال سليمي الأنوف يعطسون مدى الحياة.

وأنشأ المستر بكوك يقول: «كيف جرى ذلك كله يا ابنتي العزيزة، تعالي إلينا أقبلي فاجلسي ودعيني أسمع كل شيء، ما أجمل صورتها! ألا تبدو باهرة الشكل يا بركر؟!» وراح يتأمل وجه أرابلا بنظرات فخار بالغ واغتباط شديد، كأنها ابنته.

وأجاب الرجل القصير: «بديعة يا سيدي العزيز، ولو لم أكن متزوجًا لما انثنيت عن حسدك أيها الكلب!» وأتبع كلماته هذه بلكزة في صدر المستر ونكل، فلم يسع هذا إلا أن يبادله لكزة بلكزة، وقهقه الرجلان ضاحكين، ولكن ضحكاتهما لم تكن عالية مثل ضحكات المستر صمويل ولر، الذي كان عندئذ قد نفس عن صدره بتقبيل الخادمة المليحة خلف باب الخزانة.

وقالت أرابلا بأعذب ابتسامة يمكن تخيلها: «إني لعاجزة يا سام عن إيفائك حقك من الشكر، ولست ناسية الجهد الذي بذلته في الحديقة ونحن في كلفتن.»

وأجاب سام: «لا تقولي شيئًا ما عنه يا سيدتي، فإني لم أفعل غير مساعدة الطبيعة على تنفيذ ما أرادته يا سيدتي، كما قال الطبيب لأم الغلام بعد أن حجمه فأفضى به إلى الموت.»

وقال المستر بكوك وهو يريد اختصار هذه التحيات والمجاملات: «يا عزيزتي ماري، اجلسي، والآن كم مضى عليكما وأنتما زوجان؟»

ونظرت أرابلا إلى زوجها وسيدها مستحيية، فأجاب هو: «منذ ثلاثة أيام فقط.»

وقال المستر بكوك: «منذ ثلاثة أيام فقط؟ يا عجبًا! وماذا كنتما تصنعان كل هذه الأشهر الثلاثة؟»

وتدخل المستر بركر قائلًا: «فعلًا، هيا أقصصي علينا أسباب هذا الكسل والفتور؟ وأنت ترى دهشة المستر بكوك لأن الأمر لم يتم منذ شهور مضت.»

وأجاب المستر ونكل وهو ينظر إلى زوجته الخجلى المتوردة المحيا: «الواقع إنني لم أستطع إقناع «بللا» بالفرار من وقت طويل، فلما تيسر لي أن أقنعها انقضت فترة أطول من الأولى قبل أن تسنح لنا فرصة، وكان المفروض أيضًا أن تعطي ماري مخدوميها مهلة شهر قبل أن تتمكن من ترك خدمتهم في الدار الملاصقة، ولم نكن نستطيع أن نفعل شيئًا دون عونها ومساعدتها.»

وقال المستر بكوك وكان قد أعاد المنظار إلى عينيه، وأخذ ينقل البصر بين أرابلا وونكل، بذلك السرور البالغ الذي تضفيه حرارة القلب ورقة الشعور على وجوه البشر: «أقسم بشرفي أنكما في كل إجراءاتكما كنتما تسيران على طريقة منظمة، ولكن هل عرف أخوك القصة كلها يا عزيزتي؟»

وأجابت أرابلا وقد تغير لونها: «كلا، كلا، كلا، أنت وحدك يا عزيزي المستر بكوك الذي يجب أن يعرفها منك، من شفتيك أنت دون سواك، إنه عنيف شديد متحيز، ظل كل هذا الزمن متلهفًا كل التلهف على تزويجي بصديقه المستر سوير»، وهنا غضت من طرفها وأردفت تقول: «وإني لأخشى العواقب أشد الخشية.»

وقال بركر بلهجة جد ظاهرة: «آه، طبعًا، فلا بد من أن تتناول هذه المسألة بنفسك يا سيدي العزيز، فإن هذين الشابين سيحترمانك، ويستمعان إليك، دون أحد سواك إذا فاتحتهما في هذا الأمر، يجب عليك منع الضرر يا سيدي العزيز، حرارة الدم، حرارة الدم.» وهنا تناول كمية من السعوط منذرة وراح يهز رأسه هزة المتشكك.

وقال المستر بكوك برفق: «لقد نسيت يا حبيبتي، لقد نسيت أنني سجين!»

وأجابت أرابلا: «كلا، لم أنسَ يا سيدي العزيز، وما نسيت ذلك لحظة واحدة، ولم أنقطع عن التفكير في مدى آلامك وعذاب نفسك في هذا المكان البشع، ولكني كنت أعلل النفس بأن ما تعجز مختلف الاعتبارات عن حملك على فعله، قد يحفزك إليه حرصك على سعادتنا. وإذا أمكن أن يسمع أخي هذا أولًا منك، فإني على يقين أن الأمر سينتهي بيننا وبينه بالتراضي والتوفيق، إنه قريبي الأوحد في هذا العالم يا مستر بكوك، وأخشى أن أفقده هو أيضًا إذا لم تتشفع لي عنده وتدافع عني، وإني أعلم أنني أتيت أمرًا نكرا، ولم أحسن صنعًا.» وراحت أرابلا المسكينة تخفي وجهها في منديلها وتذرف الدمع السخين.

وأحدثت تلك العبرات أثرها في نفس المستر بكوك الكريمة، وطبيعته النقية البريئة، ولكن عندما جففت مسز ونكل دمعها، ومسحت عينيها، وأقبلت عليه متلطفة إليه ضارعة في أرق الأنغام من أعذب الأصوات لم يلبث أن اضطرب اضطرابًا شديدًا، وبدا عليه التردد، فلم يعد يدري ماذا هو صانع، فقد مضى يحك بعصبية ظاهرة زجاجة منظاره، وأنفه، وساقيه ورأسه وطماقيه.

وانتهز المستر بركر أعراض هذا التردد الواضح — والظاهر أن العروسين كانا قد ذهبا بالمركبة رأسًا إليه في ذلك الصباح — فأنشأ يقيم الحجة القانونية، ويتذرع بالفطنة البالغة، قائلًا: إن المستر ونكل الكبير، والد الشاب لا يزال يجهل نبأ الخطوات التي اتخذها ابنه في الحياة، وأن آمال الفتى في المستقبل معقودة على استمرار أبيه في بره به وعطفه عليه، وبقاء شعوره نحوه كما هو بغير نقصان، وهو ما يغلب على الظن أنه لن يكون إذا بقي هذا الحدث الكبير سرًّا مكتومًا عنه، وإن سفر المستر بكوك إلى برستل للقاء المستر «ألن»، يصح أن يقترن للعوامل ذاتها بالسفر إلى برمنجهام للقاء المستر ونكل الكبير، وأخيرًا، إن لهذا الرجل الحق تمامًا في أن يعد المستر بكوك إلى حد ما المرشد لابنه والناصح الأمين، وأنه لهذه الأسباب يجدر بالمستر بكوك، لما تحتله شخصيته من المكانة في النفوس، أن يتولى بنفسه شرح ظروف المسألة كلها شفويًّا للمستر ونكل الكبير، والنصيب الذي كان له فيها، والعمل الذي قام به خلال مراحلها المختلفة.»

ووصل المستر طبمن والمستر سنودجراس، وكان قدومهما في أنسب الظروف، عند بلوغ المناقشة هذه المرحلة، واقتضى الأمر شرح كل ما جرى لهما فاستوجب ذلك ترديد جميع الحجج مرة أخرى وتكرارها، وانبرى كل امرئ منهم بعد ذلك يبسط حجته الخاصة، على طريقته، ومدى مقدرته على الإيجاز أو الإسهاب. وأخيرًا، بعد أن أحرج المستر بكوك وحوصر وأخرج عن نياته واعتزاماته، وكاد يتعرض لخطر إخراجه من عقله كذلك، تناول أرابلا بين ذراعيه، وأعلن أنها مخلوقة محببة، وأنه لا يدري السر في محبته لها من البداية، وقال: إن قلبه لا يطاوعه يومًا فيقف في سبيل سعادة أحد من الشباب، فليصنعوا به إذن ما يشاءون.
figure
مستر ونكل يعود في ظروف غير عادية.

وكان أول شيء فعله المستر ولر حين سمع هذا الحديث أن أوفد جب ترتر في الحال إلى المستر «بل» الذائع الصيت برسالة يطلب إليه فيها أن يسلم الرسول «المخالصة» الرسمية التي كان والده الحكيم قد تركها ببعد نظره، وأصالة رأيه تحت يد ذلك العلامة الكبير، للتصرف فيها إذا دعت الطوارئ، وكان ما فعله سام بعد ذلك أن أنفق كل ما يملك من النقود في شراء خمسة وعشرين جالونًا من الجعة الخفيفة، وتوزيعها بنفسه في ميدان الكرة على كل من يريدون تعاطيها، ولبث يطلق صيحات الفرح في مختلف أرجاء المبنى حتى بح صوته ثم عاد في هدوء إلى حالته العادية وتصرفاته الفلسفية المألوفة.

وفي الساعة الثالثة بعد ظهر ذلك اليوم ألقى المستر بكوك آخر نظرة على غرفته الصغيرة، وراح يشق طريقه ما استطاع في غمار زحمة المدينين الذين تدافعوا في لهفة إليه لمصافحته حتى وصل إلى سلم المبنى، وهنا ألقى نظرة إلى الخلف، وأدار عينه فيما حوله، وفي الحال برقت عيناه، فقد شهد على جميع الوجوه الناحلة الذاوية أمارات الرضى عنه لعطفه وبره وإحسانه.

وقال المستر بكوك وهو يشير لفتى فيهم أن يقترب منه: «إن هذا الفتى يا بركر هو المستر جنجل الذي كنت أحدثك عنه.»

وأجاب بركر وهو يطيل النظر إلى جنجل: «حسن جدًّا يا سيدي العزيز، ستراني مرة أخرى أيها الشاب غدًا، وأرجو أن تعيش لكي تذكر وتقدر حق التقدير ما أنا مكاشفك غدًا به يا سيدي.»

وانحنى جنجل باحترام، وتولته رجفة شديدة حين تناول يد المستر بكوك، وارتد منصرفًا.

وقال المستر بكوك وهو يقدم السيد الآخر: «وهذا جب الذي أظنك تعرفه.»

وأجاب بركر ممازحًا: «أعرف الوغد، انتبه إلى صاحبك، وكن حاضرًا غدًا في الواحدة، أسامع أنت؟ والآن هل من شيء آخر؟»

وقال المستر بكوك: «لا شيء، وهل سلمت الرزمة الصغيرة التي أعطيتها يا سام لمؤجر غرفتك السابقة.»

وأجاب سام: «نعم يا سيدي، وقد انفجر باكيًا وقال: إنك لكريم عطوف، وإنه لم يكن يتمنى إلا أن تتمكن من تلقيحه بسل مستعجل؛ لأن صديقه القديم الذي عاش هنا أمدًا طويلًا قد مات، وهو لا يدري أين يجد صديقًا سواه.»

وقال المستر بكوك: «يا للمسكين! يا للمسكين! بارك الله فيكم يا صحابي!»

وما أن فاه المستر بكوك بكلمة الوداع هذه حتى أطلق القوم صيحة مدوية، واندفع خلق كثير منهم نحوه لمصافحته باليد مرة أخرى، بعد أن وضع ذراعه خلال ذراع بركر، وأسرع منصرفًا من السجن، وهو في تلك اللحظة أشد أسًى واكتئابًا منه حين دخله، وا أسفاه! كم من محزونين وتعساء قد تركهم من خلفه!

وكان المساء سعيدًا هنيًّا، لجمع معين بالذات، على الأقل، في فندق «جورج والرخم»، وما كان أسعد قلبين، وأملأهما سرورًا ومرحًا، حين غادرا باب ذلك الفندق المضياف في صبيحة اليوم التالي، وهذان هما قلب المستر بكوك، وفؤاد سام ولر، وكان أولهما قد أسرع إلى جوف مركبة بريد مريحة ذات مقعد صغير في المؤخرة، صعد إليه الآخر في خفة بالغة.

ونادى المستر ولر سيده قائلًا: «سيدي!»

وأجاب المستر بكوك وهو يخرج رأسه من النافذة: «ماذا يا سام؟»

قال: «أتمنى لو كانت هذه الخيل قد أقامت ثلاثة أشهر أو أكثر في سجن فليت يا سيدي.»

وسأل المستر بكوك: «ولماذا يا سام؟»

قال وهو يفرك يديه: «أتسأل لماذا يا سيدي؟ لكي نرى كيف تسرع في المسير لو أنها أقامت في السجن هذه المدة؟»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤