الفصل السادس

«جماعة» قديمة الطراز تلعب الورق … أشعار القسيس وأبياته … قصة «عودة السجين» …

***

ونهض عدة أضياف من مجالسهم في تلك القاعة القديمة؛ لتحية المستر بكوك وأصحابه عند دخولهم، وتوانى المستر بكوك خلال فترة التقديم والتعارف، ومراسيمها المرعية؛ ليتأمل القوم الذين أحاطوا به، ويلاحظ أشكالهم، ويفكر فيما عسى أن تكون شخصياتهم وصناعاتهم، وهي عادة كان يحرص على مراعاتها عادة، كدأب الكثير من العظماء أمثاله.

وكانت في مجلس الصدارة من الجمع سيدة عجوز، غطت رأسها بقبعة عالية، وارتدت «ثوبًا» من حرير ناصع اللون، وتبيَّن أنها لم تكن سوى والدة المستر «واردل» بجلالة قدرها، وكان مجلسها في الجانب الأيمن من المدفأة، بينما ازدانت الجدران بصور مختلفة نواطق بأنها نشأت النشأة الواجبة لها في شبابها، ثم لم تفارقها أو تنحرف عنها في مشيبها، وهي صور شتى … قديمة التواريخ، إلى جانب مناظر طبيعية، لا تقل عنها قِدَمًا، ومقابض قرمزية حريرية لأباريق شاي أحدث عهدًا، وكانت العمة والفتاتان والمستر واردل يتنافسون على إبداء العناية البالغة، والرعاية المستمرة للسيدة الكريمة، وهم مزدحمون حول مقعدها الرحيب، بين ممسكة بمسمعتها، ومتقدمة ببرتقالة في يدها، وأخرى بزجاجة رائعة لمعطسها، ورابعة منهمكة في توطئة الوسادات المرفوعة سنادًا لها، بينما جلس قبالتها سيد عجوز أصلع، يبدو المزاج الرافق والطيبة على وجهه، وهو قسيس دنجلي ديل، واتخذت زوجته مجلسها بجانبه، وهي سيدة متقدمة في العمر بدينة، متفتحة كأكمام الزهر، تبدو كأنها لم تبرع في فن صنع الأشربة المنزلية والمرطبات وأسرار تخميرها وإجادتها، إلى الحد البالغ الذي يرضي شاربها فحسب، بل برعت في مذاقها أحيانًا لإرضاء نفسها كذلك، وكان في القاعة أيضًا رجل صغير الجثة، شديد المراس، له وجه كالتفاحة، وهو يتحدث إلى سيد كبير السن بدين في ركن منها، واثنان أو ثلاثة أشياخ آخرين، ومثلهم من السيدات، وقد جلسوا جميعًا معتدلي القدود، جامدين في مقاعدهم، ينظرون مليًّا إلى المستر بكوك ورفقائه في سفره.

وانثنى السيد واردل يقول بأعلى صوته: «هذا هو السيد بكوك يا أماه.»

وقالت العجوز وهي تهز رأسها: «آه … لا أستطيع سماع كلامك.»

وهنا صرخت الفتاتان في نفس واحد: «المستر بكوك … يا جدتي.»

وصاحت العجوز: «آه … حسن … هذا الأمر لا يهم كثيرًا … بل أني لأجترئ فأقول إنه لا يعني بامرأة عجوز مثلي.»

وقال المستر بكوك وهو يتناول يد السيدة الكبيرة، ويرفع صوته حتى ليبدو الاحمرار على سحنته الخيرة: «أؤكد لك يا سيدتي، أن لا شيء أبهج لخاطري من لقاء سيدة في مثل سنك على رأس أسرة طيبة كهذه، تبدو في منتهى الشباب والعافية.»

وعادت السيبدة العجوز بعد لحظة سكون تقول: «آه … كل ذلك بديع … ولكني لا أستطيع أن أسمعه.»

وقالت إيزابللا واردل مخافتة: «إن جدتي الآن كدرة المزاج … ولكنها لن تلبث أن تتحدث إليك.»

وهز المستر بكوك رأسه هزة المستعد للتسامح أمام مناقص الشيخوخة وعيوبها، ومضى يشترك في الحديث العام مع السادات الآخرين.

قال: «موضع بهيج هذا.»

ورد أصحابه سنودجراس وطبمن وونكل هذه العبارة قائلين: «بهيج حقًّا.»

وقال المستر واردل: «أعتقد ذلك.»

وانثنى السيد الشديد المراس، المستدير الوجه كالتفاحة يقول: «ليس في إقليم «كنت» كله موضع أفضل من هذا الموضع يا سيدي، أي والله يا سيدي … إني لعلى يقين أن ليس فيه مكان أفضل.» وراح يتلفت حوله منتصرًا، كأن أحدًا قد عارضه معارضة شديدة، ولكنه في النهاية تغلَّب عليه.

وصمت الرجل لحظة، ثم عاد يقول: «ليس في جميع أرجاء «كنت» موضع أفضل.»

وهنا انبرى الرجل البدين يقول بجد: «إذا استثنينا مراعي مولين؟»

فصاح الآخَر باحتقار بالغ: «مراعي مولين!»

وعاد الرجل البدين يقول: «نعم، مراعي مولين.»

وتدخَّل سيد بدين آخَر فقال: «هذه أرض طيبة طبعًا.»

وقال بدين ثالث: «إنها لكذلك يقينًا.»

وقال المضيف اللحيم: «كل إنسان يعرف ذلك.»

وعندئذٍ ألقى الرجل العنيد المستدير الوجه نظرة تشكك حوله، ولكنه تبيَّن أنه «أقلية»، فاتخذ سمات الرفق والمسالمة، فلم يقل شيئًا.

وسألتِ العجوزُ إحدى حفيدتيها قائلة: «عمَّ يتحدثون؟» وكان صوتها مسموعًا مرتفعًا، كدأب معاشر الصم، كأنما لا يعنيها أن يسمع آخرون ما قالته.

وأجابت حفيدتها قائلة: «عن الأرض يا جدتي …»

قالت: «وماذا عن الأرض … هل من أمر ذي بال؟»

وأجابت الفتاة: «كلا … كلا … كان المستر ملر يقول: إن أرضنا أحسن من مراعي مولين …»

وقالت العجوز غاضبة: «من أين أتاه العلم بأرضنا؟ إن ملر لمختال فخور … ولكِ أن تقولي له إنني قلت ذلك.»

وما إن فرغت من قولها هذا، وهي لا تشعر بأن كلامها كان أكثر من همس، حتى استوت في جلستها، وحدجت الرجل الشديد المراس بنظر حادٍّ.

وبادر المضيف الكثير الحركة، في لهفة طبيعية على تغيير موضوع الحديث، يقول: «هلم … هلم … ما قولك في لعبة «ربر»، يا مستر بكوك؟»

قال: «أحب الأشياء إلى نفسي … ولكن أرجوك ألا نجعل اللعب على حسابي.»

قال: «أؤكد لك أن أمي مولعة بلعبة «الربر» … ألست كذلك يا أمي؟»

وأجابت العجوز بالإيجاب، وكانت أقل صمتًا بكثير في موضوع لعب الورق مما هي في الموضوعات الأخرى.

وصاح السيد الكبير مناديًا: «جو … جو … لعنة الله … ولكن ها هو ذا … هلم هيِّئْ لنا موائد اللعب.»

فمضى ذلك الغلام النوام بغير حاجة إلى مزيد من اليقظة يَعُدُّ مائدتين، إحداهما للعبة «البابا جوان» وأخرى للعبة «الويست»، وكانت حلقة لاعبي الويست تتألف من المستر بكوك، والسيدة العجوز، والمستر ملر، والسيد البدين، أما اللعبة المستديرة، فقد شملت بقية الحاضرين.

وكان اللعب فيما يتعلق «بالويست» مقترنًا بكل الجد والاتزان والرزانة التي تليق باسمها، ومعناه «السكون»؛ حتى ليلوح لنا أن تسميتها «باللعب» تسمية منكرة، وغير متفقة مع «الجد» الذي يُراعَى فيها، أم اللعبة الأخرى فقد بلغ من ضجتها والمرح الصاخب من حولها، أن قطعت فعلًا على المستر ملر أفكاره ومسرحاته، فلم يندمج فيها كما ينبغي، وارتكب عامدًا مرارًا عدة أغلاط صارعة ومخالفات أثارت غضب السيد البدين إلى حد بعيد، وأدخلت السرور على نفس السيدة العجوز إلى الحد ذاته.

وقال المستر ملر بلهجة المنتصر، وهو يعود إلى الخدعة القديمة في نهاية كل دور: «ﻫﻴ … ما رأيكما، لم يكن في الإمكان أن تُلعَب هذه الورقة أحسن من هذا … إني لأمتدح نفسي وأتملقها … مستحيل أن أكون قد عدتُ إلى خدعة أخرى؟»

وقال العجوز: «لقد كان أجدر بملر أن يرمي «الإسباني»، أليس كذلك يا سيدي؟»

فأومأ المستر بكوك إيماءة الموافقة.

وقال وهو يتوسل إلى زميله مستنجدًا: «أكان ذلك أحق؟»

وأجاب السيد البدين بصوت مرعب: «إنه أجدر بك يا سيدي …!»

قال وهو مطرق الرأس: «يؤسفني ذلك جدًّا.»

وزمجر السيد البدين قائلًا: «هذه لعبة معروفة متداولة كثيرًا.»

وقال المستر بكوك: «عشرتان بالشرف تساوي لدينا ثمانية.»

وقالت العجوز: «هل تلعب «عشرة»؟»

قال: ألعب … «عشرتين»، واحدة «والثالثة».

وقال المستر ملر: «ما رأيت يومًا حظًّا كهذا …»

وقال السيد البدين: «بل ما رأيت ورقًا كهذا …»

وساد سكون رهيب، أما المستر بكوك فبدا «زائغًا»، وأما السيدة العجوز فبدت جادة، ولاح السيد البدين غضبان متحاملًا، وكان المستر ملر هيابًا خائفًا.

وقالت العجوز: «نلعب دورًا آخَر … هل يمكن؟» وأقبلت تسجل الانتصار، بوضع قطعة من ذات البنسات الستة ونصف بنس مضعضعًا تحت «الماثلة».

وقال المستر بكوك: «هذا «تطبيق» يا سيدي …»

وأجاب السيد البدين بحدة: «فاهم يا سيدي …»

وأعقب اللعب دورًا آخر من المستر ملر «المنحوس»، انفجر على إثره غضب السيد البدين وهياجه، فانتبذ من القوم مكانًا قصيًّا، ولبث صامتًا لا ينبس ساعة وسبعًا وعشرين دقيقة، خرج بعدها من معتزله وأقبل على المستر بكوك يعرض عليه سعوطه، بدا كأنما قد قرر في نفسه أن يأخذ بالسماحة المسيحية فيصفح عن المسيئين إليه، ويغفر ما أصابه من أذى، وتبيَّن أنَّ سَمَع السيدة العجوز قد تحسَّن يقينًا، وشعر المستر ملر السيئ الحظ بأنه قد أُخرِج من محيطه، كما يخرج الدرفيل فيُوضَع في مكان ديدبان.

أما اللعبة الأخرى، فقد استمرت في مرح وسلام، وكانت إيزابللا واردل والمستر تراندل «شريكين»، وكذلك كانت إملي واردل والمستر سنودجراس، حتى المستر طبمن أيضًا والعمة العانس؛ فقد عقدا شركة بينهما من الروغان والملق، وكان المستر واردل الشيخ في أوج ابتهاجه، وأُنْسه ومرحه، وهو مضحك في تدبير ألعابه ورمي أوراقه، كما كانت السيدات العجائز فطنات ذكيات بعد المكسب، إلى حد جعل المنضدة كلها في قصف مستمر من المرح والضحك، وكانت بينهن سيدة لا تفتأ تخسر، وكان معها في كل مرة ست أوراق أو نحوها، فكان القوم يضحكون في كل دور، ولا يمسكون عن الضحك، وعندما نظرت السيدة العجوز نظرة الغاضبة من اضطرارها إلى الدفع، ازددوا هم ضحكًا، حتى أخذ وجهها ينطلق شيئًا فشيئًا إلى أن راحت أشد منهم ضحكًا من نفسها، وأعلى صوتًا، وعندما ألقت العمة العانس ورقتين كانتا في يدها، وهما «البنت» و«الشايب»، كأنهما صورة «قران»، ضحكت الفتاتان مرة أخرى، وكادت العانس تنزع إلى الغضب، ولكنها شعرت بالمستر طبمن يضغط يدها من تحت المائدة، فعادت أساريرها تنطلق، وبدت كأنما قد فهمت، كأن «القران» في الواقع لم يكن بعيدًا إلى الحد الذي ظنه بعض الناس وتوهموه؛ فعاود القوم الضحك، ولا سيما المستر واردل، فقد كانت النكتة تلذه بقدر ما تلذ الشباب، وأما المستر سنودجراس فلم يفعل شيئَا غير الهمس بعواطف شعرية في أُذُن شريكته؛ مما جعل أحد السادات الشيوخ ينكت تلميحًا على الشركة في لعب الورق، والشركة في الحياة، فما كان من السيد الشيخ إلا أن أبدى بعض الملاحظات على هذه المقارنة، مصحوبًا بغمزات بالحواجب، وومضات بالفم، جعلت القوم يضحكون كثيرًا ولا سيما زوجته، وانبرى المستر ونكل يلقي بنكات معروفة في المدن، ولكنها ليست معروفة إطلاقًا في الريف؛ فضحك الجمع لها كثيرًا، وقالوا: «إنها نكت ظريفة كل الظرف» حتى لقد شعر المستر ونكل بأنه قد أصاب شرفًا عظيمًا، ومجدًا باذخًا، بينما لبث القسيس الخير مسرورًا راضيًا؛ لأن الوجوه المستبشرة التي أحاطت بالمائدة جعلته هو الآخر سعيدًا قرير العين، ولئن جاء الضحك أقرب شيء إلى الصخب، فقد انبعث من القلوب لا من الشفاه، وهذا هو أفضل المرح وأحسنه حقًّا.

وانقضى المساء سريعًا في تلك الرياضة البهيجة واللهو اللطيف، وبعد أن فرغ القوم من العشاء الدسم، وإن كان من النوع «البيتي»، انتظم الجمع حلقة أنس حول الموقدة، وقال المستر بكوك إنه لم يشعر في حياته يومًا بمثل هذه الهناءة التي شعر بها الآن، ولم يحس من قبلُ ما يحس الساعة، من الإقبال على الاستماع بهذه اللحظات العابرة، والانتفاع بها غاية الانتفاع.

وقال المضيف الكريم، وقد جلس جلسة الأبهة والسلطان بجانب المقعد الرحيب، الذي جلست فيه السيدة العجوز ويدها مشتبكة بيده: «هذه هي اللحظة التي أحبها … إن أسعد اللحظات في حياتي انقضت بجانب هذه الموقدة القديمة، وأنا بها جد مولع، حتى لأحتفظ بالنار مشوبة فيها كل مساء، إلى أن يشتد أوارها فلا يطيق المرء احتمالها … وإن أمي العجوز هنا قد ألفت الجلوس أمام هذه الموقدة، فوق ذلك الكرسي الصغير الذي اعتادت الجلوس عليه وهي فتاة … أليس كذلك يا أماه …؟»

وكانت الدمعة التي تبادرت إلى عينها على عودة ذكرى الأيام الخوالي فجأة، ورغد السنين الماضيات، قد تسللت إلى وجهها، وهي تهز رأسها وتبتسم ابتسامة حزينة.

وواصل رب الدار المضياف حديثه قائلًا بعد سكون قصير: «إني لأستميحك المعذرة عن حديثي بسبيل هذا المكان القديم، فإنه عليَّ عزيز، ولا أعرف موضعًا سواه، إن الدور والعقول القديمة لتلوح لي كأنها صِحَاب أحياء لي وأصدقاء، وكذلك كنيستنا الصغيرة التي أذكر بهذه المناسبة أن صديقنا الفاضل نظم في «لياليها» شعرًا غنائيًّا، حين جاء أول مرة ليقيم بين ظهرانينا … يا سيد سنودجراس، هل بقيت في كأسك قطرات من الشراب؟»

فأجاب المستر سنودجراس: «كثيرة … وأشكرك …» وكان فضوله الشعري قد هاج في نفسه عند سماع العبارة الأخيرة التي فاه بها مضيفه الكريم، فاستتلى يقول: «عفوًا إذا أنا ذكرتك بأنك قلت اللحظة شيئًا عن أغنية اللبلاب.»

فقال رب الدار وهو يومئ برأسه إيماءة العليم نحو القسيس: «سَلْ صديقنا الجالس قبالتنا عن أمرها …»

وقال المستر سنودجراس: «هل تأذن لي يا سيدي في مصارحتك أني أود أن أسمعها منك.»

وأجاب القس قائلًا: «ولم لا؟ … وإن كانت المسألة صغيرة جدًّا، والعذر الوحيد لي عن اقترافها هو أني كنت في تلك الأيام شابًّا، ومهما يكن من شيء، فإني مسمعك إياها إذا شئتَ.»

وكان الجواب بالطبع غمغمة فضول وتلهف، وأنشأ السيد الكبير ينشد، وامرأته تعاجله بالتلقين إذا نسي شيئًا!

قال: لقد سميتها.

اللبلاب الأخضر

يا للبلاب الأخضر من نبات طيب رقيق، يتسلل إلى كل أثر قديم، وطلل عتيق، ويأبى إلا أن يتخير لطعامه، في محبسه المنفرد المقرور ومقامه، فلا يختار إلا الجدار المنقض، والحجر البالي، لإرضاء أنفته وأوهامه، وأفضل الغذاء لديه الطحلب الذي اصطنعته كرة السنين ودورة الأعوام الخوالي، وأنه ليتسلل إلى حيث لا يرى للحياة أثر، إنه لنبات قديم نادر … ذلك هو اللبلاب الأخضر …

•••

إنه ليختلس الخطى سراعًا، وإن لم يؤت جناحًا ولا ذراعًا، ولكن له قلبًا مخلصًا وفيًّا … أَلَا تراه كيف يلتف حول صديقته السروة العظيمة التفافًا قويًّا، ويتشبث بها تشبثًا وفيًّا، ويجر على الأرض أذياله، ماكرًا متلطفًا، ويدع أوراقه تموج في رفق تموجًا، وهو يحتضن فرحًا ويزحف زحفًا، حول الطحلب الوفر، على قبور الموتى الذاهبين، متسللًا إلى حيث الموت الرهيب قد تسلَّل … إنه لنبات قديم نادر … ذلك هو اللبلاب الأخضر.

•••

أجيال وقرون انقضت، وآثارها بليت وعفيت … وأمم وشعوب تفرقت وانقرضت، ولكن اللبلاب القوي المعمر لن يذوي إلى الأبد، ولن ينقطع عبقه ولن يتبدد، ونضارته المنبعثة من قلبه وخضرته في تجدد … وسيسمن هذا النبات الجريء القديم على الماضي، وينمو ويشتد، وكل ما يبني الإنسان من قصر منيف وبنيان باذخ ويشيد، سيصبح في النهاية للبلاب طعامًا.

وإنه المتسلل على الزمان القائم المستمر …

إنه نبات قديم نادر … ذلك هو اللبلاب الأخضر …

•••

وبينما كان الشيخ يردد هذه الأبيات للمرة الثانية، حتى يتمكن المستر سنودجراس من تدوينها، راح المستر بكوك يتطلع في قسمات وجهه باهتمام بالغ، وما إن فرغ الشيخ من إملائه، وأعاد المستر سنودجراس الكناشة إلى موضعها من جيبه، حتى أنشأ المستر بكوك يقول: «معذرة يا سيدي إذا أنا أبديت ملاحظة على قصر العهد بتعارفنا، ولكن سيدًا مثلك لا يمكن — في اعتقادي — إلا أن تكون قد مرت عليه عدة مشاهد وأحداث خليقة بالتدوين، في طريق تجاربه، بوصفه خادمًا من خدام الله.»

فأجاب الشيخ قائلًا: «لقد شاهدت شيئًا منها بلا شك، ولكن الحوادث والأشخاص الذين عرفتهم هم من النوع العادي؛ لأن مجال عملي محدود جدًّا.»

وانثنى المستر واردل — بدافع الرغبة في إخراجه من صمته وحمله على الكلام؛ إرضاءً لزائريه الجدد — يقول: «إنني أعتقد أنك دوَّنت بعض المشاهدات، ألم تفعل كذلك في أمر جون أدموندز؟»

فأومأ الشيخ قليلًا إيماءة الموافقة، وهَمَّ بأن يغيِّر الموضوع، لولا أن بادره المستر بكوك قائلًا: «أستميحك عفوًا يا سيدي إذا أنا اجترأت على سؤالك: مَن يكون جون أدموندز هذا؟»

وابتسم الشيخ مسرورًا راضيًا، وقرَّب مقعده، كما قرَّب الآخرون مقاعدهم وتلاصقوا، وكان أسبقهم إلى تقريبها المستر طبمن والسيدة العانس، ولعلها كانت تشكو وخزًا في أذنيها، كما رفعت السيدة العجوز مسمعتها، واستيقظ المستر ملر، وكان قد استولى النعاس عليه في فترة تلاوة الأبيات، حين أحس وخزة تأنيب من تحت المائدة، وخزه بها الشيخ البدين الرزين الذي كان شريكًا له في لعب الورق.

وبدأ السيد العجوز — بلا مقدمات — يقص القصة التالية التي دعوناها:

عودة السجين

قال الشيخ: حين جئتُ لأقيم في هذه القرية، وهو عهد يرجع إلى خمسة وعشرين عامًا خلت، وجدت أن أسوأ الناس فيها سمعة وشرهم مكانًا، رجل يُدعَى «أدموندز» كان قد استأجر ضيعة صغيرة بجوار هذا الموضع، وكان امرأ سوء، غليظ القلب، حاد الطبع، متبطلًا منحلًّا في عاداته، قاسيًا متوحشًا في نزعاته، ولم يكن له من صديق أو صاحب، غير أفراد قليلين من المكاسل والسوقة والمستهترين، جعل يقضي أوقاته معهم متسكعًا في الحقول، أو ماجنًا معربدًا في الحان، فلم يكن أحد من خلق الله يعنى بالكلام مع هذا الرجل، الذي كان قوم كثيرون يخشونه، والجميع يكرهونه، والكل يتحامونه.

وكانت له زوج، وولد كان يبلغ من العمر أول ما نزلتُ بهذا الموضع قرابة اثني عشر عامًا، وليس في وسع إنسان أن يتصور مدى الآلام التي كانت تلك المرأة تعانيها، ومبلغ الجلد الرقيق والاحتمال اللذين تذرعتا بهما، والعذاب المضني الذي قاسته في تنشئة ذلك الصبي، وَلْيغفر لي الله ظني، إن بعض الظن إثم، وإن كنت على يقين تام في أعماق قلبي أنه ظل يعمل جاهدًا عدة سنين على كسر قلبها، وتحطيم فؤادها، ولكنها احتملت ذلك كله من أجل ولدها، بل ومن أجله هو كذلك، وإن بدا هذا القول لقوم كثيرين غريبًا، فقد كانت في يوم من الأيام تحبه، وهو الحيوان البهيم، والجبار القاسي الغاشم عليها، فلا عجب إذا أيقظت ذكرى ماضيه ومبلغُ مكانه من قبلُ في نفسها مشاعرَ الرفق به، والصبر عليه، والحلم في معاملته، وهي المعذَّبة المعانية، وهي مشاعر لا يعرفها ولا يتجمل بها من دون خلق الله غير معاشر النساء.

وكانا فقيرين بطبيعة الحال، ما دام الرجل سادرًا في غلوائه، ولكن الجهد المستمر الذي كانت تبذله، والعناء الذي كانت تجانبه بكرة وعشيًا، وصباحًا وظهرًا وليلًا، جعلهما بمنجاة من الحاجة، وجنبهما العوز، ولكنه جازاها على تلك الجهود شر الجزاء؛ كان الذين يمرون بالموضع عشاء، أو في ساعة واهنة من الليل، يقولون: إنهم كانوا يسمعون أنين امرأة في خطبها ونحيبها، وتطرق آذانهم أصوات لكمات وضربات، وحدث أكثر من مرة أن خرج الغلام بعد منتصف الليل، يدق في رفق باب الجيران؛ فرارًا من غضب ذلك الوالد الشاذ، أو امتثالًا لأمر أمه التي خشيت عليه من بطشه.

وكانت تلك المخلوقة المسكينة لا تكفُّ عن الحضور إلى كنيستنا الصغيرة، وكثيرًا ما كانت تلوح عليها آثار القسوة والعذاب الذي كانت واجدته منه، ولا تستطيع لتلك الآثار إخفاءً، فكانت لا تفتأ في كل أحد، صباحًا وأصيلًا، تأتي فتتخذ مجلسًا بعينه، والغلام بجانبها، ولئن كانا يلوحان في ثياب مهلهلة، بل أسوأ مظهرًا من كثير من جيرانهما، الذين هم أقل منهما شأنًا، ودونهما في العيش مكانًا، فقد ظلَّا أبدًا حريصين على الظهور أمام الناس نظيفين وضَّاءين، وكان كل امرئ يومئ إيماءة مودة، ويعد كلمة رقيقة حانية للسيدة أدموندز المسكينة، وأحيانًا إذا وقفت لتتبادل بضع كلمات مع جارة لها بعد انتهاء الصلاة، وسط أشجار الدردار المؤدية إلى السقيفة، أو تتخلف قليلًا عن الخارجين لتلقي نظرة فخار وزهو وحب على وجه ولدها اليافع، وهو يستبق في صحبته بعض الرفاق الصغار، وقد تهلل وجهها الذي علاه الهم وغمرته الكآبة، بعرفان صادق، وشكر جميل، فكانت تبدو على الأقل هادئة النفس، قانعةً راضيةً، وإن لم تلح مبتهجة سعيدة هانئة …

وانصرفت خمس سنين أو ست، فأصبح الغلام شابًّا قويًّا صلب العود ناميًا، ولكن الزمان الذي أكسب الصبي القوة، وحَبَا كيانه الواهن بأسًا، وأحال أوصاله الواهية مفتولة، في قوة الرجولة وأيدها — قد أحنى ظهر أمه، وأضعف من خطاها، ولكن الذراعين اللتين كان أولى بهما أن تسنداها لم تعودا بين أحضانها، ولا مشتبكتين وذراعيها، وذلك الوجه الذي كان أحق به أن يؤنسها في وحشتها، لم يعد ينظر إلى وجهها، فكانت تأتي إلى الكنيسة، فتجلس في مقعدها القديم، وإن ظل المقعد الملاصق خاليًا، ولبث الكتاب المقدس مصونًا لديها، محفوظًا كعهده، والصفحات تُنشَر بين يديها وتُطوى كدأبها، ولكن لم يكن ثَمَّ أحد يقرأها معها، فكانت الدموع تتساقط غزارًا سراعًا على الكتاب، وتجعل الكلمات متراقصة أمام عينيها، وظل جيرانها على ما ألفوه، رحماء بها، حناة عليها، ولكنها جعلت ترد على تحياتهم بإشاحة وجهها، ولم تَعُدْ تبطئ الخطى بين أشجار الدردار كعادتها، ولم يبقَ في قرارة نفسها من أمل مداعب يوحي إليها أن السعادة قادمة على الأيام، بل بقيت المرأة المنهكة ترخي قبعتها على وجهها، وتنصرف مهرولة مسرعة.

وهل أحدثك عما كان من أمر ذلك الفتى … إنه لم يعد كلما رجع بخاطره إلى أيام الطفولة الأولى، التي لا بد من أن تعيها الذاكرة، فيذكر شيئًا من تلك السلسلة المستطيلة من صنوف الحرمان الطائع المختار، الذي كانت تقاسيه أمه من أجله، إلى جانب من المساءة والإهانة والبطش الذي كانت تحتمله في سبيله، وهل أحدثكم عنه، كيف استخف بفؤادها الكسير، وكيف نسي عامدًا كل ما فعلته وقاسته بسببه، فمضى بصحبة الفاسدين وسيِّئِي السيرة والمنبوذين من الناس، ومضى في غيِّه لا يبالي، وينحدر إلى الهاوية، ولا يعبأ هل هو ملاقٍ في هذا الضلال مصرعه، وجالب العار عليها والشنار بسوء مسلكه؟ واأسفا للطبيعة البشرية … وما أحسبكم إلا عرفتم النتيجة المحتومة، قبل أن أصفها لكم، فقد كادت تلك المرأة الشقية المنكوبة تصل إلى نهاية حدود شقائها وبأسائها، لقد وقعت جرائم كثيرة في هذه الربوع، وظل أمر الجناة مجهولًا؛ مما زادهم جرأة، وأغراهم بالمعاودة والإمعان، ووقع حادث سطو جسيم يدل على جرأة جناته، فاقتضى الأمر السهر في البحث عنهم، وتشديد مطاردتهم، ولم يكن الجناة يحسبون لهذا التعقب الملحِّ حسابًا، وقد وقعت الشبهة على الفتى أدموندز وثلاثة من أصحابه؛ فقُبِض عليه وحوكم، وحُكِم عليه بالموت.

وإن الصرخة الموحشة النفاذة، التي ارتفع بها صوت المرأة، فترددت أصداؤها في جنبات ساحة القضاء، حين نطق القاضي بهذا الحكم الرهيب؛ لترن اللحظة في أذني، وقد ألقت تلك الصيحة المدوية الرعب في قلب الجاني، وكانت المحاكمة والإدانة والحكم بالموت قد عجزت جميعًا عن إيقاظ ضميره، فلم تلبث الشفتان اللتان ظلتا مرفوعتين في عبسة كظيمة طيلة الجلسة أن رعشتا وانفرجتا على الرغم منه، وارتد وجهه شاحبًا كرماد نار خابية، وتفصد العرق البارد من كل مسامه، ورجفت أوصاله القوية، ووقف مرنحًا متمايلًا في القفص لا تحمله ساقاه.

وفي الغثيات الأولى، من أثر ألمها البالغ وعذابها الشديد، راحت هذه الأم المعذَّبة تلقي بنفسها جاثية عند قدمي، ضارعة إلى الله من أعماق صدرها — وهو الذي أضفى عليها رحمته في مختلف الخطوب التي اجتازتها، والمحن والأهوال التي مرت بها — أن يخلصها من هذا العالم المليء بالويلات والأحزان، وينقذ حياة ولدها الوحيد.

وأعقب ذلك انفجار في أحزانها، وصراع عنيف أرجو الله أن لا أشهد مثله مرة أخرى فيما بقي من حياتي، وكنت أحس أن قلبها قد تحطم من تلك اللحظة، ولكني لم أكن قد سمعت يومًا منها شكاة، ولا أفلتت أمامي أنات من بين شفتيها.

ولقد كان مشهدًا يثير الشفقة، منظر تلك المرأة في فناء السجن، تغدو إليه في كل يوم؛ محاوِلةً في لهفة وحرارة أن ترقق بالحب والتوسل والتضرع قلب ابنها القاسي، وتلين من فؤاده الجمود المتحجر، ولكن محاولتها ذهبت أدراج الرياح، فقد ظل واجمًا عنيدًا، لا تتحرك في نفسه خالجة، ولا تجيش في صدره عاطفة، بل إن استبدال حكم الموت ذاته بالنفي أربعة عشر عامًا لم يستطع أن يلين ولو لحظة من قسوته، أو يرقق من غلظته، ولم تلبث روح الاستسلام وقوة الجلد التي طالما أعانتها من قبلُ، وشدت من نفسها الواهنة، أنْ عجزت عن مقاومة ضعفها، ومغالبة وهنها، فمرضت، ولكنها ظلت تجر قدميها المتعثرتين، تاركة فراشها إلى السجن لتزور ابنها مرة أخرى، وإذا قوتها تخذلها؛ فتهوي إلى الأرض مهدمة لا تستطيع حراكًا.

وكانت القسوة التي كان ذلك الفتى يباهي بها، وعدم مبالاته، قد امتُحِنَا حقًّا، وجُرِّبَا إلى آخر الحدود، فكاد الانتقام الذي ألقى بجرانه عليه، يذهب بلبه، وانقضى يوم ولم تأتِ أمه لتزوره، وفات آخَر ولم تقترب منه، حتى كان مساء اليوم الثالث، ولم يرها، ولم يبقَ إلا أربعٌ وعشرون ساعة أخرى فيفترق عنها، ومَن يدري فقد يكون فراق الأبد … يا لله! لشد ما عادت إلى خاطره ذكريات الأيام الخوالي التي كان قد نسيها، فراح يقطع الفناء الضيق، ذهوبًا وجيئة بخطى مسرعة، كأن أخبارها ستوافيه سراعًا كلما أسرع في غدوه ورواحه على تلك الصورة، يا لله … لشد ما آلمه الإحساس المرير بأنه قد بات وحيدًا مهجورًا، مقطوع الصلة بالدنيا، حين سمع النبأ اليقين، وهو أن أمه الوالدة التي لم يعرف من أبويه غيرها، مريضة في فراشها، أو مَن يدري فقد تكون محصورة في سكرات الموت، على مبعدة ميل واحد من الموضع الذي وقف فيه، ولو أنه كان حرًّا طليقًا من الأغلال؛ لاستطاع في بضع دقائق أن يكون بجانبها، فاندفع نحو باب السجن، وأمسك بقضبانه الحديدية بكل قوة الاستيئاس، وراح يهزها هزًّا، وهي تعود جامدة مرتدة إلى مكانها، ومضى يلقي بكل قوته على الجدار السميك، كأنما يريد أن يشق لنفسه طريقًا من خلال هذا الحجر الأصم، ولكن البناء المكين سخر من جيده الضعيف، فوقف يقلِّب يديه حسرة، ويبكي كالطفل من فرط اليأس.

وحملتُ مغفرةَ الأم وبركتها إلى ولدها في السجن، ونقلتُ إليها وهي في فراشها أقسامَه المغلظة على توبته وندامته، وتضرعاته الحارة لها أن تعفو عنه، واستمعتُ إليه في إشفاق ورحمة ورثاء له، وهو يصف لي عشرات الوسائل التي سينتهجها ليكفل لها الراحة والمعونة عند عودته، ولكني كنت أعلم أن أمه لن تكون من أهل هذه الدنيا قبل أن يعود إليها بعد عدة أشهر.

ونقلوه ليلًا، ولم تنقضِ على نقله بضعة أسابيع، حتى رحلت أمه من هذا العالم، وأرجو موقنًا، وأومن حقًّا، إلى مكان تجد فيه السعادة الأبدية، والراحة السرمدية، وقمتُ بالصلاة على رفاتها، وهي اليوم ترقد في فناء كنيستنا الصغيرة، وليس على قبرها حجر، ولا فوق جدثها من أثر، فقد عرف البشر أحزانها، وعرف الله ما في نفسها من فضيلة وخير.

وكان الاتفاق قد تمَّ قبل نقل السجين على أن يكتب إلى أمه بمجرد الإذن له في مراسلتها، وأن يرسل كتبه إليها بعنواني، وكان أبوه قد رفض بتاتًا أن يرى ابنه، من اللحظة التي اعتُقِل فيها، وأصبح سواء لديه أبقي حيًّا أم ذهب في الهالكين.

وانصرمت عدة سنين، ولم يأتنا عنه نبأ، ولما انقضى أكثر من نصف المدة المحكوم بها عليه، ولم أتلقَّ منه كتابًا، استنتجت من انقطاع أخباره أنه قضى نحبه، بل لقد رجوت أن يكون الموت قد أدركه.

ولكن الواقع أن أدموندز كان قد أُرسِل إلى موضع قصي من الأرض، عند قدومه إلى مستعمرة السجناء، ولعل هذا هو السبب في أنني لم أتلقَّ منه ولا كتابًا واحدًا، وإن كان قد بعث إليَّ بعدة خطابات، وقد لبث في ذلك الموضع عينه المدة المقررة كلها، وهي أربعة عشر عامًا، ولما انقضت اتخذ طريقه إلى هذه البلاد وهو ذاكر عزمته القديمة، والميثاق الذي قطعه على نفسه لأمه، ولقي في سفره صعابًا كثيرة وأهوالًا عدة، حتى عاد ساعيًا على قدميه إلى موطنه.

ففي أصيل يوم أحد جميل، في شهر أغسطس، قدم «جون أدموندز» إلى القرية التي غادرها مجللًا بالعار والشنار قبل ذلك بسبعة عشر عامًا، وكان أقرب طريق إليها يمر بالكنيسة، وما كاد الرجل يجتاز باب فنائها الخشبي حتى هاجت الذكرى في فؤاده، وراحت أشجار «الدردار» القديمة الفارعة، التي ألقت الشمس وهي في المغيب، من خلال أفنائها، ضياءً سنيًّا على الدرب الظليل الممتد أمامها — توقظ في نفسه ذكريات أيام طفولته الخالية، فمضى يتمثل نفسه يومًا وهو متشبث بيد أمه، منطلق في سكون معها إلى الكنيسة، وتذكَّر كيف كان من عادته أن يتطلع إلى وجهها الشاحب، وكيف كانت عيناها تغرورقان أحيانًا بالعَبَرَات، وهي تنظر إلى معالم وجهه، تلك العَبَرَات السخينة التي كانت تساقط على جبينه، وهي تنحني عليه لتقبِّله، وتستثير دموعه هو كذلك وعَبَرَاته، وإن لم يكن يعرف يومئذٍ مبلغ المرارة التي كانت تختلط بدمعها … وتذكَّر كذلك كم مضى يعدو فرحان جذلًا في هذا الدرب مع بعض اللدات من الصبيان مثله، ملقيًا بين لحظة وأخرى عينه إلى الخلف ليلمح بسمة أمه، أو يسمع صوتها الحنون، وسرعان ما أحس كأن ستارًا قد رُفِع عن ذاكرته، فما لبث أن تزاحمت على خاطره مشاهد قسوته، حين كان يتلقي كلمات الرفق والحنان منها بجفوة، ونذرها بسخرية، ووعوده لها بخُلْف ونكث، حتى لقد أحس في قلبه رجفة بالغة، فلم يَعُدْ يستطيع احتمالًا ولا تجلدًا …

ودخل الكنيسة، وكانت صلوات المساء قد انتهت، والمصلون قد انصرفوا، ولكن الأبواب لا تزال مفتحة، فكانت خطواته — وهو يمشي في جنباتها — تتردد أصداؤها جوفاء غريبة الوقع، حتى لقد أوجس خيفة أن رأى نفسه بمفرده، وأحس السكون البالغ من حوله، فأدار في المكان عينه، فتبيَّن له أنه لا يزال على قديم عهده، لم يعتره تحوُّل ولا تبدُّل، وإن بدا أصغر مما كان يألفه، ولكن ها هي ذي التماثيل القديمة، التي طالما تطلَّع إليها بتلك الرهبة الصبيانية ألوف المرات، وها هو ذا المنبر الصغير، بوسادته الناحلة اللون، ومائدة العشاء الرباني التي طالما وقف أمامها ليردد «الوصايا» التي كان يجلها وهو صبي، وقد نسيها وهو رجل، ومضى يقترب من المقعد القديم، فبدا له باردًا مهجورًا، وكانت الوسادة قد أزيلت عنه، ولم يجد الكتاب المقدس في موضعه، فقال في نفسه لعل أمه اليوم تتخذ مقعدًا أقل شأنًا، أو نراها وقد وهن العظم منها، فلم تَعُدْ تقوى على المجيء إلى الكنيسة وحدها، ولم يجرؤ على التفكير فيما كان منه متوجسًا، وسرت برودة في أنحاء نفسه، ورجفة شديدة في كيانه، فأشاح ببصره موليًا، وكان شيخ كبير قد دخل السقيفة في اللحظة التي وصل فيها، فأجفل أدموندز متراجعًا، فقد عرفه حق المعرفة، ولطالما شهده وهو يحفر القبور في مقبرة الكنيسة … وتساءل خاطره: ماذا عسى أن يقوله هذا الرجل للسجين العائد؟

ورفع الشيخ عينيه ليتأمل وجه هذا الغريب، وحيَّاه بقوله: «طاب مساؤك.» وانطلق بخطى وئيدة، وقد نسيه، ولم يعرف مَن هو.

ومضى يهبط التل، ويمشي في مناكب القرية، وكان الجو صائفًا، والناس جلوسًا على أبواب دورهم، أو متمشين في بساتينها الصغيرة، وهو يمر عليهم، وقد راقتهم هدأة الأصيل، والاستجمام من كفاح النهار وكدِّه، وكم من نظرات اتجهت صوبه، وكم من لمحات متشككة مستريبة ألفاها على جانبي الطريق؛ ليرى هل أحد من الناس عرفه فتحاماه، فقد رأى وجوهًا غريبة عليه في كل بيت، وتبيَّن في بعضها أشكالًا تقرب من أشكال لدات له في المدرسة ورفاق … رأى صبيًّا منذ آخر عهده به، قد أصبح رجلًا يحيط به جمع من أولاد له، وهم في مرح وقصف، وشهد في بيوت أخرى شيخًا واهنًا محطومًا، يجلس في مقعد رحيب بباب كوخ، تذكَّر أنه كان يومئذٍ عاملًا ممزاحًا طروبًا، ولكن القوم جميعًا قد نسوه، فمضى في طريقه مجهولًا لا يعرفه أحد.

وكانت آخِر خيوط الشمس في المغيب قد سقطت على الأرض، ملقية شفقًا أحمر على سنابل القمح الصُّفْر، ومطيلة خلال الأشجار في البساتين، حين وقف قبالة بيتهم القديم، مهد طفولته، ذلك البيت الذي طالما حَنَّ إليه فؤاده، وأحس له حبًّا بالغًا لا يُوصَف، خلال أعوام سجنه الطوال، وفترة أحزانه المبرحة، وكان السور خفيضًا، وإن تذكر الأيام التي كان يبدو فيها جدارًا شاهقًا في عينه، وأطلَّ على البستان القديم، فوجد فيه من البذور والأزاهر أكثر مما كان من قبلُ يألفه، ورأى الأشجار القديمة كما هي، وشهد الشجرة ذاتها التي رقد تحتها ألف مرة، كلما شعر بتعب من اللعب والرتع في الشمس، والتي كان يحس تحت وارف ظلها دبيب النوم في طفولته السعيدة يدب رفيقًا إلى معاقد أجفانه. وطرقت أذنَيْه أصوات منبعثة من عقر الدار، فأصغى إليها، ولكنها وقعت غريبة في مسمعه، ولم يعرفها، فقد كانت أصواتًا مرحة، وكان يعلم حق العلم أن أمه العجوز المسكينة لا يمكن أن تكون مرحة، وهو عنها النائي المغترب.

وفتح الباب، فوثبت من خلاله مجموعة من الأطفال الصغار صارخين قافزين، وظهر الأب يحمل طفلًا صغيرًا بين ذراعيه، فأحاطوا جميعًا به، مصفقين بأيديهم الدقيقة، مجتذبينه إليهم ليشاركهم في ألعابهم ومراتعهم، فما لبث السجين أن تذكَّر كيف كان ينزوي رعبًا من مشهد أبيه في ذلك المكان بالذات، وكيف كان يدفن رأسه الراجف تحت اللحاف، وكم سمع الكلمة الخشنة منه، وذاق «العلقة الساخنة» من كفه، وولولة أمه الحدبة الرءوم عليه؛ فأجهش الرجل بالبكاء من شدة الألم الذي اعتلج في خاطره، وهو منصرف من الموضع، ولكنه مضى في طريقه جامعًا قبضة يده، صارفًا بأسنانه، تغمر صدره عاطفة موحشة قاتلة.

وكذلك كانت الرجعة التي تمثلها في عدة السنين الخاليات، والتي من أجلها قاسى الأهوال، وعانى أشد صنوف العذاب، لا وجه يرحِّب به، ولا نظرة صفح وغفران تطالعه، ولا بيت يتلقاه، ولا يد تتقدَّم إليه بعون … وذلك كله في القرية القديمة التي نشأ فيها، والبلد الذي درج على أرضه صغيرًا، إنَّ عُزْلته في الغابات والآجام، حيث لا يرى إنسانًا ولا يلم ببشر؛ لأهون والله من هذا وأخف وقعًا …

ولقد تذكَّر كيف كان وهو في تلك الأرض القصية، التي قضى فيها عهد عبوديته وعاره وشناره، يتمثل مسقط رأسه كما تركه، لا كما سوف يبدو عند مآبه، فلم تلبث هذه الحقيقة المرة أن نزلت باردة جامدة على فؤاده، وأمسكت بكفها الباردة بقلبه، وأحس روحه تهوي في أعماقه، فلم يجد في نفسه شجاعة تغريه بسؤال الناس عما صنع الله بأهله، أو تحمله على التقدم إلى الإنسان الوحيد الذي يحتمل أن يتلقاه بحنان ورحمة، بل مضى يمشي مبطئ الخطى، متحاميًا عدوة الطريق كالمجرم الأثيم، وعرج على بعض المروج التي كان يعرفها حق المعرفة، وراح يتهالك على الحشائش، دافنًا وجههه في راحتَيْه.

ولم يفطن عندئذٍ إلى رجل كان راقدًا فوق الجسر غير بعيد، وإن كان هذا قد شعر به، فاستدار ليختلس نظرة إلى هذا الطارئ الغريب؛ فأحدثت ثيابه حفيفًا، فانتبه أدموندز من غشيته، ورفع رأسه ليتبين ما سِرُّ هذا الحفيف وباعثه.

وكان الرجل الآخَر قد استوى جالسًا فوق الثرى، وقد بدا كأنه مقوسًا، ووجهه مغضنًا، ولونه أبهر شاحبًا، ويوحي لباسه بأنه من العاملين الكادحين في الأرض، ويدل مظهره على أنه قد بلغ من الكبر عتيًّا، وإنْ لاح عليه أن الشيخوخة التي أدركته كانت من أثر الإسراف على نفسه، واصطلاح السقام عليه، لا من مطال العمر وتقادم السنين.

ولبث يحملق البصر في ذلك الطارئ الغريب، وإن كان بريق عينيه قد خبا، وجفناه متثاقلين خلال النظرة الأولى، فما عتمتا أن أبرقتا، وخطف عليهما وميض غير طبيعي، ونظر مروع رهيب، بعد أن استقرتا على ذلك الوجه الغريب القائم حياله، كأنما توشك عيناه أن تخرجا من محجرَيْهما.

وانثنى أدموندز يتحامل شيئًا فشيئًا ليستوي على ساقيه، ويُطِيل النظر في وجه ذلك الشيخ المهدم، وإذا الرجلان يتبادلان النظرات في صمت مستطيل.

وبدا الشيخ شاحبًا في مثل شحوب الموتى، وأخذته رجفة راجفة، وترنَّح حتى استوى على قدميه، كما وثب أدموندز من مكانه، وتراجع خطوة أو خطوتين، ثم دنا من الشيخ.

قال بصوت متهدج متقطع: «دَعْني أسمع منك قولًا …»

ولكن الشيخ المهدم صاح به ساخطًا ناهرًا: «اغربْ عنِّي!»

وعاد السجين يدنو منه ويقترب.

وانثنى الشيخ يصرخ: «اغرب عني!» واشتد به الرعب فرفع عصاه، وضرب أدموندز بها ضربة شديدة على وجهه.

وغمغم السجين قائلًا وهو يصرف بأسنانه: «أبي … أيها الشيطان!» واندفع هائجًا، وأمسك الشيخ من عنقه، ولكنه كان أباه، فما لبثت ذراعه أن تراخت إلى جنبه عاجزة لا حراك بها.

وأما الشيخ، فقد أرسل صيحة عالية تردَّدَ صداها في الحقول الساكنة كأنها زمجرة مارد رجيم، وارتدَّ وجهه مسودًّا، وانبجس الدم من فمه وأنفه؛ فلطخ العشب بحمرة قاتمة، وترنح الشيخ ثم هوى … فقد انفجر شريان فيه، وأدركه الموت قبل أن يتقدَّم ابنه إليه ليرفعه.

وسكت السيد الكبير لحظات، وعاد يقول: «وفي ذلك الركن من فناء الكنيسة، ذلك الركن الذي تحدَّثْتُ عنه، يرقد رجل قضى ثلاث سنين في خدمتي عقب ذلك الحادث، ظل خلالها سحيق القلب، تائبًا نادمًا خاشعًا كل الخشوع الذي يتسنى لأحد من البشر الإخلاد إليه، وما عرف أحد سواي خلال السنين التي قضاها قبل أن يوافيه الموت مَن يكون ذلك الرجل، ومن أين أتى … لقد كان جون أدموندز … السجين العائد!»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤