الفصل السابع

كيف رأينا المستر ونكل، بدلًا من أن يسدِّد الرماية إلى الحمامة ويقتل الغراب، سدَّدها إلى الغراب وجرح الحمامة، وكيف تبارى فريق نادي الكريكت في «دنجلي ديل» مع فريق «ماجلتون»، وكيف تناول هذا الفريق طعام العشاء على مائدة رب الضيعة في دنجلي ديل، وشئون طريفة طلية أخرى.

***

واصطلحت متاعب النهار، أو أثر القصة التي قصها القسيس ومفعولها المنوم، على معاقد أجفان المستر بكوك ولهفته على النعاس، فلم تكد تنقضي بضع دقائق على اقتياده إلى حجرة نومه المريحة، حتى هبط في سبات عميق لا أحلام فيه، ولم يوقظه منه إلا شمس الصباح، وقد نفذت بأشعتها الباهرة في جوانب المخدع، كأنما تعتب عليه طول المكث في سريره، ولم يكن السيد بكوك بالرجل المكسال المتبلد، فما عتم أن وثب من فراشه وثبة جندي محارب، متحمس للقتال من جوف خيمته.

وغمغم ذلكم السيد المتحمس، وهو يفتح باب الشرفة المتشابك قائلًا، وهو يرسل تنهُّدًا مستطيلًا: «ريف جميل … ريف جميل … مَنْ ذا يطيق العيش في بلد لا يشهد فيه كل يوم غير الطوب والقرميد، بعد أن أحس سلطان مشهد كهذا وأثره في نفسه؟ ومَنْ ذا الذي يحتمل الحياة في موضع لا أبقار فيه غير الأبقار المرسومة على غطاء المدخنة، ولا شيء فيه من عطر إله الرعاة، غير رائحة الآجر، ولا إنتاج فيه غير الحجر؟ … ومَنْ ذا الذي يحتمل أن يحيا تلك الحياة السقيمة في موضع كهذا؟ إنني أسأل: مَنْ ذا الذي يطيقها، لعمري، ومَنْ ذا يحتملها؟»

وبعد طول التساؤل والمناجاة بينه وبين خاطره، على هذا النحو، راح السيد بكوك يُخرِج رأسه من خلال الباب المتشابك الأجزاء، ويجيل البصر فيما حوله.

وتصاعدت رائحة الدريس الزكية الحلوة إلى شرفة حجرته، وتأرَّج الفضاء المترامي حوله بأنفاس الزهر وشذى الشجر الفواح، وفي البساتين القائمة من تحته، ولمعت المروج النضر بندى الصباح المتلألئ على أوراق الأفنان، وهي تنثني وتتمايل في الهواء العليل، والأطيار تشدو، كأن كل قطرة براقة من قطر الندى فوارة تبعث الوحي، وتدفع الإلهام، فتصدح وتغني، فلم يلبث المستر بكوك أن ذهب في حلم فاتن، وخيال ممتع بديع، لم يوقظه منه غير صوت ينادي: «مِن هنا.»

فنظر عن يمينه، فلم يَرَ أحدًا، وتلفت عن شماله، وأرسل بصره يشق الفضاء، ورفعه إلى السماء، ولكنه لم يكن مطلوبًا فيها، وعندئذٍ فعل ما يفعله كل إنسان في الحال … نظر إلى الحديقة، فإذا هو يبصر السيد واردل.

وبادره هذا السيد الخفيف الروح في لهفة المتعجل اللذة، المرتقب للمتع، قائلًا: «كيف أنت؟ … إنه لصباح جميل … يسرني أنك قد بكرت من فراشك هذا البكور … هيا انزل إلينا وعجِّلْ، فإني هنا مرتقبك …»

ولم يكن المستر بكوك بحاجة إلى دعوة أخرى، فلم يستغرق إصلاح بزته غير عشر دقائق، وإذا هو قد وافى السيد واردل ووقف بجانبه.

قال بدوره لمضيفه: «هأنذا … ماذا وراءك؟» وقد رآه مسلَّحًا ببندقية، وشهد أخرى ملقاة على الحشائش.

وأجابه مضيفه قائلًا: «إنني وصاحبك خارجان لصيد الطيور قبل أن يحين موعد الفطور، إنه حسن الرماية جدًّا … أليس كذلك؟»

وقال المستر بكوك: «لقد سمعته يقول إنه الماهر الحاذق، ولكني لم أَرَه يومًا يسدِّد الرماية إلى شيء.»

وعاد المضيف يقول: «حسنًا، أود لو يأتي معي … جو … جو!»

وإذا الغلام البدين يخرج من البيت، وهو من أثر هياج الصباح وكثرة حركته، يبدو أكثر من ثلاثة أرباع نائم …!

قال السيد الكبير لغلامه: «اصعدْ ونادِ السيد، وقُلْ له: إنه سيجدني أنا والمستر بكوك في مألف الطير … وأَرِ السيد الطريق إليها، هل أنت سامع؟»

وانصرف الغلام لتنفيذ الأمر، بينما حمل المضيف البندقيتين كأنه روبنصن كروزو آخَر، وسار في المقدمة ليهدي صاحبه إلى الطريق.

وبعد أن سار بضع لحظات في طريق تقوم الأشجار على حفافيه، وقف عن المسير قائلًا: «هذا هو الموضع.»

ولم يكن المستر بكوك بحاجة إلى مَن ينبئه؛ لأن نعيق الغربان المستمر كان كافيًا للتدليل على المكان المقصود.

وألقى الشيخ بندقية فوق الثرى، وحشا الأخرى.

وانثنى المستر بكوك يقول: «هاهم أولاء.» وفيما كان يقول ذلك، بدت أشباح المستر طبمن، والمستر سنودجراس، والمستر ونكل من مكان بعيد؛ ذلك أن الغلام البدين لم يكن متحقِّقًا أيَّ السادات هو المطلوب، فعمد بذكائه الخاص — ومنعًا للوقوع في خطأ — إلى دعوتهم جميعًا.

وصاح الشيخ بالسيد ونكل مناديًا: «أقبلْ … إن راميًا حاذقًا مثلك كان أجدر به أن يستيقظ من وقت طويل، حتى ولو من أجل عمل يسير كهذا.»

فأجاب السيد ونكل بابتسامة مصطنعة، وتناول البندقية الأخرى، وقد بدا على وجهه من الأثر والتعبير ما نحسب الغداف١ الملهم المتطير، الشاعر بدنو الموت رميًا بالرصاص، إلا موجسًا من دلالته، مشفقًا من معانيه، ومن الجائز أن يكون ما بدا على وجهه دليلًا على الحذق ومَضَاء العزيمة، ولكن الظن الغالب أنه يرجع إلى الألم والحيرة والارتباك.

وأومأ الشيخ برأسه، فبادر غلامان مهلهَلَا الثياب — كانا قد أقيما في هذا الموضع تحت إشراف الصبي «لامبرت» — إلى التسلق فوق شجرتين.

عندئذٍ راح السيد بكوك يسأل مضيفه: «ما شأن هذين الغلامين؟»

فقد أحس شيئًا من الجزع؛ لأنه اعتقد أن سوء أحوال الفلاحين والعاملين في الأرض — كما سمع من قبلُ الشيء الكثير عنها — ربما أرغمتْ هذين الغلامين الصغيرين على كسب قوتهما من عمل خطر محفوف بالمكاره، وهو أن يجعلا من نفسيهما هدفًا لصيادين غير خبيرين بالرماية.

وأجاب السيد واردل ضاحكًا: «لا لشيء غير بدء الصيد.» وعاد السيد بكوك يقول مبهوتًا: «لأي شيء تقول؟»

قال بصراحة: «لتخويف طيور الغداف.»

قال: «أهذا كل ما في الأمر؟»

قال: «هل اقتنعت؟»

أجاب: «كل الاقتناع.»

واستتلى المضيف يقول: «حسنًا جدًّا … هل أبتدئ؟»

وقال السيد ونكل، وقد سرَّه أن يُعطَى أيَّ مهلة يسترد فيها أنفاسه، ويستعيد جأشه: «تفضل.»

قال «قف جانبًا إذن … والآن …»

وفي هذه اللحظة صرخ الغلامان، وهزَّا فرعًا يحوي وكرًا، فإذا ستة غربان صغار، كانت في حديث عنيف، قد طارت لترى ما الخطب، فعمد الشيخ إلى إطلاق النار ردًّا عليها وبمثابة جواب، فسقط أحدها، وطارت الأخرى هاربة.

وقال الشيخ لغلامه «احمله يا جو.»

وخطفت على وجه الغلام ابتسامة، وهو يتقدَّم ليحمله، وقد تمثَّلت له صور الفطير المحشو بلحم الغداف، ومرقت رسومها في خياله، وضحك وهو بالغداف عائد، فقد وجده سمينًا ممتلئًا.

والتفت الشيخ إلى المستر ونكل، وهو يعيد حشو قذيفته، وقال «والآن هلم يا مستر ونكل.»

وتقدَّم هذا فسدَّد بندقيته، وبادر المستر بكوك وصحابه إلى التراجع بغير إرادة؛ تجنبًا لأي أذى قد يمسهم من تساقط طيور الغداف، وتناثرها من حولهم، فقد كانوا على يقين من كثرة صرعاها برصاص صاحبهم المدمر.

وساد سكون رهيب … وتلته صيحة … وأعقب الصيحة رفيف أجنحة … ثم تكتكة خافتة.

وصاح الشيخ: «هيا!»

وسأل السيد بكوك صاحبه قائلًا: «ألمْ تخرج الرصاصة؟»

وأجاب السيد ونكل وهو شاحب الوجه، والغالب أن يكون مردُّ شحوبه إلى الخيبة: «الطلقة خابت!»

وبادر الشيخ إلى البندقية فتناولها وهو يقول: «هذا غريب، فما عرفت من قبلُ أن بندقية منها تكذب … يا عجبًا … ما لي لا أرى للظرف أثرًا؟»

وعاد المستر ونكل يقول: «ويحي … لقد نسيت الظرف.» وأصلح هذا الخطأ اليسير، وعاد المستر بكوك يقبع تحاميًا للخطر، وتقدَّم المستر ونكل بخطوة عزم وتصميم، ووقف المستر طبمن خلف شجرة يطل من ورائها، وأرسل الغلام صيحة، فطارت أربعة غربان، فأطلق المستر ونكل عليها النار، وإذا بصيحة تنبعث كأنها صيحة إنسان لا صرخة غراب، وهي صرخة ألم جثماني … وتبيَّن أن المستر طبمن قد أنقذ أرواح عدد لا يُحصَى من الأطيار البريئة الوادعة، بتلقِّي جزء من الطلقة في ذراعه اليسرى …

وليس من الهين أن نصف مبلغ الاضطراب الذي أدى إليه هذا الحادث، والارتباك الشديد الذي أعقبه، وكيف انثنى السيد بكوك في بوادر انفعاله يصيح بالسيد ونكل: «يا لك من شقي!» وكيف استلقى المستر طبمن فوق الثرى، وكيف جثا السيد ونكل مروعًا فزعًا بجانبه، وكيف مضى المستر طبمن — وهو لا يعي — ينادي باسم سيدة، وكيف فتح أولًا إحدى عينيه، ثم عاد ففتح الأخرى، ورجع فأغمضهما معًا … نقول: إن وصف ذلك كله تفصيلًا لا يقل مشقةً وتعذرًا عن شرح ما تلاه، وكيف أخذ الجريح السيئ الحظ يفيق رويدًا من غشيته، وكيف ضُمدت ذراعه بالمناديل، وحُمِل على فترات مسنودًا إلى أذرع أصحابه المشفِقين عليه، كلما مضوا به عادوا فتمهلوا قبل استئناف المسير.

وحين اقتربوا من البيت، كانت السيدات في الحديقة ينتظرْنَ وصولهم، ويرتقبْنَ الفطور، وظهرت السيدة العانس؛ فابتسمت وأشارت إليهم بأن يسرعوا، وتبيَّن أنها لم تكن تعرف ما جرى … لها الله …! إن الجهل قد يكون أحيانًا نعمة أي نعمة …

وتدانوا … وانثنت إيزابللا واردل تسأل قائلة: «ما الذي حدث للشيخ الكبير؟» ولكن العمة العانس لم تعبأ بهذا السؤال، وحسبت المستر بكوك هو المراد به، وكان المستر طبمن في تقديرها لا يزال فتى في نضارة الشباب، فقد كانت تنظر إلى سنه من خلال منظار مصغِّر!

وصاح المضيف الشيخ مشفقًا على إزعاج ابنتَيْه: «لا تخفن.»

وكان القوم قد ازدحموا حول المستر طبمن وأحاطوا به، فلم يتبيَّن لهُنَّ حقيقة الحادث، ولم يعرفن مداه.

وعاد الشيخ يقول: «ما الخطب؟»

وصاحت النساء: «ما الخطب؟»

قال: «إن المستر طبمن أصيب في حادث بسيط … هذا هو كل ما في الأمر …»

وما إن سمعت العمة العانس هذا القول، حتى أطلقت صرخة تشق الفضاء، وانطلقت في ضحكات «هستيرية».

وسقطتْ في أحضان ابنتَيْ أخيها.

وقال الشيخ: «ارْشُشْنَ قليلًا من الماء على وجهها …»

وغمغمت العانس تقول: «كلا … كلا … إنني بخير الآن … بيلا … إميلي … هيا ادعوا طبيبًا، أهو جريح؟ أهو ميت … هل هو … ها ها ها …؟ وأصابتها النوبة رقم ٢، فعادت إلى ضحكها «الهستيري» الذي كانت الصرخات المولولة تتخلَّله.

وهنا قال المستر طبمن، وهو من فرط تأثُّره لا يكاد يمسك دموعه، حين شهد هذا العطف عليه وهو في ألمه: «هدِّئي روعك يا سيدتي العزيزة … هدِّئي روعك.»

وعندئذٍ صاحت العمة العانس — وقد انتابتها النوبة رقم ٣ — تقول: «هذا صوته!»

وعاد المستر طبمن يقول لها مواسيًا: «لا تنفعلي هكذا يا سيدتي العزيزة ولا تضطربي، أتوسل إليك … أؤكد لك أن الجرح يسير …»

وصاحت السيدة المتشنجة: «لم تَمُتْ إذن … قل: إنك لم تَمُتْ!»

وفي هذه اللحظة تدخَّل المستر واردل في خشونة لا تتفق وهذا المشهد الشعري، قائلًا: «كفى حمقًا يا راشل! ما الفائدة بالله عليك من قولك له إنه لم يَمُتْ؟»

وقال المستر طبمن: «كلا … كلا … أنا لم أَمُتْ، ولكني لست بحاجة إلى معونة أحد سواك … دعيني أستند إلى ذراعك.» ومضى يهمس لها: «أواه يا آنسة راشل …!» فدنت المرأة المضطربة منه، ومدت نحوه ذراعها.

ودخل القوم قاعة الفطور، ومد المستر طبمن يده، فرفع كفها برفق إلى شفتيه، وتهالك على الأريكة.

وسألته راشل في لهفة: «هل أغمي عليك؟»

قال: «كلا … لا شيء … لن ألبث أن أفيق.»

وأغمض عينيه.

وغمغمت العانس تقول — ولما يمضِ على إغماضه أكثر من ثوانٍ معدودات: «لقد تولاه النوم … عزيزي … عزيزي يا مستر طبمن.»

وإذا السيد طبمن يثب من مكانه صائحًا: «أواه … أعيدي على سمعي تلك الكلمات مرة أخرى …»

فأجفلت السيدة وقالت وقد استولى عليها الحياء: «وهل سمعتَها حقًّا؟»

قال: «نعم … سمعتُها … هلَّا رددتها … إن كنت تريدين أن أفيق فأعيديها على مسمعي.»

قالت: «صه! … أخي قادم!»

وعاد المستر طبمن إلى استلقائه، ودخل السيد واردل مصطحبًا طبيبًا.

وفحص الطبيب الذراع، وضمد الجرح، وأعلن أنه يسير لا يُذكَر، فاطمأنت الخواطر وهدأت النفوس، وشرع القوم في إشباع شهواتهم إلى الطعام، وعادت أمارات الغبطة إلى وجوههم إلا السيد بكوك فقد لزم الصمت، وبدت الشكوك والريب تلوح على مُحَيَّاه، فقد زعزع هذا الحادث في نفسه الثقة بالمستر ونكل إلى حد كبير.

والتفت المستر واردل إلى هذا الصياد البارع، فسأله قائلًا: «هل تعرف الكريكت؟»

ولو أن المستر ونكل سُئِل في أي وقت آخَر هذا السؤال لكان رده بالإيجاب، ولكنه أحس بدقة الموقف، فقال في استحياء وتواضع: «كلا.»

وأنشأ المستر سنودجراس يسأل رب البيت: «هل تلعب الكريكت يا سيدي؟»

قال: «كنتُ فترة من الدهر، ولكني أهملتها اليوم … وأنا مشترك في النادي هنا، ولكني لا ألعب.»

وقال المستر بكوك: «أعتقد أن المباراة الكبرى ستقام اليوم.» وأجاب رب الدار: «أجل … وتحب طبعًا أن تشهدها.»

فقال المستر بكوك: «إني ليبهجني يا سيدي أن أشهد أي ألعاب يمارسها الناس في أمان، ولا تتعرض فيها حياة البشر للخطر من عجز غير البارعين فيها، الذين لم يحذقوها.»

وتمهل المستر بكوك، ونظر إلى المستر ونكل طويلًا، فانزوى هذا من نظرة زعيمه المتفحصة، واسترد ذلك الرجل العظيم عينيه بعد بضع دقائق، وأضاف يقول: «هل من شفيع يشفع لتركنا صديقنا الجريح لعناية السيدات؟»

وقال المستر طبمن: «لستم تاركيَّ لرعايةٍ أفضل من هذه وأجدى.»

وقال المستر سنودجراس: «حقًّا إن هذا لمتعذر.»

وكذلك تمَّ الاتفاق، على أن يبقى المستر طبمن في الدار برعاية السيدات، وأن يذهب الباقون من الأضياف بقيادة المستر واردل، إلى الموضع الذي ستقام فيها هذه المباراة التي أثارت أهل ماجلتون من سكونهم، وهاجت حماسة «دنجلي ديل» وحميتها …

وفي الطريق — والمسافة لا تعدو أكثر من ميلين خلال دروب ظليلة، ومسالك مقفرة — عطفت أحاديث القوم على المشاهد البهيجة، التي أحاطت بهم من كل ناحية، حتى لقد كاد المستر بكوك يأسف بعد اجتياز هذا الطريق، على أنهم وصلوا إلى الطريق الرئيسي الذي يشق بلدة «ماجلتون».

ولا يجهل أحد أوتيت عبقريته ميلًا إلى علم تخطيط الأرض، أن «ماجلتون» بلدة ذات شخصية معنوية، ولها عمدة ومشايخ وأعضاء مجلس قروي، وكلُّ مَن يطَّلع على عناوين كبارها، من العمدة إلى الأعضاء، أو من الأعضاء إلى العمدة، أو منهما معًا إلى الهيئة العامة، أو من هؤلاء الثلاثة إلى البرلمان، يتبيَّن منها ما كان أولى أن يتبيَّنه من قبلُ، وهو أن ماجلتون قرية قديمة مخلصة، جمعت بين الحماسة الصادقة لتعاليم المسيحية، وبين التَّفَاني في المحافظة على الحقوق التجارية، بدليل أن العمدة والمجلس وغيرهما من السكان قدَّموا في أوقات مختلفة، لا أقل من ألف وأربعمائة وعشرين معروضَ احتجاجٍ على استمرار النخاسة والرق في الخارج، ومثل هذا العدد من المعروضات يحتجون فيها على التدخل في نظام المصانع في البلاد، وثمانية وستين معروضًا أخرى، يؤيدون فيها بيع المأكولات في الكنيسة، وثمانين وستة معروضات يلتمسون فيها إلغاء البيع والشراء في الطريق أيام الآحاد.

ووقف المستر بكوك في الشارع الأكبر في هذه البلدة المجيدة، وألقى نظرة فضول مختلط باهتمام على الأشياء المحيطة به، فرأى ساحة خُصِّصت للسوق، وفي وسطها فندق كبير، عُلِّقت لافتة على واجهته تمثل صورة شائقة في عالم الفن، وإن ندر وجودها في دنيا الطبيعة، ونعني بها صورة أسد أزرق، ارتفعت منه ثلاث سيقان مقوسة في الفضاء، وهو متوازن على الطرف الأقصى من المخلب الأوسط في قدمه الرابعة، وعلى مدى البصر رأى دكان دلال، ومكتبًا للمطافئ، وسمسار غلال، ودكان تاجر قماش، وحانوت «سراج»، ومعمل خمر، ثم دكان بقال، ودكان بيطار، وكان الأخير أيضًا يبيع القلانس والقبعات والثياب والمظلات المصنوعة من القطن، ويقدِّم المعلومات المختلفة لمَن يشاء، وألمَّتْ عيناه كذلك ببيت مقام من الآجر الأحمر، له فناء مرصوف صغير في مقدمه، لا يشق على أحد أن يعرف أنه بيت المحامي، وبيت آخَر مبني من الآجر ذاته، وله شباك من حصير، ولوح نحاسي كبير على بابه، كُتِب عليه بخط مقروء واضح أنه بيت الطبيب، وكان بضعة غلمان في طريقهم إلى ملعب «الكريكت»، وتاجران أو ثلاثة تجار قد وقفوا بأبواب حوانيتهم، وهم يلوحون كأنهم يودون أن يتخذوا الطريق هم كذلك إلى الملعب، وكان من الجائز كل الجواز أن يفعلوا، دون أن يفقدوا كثيرًا من البيعاء، أو تفوتهم فرص البيع.

وقف المستر بكوك لحظة يجيل العين في هذه المشاهد؛ لكي يدونها في فرصة مؤاتية، ولكنه عاد يلاحق أصحابه، وكانوا قد انحرفوا عن الطريق العام، وأصبحوا على مقربة من ميدان المباراة.

وكانت «الشبكات» منصوبة، كما أقيم سرادقان يستريح فيهما أفراد الفريقين المتباريين، ويتناولون فيهما المرطبات، ولم يكن اللعب قد بدأ بعدُ، ووقف اثنان أو ثلاثة من لاعبي فريق «دنجلي ديل» وفريق «ماجلتون» يتلهَّون ويتسلَّون في وقار وجلال، بإلقاء الكرة في استخفاف ظاهر من يد إلى يد أخرى، بينما كان عدة سادات لآخرين مرتدين الزي ذاته في قبعات من القش، وقمصان من «الفانللا»، وسراويل بيض، وهو زي بدوا فيه أشبه ببناءين من الهواة، متفرقين حول الخيام، فتقدَّم المستر واردل بالقوم إلى خيمة منها، وإذا بعشرات من تحيات «وكيف الحال؟» تستقبل ذلك الشيخ الكبير، وإذا بالقبعات القش ترتفع للسلام عليه، والانحناءات تطالعه من اللاعبين ذوي القمصان، بعد أن تولَّى تعريف الجميع بأضيافه قائلًا إنهم سادات قادمون من لندن، يتلهفون على مشاهدة مباراة اليوم التي لا يخامره الشك في أنها ستكون مبعث غبطة بالغة.

وأنشأ سيد ضخم — بدا جسمه وساقاه أشبه بنصف لفة ضخمة من الأصواف، مرفوعة فوق مخدتين منفوختينن — يقول: «أظن الأوفق يا سيدي أن تدخل السرادق.»

وقال آخَر يشبه كثيرًا النصف الثاني من اللفة السالفة الذكر: «ستجد الجلوس في السرادق أوفق وأريح كثيرًا يا سيدي.»

فأجاب المستر بكوك قائلًا: «إنك لكريم يا سيدي.»

وقال الأول: «من هنا يا سيدي، هنا الدرجة الأولى، وهي أفضل مكان في الملعب كله.»

وتقدَّمهم وهو يلهث من فرط البدانة إلى الخيمة التي أشار إليها.

وتتابع على سمع المستر بكوك عند دخوله السرادق قول القائلين: «مباراة باهرة … لعب بديع … رياضة رائعة … جدًّا …» وكان أول شيء طالع عينيه منظر صاحبه ذي الثوب الأخضر، الذي رافقهم في المركبة إلى روشستر، وقد وقف يهتف وسط مظاهر بالغة من السرور والاغتباط، غمرًا حلقة مختارة من صفوة أهل ماجلتون وساداتها، وكان هندامه قد تحسَّن قليلًا، وكان ينتعل حذاء، ولكنه هو بعينه لا شك فيه ولا ريب.

وعرف الغريب أصحابه في الحال؛ فاندفع نحوهم، وتناول يد المستر بكوك، ومشى به إلى أحد المقاعد بذلك التهور المألوف منه، وهو لا يكف عن الكلام، كأنه المشرف على المكان كله، المدبر المنظم لكل شيء فيه.

وطفق يقول: «من هنا … من هنا … تسلية ممتعة … جعة موفورة … دِنَان ملأى منها … أكوام من اللحم … لحم العجول … توابل ومشهيات … حمل مركبات منها … يوم عظيم … اجلس … ابتهج يا رجل واشعر بأنس، كأنك في بيتك … مسرور للقائك جد السرور …»

وجلس المستر بكوك كما أُمِر أن يجلس، كما امتثل السيد ونكل والمستر سنودجراس لتوجيهات صديقهما العجيب، بينما لبث المستر واردل ينظر في دهشة صامتة.

وعندئذٍ انبرى المستر بكوك يقول: «هذا أحد أصدقائي يا مستر واردل.»

فصاح هذا قائلًا: «أحد أصدقائك …! كيف أنت يا سيدي العزيز، يا صديق صديقي؟ هات يدك يا سيدي.»

وتناول الغريب يد السيد واردل بكل حماسة الصداقة المتينة التي توثقت على السنين، ثم تراجع خطوة أو خطوتين، كأنما يريد أن يتأمل وجهه وشكله، ثم صافحه مرة أخرى بحرارة أشد من قبلُ.

وقال المستر بكوك وهو يبتسم ابتسامة تنازعت فيها الطيبة والعجب الشديد: «وما الذي جاء بك إلى هنا؟»

فأجابه الغريب قائلًا: «دَعْ عنك … إنك نازل في فندق «الكراون» … الكراون في بلدة ماجلتون … التقيت بجماعة فيه من ذوي القمصان والسراويل البيض … شطائر بالأنشوقة … والكلاوي … قوم ظرفاء … شيء بديع …»

وكان المستر بكوك قد أَلِف من ذلك الغريب هذا النحو «الاختزالي» من الكلام، فاستخلص من تلك العبارات السريعة المفكَّكة المقطوعة الصلة أن الرجل تعرَّف بطريقة ما بلاعبي ماجلتون، وأنه لم يلبث أن أحال مجرد المعرفة — بوسائله الخاصة — إلى هذا المدى من «المودة» الذي يسهل معه توجيه الدعوة إليه، والمبالغة في تكريمه، فلا غرو إذا سكن فضوله، وهدأ خاطره، وأقبل على منظاره يضمه على عينيه استعدادًا لمشاهدة اللعب، وكان قد بدأ فعلًا.

وكان أول النازلين إلى الحومة فريق ماجلتون، واشتدت الحماسة حين تقدم المستر دمكنز والمستر بدر — وهما من أبرز أعضاء ذلك النادي المشهور — متماسكين باليدين إلى الشبكتين المخصصتين لهما، وكان اللاعب الذي وقع الاختيار عليه ليلعب إزاءه دمكنز البارع من فريق «دنجلي ديل» هو المستر لفي، زين أهلها، وأرفع القوم مكانة فيها، كما انتخب المستر سترجلز لمباراة «بدر» القاهر الذي لم يغلبه في اللعب غالب إلى الساعة، بينما «رابَطَ» عدة لاعبين «للمراقبة» في أنحاء مختلفة من الملعب، ومضى كل لاعب منهم يتخذ الوضع اللائق، وهو واضع يديه فوق ركبتيه، وقد انحنى برأسه وظهره كثيرًا، كأنه يتأهب للعبة المعروفة «بقفزة الضفادع»،٢ والمشاهد أن اللاعبين جميعًا يفعلون ذلك، حتى ليذهب الظن عامة إلى أنه من المستحيل إجادة المراقبة في أي وضع آخَر.

ووقف «الحكَّام» خلف الشباك، واستعد العدَّاءون لعد الرميات، وعندئذٍ ساد سكون تتقطع فيه الأنفاس، وارتد المستر لفي بضع خطوات خلف شبكة المستر بدر، وكان هذا قد وقف في مكانه هادئًا لا يتحرك، وقرب الكرة من عينه اليمنى عدة ثوانٍ، وانتظر دمكنز مجيئها في طمأنينة واعتداد، وعيناه تراقبان حركات لفي.

وصاح الممسك بالكرة فجأة «العب!» وطارت الكرة من يده رأسًا وبسرعة بالغة صوب النقطة الوسطى من الشبكة، وكان دمكنز الفطن المتنبه على الأهبة لها، فسقطت فوق طرف القبعة، ثم قفزت بعيدًا فوق رءوس «المراقبين» الذين انحنوا لها كثيرًا ليدعوها تطير فوقهم.

وتعالت عندئذٍ الصيحات متتابعة: «اجرِ … اجرِ … ضربة أخرى … والآن اقذفها عاليًا … هيا طوح بها … قِفْ عندك رمية أخرى … كلا … نعم … كلا … اقذفها إلى أعلى … اقذفها إلى أعلى …»

وانتهت تلك الصيحات بفوز فريق ماجلتون بهدفين، ولم يتخلف بدر أو يتوانَ في الظفر بأكاليل الغار للإشادة بذكره، وكسب المجد لبلدته، فجعل يحتجز الكرات المشكوك فيها، ويتخلى عن الكرات الرديئة، ويتوخى الجيدة منها، فيرسلها طائرة في مختلف أرجاء الملعب، وكان «المراقبون» قد عرقوا وسخنوا واستولى التعب عليهم، واستُبْدِل برماة الكرة آخرون، وظلوا يطوحون بها حتى خدرت أذرعهم، ولكن دكنز وبدر ظلَّا غالبين لا قاهر لهما، وكلما حاول سيد متقدم في السن أن يُوقِف سير الكرة، تدحرجت من خلال ساقيه، أو تسربت من بين أنامله، وكلما حاول سيد ناحل الإمساك بها، ضربته على أنفه، ثم قفزت لاهية مداعبة، وهي أشد من قبلُ وثبًا وقفزًا، تاركة الرجل مغرورق العين بالدمع، متلويًا من الألم، وكلما طوحت رأسًا صوب الشبكة، وصل دمكنز إليها قبل وصول الكرة … وجملة القول: أن لاعبي فريق ماجلتون بفضل براعة دمكنز، وحذق «بدر»، ظفروا بنحو أربع وخمسين رمية صائبة، بينما كان حساب ما فاز به لاعبو «دنجلي ديل» فارغًا، أو ظل على «بياض» كشحوب وجوههم، وكان تفوق غرمائهم أكبر من أن يحاولوا التغلب عليه، وذهبت سدى كل جهود «لفي» الصادقة، وحماسة «استرجلز» المتقدة، في حشد كل ما في وسع البراعة والخبرة أن تبذلاه، أو تستعينا به لاسترداد الأرض التي فقدها فريقهما … ولم تجد المحاولات كلها نفعًا، فما لبث لاعبو «دنجلي ديل» أن استسلموا، وتركوا فريق «ماجلتون» يظهرون من براعتهم الفائقة ما هم مظهروه.

وكان الغريب طيلة الوقت مُقبِلًا على الطعام والشراب والكلام، لا ينثني لحظة عنها ولا يكف، وكلما شهد رمية طيبة أبدى ارتياحه ورضاه عن لاعبها، في لهجة المتنزل من عليائه، المتبرع بعطفه ورعايته، مما سر كثيرًا الفريق الذي ينتمي ذلك اللاعب إليه، بينما كان يقابل كل محاولة خائبة، أو يقتصر في وقف الكرة بالتعبير عن استيائه الشخصي من ذلك اللاعب المسيء، أو المحاول الفاشل في عبارات غريبة، كقوله: «آه يا غبي … والآن … خسئت يا طري اليد … مغفل مخادع …» وما إليها من عبارات، جعلته يبدو في أعين جميع المحيطين به كأبدع خبير، لا تُنكَر خبرته بسائر فنون الكريكت وأسرارها.

وازدحمت الخيمة بكلا الفريقين المتبارين عقب انتهاء المباراة، فأنشأ الغريب يقول: «مباراة مفتخرة … لعبت بإجادة … بعض الألعاب تستحق الإعجاب …»

وهنا سأله المستر واردل، وقد سرَّته كثيرًا ثرثرته وهذره: «هل سبق لك يا سيدي أن لعبتها؟»

قال: «لعبتها؟ … أظن أنني لعبتها آلاف المرات … ليس هنا … بل في جزر الهند الغربية … شيء مثير … نضال حامٍ متوقِّد … جدًّا …»

وقال المستر بكوك: «لا بد من أن يكون اللعب رياضة دافئة في مناخ كهذا؟»

قال: «دافئة …! بل ساخنة كالنار … محرقة متأججة … لعبت مرة في مباراة … بشبكة واحدة … صديقي الأميرالاي السير توماس بليزو، وكان المعتقد بأنه سوف يظفر بأكبر عدد من الأهداف … عملنا القرعة لمَن يلعب أولًا … وابتدأنا الساعة السابعة صباحًا … ستة أفراد من الأهلين اشتركوا في المباراة «مراقبين»، نزلت واتخذت مكاني … الحر شديد … كل الأهلين أغمي عليهم … وحُمِلوا من الملعب حملًا … وجيء بستة آخرين … ولكنهم عجزوا عن ملاحقتي … أغمي عليهم كذلك … دوخت الأميرالاي … أبى أن يسلِّم … تابعي الأمين … كوانو سامبو … آخِر مَن بقي … الشمس تتلظى شواظًا من نار … المضرب ملتهب … الكرة مسودة من شدة الاحتراق … رميت خمسمائة وسبعين رمية … كاد الإعياء يستولي عليَّ … كوانكو مضى يستجمع آخِر بقايا قواه … ظل إلى جانبي يعد لي الضربات إلى النهاية … اغتسلت … وذهبت لأتناول طعام الغداء.»

وهنا سأله سيد متقدم في العمر: «وماذا صنع الله يا سيدي بذلك الرجل الذي لم أستطع أن ألتقط اسمه؟»

قال: «هل تعني «بليزو»؟»

قال: «كلا … السيد الآخَر.»

قال: «كوانكو سامبو؟»

أجاب: «أي نعم يا سيدي.»

قال: «مسكين كوانكو! لم يَقُمْ بعدها أبدًا … لقد مات يا سيدي!»

وهنا راح الغريب يخفي وجهه في جرة سوداء، ولكنا لا نستطيع أن نؤكد هل أراد بهذه الحركة أن يخفي تأثره، أو يرشف ما في الجرة ويحتسيه؟ وكل ما نعرفه أنه تمهَّل فجأة، وتنفَّس نفسًا طويلًا عميقًا، وجعل ينظر حوله بفضول، بينما اقترب اثنان من كبار أعضاء نادي «دنجلي ديل» من المستر بكوك، فقالا: «إننا موشكون أن نتناول غداء بسيطًا في فندق «الأسد الأزرق» يا سيدي، ونرجو أن تتكرم أنت وأصحابك بمشاركتنا فيه.»

وأجاب المستر واردل: «بالطبع … ومن بين أصدقائنا المستر …»

والتفت نحو الغريب، فقال هذا السيد الخبير بكل شيء، وهو ينتهز الفرصة: «جنجل»! الفرد جنجل المحترم … من أهل نوهول نوهوير.٣

وأجاب المستر بكوك على الدعوة قائلًا: «إنني على يقين أنني سأكون سعيدًا كل السعادة.»

وقال المستر جنجل، وهو يُدخِل إحدى ذراعيه في ذراع المستر بكوك، والأخرى في ذراع المستر واردل: «وأنا كذلك!»

ومضى يهمس في أذن المستر بكوك قائلًا: «غداء طيب … بارد، ولكنه عظيم … لقد أطللتُ على القاعة في هذا الصباح … دجاج، وفطير، وألوان شهية … كرام … أهل أدب … جدًّا.»

ولم تكن ثمة مقدمات أخرى، أو تمهيدات يراد اتخاذها، فلم يلبث القوم أن اتخذوا سمتهم إلى البلدة في جماعات صغيرة، أو مثنى وثلاث، ولم يكد ينقضي ربع ساعة حتى كانوا جميعًا جلوسًا في القاعة الكبرى بفندق «الأسد الأزرق» في ماجلتون، وقد اتخذ المستر دمكنز كرسي الرياسة، وتولى المستر لفي مركز «نائب الرئيس».

وكثر الكلام، واشتدت قعقعة السكاكين والشوك والصحاف، وهرولة ثلاثة غلمان ضخام الرءوس، واختفت في لمح البرق اللحوم المصفوفة فوق المائدة، وكان المستر جنجل الماجن يساوي في كل ضجة وحركة، أو يعدل على الأقل ستة من الأشخاص العاديين.

ولما أكل كل منهم ما استطاع أن يأكل ملء جوفه أو يزيد، رُفِع الغطاء عن المائدة، وأُزِيلت الزجاجات والأقداح، ووُضِع النُّقْل والفاكهة، وانسحب الخدم لكي «يزيحوا» ما هنالك … أو بعبارة أخرى، ليعكفوا على البقايا والفضلات من كل مأكول ومشروب يصح لهم أن يضعوا عليه أيديهم، امتلاكًا ومكسبًا …

وفي وسط تلك الجلبة العامة من المزاح والكلام، لبث رجل صغير الجثة ساكنًا صموتًا، تلوح على وجهه سمات مَن هو قائل لك: «حذار … لا تكلمني، أو أني سأعارضك»، وإن مضى بين لحظة وأخرى يجيل البصر حوله كلما وجد الحديث هدأ قليلًا، كأنما يفكر في قول شيء قيِّم، أو كلام متَّزِن، أو يروح يسعل سعلة قصيرة، توحي بعظمة ووقار لا وصف لهما، وأخيرًا، حين كاد السكون يسود المكان، انطلق ينادي بصوت مرتفع رهيب قائلًا: «يا لفي!» فغمر الجميع سكون شديد، وانثنى السيد الذي وُجِّه النداء إليه يجيب قائلًا: «نعم يا سيدي.» قال: «أود أن أوجه إليك يا سيدي بضع كلمات، إذا تكرمت فرجوت إلى السادة أن يملئوا الأقداح.»

وهنا صاح المستر جنجل بلهجة المشرف الراعي: «مرحى … مرحى!» وردَّد الآخرون هتافه، وأُتْرِعت الأقداح، واتخذ نائب الرئيس سمت الحكمة والانتباه الشديد، وأنشأ يقول: مستر «ستيبل»!

ونهض الرجل الصغير الجثة فقال: «سيدي، أود أن أوجِّه ما أنا قائله إليك أنت، لا إلى رئيسنا الفاضل؛ لأن رئيسنا الفاضل هو إلى حد ما — بل اسمح لي أن أقول إلى حد كبير — موضوع ما سأقوله، أو ما يصح أن …»

فبادر المستر جنجل إلى إسعافه قائلًا: «أن أدلي به …»

قال: «أجل … ما سأدلي به … إني لشاكر صديقي الكريم، إذا أذن لي أن أدعوه كذلك مرحى (أربع مرات، وواحدة بلا شك من المستر جنجل) على التعبير الذي اقترحه، إنني يا سيدي ديليري — أيْ من أهل دنجلي ديل — هتاف — فلستُ أدعي شرف الانتساب إلى أهل ماجلتون، وإن أردت يا سيدي الصراحة قلت: إنني لست أطمع في الظفر بهذا الشرف، وأنا مبيِّن لك السبب يا سيدي … «مرحى» … وهو أنني مُسَلِّم على الفور لماجلتون بكل الأمجاد والمناقب، التي في وسعها بحق أن تنسبها إلى نفسها … وإنها لأمجاد ومناقب، من فرط كثرتها وشهرتها لا تقتضي مني تنويهًا، ولا تحتاج إلى تعديد أو ترديد، ولكن إذا تذكرنا يا سيدي أن ماجلتون أنجبت دمكنز وبدر، فلا يصح أن ننسى أن دنجلي ديل لها أن تفخر بإنجابها رجلًا مثل «لفي»، وسيدًا من طراز «استرجلز» — هتافات مدوية — وأرجو ألا أُعَدَّ رجلًا يريد أن ينتقص من فضل السيدين، أو يغض من قدرهما ومواهبهما، ولكني يا سيدي أحسدهما على اغتباطهما وهناءتهما بهذه المناسبة — هتاف — وأكبر ظني أن كل سيد يستمع الساعة إلى ما أقوله، يعرف رد ذلك الرجل الذي وجد نفسه — على سبيل المجاز والاستعارة — قابعًا في طشت، فقال للإمبراطور الإسكندر: لو لم أكن ديوجينيس لوددت أن أكون الإسكندر»، وبالمثل أستطيع أن أتصور هذين السيدين، وهما قائلان مقالة «ديوجينيس»: لو لم أكن دمكنز لوددت أن أكون «لفي»، ولو لم أكن «بدر» لوددت أن أكون «استرجلز» — هتاف حماسي — ولكن يا سادة ماجلتون، أفي ملاعب الكريكت وحدها يبرز أبناء جلدتكم أعلامًا ساطعين؟ ألَمْ تستمعوا يومًا عن دمكنز، وقوة العزيمة؟ … ألم تسمعوا يومًا عن بدر، والنضال عن حقوق الملكية؟ — هتاف شديد — أَوَلم تسمعوا عن نضالكم عن حقوقكم وحرياتكم وامتيازاتكم، حين انتقص منها ولو لحظة واحدة، حتى لقد أحسستم من انتقاصها التطير واليأس، وحين تطرق اليأس إليكم، ألم يكن الاسم دمكنز هو الذي عاد يشعل نار الحمية في صدوركم حين خبت جذوتها، أَوَلم تكفِ يومئذٍ كلمة من هذا الرجل لكي ترسلها مشتعلة كما كانت مستعرة باهرة اللهب، كأنها لم تخبُ يومًا ولم تخمد — هتافات مدوية — أيها السادة، إني لأود أن أحيط اسمَيْ «دمكنز وبدر» مقترنين بهالة باهرة من الحماسة والهتاف …»

وهنا وقف الرجل الصغير الجثة عن الكلام، وبدأ الجمع يتصايحون ويدقون الموائد بأيديهم، ولبثوا كذلك في صياحٍ ودقٍّ بقية المساء لا يكفون عنهما إلا على فترات قصار، وشُرِبت الأنخاب مرة أخرى، وكان كلٌّ من المستر لفي، والمستر استرجلز، والمستر بكوك، والمستر جنجل، موضع مديح مستمر، وثناء مستطاب غير منقطع، ومضى كل منهم في دوره يرد بالشكر على هذا التكريم.

وكان أجدر بنا، ونحن مخلصون كل الإخلاص في تأدية رسالتنا الكريمة، التي توفرنا عليها، أن نشعر بزهو لا نستطيع عنه تعبيرًا، وأن نحس بأننا أدَّيْنا عملًا يستحق خلودًا نحن الساعة محرومون منه، لو أننا استطعنا أن نسجل هنا ما تيسَّر من تلك الخطب الرنَّانة، التي أُلقِيت في ذلك الحفل؛ ليطَّلِع عليها قرَّاؤنا الكرام، وكان المستر سنودجراس كدأبه قد دوَّن حشدًا كبيرًا من المذكرات، وكانت هذه المذكرات بلا شك كفيلة بأوفى وأنفع المعلومات، لولا أن بلاغة تلك الخطب وحماسة عباراتها، أو لولا أن الحمى التي انتابته من أثر النبيذ، قد جعلت يد ذلك السيد راجفة كل الارتجاف، مهتزة أشد الاهتزاز، مما جعل خطه لا يكاد يُقرَأ، وأسلوبه لا يُفهَم إطلاقًا، ولكنا بفضل البحث المستمر، والصبر الشديد على التحقيق والاستقصاء، استطعنا أن نكشف بعض حروف تُشبِه من بعيد أسماء الخطباء، كما تيسر لنا العثور على «مدخل» أغنية يُظَن أن المستر جنجل هو الذي كان يغنيها، ويكثر فيها ترديد كلمات وألفاظ، بين كل بيت ونحوه، من مثل «الكأس والطاس»، و«المشعشع» كلون الياقوت، «وباهر» «والنبيذ»، ويُخَيَّل إلينا أيضًا أننا استطعنا في نهاية تلك المذكرات أن نتبيَّن إشارة غير واضحة إلى «عظام محمَّرة»، ثم كلمة «باردة» … وكلمة «بدون»، ولكن أي فكرة يمكن أن نبنيها على هذا الأساس يجب بطبيعة الحال أن تقوم على مجرد «الحدس والتخمين»، ولسنا نريد أن نمعن في شيء منهما، ولا فيما عسى أن يكون مدلول تلك الكلمات.

ولهذا نعود إلى المستر طبمن، غير مضيفين هنا شيئًا، غير أنه لم يكن قد بقي على منتصف الليل سوى بضع دقائق، حتى سمعت أصوات سادات دنجلي ديل وماجلتون، وهم يغنون بحماسة وقوة هذا النشيد الوطني الجميل المؤثر، وهو:

لن نذهب إلى دورنا حتى الصباح
لن نذهب إلى دورنا حتى الصباح
لن نذهب إلى دورنا حتى الصباح
لن نذهب إليها حتى يطلع النهار
١  الغداف: نوع من الطير.
٢  كاللعبة المعروفة بين أطفالنا، وهي: «عنكب، شد واركب»، والتي يسميها الفرنسيون: «قفزة الخروف».
٣  العادة أن يذكر الاسم والبلد والإقليم عند التعريف، وقد عرف المستر جنجل نفسه بأنه من نوهول NO HALL أيْ لا بلد له، وهي من أعمال نوهوير، أيْ ليست في مكان ما.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤