كنوز الهند

١

عرف القراء من رواية البستانية الحسناء التي تقدمت هذه الرواية أن روكامبول مسافر إلى لندرا مع روميا وفاندا.

وقد عرفوا أيضًا أن مرميس نام ستين ساعة متوالية في ذلك السرداب المخيف في منزل البستانية الحسناء، فلما استفاق لم يجد شيئًا من آثارها الهائلة، فلم ير المركيز المعتوه، ولا فاندا المجنونة، ولا الدوق الذي كان يُكوى بالنار، ولا الطفل الذي كان يُجلد بالسياط، بل وجد أمامه ميلون فأخبره كيف أنقذه روكامبول وأعطاه كتابًا ضخمًا عنوانه «كنوز الهند»، وأمره باسم روكامبول أن لا يبرح هذا السرداب قبل أن يتم تلاوة الكتاب، فلم يسع مرميس إلا الامتثال، وجلس يقرأ كتاب روكامبول، فكان عنوان أول فصل من فصوله:
محرقة الأرملة

إن هذا الكتاب وضعه روكامبول وكتبه بخطه، فضمَّنه جميع ما جرى له من الحوادث في الهند خلال إقامته فيها عامين متصلين لم يلق فيهما غير العجائب النادرة من كل ما يطير بالنفس إلى عالم الخيال، ويشغل المُطالِع بتلاوتها عن كل ما في هذا الوجود. أما هذا الكتاب الغريب فقد بدأ كما يأتي: ملَّت الطير صياح البشر، وراعها احمرار الشفق، فاستقرت على الغصون، واختبأت بين الورق.

وغابت الشمس في البحر، وذهب معها حرها المحرق، واستبدلت رياح السموم التي تتساقط من أعالي الجبال بنسمات بَلِيلةٍ كانت تهب من جهة البحار.

وبزغت النجوم في سماء الهند الصافية، فبدأ الناس يتهادون في الشوارع، ويسيرون متنزهين في سهول كالكوتا يستنشقون ذلك النسيم العليل بعد أن كان يصهر أجسامهم حر النهار.

والعادة في الهند أن معظم قومها ينامون في النهار أيام الحر الشديد، فلا يستيقظون إلا حين تتوارى الشمس في الحجاب، حتى إذا هجم الظلام خرجوا من بيوتهم، وهبوا من ذلك الرقاد الإكراهي، وتجولوا في الشوارع بين ساعٍ وراء رزقه وبين متنزه مرتاح إلى رطوبة الليل.

وهناك بيت بُني من القصب الهندي عند أبواب كلكوتا في سهل قسم من المدينة يدعى «المدينة السوداء»، كان فيه أربعة من ضباط الإنكليز مجتمعين حول طاولة يشربون الشاي.

وكان بينهم ضابط فرقة — وهو أصغرهم سنًّا — فقال لرفاقه: أرأيتم في صباح اليوم حين عودتكم من المناورات موكب الأرملة المفجع؟

فقال أحدهم: أي موكب هذا؟

– موكب أرملة الرجاه نجد كوران.

– كلا، لم أر شيئًا من هذا.

فقال أكبرهم سنًّا: ألعل أرملة الرجاه قد توفيت؟

– كلا.

– إذن لماذا تقول إنه مفجع؟

وكان الضابط الصغير يدعى جاك بلاكويلد. ابتسم وقال له: يظهر جليًّا يا صديقي هاريس أنك قادم حديثًا من أوروبا، وأنك لا تعرف شيئًا من تقاليد أهل هندنا المحبوبة.

فابتسم هاريس أيضًا وقال: لتكون محبوبة قدر ما تشاء، ولكن حرها غير محبوب؛ فإنه لا يطاق.

– إنك إذا قارنت بين حر كلكوتا وضباب لندرا يهون عليك أمر هذا الحر، على أني من أهل لندرا يتصل نسبي بجد ولده الملك غليوم سفاحًا، أي أني إنكليزي بحت من الأسرات القديمة، ومع ذلك فلو خُيِّرت بين أن أبقى في حامية كلكوتا وبين أن أكون في ثكنة من ثكنات لندرا لاخترت البقاء في هذه البلاد.

– ربما كان ذلك لتعوُّدك مناخها، وعسى أن أتعوده مثلك؛ فلنعد الآن إلى الأرملة، واذكُرْ لنا مما تعرفه من أمرها.

– إنها هندية في السادسة عشرة من عمرها، ومن كانت في هذا العمر في بلادنا تحسب من الفتيات، وأما في الهند فإنها توشك أن تحسب من العجائز.

– نعم، فقد قرأت شيئًا من هذا في الكتب، ولكن هذه الصبية العجوز هل هي جميلة؟

– إنها لا تزال في نضارة الجمال.

– وهي أرملة؟

– إنها أرملة الرجاه نجد كوران، وهو أمير من أمراء الجبال أبى حتى وفاته الخضوع للإنكليز، ولا يزال يوجد ستة أمراء لم يخضعوا لنا بعدُ.

فابتسم الضابط وقال: ولكنك تعلم أن إنكلترا لا تحب العجلة؛ لأنها تورث الندم كما يقول المثل العربي، فهي تقاتلهم من حين إلى حين بسلاح النار، ولكنها تقاتلهم كل يوم بسلاح الأفيون، وهو أشد فتكًا من طعن السيوف وكرات المدافع.

والآن قُلْ لنا: أمات هذا الأمير؟

– نعم، إنه توفي منذ شهر، وقد وصلت أرملته مساء البارحة تصحبها حاشية عظيمة إلى أبواب المدينة، فتجولوا بها كل الليل يصدحون لها الألحان الهندية المحزنة.

وفي هذا الصباح أركبوها جوادًا وأدخلوها إلى المدينة باحتفال عظيم.

– وما أتت تعمل في هذه المدينة؟

– أتت لتموت.

– ألعلهم يريدون إحراقها بعد موت زوجها حسب عوائد الهنود؟

– هو ما تقول.

– ولماذا يريدون إحراقها في كلكوتا دون سواها؟

– لأن زوجها الأمير من أعظم أشراف الهنود، ولأن مدفن عائلته في كلكوتا.

– مسكينة هذه المرأة التعيسة؛ فإنها لو خيرت لما اختارت هذه الميتة الشنعاء.

– هو ما تقول، ومَن يريد الموت لنفسه؟ فقد مرَّ موكبها اليوم من تحت منزلي، ورأيت تلك المنكودة صفراء الوجه والدموع تملأ عينيها، ولكن سيان عند أولئك الجلادين الغلاظ الأكباد رضِيت أم لم تَرضَ؛ إذ لا بد لها من صعودها إلى المحرقة، وإذا تمنَّعت أصعدوها إليها بالقوة.

– ومن ينفذ هذه المهمة؟

– أهلها وخدام زوجها الميت.

– كيف تجري مثل هذه الأمور الهائلة الهمجية في كلكوتا، أما هي مدينة إنكليزية؟!

– دون شك.

– إذن كيف تأذن الحكومة الإنكليزية بهذه الفظائع؟

– أعيد عليك ما قلته لك في بَدْء هذا الحديث، وهو أنك قادم حديثًا من أوروبا، فاعلم أنه أولًا: لا يحب حكمدار الهند أن يتداخل في شئون الهنود الدينية.

– وثانيًا؟

– وثانيًا: أننا نعلم يقينًا أن أرملة الرجاه ستموت في كلكوتا، ولكن الحكومة والشعب والبوليس يجهلون الساعة والمكان المعين للقتل؛ ولذلك فإنهم يطوفون بتلك المنكودة في أرجاء المدينة المتسعة يومًا أو يومين، وقد يطوفون ثلاثة أيام، ثم يحجبون كلهم عن الأنظار فلا يَعلَم أحدٌ مقرَّهم إلى أن يعثر البوليس بعد بضعة أيام في شارع من الشوارع الوطنية المعتزلة على رماد المحرقة؛ فنعلم أن القضاء قد نفذ فيها، وأنها قد أُحرقت بالنار.

فاهتز القائد لهول ما سمع وقال: لو كنت حاكم الهند لعرفت كيف أَحُولُ دون هذه الفظائع التي يَسودُّ لها وجه الإنسانية، وعار علينا نحن الإنكليز أن لا نقتلع جذور هذه الهمجية ونحن في طليعة الأمم المتمدنة.

فهزَّ القائد الصغير كتفه وحاول أن يجيبه، ولكن حال دون ذلك دخول ضابط آخر عليهم، فشُغل عن الإجابة باستقباله وقال له: أهذا أنت يا حضرة الماجور؟

– نعم، أنا بعينه.

– وما لوجهك مصفرًّا وصوتك يتهدج؟

– لأني اجتزت خمسين مرحلة على جوادي دون أن أقف. ثم جلس على كرسي واهي القوى، فقال الضابط الصغير لرفاقه: أعرفكم أيها الأصحاب بالسير إدوارد، أشد رجل عرفته في البلاد الإنكليزية، وأعظم الناس جراءة وإقدامًا.

فانحنى الجميع أمامه وتم التعارف.

وعند ذلك قال له الضابط: إن هيئتك يا حضرة الماجور لا تدل على التعب وحده، بل على الاضطراب أيضًا.

– هو ذاك، فإني محتاج إلى أربعة رجال أشداء لقضاء شأن خطير.

– هو ذا، نحن أربعة نعينك فيما تريد؛ فأخبرنا عن هذه المهمة.

٢

إن هذا الرجل الذي دخل على الضباط الأربعة دون أن يتوقعوا قدومه كان في الثامنة والعشرين من عمره.

وكان دون الربعة، أي أن جسمه أميل إلى القصر منه إلى الطول، وهو أسود الشعر، أسمر الوجه، وقد لوحت شمس الهند وجهه فبات يشبه الشرقيين أكثر مما يشبه الإنكليز.

ولقد تقدم تقدمًا سريعًا في الجيش، وكان السبب في تقدمه ما أظهره من الجرأة والبسالة في كثير من المعارك التي كان يُسيِّرها الإنكليز على أمراء الهنود.

بل ربما كان سر هذا التقدم حسن إتقانه اللغة الهندية؛ إذ كان من المجيدين فيها تكلمًا وكتابةً، فكان يتنكر بأزياء الهنود ويمتزج بالثائرين على الإنكليز، فلا يزال يعاشرهم ويتزلف إليهم حتى يتمكن من سرقة مشروعاتهم، والوقوف على خططهم الحربية وقواتهم ومراكزهم، فيعود بجميع هذه التفاصيل إلى الجيش الإنكليزي؛ فيتأهبون لمحاربة أولئك العصابة بأعظم من قواتهم، ويهجمون عليهم هجوم الواثق المطمئن؛ فلا يكون لهم غير النصر الأكيد.

على أن قواد الإنكليز كانوا مختلفين في تقدير أعماله والحكم عليها؛ فكان بعضهم يعتبرون أن أعمال الماجور إدوارد تدل على الجرأة والإقدام لمخاطرته بحياته في سبيل أمته وبلاده.

ويرى آخرون أن أعماله على ما فيها من الجرأة لا تخلو من شبه مهنة الجاسوسية، وهي مهنة مستنكرة، فيرد عليهم آخرون أن التجسس غير منكر في الحروب.

ولذلك كان لهذا الماجور بين القواد من يحبونه ويعجبون به، ومن يحتقرونه.

ولكنهم على اختلافهم في تقدير أعماله كانوا متفقين على الاعتراف له بالبسالة النادرة.

وكان هذا الماجور على بسالته وافر الذكاء، رحب الصدر، كثير الدهاء؛ فكان يتخلق بما يريد من الأخلاق، ويُظهر غير ما يضمر.

غير أن الجَلَد خانه في هذه المرة؛ فقد كانت دلائل الاضطراب ظاهرة على وجهه حتى اضطر القائد الصغير إلى سؤاله مرة ثانية عن سبب اضطرابه.

فعاد الماجور تباعًا إلى سكينته العادية وقال: تقدم لي القول، أيها الرفاق، أني اجتزت خمسين مرحلة دون أن أقف إلا لتغيير الجواد؛ فقد قتلت أربعة جياد.

– من أين أنت آتٍ؟

– من جبال الهند التي تتألف منها مملكة الرجاه نجد كوران.

– أهو هذا الرجاه الذي جيء بامرأته إلى كلكوتا لتحرق فيها؟

– هو بعينه، وإني ما قتلت الجياد الأربعة وجئت بهذه السرعة إلا من أجل هذه الأرملة.

فثار فضول الضباط الأربعة لهذا النبأ وصاحوا جميعهم بصوت واحد: كيف ذلك؟

– أتعرفون كيف مات الرجاه؟

– كلا.

– إنه كان في حفلة صيد، فسقطت على رجله حربة مسمومة من تلك الحراب التي يُسمِّمها الهنود في قتال النمور وغيرها من الوحوش الضارية، فلا يفيد سمها دواء، ولها تأثير في القتل أشد من تأثير سلاحنا الناري.

فجرح الرجاه جرحًا خفيفًا، لكن جسمه تسمم في الحال فما عاش غير بضع ساعات.

فقال الضابط: أمات دون أن يخضع للإنكليز؟

– نعم، وكذلك أخوه عثمان الذي خلفه على الإمارة إثر وفاته.

– قل لنا يا حضرة السير: أية علاقة بين سرعتك في سفرك وبين أرملة الرجاه الحسناء؟

– ذلك أني كنت في مهمة لدى الرجاه الميت؛ وهي أني عرضت عليه بعض اقتراحات مآلها أن يحالف إنكلترا، ويكون عدوًّا لأعدائها، بشرط أن تضمن له استقلاله.

فضحك القائد وقال: لا جرم فهذه عادة إنكلترا النبيلة في مخابراتها، والآن قل لنا: ماذا جرى بعد ذلك؟

– مما لا ريب فيه أني لم أدخل إلى بلاط ذلك الأمير بملابسي الأوروبية، بل إني تزييت بأزياء الهنود.

ولما كنت عارفًا بلغة الهنود وسكان ضفاف الكنغ، تنكَّرت بملابس هندي من مدينة بناريس، ولم يكن عارفًا بحقيقة حالي غير الرجاه نجد كوران وشقيقه عثمان.

أما الرجاه الميت فإنه لم يرض باقتراحي، لكنه لم يرفضه، وفيما نحن نتخابر فاجأه الموت.

وعند ذلك، ارتقى سرير الإمارة شقيقه عثمان، فدعاني إليه وقال لي ما يأتي: إني أرفض مطالب الإنكليز، ولكني أوافق على أن لا أشهر السلاح ضدها إذا كنتَ قادرًا على قضاء مهمة سرية أعهد بها إليك.

– ما هي؟

– أرأيت أرملة أخي؟

– نعم …

– إنه حكم عليها حسب عوائدنا الهمجية أن تموت حرقًا بالنار.

– عرفت ذلك.

– لتنقذها إنكلترا من هذا العقاب، فلقد أُصبحُ مواليًا لها.

فقاطع القائد الصغير السير إدوارد وقال له: لقد بدأت أن أفهم.

– كلا، فأصغ إليَّ تعلم الحقيقة؛ فإن الرجاه الجديد عثمان حينما عهد إليَّ بهذه المهمة كانت الأرملة قد أرسلت إلى مدينة كلكوتا يصحبها أهل وأصدقاء زوجها.

وهي تدعى كولي نانا، ومعنى هذا الاسم باللغة الهندية «اللؤلؤة السمراء».

فلما علمت أنها سافرت خشيت أن يفوت الأوان، فوعدت الأمير بأن إنكلترا ستنقذ الأرملة، وجئت كما علمتم من السرعة.

فقال الضابط: إذن أنت محتاج إلى أربعة رجال أشداء لإنقاذ الأرملة؟

– هو ذاك.

– لماذا تريد أن يكونوا أربعة فقط؟

– لأني وضعت خطة لي في نجاحها ملء الثقة، ولكن زيادة عدد الرجال الذين يعينوني على تنفيذها يفسدها.

والآن أرجو أن تصرحوا لي إذا كنت أستطيع الاعتماد عليكم.

فصاح الجميع بصوت واحد مشيرين إلى قلوبهم.

– إذن أصغوا إلي.

ثم شرب جرعة من الشاي وجعل يحدثهم بما يأتي.

٣

قال: تعلمون أيها السادة أني أتقن اللغة الهندية إتقانًا عجيبًا حتى إني أتكلم بلهجة الهنود فلا يعرف أحد منهم أني غريب عنها.

وإني وإن كنت ولدت في لفربول وكانت أسرتي من الأسرات القديمة الإنكليزية، فإني أتيت إلى الهند في عهد الحداثة؛ فتعلمت لغة قومها واقتبست عوائدهم حتى صرت كواحد منهم.

ثم إني حبست عامين عند ملك الأهور، فكان جميع ذلك مع هيئتي الشرقية كافيًا لأن يحسبني الهنود واحدًا منهم، فإذا تنكرت بملابسهم لا أفرق عنهم بشيء.

وكذلك جعلت أجتاز الهند بجملتها تارةً أمتطي الجياد، وتارةً على ظهور الفيلة، فأدخل إلى معابد البراهمة فأقتبس أسرار الديانات، وأحج في المساجد فأصلي مع المسلمين، فأتنكر مرة بلباس رجل من أهل دلهي، وأتزيا مرة بزي تجار الأفيون، وأقلد أحيانًا أغنياء كشمير؛ فلا يعلم أحد من الهنود أني إنكليزي من بلاد الإنكليز.

قال الضابط: إننا نعرف منك جميع ما تقوله يا حضرة الماجور.

– عفوًا، فإني أفصل لكم هذا التفصيل؛ إذ لا بد منه لمعرفة الخطة التي اتفقت عليها مع الأمير عثمان.

– إذن أصغوا لنعلم هذه الخطة.

فقال إدوارد: إن أرملة الرجاه وصلت إلى كلكوتا مساء أمس.

فاعترضه الضابط وقال: كلا؛ فإنها كانت مساء أمس مع موكبها في السهول عند أبواب كلكوتا، ولم تدخل إليها إلا صباح اليوم.

– لا بأس، وإن الموكب قد طاف النهار كله من معبد إلى معبد في المدينتين البيضاء والسوداء.

وهم سيستريحون هذه الليلة في فندق من تلك الفنادق الهندية التي يدعونها شولتري.

وفي اليوم التالي يعودون إلى الطواف كما فعلوا اليوم، حتى إذا أقبل الليل احتجبوا عن الأنظار فلا يدري البوليس الإنكليزي أين يذهبون مهما بالغ في البحث عنهم.

ذلك أنهم يذهبون بطرق ضيقة إلى مكان معتزل يتفقون عليه سرًّا على شاطئ البحر أو في السهل، فينصبون فيه المحرقة.

ولكن هذا السر الذي خفي عن جميع الناس لم يخف عليَّ، وسأعرف مكان اجتماعهم دون سواي.

فقالوا جميعهم: كيف ذلك؟

– ذلك أني سأتنكر منذ صباح غد بملابس الهنود وأختلط بالموكب فلا أفارقه.

وهم سيحتفلون بي ولا يشكون بأمري لأنهم رأوني في بلاط الرجاه الفقيد، ورأوا أنه كان يعاملني خير معاملة، فيعتقدون أني أشاركهم في حفلتهم تجملًا وودادًا، فلا يكتمون عني أمرًا.

وفي المساء أكون معهم في المحل السري الذي سيجتمعون فيه، فإذا أقبل الليل ساعدتهم على نصب المحرقة، وفي هذه الساعة يأتي دور الحاجة إليكم إذا كنتم لا تزالون على وعدكم.

فنظر إليه الضباط الأربعة نظرات تدل على الانذهال، أما هو فإنه تابع حديثه فقال: إنه في الليلة التي تتقدم الإحراق — إذ إن الأرملة لا تحرق إلا عند الفجر — توضع تلك المنكودة المحكوم عليها بالموت إحراقًا في خيمة وحدها، وتوضع أمامها لآلئها ومجوهراتها وجميع زينتها، فإذا حملوها إلى المحرقة أخذت تلك المجوهرات واللآلئ الثمينة، فجعلت تلقيها قطعة قطعة إلى النار قبل أن يلقوها وسط أجيجها.

وفي هذه الليلة الهائلة يجتمع الموسيقيون حول تلك الخيمة، وينشدون الأناشيد الغريبة الشجية، فتنقبض لها النفوس وتسيل المدامع.

أما تلك المنكودة، فإن هذه الساعة تكون من أشد ساعاتها؛ إذ تعلم أن ساعتها الأخيرة قد دنت، فلما تصدح تلك الموسيقى بألحانها المحزنة تفقد صوابها من التأثر، وينعقد لسانها من الخوف.

وقد جعلت جل اعتمادي في إنقاذها على حالتها في تلك الساعة؛ إذ لا يحيط بها في ذلك الحين غير تلك الجوقة الموسيقية.

وسأخبركم في المساء عما أعزم عليه، ولكنني لا أعلم الآن الطريقة التي سأتمكن بها من مخابرتكم.

على أني سأجد طريقة مضمونة، فعليكم أن تقربوا عند انتصاف الليل من محل اجتماع الهنود، وإنكم ستجدون جميع أولئك الهنود الذين يرافقون موكب الأرملة سكارى من الحشيش والأفيون، منهوكي القوى من الرقص والطواف، حتى إن الموسيقيين أنفسهم يكونون أشبه برفاقهم، بل أشد منهم إلى الرقاد.

ولكن سيكون أربعة رجال بين أولئك الهنود لا يسكرون ولا ينامون، وهم إخوة الأرملة المحكوم عليها بالإحراق، فإن عوائد الهنود أن أخص أقرباء المحكوم عليها يتولون التنفيذ، وتقضي عليهم شرائعهم الدينية بالصوم والسهر إلى أن ينفذ الإعدام، وسيكون شأنكم مع هؤلاء الأربعة؛ إذ لا تجدون سواهم من يقاومكم.

فقال أحدهم: ألعلنا نحن الذين نتولى اختطافها؟

– كلا، بل إنكم تتولون مقاومة أولئك الرجال الأربعة الذين سيدافعون عنها أشد دفاع، إلا إذا قتلها الرعب وحال الموت بينها وبين ذلك الدفاع.

– إذن يجب أن نتقارع بالسيوف ونتقاتل بالمسدسات.

– ربما.

– وهؤلاء الهنود ألا يقدمون لنجدتهم — فإنهم مهما بلغ من سكرهم — لأنهم يستفيقون في مثل هذا الخطر؟

فابتسم السير إدوارد وقال: إني لمثل هذا أردت أن يكون لديَّ أربعة من البواسل الأشداء، وفوق ذلك فإن أربعة من الإنكليز يعادلون عشرة من الهنود على الأقل.

فتحمس الضابط الصغير وقال: بل عشرين.

وانصرف أحدهم إلى الحديث عن الأمير عثمان فقال: يظهر أن هذا الأمير الجديد من المتمدنين.

– كلا، بل هو أعظم همجية من أخيه.

– إذا كان ذلك كما تقول فكيف أشفَق على امرأة أخيه، بل كيف يخالف تقاليده المقدسة ويحاول إنقاذها من النار؟!

فابتسم السير إدوارد وقال: ذلك لأن في فؤاده نارًا سعيرها أشد من سعير نار المحرقة؛ لأنه هائم مفتون باللؤلؤة السمراء، أي بامرأة أخيه التي ستحرق.

– إذن تطلب إلينا قضاء مهمة غرام؟

– وماذا يهمنا ذلك أيها السادة؟ لأننا إذا أنقذناها نكون قد قضينا واجبًا إنسانيًّا؛ إذ لا ذنب لهذه المرأة غير موت زوجها وجور تلك التقاليد، وفوق ذلك فإني إذا أنقذتها يصبح هذا الأمير الجديد صديقًا لي ولكم ولإنكلترا، التي نفارق أوطاننا العزيزة لخدمتها.

– أحسنت، وإني أجد قضاء هذه المهمة ميسورًا ما خلا أمرًا، فإني أجده كثير التعقيد.

– ما هو؟

– إني واثق من استطاعتنا إنقاذها.

– هذا ما أرجوه.

– ولكن ماذا يصنع الأمير الجديد، فإن رعيته ورجال بلاطه يعرفون أنها امرأة أميرهم القديم، فإذا عادت إلى بلاط الأمير الجديد علموا أنها امرأة أخيه، وأنه خان بإنقاذها تقاليدهم المقدسة؟

فقال السير إدوارد: إن جميع هذا قد توقعناه وتلافيناه من قبل ذلك؛ إن لهذه الأرملة أختًا تشبهها في تقاطيع وجهها، ولا تختلف عنها إلا بلون شعرها، فإن شعر أختها أشقر وشعر الأرملة أسود.

وكلتاهما ابنتا غني من تجار الأفيون.

وإن الأمير عثمان خاطب للفتاة الشقراء، فهو سيسافر إلى بلد أبيها في أول هذا الشهر للقدوم بخطيبته بموكب عظيم.

على أن تاجر الأفيون وشقيقة الأرملة عالمانِ بنية الأمير عثمان، واقفانِ على هذا السر.

فمتى اختطفنا الأرملة نذهب بها إلى منزل أبيها، وهناك طبيب هندي خبير بصبغ الشعر، فيصبغ شعر الأرملة حتى يغدو كشعر أختها، وبذلك يتم الشبه بينهما، ونزفُّ الأرملة إلى الأمير بدلًا من أختها.

ثم نهض واقفًا وقال: أستودعكم الله إلى الغد.

٤

وقبل أن يسير سأله الضابط قائلًا: إلى أين أنت ذاهب؟

– إني ذاهب لأختلط بموكب الأرملة، ولأجل ذلك ينبغي أن أنزع ملابسي وأتزيَّا بزي الهنود.

– حسنًا، ولكنك لم تقل لنا أين نجدك في الغد؟

– ذلك لأني إلى الآن أجهل أين أكون، ولكن خطر لي خاطر؛ وهو أن الموكب بعد أن يطوف هذا القسم من كلكوتا الذي ندعوه المدينة السوداء لا بد له أن ينتهي من طوافه عند المعبد الكائن في المدينة البيضاء، أي في القسم الأوروبي.

وذلك أن هذا المعبد مبني منذ عصور بعيدة، وهو مقدس عند الهنود، ويؤثرون الصلاة فيه على سواه من المعابد، وأنا واثق أن الموكب ينتهي بزيارة هذا المعبد.

– ألعلك تريد أن يكون التقاؤنا هناك؟

– نعم، إني أحب أن يذهب أحدكم منذ صباح الغد فيقف عند باب المعبد حتى يراني، فمن يذهب منكم؟

قال الضابط الصغير: أنا لها.

– إذن تذهب إلى باب المعبد وتنتظر، وإنك ستراني بين المحتفلين، ولكنك لا تعرفني لشدة تنكري، فإذا رأيت الناس قد خرجوا جميعهم من المعبد فادخل أنت إليه.

– وبعد ذلك؟

– تجد في إحدى زوايَا المعبد تمثالًا عظيمًا يمثل الإله سيوا، وتجد عند قدم التمثال صرة صغيرة فيها حبوب من القمح، تعوَّد الهنود أن يضعوا أمثالها في المعابد، فخُذ الصرة وافتحها تجد فيها رسالة مكتوبة بقلم رصاص وفيها تعليماتي.

ثم قام وودع رفاقه وانصرف.

ولما بلغ الباب الخارجي امتطى جواده ودخل به إلى كلكوتا، فاجتاز المدينة السوداء، أي مدينة الوطنيين، إلى المدينة البيضاء، أي مدينة الإفرنج، ووقف عند باب منزل كبير، ففُتِح مصراعه للحال، وأسرع إلى خدمته عبدان أسودان، فوقفا أمامه بملء الاحترام. وكان هذا المنزل منزله.

وكان ضباط الإنكليز في الهند يعيشون بسعة ورخاء لارتفاع رواتبهم، فإن راتب الماجور يبلغ مائة ألف فرنك في العام.

وفوق ذلك فإن الماجور إدوارد كان معدودًا من الأغنياء بفضل ثروته الخاصة، فكان ينفق عن سعة.

على أن الناس كانوا يختلفون في ثروته، فمنهم من يقول: إنها من آبائه، ومنهم من يقول: إنها من مصادر سرية؛ ولذلك لم تكن سمعته خالية من الشوائب والعيوب.

بل كانوا يدَّعون أنه باع الإنكليز، بطريقة شائنة، أسرارَ أمراء كانوا من أصحابه وكانوا يأتمنونه على أسرارهم، وأن هذه الخيانة وأمثالها مصدر تلك الثروة.

ولكن الإفرنج تؤثر سماء الهند في نفوسهم، فتُضعف اهتمامهم بشئون سواهم، وتدعو كل مهاجر منهم إلى الاهتمام بشئونه الخاصة.

وبمثل هذه الثروة كان يقاوم أعداءه، فيساعد فقراء الضباط بماله؛ فيشتري صداقتهم بالمال.

وترجل الماجور عن جواده، ودخل إلى منزله فخلع ملابسه واغتسل، ثم نادى خادمًا هنديًّا مخلصًا في خدمته وقال له: أحدث شيء جديد؟

– كلا.

– أرأيت موكب الأرملة؟

– نعم، رأيته في الصباح.

– أين يكون الآن فيما تظن؟

– أظنهم يستريحون الآن في فندق الحية الزرقاء.

وكان الماجور يحادث خادمه الوفي ويلبس ملابسه الهندية، فلما أتم تنكره ظهر أنه من تجار أفغانستان الذين يتاجرون بالأفيون واللؤلؤ والأحجار الكريمة.

وعند ذلك فتح بابًا سريًّا وخرج منه إلى الشارع، فلم يعلم بتنكره أحد من خدم المنزل ما خلا خادمه الأمين الهندي، الذي كان له به ملء الثقة خلافًا لسائر الخدم، فإنهم ما رأوه إلا بملابس الضابط.

وبعد ساعة دخل إلى فندق الحية الزرقاء فوجد فيه الأرملة ورجال الموكب.

وكان الرقص قد بدأ، فوضعوا تلك الأرملة المنكودة على بساط تحت قبة من الخيزران، وجعلوا يرقصون حولها وهي تنظر إليهم نظرات تشف عما دخل فؤادها من الرعب، وأخوتها الأربعة محدقون بها ينشدون حولها الأناشيد الغريبة، فاختلط الماجور بأهل الموكب، ثم شق الجموع ودنا من مجلس الأرملة.

٥

على أن معظم رجال الموكب عرفوا الماجور، ولكنهم لم يعرفوا أنه ذلك الضابط في جيش الإنكليز، بل عرفوا أنه ذلك التاجر الهندي الذي طالما رأوه في بلاد الرجاه الميت.

وقد أعد أقرباء الأرملة حضوره حفلتهم لطفًا منه وتوددًا، فشكروه واستقبلوه خير استقبال، ثم قدموا له من ثمارهم الجافة، فجلس بينهم يدخن معهم وينظر إلى رقص الراقصين.

ولما توارت الشمس في حجابها انتهى الرقص، وسقط الراقصون لا يعون لفرط إجهادهم في الرقص.

وعند ذلك وقف أهل الأرملة إيذانًا بانتهاء حفلات النهار، وابتدأت حفلات الليل؛ وهي الطواف بالمشاعل والأنوار المختلفة.

أما تلك الأرملة المنكودة الحظ، فإنهم خبلوا عقلها بأحاديثهم الدينية، وبإظهار ما ستلاقيه في السماء بعد أن ضحت نفسها في حب زوجها، فاختبل عقلها، وتمثلت لها تلك السماء بمظاهر مختلفة، فلم تعد تفرق بين الحقيقة والخيال، وجعلت تتكلم عن زوجها، وعن الفردوس، وعن الإله وشنو، فيختبل عقلها وتتمثل تلك الحفلات السماوية التي تنتظرها، وهذه الحفلات الأرضية التي تعيشها، فتبكي وتضحك وتغني في وقت واحد.

وكانوا في النهار قد أركبوها جوادًا، فلما بدأت حفلة الليل أركبوها فيلًا أسود وضعوا فوق ظهره بناية تشبه الأبراج.

وكان رجال الموكب يخفرونها من مشاة وفرسان، فعادوا إلى الطواف في المدينة تتقدمهم المشاعل والمباخر تفوح منها أزكى الروائح.

ولبثوا على ذلك الطواف إلى أن أسفر وجه النجم وأشرق الفجر، فعادوا إلى الفندق وأقاموا فيه التماسًا للراحة من تعب الليل، وفرارًا من هجير النهار.

وانقضى ذلك النهار، وهبت نسمات البحر فخرجوا من الفندق، وكان ذلك آخر حفلاتهم، فبرح الموكب المدينة السوداء إلى الشارع الإفرنجي، ثم ذهبوا منه إلى معبد الحية الزرقاء.

وكان هناك كثير من الناس على اختلاف الأجناس والطبقات ينتظرون الأرملة عند أبواب المعبد، فلقي أهل الموكب عناء شديدًا في اختراق الزحام والدخول إلى معبدهم.

أما السير إدوارد فإنه لم يفارق الموكب لحظة، وكان ملازمًا لإخوة الأرملة كل وقته، فرأى بين الجموع المحتشدة عند باب المعبد السير جاك — وهو أحد الضباط الأربعة — الذي واعده على الاجتماع به في هذا المكان.

غير أن السير جاك وقف مدة طويلة بقربه ونظر إليه مرات كثيرة فلم يعرفه.

وأدخلوا الفيل وعليه الأرملة إلى المعبد، فبدأ البراهمة بالصلاة، ولما انتهوا منها بدأ الدراويش بالدوران، ثم تلاهم الكهنة فجعلوا يهزون رءوسهم يمنة ويسرة، وينشدون أناشيد غريبة بلغتهم السنسكريتية المقدسة، وكان ذلك ختام الحفلات.

أما السير إدوارد فإنه عرف ما كان يريد أن يعرفه، وذلك أن إخوان الأرملة سُرُّوا لتكرُّمه بحضور حفلتهم، فأخبروه عن المكان السري الذي عيَّنوه لإحراق أختهم.

ولما خلا المعبد من أولئك المحتفلين، دخل السير جاك — أحد الضباط الأربعة — وذهب توًّا إلى تمثال الإله سيوا، فوجد عند قاعدة التمثال صرة من القمح، فأخذها وفتحها وأخرج منها ورقة كتب عليها السير إدوارد ما يأتي:

إن المحرقة ستنصب على مسافة مرحلتين من شمال المدينة في وادٍ مقفر يقال له: وادي اللآلئ الوردية، وسنكون هناك عند انتصاف الليل.

فوضع الضابط الرسالة في جيبه وسار إلى رفاقه الثلاثة، وعاد الموكب بالأرملة إلى المدينة السوداء حتى وصلوا إلى الفندق.

وهناك تفرقوا فعاد قسم منهم إلى منازلهم، وتبودلت بين القسم الآخر إشارات سرية فذهب بعضهم يمنةً، وبعضهم يسرةً.

أما الأرملة فقد دخلوا بها إلى الفندق وأقفلوه، وعند ذلك دنت مراقبة البوليس الإنكليزي، وهي مراقبة لا يراد بها غير المظاهرة؛ إذ لم يكن من سياسة الإنكليز أن يتعرضوا لتقاليد الهنود الدينية مهما بلغت تلك التقاليد من الهمجية والفظاعة.

وقد جاءت ثلة من الجند يقودها ضابط إنكليزي، فطرق باب الفندق، فبرز له رجل هندي وسأله عما يريد.

– أريد أن أرى أرملة الرجاه.

– إنها لم تعد من عالم الأرض.

وأقفل الباب فلم يفتحه، ومنع الضابط عن الدخول.

فأمر الضابط عند ذلك بكسر الباب، فكسروه ودخلوا عنوةً، فوجدوا الفيل وذلك البرج العظيم الذي كان فوق ظهره، ولكنهم لم يجدوا الأرملة في ذلك البرج.

وفتش البوليس جميع غرف الفندق والمنازل المجاورة؛ فلم يجدوا أثرًا للأرملة، وكان هذا القائد قد اقتنع أنه قد أتم واجباته، فأمر رجاله بالانسحاب وعاد بهم إلى الثكنة.

أما رجال الموكب فإنهم كانوا ينسلون في ذلك الحين واحدًا أثر واحد، ويسيرون في طرق مختلفة إلى المكان المعين للاجتماع.

وأما الضباط الأربعة فإنهم امتطوا جيادهم، وتدججوا بسلاحهم، وساروا إلى ذلك الوادي الذي أرشدهم إليه السير إدوارد لإنقاذ تلك الأرملة، التي كانت مشردة العقل تحسب أن هذه الليلة آخر لياليها.

٦

إن هذا الوادي الذي كانوا يدعونه وادي اللآلئ الوردية لم يكن اسمه ينطبق على مسماه في شيء؛ إذ كان واديًا تحدق به جبال كثيرة الصخور من الشرق والغرب، ولم يكن فيه غير الهشيم.

وتكتنفه من الجنوب، أي من طريق كلكوتا إليه، سلسلة غابات كثيفة لا يأوي إليها غير النمور المفترسة، والأفاعي الهائلة، والفهود الكاسرة.

وفي تلك الغابات كان يريد إخوان الأرملة أن يختبئوا لإحراق أختهم، وإنما اختاروا هذا الوادي حذرًا من الجنود الإنكليزية؛ إذ لا يستطيعون الوصول إليهم إلا بعد أن يجتازوا هذه الغابات، وخوف الإنكليز من الوحوش الكاسرة مشهور.

وقد ادلهم الظلام وبدأ رجال الموكب يتوافدون واحدًا بعد واحد إلى ذلك الوادي، فينصبون خيامهم فيه حول خيمة الأرملة التي كانت منصوبة وسط الخيام.

والعادة في مثل هذا المقام أن يقف البراهمة والموسيقيون خارج الخيمة، فيعزفون على الآلات وينشدون أناشيد التهنئة لتلك المرأة السعيدة في الدار الآخرة؛ لبسالتها ولحاقها بزوجها بعد الموت.

ولم يكن يحق لأحد من البراهمة والموسيقيين الدخول إلى خيمة الأرملة، ولا لأحد من رجال الموكب ما خلا إخوتها.

وفي ذلك الحين دخل إخوتها إلى خيمتها، فجعلوا يتفقدون كلٌّ بدوره صندوقًا من الأبنوس كانت فيه مجوهرات الأرملة.

وكان مع الأرملة امرأة سوداء تدعى مانورا، وهي شقيقة كولي نانا بالرضاع، فكانت تبكي بكاءً شديدًا لإشفاقها على الأرملة التي ستموت.

أما الإخوان فإنهم تبادلوا نظرات خفية تشير إلى الرضى مما رأوه من تأهُّب أختهم إلى الموت، وأيقنوا أنها ستصعد إلى المحرقة وهي تنشد نشيد الوداع المقدس، فخرجوا من عندها وهم يقولون: إننا نستطيع نصب المحرقة مطمئنين.

وعادت مانورا إلى البكاء والشهيق لتيقنها أن كولي نانا ستحرق عند شروق الشمس.

ولكن الأرملة أقفلت صندوق جواهرها بسكينة بعد ذهاب إخوتها، ودنت من مانورا فقالت لها: كفي عن البكاء أيتها الحبيبة.

فنظرت إليها السوداء نظرة انذهال وقالت: كيف لا أبكي وأنت ستموتين بعد قليل؟

فابتسمت الأرملة وقالت: ربما نجوت من الموت.

فصاحت السوداء صيحة فرح، غير أن الأرملة وضعت سبابتها على فمها وقالت لها: اسكتي ولا تُظهري شيئًا من علائم الرجاء كي لا يقفوا على أمرنا.

– ولكن على أي شيء عقدتِ هذا الرجاء؟

– قلت لك: إني لا أريد أن أموت، ولن أموت على هذه المحرقة.

فهزت مانورا رأسها وقالت: لكنهم يُصعدونك عليها بالقوة.

– كلا، إن عثمان ساهر عليَّ.

فارتعشت مانورا عند سماعها هذا الاسم ولم تفُهْ بحرف، فقالت لها الأرملة: إن الرجاه عثمان يحبني حبًّا صادقًا، وقد تحالفنا على الولاء، وأقسم أنه ينقذني من المحرقة، ومثل هذا الأمير لا ينكث بيمينه.

وكأنما مانورا كانت لا تزال في ريب من صدق هذه الوعود، فرفعت سجف الخيمة وقالت: إن النجوم قد اصفرت ويكاد يمحقها الفجر.

– لا بأس.

– إني أرى إخوتك يا سيدتي ذاهبين إلى الغابة.

– ليذهبوا حيث شاءوا.

– لكنهم ذاهبين لإحضار حطب المحرقة.

– ليفعلوا ما يريدون؛ فإن عثمان يصل قبل أن تُنصب المحرقة.

وكانت تقول هذا القول بلهجة الواثق المطمئن.

غير أن لهجتها لم تؤثر على مانورا فقالت: وكيف يستطيع عثمان أن يعلم أين نحن؟

إنك تعلمين، يا سيدتي، أنه حين تفرق الموكب ساعة الغروب لم يكن من يعرف المكان الذي سنجتمع فيه غير إخوتك، وأنهم ما عهدوا بسرِّهم إلا للأخصاء.

– هو ما تقولين ولكنْ أصغي إليَّ، أرأيت بين المحتفلين ذلك التاجر الأفغاني؟

– أتعنين به ذلك الرجل الذي كان يلازم بلاط زوجك الفقيد؟

– هو بعينه.

– نعم رأيته قد اختلط بالموكب، ألعله جاء بأمر عثمان؟

فدنت الأرملة منها وهمست في أذنها قائلة: إنه اقترب مني حين كانوا يطوفون بي وقال لي: «لا تخافي؛ إني ساهر عليك.»

فوثقت مانورا بعض الوثوق وجلست معها تراقب انبثاق الفجر وهي تتراوح بين اليأس والرجاء.

وبعد حين بدأ أولئك الهنود يستفيقون من رقادهم وقد ثقلت أدمغتهم من الأفيون، وعاد إخوان الأرملة من الغابات فجعلوا ينصبون المحرقة بمساعدة عبيدهم.

فلم تكد مانورا تنظر إليهم حتى جنت من يأسها وقالت: سيدتي، لم يبق لدينا غير ساعة! فأين الرجاه؟

وقبل أن تجيبها انقطع غناء البراهمة فجأة، وسمعت المرأتان وَقْعَ حوافر الخيل، وتلا ذلك دوي إطلاق مسدسات وصيحات، فصاحات الأرملة تقول بملء الفرح: هو ذا عثمان قد حضر.

غير أن الأرملة قد أخطأت؛ لأن هؤلاء الفرسان لم يكونوا من رجال عثمان، بل كانوا أولئك الضباط الإنكليز الأربعة انقضوا على الهنود انقضاض الصاعقة؛ ففرقوا شملهم ومزقوهم كل ممزق.

وقد قاوم إخوان الأرملة مقاومة عنيفة، غير أن ذلك التاجر الأفغاني، أي السير إدوارد، انضم إلى الجنود، وجرى بين الفريقين معركة شديدة؛ فكان إخوان الأرملة يسقطون واحدًا تلو واحد، وأسرع من نجا من الهنود إلى الفرار.

وعند ذلك هجم السير إدوارد على الأرملة فأردفها وراءه على جواده، وانطلق بها يسابق الرياح إلى كلكوتا وهي توشك أن تجن من سرورها، وتترنم باسم حبيبها عثمان.

٧

مضى عشرة أعوام على اختطاف الأرملة ونجاتها من ذلك العقاب الهمجي الفظيع.

وكان إخوتها الأربعة قد قتلوا، فلم يبق من يستطيع اكتشاف سر الاتفاق بين الرجاه عثمان وبين الأرملة.

أما السير إدوارد فإنه ذهب بها توًّا إلى أبيها، فأقامت مختبئة عنده عدة أشهر، وقد صبغ الطبيب شعرها الأسود بلون شعر أختها الأشقر، فتم الشبه بين الأختين.

على أنه أشيع في تلك المدينة أن كولي نانا أرملة الرجاه أنقذها من المحرقة جنود من الإنكليز، ولكن لم يشكك أحد بأن للرجاه عثمان يدًّا في ذلك الإنقاذ.

ولذلك ذهب عثمان بعد ستة أشهر إلى منزل والد الأرملة في موكب حافل وتزوج بها، والناس يحسبون أنه تزوج أختها لأن الشبه بين الأختين كان كثيرًا لا سيما بعد صبغ الشعر.

ثم إن الهنديات يضعن فوق وجوههن نقابًا ثخينًا من الحرير، فلم يتمكن الناس من رؤية وجه الأرملة حين زفافها، وسار الأمير بزوجته كولي نانا وهم يحسبونها أختها.

ولقد حدث في العشرة الأعوام المتقدمة أمور كثيرة؛ فإن الأمير عثمان جمع تحت رايته جميع القبائل الجبلية المحيطة به للحرب دفاعًا عن الاستقلال، فعظُم شأنه.

وكان الفرق بينه وبين أخيه أن أخاه كان شبه رئيس حزب، فلم يكن خاضعًا له غير بعض القرى، خلافًا لعثمان فقد انضم إليه أهل الجبال، وخضع لرايته نحو عشرين مدينة من المدن الكبرى؛ فبات له جيش عظيم خشي الإنكليز بأسه، وزاد طمعه بالاستقلال.

غير أن القراء يذكرون ما قاله عثمان للسير إدوارد وهو: «لتنقذ إنكلترا أرملة أخي من المحرقة وأنا أخضع لها.»

ولكنه حين رأى ما بلغ إليه من القوة، وعلم أن الأرملة لم تنقذها إنكلترا، بل السير إدوارد؛ نكث بوعوده، ووالى السير إدوارد وجعله وزيره الأول لمملكته.

وكان هذا كل ما يسعى إليه الماجور إدوارد؛ فإنه حمل الأمير عثمان على الوثوق به حتى جعله لديه في هذا المقام، وأشاع في كلكوتا بعد اختطاف الأرملة الحسناء أن السير إدوارد قد قتله الهنود، فلم يعد أحد يسمع شيئًا من أخباره على الإطلاق.

وجعل، حينما تقلد هذا المنصب، يدرب جنود الرجاه عثمان على التقليد الأوروبي، ويخفف وطأة العوائد الهمجية، ويُمدِّن ذلك الشعب تباعًا.

ولم يكن من يعلم إلى الآن إذا كان هذا القائد الإنكليزي قد خان حكومته، أم أنه يمهد لها سبيلًا خفيًّا.

غير أن ظواهر سياسته كانت تدل على الخيانة، لا سيما وأن كثيرًا من الشعوب التي كانت خاضعة للإنكليز جنحت إلى العصيان، وجعلت تنضم إلى جنود الرجاه.

وكان عمر الماجور في ذلك العهد ٤٠ عامًا، وهو شديد البسالة، حارب الإنكليز مراتٍ باسم الرجاه ففاز عليهم، وأبلى فيهم حتى ألقى الرعب في قلوبهم.

وكان الماجور متنكرًا أشد التنكر لا يعرفه أحد إلا باسم تريبورينو ما خلا عثمان، وأرملة أخيه كولي نانا، فإنهما كانا وحدهما يعرفان حقيقة أمره وأصله.

وكان عثمان قد رُزق من زوجته غلامًا، أتَى ذكيَّ الفؤاد كوالده، فكان يُبشِّر بمستقبل حسن وعمره يومئذ ١٠ أعوام.

وفي ذلك العهد جاء إلى بلاط الرجاه رجل أوروبي فرنسي، وكان هذا الرجل روكامبول.

ويذكر القراء — فيما قرءوه من الروايات السابقة — أن روكامبول كان قد ذهب إلى الهند لتسليم علي رمجاه، زعيم الخناقين، إلى حكومة الهند.

فلما قضى هذه المهمة أصبح متحيرًا بين أن يعود إلى أوروبا وبين أن يبقى في الهند، يترقب الحوادث تحت سماء تلك البلاد المحرقة وعلى ضفاف الكنغ والفرات، واختار البقاء في بلاد طالما هاجت أسرارها عواطف قلبه، ودفَعتْهُ إلى دَرْسها.

فاستقبله الرجاه عثمان خير استقبال، وعينه قائدًا في جيشه، فقبل روكامبول هذا المنصب، وتولى مهامه منذ ذلك اليوم.

غير أنه لاحظ أن تريبورينو، أي السير إدوارد، لم يكن راضيًا عن هذا التعيين؛ لحذره من وجود مزاحم له في بلاد الأمير.

على أن الأمير كان يثق به ثقة لا حد لها، لكنه لم يعترض على تعيينه، بل كتم غيظه وأظهر الرضى.

أما روكامبول فإنه علم لأول مرة رآه أنه من الإنكليز، فنفر منه ووقع كرهه في قلبه وقال في نفسه: إن هذا الرجل قد خان الإنكليز وهو منهم، فلا بد له من خيانة الرجاه. في حين أن الأمير كان يغدق عليه إنعامه، ويطلق له مجال النفوذ بحيث لم يدع في سبيل إكرامه زيادة لمستزيد.

ولكن هذا الرجل كان كثير المطامع، شديد الميل إلى العلاء، فلم يُرضه أن يكون الوزير الأول، بل أراد أن يكون الحاكم المطلق.

وفي كل بلاط يوجد متآمرون، وأكثر ما يكون أولئك المتآمرون من أصحاب صاحب البلاط وأهله.

وكان للرجاه ابن أخ من كولي نانا، والعادة في أوروبا أن الولد يخلف أباه في الملك، وأما في الهند فالعادة أن الأخ يخلف أخاه في أكثر الإمارات.

وكان عمر ابن أخيه ٢٠ عامًا، فطمع بهذه الإمارة التي لم تبلغ إلى هذا الحد إلا بفضل عمه، غير أنه لم يكن له قوة ولا أعوان، ولم يجد حول عمه غير الأمناء المخلصين.

فكان يكتم قصده عن سائر الناس، فلم يدرك بغيته غير تريبورينو، فاتفق الاثنان سرًّا على خلع الأمير عثمان.

وكانت القوة العسكرية بإدارة تريبورينو، فمهد أسباب الثورة على الأمير، وكاد يفوز بقصده غير أن أسرارها انفضحت، فتنصل منها وألقى كل تبعاتها على ابن أخي الأمير، فأمر بإعدامه، ولم يخطر في باله أقل ريبة بوزيره تريبورينو، بل زاد به وثوقًا؛ لاعتقاده أنه هو الذي كشف أسرار الثورة.

ولم يطلع على حقيقة سر هذه المكيدة غير روكامبول، ولكنه رأى أن الأمير شديد الثقة بوزيره فلا يصدقه إذا أخبره بمكيدته، وفوق ذلك فقد كان تريبورينو كثير الدلال على مولاه، شديد النفوذ في بلاطه، فرأى أن الدخول معه في هذا المأزق محفوف بالخطر.

غير أنه عوَّل على مناوأته وتضحية نفسه في سبيل إنقاذ الأمير عثمان من مخالبه، غير مكترث بما سيلقاه من الصعاب، ويعترضه من الأخطار، فقد أوقف نفسه منذ تاب توبته الصادقة لصنع الخير، ومساعدة كل مظلوم؛ التماسًا لعفو الله عن ذنوبه الماضية.

وكان الأمير قد أعد له قصرًا يقيم فيه منذ ولَّاه منصب القيادة في الجيش، فبينما كان يومًا في منزله جاء ضابط من قبل تريبورينو يدعوه إلى زيارته في قصره على شواطئ الكنغ، فلم يمكنه إلا تلبية الدعوة، فامتطى جواده وسافر.

٨

كان الأمير تريبورينو بعد الأمير عثمان صاحب الكلمة النافذة في البلاد، وكان بيده قيادة الجيش العليا، ولما كان روكامبول من قواد الجيش فقد أصبح تحت إمرته، فلا بد له من الامتثال.

غير أنه كان واثقًا أن هذا الوزير يكرهه ويخافه، وأنه لم يدعه إليه إلا وقد نصب له فخًّا يغتاله به تخلُّصًا من كيده.

ومع ذلك لم يتردد لحظة في الخضوع، فامتطى جواده ولم يصحب معه غير نفر قليل من الفرسان والخدم، وسافر مع رسول الوزير إلى شاطئ الكنغ.

ولما توارت الشمس وصل إلى غابة كثيفة، مكتظة بالأشجار، واقعة على ضفاف النهر، فرأى كثيرًا من الفرسان وبعضهم على ظهور الفيلة، فاندهش لمرآهم، وزاد اندهاشه حين علم أنهم مرسلون من قبل تريبورينو لانتظاره.

وسأل الرسولَ عنهم فقال: إنهم فرسان الوزير الأكبر، وقد أرسلهم لاستقبالك دلالةً على أنه يُحبك ويريد تعظيمك في العيون.

فقال روكامبول في نفسه: بل ليقبضوا عليَّ فيزجني في أعماق سجونه.

غير أنه لم يكترث لجميع ما رآه، وتوكل على الله في أمره، وقد كان ذلك شأنه منذ توبته، فلم يعد يخشى خطرًا من الأخطار.

واستقبله الفرسان وساروا به يخفرونه إلى منزل الوزير الأكبر، وهو يتوقع في كل حين أن ينقضوا عليه وعلى رفاقه، فلم يفعلوا، بل كانوا يؤانسونه ويكرمونه حتى وصلوا به إلى منزل تريبورينو ودخلوا به إليه.

وكان هذا الوزير القائد الهائل مضطجعًا على حصير في قاعة، وحواليه فريق من العبيد بعضهم يحرقون البخور، وبعضهم يروحون بمراوح تخفيفًا لوطأة الحر، وفي وسط القاعة بركة مترعة بالمياه التماسًا للرطوبة.

فلما رأى الوزيرُ روكامبول نهض من مضجعه، وأسرع إليه فحياه على الطريقة الإفرنجية أجمل تحية، ثم أمر جميع من كان في القاعة بالخروج، فامتثلوا وبقي الاثنان منفردين.

ولما خلا بهما المكان ولم يبق أحد من الجنود، نظر إلى الوزير فرآه غير خطته فجأة، فجلس على كرسي بعد أن كان مضطجعًا على الحصير، وأشار لروكامبول بالجلوس، فجلس، ودار بينهما الحديث باللغة الفرنسية، فقال الوزير: إني أحببت أن أراك لوثوقي من إمكان اتفاقنا.

فنظر إليه روكامبول دون أن يجيب.

واستطرد تريبورينو حديثه فقال: إنك فرنسي أليس كذلك؟

– نعم.

– إن من طبع الفرنسيين كره المهاجرة، ومن يبعد ثلاثة آلاف مرحلة عن بلاده يكون من طلاب الصدفة، أي أولئك الذين يلتمسون الرزق والثروة بالدسائس والفتن.

ثم ابتسم ابتسام احتقار وقال: إني لا أبحث عن برهان عما أقول، فإن قدومك إلى بلاط الرجاه، وانتظامك في سلك جيشه أصدق برهان على قولي.

فقال روكامبول: هب أني من طلاب الصدفة وأهل الفتن.

فابتسم الوزير وقال: ومن أجل هذا وثقت أن اتفاقنا ممكن كما قلت لك.

– إني مصغ إليك؛ فأوضِح عما تريد.

– اعلم أن الرجاه عثمان أمير قادر بالظاهر.

فقال روكامبول: وأظن أنه قادر بالحقيقة أيضًا.

فتظاهر الوزير أنه لم يسمع كلامه وقال: إن كل أمير هندي تكون إنكلترا على أبوابه تصبح قوته هباءً منثورًا؛ لتعرُّضه للأخطار في كل يوم.

– ولكن الأمير يستطيع الدفاع دهرًا طويلًا بحمد الله.

– أتظن أنه يستطيع الثبات؟

– إلا إذا نكب بخيانة.

– إذن تظن أن خيانته ممكنة؟

– عجبًا، ألم يخونوه قبل الآن؟

وقد قال له روكامبول هذا القول وهو يحدق به، فرمى الوزير سيكارة كان يدخن بها، وقال بلهجة احتقار شديد: أتظن أيها الرجل أني دعوتك إليَّ كي أحدثك بجلاء؟ ألا تعلم أني عارف بما تفتكره بي؛ فإنك تعتقد أن يدي قد انغمست في مؤامرة ابن الرجاه السابق على عمه؟

– بل إني أعتقد أعظم من ذلك.

– ماذا تعتقد؟

– أعتقد أنك أنت الذي دبرت المؤامرة، ثم تنصلت منها حين خفوقها وألقيت تبعتها على ذلك المنكود فقتل شر قتل.

فقال له ببرود: لقد أصبت.

فنظر إليه روكامبول نظرة تشفُّ عن بأسه، وتدل على أنه لا يكترث لنفوذه، وقال له: والآن ماذا تريد مني؟

– أريد قبل كل شيء أن أقص عليك تاريخي.

– وأنا مُصغٍ إليك.

– إذن فاعلم أني لست هنديًّا ولا أدعى تريبورينو.

– أعرف ذلك وأعرف أنك من الإنكليز.

– كيف عرفت؟

– بل أعرف أنك تدعى الماجور إدوارد لنتون.

– أرى أنك عارف بأمري، ولكني أرجوك أن تفترض أمرًا.

– ما هو؟

– هو أني لا أزال أمينًا وفيًّا لإنكلترا.

– أنت؟

– نعم أنا، فإني في هذا المنصب منذ عشرة أعوام، ويعتقد الهنود أني هندي، ولكني مخلص للإنكليز.

– وأنت تحاربهم في كل يوم؟

– ذلك لأن الغاية تبرر الواسطة، وما ضرهم إذا حاربتُهم وأدركوا قصدَهم في النهاية.

– ليعذرني سيدي الوزير إذا كنت لا أفهم الألغاز.

– إذن أصغ إلي لأكشف لك سر هذه الألغاز: إن الرجاه نجد كوران كان أميرًا ضعيفًا يسهل على الإنكليز سحقه في كل حين.

– ألعلك من أجل ضعفه ساعدت أخاه عثمان فجعلته من كبار الأمراء الأشداء؟

– بل إني استخدمت عثمان وجعلته واسطتي في إضعاف جميع صغار الأمراء الخارجين على الإنكليز.

– وبعد ذلك؟

– وبعد ذلك أصبحت تلك الشعوب التي تحارب الإنكليز حرب مناوشات في قبضة يدي، أديرها كما أشاء، والآن فإن معركة واحدة منظمة يثيرها الإنكليز على الرجاه عثمان تمحق قوته وقوة جميع الأمراء الصغار الذين جمعهم تحت رايته منذ عشرة أعوام إلى الآن.

ثم سكت هنيهة وجعل ينظر إلي فقلت له: لقد أدركت قصدك وعلمت سياستك، ولكني لم أعلم بعدُ ماذا تريد مني.

– أصغ إلي فإني مخبرك بما أريد.

٩

وكان ثبات روكامبول وتجلده قد أثَّرَا على هذا الداهية، وعلم أنه لا يؤخذ بالخدعة والاحتيال، فعزم على مباحثته بجلاء فقال: إنك ترى بأني أحسنت التخلق بأخلاق الهنود، وبالغت في تقليد عاداتهم حتى لم يعد يخطر لأحد منهم أني قد أكون من الإنكليز.

ولكني على فرط ما ألقاه من الغبطة والنعيم، وعلى نفوذي الذي لا يضاهيني أحد فيه في هذه البلاد، فقد مللت شمسها المحرقة، وضجرت هذه العيشة الشرقية التي أتكلفها تكلفًا منذ ٢٠ عامًا.

فقال روكامبول: إذن لا تريد خيانة الرجاه إلا لضجرك من العيش في بلاده؟

– ربما كان هذا السبب، وفوق ذلك فإني إنكليزي، ويجب علي تسليم عثمان إلى إنكلترا، فإذا فعلتُ غير ذلك أكون قد خُنتُ أُمَّتي وخدعت بلادي.

– وما تمنحك إنكلترا مقابل هذا الوفاء؟

فابتسم وقال: هذه هي غاية الغايات؛ فإني شديد الطمع بالغنى.

– ولكن خزائنك غاصة بالذهب.

– وأي ضرر إذا زادت إنكلترا في ثروتي؟

– لا شيء من الضرر، ولكن الرجاه عثمان واسع الثروة وثروته بين يديك.

– من أطاق التماس شيء غلابًا واغتصابًا لم يلتمسه سؤالًا؛ فإني إذا سلمت الرجاه للإنكليز سلَّموني خزائنه، فأعود إلى أوروبا وأعيش في باريس أو في لندرا عيشة يحسدني عليها الملوك.

– لقد فهمت يا سيدي الوزير كل ما تقول، ولكني لم أعلم بعدُ لماذا دعوتي إليك.

– لأقترح عليك أن تكون معي.

– على مَن؟

– على الرجاه دون شك.

فهز روكامبول رأسه وقال: لقد دعوتني يا سيدي من طلاب الصدفة والحوادث، وأنا منهم، غير أني لست من الخائنين.

– إذن تأبى ما أقترحه عليك؟

– كل الإباء.

فلم يظهر شيء على الوزير من علائم الغضب والاستياء، بل نظر إلى روكامبول وقال له بملء السكينة: إنك تستطيع الآن أن تعود، ولكني لا أدعك تسافر قبل أن تقيم في ضيافتي، وتأكل من طعامي.

فقال روكامبول في نفسه: إنه يريد أن يقتلني بالسم دون شك.

ثم تركه وانصرف إلى منزل أُعدَّ لإقامته.

وأقام روكامبول في ضيافة تريبورينو ثلاثة أيام كان الوزير يعامله فيها خير معاملة.

وكانا يأكلان على مائدة واحدة، فكان الوزير يبدأ بالأكل من الصحن كأنه قد أدرك مخاوف روكامبول فأراد تطمينه.

فاطمأن روكامبول، ولكنه بقي مرتابًا في أمر الضباط الذين قدموا معه من العاصمة؛ فإنه لم يعلم شيئًا منهم، ولم يدر إذا كان قد قتلهم أو اكتفى بسجنهم؛ لأنه لم ير أحدًا منهم مدة إقامته عند الوزير.

وفي اليوم الثالث، دعاه تريبورينو فجامله خير مجاملة وقال له: لقد كان لكلامك خير تأثير في نفسي، فاستنار به فؤادي، ورجعت عمَّا كنت عازمًا عليه من خيانة الرجاه؛ فإنه من المحسنين إلي ولم أبلغ هذه النعمة إلا من فضله.

وكان يقول هذا القول بلهجة تشفُّ عن الصدق الأكيد، حتى أوشك روكامبول أن ينخدع به لو لم ير من اتقاد عينيه ما يُكذب هذه اللهجة.

أما تريبورينو فإنه لم يتكلف مراقبة روكامبول، فقال له: لا أرى حاجة إلى إخبار الرجاه بما كان بيني وبينك، فلا تزعجه بشيء من ذلك واعتمِد على وفائي.

فقال له روكامبول: وأنت فاعتمد على سكوتي؛ فإني لا أريد إلقاء النفرة بينكما ما زلتَ صادقًا في خدمة مولاك.

ولما خرج روكامبول من حضرة الوزير وجد عند بابه أولئك الضباط الذين صحبوه في سفره، ففرح بهم فرحًا شديدًا؛ إذ كان يعتقد أن الوزير قتلهم جميعًا.

غير أنه رأى أن واحدًا منهم كان مفقودًا، فسأل عنه، فأجابه أحد الضباط بلهجة تشفُّ عن الحزن: إنه ذهب أمس لصيد النمر فافترسته الوحوش الكاسرة.

وكان هذا الضابط الذي أخبروه بموته شابًّا هنديًّا يدعى موساني أخلص في خدمة روكامبول إخلاصًا عجيبًا، فحزن لوفاته أشد الحزن.

وكان تريبورينو قد خرج معه يشيعه إلى الباب الخارجي وهو يلاطفه ويجامله خير ملاطفة، فلما حان وقت السفر قال له الوزير: إن للهنود عادة في ضيافتهم قديمة لا تزال متبَعة إلى الآن؛ وهي أنه حين يزور عظيمٌ منهم عظيمًا مثله يقيم في ضيافته ثلاثة أيام، وعند السفر يحفظ جواده أو فيله تذكارًا، ويعطيه جوادًا أو فيلًا من عنده.

ولما كنت في عيون هؤلاء الناس من عظماء الهنود، فلا بد لي من اتباع هذه العادة حفظًا للتقاليد.

– إذن عزمتَ على أخذ جوادي؟

– نعم، ولكني سأعوضك عنه فيلًا من خير أفيالي. انظر إلى هذا الفيل الواقف بقربنا؛ فهو المعَدُّ لسفرك، وهو هدية مني إليك.

فنظر روكامبول ورأى فيلًا أبيض عظيم الجثة هائل الخلقة يندر وجوده في بلاد الهند، ورأى فوق ظهره برجًا من العاج مرصعًا بالحجارة الكريمة، فاستعظم الهدية، ورابه أمرها، ولكنه أثنى على الوزير ثناءً طيبًا. ثم ودعوه، وامتطى ظهر الفيل فسار عائدًا إلى الرجاه لا يصحبه غير الفرسان الذين جاءوا معه.

وبعد ذلك جعل روكامبول يفتكر في أمر الوزير، وكيف أنه أوقفه على أسرار خيانته الهائلة، ثم برحه آمنًا مطمئنًّا، فقال في نفسه: لا بد أن يكون أضمر الشر ودبَّر لي مكيدة هائلة، أو أنه أمر أتباعه أن يكمنوا لنا في الطريق فيقتلونا شر قتل؛ إذ لا يعقل أن تبلغ السلامة إلى هذا الحد من هذا الداهية، فيُرجعني إلى مولاه وأنا أحمل أسرار خيانته.

وظل روكامبول سائرًا مع رفاقه إلى أن وصل في مساء اليوم الأول إلى غابة كثيفة، فقال في نفسه: لا بد أن يكون الكمين في هذه الغابة، وأمر رجاله بالتأهب.

غير أنه أخطأ هذه المرة أيضًا؛ فإنه سار كل الليل دون أن يتعرض له أحد حتى أشرق الفجر وهو لا يزال سائرًا على فيله في الغابات.

وكان الفيل يسير بملء السكينة، ويخضع كل الخضوع لراكبه؛ فلا يسير إلا في الجهة التي يشير إليها روكامبول بقضيبه، ولكنه انتفض فجأة واهتزَّ اهتزازًا عنيفًا حتى كاد روكامبول يسقط عن ظهره، ثم رفع خرطومه وجعل يتنفس بعنف وجميع جسمه يرتجف، فظن روكامبول أنه شم رائحة نمر فأصابه هذا الاضطراب.

وكذلك رفاقه فقد حسبوا نفس الحساب، وجعلوا ينظرون منذهلين إلى اضطراب الفيل، ويتأهبون لمقاومة ما يعترضهم من الوحوش، غير أنهم ساروا مدة طويلة دون أن يروا أثرًا للوحوش.

أما الفيل فإنه ظل مندفعًا في سيره، ولكنه كان كلما تقدم خطوة يزيد اضطرابًا.

ودام على ذلك روكامبول يتوقع شرًّا قريبًا إلى أن خرج من وسط الغابة صوت غريب لم يدرك سره، ولكنه علم أنه صوت إنسان، فهاج الفيل عند سماع الصوت هياجًا شديدًا، وانطلق في تلك الغابات انطلاق السهم، فقتل بأرجله أحد رفاقه واستمر على عدوه لا يلوي على شيء.

وإن سرعة الفيل لا تقاس إليها سرعة الجياد، فكان يعدو بسرعة البرق يجتاز تلك الغابات المكتظة بالأشجار دون أن يلتطم بها، ويسير في طرق خاصة كأنه قد تعود اجتيازها من قبل.

فأدرك روكامبول الخطر، وحاول أن يثب عن ظهر الفيل مُؤْثِرًا أن تنكسر يده أو رجله على أن يتعرض لخطر القتل ببقائه على ظهر الفيل.

وكأنما الفيل قد أحس بقصده؛ فإنه مدَّ خرطومه إلى روكامبول ووضعه على كتفيه ضاغطًا عليهما في محله، ولم يعد يستطع حراكًا، واستمر يعدو عدوه السريع.

غير أن روكامبول لم تضعضع الحادثة صوابه، فالتفت إلى ورائه فلم يجد رفاقه، وعلم أنهم لم ينطلقوا في أثره، ولم يطاردوا الفيل؛ فأيقن أن تريبورينو قد اشتراهم بماله وضمهم إلى حزبه، فباتوا من أعوانه على الرجاه.

وقد صدق ظنه، فإن هؤلاء الخائنين لم يقتصروا على عدم مطاردة الفيل الثائر، بل إنهم تركوه وشأنه، وساروا في طريق آخر ضاحكين كأنهم كانوا يعلمون بمصير قائدهم.

وقد ذكر روكامبول وهو مقيد على ظهر الفيل بخرطومه الشديد أن الهنود يستفيدون من ذكاء هذا الحيوان الذكي؛ فيستخدمونه جلادًا لإنفاذ عقابهم فيمَن يريدون قتله.

وذلك أنهم يضعونه فوق ظهر فيل خاص مدرَّب، فيسير الفيل بالمحكوم عليه ويقيده بخرطومه بحيث لا يستطيع النزول عنه، ويظل سائرًا في طريق خاصة إلى أن يسمع مُروِّضه يناديه نداءً خاصًّا فيندفع بالسير، ولا يعلم أحد إلى أين يذهب بذلك الرجل المحكوم عليه بالقتل.

ولهذا النوع من الفيلة ذكاء وحكمة عجيبان؛ فإن الفيل الجلاد يسير بالمحكوم عليه إلى مكان خفي كأنه يبغي إخفاء الجريمة، وهو يسير به ساعات، بل أيامًا إلى أن يصل إلى المكان الذي يكون قد اختاره لإنفاذ العقاب، فينفذه على طرق شتى.

وذلك أنه إما أن يقبض عليه بخرطومه فيجلد به الأرض بعنف شديد فيتحطم، أو يلقيه على الأرض ثم يسحق صدره برجله الهائلة فيطحنه طحنًا، أو يأخذه بخرطومه فيقذفه بالهواء فيسقط على الصخور الناتئة، أو يضرب به غصن شجرة غليظ فيخترق جسمه، أو يخرق قلبه بأنيابه.

وفي كل حال، فإن من يركبه لا ينجو من الموت بإحدى هذه الطرق الهائلة.

وقد ذكر روكامبول هذه العادة فارتعش ولم يَشكُك أنه سائر إلى الموت، وأنه راكب ظهر فيل جلاد، ولا سيما حين سمع ذلك الصوت الإنساني الغريب الذي خرج من جوف الغابة؛ فأيقن أنه صوت المُروِّض، وأن تريبورينو قد خدعه شر خداع، وانتقم منه شر انتقام.

واستمر الفيل يعدو حتى اجتاز الغابة، وانتقل إلى سهل واسع كثير الأعشاب النامية، وفي بعض أماكن من هذا السهل الواسع آثار الحصاد وبعض المنازل.

فقال روكامبول في نفسه: لا يزال الوقت فسيحًا لدي؛ فإن هذا الفيل الذكي لا ينفذ عقابه بي في هذا المكان المأهول.

وكان تريبورينو قد توقَّع كل شيء، فحسب لكل شيء حسابه، ولكن فاته أن يجرد روكامبول من سلاحه؛ إذ كان يعلم أن رصاص المسدس لا يقتل الأفيال الضخمة على الفور.

غير أن روكامبول قد أحضر معه من أوروبا مسدسًا من طراز جديد يحشى برصاص دمدم، الذي إذا أطلق ونفذ في الجسم انفجر فيه ومزَّقه شر ممزق.

أما الرصاصة العادية فإنها تنفذ إلى جسم الفيل، ولكنها لا تقتله على الفور، أو قد لا تصيب منه مقتلًا، خلافًا للرصاصة المنفجرة؛ فإنها أين وقعت في جسمه انفجرت ومزقته شظاياها، وهي أفضل من الرصاصة ذات الرأس الفولاذية المحددة التي يستعملونها في قنص الأسود والنمور والتماسيح.

وكان الفيل الجلاد قد ضغط عليه وقيده بخرطومه كما تقدم، ولكن بقيت يده اليمنى مطلقة السراح لم يصل إليها خرطوم الفيل، فمدَّها روكامبول إلى جيبه وأخرج منها ذلك المسدس.

ثم قال في نفسه: إني إذا تمكنت من قتل الفيل على الفور فقد نجوت من الموت، وإلا انتقم مني إثر الانفجار وداسني برجليه فطحنني طحنًا.

ولم يمر على روكامبول ساعة خطَرٍ كهذه الساعة على فرط ما لقيه في حياته من أخطار الموت.

ولكنه لم يضع رشده وصوب مسدسه بملء السكينة إلى عنق ذلك الفيل الضخم.

١٠

ولم تكن إصابة المرمى من الأمور السهلة الميسورة؛ وذلك لأن جلد الفيل شديد الغلظة، وفوق ذلك فهو كثير التجعد يشبه حلقات بعضها فوق بعض، بل يشبه قشورًا تتجعد وتتلوى شبه رمال الصحاري إذا نسفتها الرياح.

ولذلك فقد وجب على روكامبول أن يختار حينًا يمتد فيه ذلك الجلد، وتنبسط تلك التجعدات كي تجد الرصاصة منفذًا أمينًا إلى الجسم، فتنفجر فيه ويحدث ما كان يرجوه من الموت المعجل.

فجعل يترقب الفرصة وهو مصوب مسدسه إلى جهة الشمال؛ كي تنفجر رصاصته في جهة القلب.

وكان الفيل يسير فوق العشب بخفة النمر، وفي هذا السهل كثير من الهوات كان يثب من فوقها وُثوب الخيل المدربة على الصيد.

وفيما هو يتأهب للوثوب من فوق هوة كبيرة انبسط جلد عنقه وانتثرت طياته، فانتهز روكامبول هذه الفرصة وأطلق النار.

وعند ذلك اهتز الفيل اهتزازًا عنيفًا هائلًا تقطعت له حلقات البرج، فقذفه هذا الاهتزاز إلى خارج الحفرة وفيه روكامبول، أما الفيل فإنه سقط في الهوة.

وذلك أن الرصاصة نفذت إلى جهة القلب وانفجرت فقتلته على الفور، ونجا روكامبول من الموت.

أما روكامبول فإنه نهض بعد سقوطه وقد رضَّ جسمه خرطوم الفيل وذلك السقوط، ولبث هنيهة مُضعضع العقل.

ثم ثاب إليه رشده، فبحث عن مسدسه ووجده ملقًى على الأرض أمامه وقد سقط من يده لهول سقوطه عن الفيل، فوضعه في جيبه، وجعل ينظر إلى ما حواليه ليفحص المكان الذي كان فيه.

فوجد نفسه في سهل عظيم لا تبلغ العين نهايته، ورأى تلك الغابات الكثيفة التي اجتازها الفيل بعيدة جدًّا عنه، فقال في نفسه: لا بد لي للاهتداء إلى شواطئ الكنغ أن أعود أدراجي، وأجتاز تلك الغابات، وأعرض نفسي لأخطار لا حد لها، ولكنه رأى أنه لا يسعه إلا اتِّباع هذه الخطة؛ إذ لا يعرف غير هذا الطريق، فعاد يمشي في تلك السهول إلى الغابات ملتمسًا ضفاف النهر.

ومشى ساعة فوق عشب السهول متبعًا آثار الفيل إلى أن وصل إلى نبع ماء، وكانت قواه قد وهت، فجلس فوق العشب ليستريح ويروي ظمأه من ماء ذلك النبع.

ثم استلقى على تلك الأعشاب — ومن المعروف أن من وضع أذنه على الأرض تبلغ الأصوات إلى مسمعه أكثر من بلوغها إليه إذا كانت الأذن معرضة للهواء — فسمع روكامبول وهو على هذه الحالة صوت عَدْوٍ سريع أيقن أنه عَدْوُ فيل، فاضطرب وقال في نفسه: ألعل تريبورينو أرسل في أثري رسولًا يعود إليه بحقيقة أمري، ويبشره بتنفيذ العقاب بي؟

وقد ترجح لديه هذا الظن، فلم يغتمَّ له، ورجا أن يبعث بهذا الرسول فيأخذ فيله بالقوة أو بالحيلة، ويعود عليه إلى الرجاه؛ ولذلك أخذ مسدسه ووقف موقف المتأهب.

وكان صوت عَدْوِ الفيل يدنو منه، وبعد حين رأى الفيل قادمًا إلى جهته، فاضطرب فؤاده وتأهب لمناداة راكبه، ولكنه ما أوشك أن يدنو منه ويرى ذلك الراكب حتى اهتز اهتزاز النشوان من السرور، وصاح صيحة فرح.

ذلك أنه رأى راكب الفيل وعلم أنه خادمه الهندي الأمين موساني الذي أشاع عنه تريبورينو أنه خرج لصيد النمر فافترسته الوحوش.

وكان الفيل لا يزال على مسافة ٤٠ مترًا منه، فجعل ينادي بأعلى صوته ويشير إليه بيديه.

فأسرع موساني إليه، ولما رآه صاح مثله صيحة فرح، فأوقف الفيل وقال له: إن هذا الفيل يعدو بي منذ ثلاثين ساعة باحثًا عنك وما كنت أطمع بلقائك حيًّا.

فعجب روكامبول لإفلاته ونجاته وقال له: كيف تمكنت من البحث عني؟

– إني كنت أسيرًا عند الوزير، فتمكنت من النجاة، وعلمت أنهم دفعوك إلى الفيل الجلاد، فكيف نجوت منه؟

– إني قتلته.

فنظر إليه ببلاهة وقال: كيف يمكن أن يكون ذلك؟ لأن الرجل لا يستطيع قتل فيل.

– سأخبرك فيما بعدُ كيف قتلته؛ فقُصَّ علي أنت ما جرى لك، ومن أين أتيت؟

– من سجن تريبورينو.

– ألم تذهب لصيد النمر؟

– كلا.

– إذن ماذا حدث لك؟

– حدث لي أنه منذ وصولنا إلى بلاط الوزير حاولوا أن يتخذوني من حزبهم؛ لأنهم كانوا يعرفون شدة إخلاصي لك.

ولما رأوا إصراري على الوفاء حبسوني بأمر الوزير؛ لأنه أبى قتلي بشفاعة جارية عنده كانت تحبني حبًّا شديدًا، وهي التي أطلقت سراحي، فإنها لما علمت أنهم دفعوك إلى الفيل الجلاد فتحت لي باب السجن، وأخبرتني بأمرك وبأمر الفيل وقالت لي: ابحث عن طريقة تنقذ بها سيدك.

وأخبرتني أيضًا أن جميع رفاقك الضباط خانوا الرجاه وانضموا إلى الوزير، فانقطع رجائي منهم.

على أني علمت أن الفيل الجلاد أُنثى، فبقي لي شيء من الرجاء بإنقاذك.

ولهذه الجارية نفوذ عند الوزير، فأعطتني خاتمًا من الذهب وأرسلتني به إلى منزل أحد كبار الضباط.

فلما انتهيت إليه أظهرت له ذلك الخاتم، فعلم أني آتٍ من عند الجارية وقال لي: قل ماذا تريد؟

– أريد فيلًا وما يحتاج إليه من عدة.

فنادى أحد أتباعه وأمره بإعداد ما طلبت.

وبعد هنيهة رأيت الفيل واقفًا عند الباب، فامتطيته وسرت في أثرك أسابق الريح.

وللفيل حاستان قويتان فيه؛ وهما: حاستا السمع والشم، فما سار بي ساعة حتى علمت من اضطرابه أنه أدرك أثر الفيل الجلاد، وأنه يسير في نفس الطريق التي كنتَ تسير فيها.

واشتد عندي الرجاء بإنقاذك، وسار بي ذلك الفيل ينهب الأرض نهبًا، وقد رأيت الآن أن فيلي لم يخطئ، ولكن أين تركتَ فيلك الذي قتلته كما تقول؟

فأخبره عند ذلك روكامبول بجميع ما جرى له، وأراد أن يبرهن له عن فعل رصاصة مسدسه، فأخذه وأطلق رصاصة منه على شجرة، فدخلت في جذعها حتى تفجرت وسقطت الشجرة قطعًا متفرقة كأنما قد انفرجت تحت الألغام.

وبعد ذلك ركب روكامبول الفيل مع موساني وسار بهما.

لكنهما لم يعودا إلى الكنغ كما كان يحاول روكامبول قبل أن يلتقي بخادمه، بل سار بهما في طريق الجبال الكائنة وراءها عاصمة عثمان.

وبعد مسير بضع ساعات وجدَا منزلًا فوقفَا عنده، وقد عضهما الجوع بنابه، فأكلا فيه ما تيسر، وأسرعا إلى مواصلة السفر كي يخرجا من دائرة نفوذ تريبورينو العسكرية؛ إذ كانا معرضين لإعادة القبض عليهما.

واستأنفا السير حتى إذا أمِنَا اعتداء الوزير جعلا يتحدثان، فقال موساني: إن هذا الوزير المنافق عامل على خيانة الرجاه عثمان.

فقال روكامبول: لقد عرفت هذه الخيانة.

– إنه ضم إليه جميع قواد الحصون حتى إذا جاء الإنكليز فتحوا لهم أبوابها فدخلوها آمنين.

– لكن لحسن الحظ لا يزال الوقت فسيحًا لدينا، فسنخبر الأمير بأسرار هذه الخيانة.

فهز موساني رأسه وقال: كلا، لقد فات الأوان.

– لماذا؟

– لأن هذا الوزير عامل على خيانة مولاه منذ عهد بعيد، وقد أصبح نصف الجيش من حزبه لا يخالفونه فيما يريد.

– وماذا يفيده ذلك إذا بقي النصف الآخر مواليًا للأمير عثمان؟

فقال موساني بلهجة الارتياب: لكن أتظن أن الرجاه يصدق ما نقوله عن خيانة وزيره؟

– دون شك متى شفعت أقوالي بالبراهين.

– إنك مخطئ يا سيدي؛ لأن الرجاه يحب تريبورينو حبًّا عظيمًا وأنا أعلم السبب.

– ما هو السبب؟

– إني عرفته من جارية الوزير، فإنه مولع بها وهي واقفة على معظم أسراره، وقد أطلعتني عليها، ومما قالته لي عن سبب حب عثمان للوزير: أن الوزير أنقذ كولي نانا من اللهب، وكان الأمير عثمان يهواها، فتمكن حبها من قلبه.

وأما الوزير فإنه يكره الأمير كرهًا شديدًا يعادل ذلك الحب؛ لأنه غيور منه.

– على من؟

– إن كولي نانا زوجة الأمير عثمان باتت شبيهة بالعجائز؛ لأنها بلغت السادسة والعشرين من عمرها، وهو سن الكهولة في الهند.

لكنه على حبه إياها وإكرامه لها قد تزوج بفتاة تبلغ ١٤ من عمرها لم تر العيون أبدع منها، وهي تدعى دابي كوما.

– أهي التي يحبها الوزير؟

– إنه يحبها حبًّا لا حد له، وهو لا يريد خيانة عثمان وتدمير بلاده على فرط إحسانه إليه إلا طمعًا بسلبه هذه المرأة.

ونعم إن الإنكليز قد وعدوه بالأموال الطائلة إذا سلمهم الأمير عثمان وولي عهده، لكن الذي دفعه إلى الخيانة ذلك الغرام لا المال.

– لكن كيف تمكنت الجارية من معرفة أسرار الوزير؟

– لأنه كان يهواها من قبل وكانت تهواه، فكان يطلعها على أسراره في ساعات سكره وغفلات غرامه، وما زالت موالية له إلى أن علمت بحبه لامرأة عثمان، فلدغتها عقرب الغيرة، وهي ساعية الآن كل جهدها في سبيل الانتقام منه لنكثه بعهوده.

وقد قالت حين أطلقت سراحي: اذهب واجتهد في إنقاذ سيدك قبل أن يقتله الفيل الجلاد، فإذا لم تستطع إنقاذه اذهب إلى الأمير عثمان وانطرح عند قدميه وقل له: إن تريبورينو من الخائنين.

فلما أتم موساني حديثه رأى روكامبول أنه سيستفيد من حديث غرام الوزير بامرأة الأمير لإقناع الرجاه على خيانة وزيره، فإن هذا الغرام سيؤثر عليه أعظم تأثير.

واستأنف الاثنان السير كل تلك الليلة وقسمًا من اليوم الثاني.

حتى إذا توسطت الشمس في كبد السماء، ونجت الأرض من هجيرها المحرق، برزت لهما مدينة بيضاء مستظلة بظل جبل شاهق يقيها شر الحر، وغابة كثيفة تحيط بها عند سفح الجبل.

وكانت هذه المدينة البيضاء، المدينة المقدسة كما يدعوها أهل تلك الجبال، وقد اختارها الرجاه عاصمة له؛ تبركًا بها وإرضاءً لأهل الجبال.

لكن الرجاه لم يكن في حاجة إلى براهين روكامبول لإثبات خيانة وزيره كما سيتضح من الفصول التالية.

١١

إن عاصمة الرجاه كانت تدعى نارفور، وهي محصنة أعظم تحصين؛ إذ كان يحيط بها ثلاثة أسوار بعضها وراء بعض.

وهي مبنية في سفح جبل شاهق، يحيط بها نطاق من البراري يمتد إلى سهول الهند الخصيبة، وفي وسطها غابة باسقة الأشجار تقيها حر الشمس.

فإذا اجتاز القادم إليها السور الثالث يجد بيوتًا بيضاء سميت المدينة باسمها، وفي كل شارع من شوارعها نبعٌ يتدفق منه الماء فيترطب به الهواء.

وهناك حدائق غناء لا يخلو منها بيت تدلت أثمارها، وزكت أزهارها، فكانت جنة للناظرين.

وفي وسط المدينة سراي الأمير، وهي قصر ضخم محصن كأنه مدينة ضمن مدينة، وكان محصنًا أقوى تحصين، وهو عظيم الاتساع بحيث لو تمكن العدو من اجتياز الأسوار الثلاثة، يستطيع أهل المدينة بجملتهم أن يقيموا في هذا القصر، ويحاصروا ما بقيت لهم ذخيرة تمكنهم من الدفاع.

وقد حدث مثل ذلك في تاريخ هذه المدينة منذ قرن؛ فإن الملك أدو حاصر نارفور عدة أشهر، فخرق الأسوار الثلاثة واحدًا تلو الآخر، فالتجأ أهل المدينة إلى السراي، أي إلى الحصن، ودافعوا فيه زمنًا طويلًا، حتى ملَّ ملك أدو محاصرتهم، واضطر إلى الرجوع عنهم بالخيبة والخذلان.

وهذه السراي التي كان يقيم فيها الأمير عثمان كان فيها شوارع وحدائق ومحلات عمومية.

ولكن لم يكن يستطيع الدخول إليها إلا من كان معروفًا أنه في خدمة الأمير ومن رجاله الحربيين، فلو أراد هندي من العوام الدخول إليها قُبض عليه أو طُرد.

وكان في وسط هذه السراي بناية مربعة لا نوافذ فيها تصل إليها أشعة الشمس من السقف، وهي دار الحريم، وعلى بابها حارسان من الخصيان يحرسانها في الليل والنهار.

وكان من عادات حرم الأمير أن لامرأته الشرعية وحدها الحق بالخروج من السراي وإظهار وجهها للعموم، وأما الجواري وسائر النساء فكان يحق لهن الخروج إلى الحمام والمنتزهات، لكنهن لا يخرجن إلا مبرقعات، ولا يحق لأحد الدنو منهن.

وكانت دار الحريم في محل فسيح، وبالقرب منها خمارة يختلف إليها جنود حرس الأمير الخاص، فيشربون ويتنادمون ويبثون ما في أفئدتهم من لواعج الغرام.

ففي ذات ليلة، قبل وصول روكامبول إلى نارفور بيومين، كان جنديان جالسين على مقعد عند باب الخمارة يتحدثان بصوت خفيض.

وكان أحدهما هنديًّا بحتًا لا غش فيه، والآخر عبدًا أسود، وقد دار بينهما الحديث الآتي:

قال الهندي لرفيقه: أتعتقد أيها الصديق بفردوس الإله وشنو؟

فأجابه الأسود بملء البساطة: لا أعلم.

– لكن يجب أن يحسن اعتقادك بهذا الفردوس.

– لماذا؟

– لأنه موجود، ومَن يدخل إليه يجد لذَّاتٍ لا حد لها، ونعيمًا خالدًا لا يحيط به وصف.

فاسترخت شفة العبد، وظهرت أسنانه البيضاء وبدت عليه علائم البِشْر.

فقال له الهندي: أرأيت زوجة الأمير الأخيرة؟

– الحسناء؟

– نعم.

– كيف أستطيع أن أراها؟ إن الرجاه لا يأذن لها بالخروج سافرة الوجه حتى في ظلام الليل.

– لكن الخصي رومافلي يقول إنها أجمل ملكات الهند.

– لقد أصاب هذا الخصي؛ لأن نور جمالها يكسف كل شمس.

– كيف عرفت ذلك؟

– لأني رأيتها.

– أنت رأيتها؟

– نعم، لقد رأيتها سافرة الوجه؛ فعلمت أنها خلقت كما اشتهت.

– اعلم إذن أن الإله وشنو له في فردوسه آلاف النساء أجمل من هذه المرأة، وهو يزفهن لمن يدخل الفردوس.

فاتقدت عينا العبد وقال: كيف السبيل إلى بلوغ هذا الفردوس؟

– يجب على من يريد الدخول إليه أن يخاطر بحياته من أجل رجل يحبه الإله وشنو؛ فإذا مات في سبيل المخاطرة ذهب توًّا إلى الفردوس، وإذا سلم من الموت فإن الإله وشنو يحميه إلى آخر ساعة من حياته إلى أن يموت الموت الطبيعي.

– وبعد ذلك؟

– وبعد ذلك تفارق نفسه الجسد فيفتح الإله أبواب فردوسه ويأتي لمقابلة تلك النفس مع نسائه الحسان، وكل واحدة منهن خير من ألف امرأة من ملكات الهند ونساء الرجاه.

فصمت العبد هنيهة وأطرق مفكرًا ثم قال: من هذا الشخص الذي أحبه الإله وشنو؟

– هو تريبورينو الأكبر.

– أحقًّا ما تقول؟

– دون شك؛ فإن من يموت في سبيل تريبورينو يذهب توًّا إلى فردوس وشنو، فتدخل نفسه في جسم فتًى جميل أبيض كالحليب.

– كيف يمكن ذلك وأنا أسود؟

– إنهم يعطون نفسك جسمًا أبيض أنقى من العاج.

ففكر العبد أيضًا ثم قال: حسنًا، سأموت في سبيل تريبورينو، ولكن أتؤكد لي أن هذا الفردوس موجود حقيقةً؟

– إني لو لم أكن واثقًا كل الثقة من هذا النعيم لما خدمت تريبورينو، ولما خاطرت بحياتي في سبيله، ثم ألا تعلم أن هذا الوزير أنفذ سلطانًا وأعظم بأسًا من الأمير؛ فإن ما يريده الوزير لا بد أن يكون.

– وماذا يريد الوزير؟

– إنه يهوى امرأة ويريد الحصول عليها.

– لكنه كثير المال، وافر الكنوز؛ فلماذا لا يشتريها؟

– لأنها ليست من النساء التي تُباع، فهي امرأة الرجاه الأخيرة الحسناء التي يدعونها مورتار.

فانذهل العبد انذهالًا عظيمًا من هذا السر الهائل الذي ائتمنه عليه حتى وقع الكأس من يده، وجعل ينظر إلى الهندي بملء الذهول.

فقال له الهندي: إن تريبورينو قد أقسم بإلهه أن ينال امرأة الرجاه، ولا بد أن ينالها.

– لكن أسوار سراي الحريم عالية، وأبوابها من الحديد.

– ورغم ذلك سيفتحونها.

– من الذي يفتحها؟

– أصغ إلي أيها الصديق، لقد تماديت معك في القول حتى لم يعد بُدٌّ لي معك من واحد من أمرين؛ وهما: إما أن أقتلك فأكون آمنًا على أسراري، أو تقسم لي على كتمان ما قلته وما سأقوله لك؛ فيرضى عنك الإله وشنو وتدخل إلى جناته.

ثم جرد خنجره من غمده وأنذر به العبد.

أما العبد فإنه لم يخَفْ من الخنجر خوفه من حرمانه الجنان، فقال له: إني أقسم لك بحظي من ذلك الفردوس بأني أكتم كل ما تلقيه إليَّ، وأكون في خدمة الوزير أطوع من البنان، فقل ما تريد.

– لقد صدقتك ووثقت بوفائك. اعلم الآن أن الإله وشنو يحب تريبورينو حبًّا شديدًا حتى إنه أوحى الإخلاص إلى قلوب كل الذين يخدمون هذا الوزير، فيأتون يضحون في خدمته تضحيات أهون منها الموت.

– ألا تذكر لي شيئًا من هذه الخدمات؟

– نعم، سأروي لك حكاية تكون خير مثال لإخلاص أتباع هذا الوزير، وهي أنه كان للوزير عبد يدعى كوجلي، وهو أسود مثلك غير أنه من الأقاليم الغربية، أي أن سواده مشرب بالحمرة، وهو من أولئك العبيد الحسان الذين طالما هامت بهم الجواري، وقضين بهم حبًّا.

وإن في كلكوتا راقصة حسناء — تدعى ممونا — هامت بهذا العبد وهام بها، فتوافقا على الزواج ورضي به تريبورينو، فسُرَّ العبد سرورًا لا يوصف لفوزه بمن يحب.

وبعد حين، نادى الوزير هذا العبد الولهان وقال له: إني أحب امرأة الرجاه، وأعتمد عليك بالدخول إلى دار نسائه.

أتعلم ماذا فعل هذا العبد الوفي؟

إنه امتثل لمولاه، وترك عروسه، وتنازل عن الرجولية في الحال؛ إذ لا يدخل دار نساء الأمير غير الخصيان.

– إني لا أفهم ما تقول.

– ألا ترى هذا الخصي الأسود الجديد الذي يخرج أحيانًا من دار الحريم فيجالسنا في الخمارة؟

– نعم.

– هذا هو كوجلي الذي رضي أن يكون خصيًّا على فرط عشقه لعروسه؛ لاستماتته في خدمة الوزير، فهل رأيت أصدق من هذا الإخلاص؟ إن هذا مثالًا من ألوف مثله على ما يلاقيه الوزير من وفاء أتباعه، ولا يتيسر ذلك إلا لمن تعضده الآلهة.

فقال له العبد: لقد فهمت، وأرجو أن يوحي إلي الإله وشنو مثله هذا الإخلاص، ولكني أرى أن وجود كوجلي في دار حريم الأمير لا يكفي لاختطافها.

– إنك تقول الحقيقة؛ لأن كوجلي وحده لا يستطيع اختطافها، لأن الخصيان يستطيعون الخروج من دار الحريم، ولكنهم لا يستطيعون الخروج من القلعة، ولا يحق للنساء أن يخرجن منها أيضًا إلا بصحبة أزواجهن.

– إنك تثبت اعتراضي فيما تقول.

– نعم، ولكن كوجلي سيخرج غدًا من دار الحريم ومعه زوجة الرجاه فيسلمها لنا.

– لنا نحن؟

– نعم، لي ولك، وعلينا عند ذلك أن نخرجها من الحصن، فإذا فُزْنا بما نسعى إليه نصبح من كبار الأغنياء بفضل تريبورينو.

– وإذا باغتنا الحرس وقبضوا علينا؟

– يقطع الرجاه رأسينا، ولكن روحينا تطيران إلى فردوس الإله وشنو.

وكأنما جميع هذه البراهين لم تقنع العبد فقال له: تقول إن كوجلي يخرج بزوجة الرجاه من دار الحريم ويدفعها إلينا، فهل ترضى زوجة الرجاه أن يختطفها؟

– دون شك.

– لماذا؟

– لأنها حين باعها أبوها للرجاه بعشرة آلاف كيس كانت عاشقة فتًى هنديًّا جميلًا من بناريس، وقد تحالفا على الوفاء.

وكان تريبورينو عارفًا بجميع ذلك، فعلم كوجلي ماذا يفعل؛ ولذلك فإن كوجلي سيقول لزوجة الرجاه إنه قادم من قِبَل عشيقها لاختطافها، وهي ستوافقه دون شك على الفرار.

– ونحن ماذا نفعل؟

– نخدعها بنفس الحيلة ونقول لها إننا رسولَا عاشقها.

فبقي العبد مترددًا وقال له: أتظن أننا نستطيع الخروج من الحصن؟

– نعم.

– كيف؟

– ذلك أن زوجة الرجاه تخرج من دار الحريم مبرقعة، وفوق ذلك فإن كوجلي يصبغ جسمها بلون السواد. أليس لك زوجة سوداء؟

– نعم.

– إذن تأخذ زوجة الرجاه بيدها، وتصل بها إلى باب الحصن فتكشف شيئًا من النقاب عن وجهها وتقول: إنها امرأتي، فيأذن لك الحارس بالخروج بها، فتخرجا حالًا.

– أتظن أنه يأذن لي؟

– دون شك؛ لأن هذا الحارس سيكون الذي يحادثك الآن، أي أنا.

– إذا كان ذلك فإن الأمر سهل، ولكن ماذا أصنع بها بعد الخروج من الحصن؟

– تذهب بها إلى خمارة اللؤلؤة الزرقاء، وهناك تجد مركبة وخفراء أرسلهم تريبورينو فتقول للمرأة: إن هذه المركبة وهؤلاء الخفراء أرسلهم عشيقك. والآن، هل عزمت عزمًا أكيدًا صادقًا على خدمة الوزير؟

– نعم إذا كنت تُقسم لي إن فردوس وشنو كائن حقيقةً.

– إني أقسم لك بكل عزيز في الأرض ومقدس في السماء على صدق ما أقول.

– وأنا أقسم لك بفردوس وشنو أني سأكون من أخلص المخلصين في خدمة الوزير.

وعند ذلك فُتح باب دار الحريم وخرج منه الخصيان.

١٢

كان الهندي صادقًا في تلك التفاصيل التي رواها للعبد؛ فإن امرأة الرجاه الجديدة، وهي دابي كوما، لم تجف لها دمعة منذ دخولها إلى بلاط الرجاه.

وكانت تحب فتًى جميلًا نبيلًا من بناريس عاهدها وعاهدته على الزواج برضى عائلتيهما اللتين احتفلتا بعقد الخطبة، فسُرَّ سكان المدينة بجملتهم لفرط جمال الخطيبين.

غير أن سلطان المال نافذ في الشرق نفوذه في الغرب، وهو يفعل في كلكوتا كما يفعل في باريس.

وقد اتفق يوم عقد الخطبة وجود ضابط من ضباط الرجاه عثمان في بناريس، فحضر الخطبة وأكرمه والد الخطيبة إكرامًا عظيمًا، فخرج الضابط مفتونًا بجمال الصبية.

ولما عاد إلى نارفور أخبر مولاه الرجاه بما رأى، ووصف له الفتاة وصفًا أخذ بمجامع قلبه، فأمر الأميرُ عثمان أن يعود إلى بناريس ويشتري الفتاة من أبيها بما يريده من المال.

وجزعت الفتاة جزعًا شديدًا، وتوسلت إلى أبيها بالدموع السخينة؛ فلم يفدها الدمع ولم تغنها الشفاعة، فباعها للأمير بعشرين لك روبية، واللك في اصطلاح الهنود والأعجام مائة ألف، والروبية فرنكان ونصف، فيكون قد باعها بخمسة ملايين فرنك.

وأخذها الضابط وجاء بها إلى مولاه، ولكنه قبل وصوله إلى نارفور مر بالمدينة التي يقيم فيها تريبورينو، فرأى امرأة الأمير وفتن بها، فلم يهدأ له بال من تلك الساعة، وكان قد عرف أمرها فزاد انشغافًا بها، وهاجت كوامن عشقه وحقده على الأمير عثمان بما غرس في نفسه من بذور الحسد والمبادئ السافلة، ولكنه لم يُظهر للفتاة شيئًا من هذا الغرام والهيام حذرًا من أن يتصل أمره بالأمير عثمان.

وسار بها الضابط إلى بلاط الأمير فرآها فوق ما وُصفت له، ولكنه لم يلق منها غير النفور، ولم تقابله بغير البكاء، فهاجت كوامن عشقه وتمكن حبها من قلبه، ولكنه كان واسع الصدر، كثير الصبر، فكان يقابل صدها باللين والملاطفة وهو يرجو أن تألفه يومًا وتعلم أنه أهل لحبها.

ومضى على الفتاة شهر وهي لا تنقطع عن البكاء إلى أن دخل إلى السراي خصي جديد يدعى كوجلي، فتعين في الحال لخدمة دابي كوما.

وقد عرف القراء هذا الخصي أنه خادم الوزير الأمين، فجعل من يوم دخوله يدبِّر وسائل اختطاف الفتاة، ويمهد السُّبل للذهاب بها إلى سيده الخائن.

وكان أول عمله اختلاطه بجنود الحرس الخاص، واهتمامه بإغوائهم بطرق مختلفة، فلم يفلح إلا مع ذلك الهندي، ولكن أغوى العبد كما تقدم؛ فيكون أغوى اثنين لاختطاف الفتاة.

ولقد قلنا إن كوجلي خرج من دار الحريم وأقبل إلى حيث كان الهندي والعبد، فلما رآه الهندي غمزه بعينه، فدنا منه كوجلي وقال له: أتريد أن تحادثني بشيء؟

– نعم.

فنظر كوجلي إلى العبد المقيم مع الهندي وقال له: من هذا؟

– إنه رجل يريد الصعود إلى فردوس الإله وشنو.

فنظر إليه كوجلي وقال: أحق ما يقول؟

– نعم. وقد اتقدت عيناه بشعاع الرجاء، فأيقن كوجلي أنه مخلص في تعهده، وأنه سيضحي حياته في سبيل الوزير.

وأقام مع الاثنين نحو ساعة، فشربوا الشاي واتفقوا على ما سيصنعونه في الليلة القادمة لاختطاف الفتاة.

ثم تركهما كوجلي وعاد إلى دار الحريم فأقام فيها ينتظر هبوط الليل.

وكان الرجاه عثمان قد زهد في جميع نسائه لافتتانه بهذه الفتاة، فجاء إليها وجعل يلاطفها ويؤانسها، ولكنه لم يلق منها غير الصد والبكاء كما عودته منذ اشتراها.

فعزَّاها وخفف كربتها بالكلام اللين والوعود الجميلة، ولكن أين للعشاق أن تشغلهم الوعود والأماني عما يكونون فيه من وَجْد ولوعة.

وبعد أن خرج الأمير من عندها دخل إليها كوجلي وهي لا تزال دامعة العين فقال لها: ما بك يا لؤلؤة الشرق تبكين؟

– لأن أبي باعني بيع السلع وما أنا من الرقيق.

– لقد أصبت يا سيدتي، ولكن لكل ضيق فرجًا، وقد يمكن إنقاذ الأسرى.

فهزت رأسها وقالت: وا أسفاه، إني أصبحت ملكًا للرجاه، ولا بد لي يومًا للامتثال مكرهة.

فنظر إليها الخصي محدقًا وقال: كيف ذلك، أتنقضين يمينك وتنكثين بعهودك؟

فاهتزت الفتاة اهتزاز الورقة حرَّكَتْها الرياح وقالت: كيف علمت أني أقسمت يمينًا وتقيدت بعهود؟

– ألم تقسمي يمين الوفاء لخطيبك رمسيس في بناريس قبل أن تفترقا؟

فأبرقت عينا الفتاة، وخرج البريق من خلال دموعها كما تنفذ أشعة الشمس من خلال المطر ثم قالت: ألعلك تعرف رمسيس؟

– بل أقول خيرًا من ذلك؛ وهو أن رمسيس أرسلني إليك.

فصاحت الفتاة صيحة فرح حاولت كتمانها فخرجت من صدرها كالزفير.

ومضى كوجلي في حديثه فقال: انظري إليَّ يا سيدتي؛ فإني كنت قبل ثمانية أيام رجلًا، فرضيت أن أغدو من الخصيان كي أصل إليك؛ لأني من خدام رمسيس.

– وهو أرسلك إلي؟

– نعم، وإذا رضيت أن تتبعيني تصبحين حرة، وتفلتين من قبضة الأمير بعد بضع ساعات.

– أنا أصبح حرة؟

– دون شك، وتسيرين في طريق مدينة بناريس حيث ينتظرك خطيبك رمسيس.

فضمت الفتاة يديها وقالت: ويلاه، أخشى أن تكون عابثًا بشقائي، وأن تكون من جواسيس الأمير تحاول الوقوف على أفكاري.

– قلت لك يا سيدتي: إني خادم رمسيس المخلص؛ فثقي بقولي لأن الأمير غير محتاج إلى الوقوف على نياتك؛ فهو يعلم أنك تعشقين سواه.

فوثقت دابي كوما بما قاله وجعلت تتأهب للفرار وقلبها يكاد يطير سرورًا.

وعند انتصاف الليل بينما كان جميع النساء نائمات في السراي دخل كوجلي إلى الفتاة وقال لها: هلم بنا فقد آن الأوان.

ثم وضع على وجهها نقابًا كثيفًا كبيرًا غطى كل جسمها، وذهب بها إلى قاعة كانت تجتمع فيها بالنهار خادمات وجواري الرجاه، وهي القاعة المعدة لإعداد مواد التزجيج والتخضيب.

وهناك وعاء كان قد أعد فيه كوجلي صباغًا أسود، فأخذ إسفنجة وأزاح النقاب عن وجه دابي كوما، ثم مسح وجهها ويديها وعنقها وما ظهر من جسمها بهذه المادة السوداء، فتبدل لونها الأبيض بلون الأبنوس.

وصبر هنيهة حتى جف السائل على وجهها فخرج بها من دار الحريم.

ولما كانت الخوادم كلهن من الجواري السود في ذلك القصر حسب رئيس الخصيان أنها واحدة منهن، فأذن لها ولكوجلي بالخروج وفتح لهما الباب بيده، فخرج الاثنان إلى الردهة الكائنة أمام الخمارة التي اجتمع فيها الهندي والعبد الذي أغراه.

وكان العبد يسير في تلك الردهة ذهابًا وإيابًا وهو ينتظر خروج زوجة الرجاه من حين إلى حين، فلما رآه كوجلي ناداه وقال له: خذ زوجتك واذهب بها إلى حيث اتفقنا.

فعلم العبد أنها زوجة الرجاه؛ فأخذ بيدها وسار بها.

أما دابي كوما فإنها خافت حين رأت كوجلي عاد إلى القصر فالتفتت إليه وقال: ألا تأتي معنا أنت؟!

– كلا، ولكن لا تخافي؛ فإن العبد الذي يصحبك هو أيضًا من خدام رمسيس، فثقي به كما تثقين بي ولا تخشي شيئًا؛ فإنك بالغة ما تريدين بإذن الله.

فصدقت دابي ووثقت بالعبد، فسار بها وهو آخذ بيدها حتى وصلا إلى باب السراي الخارجي.

وقد تم الفرار كما توقعه الهندي، فقد كان الهندي نفسه على ذلك الباب يتولى الخفارة، وكان رئيس الحراس واقفًا بالقرب منه حين وصلت زوجة الرجاه إلى الباب.

فنظر رئيس الحراس إلى العبد وقال له: من أنت؟

– من جنود الرجاه.

– وهذه المرأة؟

– هي امرأتي.

فقال الهندي للرئيس: هو ما يقول يا سيدي؛ فإني أعرف الاثنين.

فقال الرئيس للعبد: إلى أين أنت ذاهب بامرأتك في مثل هذه الساعة؟

– إلى حفلة عرس في المدينة دعينا إليها؛ فإن العروسين من أصحابنا.

فأشار الضابط عند ذلك إلى الهندي أن يأذن لهما بالخروج، ففتح الباب وخرج العبد بالفتاة وقد نجت من أسر الرجاه.

وسار بها العبد بضع خطوات ورأيا المركبة المعدة لاختطافها يكتنفها الحراس، فركبتها واثقة مطمئنة وهي تحسب أن الذي أرسلها خطيبها رمسيس، ولم يخطر لها في بال أن ذلك من صنع ذلك الوزير الخائن، فما أشرق الصباح حتى بعدت بعدًا شاسعًا عن مدينة نارفور المقدسة عاصمة الرجاه، ولم يعد للرجاه يد تبلغ إليها.

•••

ولم يشعروا في القصر بهذا الفرار إلا في اليوم التالي حين دخلت المواشط إلى غرفة دابي كوما ولم يَجِدْنَها.

واتصل الخبر بسرعة إلى الرجاه، فهرول وهو يستشيط غيظًا ويقسم على أن يقتل رئيس الخصيان أفظع قتل روي في تاريخ الهمجية.

وفيما هو ينذر ويتوعد وقد أمر بإحضار رئيس الخصيان إذ دنا منه كوجلي وقال له: لا تتهم يا سيدي هذا العبد؛ فهو بريء، وأنا أخبرك بحقيقة ما جرى.

ولم يكن كوجلي قد دخل في خدمة الوزير ورضي أن يختطف له زوجة الرجاه إلا لرجائه أن يقتله الأمير؛ فيذهب توًّا إلى فردوس وشنو.

أما الرجاه فإنه ذهل لما سمعه من كوجلي ولما رآه من جرأته فقال له: أية حقيقة تعني؟ وماذا جرى لدابي كوما؟

فابتسم كوجلي ابتسام المتهكم، ونظر إليه نظرة ملؤها الكبرياء ثم قال له: إن هذه الحسناء باتت خارج نفوذ سلطانك، وهي الآن بين ذراعي تريبورينو.

فصاح عثمان صيحة منكرة عندما سمع اسم وزيره وقال له: ويحك أخبرني حقيقة ما جرى بالتفصيل.

فقص عليه كوجلي عند ذلك خيانة تريبورينو بلهجة تشفُّ عن السرور، فنسي عثمان في تلك اللحظة المرأة التي كان يجن بهواها، وتجسمت له خيانة وزيره الهائلة بعد أن أغدق عليه بنعمه، وساواه بنفوذه، وشاركه بماله، فكبرت عليه هذه الخيانة الفظيعة، وجعل يبكي بكاء الأطفال من غيظه، ويهدد السماء بقبضته.

وكأنما كوجلي لم يشأ أن يتمتع وحده بفردوس وشنو، فذكر اسم شريكيه في اختطاف امرأة عثمان؛ وهما: الهندي والعبد.

فأمر عثمان أن يشنق الثلاثة في الحال. وقد شنقوا في اليوم نفسه الذي دخل فيه روكامبول وموساني إلى نارفور عاصمة عثمان.

ولكن دابي كوما كانت قد أصبحت في دار الوزير، فوجد روكامبول ذلك الأمير المنكود الحظ قد اسودت الدنيا بعينيه فلم يعد يرى غير القتل والانتقام.

وهنا نتجاوز عن كثير من الحوادث التي حدثت إثر هذا الاختطاف بما لا يفيد القراء، ونقتصر على القول بأن الخفاء قد زال بين الأمير ووزيره، ولكن بعد فوات الأوان، أي بعد أن تمكن تريبورينو بدهائه، وانخداع الأمير بوفائه، من إغواء الجند وضمِّهم إلى حزبه.

فجعل كل من الفريقين يتأهب لمحق خصمه، ولكن الوزير كان أشد من عثمان، فما مضى ستة أشهر على اختطاف الفتاة حتى احتدمت نار القتال في مملكة الرجاه.

وكان تريبورينو قد رفع راية العصيان، وجاهر بتسليمه للإنكليز ضامًّا إليه ثلثي جيش عثمان.

فما زال يزحف ظافرًا منصورًا من بلد إلى بلد حتى بلغ إلى نارفور عاصمة عثمان فحاصرها.

ولم يبق لهذا الأمير من المخلصين حوله غير روكامبول وستة آلاف جندي كانوا جميعهم محصورين في العاصمة يقاتلون الجيوش المحدقة بها من فوق الأسوار.

ففي صباح يوم من أيام الحصار استعرض عثمان جنوده وخطب فيهم، فحثهم على الدفاع، وذكر لهم خيانة وزيره بعبارات ألقت الحماسة في قلوبهم؛ فأقسموا على أن يدافعوا عن عثمان والوطن حتى الموت.

ولما فرغ من الاستعراض نادى روكامبول وسار به إلى مكان معتزل لا يراهما فيه أحد من الناس وقال له: إني في حاجة إليك أيها الصديق؛ فتعال نتحدث.

وجلس وإياه فقال له عثمان: إنك آخر رجل اعتمدت عليه ووثقت بوفائه وإخلاصه؛ لأنك فرنسي، ولذلك أحببت أن أئتمنك على سر يتعلق عليه مستقبل أسرتي، وأسترسل إليك كما أسترسل إلى أخ شقيق.

فانحنى روكامبول وقال: قل أيها الأمير ما تشاء؛ فإنك وضعت ثقتك في موضعها، وما أنا من الخائنين.

فقال له: إن أول علم كان يتعلمه الأطفال من أسرتي منذ قرن هو النفور من إنكلترا، وعدم الركون إليها، فكان أعظم غلطة غلطتها في حياتي هي وثوقي بتريبورينو، ورفعه إلى مقام الوزارة على علمي أنه من الإنكليز.

وكانت الهند منذ مائة عام يحكمها ملوك أشداء، وكانت شعوبها حرة سعيدة تعيش بالأمن والرخاء من ضفاف الكنغ إلى الفرات.

فأقبل الإنكليز إليها، وجعلوا يستعينون على قومها تارةً بالقوة، وتارةً بالخداع والدهاء حتى استعبدوا قومها، وأنزلوا ملوكها عن عروشهم، وأبادوا كل سلطة فيها للعنصر الهندي.

أما أنا، فإني آخر أولئك الملوك المحافظين على استقلالهم، ولكني أعلم ما سأصير إليه؛ فإني أرى كما ترى ما يحدق بي من الأخطار.

وقد توقعت هذا الخطر منذ عرفت خيانة تريبورينو الذي أغدقت عليه بإنعامي، وأيقنت أن الأسد البريطاني سينشب بي براثنه، ولكن إذا تمكن الإنكليز من إبادتي لا أحب أن تَبيد أسرتي بجملتها.

أما أنا فقد يُقضى علي اليوم أو غدًا؛ فأقتل في ساحة الدفاع عن وطني وسلاحي بيدي.

فإذا قَضيتُ قُضي على آخر بقعة حرة من بقاع الهند، ولكن يجب أن يعيش بعدي من يرثني من أسرتي، فقد يأتي يوم ينهض فيه ذلك الوريث فيذكر أباه ويستعين برجال الهند فيطرد من البلاد عدوها، ويعيد إليها حريتها السابقة ومجدها القديم، ويكون هذا الفضل منسوبًا لأسرتي.

فقال له روكامبول: ألعلك تريد أن تعهد إليَّ بولدك؟

– نعم، فإني أحب بعد موتي أن تسير به إلى أوروبا، وأن تعلمه أن يكره الإنكليز.

فبدت على روكامبول علائم القلق، ورأى عثمان تلك العلائم فقال له: لا تخف، فقد جمعت لولدي في مدة عشرة أعوام ثروة عظيمة سرية تكفيه لأن يعيش حسب مقامه ومقام أسرته.

فقاطعه روكامبول وقال: ولكن يظهر يا سيدي أنك نسيت ما نحن فيه.

– كلا لم أنس شيئًا.

– إننا محصورون، وقد بلغ الأعداء أسوار القصر فأحدقوا به كالنطاق.

– إني أرى ما تراه.

– ولا بد لنا من الوقوع في قبضتهم مهما بلغ من دفاعنا.

– إني متوقع هذه الخاتمة، ومن أجل ذلك عزمت على تضحية حياتي.

– إذن فإن ابنك يقع مثلنا في قبضة الإنكليز.

فلم يجبه الرجاه.

فقال روكامبول: وكذلك ثروتك؛ فإنها تصبح لهم.

فهز عثمان رأسه مبتسمًا وقال: إنك منخدع.

– ألعلك وجدت طريقة لإنقاذ ابنك؟

– نعم …

– وثروتك؟

– وثروتي أيضًا؛ فهي مع ولدي في أمان.

فجعل روكامبول ينظر إليه منذهلًا وينتظر أن يكشف له الحجاب عن هذا السر.

فقال له عثمان: اعلم الآن أن هذا الغلام الذي يحيِّيه الشعب تحية الأمراء، وتضمه كولي نانا امرأتي الأولى إلى صدرها، كما تضم الأم ولدها، أن هذا الأمير الصغير الذي يعتقد جميع من يحيط بي أنه ولي عهدي وأميرهم بعدي؛ ليس بولدي.

فزاد انذهال روكامبول ولم يقاطعه استيفاءً للحديث.

فتابع عثمان: إني كنت دائمًا أتوقع أن يصيبني من الإنكليز ما أصابني اليوم، فاحتطت لنفسي من كيدهم، وجعلت ولدي في مأمن منهم، وذلك أنه بعد أن ولَدتْ كولي نانا بشهرين أخذت الغلام من مهده، ووضعت مكانه غلامًا من عمره، فكبر الغلام حتى بلغ الآن عشرة أعوام وأمه تحسبه ولدها والناس يحسبونه ولدي.

فصاح روكامبول صيحة دهشٍ وقال: إذن البرنس علي ليس ولدك؟

– كلا، بل هو ابن أحد أتباعي أخذته يتيمًا من أبيه، وقد ماتت أمه أيضًا.

– ولكن أين هو ولدك وليُّ عهدك؟

– إنه بعيد جدًّا عن هذه العاصمة، وهو يجهل أني أبوه، ولكنك ستخبره بكل شيء بعد موتي متى اجتمعت به في كلكوتا.

– أهو في كلكوتا؟

– نعم في المدينة السوداء؛ أي مدينة الهنود، وهو عند رجل فقير خياط.

وهذا الرجل فقير في الظاهر يبدو للناس منه أنه يعيش من صناعته مع غلام له يبلغ العاشرة من العمر، والحقيقة أنه يعيش مع ولدي عيشة سعة ورخاء.

أما هذا الرجل فهو مسلم عثماني يدعى حسنًا، كان من خُدام بيتنا؛ فائتمنته على ولدي وثروتي، وما زالت ثقتي وطيدة بالمسلمين.

وقد أقام ولدي عنده منذ الطفولية، فهو يحسب أنه والده ويناديه «أبي».

والآن فاسمع ما أريده منك: إني حين أفقد كل رجاء، وحين أنشب المعركة الأخيرة، وأضرب آخر ضربة بحسامي، بل حين يخرج من صدري النفس الأخير تبرح أنت العاصمة وتسير إلى كلكوتا؛ فتذهب إلى حسن الخياط وتُظهر له هذا الخاتم.

ثم أخرج من إصبعه خاتمًا نُقش على فصه كتابة هندية معناها «تذكر»، فوضعه في إصبعه وقال: إنك حين تُظهر هذا الخاتم للخياط يأتيك بالغلام، ثم يذهب بك إلى قبو في منزله الحقير؛ فترى فيه من أكداس الذهب والحجارة الكريمة ما لا يوجد مثله بين كنوز ملك لاهور. وهذا الكنز هو إرث ولدي.

ثم عطف فقال: إنك شديد الإخلاص، ذكي الفؤاد، فلا تعدم وسيلة تنقل هذا المال بها إلى أوروبا دون أن يعلم الإنكليز، ثم تذهب بولدي إلى تلك البلاد الآمنة، فتعلمه أن أباه قد مات في سبيل استقلال الهند، وأني لم أورثه هذا المال، بل أورثته الحقد على إنكلترا؛ فلينفق المال في سبيل وطنه.

فقال روكامبول: إني سأفعل كل ما أمرتني به.

– وأنا واثق كل الثقة.

ثم مد له يده فقبلها، وقام الاثنان إلى موضع الحصار.

وكان الإنكليز يحاصرون المدينة بعنف شديد.

والحامية تدافع بثبات أشد.

غير أن كثرة عدد الأعداء تغلبت على بسالة الأمير وجنوده، فكانت جنود الوزير محدقة بالمدينة من كل جانب، وقد ضيقت نطاق الحصار، وجعلت الأسوار تتهدم واحدًا تلو الآخر، ومدافع الوزير تدوي دوي الرعود القاصفة فتدك المعاقل والحصون.

وكان المحصورون يزيد عوزهم إلى القوت والذخيرة في كل يوم حتى اضطر عثمان أن يُقصي عن المدينة كل من لا يفيد في الدفاع؛ اقتصادًا في قوت الحامية.

إلى أن اشتدت الأزمة على المحصورين ولم يبق لهم شيء من الزاد، فدعا عثمان روكامبول وقال له: أرى أن الدفاع عن نارفور بات ضربًا من المحال، وخير لنا أن تخترقها صفوف الإنكليز ونعتصم بالجبال، فإذا تمكنا من البلوغ إليها تيسر لنا أن ندافع دفاعًا مقرونًا بالفوز.

وكانت الخطة خطة جرأة نادرة، على أنها كانت ممكنة إذا استعين عليها بالخداع والحيلة.

وكان ذلك العهد عهد الأمطار، فكانت أبواب السماء مفتوحة والمطر ينهمر كأفواه القرب.

فعقد عثمان مجلسًا عسكريًّا، وشاور أعضاءه في الأمر، فقرروا أن يترقبوا ليلة حالكة الظلام، كثيرة الأمطار، فيخرجون تحت جنح الليل إلى الجبال فلا يشعر بهم الأعداء.

وقد اتفق لهم ذلك في الليلة التي تلت عقد المجلس، فقد اشتد فيها الحلك، وبلغ سيلها إلى الركب، والتجأ الإنجليز المُحاصِرون إلى الخيام.

فتأهب عثمان للخروج، وأمَر فوضعوا النساء والأطفال على ظهور الفيلة في وسط المعسكر وقايةً لهم من الأخطار.

ثم أمر بفتح الأبواب، فخرج الجيش بجملته وفي مقدمتهم عثمان وروكامبول، وساروا قرب جيش العدو صامتين يحاولون إخفاء حركاتهم.

ولكن حراس جيش الوزير تنبهوا لهم؛ فنفخوا في أبواقهم، وهب جيش الوزير منذعرًا، فلم يكن غير هنيهة حتى التحم الجيشان، فخرجت السيوف من أغمادها، وأبرقت الخناجر والحراب، وأرعدت البنادق والمسدسات، فكان قتالًا شديدًا هائلًا خضب الأرض بالدماء، ولم يتعارف فيه الخصمان إلا بتألق البروق.

وتمكن جيش عثمان بعد الصبر والاستبسال من الانسحاب إلى وادٍ عميق في شمال المدينة، ولكنهم وجدوا هنالك جيشًا آخر، فلقوا معه من العذاب أشد ما لقوه من الجيش الأول.

ودامت المعركة الهائلة ناشبة بين الفريقين حتى أشرق الصباح، ورأى جيش عثمان قمم الجبال المجاورة، ولكنهم رأوا آلافًا من الجنود قد هرولوا من تلك الجبال وطوقوا جيش الأمير.

ولم يكن هؤلاء الجنود من الإنكليز، بل كانوا من جنود تريبورينو أقامهم في الجبال كي يمنعوا الأمير من الالتجاء إليها.

وهنا عاد القتال إلى أشد مما كان عليه فاستمر إلى المساء.

وكان أعوان الأمير يسقطون أمامهم الواحد تلو الآخر، وهو يقاتل في مقدمتهم قتال الأبطال، وعن يساره روكامبول، وقد أبلى في تلك الحرب خير بلاء، ودفع الموت عن الأمير عدة مرات.

وظل هذا دأبهم حتى لم يبق لدى الأمير غير شرذمة من الرجال؛ فأصابته رصاصة وقعت بين أحشائه، فخر عن جواده صريعًا، وسقط بين يدي روكامبول مخضبًا بدمائه.

وقد أيقن عند ذلك بالموت، فنظر إلى روكامبول بعين المحتضر وقال له: «تذكر».

ثم تنهد تنهدًا طويلًا وهو يقول: «انتقم لي».

فكانت آخر كلمة قالها وأسلم الروح، فعادت إلى مبدئها وهي تحمل وعد روكامبول بمطاردة ذلك الوزير الخائن والانتقام منه.

١٣

كان تريبورينو قد علم بأن روكامبول قتل الفيل الجلاد، وسلم من الموت، وعاد إلى الأمير عثمان.

وكان يعلم أنه كان يقاتل مع الأمير جنبًا لجنب.

فلما تم انتصاره على جنود عثمان، وتمزق ذلك الجيش شر ممزق، أمر فرقة من الجند كي تبحث عن روكامبول، فتوزعت في أنحاء مختلفة، وسارت في جميع الطرق تبحث عنه.

غير أن روكامبول قد تمكن بدهائه من الإفلات والنجاة، فتنكر بزي لا يُعرف به، وهام في الجبال طريدًا شريدًا عدة أسابيع، وكان يجتنب في سيره المدن، حتى القرى، ولا يسير إلا في الجبال والسهول؛ لأن جميع المدن والقرى قد سقطت في قبضة تريبورينو، فلو مرَّ بها لما أمِن القبض عليه.

ولبث هائمًا يسير من جبل إلى سهل، ومن سهل إلى جبل نحو شهرين، حتى انتهى إلى سهول هندستان حيث لا سلطان فيها لتريبورينو، فأقام هناك بضعة أيام عند أحد الهنود، ثم استأنف السير فوصل بعد شهر إلى كلكوتا، فأمِن كيد الوزير ومطاردة جنده.

وعند ذلك ذكر ما وعد به الرجاه، وجعل يهتم بالبحث عن حسن الخياط الذي أودع عنده ابن الرجاه.

وكان جميع الذين يقيمون في المدينة السوداء من كلكوتا يعرفون هذا الخياط، فسأل روكامبول عنه أحد غلمان الفندق الذي نزل فيه فأرشده إلى منزله.

وكان بيت حسن صغيرًا لا يدل شيء من ظواهره على العظمة، ولا يخطر في بال أحد أن ملايين الرجاه قد أُودعت فيه.

فلما وصل روكامبول إلى هذا المنزل لقي حسنًا جالسًا على عتبة بابه، وهو شيخ جليل تدل معارف وجهه وسكينته على ما فرط عليه من السلامة والوفاء.

فدنا روكامبول منه وقال له: ألعلك أنت الذي يدعونه حسنًا الخياط؟

– نعم، أنا هو، فماذا تريد مني؟

فأراه روكامبول خاتم الرجاه عثمان بإصبعه وقال له: أتعرف هذا الخاتم؟

فارتعش حسن حين رأى الخاتم وأسرع فأدخل روكامبول إلى المنزل وأقفل الباب بسرعة كأنه يخشى أن يباغته أحد.

فلما خلا به قال له: يظهر أنك قادم من قبل عثمان؟

– نعم.

– كيف حاله؟

فسقطت دمعة من عين روكامبول عند هذا السؤال وقال له: لقد توفي الأمير.

ثم قص عليه خيانة تريبورينو بالتفصيل، وذكر له استبسال عثمان بالدفاع، وأنه توفي كالأبطال.

وكان حسن يصغي إليه وهو أصفر الوجه، منقبض الصدر، حتى إذا فرغ روكامبول من حديثه رفع يده إلى السماء وقال: هي إرادة الله ولا ردَّ لقضائه.

وبعد سكوت قصير قال روكامبول: أين هو الغلام؟

– إنه يغتسل يا سيدي، وسيعود بعد ساعة.

– والكنز؟

– سأريك إياه، هلم معي.

ثم قام فأخذ مصباحًا وسار به إلى الجدار فكشف عنه ستارًا، فظهر سلم طويل يؤدي إلى قبو المنزل، فنزل درجاته وروكامبول يتبعه حتى انتهيا إلى القبو، وكان فارغًا لا شيء فيه.

وقد علم روكامبول أنه لا بد أن يكون لهذا القبو باب سري يدخل منه إلى حيث خبأ الكنز، غير أنه تعجب حين لم يجد أثرًا لباب أو منفذ في حيطان القبو.

أما حسن فإنه ابتسم وقال له: سوف ترى.

ثم دنا من أحد الجدران وبدأ ينقر عليه بيده في مواضع مختلفة وهو يصغي إلى صوت نقراته، حتى سمع صوتًا رنانًا يشبه صوت النقر على دف، فأخذ خنجره من منطقته، وأدخل شفرته الدقيقة بين حجرين، فانزاح أحدهما للحال وظهر في الجدار قفل فولاذي.

وعند ذلك أخذ حسن مفتاحًا كان يعلقه في عنقه وقال لروكامبول: إن هذا القفل من صنعي، وقد وضعت لفتحه طريقة كثيرة الإشكال بحيث تقتضي عدة أيام كي أُعلِّمك إياها.

ثم أدخل المفتاح في القفل وأخذ يديره يمنة ويسرةً وهو يلفظ ألفاظًا لم يفهمها روكامبول ويعد على أصابع يده اليسرى.

وما زال هذا دأبه عدة دقائق حتى فتح الباب، وهو باب متين من الحديد يتألف منه نصف الجدار وقد صُبغ بلونه، فظهر لروكامبول قبو آخر.

ودخل الاثنان فوضع حسن مصباحه فوق سبيكة ذهبية وقال لروكامبول: انظر الآن، هذا هو كنز عثمان أمامك.

فأخذ روكامبول المصباح بيده وجعل يطوف في هذا القبو العجيب؛ فلا تقع عينه إلا على سبائك الذهب وأكداس اللآلئ واليواقيت وغيرهما من أنواع الحجارة الكريمة.

فدهش روكامبول وابتسم كأنه ذكر عهد حياته السابق حين كان تلميذًا لأندريا، فلو ظفر بمثل هذا الكنز في ذلك العهد لكان ظهر بريق خنجره في صدر حسن قبل أن يظهر لعينه بريق تلك اللآلئ.

وبعد أن تفقد ذلك الكنز وعرف مقدار تلك الثروة الهائلة قال لحسن: إن عثمان أمرني أن آخذ منك جميع الأموال، وأن أذهب بها وبولده إلى أوروبا فأُدرِّبه على بغض الإنكليز.

– إن خاتم مولاي عثمان بإصبعك؛ فلا يسعني إلا الخضوع لك.

ثم خرج الاثنان من القبو الداخلي، فأقفل حسن باب الكنز وأعاد الحجر إلى موضعه، وصعد الاثنان إلى البيت.

وكان الغلام قد عاد من الحمام، فلم يكد يراه روكامبول حتى أيقن أنه ابن الرجاه عثمان لفرط ما وجد بينهما من الشبه، وقال: هذا هو ابن كولي نانا الحقيقي دون شك، وليس ذلك الغلام الذي كنا نراه في بلاط عثمان.

وكان الغلام ينظر إلى روكامبول باندهاش فقال له حسن: هو ذا مولاك يا بني منذ الآن؛ فاتبعْه إلى حيث أمرك.

فقال له روكامبول: كلا، لم يحن الوقت بعدُ؛ فليبق الغلام عندك إلى أن أُتمَّ المعدات اللازمة لرحيلنا.

فأطرق حسن برأسه وقال: ليكن ما تريد.

أما الغلام فلم يفهم من كل ذلك غير معنى الافتراق، فجعل يبكي.

ثم نهض روكامبول يحاول الانصراف فقال لحسن: إنك لا تراني بعد الآن إلا في اليوم الذي أكون قد تأهبت فيه للسفر، وأنا ذاهب الآن لأهتم بإيجاد جماعة من أهل الوفاء والإخلاص أستعين بهم على نقل الأموال إلى سفينة بطريقة أمينة.

ثم ودعه وانصرف، فأقام عدة أيام في كلكوتا يبحث عن طريقة تعينه على نقل كنز عثمان إلى أوروبا دون أن تشعر به الحكومة الإنكليزية.

ولم يكن روكامبول قد صحب من خدامه الأوفياء الذين كانوا له في بلاط عثمان غير خادمه الوفي موساني، وكان يقيم معه في أحد فنادق المدينة السوداء، وقد رضي أن يغادر بلاده من أجله ويسافر معه إلى أوروبا.

ففي ذات ليلة، قال موساني وعليه علائم الرعب: أرى، يا سيدي، أنهم قد عرفوا من نحن؛ لأني أراهم يقتفون أثرنا حين خروجنا كل يوم.

– من الذي يتبعنا؟

– رجل أسود أراه من أتباع تريبورينو.

فخطر لروكامبول أن يغير موضع سكنه، فانتقل وخادمه من المدينة السوداء إلى المدينة البيضاء حيث كان يقيم الإنكليز.

وأقام هناك في فندق شهير، فخلع عنه ثياب الهنود وارتدى الثياب الأوروبية، فكان يُظهر للناس أنه سائح.

فبعد أن أقام في ذلك الفندق الجديد يومين شعر في الليلة الثالثة وهو يشرب الشاي أن الشاي لزج، فلم يكترث لذلك لا سيما وأنه كان قد شرب كل ما في الكأس.

غير أنه لم يمض عليه ساعة حتى تثاقلت أجفانه، وشعر برغبة شديدة إلى النوم، فأطبقت عيناه بالرغم عنه ونام نومًا عميقًا.

فلما استيقظ رأى أن أشعة الشمس قد ملأت غرفته، فنادى موساني الذي كان ينام في غرفة مجاورة لغرفته، فلم يجبه، ولكنه سمع أنينًا مزعجًا.

وكرر النداء فتوالى الأنين، فوثب عند ذلك من فراشه وأسرع إلى غرفة موساني، فوجد منظرًا تقشعر له الأبدان وترتعد منه الفرائص.

ذلك أنه وجد الخادم الوفي مكبل اليدين والرجلين، ملقًى على ظهره والدم يسيل من فمه، وقد فتح موساني فمه حين رأى روكامبول، فوجد أنه مقصوص اللسان.

وقد علم روكامبول أنهم قطعوا لسان خادمه وهو نائم في غرفته نوم تخدير.

فأسرع إلى حل وثاقه، وبينما هو يحل قيد ذلك المسكين صاح صيحة منكرة، وتراجع منذعرًا قانطًا؛ لأن عينه وقعت على إصبعه فلم يجد فيه خاتم عثمان.

١٤

وكان موساني مقصوص اللسان فلقي روكامبول عناءً شديدًا بفهم حقيقة الذي حدث له؛ إذ كان يكلمه بالإشارة.

أما الذي علمه منه، فهو أنه عند نصف الليل سمع ضجيجًا رابَه، فجاء إلى غرفة روكامبول يبغي إيقاظه، ولكنه كان نائمًا نوم تخدير، فذهب كل جهد في إيقاظه عبثًا.

ولما يئس من إيقاظه ذهب إلى الباب كي ينادي خدم الفندق.

ولكنه لم يكد يخرج من غرفة روكامبول ويصل إلى باب غرفته حتى شعر بأن غطاءً كثيفًا قد ألقي على وجهه، ثم أحس برجلين قد حملاه وأوصلاه إلى غرفته وأقفلا بابها.

فدافع موساني دفاعًا شديدًا، ولكن الرجلين كانا أشد منه فألقياه إلى الأرض، ووضعا كمامة في فمه كي لا يستغيث.

ولما صرعاه قيَّدا يديه ورجليه بحبل رفيع من الحرير، ثم أزاحا الغطاء عن وجهه بحيث بات يسمع ويرى.

فرأى موساني أن هذين الشخصين كانا من الهنود، وعرف من ثيابهما أنهما من عُبَّاد الإلهة كالي، أي من طائفة الخناقين التي عرف القراء فظائعها في الأجزاء السابقة.

وكان أحدهما لا يزال في عنفوان الشباب، والآخر كهلًا، فكان الكهل يأمر والفتى ينفذ تلك الأوامر.

فقال له الكهل: دعه الآن في مكانه وهلم بنا إلى غرفة رفيقه؛ فإن المخدر لا بد أن يكون قد فعل فعله فيه.

ثم تركا موساني وذهبا إلى روكامبول، فهزَّاه في سريره هزًّا عنيفًا فلم يستفق.

وعند ذلك ابتسم الفتى ابتسامًا يشفُّ عما داخل فؤاده من الحقد وقال للكهل: أهذا هو الذي غلب علي رمجاه؟

– هو بعينه.

– ولماذا لا نخنقه؛ فهي أفضل فرصة للانتقام؟

– ذلك لأن الذين أرسلونا منعونا عن قتله؛ لأن لهم في حياته مآرب كما يظهر.

فهز الفتى رأسه إشارة إلى الأسف، أما الكهل فإنه أخذ يد روكامبول ونزع من خنصره خاتم عثمان.

وبعد أن دقق النظر في فحصه قال: هو بعينه؛ فلندع الآن هذا الرجل نائمًا ولنَعُد إلى رفيقه.

ثم وضع الخاتم في جيبه، وخرج الاثنان من غرفة روكامبول إلى غرفة موساني.

وكان موساني قد تمالك رشده، فجعل يفحص الشخصين بإمعان كي لا يغيب رسمهما عن ذهنه متى أُطلِق سراحه.

فدنا أحدهما منه وأشهر خنجره فوضعه على عنقه وقال له باللغة الهندية: إننا سننزع الكمامة عن فمك كي تستطيع الإجابة عما نسألك عنه، فتأهب للجواب، واعلم أنه لا فائدة من صراخك؛ لأن جميع خدام هذا الفندق أعوان للذي أرسلنا، فلا تطمع أن يغيثك منهم أحد، وفوق ذلك فإن مولاك قد أُسقي مخدرًا، فلو دوت المدافع قرب أذنه لا يستفيق.

وإن من طبع الهندي الحكمة والسكينة والصبر، فلما أيقن موساني أنه لا فائدة له في المقاومة تظاهر بالاستسلام للقدر، وأشار بعينه إشارة تدل على تأهبه للجواب.

فنزع الكهل الكمامة عن فمه وبدأ بسؤاله فقال: إنك خادم هذا الرجل الأبيض، أليس كذلك؟

– بلى.

– ماذا يدعى؟

– أفاتار.

– أتعلم من أين أتى؟

– كلا.

– متى دخلت في خدمته؟

– من ثمانية أيام.

– إنك كاذب.

– بل أؤكد لكما أني لم أحضر إلى كلكوتا قبل ثمانية أيام.

– ربما كنت صادقًا فيما تقول، ولكنك تعرف ذاك الرجل قبل هذه المدة.

– كلا.

– إنك منافق كذاب.

فقال له موساني ببرود: لا حيلة لي في قول الحق لمن لا يريد أن يسمعه.

– بل أنت كاذب لا تقول الحق، ألم يكن مولاك هذا الأبيض صديقًا حميمًا للرجاه عثمان؟

– لا أعلم.

– ألم يعطه عثمان خاتمه قبل قتله؟

– لا أعلم.

– بل تعلم، وهذا هو الخاتم.

فتكلف موساني الانذهال وعاد الشيخ إلى سؤاله فقال له: كن صادقًا في قولك إذا كنت تؤثر الحياة.

– لا أعلم إذا كان سيدي قد أخذ الخاتم من عثمان لأنه لم يقل لي شيئًا، لكنك أنت الذي قلت لي فصدَّقتك.

– إن هذا الخاتم أعطاه عثمان لمولاك كي يريه لشخص في كلكوتا.

فتكلف موساني هيئة البلاهة وقال: مَن هو هذا الشخص؟

– هذا الذي نبحث عنه لأننا لا نعرفه، ولا بد من الاهتداء إليه.

– يسوءني أني لا أعرف أيضًا؛ فلا أستطيع أن أدلكم عليه.

فاتقدت عينا الشيخ ببارق من الغضب وقال له: إنك لو كنت تعلم العقاب الذي أعددته لك لما تأخرت لحظة عن الإقرار، ولما أصررت على الكتمان.

– عاقبني بما تشاء فإني لا أعلم شيئًا.

فظهرت على وجه الشيخ علائم نفاد الصبر، والتفت إلى رفيقه وقال له: لم يبق لنا فائدة بلسان هذا الخادم فاقطعه.

فلم تظهر أمارات الخوف على موساني، وأخذ الفتى خنجره فقال: إني متأهب لقطع لسانه.

– افعل؛ لأنه لا يزال مصرًّا على الكتمان.

وعند ذلك حاول موساني أن يقطع قيوده؛ فهبَّ بقوة عظيمة فوقف على قدميه.

ولكن الهنديين انقضَّا عليه وألقياه على الأرض، فركع أحدهما فوق صدره وقال له: تكلم.

– إني لا أعلم شيئًا.

– قل لنا أين يقيم هذا الشخص الذي يريد مولاك أن يُريه خاتم الرجاه عثمان.

– لا أعلم، لكني لو كنت عالمًا به لما أخبرت عنه.

– إذن قد جنيت على نفسك؛ فلتُعاقَب بما تستحقه.

ثم ضغط بيديه ضغطًا شديدًا على عنقه حتى اندلع لسانه، فأسرع الفتى إلى اللسان فجذبه وقطعه بالخنجر.

•••

وبعد ذلك لم يعد موساني يذكر شيئًا؛ إذ قد أغمي عليه لفرط ما نزف من دمائه، وأشغله الألم عن كل شيء سواه، فلما استفاق من إغمائه جعل يئن أنينًا مزعجًا إلى أن استفاق روكامبول من نومه وسمع أنينه ورآه على ما وصف.

وكان أول ما اهتم له روكامبول إغاثة هذا المسكين، فضمد جراحه بقدر ما تيسر له.

ثم ذكر غلام عثمان وثروته وسرقة الخاتم من إصبعه، فترك موساني في مكانه وخرج من غرفته؛ بغية الذهاب إلى الشيخ حسن وإخباره بسرقة الخاتم؛ كي لا يخدعه السارق.

فلبس ثيابه وهم بالخروج، لكنه لم يبلغ باب الفندق الخارجي حتى فوجئ باثنين من البوليس الإنكليزي وقبضا عليه.

١٥

وقد سأل أحد هذين البوليسين روكامبول قائلًا: أأنت الذي يدعونه الماجور أفاتار؟

– نعم.

فقبض على أعلى ثوبه وقال له: إذن هلمَّ معنا.

وكان روكامبول قد تعلم أيام جهله أن مقاومة البوليس، في كل بلاد، لا فائدة فيها.

وذلك لأن المجرم إذا حاول الفرار أو الدفاع تزيد جريمته ثبوتًا في أعين القضاة، وأما إذا سار مع الذين يقبضون عليه ساكتًا هادئًا مُتكلِّفًا عدم الاكتراث؛ فإن ذلك قد يكون من أوفر الأدلة على براءته.

فلما رأى روكامبول أن البوليس قبض عليه، وأيقن أن الجدال معه محال قال له: إني سائر معك إلى حيث تشاء، لكني لست من رعاع المجرمين؛ فأرجوك أن ترفع يدك عني فأكون طوعًا لك.

فأجاب البوليس طلبه، وسار البوليسان وروكامبول بينهما.

وبعد أن ساروا هنيهة قال لهما روكامبول: ألا تريدان إخباري إلى أين أنتما ذاهبان بي؟

فقال له أحدهما: إلى قسم بوليس الناحية.

– ألعلك تعلم بماذا أنا متهم؟

– كلا، وكل ما نعلمه أنه صدر إلينا الأمر بالقبض عليك. وهذه صورة الأمر.

ثم أطلعه على صورة الأمر.

وكانت كلكوتا مقسمة إلى عدة أقسام، وفي كل قسم مركز للبوليس ينظر في أمور ذلك القسم.

فحسب روكامبول، في البدء، أنهما ذاهبان به إلى أقرب مركز من الفندق.

غير أن ظنه أخطأ؛ فإنهما مرَّا به بذلك المركز دون أن يدخلا به إليه، ثم واصلوا السير فاجتازوا المدينة البيضاء إلى المدينة السوداء.

وكانوا يسيرون في الشارع الذي يقيم فيه الشيخ حسن، فسُرَّ روكامبول حين عرف ذلك الشارع وقال في نفسه: إن السعد يخدمني دون شك؛ إذ لا بد لنا من المرور بدكان الشيخ حسن فأراه، ولا أعدم وسيلة من الإشارة إليه على فقْدِ خاتم عثمان مني.

وكان أمله يزيد كلما تقدم في ذلك الشارع من دكان الشيخ.

ولما كانوا في الطريق قال له أحد البوليسين: إنك قد تعجب لأننا لم نَسِر بك إلى مركز البوليس التابع للجهة التي قبضنا عليك فيها.

– نعم، ولا أعلم كيف غيرتم معي ذلك الاصطلاح.

– إني مخبرك بالسبب: ألم تكن مقيمًا في المدينة السوداء منذ بضعة أيام؟

– بلى.

– ألم تكن إقامتك في فندق الحية الزرقاء؟

– بلى.

– إذن اعلم أنه لا بد أن تكون الشكوى صادرة عليك من ناحية ذلك الفندق؛ فإن رئيس البوليس في ذلك المركز أمرنا بالقبض عليك.

فلم يُجبْ روكامبول بشيء.

وقال البوليس الثاني: أظن أن للقبض عليك علاقة بقتل مُلاعب الأفاعي.

– ما هي تلك الحادثة؟

– إنه كان يقيم في فندق الحية الزرقاء رجل صناعته ملاعبة الأفاعي، وقد وُجد قتيلًا في الليلة الماضية، وربما كانوا يتهمونك بقتله.

فابتسم روكامبول، وكان إلى ذلك العهد موقنًا أن لتريبورينو يدًا في القبض عليه، كما أنه كان واثقًا أن سرقة الخاتم وقطع لسان خادمه من صنع ذلك الوزير الخائن.

غير أنه رأى أن البوليس يذكر له تلك التهمة بملء البساطة، فتزعزع ريبه، وقال في نفسه: قد يكون القبض عليه لهذه التهمة، ولا يكون للوزير شأن فيها.

فإذا كان ذلك فقد يطلقون سراحي بعد استنطاق قصير المدى، فأعود إلى الشيخ حسن وأخبره بحقيقة ما جرى.

لكنه كان يعلم بطء القضاء الإنكليزي في الأحكام، فخشي أن تطول مدة إيقافه والتحقيق في أمره، فرأى أن الأَولَى الإسراع بإخبار الشيخ حسن حذرًا من أن يخدعه الوزير وهو في السجن.

وعند ذلك عزم على إدراك مآربه بالحيلة؛ ففيما هم سائرون مروا بخمارة فقال لهما روكامبول: إني شديد الظمأ؛ فهل تأذنان لي بشرب شيء من المبردات؟

قالا: بل نشرب معك أيضًا؛ فإن الحر يكاد يقتلنا.

ودخلا معه وكانا يحادثانه بملء البساطة واللطف، فزادت ثقته بهما وأيقن أنهما ليسا من أتباع الوزير.

وكان مما قاله لهما في خلال الحديث: إن هذه التهمة جائرة؛ فلست من القتلة المجرمين، وفوق ذلك فقد تركت فندق الحية الزرقاء منذ أسبوع، والقتل حدث فيه أمس كما تقولان.

فقال له أحدهما: لا شك عندنا ببراءتك؛ فإن مخائلك تدل على الشهامة والنبل والترفع عن مثل هذه الموبقات، غير أنه صدر إلينا الأمر بالقبض عليك، ولا بد من تنفيذ أوامر الرؤساء كما تعلم.

وقال الآخر: إننا نسوقك مُكرهين إلى موقف القضاء لثقتنا ببراءتك، وعندي أن رئيس البوليس لا يباحثك هنيهة حتى يثق من براءتك فيطلق سراحك بعد أن يعتذر إليك.

– وأنا واثق مثلكما تلك الثقة.

وبعد حين مد يده إلى جيبه، ثم ضرب جبينه بيديه، وتكلف الأسف العظيم.

فقال له أحدهم: ماذا أصابك؟

– لقد فقدت محفظة أوراقي وفيها جميع الأوراق التي تثبت جنسيتي، ولا أعلم كيف أثبتها لدى رئيس البوليس.

ثم قال بملء اليأس: إن فيها أيضًا أوراقًا مالية قيمتها ٢٠٠ جنيه أهبها لمن يرد إلي المحفظة.

فنظر البوليسان كلٌّ إلى الآخر نظرة سريعة وقال له أحدهما: أتظن أنك فقدتها على الطريق؟

وقال الآخر: ألا يمكن أن تكون نسيتها في الفندق؟

– كلا، لقد ذكرت الآن أين فقدتها؛ إني كنت ليلة أمس أتنزه في هذا الشارع، فلقيت فتاة جميلة أرلندية من فتيات الهوى فذهبت وإياها إلى منزلها.

– ألعلها سرقت المحفظة؟

– كلا، إنها ذهبت بي إلى بيتها، وأنا واثق أن المحفظة قد سقطت في ذلك المنزل.

– ذلك ممكن.

– وقد يتفق أن الفتاة لم تر المحفظة.

– وأين بيت الأرلندية؟

– لا أعلم نمرته ولا اسم الشارع، ولكني واثق أنه في هذا الشارع الذي نحن فيه.

– أتعرف الطريق إليه؟

– دون شك؛ فهل تأذنا بالذهاب إليه؟

فتشاور الاثنان بالنظر، ثم قال أحدهما: لا أجد بأسًا من أن ينتظر رئيس البوليس ربع ساعة أيضًا، وفوق ذلك فإن البحث عن السرقات من واجباتنا؛ فهلم بنا إلى بيت الأرلندية للبحث عن محفظتك.

فدفع روكامبول ثمن الشراب وخرج مع البوليسين، فتظاهر في البدء أنه عرف الطريق، ثم أوهمهما أنه ضل عنها، فكان يندفع بهما إلى الأمام ثم يعود إلى الوراء وهما يتبعانه بصبر عجيب دون أن يُظهرَا شيئًا من الملل.

إلى أن أظهر علائم السرور وقال لهما: لقد اهتديت الآن، فهذا هو المنزل الظاهر أمامنا.

– إذن لنذهب إليه.

وكان روكامبول رأى الشيخ حسنًا عن بُعدٍ جالسًا على باب منزله، فمثل الدور خير تمثيل، حتى بات معتقدًا أنه أضلَّ البوليسين عن قصده.

ولما وصل إلى بيت الشيخ حسن وقف، فقال له البوليس: أين هو المنزل؟

فدلهما على بيت مجاور لدكان الشيخ حسن.

فقالا: هلم بنا إليه.

١٦

وكان الشيخ حسن جالسًا عند بابه كما قدمنا، فلما رأى روكامبول آتيًا مع البوليسين نظر إليه نظرة انذهال لم تخفَ على الشرطيين، ووضع روكامبول سبابته على فمه يشير عليه بالاحتراس، فتظاهر البوليسان أيضًا أنهما لم يريا تلك الإشارة.

وسار الثلاثة، فلما مروا بالشيخ حسن رفع روكامبول يديه وظهرت على وجهه علائم الحزن الشديد.

فنظر حسن إلى يديه فرأى أن خاتم عثمان مفقود، وأيقن أنه سُرق من روكامبول أو أنه أُخِذ منه بالعنف، فغمز بعينه إشارةً إلى أنه أدرك القصد، وإلى أنه لا يمتثل لسواه ولو أتى بالخاتم المفقود.

ولما وصلوا إلى المنزل الذي عيَّنه روكامبول قال له البوليس: أهذا هو بيت الأرلندية؟

قال: وا أسفاه، إني أخطأت أيضًا؛ فليس هو المنزل الذي دخلت إليه أمس.

وعند ذلك أخذ الرجلان يضحكان وقال له أحدهما: إني ناصح لك أن تقتصر اليوم على ما أجريته من الأبحاث؛ فقد فعلت الذي تريد أن تفعله، وعرفنا ما نريد أن نعرفه.

فاضطرب روكامبول وأدرك بلحظة أن هذين الرجلين قد وقفا على سره، وأنهما ليسا على ما كان يعتقد فيهما من السذاجة.

وفيما هو ينظر إليهما نظرات الانذهال التفت أحد البوليسين إلى ورائه، وأشار إشارة إلى مركبة فيها عبدان كانا يسيران بها في أثر البوليس دون أن يلتفت روكامبول إليها.

أسرع العبدان بالقدوم وقال البوليس لروكامبول بلهجة المتهكم: إنك تعبت دون شك من السير؛ فاصعد الآن إلى المركبة علَّك تستريح.

ثم فتح المركبة، ولم يكن فيها أحد، فصعد روكامبول وصعد بعده البوليسان.

وكان قد ذهل ذهولًا شديدًا حين سمع البوليس يقول: «قد فعلت ما تريد أن تفعله، وعرفنا ما نريد أن نعرفه»، فبات يطيعهما فيما يريدان دون رويَّة.

وسارت بهم المركبة فقال لهما: إلى أين تسيران بي؟

قال له أحدهما: إلى محل بعيد، ثم أخرج مسدسه فوضعه فوق صدر روكامبول وقال له: إننا نعرفك من أهل الدهاء والنشاط، فلا بد لنا من أن نتوقَّاك؛ ولذلك أشهرت عليك هذا المسدس، فإذا حاولت الدفاع فأنت من الهالكين.

أما البوليس الآخر فإنه أقفل باب المركبة بسكينة وأنزل ستائرها، ثم أخرج بإشارة من رفيقه حبلًا من الحرير المتين، وأوثق به يدي روكامبول وثاقًا شديدًا.

وبعد أن فرغ من تقييده أمره أن يخرج من المركبة، فخرج وبقي فيها روكامبول وبوليس واحد، فقال له البوليس: أمَا وقد قيَّدناك الآن فلم يبقَ خوف عليَّ من البقاء معك وحدي.

وسارت المركبة بهما فاجتازت المدينة السوداء حتى وصلت إلى أبواب كلكوتا فوقفت، وحسب روكامبول أن السير قد انتهى، ولكنه أخطأ في حسابه؛ فإنه حين وقفت المركبة أزاح البوليس ستارها، وأسرَّ إلى العبدين اللذين كانا يسوقانها كلمات لم يسمعها روكامبول، فاستأنفت المركبة المسير وخرجت من المدينة.

وعند ذلك التفت البوليس إلى روكامبول وقال له وهو يبتسم: أنقذتك الآن من موقف حرج.

– كيف ذلك؟

فضحك البوليس ضحك المتهكم وقال: إن البوليس لم يخطر له في بال أن يتهمك بقتل ملاعب الأفاعي.

– إذن بماذا يتهمونني؟

– إنهم لا يتهمونك، لكن يريدون القبض عليك للاستيثاق منك ليس إلا.

– ولماذا؟

– لأنهم لا يريدون أن تقضي تلك المهمة الخطيرة التي عهد إليك بقضائها الرجاه عثمان.

فصاح روكامبول صيحة دهشٍ دون أن يجيب.

فقال له البوليس: أرأيت كيف أن تريبورينو لا تخفى عليه خافية، وأن ولاءَه خيرٌ من عدائه.

– إن الوزير رجل خائن.

– لا أنكر ما تقول.

– إذن أنت تعرف أنه من الخائنين؟

– دون شك، ولكن البحث في خيانته أمر لا يفيدنا بشيء، فاعلم الآن أن الوزير، أو هذا الخائن كما تريد أن تدعوه، يعلم أن الرجاه قد عهد إليك بقضاء مهمة.

– قد يكون ذلك، ولكنه لا يعرف أسرار تلك المهمة.

– إنك مخطئ؛ فهو عارف بكل شيء.

– أيعلم بما وعدت به عثمان؟

– بل يعلم أنه أعطاك خاتمًا.

– وهذا الخاتم؟

– يعلم أنك إذا أظهرته لرجل في كلكوتا يعطيك كنوز الرجاه عثمان المخبوءة عنده، ولكن الوزير لم يكن يعرف اسم هذا الرجل ولا أين يقيم.

– وهو لن يعرفه أبدًا.

– إنك مخطئ أيضًا؛ فقد عرفناه بفضل خطئك؛ وهو الشيخ حسن الخياط.

فاضطرب روكامبول اضطرابًا عظيمًا دون أن يُظهِر شيئًا من اضطرابه ثم ابتسم وقال: إني لا أفهم ما تريد أن تقول، ولم أسمع باسم هذا الرجل قبل الآن.

وكان روكامبول مطمئنًّا فلم يكترث لما سمعه من البوليس؛ لاعتقاده بأن عمال الوزير قد يعذبون الشيح حسنًا أفظع تعذيب، وقد يقتلونه، ولكنهم لا يعلمون منه موضع الكنز، وقد زاد اطمئنانه حين رأى أن هذا الرجل المتنكر بملابس البوليس لم يسأله كلمة عن ابن الرجاه عثمان، فأيقن أن تريبورينو لم يكن عالمًا بأمره، وأنه يعتقد أن الغلام هو ابن الشيخ حسن وليس ابن الرجاه.

وطال بهما السير فقال له روكامبول: إلى أين أنت ذاهب بي؟

إلى مكان بعيد كي يتيسر لتريبورينو الحصول على الكنز وهو في مأمن منك.

فعلم روكامبول أنه لم يبق له فائدة من سؤال هذا الرجل، وأنه خير له أن ينصرف إلى التفكير في أمره، ويبحث عن طريقة صالحة لنجاته، فانزوى في المركبة يتظاهر بالنوم وهو يعمل الحيلة والتفكير.

واستمرت المركبة على سيرها ذلك اليوم كله فلم تقف إلا عند المساء.

وعند ذلك أزاح البوليس ستار المركبة، فرأى روكامبول أنها وقفت في برية متسعة قرب غابة كثيفة.

فنزل عامل تريبورينو من المركبة وأمر العبدين بالنزول، ثم أخرج روكامبول وقال له بلهجة الساخر: إنك قد تعبت من الجلوس دون شك، وبتَّ في حاجة إلى المشي والرياضة، فهلم بنا نمشي في هذه الغابة؛ فإن المركبة لا تستطيع السير فيها.

ولم يكن لروكامبول سبيل للدفاع؛ فإن يديه كانتا مقيدتين وراء ظهره، وذلك الرجل المتنكر بملابس البوليس مُشهِرٌ عليه مسدسه، فلو حاول الدفاع قُتل لا محالة دون أن ينفع قتله ابن الرجاه.

فسار صاغرًا بإزاء الرجل والعبدان يسيران وراءهما، فدخلوا إلى الغابة وساروا بين أشجارها نحو ساعة.

وكانت الشمس قد توارت في حجابها، وأقبل الليل فوصلوا إلى شجرة عظيمة باسقة تكفي أغصانها وعُمُدها لبناء سقف منزل بجملته، فوقفوا عندها، وعلم روكامبول في الحال ذلك العقاب الهائل الذي أعد له.

ذلك أن هذه الشجرة كانت من النوع الذي يدعونه Man cenillier، وهو شجر سامٌّ يكثر وجوده في الهند وأميركا وجزائر الأنتيل، فإذا أقام المرء في ظلها ليلة واحدة نفذت سمومها إلى رئتيه فنام نومة أبدية.

فلما وقفوا عندها التفت البوليس إلى روكامبول وقال له وهو يضحك: قد وصلنا؛ فلا نُحمِّلك بعد الآن مشقة السير.

١٧

وأشار عند ذلك إشارة إلى العبدين فانقضَّا في الحال على روكامبول وقيَّدا رجليه، ثم ربطا حبلًا في وسطه، وربطا هذا الحبل في الشجرة بحيث لم يعد يستطيع حراكًا، وأيقن أنه حُكم عليه بالموت في ظل هذه الشجرة السامة.

ولما فرغ العبدان من تقييده قال له البوليس: إن تريبورينو دفعك إلى الفيل الجلاد فانتصرت عليه، وقتلتَ ذلك الفيل العزيز، والآن قد قضيتُ المهمة التي عهِد إليَّ قضاءها، فأتمنَّى لك أن تسلَمَ من هذا الخطر الجديد.

إنك رجل باسل مقدام تستحق خيرًا من هذا الموت، ولكن الموت واحد مهما تنوعت أسبابه، ومن كانت له بسالتك لا تروعه الشدائد، ويعرف طرق الصبر على الموت.

ثم قهقه ضاحكًا وانصرف بعبديه.

وبقي روكامبول مقيدًا بالشجرة لا يستطيع حراكًا، فجعل ينظر إلى الرجل والعبدين حتى تواريا عنه بين الأشجار، فبات وحيدًا مقيدًا في غابة لا يسكنها غير الوحوش الضواري، فإذا سلم من أنيابها لا يسلم من سم الشجرة.

ولبث على هذه الحالة حينًا وقد تمكن اليأس من قلبه، وبذل جهدًا عظيمًا كي يقطع قيوده فلم يستطع لمتانتها؛ فقد كانت من الحرير، وهي معقودة بطرق يستحيل حلها إلا على عاقدها.

وهجم الليل، وسطع نور القمر، فأدرك روكامبول هول موقفه، وعلم أنه لم يُصَب في حياته بأشد من هذا الخطر.

ولا يدرك هول هذا الموقف إلا من عرف غابات الهند الكثيفة؛ فإنها تكون في النهار هادئة ساكنة، فإذا أقبل الليل هبت الرياح، واهتزت الأغصان، فخرج لاهتزازها صوت يضطرب له ذلك الهدوء.

ثم يمتزج بتلك الأصوات أصوات أخرى تخرج كالرعد القاصف وهي أصوات النمور.

ثم يشعر الجالس فيها أن الأرض تهتز به، وذلك أن أسرابًا من الفيلة لا عد لها تدخل إلى تلك الغابات بعد أن تكون قد أتلفت سهول الذرة والأرز في النهار، فتتساقط لاهتزازها الأشجار من سيرها والأوراق الذابلة، وتحملها الرياح إلى السهول.

وهناك أصوات منتظمة رنانة تشبه أصوات (الصناجات) التي تنقر بها الراقصات المصريات، وهي أصوات الأفاعي المعروفة بذوات الأجراس.

فإذا قدر لمنكود أن يقص موقف روكامبول في مثل هذه الغابة لا يلبث أن يضل رشده لما يتولاه من الرعب.

ولم يكن عناء روكامبول قاصرًا على الفزع، بل إنه كان يتألم آلامًا شديدة من تأثير سم الشجرة المقيد بها.

فقد شعر حين بدأ هواء الشجرة السامة ينفذ إلى رئتيه بحرارة شديدة عقبها صداع أليم.

ثم زالت الحمى وتلاها برد شديد، فجعلت أسنانه تصطك، وجسمه يضطرب ويهتز، ومعدته تنكمش، وقلبه يتصاعد حتى خشي أن يخرج من فمه.

ثم اشتد الصداع فكان يشعر كأن آلة من الحديد تضغط على صدغيه، وأن مطارق غير منظورة تضرب رأسه ضربات غير متتابعة، وأن إبرًا محددة الأطراف تَخِزُ رأسه من كل مكان.

وبعد هذا الصداع الأليم أصيب بما يشبه النزع، فقد تراكمت عليه الآلام حتى لم يعد يخص عضوًا دون آخر، ثم تلا ذلك الهذيان والبحران، فأصيب بما يصاب به شارب الأفيون، فكان يتألم ويُسرُّ في حين واحد.

وجاء بعد ذلك دور التخيلات، فكان يرى نفسه تارةً ممتطيًا جوادًا ينهب به الأرض في البراري الفسيحة، ويرى مرة أن فتاة حسناء تداعبه وتلهب فمه تقبيلًا.

ثم تنعكس هذه التخيلات فيرى أفعى هائلة تسعى إليه، ونمرًا مفترسًا فاغرًا فمه راكضًا إليه، وفهدًا جائعًا يمد إليه براثنه لافتراسه.

وفي جميع هذه المدة يسري الموت إليه ببطء، وهو خير أنواع هذا العذاب.

وكان روكامبول يعود إليه الطمع بالحياة حين يسمع تلك الأصوات الهائلة المنكرة، فيجد نفسه مقيدًا أشد تقييد، فيحاول أن يصيح أو يستغيث فلا يخرج صوته من صدره، وقد خطر له أن يصلي التماسًا للعزاء، فلم يعلم ماذا يقول.

وكانت الحمى تمثل له في البدء تلك الأصوات والضواري، غير أنه لم يلبث بعد ذلك حتى استحال الخيال إلى حقيقة، ورأى نمرًا هائلًا، أرقش الجلد، متسع البراثن، كبير الشدقين دنا من تلك الشجرة وقد شم رائحة الإنسان، فأسرع لافتراسه، ووثب حتى بات على عشرين خطوة منه، فجعل ينظر إليه بعينين تتقدان كأنهما من لهب.

فانتفض روكامبول وقد أزال هذا المنظر الكريه آثار الحمى والهذيان، وعاد إليه كل رشده لاستفحال الخطر، لا سيما حين سمع زئير هذا الوحش الضاري ترتجُّ له أرجاء الفضاء كدوي الرعود.

ولكنه وا أسفاه كان مقيد اليدين والرجلين مشدودًا إلى الشجرة، فلا يستطيع دفاعًا ولا فرارًا.

ووقف النمر بعيدًا عنه ينظر إليه بعينيه الناريتين، فما شك أنه غدا فريسة هذا الوحش المفترس.

غير أن النمر لم يتقدم ولبث في مكانه، ثم فتح شدقيه وجعل يزأر زئيرًا يشبه دوي المدافع وهو ينظر إليه دون أن يثبَ عليه.

وحملت الرياح زئيره الهائل، فتناقله الصدى، ودوَّى في تلك الغابة وفي الجبال المجاورة لها.

وبعد ذلك خيل إليه أنه سمع زئيرًا يشبه زئير هذا النمر من مكان بعيد، فحول النمر نظره عن روكامبول، والتفت إلى الجهة التي سمع منها ذلك الصوت.

وكأنه كان ينادي رفاقه كي يستعين بهم عليه؛ فإنه لما سمع الزئير البعيد عاد هو إلى الزئير المتصل.

وكان نور القمر ساطعًا، فلم يمض هنيهة حتى رأى نمرًا آخر قد انضم إلى النمر الأول، فقال روكامبول في نفسه: لا شك أنه قد دعاها كي تشاركه في لحمي.

وكأنما للوحوش لغة سرية يتفاهمون بها؛ فإن النمرين حين التقيا جعل كل منهما ينظر إلى الآخر كأنهما يتشاوران، ثم عادا إلى التحديق به دون أن يدنوا خطوة منه.

فحار روكامبول في أمرهما وترددهما وهو يتوقع انقضاضهما عليه كل حين إلى أن انجلت له أسباب هذا التردد.

وذلك أن القمر كان في كبد السماء، فكان نوره يتدفق فوق الشجرة فبسط ظله حولها دائرة من النور.

وكان روكامبول مقيدًا في الشجرة فلا يصل إليه النور الحاجز بينه وبين النمرين، فكأنهما خافا من النور، أو أنهما علما بالفطرة الغريزية أن الشجرة سامة فخشيا الدنو منها، وهو أمر مشهور؛ فإن الحيوان يدرك بالفطرة ما يضره كما يدركه الإنسان بالعلم والاكتساب.

وربما كانا لا يعلمان أنه مقيد اليدين والرجلين ولا يستطيع حراكًا، فكانا يتوقعان أن يخرج من ظل الشجرة هاربًا منهما؛ فينقضا عليه ويفترساه.

أما روكامبول فقد أصابه من الرعب ما لا يوصف، واشتدت عليه آلام التسمم حتى استفحل يأسه، وفضَّل الموت العاجل بين أنياب هذه الوحوش الضواري على الموت البطيء بظل الشجرة المسمومة، فلم يحتل على النمرين لإرهابهما وإبعادهما، بل عوَّل على أن يثيرهما عليه كي ينجو من حياة يفضلها الموت.

فجمع شفتيه وجعل يصفر وهو يرجو أن يثير النمرين بالصفير ويحملهما على الانقضاض عليه.

غير أنه لقي عكس ما كان يرجوه؛ فإن النمرين ابتعدا حين سمعا الصفير وهما يزأران حتى غابا عن نظره.

وحسب أنه قد نجا منهما، ولكنهما لم يلبثا أن عادا، فكانا يسيران ويقفان كأنهما يرهبان أمرًا، أو ينتظران نجدة.

وكانا يزأران زئيرًا تدوي له الآفاق، فلم تمر هنيهة على ذلك حتى انضم إليهما ثلاثة نمور أخرى.

وكانت آلامه قد اشتدت حتى بات يحسب الموت حياة، فقال في نفسه: لا بد أن تحمل الجرأة أحد هذه النمور إلى اجتياز دائرة النور؛ فأنجو مما أنا فيه وأستريح.

ولكنه أخطأ حسابه أيضًا؛ فإن النمور اصطفت شبه دائرة وجعل كل منها ينظر إلى رفيقه ثم ينظر إلى ظل الشجرة السامة دون أن يجسر على اجتياز الدائرة.

غير أن عيونها البراقة النارية كانت تفعل فيه أكثر من براثنها، فعادت إليه الحمى والهذيان، فتمثل له أن هذه الحيوانات الضارية لا حقيقة لها، وأنها خيالات مثلتها له الحمى.

واشتد به الصداع فجعل يصيح متألمًا؛ فكانت النمور تجيبه عن صياحه بالزئير، ولكنها لا تجسر على الانتقال من مواضعها، فكانت تقتله بزئيرها ونظراتها، والشجرة تميته برائحتها السامة.

وفيما هو على ذلك رأى حيوانًا آخر قد انضم إلى النمور.

ولم يكن هذا الحيوان نمرًا، بل كان فهدًا هائلًا، أصفر الظهر، أبيض البطن، فأفسحت له النمور محلًّا بينها، وجعلت تتطلع إليه ويتطلع إليها كأنها تقص عليه أمرها معه.

وكأنما هذا الفهد لم يكن يدرك ما كانت تدركه هذه النمور من خطر الشجرة؛ فإنه وثب من بينها فاجتاز دائرة النور غير هيَّاب وانقض على روكامبول.

فأغمض روكامبول عينيه واستعان بالله على لقاء الموت؛ إذ لم يبق له شك فيه.

أما الفهد فإنه نشب براثنه في كتفي روكامبول، وجذبه جذبة قوية قطعت الحبل المشدود به وسطه إلى الشجرة، ثم ألقاه فوق ظهره وفرَّ به هاربًا من النمور يعدو عدو البرق بين الغابات الكثيفة.

أما النمور فإنها جعلت تعدو في أثره وهي تزمجر وتزأر وتطلب حظها من الفريسة.

وكانت النمور تعدو عدوًا سريعًا حتى أوشكت أن تبلغ الفهد وتنزع منه روكامبول، غير أنها قبل أن تصل إليه دوَّى في أنحاء الغابة صوت غريب لم تألف الوحوش سماعه في الغابات.

وكان هذا الصوت صوت طبل كبير له دوي شديد؛ فخافت النمور من هذا الصوت الغريب، وأركنت إلى الفرار تاركة حقها من الفريسة للفهد.

ثم تلا صوت الطبل ظهور أنوار المشاعل؛ فكانت هذه الأنوار أدعى إلى فرار النمور من صوت الطبل.

غير أن الفهد كان أشد منها جرأة، ولعله لم يخف لأن وقوع الفريسة بين يديه هاج نهمه فلم يبال بالأخطار.

ولذلك لم يهرب؛ بل إنه ألقى روكامبول على الأرض، فوضع يده الهائلة فوق صدره، والتفت إلى جهة النور، ومصدر الصوت وهو يتهدج من الغضب، ويصيح صيحات تكفي وحدها لقتل أشد الناس جرأة؛ من الخوف في مثل هذا الموقف الرهيب.

وكان صوت الطبل يدنو من الفهد، وقد تألقت أنوار المشاعل فظهر حاملوها، فانشغل الفهد عن النظر إلى روكامبول بالنظر إليها، وجعل يزيد هياجه كلما اقتربت منه، ويزيد ضغطه على صدر روكامبول.

أما روكامبول فإنه نظر إلى تلك الأنوار فرأى ثلاثة من الهنود يحملون المشاعل، وآخر يحمل طبلًا ينقر عليه، وكلهم مسلحون بالبنادق؛ فاشتد رجاؤه بالنجاة، فلم يعد يحفل بضغط الفهد وغضبه.

وكان الهنود قد دنوا من الفهد وباتوا منه على بضعة أمتار، فرأى روكامبول أحدهم قد صوب بندقيته، ثم سمع فجأة صوت إطلاقها، فصاح صيحة ألم شديدة؛ لأن الفهد ضغط عليه ضغطًا قويًّا كاد يحطم عظام صدره، ثم أطبق عينيه وأغمي عليه.

أما الرصاصة فقد أصابت قلب الفهد فسقط قتيلًا، وكان ضغطه على روكامبول آخر انتقام.

١٨

ولما استفاق روكامبول من إغمائه وجد نفسه في مكان لا يعرفه، ولم يجد أثرًا للفهد والنمور.

وقد وجد نفسه في منزل هندي مبني من القصب، وهو من المنازل التي يسكنها من يقيمون قرب الغابات من الهنود، ويحصدون الذرة والأرز.

فلقي أمامه ثلاثة رجال لم يعرف منهم غير رجل واحد، لكنه ما لبث أن رآه حتى صاح صيحة فرح؛ لأن هذا الرجل كان موساني خادمه الوفي الأمين.

أما خادمه فإنه أكب على يديه ورجليه يقبلها بملء الفرح والاحترام.

ثم أخبره بالإشارة أنه كان يحسبه من الأموات، وأنه إذا كان باقيًا في قيد الحياة فإنما ذلك بفضله وفضل هذا الرجل، وأشار إلى أحد الرجلين الهنديين.

فنظر روكامبول إلى الرجل الثاني الذي أشار إليه، فإذا هو رجل عالي القامة، أسمر الوجه، أسود اللحية، تدل مخائله على النبل والجرأة والإقدام.

أما هذا الرجل فإنه لما رأى روكامبول ينظر إليه كلَّمه باللغة الفرنسية فقال: إنك تريد أن تعرف دون شك من أنا؟

فانحنى روكامبول إشارة الإيجاب، فقال الرجل: إني أدعى نادرًا، وأنا زعيم تلك الجمعية القادرة التي تقاوم الخناقين، فإن أولئك الخناقين من أبناء الإلهة كالي، إلهة الشر، أما نحن فإننا من أبناء الإله سيوا إله الخير والصلاح.

إنك لا تعرف من أنا، ولكني أعرف من أنت، فإنك خدمتنا أجل خدمة بانتصارك على علي رمجاه، زعيم الخناقين الأكبر، فقد كان عدونا اللدود، وإنما أنقذتك من أجل هذه الخدمة، ولسنا من الذين يضيع عندهم الجميل.

فجعل روكامبول ينظر إلى هذا الرجل باندهاش.

أما نادر فإنه مضى في حديثه فقال: إن براثن الفهد قد مزقت جلدك وأصابتك بجراح كثيرة، غير أني فحصت جراحك بعد أن قتلتُ الفهدَ فعلمتُ أنها غير بالغة.

وقد ضمدت جراحك على الطريقة الهندية، فوضعت في كل جرح مرهمًا لا يعرفه غير الهنود، وهو يشفي أشد الجراح ببضع ساعات.

وإنك ستُشفى أتم الشفاء بعد يومين، وتصبح قادرًا على العودة إلى كلكوتا، وهناك لا خوف عليك فإن نفوذي يحميك.

فنظر إليه روكامبول نظرة أعربت عن امتنانه العظيم وقال: إني أشكرك كيفما كنت.

وعاد نادر إلى الحديث فقال: لقد أنقذتك اعترافًا بجميلك على جمعيتنا كما تقدم، ولكن كان لي في إنقاذك مأرب آخر؛ وهو أني سأحتاج إليك يومًا ما.

– مُر بما تريد؛ فإن هذه الحياة التي أنقذتها باتت وقفًا لخدمتك.

– سأخبرك فيما بعد بحاجتي إليك، وأما الآن فدعني أقص عليك كيف أنقذتك من ذلك الموت الهائل.

ثم جلس على كرسي قرب مقعد من القصب الهندي كان روكامبول نائمًا عليه وقال: إنَّ لطائفة الخناقين جواسيس منتشرة في كل مكان، وكذلك نحن، فإنَّ لنا كثيرًا من الجواسيس، ولنَكَد الطالع أني لم أكن في كلكوتا حين جئتَ أنت إليها، ولم أعلم بمقاصد تريبورينو إلا بعد فوات الأوان.

وذلك أني كنت في صباح أمس في منزلي، فدخل علي خادمي وأخبرني أنه على الباب رجل هندي يريد أن يطلعني على أمور خطيرة.

فأمرت بإدخاله، فدخل الرجل وجثا على ركبتيه أمامي وقال: إني يا مولاي من أبناء سيوا مثلك، ولكني دخلت في خدمة تريبورينو ولا أحب أن يصاب من تحميه بمكروه.

ثم أخبرني أنه باغت خادمين مخلصين في خدمة الوزير، فعلم من حديثهما أنهما سرقا في الليل خاتم عثمان من إصبعك، وأنهما قطعا لسان موساني.

وقد علم أيضًا أنهما عازمان على اختطافك، والذهاب بك إلى غابة وربطك إلى شجرة سامة كي تموت في ظلها.

ثم ذهب بي ذلك الرجل الذي أخبرني بهذا النبأ إلى فندق باتافيا الذي كنت تقيم فيه حين سرقوا منك الخاتم، فعلمت أن صاحب الفندق من أتباع الوزير، وأن بوليسين إنكليزيين قد قبضا عليك.

وقد رأيت في هذا الفندق موساني فضمدت جراحه، وذهبت وإياه لاقتفاء أثرك، فعلمت أنك قد تقدمتنا، وعرفت من الهنود أنهم قد خرجوا بك من كلكوتا بمركبة مقفلة تجرها الجياد، فامتطيت مع موساني جوادين وخرجنا أيضًا من كلكوتا للبحث عنك.

وكنا كلما رأينا جماعة من المزارعين نسألهم عن المركبة فيرشدوننا إلى الطريق التي سارت فيها.

لكن أقوالهم كانت متفقة على أنكم كنتم تتقدمونا بعدة ساعات.

وما زلنا نسير من محطة إلى محطة حتى انتهينا إلى منزل في هذه الغابة، فرأيت هناك المركبة التي حملتك وجيادها، فعلمت أنهم قد توغلوا بك في الغابة.

وكنت أعلم أن هذه الغابة كثيرة الطرق، فليس من الحكمة أن أقفو أثركم فيها.

ثم إني كنت أعلم أن الأشجار السامة لا تقتل في أمد قصير؛ ولذلك رأيت أن أكمن عند مدخل الغابة للذين ذهبوا بك إليها؛ إذ لا بد لهم من العودة إلى المركبة التي تركوها عند المدخل.

فاختبأت مع موساني بين الأدغال نحو ساعتين.

وبعد ذلك رأيت ثلاثة رجال قد خرجوا من الغابة، وهم عبدان أسودان ورجل أبيض لا فرق بين لونه ولون الإنكليز؛ فعرفت للحال أنه من أخلص الناس في خدمة الوزير وقلتُ في نفسي: إن هذا الرجل يؤثر الموت وكل عذاب على خيانة سيده؛ فهو لا يهدينا إلى الشجرة السامة التي قيدوك فيها، ووجوده يضر بنا.

وصبرت عليه حتى رأيته يصعد إلى المركبة فأطلقت عليه رصاصة من بندقيتي، فأصابت منه مقتلًا وسقط صريعًا.

وعند ذلك خرجت مع موساني من بين الأدغال وهجمنا على العبدين، فركعا أمامنا وهما يطلبان العفو، فسألتُهما أن يرشدانا إلى الشجرة التي قيدوك فيها وأنذرتهما بالقتل.

أما أحدهما فأبى أن يرشدنا كل الإباء؛ فطعنه موساني بخنجرة طعنة كانت القاضية.

وأما الثاني فإنه لما رأى ما كان من قتل رفيقه خاف من الموت ورضي أن يرشدنا إليك.

وكان الليل قد أقبل فأحضرت المشاعل للاهتداء، والطبل لطرد الوحوش والأفاعي، ودخلنا جميعًا إلى الغابة حتى اهتدينا إليك وأنقذناك من الفهد، وأنت تعرف البقية.

فشكره روكامبول شكرًا جزيلًا ثم قال له: إني مدين لك بالحياة، ولم يبق إلا أن تخبرني بما تنتظره مني.

– ستعرف ذلك بعد يومين حين نصل إلى كلكوتا، وأما الآن فلا بد لك من الراحة.

ثم تركه وانصرف.

١٩

وبعد ذلك بيومين كان روكامبول في كلكوتا؛ فإن المرهم الذي عالجه به نادر قد أفاده فائدة عظيمة فلم يشعر بشيء من الألم.

وكأن حسن وفائه لعثمان قد أسرع في شفائه؛ فإنه ذكر سرقة الخاتم منه فكاد يجن من إشفاقه على الكنز وابن عثمان.

وفيما هو يدخل باب المدينة مع نادر قال له نادر: إننا قد بلغنا كلكوتا فلا أفارقك بعد الآن، ومتى كنتُ معك فلا خوف عليك من الوزير مهما بلغ من السلطة والنفوذ.

– إني صدقتك ولي بك ثقة لا تتزعزع.

– إلى أين تريد أن نذهب الآن؟

– إلى الشيخ حسن؛ فإني مضطرب البال عليه.

– إذن هلم بنا.

وسار الاثنان إلى المدينة السوداء حتى إذا وصلا إلى منزل حسن سرى الأمل إلى فؤاد روكامبول؛ لأنه وجد الشيخ حسنًا جالسًا كعادته عند عتبة الباب.

وقال روكامبول في نفسه: لا شك أنه فهم إشارتي فلما جاءوا بالخاتم لم يخبرهم بشيء.

ثم دنا روكامبول مع نادر منه، فنظر حسن إلى روكامبول نظرة تدل على عدم الاكتراث.

فعجب روكامبول لهذا الفتور وقال له: ألم تعرفني؟

فنظر إليه الشيخ نظرة تدل على البلاهة دون أن يجيب.

فقال له روكامبول: كيف لم تعرفني أيها الشيخ؟ أنا هو القادم من قبل الرجاه عثمان.

فارتعش حسن عند سماعه اسم عثمان، ثم ابتسم ورفع يديه إشارة إلى أن الأمير بات في السماء.

فقال نادر لروكامبول: إن هذا الرجل قد اختلط عقله؛ فإن عينيه تشيران إلى أنه مصاب بالجنون.

وكانت هناك فتاة جالسة عند باب المنزل المجاور لمنزل حسن، فدنت من نادر وروكامبول وقالت لهما: ألعلكما من أقرباء هذا المسكين؟

فقال نادر: نعم.

– يظهر أنكما لم تعلما ما أصابه؛ فإن ثلة من الجنود قد طوقت منزله مساء أول أمس، فخرج حسن إليهم وهو منذهل مما يرى، فقبضوا عليه، وأراه رئيسهم خاتمًا كان في إصبعه.

أما حسن فإنه نظر إلى الخاتم بانذهال قائلًا: إني لا أعلم ما تريد.

فدخل الجنود عند ذلك به إلى المنزل وأقفلوا بابه، فجعل حسن يصيح صياحًا سمعه كل الجيران، فسمعناه يقول: إني رجل خياط فقير، فمن أين تأتيني الكنوز؟!

وكان الجنود ينذرونه بالقتل إذا لم يبح بسر الكنز فيقول لهم: اقتلوني في الحال ولا تعذبوني؛ فإني شيخ كبير ولا طاقة لي على احتمال العذاب.

لكن الجنود لم يقتلوه، بل إنهم أشعلوا النار في المنزل، فكنا نرى نورها ينفذ من النوافذ، ثم سمعناه يصيح صياحًا يدل على الألم الشديد، ثم سمعنا غناءه فعلمنا أن العذاب أفقده الصواب.

وذلك أن الجنود قد حملوه بأمر رئيسهم وعرضوا قدميه للهب النار فلم يغنهم تعذيبه شيئًا.

ولما يأسوا من إقراره ورأوا أنه كاد يشرف على الموت تركوه وجعلوا يفتشون المنزل، فما تركوا شيئًا في مكانه، ولكن يظهر أنهم لم يجدوا شيئًا من تلك الكنوز الوهمية، فإنهم خرجوا صفر اليدين.

فتنهد روكامبول عند ذلك تنهد المنفرج؛ ليقينه من بقاء الكنز في موضعه، وقال للفتاة: لقد كان للشيخ حسن غلام، فأين هو؟ وماذا جرى له؟

– إن الجنود أخذوه ولم نره بعد ذلك.

فهمس روكامبول في أذن نادر وقال: إن هذا الوزير الخائن قد قبض على الغلام.

– سنجده إلا إذا كانت سولت له النذالة أن يقتله.

– لندخل إلى منزل هذا المسكين المختل فقد نقف منه على شيء.

فوافقه نادر، ودخل الاثنان فتبعهما حسن وعليه مظاهر القلق كي يمنعهما عن الدخول، لكنه لم يَسِر خطوة حتى سقط لاحتراق قدميه.

فحمله روكامبول ودخل به إلى المنزل، ثم أشار إلى نادر أن يقفل الباب فأقفله، ودخلوا جميعًا، فكان حسن ينظر إليهم نظرات الرعب.

ثم نزلوا إلى القبو، فجعل روكامبول ينقر بيديه على الجدار كي يهتدي من الصوت إلى باب الكنز الدفين، كما فعل حسن من قبل، فاهتدى من الصوت إليه، وأخذ خنجره وأدخله بين حجرين فانزاح أحدهما وظهر القفل الفولاذي.

وعند ذلك جعل حسن يضحك ضحكًا عاليًا كأنه كان يهزأ بهما لوثوقه من أن هذا الباب لا يستطيع أحد غيره أن يفتحه، ثم انقطع ضحكه واستولى عليه رعب رهيب فبكى بكاء الأطفال.

أما روكامبول فإنه كان واثقًا من أن الجنود لم يهتدوا إلى الكنز.

لكنه أراد أن يعالج هذا الباب علَّه يستطيع فتحه ليُطلِع نادرًا على ما فيه من الأموال.

وكان يعلم أن المفتاح معلق بعنق حسن، فاستعان عليه بنادر وأخذ منه المفتاح بالرغم من دفاعه الشديد.

ثم ذهب به إلى القفل فأدخله فيه، وجعل يديره يمنةً ويسرةً مرات كثيرة دون أن يتمكن من فتحه، فنظر نظرة يأس إلى نادر وقال له: إن لقفل هذا الباب سرًّا لا يعرفه إلا حسن، لكنه مجنون وا أسفاه.

فأجابه نادر: ثق بي، فسأهتدي إلى فتحه، وإني لم أتول زعامة قومي عبثًا، ثم ابتسم ابتسامة تدل على ثقته بنفسه، فذهب عن روكامبول ما كان يشعر به من اليأس.

٢٠

وكان نادر قد أدرك صعوبة الوقوف على أسرار القفل فقال لروكامبول: إننا قد نشتغل أشهرًا كثيرة في محاولة فتح هذا الباب بمفتاحه دون أن نهتدي إلى سره.

فإنكم — معاشر الأوروبيين — قد اخترعتم أقفالًا تفتح بحروف يُصطلح عليها، لكن الهنود قد سبقوكم بمراحل في مضمار هذا الاختراع.

وذلك أنكم جريتم بها على طريقة الحروف وجرينا بها على طريقة الأرقام، وشتان بين الطريقتين؛ فإن الحروف محدودة، وأما الأرقام فلا حد لها.

ولا بد أن يكون هذا الباب قد أقفل بأرقام لا يمكن معرفتها إلا من الشيخ حسن، وإلا فلا سبيل إلى حلها.

– لكنه مجنون.

– إني أعلم ما تعلمه من جنونه.

– إذن ألعلك تريد أن تشفيه؟

فهز نادر رأسه وأجاب: لا فائدة من ذلك.

فلم يفهم روكامبول شيئًا من قصده. أما نادر فإنه ابتسم وقال له: هلم نبرح هذا القبو إلى المنزل؛ فإننا نتحدث فيه كما نريد.

فأخرج روكامبول المفتاح من القفل وأعاد الحجر كما كان، ثم صعد مع نادر بالشيخ حسن إلى المنزل، فكان حسن يصفق بيديه تصفيق تهكم كأنما قد عاد إليه بعض صوابه، وعرف أنهما لا يستطيعان فتح الباب.

ولما دخلوا إلى المنزل وأقفلوا جميع أبوابه، قال نادر لروكامبول: إن الوزير قد أتقن اللغة الهندية كل الإتقان، بحيث لم تعد تخفى عليه خافية من دقائقها، غير أنه لم يتقن درس أخلاقنا وعاداتنا؛ فهو إنكليزي النشأة ولا يمكن أن يكون هنديًّا محضًا.

– لماذا؟

– لأنه يجهل بعض أسرارنا؛ فإن الهند بلاط السموم القاتلة والمخدرات الخفية، فإن كان الوزير قد عرف شيئًا منها فقد غابت عنه أشياء، ولو كان يعرف منها ما أعرفه لتيسر له الحصول على الكنز.

فعجب روكامبول وقال له: كيف ذلك؟

– ذلك أنه كان يستطيع الوقوف على سر الكنز من حسن نفسه، بل إنه كان فتح له باب الكنز بيده.

– أيفتح الشيخ حسن باب الكنز للوزير؟!

– دون شك.

فزاد عجب روكامبول، أما نادر فإنه مضى في حديثه قائلًا: إن الهندي إذا عطش عصر قطعة من الليمون في كأس من الماء فأروى ظمأه، وإن الهندي إذا أرِقَ وتعذَّر عليه النوم أخذ حبة من الأفيون فابتلعها، وإذا جرح داوى جرحه بمرهم يستخرجه من عصير نبات يدعى باللغة الهندية يوما، ومعناه لسان الحية، وبهذا المرهم قد شفيت جراحك.

فإذا مزج الليمون المرطب مع الأفيون المنوم ولسان الأفعى الذي يشفي الجراح؛ تألف من هذا المزيج سم غريب لا يخطر في بال أحد منكم معشر الإفرنج.

وذلك أن من يشرب جرعة من هذا المزيج يصاب بفرح عصبي غريب؛ فينطلق لسانه بالكلام، ومهما كان كتومًا حريصًا على أسراره فإنه لا يلبث أن يشرب هذا المزيج حتى يبوح بكل أسراره.

فتنبه روكامبول لحديث نادر وذكر حادثة بعيدة جرت له حينما كان تلميذًا لأندريا، وهو ذلك الشراب الذي أعطاه إياه أندريا، فأرغمته باكارا على شربه ووقفت منه على جميع أسرار أستاذه.

فبذل روكامبول معظم جهده كي يطرد تلك الذكرى المؤلمة ثم قال لنادر: كيف نستطيع الآن الحصول على مواد هذا المزيج؟

– ذلك سهل ميسور؛ فإن ورق لسان الحية معي في جيبي.

ثم أخرج من جيبه ضمة من أوراق صغيرة تشبه ورق الورد ووضعها أمامه على الطاولة.

– والأفيون؟

فابتسم نادر وقال: إن الهندي مهما كان فقيرًا ومهما كان الأفيون غاليًا فلا بد أن يوجد في منزله كمية منه.

ثم قام إلى طاولة كان الشيخ حسن يضع فيها أدوات الخياطة وفتح درجها وجعل يبحث فيها، فوجد حبة صغيرة من الأفيون فأخذها ووضعها أمام الأوراق الجافة.

فرد روكامبول: بقي علينا الليمون.

– هلم بنا نبحث في البيت علَّنا نجد قطعة منه.

فبحثوا فلم يجدوا شيئًا، فذهب نادر إلى الباب ففتحه، ووجد الفتاة الهندية لا تزال جالسة عند عتبة الباب، فأعطاها غرشًا وسألها أن تشتري له به ليمونًا لمعالجة الشيخ، فامتثلت الفتاة وعادت بعد هنيهة بالليمون.

وعند ذلك أخذ نادر جرنًا صغيرًا من مطبخ المنزل فغسله ثم سحق فيه حبة الأفيون، وفتَّ لسان الحية فمزجها مع الأفيون، ثم نقلها إلى كأس ماء وعصر فوقها الليمون، فظهر لون المزيج أحمر كشراب الورد.

وكان حسن ينظر إلى نادر نظر البلاهة.

فدنا نادر وهو يحمل الكأس وقال له: اشرب؛ فإن هذا الشراب مفيد لك.

فأخذ حسن الكأس من يده، وشرب نصفه جرعة واحدة كما يشرب الطفل ما يعرض عليه دون أن يعرف ما يشرب.

فالتفت نادر إلى روكامبول وقال له: راقب الآن هذا الرجل، سوف ترى ما يكون تأثير هذا الشراب.

أما حسن فإنه لم يكد الشراب يستقر في جوفه حتى أصيب في البدء بذهول عظيم، ثم جعل وجهه يتلون وعيناه تتقدان، وانطلق لسانه بكلام لا يفهم، فكان كمحموم مصاب بالهذيان.

وعند ذلك قال نادر لروكامبول: اتبعني الآن.

فتبعه، ونزل الاثنان إلى القبو فقال له نادر: أزح الحجر وضع المفتاح في القفل، ففعل.

أما حسن فإنه كان لا يزال في المنزل يهذي، ثم بدت عليه مظاهر الفرح والارتياح، فجعل يغني ويدعو نادرًا وروكامبول إلى سماع غنائه وكأنه لم يرق له أن يتمتع وحده بسماع غنائه، فتبع روكامبول ونادرًا إلى القبو وهو يزحف زحفًا لآلام قدميه.

والتفت روكامبول بعد أن وضع المفتاح في القفل فرأى حسنًا خلفه يضحك.

أما نادر فإنه جعل يدير المفتاح في القفل وهو يتظاهر بالاضطراب والقلق، فلما رآه حسن على تلك الحال ضحك ضحك المتهكم ووقف فدفع نادرًا بكوعه، ووضع يده على المفتاح ثم نظر إليهم نظر الهازئ، وأدار المفتاح عدة مرات ففتح الباب، وظهر الكنز وما فيه من الذهب الوضاح واللآلئ اللامعة.

٢١

أما حسن فإنه بعد فتح الباب أظهر من غرائب الاحتيال ما أضحك الاثنين، ثم حاول أن يقفله، ولكن روكامبول حال بينه وبين الباب، وحمله نادر فأدخله إلى قبو الكنز وألقاه على الأرض.

فقاوم حسن مقاومة ضعيفة، ثم لما رأى نفسه ملقًى على الأرض نسي ما هو فيه وعاد إلى هوسه، فجعل يبكي ويغني ويندب ويستبشر في حين واحد.

فقال نادر لروكامبول: إننا إذا أقفلنا هذا الباب لا نستطيع فتحه بعد إقفاله، ولا نستطيع البقاء على هذه الحالة المخطرة؛ لأن عين الوزير غير غافلة، ولما كان واثقًا أن الكنز موجود في هذا المنزل فهو قد أحاطه بالجواسيس، وبث حوله الأرصاد والعيون؛ لأنه لم يكتف بتفتيش أعوانه لهذا المكان.

– هذا لا ريب فيه، فماذا يجب أن نعمل؟

فأطرق نادر هنيهة يفكر ثم قال: لدي رجال مخلصون، لكن يقتضي لي وقت لجمعهم.

– ولو جمعتهم، أتَعهَدُ إليهم بمراقبة هذا المكان؟

– كلا، ولكني أستعين بهم على نقل جميع ما في هذا القبو من الذهب والجواهر.

– إلى أين تنقلهم؟

– اصبر فسأجيبك متى أمِنَّا صياح هذا الرجل؛ فإنه يقلقنا ببكائه وغنائه. احرص عليه إلى أن أعود.

ثم تركه في القبو وصعد إلى المنزل، فأخذ من درج حسن كمية كبيرة من الأفيون فوضعها في غليونه وأشعله، ثم عاد به إلى حسن فأعطاه إليه، فما طال تدخينه حتى سكت وتمكَّن منه الذهول.

وعند ذلك جلس نادر فوق برميل في القبو وقال لروكامبول: أصغ إلي الآن أيها الصديق، إن هذه الأموال المودعة في هذا القبو كثيرة جدًّا، بحيث يتعذر نقلها إلى أوروبا بالطرق العادية المألوفة؛ لأن عمال الجمارك يفتشون السفن قبل سفرها، وإذا عثروا بهذه الأموال ضبطوها دون تردد.

– لكني تعهدت لعثمان وهو يحتضر أن أنقلها.

– دون شك.

– إذن يجب نقلها إلى أوروبا.

– إنك تستطيع نقل الأحجار الكريمة، وأما الذهب فلا فائدة من نقله.

– لماذا؟

– دعني أخبرك قبل ذلك كيف يسهل علينا نقل الجواهر: اعلم أن لطائفة أبناء سيوا التي أتولى رئاستها ثروة واسعة تزيد على ثروة أعدائهم أبناء كالي.

ولنا مثلهم عمال ووكلاء سرِّيُّون بين الإنكليز يخضعون لنا كل الخضوع، ويمتثلون لأوامري كل الامتثال.

وإن بين أبناء طائفتي الذين يعتمد عليهم في المهمات ربان سفينة إنكليزية يدعى جون ثان، وهو لي من أصدق المخلصين، وسيسافر إلى لندرا بعد ثمانية أيام بشحنة من الحبوب؛ ولذلك رأيت أن أخبئ الجواهر داخل أكياس خاصة مشحونة حبوبًا، فإذا تفقدها عمال الجمارك لا يهتدون إليها.

– إذا كان ذلك كما أخبرتني، فلماذا لا نشحن الذهب أيضًا داخل تلك الأكياس؟

– لأن الذهب كثير، وهو أثقل من اللآلئ، فإذا شحن على تلك الطريقة تعرض للخطر.

– إذن كيف ينقل الذهب إلى أوروبا؟

– لا حاجة إلى إرساله إلى أوروبا، بل يظل في الهند، وذلك أننا ندفعه إلى خزينة طائفة أبناء سيوا، وأنا أعطيك حوالة بقيمته على مصرف من مصارف لندرا العظيمة، فيدفعها إليك في الحال.

– إنها طريقة حسنة غير أنه كيف يتيسر لنا نقل تلك الأموال من القبو.

– هنا وجه الصعوبة؛ إذ يستحيل علينا إخراج الأموال من باب هذا المنزل دون أن يشعر بنا الذين يراقبونه.

– إني لا أرى ما تراه؛ لأن الوزير كان منذ يومين يجهل اسم هذا الرجل.

– ذلك ممكن غير أن البوليس الإنكليزي لا تغفل له عين، ومثل تلك القيمة من الثروة لا يسهل تهريبها أمام عينيه.

– هو ما تقول غير أن تلك الثروة لم تدخل دفعة واحدة إلى القبو، فهي تخرج منه أجزاء متفرقة كما دخلت إليه.

– ذلك ممكن أيضًا غير أني أعتقد أن لهذا القبو مخرجًا آخر من غير بابه الذي دخلنا منه، فهلمَّ نفتش عن هذا المخرج، فإذا وجدناه أخرجنا المال بجملته منه، وذلك خير من إخراجه متفرقًا؛ فإن الوقت غير متسع لدينا، وعلينا كثير من الرقباء والعيون.

– ليكن ما تريد؛ فلنبحث.

ومشى نادر إلى جدار القبو فجعل ينقر عليه بقبضة خنجره في أمكنة مختلفة حتى اهتدى إلى مكان سمع منه صوتًا يدل على فراغ فقال: هو ذا المخرج وسوف ترى.

ثم أخذ خنجره وجعل يزيح به الكلس المتجمد في الجدار، حتى إذا كشطه ظهر له تحته ثقب تمد منه اليد، فمد يده فشعر بزلاج وراء الجدار، فرفع الزلاج ودفع الجدار بيده، فإذا الجدار باب فتح وظهر منه سرداب طويل مظلم، فظهرت علائم السرور على وجه نادر وقال: هو ذا المخرج الذي كنت أتوقع وجوده.

– إلى أين ينتهي هذا السرداب.

– سوف نعلم؛ إذ لا بد لنا من المسير فيه.

– لكن ما نصنع بحسن فإنه قد يقفل علينا الباب؟

– لا تخف، لقد سقيته كمية كبيرة من الأفيون؛ فهو لا يستفيق منها قبل عدة ساعات ولا خوف علينا منه، هلم بنا.

ثم أخذ المصباح الذي كانوا يستنيرون به في القبو ودخل إلى السرداب، فتبعه روكامبول.

٢٢

مما يؤثر عن الإنكليز وتأثيرهم على البلاد التي يحتلونها، والأمم التي يسيطرون عليها، أن كل بلد تطأ أقدامهم فيه تنتشر بين قومه عاداتهم وأخلاقهم، ويجري قومه تقليد الإنكليز في كل شيء حتى في طريقة إنشاء منازلهم.

مثال ذلك كلكوتا؛ فإن بعض شوارعها لم يكن يفرق بشيء عن شوارع لندرا، حتى إن المدينة السوداء نفسها، أي مدينة الوطنيين، امتدت إليها يد الهندسة الإنكليزية.

ومما فعله الإنكليز في كلكوتا أنهم بنوا المجاري تحت الأرض، وأنشأوا بركة عظيمة في المدينة من جنوبها إلى شمالها، فكانت تشبه ميناءً داخليًّا.

وكانت مياه المجاري تصب في تلك البركة من أقنية مبنية تحت الأرض، فإذا حان وقت الجزر دخلت مياهه إلى البركة وحملت أقذار المجاري. وكانوا يستعملون البركة أيضًا لإصلاح السفن، وكان نادر يعلم دون شك بأمر البركة، فكان يرجو أن يجد منفذًا إليها من السرداب، فمشى أمام روكامبول بمصباحه.

أما السرداب فكانت قبته عالية بحيث لا يضطر السائر فيه إلى الانحناء، لكنه كان ضيقًا فلا يستطيع اثنان أن يسيرا جنبًا إلى جنب.

فلما سار نادر بضع خطوات قال لروكامبول: إننا سنجد مجرًى دون شك؛ فإن الإنكليز أنشئوا المجاري في المدينة السوداء.

– إلى أين تنتهي تلك المجاري؟

– إلى حوض إصلاح المراكب.

وما سار الاثنان عشرين خطوة حتى وجدا منعطفًا فتنبه نادر لأمر وقال: يجب أن نعود إلى القبو؛ لأني أخشى أن يكون لهذا السرداب منعطفات كثيرة تؤدي إلى طرق مختلفة، فإذا أردنا العودة لا نهتدي إلى الطريق، ولذلك لا بد لنا من دليل.

– أين تجد الدليل؟

– سترى، ارجع الآن أدراجك.

فرجع روكامبول وتبعه نادر إلى القبو، فلما وصلا إليه صعد نادر إلى المنزل وعاد يحمل حبلًا رفيعًا طويلًا، ثم دخل إلى السرداب أمام روكامبول وقال: سِرْ بنا؛ فهذا هو الدليل، وما زال الحبل بيدنا فلا نضل الطريق إذا أردنا الرجوع.

فاستصوب روكامبول صنعه، وسار الاثنان في السرداب فانتهيا إلى سلم تنزل درجاتها في جوف الأرض.

وكان الحبل بيد نادر فقال لروكامبول: إننا إذا لم نصادف طريقين فلا حاجة بنا إلى الحبل، ولكن دلائل السرداب تشير إلى أننا نلقى كثيرًا من الطرق.

وكانت درجات السلم ثلاثين درجة، فلما انتهيا منها إلى آخر درجة وجدَا سردابًا جديدًا.

وكانا يسمعان صوتًا يشبه الهدير فوق رأسيهما، فأصغى نادر إلى الصوت ثم قال: أتعلم أين نحن الآن؟

– كلا!

– إننا تحت الحوض.

ومشيا بضع خطًى فظهر لهما طريقان في السرداب الجديد، فقال له نادر: لقد حان وقت استعمال الحبل.

ثم أخذ خنجره فشكه في الأرض وربط به طرف الحبل، وسار في أحد الطريقين وبقية الحبل في يده.

وما زالا سائرين حتى انقطع هدير الحوض، وكان الحبل قد بلغ نحو ثلثيه، فاعترض سيرهما سلم آخر غير أن درجات هذا السلم يصعد عليها خلافًا لدرجات السلم الأخرى، فصعدا السلم وانتهيا إلى قاعة متسعة، غير أن سقفها كان واطئًا بحيث يُمكن للواقف أن يمسه بيده، فاستوقف سيرهما سماع حركة فوق السقف عرف منها أنها خُطى إنسان.

ولم يكن لهذه القاعة منفذٌ فقال نادر: يستحيل أن تكون هذه الطريق توصل إلى البحر، ولا بد أن يكون لهذه القاعة شأن.

وكان يصل إلى مسامعهم من فوق القبة أصوات جماعة يتحدثون، ولكنهما لم يفهما شيئًا من كلامهم المبهم.

فقال نادر: دعني أركب على كتفيك وأعطني خنجرك علَّني أهتدي إلى معرفة هذه الأصوات.

ثم ركب فوق كتفي روكامبول وبلغ القبة، فأخذ الخنجر وجعل يحفر بالسقف، فما طال حفره حتى تنهَّد تنهُّد الرضى والارتياح؛ إذ وجد السقف مبنيًّا بالخشب وليس بالحجارة، ورأى في هذا الخشب أثر باب فقال: هذا المنفذ الذي نبحث عنه؛ فقد لقيناه.

٢٣

وعند ذلك وثب نادر عن كتف روكامبول إلى الأرض وقال: لنبحث الآن عما نحن فيه؛ فإني قد وجدت المنفذ في هذا السقف، وإذا دفعت بابه السري دفعة قوية فُتح، ولكننا لا نعلم إلى أين ينفذ هذا الباب، فإني أسمع منه أصواتًا كثيرة.

فقال روكامبول: أرى أن أموال الرجاه لم تدخل إلى القبو من منزل حسن، بل من هذا الباب السري؛ ولذلك أعتقد أن هذه الأصوات التي نسمعها هي أصوات قوم مخلصين للرجاه عثمان.

– وأنا أرى رأيك، ولكن كيف نستطيع أن نثبت لهم أننا نحن أيضًا من المخلصين للرجاه.

فتأوه روكامبول وقال: لقد أصبت فقد سرقوا مني الخاتم.

– وفوق ذلك فإني لا أستطيع الجزم بأن المال وصل إلى القبو من هذا المنفذ؛ فإننا قبل أن نصل إلى هذه القاعة رأينا طريق السرداب قد تشعبت إلى طريقين. ألا يمكن أن تكون الأموال وردت من الطريق الأخرى؟

– هو ما تقول، لكنا قد وجدنا منفذًا لإخراج الأموال.

– لا شك عندي ببسالتك؛ فقد عرفتك حق العرفان، ومن كان مثلنا لا تعترضه الصعاب.

– على ماذا عزمت؟

– على فتح باب السقف، لكن لا بد لي من خنجري؛ فإنه قوي النصل، فابْقَ في مكانك إلى أن أعود به.

ثم تركه وعاد مسترشدًا بالحبل الممدود إلى حيث شكَّ خنجره وربَط به طرف الحبل.

أما روكامبول فإنه بينما كان ينتظر عودته جعل يصغي إصغاءً تامًّا علّه يفهم شيئًا من تلك الأصوات التي كان يسمعها؛ فقد اختلطت وارتفعت بعد ذهاب نادر.

وكان روكامبول يعرف جميع لغات أوروبا، ويعرف الهندية ولغاتها المختلفة، غير أنه لم يفهم كلمة من تلك الألفاظ الغريبة التي كانت تخترق السقف إلى مسمعه.

فلما عاد نادر أخبره بما سمع، وبأن القوم يتكلمون بلغة لم يسمعها مرة من قبل.

فابتسم نادر وقال له: سأكون أسعد حظًّا منك؛ فإني لا تخفى عليَّ خافية من جميع لغات الهند.

ثم صعد فوق كتف روكامبول ووضع أذنه على السقف، فما أصغى هنيهة حتى أشرق وجهه بنور البِشْر وقال: لقد عرفتهم فهُم أصدقاء.

– من هم؟

– هم أبناء طائفتي؛ أي أبناء سيوا.

– كيف عرفت ذلك؟

– من اللغة التي يتكلمون بها؛ فهي اللغة السرية المقدسة التي لا يفهمها العوام، وإنما نحن الآن تحت معبد وهؤلاء الناس يصلون فيه؛ فإن هذه الساعة ساعة الصلاة.

– إذن نستطيع فتح الباب ولا خوف علينا.

– دون شك، ولكن الوقت لم يحن بعدُ، وخير لنا أن ننتظر فراغهم من الصلاة وخروجهم من المعبد.

– إذن لننتظر كما تشاء.

فنزل نادر عن كتف روكامبول ونظر في زيت المصباح، فرأى أنه لا يزال كافيًا للإنارة مدة ساعة، فاضطجع على الأرض قرب روكامبول ينتظر انتهاء الصلاة.

ثم أخذت تلك الأصوات تضعف تباعًا إلى أن انقطعت، فقال نادر: هو ذا أبناء سيوا قد أخذوا يذهبون.

– ألعل الصلاة قد انتهت؟

– نعم، وسوف تسمع الكاهن يقول: اذهبوا أيها المؤمنون؛ فإن الإله سيوا راض عنكم.

وقد تم ما قاله نادر؛ فإنه بعد هنيهة سمع الكاهن يقول لهم تلك العبارة، فقال: لقد تفرق المصلون؛ فهلم بنا إلى العمل.

ثم عاد إلى الصعود فوق كتف روكامبول، فعالج الباب بخنجره ودفعه بشدة ففتح.

٢٤

وشعر روكامبول أن رجلي نادر قد فارقتا كتفيه، ورآه قد اختفى في ذلك المنفذ الذي فتحه.

ولكنه لم يلبث أن ظهر له بعد حين فمد له يده وقال له: تعلق بي واصعد إلي.

فتعلق به روكامبول وصعد، فلما صار داخل المنفذ نظر إلى ما حواليه فرأى قاعة فسيحة نقشت على جدرانها رسوم غريبة مختلفة.

وكانت هذه التماثيل والرسوم تشبه الرسوم التي تنقش في معابد الإلهة كالي، غير أن الفرق بينهما أن رسوم الإلهة كالي تمثل الشر والفظائع والدماء، وهذه تمثل الخير والرحمة والسلام.

وكان هذا المعبد الذي دخلَا إليه مظلمًا لا نور فيه، ولكن نور الشفق كان ينفذ ضعيفًا إليه، فرأى روكامبول في جوانب تلك القاعة الفسيحة بعض التماثيل الموضوعة على الأرض فحسبها هنودًا يصلون.

وكان في وسط هذه القاعة تمثال عظيم جدًّا وتحت قدميه مصباح ضعيف النور تنبعث منه رائحة ذكية.

أما نادر فإنه أقفل الباب الذي فتحه ونظر إلى روكامبول فقال: إننا الآن وحدنا في هذا المعبد.

فعجب روكامبول وقال: كيف وحدنا؟ وأشار إلى التماثيل.

فابتسم نادر وقال: إنها تماثيل من الخشب والحجارة، ونحن الآن في معبد من معابد الإله سيوا، وهو كائن على شاطئ الحوض الأيسر في وسط المدينة السوداء.

– وهذه الأصوات التي كنا نسمعها؟!

– إنها أصوات المصلين، وقد انصرفوا بعد انتهاء صلاة الغروب.

– والكاهن؟

– إنه يقفل الأبواب الخارجية ولا بد أن يرجع.

– أرأيته؟

– كلا، ولكنه سينذهل حين يرانا.

– أيجب أن نستعمل الخنجر؟

– لا حاجة إليه، فإذا كان الكاهن هو الذي أعرفه فإنه سيكون في خدمتنا.

وفيما هما على ذلك سمعا صوت خطوات بعيدة، ثم رأيا الباب قد فتح ودخل منه رجل يحمل مصباحًا.

وكان هذا الرجل مرتديًا ثوبًا أبيض وعلى حقويه منطقة زرقاء، عاري الرأس، أبيض الشعر، تدل هيئته على أنه تجاوز الستين من العمر.

فلم يرهما حين دخل، ولكنه حين تقدم منهما ورآهما ذُعر ذعرًا شديدًا، وجمد الدم في عروقه، وجعل ينظر إليهما نظرات حائرة تدل على ما داخل فؤاده من الرعب، ولا سيما وقد رأى روكامبول وهو بملابس الإفرنج؛ فأيقن أن المعبد قد تدنس.

أما نادر فإنه تقدم منه وقال له: «كوريب».

وكان هذا الاسم اسم الكاهن، فلما سمع أنهم ينادونه باسمه اطمأن ورفع مصباحه ناظرًا إلى مَن يناديه، فلما عرفه ركع فجأة ومرَّغ وجهه بالأرض عند قدمي نادر، فعلم روكامبول مبلغ نفوذ هذا الرجل في تلك البلاد.

أما نادر فإنه أمر الكاهن أن ينهض، فنهض ووقف أمامه وقفة الخضوع والاحترام.

فقال له نادر: أتعرف من أنا؟

– إنك السيد وأنا العبد.

– إذا أمرتك أن تتكلم أتمتثل؟

– دون شك؛ ألم أقل لك: إني العبد وإنك السيد؟

– أيها العبد، إنك أقفلت أبواب الهيكل.

– نعم يا مولاي.

– ولكننا مع ذلك موجودون فيه، وليس للمعبد غير مدخل واحد. أتعلم من أين دخلنا؟

فاضطرب الكاهن وقال: كلا يا مولاي، ولكن الإله سيوا شديد الحَوْل كثير الاقتدار.

– إن الإله سيوا لا يتداخل في شئوني. ثم ضرب برجله على الأرض فوق الباب الذي فتحه وقال: إننا دخلنا من هنا.

فاصفر وجه الكاهن وجعل يضطرب وينظر إلى الباب نظر الحائر.

فجرد نادر خنجره وقال: لقد وعدت أن تتكلم فلا بد لك من الوفاء.

٢٥

غير أن خنجر نادر لم يرعب الكاهن كوريب، بل إنه نظر إلى نادر بثبات وقال له: أيها السيد، إنك عاقل حكيم، ومن كانت له حكمتك فهو يأذن لأتباعه بالإيضاح.

– إذن تكلم.

– إني بصفتي كاهنًا للإله سيوا أكون عبدك؛ لأنك رئيسنا الأعظم، ولكن بصفتي إنسانًا فإن لي علائق وعهودًا يقضي علي واجب الوفاء باحترامها، فأنت إذا أمرت الكاهن أطاعك وأجابك إلى ما تريد، وأما إذا أمرت الإنسان أن يبوح بسر مؤتمن عليه؛ فإن خنجرك لا يفيد في حمله على الإقرار.

فلم يغضب نادر لهذه الجرأة وقال: أصغِ إلي، أنت أيضًا تعلم أني لا أريد حملك على الإقرار إلا لقصد صالح، واعلم أن الرجاه عثمان كان صديق هذا الرجل الذي تراه معي.

فنظر الكاهن إلى روكامبول نظرة حذر.

وعاد نادر إلى الحديث فقال: وإن الرجاه عثمان أعطاه خاتمه.

فقال الكاهن: أين الخاتم؟

فقال روكامبول: لقد فقدته.

فابتسم الكاهن ابتسامة تدل على عدم التصديق، فقال له نادر: إن تريبورينو وزير الرجاه سرقه من هذا الرجل.

وكأنما اسم تريبورينو قد أثار العواصف في نفس الكاهن فقال: إن هذا ممكن؛ فإني لا أستعظم أمرًا من هذا الرجل الخائن، لكني لا أستطيع أن أبوح بشيء إلا إذا رأيت الخاتم.

فقال روكامبول: إني إذا كنت قد فقدت الخاتم فإن آثاره لا تزال مرسومة في إصبعي؛ فانظر علك تعرفه.

فنظر الكاهن في إصبع روكامبول فوجد ثلاث علامات حمراء نتجت من ضغط حجارة الخاتم على الإصبع فقال: إن الآثار قد تكون آثار خاتم الرجاه عثمان، ولكنها قد تكون أيضًا من غيره.

فقال له نادر: إذا كنت لا تصدقنا فإني أقنعك ببرهان آخر.

– ما هو؟

– هو أننا اكتشفنا كنز عثمان الذي كان بحراسة الشيخ حسن.

رأى نادر أن وجه الكاهن قد اصفر واضطرب فقال له: خفِّضْ من روعك؛ فإننا أصدقاء. عثمان مات، وإننا لا نريد إلا إنقاذ ثروته من الوزير.

فقال الكاهن: إذا كنتم تعرفون مكان الكنز الذي عهد إلي عثمان حراسته مع الشيخ حسن؛ فما تريدان أن أقول بعد ذلك، وماذا تبغيان منها؟

– إننا نريد أن تعيننا على إخراج هذه الأموال من مكانها.

فعاد الشك إلى الكاهن وقال لنادر: أتجيبني أيها الرئيس إذا سألتك أن تقسم لي يمينًا؟

– دون شك.

– ضع يدك على تمثال إلهنا سيوا.

وضع نادر يده فوق التمثال.

– أقسم لي بإلهنا أن خاتم الرجاه عثمان كان في إصبع هذا الرجل الذي يصحبك.

– إني أقسم لك بالإله سيوا أن الرجاه عثمان أعطاه خاتمه وأوصاه أن يأخذ المال.

فتنهد الكاهن تنهد الراحة كأنه أنزل عن عاتقه حملًا ثقيلًا وقال: مُر الآن، أيها السيد، بما تشاء فإني مستعد للطاعة والامتثال.

– إني أريد نقل الأموال من مكانها؛ فإن الشيخ حسنًا فقد صوابه، ولا بد للوزير من اكتشاف الكنز.

– إن ذلك سهل ميسور؛ فإننا نخرج الأموال من حيث أدخلناها.

– نعم، ولكن متى؟

– في الليلة القادمة.

– ماذا نصنع بالباب الحديدي، أنبقيه مفتوحًا إلى الغد؟

– ولكن كيف تمكنتما من فتحه؟

قص عليه نادر عند ذلك جميع ما اتفق له ولروكامبول مع حسن، وكيف احتالا عليه حتى فتح الباب.

فقال الكاهن: إني لا أعرف سر قفل الشيخ حسن، ولكن إذا أقفل بابه فإني أفتح بابي، وكلاهما يؤديان إلى الكنز. ألم تفتح باب السرداب بمزلاج حين كنت في قبو حسن؟

– نعم.

– وأنا أستطيع رفع المزلاج من داخل السرداب وفتح الباب الثاني؛ فلا يمنعنا إقفال باب حسن عما نريد.

– إذن تعال معنا.

ثم فتح نادر باب المعبد المؤدي إلى السرداب ونزل الثلاثة منه، فساروا يسترشدون بالحبل حتى وصلوا إلى مكان الكنز.

فكان البابان مفتوحين، وهما: باب السرداب، أي باب الكاهن، وباب حسن الذي يتصل إليه من قبو منزله.

فقال الكاهن: ادخلا الآن إلى قبو الكنز واقفلا الباب، وأنا أبقى خارجًا في السرداب، وسترى كيف أفتح الباب.

فدخل نادر وروكامبول وأقفلا الباب، ووضعا المزلاج مكانه ووقفا ينتظران.

أما الكاهن فإنه جعل يبحث في الظلام من الخارج عن باب خفي، فلما عثر به أداره فارتفع المزلاج وفتح الباب؛ فدخل الكاهن وقال لنادر: أرأيت كيف أني فتحته؟

قال نادر: لم يبق علينا خوف من إقفال باب الشيخ حسن، فتعال معنا الآن.

وكان حسن لا يزال صريع الأفيون، فأخرجوه من القبو، وأقفلوا باب الكنز، وأعادوا حجر القفل إلى ما كان عليه، ثم صعدوا بحسن إلى منزله.

فقال روكامبول: ماذا نصنع بحسن؛ فإنه مجنون ولا نأمن فلتات لسانه؟

فقال نادر: إننا سنرسله إلى محل أمين.

– ولكنه نائم.

– لا بأس فسنرسله في مركبة مقفلة.

ثم أمر الكاهن أن يذهب ويأتيه بمركبة مقفلة، فامتثل وعاد بها بعد حين وجيز.

٢٦

ولما جاءت المركبة حملوا حسنًا إليها وصعد الكاهن بعده، فقال روكامبول لنادر: أين نذهب الآن؟

– يجب أولًا أن نُحكم إقفال المنزل ثم تسير معي إلى منزلي.

– ألك منزل في كلكوتا؟

– نعم، وستكون فيه بمأمن من خيانة تريبورينو.

ثم دنا نادر من الكاهن وكلَّمه بلغتهم المقدسة السرية كلمات لم يفهمها روكامبول، وأشار له إشارة فانطلقت المركبة.

فقال له روكامبول: إلى أين أرسلت الشيخ؟

– إلى المعبد الذي كنا فيه؛ فإن الإنكليز أنفسهم لا يدخلون معابدنا، ومهما بلغت جسارة تريبورينو فهو لا يستطيع التفتيش عن الخياط فيه.

ثم أقفل نادر المنزل ونادى تلك الفتاة التي كانت لا تزال مقيمة عند عتبة الباب المجاور فقال لها: إذا سأل أحد عن الشيخ فقولي له إن أهله ذهبوا به إلى منزلهم لمعالجته.

وهذا هو مفتاح المنزل فأبقيه عندكِ؛ إذ قد يتفق أن يعود الجنود للبحث في هذا المنزل لاعتقادهم أن الشيخ حسنًا خبَّأ فيه كنزه، فإذا عادوا فأعطيهم المفتاح، وليبحثوا قدر ما يشاءون؛ إذ لا يوجد شيء مما يتوهمون.

ثم تركها وانصرف مع روكامبول إلى المدينة البيضاء.

ولكنهما قبل أن يجتازا المدينة السوداء مرَّا بخمارة ووقفا عند بابها، فرأى روكامبول دليلًا جديدًا على مبلغ نفوذ نادر؛ ذلك أن صاحب الخمارة أسرع إليه حين رآه وركع أمامه مقبلًا الأرض.

فأمره أن يقف، ثم دخل مع روكامبول إلى أحد غرف الخمارة المعتزلة وخلع ملابسه الهندية ولبس ملابس الإفرنج، ثم نظر إلى روكامبول وقال له وهو يبتسم: ألعلك منذهل مما تراه؟

– لا أنكر عليك؛ فإنك قد تغيرت كل التغيير بهذه الملابس حتى لا يشك من يراك أنك من الأوروبيين.

– إني كنت أقيم في لندرا وباريس بهذا الزي.

– كيف ذلك، أسكنت في باريس؟

– نعم، وكنت مقيمًا فيها في فندق موريس، وأتعشى في القهوة الإنكليزية حتى إنه كان لي فيها حكايات غرام؛ فقد عشقتني امرأة تدعى روميا.

فصاح روكامبول صيحة انذهال، فقال له نادر: ما سبب انذهالك؟ ألعلك عرفت هذه المرأة؟

– لا أعلم، أليس لها اسم آخر؟

– بلى، فإنها تلقب بالبستانية الحسناء، وإني أرى من توالي انذهالك أنك تعرفها.

– أعرف عنها أنها من أجمل النساء، ولكن ليست الحية السوداء التي تسعى في غابات هندكم بأشد خطرًا منها.

– هو ما تقول؛ فإني أعلم من هذه المرأة فوق ما تعلم، ولكنها لا تخاف في الوجود غير رجل واحد.

– ومن هو هذا الرجل؟

– هو أنا، وسأقص عليك جميع ذلك حين نصل إلى المنزل.

ثم عاد إلى ملابسه حتى أتم تنكره على ما يريد.

إن في الهند جنسين من الناس؛ أحدهما: الهندي البحت الذي لم تمتزج دماؤه بدماء الإفرنج. وهذا الجنس يشبه لون بشرته لون النحاس.

والجنس الآخر: هو الجنس الذي تزوجت أجداده بنساء الإنكليز؛ فجاء أحفادهم بيض الوجوه.

أما نادر فقد كان من هذا الجنس الأخير المختلط، فلما لبس الملابس الأوروبية أصبح كأنه من الإنكليز أنفسهم.

ولما أتم تنكره قال: هلم بنا الآن.

وخرج الاثنان من الخمارة وذهبا إلى المدينة البيضاء، وكانت تتألق في شوارعها المصابيح، حتى إذا وصلا إلى آخر شارع الحكومة، وهو أعظم شوارع كلكوتا، وقف نادر عند باب حديقة متسعة فأخذ مفتاحًا من جيبه وفتح الباب، فأسرع خادمان من الهنود إلى استقباله.

وقد عرف روكامبول من طريقة استقبالهما لمولاهما أنهما يعدانه من أشراف الإنكليز، ولا يعلمان أنه زعيم أبناء سيوا.

فأخذ الهنديان مصباحين وسارا في تلك الحديقة أمام نادر وروكامبول حتى بلغا إلى البيت، فدخل نادر بصديقه إلى قاعة متسعة مفروشة على النسق الإنكليزي، فجلسا قرب مائدة وقال له: لنشرب الآن الشاي، ثم أخبرك بقصتي مع البستانية الحسناء.

وعند ذلك أمر أحد الخدم باللغة الإنكليزية أن يحضر الشاي، فلما أحضره بدأ نادر يقص الحكاية قائلًا …

٢٧

إن الهند مثل جميع البلاد التي يجتاحها الفاتحون، ويتعاقب عليها الغزاة، وتتوالى فيها الغارات الأجنبية، وإن تتابع هذه الغزوات كثَّر فيها الأحزاب السياسية والعقائد الدينية.

وهي مختلفة المنازع، فإنك تجد بين أحزابها من يؤيد السيطرة الإنكليزية، وبينهم من يحاول طرد الإنكليز، وهنا فريق يدافعون عن استقلالهم ولا يخضعون إلا لزعماء يختارونهم من بينهم، وهناك جماعات لا تخضع إلا لأمراء الهند؛ إذ يجدون أحكامهم أخف وطأة من أحكام الإنكليز، إلى غير ذلك من الأحزاب المتشعبة والمنازع المتفرقة.

ولذلك تجد في الشارع الواحد من شوارع كلكوتا عابد الإلهة كالي وعابد الإله سيوا، والبوذي بجانب البراهمي، والمسلم إزاء المسيحي.

ومن أجل ذلك أيضًا حجبت السياسة ببراقع الدين؛ فإنك قد تجد كاهنًا من عُبَّاد سيوا وهو لا يعتقد بسيوا، وتجد زعيمًا للخناقين لا يؤمن بالإلهة كالي؛ لأنهم إنما يستخدمون هذه الأديان لبلوغ مآربهم السياسية.

على أن أشد هذه الطوائف الدينية وأعظمها سلطةً ونفوذًا طائفة الخناقين وطائفتي.

وقد رأيت علي رمجاه لأنك أنت الذي سلمته للإنكليز؛ فعرفتَه هنديًّا ظريفًا، وعرفتَ في لندرا السير جمس نافلي، والسير جورج ستوي، فوثقت أن بين الخناقين رجالًا من الذين يشار إليهم بالبنان في المجتمعات العالية والنوادي الشريفة.

فقاطع روكامبول نادرًا قائلًا: من أين علمت أني عرفت السير جمس، والسير جورج ستوي؟

فابتسم نادر وأجاب: لأني أتيت إلى لندرا بعد أن برحتَها بثلاثة أيام، وذلك منذ عامين، وعلمت هناك أن جماعة ادعوا أنهم من أبناء سيوا ألقوا الرعب في قلوب الخناقين.

وكنت أتيت إلى لندرا لمقاومتهم فيها، ورأيت أنهم قد غابوا وتضعضع شملهم، فأردت أن أعلم من هو هذا الغالب الجريء.

إن الإنكليز والفرنسيين مهما بلغ بوليسهم من الذكاء والتفنن في استطلاع الخفايا، فإنهم لا يُذكَرون بإزاء الهندي؛ ولذلك فإني لم أُقِم في لندرا ثلاثة أيام حتى عرفت كل شيء بمساعدة هنديين قدِما معي من الهند.

فانذهل روكامبول قائلًا: كيف عرفت كل شيء؟

– نعم، عرفت كل شيء حتى اسمك، فإنك فرنسي، وقد انتحلت اسمًا روسيًّا وهو الماجور أفاتار، أليس كذلك؟

– بلى.

– ولكن اسمك الحقيقي روكامبول؟

فاضطرب وأجابه: أتعرف هذا أيضًا؟

– بل أعرف أنك كنت من المجرمين، ومن شر رجال الإثم والموبقات، ولكنك تبت إلى الله توبةً صادقة، وأصبحت من أهل الخير والصلاح، فدفعت كثيرًا من الآثام بفضل ذكائك وبسالتك.

فانحنى روكامبول شاكرًا لهذا الثناء.

وعاد نادر إلى حديثه فقال: إني عرفت في لندرا جميع ما فعلته، وعرفت كيف أنك أخذت معك إلى باريس السير جورج ستوي، زعيم الخناقين السابق في أوروبا، وكيف أن امرأة مخلصة جذبت بمحاسنها ودهائها السير جمس، خليفة جورج ستوي في الزعامة.

إنك دمرت سلطة تلك الجمعية الهائلة، وقضى أسْرك لعلي رمجاه على كل سلطتها في أوروبا، لكنها عادت إلى تنظيم شئونها، وستعود إلى ما كانت عليه من الشرور الهائلة والآثام الفظيعة.

– وبعد لندرا، ألعلك تبعتني إلى باريس؟

– لم أتبعك على الفور.

– لماذا؟

– لأني كنت في حاجة إلى تنظيم جمعيتنا؛ فإنه يوجد لنا أعداء ألدَّاء في نفس عاصمة الإنكليز.

– ولكنك بعد ذلك اجتزت المضيق وأتيت باريس.

– نعم، فقد جئتها بعد شهر من سفرك بعلي رمجاه إلى الهند.

– وكم أقمت فيها؟

– ستة أشهر.

– وفي هذه المدة عرفت البستانية الحسناء؟

– نعم، فأصْغِ إلي الآن.

وعند ذلك قُرع باب القاعة التي كانا فيها ودخل خادم، فسأله نادر: ماذا تريد؟

– إن على الباب يا سيدي رجلًا هنديًّا أبيض الشعر يريد أن يراك.

– قل له يحضر في الغد.

– إنه يلح في مقابلتك، وقد طلب مني أن أذكر لك اسمه.

– ماذا يدعى؟

– كوريب.

فارتعش نادر عند ذكر اسم الكاهن، وطلب من الخادم إدخاله.

وبعد حينٍ، دخل الكاهن كوريب وعلى وجهه ملامح الاضطراب الشديد، فأطلق نادر سراح الخادم وسأل الكاهن: ماذا دهاك؟ ولماذا هذا الاضطراب؟

– إني فقدت شارتي.

– أية شارة؟

– الشارة التي أعلقها في عنقي.

فقطب نادر حاجبيه وقال لروكامبول باللغة الفرنسية: إن الشارة التي يتكلم عنها هي قطعة من النحاس يعلقها في عنقه بشريطة من الحرير، وهي العلامة التي يُعرَف بها أنه كاهن، فإذا اجتمع أبناء سيوا للصلاة في المعبد فلا بد له من إظهار هذه الشارة وإلا قتلوه.

– كيف ذلك؟

– ذلك لأننا لا نستطيع استعباد هؤلاء الناس إلا بمثل هذه الأوهام والخرافات؛ ولذلك فلا بد من إيجاد الشارة المفقودة.

ثم التفت إلى الكاهن وسأله: أين فقدت الشارة؟

– في بيت الخياط.

– إذن اذهب إلى البيت وابحث عنها فيه، وخذ مفتاحه من الفتاة المقيمة في البيت المجاور.

فانصرف الكاهن والرعب ملء فؤاده، وعاد نادر إلى تتمة حديثه مع روكامبول.

٢٨

أقمت في باريس أدرس أخلاق قومها وعاداتهم؛ لأني لم أكن أتيتها من قبل، فكنت أتنقل بين قهاويها ونواديها وملاعبها وحدائقها العمومية وكل مكان يجتمع فيه الناس.

وقد ذهبت ليلة إلى الأوبرا فرأيت في أحد ألواجها امرأة لم تقع العيون على أبدع منها.

فجعلت أنظر إليها نظر المعجب بهذا الجمال النادر، وقد ملكت شغافي وخلبت فؤادي بمحاسنها الفتَّانة.

وبينما كنت أنظر إليها رأيت أنها تنظر إليَّ نظرات لا تختلف عن نظراتي، كأنها كانت تستحسن مني ما استحسنت منها.

ولقد كان يقال لي إن لنظراتي سلطة سرية تجذب إليها أقسى النفوس.

فما تحققت هذا الكلام إلا في تلك الليلة؛ لأن هذه المرأة كانت تضطرب حين أنظر إليها اضطراب الحمامة إذ رأت بازيًّا ينقضُّ عليها، حتى خيل لي أني إذا أشرت إليها إشارة بيدي تركت لوجها وأسرعت إلي وهي تقول: مُرْ أُطع.

ولما انتهى التمثيل خرجت وصدري يلتهب غرامًا، فقلت في نفسي: إن النساء الأوروبيات لا زمام لهن، فلأسلو هذه المرأة بشرب الحشيش.

ثم ذهبت إلى فندق موريس الذي كنت مقيمًا فيه متنكرًا باسم أرثر كولدري، وهو الاسم الذي أدعى به هنا أيضًا حيث أقيم في المدينة البيضاء، فإن جميع قومها يحسبونني من أعيان الإنكليز، ولا يخطر لأحد في بال أنني نادر رئيس أبناء سيوا الأكبر.

ولما وصلت إلى الفندق دخلت إلى غرفتي فلم أستطع الرقاد، ففتحت النافذة وجعلت أنزه طرفي في الحديقة.

ومرت بي الساعات حتى أشرق الصباح وأنا واقف قرب النافذة أتأمل محاسن هذه الحسناء، فما شككت أن حبها قد جرى مجرى دمي في مفاصلي.

وفيما أنا على ذلك وقد أشرقت الشمس وملأت بأشعتها الفضاء إذ طرق باب غرفتي ودخل إلي الخادم برسالة.

ولم أكن أعرف أحدًا في باريس؛ لأني لم أكن فيها إلا منذ ثلاثة أيام، فعجبت لهذه الرسالة وأسرعت إلى فضها، فقرأت فيها باللغة الإنكليزية ما يأتي:

إذا كانت المرأة التي كانت أمس في الأوبرا قد أثرت بعض التأثير على السير أرثر كولدري، وإذا كان السير أرثر كولدري شجاع القلب، عزيز النفس، كتوم اللسان؛ فليحضر في الساعة العاشرة من مساء اليوم وراء الكنيسة الكائنة في الشارع الكبير، وهي كنيسة مدلين.

وهناك يجد امرأة غير المرأة التي رآها في الأوبرا، ولكنها هي التي أرسلتها؛ فليتبعها.

ولم يكن للرسالة توقيع، فكدت أطير من الفرح، وجعلت أعد دقائق النهار وساعاته بفارغ الصبر حتى حسبتها كالأدهار.

ثم انقضى النهار وأقبل الليل وأتت ساعة الاجتماع، فأسرعت إلى المكان المعين فرأيت امرأة مبرقعة الوجه دنت مني حين رأتني، فقالت لي باللغة الإنكليزية: أأنت السير أرثر؟

فأجبتها بصوت يتهدج: نعم، أنا هو.

– أترضى أن تتبعني؟

– إلى آخر الأرض.

فأخذت بيدي وسارت بي إلى عطفة في الشارع.

وكانت هناك مركبة فأصعدتني إليها ثم صعدت بعدي، فجلست بجانبي وأرخت ستائر المركبة وقالت لي: عليك شرط لا أستطيع أن أسير بك إلا إذا وافقتني عليه.

– ما هو؟

– لا بد لي من عصب عينيك.

– لماذا؟

– كي لا ترى؛ فلا تعلم المكان الذي أذهب بك إليه.

– أعصبي عيني كما تشائين، إني مستعد لكل شيء.

فعصبت عيني، وأمرت السائق بالمسير.

فسارت بنا المركبة نحو ساعة.

وكنت حديث العهد بباريس وشوارعها فلم أعلم أين أنا.

وما زلنا نسير حتى شعرت من صوت المركبة أنها دخلت تحت قبة، ثم شعرت أنها وقفت.

فقالت لي المرأة: لقد وصلنا، هات يدك.

– إذا كنا قد وصلنا فلماذا لا ترفعين العصابة عن عيني؟

– لم يحن الوقت بعدُ، اخرج الآن من المركبة.

فنزلت وقادتني بيدي إلى حيث لا أعلم.

ولكني كنت أشعر أني أمشي فوق الرمل، ثم تلا هذا الرمل سلم فاجتزناهما، وشعرت أن الهواء قد خفت رطوبته، ثم شعرت أني أمشي فوق طنافس مفروشة في الأرض، وبعدها فُتح باب ودخلنا منه، فرأيت من خلال العصابة نورًا نافذًا.

وعند ذلك قالت لي المرأة: ارفع العصابة الآن عن عينيك.

وتركت يدها من يدي فسمعت خطواتها تبتعد عني.

واستطرد نادر حديثه فقال …

٢٩

فتحت عيني فوجدت نفسي في غرفة نسائية تدعونها أنتم معاشر الإفرنج غرفة الزينة.

وكانت رائحة الطيب تفوح من الغرفة، وقد فرشت أرضها بأفخر أنواع الطنافس، وهي مزدانة بأجمل الرياش وأدق المصنوعات، مما يدل على الثروة وحسن الاختيار.

ولما فتح الباب وخرجت منه المرأة أقفل حالًا، ورأيت نفسي وحدي في الغرفة.

ولكن قلبي كان يحدثني بأن إلهة هذا المنزل تدنو من الغرفة التي أنا فيها، وقد صدق حديث قلبي؛ فما مرت بضع ثوان حتى رأيت سجفًا كان يستر بابًا قد أزيح، وبرزت منه تلك الفاتنة التي شغلت قلبي بجمالها وبتُّ بها من المغرمين.

وقد دخلت وهي تتهادى دلالًا وتبتسم ابتسامًا يفتن النساك، فمدت يدها إلي وقالت لي باللغة الإنكليزية: الحق، يا سيدي، أنك رجل شريف، فقد رضيت بجميع شروطي.

فوقفت أتأمل تلك المحاسن الجاذبة، وقد شغلت عن رد سلامها، فكان شغلي عنها بها.

أما هي فإنها جلست على مقعد شرقي وأجلستني بجانبها، ثم نظرت إلي وقالت: أسألك العفو يا سيدي لقد جُرْت عليك بعصْب عينيك على فرط ثقتي بإخلاصك ووفائك، غير أني فعلت ذلك مكرهة مضطربة؛ فإني معرضة نفسي بحبك لخطر الموت.

– كيف ذلك؟

– نعم، إن زوجي غيور، وإذا علم بأمري لا أنجو من الموت.

– هذا شأن أغلب الأزواج يا سيدتي. هل تريدين أن أقتله؟

– لقد راق لي كلامك، وهو يدل على ما توسمته فيك من البسالة.

ثم ابتسمت وقالت: كلا، لا أريد أن يموت هذا الزوج، ويكفيه ما هو فيه.

وكانت في تلك الغرفة التي تقيم فيها آنيتان غرست فيهما أزهار علمت من عطرها أنها أزهار هندية وقلت في نفسي: لا شك أنها عرفت من أنا فاختارت تلك الأزهار إرضاءً لي، وهي غاية ما تتناهى إليه سلامة الذوق.

غير أن رائحة الأزهار كانت شديدة حتى إني كنت أشعر أنها تفعل بي ما تفعل الخمر في رءوس الشاربين.

وكانت جالسة بجانبي، ووضعت يديها بين يدي وجعلت تبتسم لي ابتسامًا حلوًا وتقول: إني ما رأيتك غير ساعة أمس في الأوبرا، ولكن قلبي تحت مطلق سلطانك.

فأجبتها بما أملاه علي الغرام من عبارات الحب الصادق.

وفيما أنا أناجيها وأغازلها قاطعتني فجأة وقالت: إني غريبة الأطوار، كثيرة التقلب، ولكني قد أحبك حبًّا طويلًا؛ فهل تحبني أنت؟

– إني أحبك حبًّا لا تصفه أقلام الشعراء.

– أتثبت في حبي؟

– ما بقي لي ذرة من الحياة.

فأطرقت هنيهة إطراق المفكر ثم قالت: لقد طالما سمعت مثل هذا الكلام ثم أسفرت الأيام عن ضده، ولكن يقال إنكم معشر الإنكليز موصوفون بالثبات، وسنرى.

وأقمت معها ساعتين وأنا أسكر سكرين من ألحاظها وأزهارها.

ثم تغلبت رائحة الأزهار علي ونمت نوم السكران وأنا لا أعي على شيء.

غير أنه خُيل لي حين أطبقت عيني أني رأيت بابًا قد فتح وبرز منه رجل أصفر الوجه نحيل يشبه الخيال، فوقف على عتبة الباب ونظر إلي نظرات تشفُّ عن الرعب والغضب.

ولم أعد أفقه شيئًا بعد ذلك؛ إذ أطبقت عيناي واستغرقت في سبات عميق.

ولما فتحت عيناي شعرت بهواء بارد يهب على وجهي ويرتجف له كل جسمي.

ذلك أني وجدت نفسي نائمًا على مقعد من مقاعد المنتزهات العمومية في باريس لا يظلني غير السماء، وكان ذلك عند بزوغ الفجر، فانتبهت منذعرًا مضعضع الرشد، ولكن لم يطل بي الأمر حتى جمعت حواسي وذكرت حوادث ليلتي.

وكانت يدي موضوعة في جيبي كأنها وضعت خاصة، وشعرت بأنها تلمس ورقة، وأخرجت الورقة فإذا هي رسالة؛ ففتحتها وقرأت ما يأتي:

أخيِّرك بين أمرين؛ وهما: إما أن نفترق فراق الأبد فلا تراني بعد الآن، أو تقبل بشروطي.

انظر في خبايا قلبك واستشر فؤادك، علَّك تجد من غرامه ما يدعوك إلى الامتثال.

واعلم أنك إذا رضيت أن تكون عبدًا لي أكون أمَةً لك.

وشروطي هي أن لا تبحث كي تعرف مَن أنا، وأن لا تذكر اسمي أمام أحد من الناس.

ومن شروطي أنك مهما رأيت من الغرائب في منزلي لا تحاول اكتشاف أسرارها، وتنظر إليها نظرك إلى الأمور العادية المألوفة.

هذه هي شروطي، وإذا راق لك الخضوع لها فاحضر في الساعة العاشرة من مساء اليوم إلى نفس المكان الذي أتيت إليه أمس؛ تجد تلك المرأة نفسها تنتظرك في مركبتها وتحملك إلي.

إذن الوداع أو إلى اللقاء، ولك الخيار.

روميا

فقلت في نفسي حين قرأت الكتاب: إني ذاهب دون شك؛ لأن جمال هذه المرأة لا يزال ضاغطًا علي، وفوق ذلك فقد ذكرت ذلك الباب الذي فُتح وذلك الخيال الذي ظهر منه ونظر إليَّ تلك النظرات، فهاج مني حب الاستطلاع وقلت: لا بد لي من الذهاب.

٣٠

وفي المساء، ذهبت إلى الملتقى فرأيت المرأة نفسها في المركبة، فعصبتْ عيني كما فعلت في الليلة السابقة، وسارت بنا المركبة في الطريق التي سارت فيها ليلة أمس.

وجعلت أفتكر والمركبة سائرة بنا في أمر هذه المرأة، فقلت في نفسي: إنها تريد أن تحبني بشرط أن لا أحاول الوقوف على أسرارها، وهو شرط عادل؛ لأن لكل إنسان حقًّا بصيانة أسراره، ولماذا لا أطيعها؟

وكنت وأنا أفكر هذا التفكير مخلصًا لها، عازمًا عزمًا أكيدًا على الوفاء بوعدي وأن لا أتعرض لشيء من أسرارها.

ثم وقفت المركبة وأخذت المرأة المبرقعة بيدي وأدخلتني إلى ذلك المنزل السري.

وقد حدث كل شيء كما حدث في الليلة السابقة؛ فإني دخلت إلى الغرفة ورأيت النور من خلال العصابة، وأُمرت بنزع العصابة عن عيني، فلما نزعتها وجدت نفسي منفردًا في نفس الغرفة التي كنت فيها أمس.

وقد وجدت الآنيتين في موضعهما، ودنوت منهما، وجعلت أفحص الأزهار فحص الخبير، وعلمت أن كل نوع منها خاص للتنويم.

وكنت أعرف هذه الأزهار من بلادنا، وعلمت أن رائحتها إذا دخلت إلى الرئتين لا يستطيع من يشمها مقاومة النوم مهما بذل من الجهد.

غير أني علمت أن لهذه الأزهار دواء خاصًّا إذا شربه من يشمها أبطل تأثيرها.

ولكن أين لي أن أستحضر الدواء وأنا في الغرفة شبه سجين، فقلت: لا بد من الصبر إلى الغد لاكتشاف تلك الأسرار.

وأقمت في الغرفة وحدي عشر دقائق ثم أقبلتْ روميا، فتمثلت لعيني أجمل مما رأيتها أمس، وكان لي معها ما كان في تلك الليلة؛ لأن الدوار جعل يتولاني شيئًا فشيئًا من رائحة الأزهار، وطرت من عالم الحقائق إلى عالم الأحلام، ورأيت ذلك الخيال الذي برز لي أمس.

غير أني في هذه المرة سمعت الخيال يتكلم، ولا أدري إذا كان ذلك لأن الأزهار لم تؤثر تأثيرها أمس، أو أن الخيال جاء حقيقةً، أو إذا كان ذلك مما مثلته لي سكرة الأزهار.

أما ما سمعته، فهو أن الخيال دنا من روميا وقال لها بصوت يتهدج: إن قلبك لا يعرف الرحمة والإشفاق.

فكان جواب البستانية الحسناء أن ضحكت ضحك الهازئ.

أما الخيال فقد سمعت وأنا مطبق العينين أنه ركع أمامها وقال لها: لكنك تعلمين أني أحبك.

ولم تجبه، بل إنها ضحكت ضحكًا عاليًا.

ولم يكن قد بقي لي من حواسي غير حاسة السمع، فسمعت الخيال يقول: ألا يكفيك أنك تصدين غرامي؟ فما بالك تقطعين قلبي بالغيرة وتعطفين على هذا الرجل أمامي؟ إنك لست من النساء، بل أنت حيوان مفترس.

وعادت روميا إلى الضحك دون أن تجيب.

أما أنا فإني بذلت كل ما في وسعي من الجهد كي أفتح عيني، فذهب جهدي عبثًا، وبدأ الطنين في أذني فلم أعد أسمع غير أصوات متقطعة من الخيال تدل على يأسه، وأصوات ضحك المرأة وهزئها بهذا الرجل المنكود.

ثم تغلب علي النوم، فلما استيقظت وجدت نفسي على مقعد خشبي في حديقة الشانزليزيه، ورأيت في جيبي رسالة موجزة كُتب فيها ما يأتي:

إلى اللقاء في هذا المساء في نفس الساعة والمكان. أحبك.

روميا

وعدت إلى الفندق وقلت في نفسي: سأعرف هذه الليلة كل شيء.

ولقد تقدم لي الكلام أني عرفت سر تلك الأزهار، وأني أعرف الدواء الذي يبطل تأثيرها.

فاستحضرت هذا الدواء وعزمت على الذهاب إلى تلك الحسناء لوثوقي من كشف أسرارها.

ولما حانت الساعة المعينة ذهبت إلى ما وراء كنيسة مدلين، وركبت المركبة مع المرأة المبرقعة التي كانت تنتظرني، وذهبت معها إلى روميا.

وهناك رفعت العصابة فلم أجد أحدًا، ووقفت عند الأزهار أراقبها.

وقد لقيت في الآنيتين أزهارًا هندية، ولكنها كانت غير الأزهار التي عرفتها أمس واستحضرت الدواء الخاص لإبطال تأثيرها، فأيقنت أن لا فائدة من هذا الدواء، وأن هذه المرأة الهائلة قد رأتني أمس أراقب أزهارها فتوقعت ما فعلتُه واستبدلتها بسواها.

٣١

ولم يخطر الدواء ببالي، ولم أكن أريد استعمال العنف معها حذرًا من العواقب؛ لأني ما أتيت باريس لمثل هذه الشئون.

ثم خطر لي أن لهذه المرأة مطلق الحق بكتمان أسرارها، لا سيما وأنها اشترطت علي أن لا أتعرض لها، ورضيت بشروطها، فإذا حنثت بعهودي أكون من الخائنين.

غير أن هذا الخيال الغريب ومظاهر يأسه وسائر أحواله قد أثَّرت علي تأثيرًا شديدًا، وهاجت بي عواطف الفضول فتغلبت على عهودي.

وكنت واثقًا أن الزهور الجديدة التي وضعتها روميا في الآنيتين ستؤثر بي نفس تأثير الزهور السابقة، وأنه لا سبيل إلى اتقاء تأثيرها، ولا بد لي من النوم كما نمت من قبل.

فتأملت هنيهة ووضعت خطة للاستطلاع رأيتها ميسورة، وذلك أني رأيت وراء الآنيتين ستائر من الحرير، ووراء الستائر نافذة من زجاج.

فأزحت الستائر وقطعت الزجاج بخاتم من الماس، ووضعت القطعة التي كسرتها على الأرض برشاقة واعتناء، فنفذ الهواء إلى الغرفة، والهواء الطلق خير واقٍ من تلك الأزهار.

ثم أعدت الستائر إلى ما كانت عليه إخفاءً للثقب، وعدت إلى مكاني أنتظر عودة تلك الحسناء.

وبعد حين، فُتح الباب ودخلت، ولكنها لم تكن تبتسم حسب عادتها، بل كنت أرى النار تتوقد في عينيها.

ومع ذلك فإنها جلست بقربي وقالت لي ببرود: إنك يا سير أرثر كولدري رجل سافل دنيء.

فوقفت عند هذه الإهانة كأني قد تكهربت وقلت: سيدتي، ماذا تقولين؟

– أقول: إنك رجل سافل؛ لأنك نكثت بعهودك ولم تَفِ بما تقيدت به من العهود.

فجعلت أنظر إليها نظرات الذهول دون أن أجيب.

أما هي فإنها استأنفت الحديث وقالت لي بلهجة ذكَّرتني هُزْءَها بالخيال: إنك أردت أن تعرف ما منعتك عنه من أسراري.

– نعم.

– ولذلك كسرت زجاج النافذة كي يدخل الهواء الطلق إلى الغرفة فيمنع تأثير الأزهار ولا تنام؛ بحيث تستطيع أن ترى الخيال. أليس كذلك؟

ثم ضحكت ضحكًا مغتصبًا دلَّ على مبلغ انفعالها وقالت: بلى، إنك سوف تنظر ما تريد أن تنظر، ولكنك لا تنظر شيئًا بعده.

فقلت في نفسي: إن هذه المرأة تؤنبني أشد تأنيب، ولكن لا سبيل إلى اعتراضها؛ فإنها مصيبة، وإنما الذنب علي لنكثي عهودي.

وعادت روميا إلى الحديث فقالت: إنك تريد أن تعرف، يا سير أرثر، هذا الرجل الذي أعذبه وأصليه نار حقدي وانتقامي. إذن اعلم أن هذا الرجل يحبني، وأنه قتل من أجل حبه لي الرجل الذي كنت أهواه. ألعلك راضٍ الآن عن هذا الإقرار؟

فخجلت لفضولي، وعلمت إساءتي إلى هذه المرأة فقلت لها: أسألك العفو يا سيدتي فلا أعود إلى الفضول بعد الآن.

فقاطعتني وهي تضحك ضحك الساخر وقالت: إنك تكلمني عن المستقبل كأن المستقبل لك، ولكن هيهات؛ لقد فات الأوان.

ثم قرعت جرسًا كان أمامها وقالت لي وأنا أنظر إليها مبهوتًا: إني لا أحب يا حضرة السير أرثر أن تفشي أسراري؛ ولذلك حكمتُ عليك بالموت.

ولم تكد تتم كلامها حتى فُتح الباب ودخل منه رجلان وانقضا علي.

وإني أعهد نفسي قادرًا على مقاومة اثنين، غير أن هجومهما علي كان فجأة دون انتظار؛ فلم أتمكن من الدفاع، وألقياني على الأرض قبل أن أراهما.

وعند ذلك قالت لهما روميا بملء البرود: تعلمان أني لا أحب الدماء، اخنقاه خنقًا.

فأخذ أحد الرجلين العصابة التي عصبت بها المرأةُ عينيَّ في الطريق ولفَّها على عنقي.

ولكن قبل أن يضغط على عنقي التقت عيني بعينيه، وصاح كلانا صيحة واحدة.

فقلت: هذا أنت يا ناجلي؟

– مَن أرى؟ أأنت الرئيس؟

ثم نهض عني لفوره وقال لرفيقه: قُم عنه؛ هذا هو الرئيس.

فنهض الرجل منذعرًا، وجعل الاثنان يفكان قيودي.

أما روميا فإنها بهتت ونظرت إلى الرجلين وقد وقفا أمامي وقفة الاحترام فاضطربت وقالت: وَيْحكما أيها الشقيان؛ ماذا تفعلان؟

فقال لها ناجلي: إنه الرئيس!

ثم نظر إلي وقال: أتريد أن أقتل هذه المرأة؟

فاتَّقدت عيناي عند ذلك ولم أعد ذلك الشريف الإنكليزي الخامل، بل صرت الرئيس الهائل، فنفذت نظراتي النارية كالسهام إلى الهندي وروميا، وطأطأ كلاهما الرأس يسألان العفو.

٣٢

وهنا اختلف مقامنا، وصارت العبدة وصرت السيد.

أما ناجلي فإنه بعد أن التمس مني العفو جرَّد خنجره وركع أمامي فقال: أيجب أن أقتل هذه المرأة؟

– كلا، اذهب الآن، وإذا احتجت إليك ناديتك.

وخرج ناجلي مع رفيقه وبقيت مختليًا مع روميا.

وكانت روميا تضطرب لنظراتي اضطراب الحمامة لنظرات البازي، وتتوقع صدور حكمي، ولعلها أول مرة في حياتها لقِيتْ مثلَ هذا الخوف، فوضعتُ يدي على كتفها وقلت لها: مَن حسبتِ أني أكون؟

فنظرت إلي مضطربة وقالت بصوت يتهدج: لا أعلم من أنت، ولكني ما خضعت لنظرات رجل في حياتي كما أخضع الآن لنظراتك السحرية.

فابتسمت وقلت: كيف استخدمت هذين الرجلين؟

– جئت بهما من الهند.

– ألعلك ذهبت إلى الهند؟

– نعم.

– متى؟

– منذ خمسة أعوام.

– ما كان غرضك من الذهاب إليها؟

– معرفة طبائع الزهور السامة ودَرْس السموم على اختلافها.

– ولماذا التعذيب لهذا الرجل الذي لقيته عندك في الليلة الماضية؟

– نعم؟ ليس لي على سؤالك من جواب.

– إذن تكلمي فإني أريد أن أعرف كل شيء.

وكانت واقفة أمامي مطرقة الرأس يدل اصفرار وجهها على ما لقِيَتْه من الخوف.

ثم ظهر أنها قد تغلبت على خوفها؛ فإنها تجاسرت على النظر إلي وقالت: مَن أنت أيها الرجل الذي يركع أمامك رجلان كنت أحسب أنهما يؤثران الموت على عصياني؟

– لست إنكليزيًّا، بل أنا هندي واسمي نادر.

ورأيت أن اسمي لم يؤثر عليها فقلت لها: سلي عني ناجلي يخبرك من أنا!

ثم ذهبت إلى النافذة التي كسرتُ زجاجها ففتحتها وجعلت أستنشق الهواء الطلق.

وكانت النافذة تشرف على حديقة فقلت: أين أنا؟

– أنت في منزلك.

وكانت نبرات صوتها حين قالت هذا القول تدل على الإخلاص الأكيد، والحب الصادق، ولعلها قدرت نفوذي وسلطاني عليها فتولدت في نفسها عواطف الخضوع والحب والاحترام لي، وهي عواطف قد تنطبع في نفس المغلوب إزاء الغالب.

أما أنا فقلت لها بجفاء: إني أريد الخروج من هنا.

فنظرت إلي نظرة كشفت لي خبايا نفسها وقالت: كُنْ مَن تشاء من الناس ومُرْ بما تشاء فأمتثل، فإني غدوت أمةً لك.

– إنك أردتِ لي الموت؛ فلا أحبك بعد الآن.

– ولكن إخلاصي سيشفع بجريمتي، وسأتبعك إلى حيث تريد كما يتبع الكلب الأمين مولاه.

فقلت لها بلهجة الآمر: كلا، بل أريد أن أخرج من هنا.

فتنهَّدت تنهُّدًا طويلًا، ورأيت الدمع يتساقط من عينيها، ولكني تركتها ومشيت إلى الباب وناديت ناجلي.

وأسرع إلى تلبيتي فقلت له: سِرْ بي إلى خارج البيت.

والتفت قبل ذهابي فرأيت روميا جاثية وهي تنظر إلي، ولكني لم أحفل بها وخرجت من البيت يتقدمني ناجلي.

ولما وصلنا إلى الشارع قلت له: عُدْ إلى البيت وابق في خدمة هذه المرأة.

– إذن ألا تريد أن أقتلها؟

– كلا! وانصرفت.

وكان البيت الذي أُدخلت إليه معصوب العينين كائنًا في الشانزليزيه كما رأيت عند خروجي منه.

وعرفت الطريق، وعدت توًّا إلى فندق موريس الذي كنت مقيمًا فيه، وشعرت أني قد أخطأت مع هذه المرأة وأسأت إليها؛ فإن الانتقام حق مقدس، ومن الظلم أن أحمي ذلك الرجل الذي قتل حبيبها، فأقسمت على أن أعود إلى هذه المرأة ولا أتداخل بشأن من شئونها.

وقد توهمت أن حبها زال من قلبي بعد أن أرادت قتلي، ولكني كنت مخطئًا في هذا الوهم؛ فإني أصبحت في اليوم التالي وأنا أشد بها افتتانًا من قبل.

ولكني تجلدت ونازعتُ نفسي ثلاثة أيام فما ذهبت إليها ولا حاولت أن أراها.

وفي اليوم الرابع، رأيت باب غرفتي قد فُتح في الصباح ودخلت منه تلك البستانية الحسناء.

وهنا توقف نادر عن إتمام قصته مع روميا وقال لروكامبول: سأتم لك قص هذه الحكاية وسأخبرك بما أريده منك اليوم الذي نسافر فيه إلى أوروبا.

أما الآن، فقد تقدم الليل، وأنت محتاج إلى الراحة لا سيما ونحن في حاجة إلى التفكير بطريقة نقل كنوز الرجاه غدًا.

ثم نادى أحد خدمه وأمره أن يذهب به إلى الغرفة التي عينها لمبيته.

وفي مساء اليوم التالي جاء نادر وقال: كل شيء قد تهيأ؛ فهلمَّ بنا.

وكان قد تأهب في النهار واتخذ ما ينبغي من التدابير؛ فإن روكامبول رأى رجلًا لم يعرفه قد زاره في منزله، ولكنه علم أن هذا الرجل الذي كان متنكرًا بزي الإنكليز لم يكن منهم، بل كان من الهنود.

وقد علم أنه من أعوان نادر السريين، وأن نادرًا أصدر إليه أوامر سرية بشأن كنز الرجاه.

وخرج نادر وروكامبول من المنزل، فلما كانا في الطريق قال نادر: إني أعددت سفينة في الحوض لنقل الأموال إليها من السرداب السري.

ويوجد في هذه السفينة اثنا عشر هنديًّا من المخلصين في خدمتي، فمتى نقلت الأموال إلى هذه السفينة تخرج بها من الحوض إلى السفينة الكبرى التي أعددتها للسفر بالأموال إلى أوروبا.

فاستحسن روكامبول الخطة، واجتاز الاثنان المدينة البيضاء إلى المدينة السوداء حتى انتهيا إلى تلك الخمارة التي غيَّر فيها نادر زيَّه.

فدخل نادر إليها وخرج منها بعد حينٍ بملابس الهنود، فسار الاثنان إلى المعبد حيث كان ينتظرهما الكاهن كوريب.

ولما بلغا منتصف الطريق صفَّر نادر بفمه صفيرًا خاصًّا.

وكان هناك رجل هندي نائمًا على الأرض، فوقف عندما سمع الصفير وأسرع إلى نادر، فرآه روكامبول وعرف أنه هو ذلك الرجل الذي زار نادر في منزله وهو متنكر بملابس الإنكليز.

أما نادر فإنه قال له: ليذهب رجالك توًّا إلى المعبد.

فانحنى الهندي إشارةً إلى الامتثال وتوارى في الظلمات.

وبعد حين وصل الاثنان إلى المعبد، فوقف نادر وقفة الحائر وقال لروكامبول: أرى المصباح مُطفئًا في المعبد.

فقال له روكامبول: أي مصباح تعني؟

– المصباح الذي يجب أن يضاء ليلًا ونهارًا في المعبد؛ فإن أشعته تنفذ عادةً من خلال النوافذ، ولكني لا أرى شيئًا.

وقد ظهرت على نادر علائم القلق، فنادى الكاهن كوريب من الخارج مرارًا فلم يجب.

وكان لديه مفتاح للمعبد ففتحه ودخل مع روكامبول، فلم ير غير ظلمات، وجعل ينادي كوريب فلم يجبه غير الصدى.

وعند ذلك أنار مصباحًا ومشى به إلى وسط المعبد حيث كان باب السرداب السري، فأجفل وصاح صيحة يأس وقال: يا للخيانة!

ذلك أنه رأى ذلك الباب السري الذي ينفذ منه إلى باب قبو الكنز مفتوحًا، فما شك بعد أن رأى انطفاء المصباح المقدس أن الخيانة حدثت لا محالة.

فقال لروكامبول: هلم معي، فلا حاجة إلى التأمل. ثم نزل أمامه إلى السرداب وبيده مصباح وخلفه روكامبول، فسارا في السرداب الذي تقدم وصفه حتى وصلا إلى باب القبو الحديدي، فتنهدا تنهد المنفرج لأنهما رأيا الباب مقفلًا.

غير أن نادرًا أدنى مصباحه من الأرض وجعل يفحص التراب، فصاح صيحة منكرة وعاد إلى الوثوق من الخيانة وسرقة الكنز.

– ماذا رأيت في الأرض؟

– رأيت أثر أقدام.

فأخذ روكامبول المصباح منه، وفحص تلك الآثار فحص العارف الخبير، فتبين له أنها كانت غارقة في التراب؛ مما يدل على أن أصحابها كانوا يحملون أحمالًا ثقيلة فتنغرس أقدامهم في الأرض لثقل الوطأة.

ومع ذلك فإن الباب كان مقفلًا، فخطر لنادر أن يمتحن امتحانًا آخر لا يبقى بعده مجال للشك، وقد ذكر أن الكاهن كوريب قد أدار لولبًا في الجدار من الخارج فسقط المزلاج وفتح الباب.

وجعل يبحث عن اللولب مدة طويلة حتى عثر به وأداره وفتح باب القبو على الفور.

ودخل نادر وروكامبول إلى القبو المخبوء فيه الكنز، ولكنهما ما لبثا أن دخلا حتى تراجعا منذعرين واجفين؛ وذلك أنهما لم يجدا أثرًا لكنز الرجاه عثمان.

٣٣

وبعد أن ثابا من دهشتهما الأولى جعل كل منهما ينظر إلى الآخر نظر الحائر المضطرب؛ فإن القبو لم يبق فيه شيء على الإطلاق من أثر الكنز.

فقال روكامبول: من تظنه سرق الكنز؟

– إني واثق من وفاء الكاهن كوريب؛ فإن الخيانة لا تخطر له في بال، وإن هذا الكاهن قد احتجب، فكيف تمكنوا من الوقوف على سره؟ إن هذا من المشكلات التي يعسر حلها، ولا يتيسر لي إدراكها إلا متى علمت ماذا جرى له.

وكان باب القبو المؤدي إلى بيت الشيخ حسن مقفلًا، وهو من الحديد الضخم فلا سبيل إلى فتحه أو كسره؛ ولذلك رجع الاثنان على عقبيهما في السرداب، وبعد نصف ساعة وصلا المعبد.

فجعل نادر يبحث ومصباحه بيده في جميع أنحاء المعبد عن الكاهن كوريب فلم يجده.

ولما علم أنه لا فائدة من البحث خرج مع روكامبول من المعبد وهو مضطرب البال لاختفاء كوريب والخياط؛ إذ كان أمره بوضعه في المعبد.

وكان هذا المعبد مبنيًّا في مكان معتزل لا يجاوره غير بعض بيوتٍ معظمُ سكانِها من المسلمين، وهم لا يكترثون لعبادة سيوا ولا يهتمون بأبنائه.

فدنا نادر من البيت المقابل للمعبد وطرق بابه، ففتح له رجل بيَّضت شعرَه السنون وسأله عما يريد.

فقال له نادر: بأي دين تدين؟

– إني أؤمن بالله واليوم الأخير.

– ألعلك تعرف الكاهن كوريب؟

فابتسم الشيخ وقال: إني أعرفه منذ خمسة وعشرين عامًا، وفي كل يوم نلتقي.

– أتعرف أين هو؟

– إني رأيته اليوم آخر مرة عند غروب الشمس، وقد دخل إلى المعبد مع شيخ عرفته، وهو الشيخ حسن الخياط، ثم رأيته خرج وحده.

– وحسن، أبقي في المعبد؟

– نعم.

– وكوريب، ألم تعلم عنه شيئًا؟

– كلا، ولكني رأيته حين خرج من المعبد كثير الاضطراب.

فنظر نادر إلى روكامبول قائلًا: لقد كان اضطراب الكاهن لفقده العلامة، وكان في ذلك الحين قادمًا إلي.

ثم عاد إلى محادثة الشيخ فسأله: ألم تر أحدًا دخل إلى المعبد؟

– بلى، قد رأيت في الساعة العاشرة من المساء كثيرين من عباد سيوا دخلوا إليه، وبعد أن دخلوا أقفلوا الأبواب، ثم أطفئوا المصباح.

– أتذكر كم أقاموا في المعبد؟

فانذهل الشيخ وقال: إنهم لا يزالون فيه.

– كيف ذلك؟ ألم ترهم خرجوا منه؟

– كلا.

فقال نادر لروكامبول: إن الأمر غريب، ولكني عرفت الحقيقة فيما أظن.

– كيف ذلك؟

– ذلك أنهم دخلوا من المعبد وخرجوا من السرداب.

– نعم، ولكن جميع ذلك لا يهدينا إلى كوريب وحسن.

– إن حسنًا كان سكران، فقد يكونون حملوه على الأكتاف.

– وكوريب؟

– سنهتدي إلى آثاره من بيت الشيخ حسن.

ثم تركا ذلك الشيخ وذهبا إلى بيت الخياط، وهناك وجدا تلك الفتاة التي أعطاها نادر مفتاح البيت وسألها عن المفتاح.

فقالت له: إني دفعته إلى رجل شيخ جاء يطلبه باسمك.

– وماذا فعل؟

– إنه دخل إلى المنزل.

– ألم تريه خرج منه؟

– كلا.

فزاد الإشكال وأعجم هذا السر على نادر، غير أن الفتاة قالت: لقد دخل في أثره كثير من الرجال.

فقال لها نادر: ومن هم هؤلاء الرجال؟ أعرفت أحدًا منهم؟

– نعم، عرفت اثنين منهم، وهما اللذان كانا يتوليان قيادة الجنود الذين كبسوا بيت حسن في طلب الكنز وأخذوا غلامه.

فقال نادر لروكامبول: لقد ظهرت يد تريبورينو ولم يبق مجال للشك.

ثم قال للفتاة: وماذا جرى بعد ذلك؟

– إنهم طرقوا الباب ففتح لهم الشيخ فدخلوا، وبعد ساعة خرجوا من المنزل وساروا في طريق الترعة.

– والشيخ؟

– لم أره بينهم، وهو في المنزل دون شك.

فتركا الفتاة وذهبا إلى منزل حسن وطرقا الباب، فلم يفتح لهما أحد، ولكنهما سمعا من ورائه صوتًا يشبه غطيط النائم.

وكان نادر قوي العضل، شديد الأعصاب، فدفع الباب بكتفه دفعة قوية فانفتح، ودخل الاثنان إلى المنزل فوجدا الكاهن كوريب مُلقًى على الأرض، ووجدا بالقرب منه ذلك الكأس الذي وضع فيه نادر الشراب لحسن كي يحمله على الإقرار بسره بعد شربه.

وكان حسن قد شرب جرعة من ذلك المزيج وبقيت بقيته في الكأس.

فنظر نادر إلى الكأس فرآه فارغًا، فعلم أن الكاهن عاد يبحث عن العلامة التي فقدها في منزل حسن، وكان ظمآن فشرب ما وجده في الكأس، ولما دخل أعوان الوزير الذين كانوا يراقبون المنزل كان الشراب قد أثَّر بالكاهن، فوقفوا منه على سرِّه بهذا الاتفاق الغريب.

وقد تأثر نادر تأثُّرًا شديدًا مما أصابه من الفشل، ولكنه نظر إلى روكامبول وقال: إن الأمر لا يدعو إلى القنوط، وإذا لم يكن الوزير قد برح الهند فلا بد لنا من استرجاع الكنز.

٣٤

وكان روكامبول قد بات شديد الثقة بنادر منذ أنقذه من براثن الفهد، ولم يكن نادر يفارقه بعد ذلك العهد حذرًا عليه من بطش الوزير؛ فإنه كان كثير الدلال على حكومة الإنكليز.

فلما خرجا من منزل الخياط وكلاهما مضطرب الخاطر قال له نادر: أتعرف، يا روكامبول، شوارع كلكوتا؟

– حق العرفان.

– إذن اذهب إلى منزلي في المدينة البيضاء.

– وأنت؟

فابتسم نادر قائلًا: أما أنا فلدي مهمة يجب قضاؤها.

ثم استطرد قائلًا: لقد قلت لك من قبلُ إني لا أفارقك لشدة الخطر عليك، أما الآن فلم أعد أخشى عليك شيئًا من الأخطار.

– كيف ذلك؟

– ذلك لأن الوزير كان يريد قتلك من قبل لخوفه من تأثير نفوذك عند الرجاه، فلما مات الرجاه بات يريد الخلاص منك كي تنطلق يده في البحث عن الكنز، وهو الآن قد ظفر بهذه الأموال فلم تعد تخطر له في بال.

– أتظنه لا يهتم بي؟

– دون شك؛ إذ لديه مهمات خطيرة تشغله عنك، وأنت تعلم أن هذا الرجل يحاول منذ عهد بعيد أن يخلع زي الهنود ويعود إلى أوروبا، فيضم إلى الأموال التي غنمها من الهند الكنز الذي اختلسه، ويعيش برخاء يحسده عليه الملوك. وأهم شاغل يشغله الآن نقل أموال الرجاه إلى إحدى البواخر؛ فهو لا يفتكر بك بعد هذا الشاغل، ولذلك أسألك أن تذهب إلى منزلي تنتظرني فيه.

– ولكن أنت إلى أين تذهب؟

– إني ذاهب لاقتفاء أثر تريبورينو، وخير لي أن أكون وحدي؛ فإن لي كثيرًا من المخلصين بين الهنود إذا رأوك معي امتنعوا عن الإباحة لي أمامك بما يعلمون.

ثم أخذ كيسه من جيبه فأخرج منه قطعة ذهب مكسورة وأعطاه إياها وقال له: إذا أظهرت هذه القطعة إلى خدمي في منزلي أطاعوك في كل ما تريده كما يطيعونني.

وبعد أن أعطاه القطعة تركه وانصرف، فوقف روكامبول ينظر إليه وهو يبتعد عنه.

ولم يبتعد بضع خطوات حتى رآه وقف وصفق بيديه ثلاث مرات، فأسرع إليه هنديان كانا نائمين على طريق عند باب أحد البيوت.

فتبادل وإياهم كلمات لم تصل إلى مسامع روكامبول، ثم ذهب الثلاثة، فبقي روكامبول ينظر إليهم حتى تواروا عن أبصاره، فذهب إلى المدينة البيضاء وهو مشتغل البال على الكنز، ولكنه كان يرجو أن يظفر نادر به؛ لما رآه من اهتمامه، ولما علمه من مبلغ نفوذه بين قومه.

وبعد ساعة، وصل إلى بيت نادر وطرق بابه، ولما فتح له الخادم أراه القطعة الذهبية، ففعلت به فعل السحر، واتصل خبرها بجميع الخدم فوقفوا بين يديه وقفة الاحترام وقالوا له: مُر نُطع؛ فإننا نخدمك كما نخدم سيدنا في هذا البيت.

وأقام روكامبول في بيت نادر يومين لم يعلم عنه شيئًا حتى بدأ يخاف عليه، ولكن خوفه لم يتجسم؛ فإنه بينما كان جالسًا في غرفة نومه يضرب أخماسًا بأسداس إذ فُتح باب سري في تلك الغرفة ودخل منه نادر وهو بملابس الهنود، فكان أول ما قاله: إننا وجدنا ما نبحث عنه.

فظهرت علائم البِشْر على محيا روكامبول وقال: أوجدت الكنز؟

– وجدت الكنز والغلام ولم يبق لنا غير الاستيلاء عليهما.

ثم أخذ نادر بيده وقال له: هلم معي.

وخرج وإياه من الباب السري الذي دخل منه إلى الغرفة.

٣٥

وخرج نادر وروكامبول من سرداب مظلم ضيق انتهيا منه إلى سلم يؤدي إلى الحديقة، فقال له نادر: إني لم أتمكن من تغيير ملابسي الهندية، فاضطررت إلى الدخول بها من هذا الباب السري كي لا يعلم خدم منزلي حقيقة أمري؛ فإنهم يعتقدون أني من الإنكليز ولا يعرفون سر هذا السرداب.

ولما وصلا إلى الحديقة اجتازاها إلى باب كان مفتاحه مع نادر، ففتحه وخرج الاثنان إلى الشارع، وهناك وقف نادر وقال: إن تريبورينو يسافر غدًا.

فارتعش روكامبول ارتعاشًا بدت علائمه على وجهه، فقال له نادر: أتذكر حين دخلنا قبو الشيخ حسن إلى السرداب المؤدي إلى المعبد أننا رأينا طريقين مختلفين؟

– نعم.

– إن الطريق الذي لم نسلكه يؤدي إلى الحوض، وينتهي بثقب ينفذ منه إلى الماء، وقد أخرج تريبورينو أموال الرجاه عثمان من ذلك الثقب.

– وأين هي الآن هذه الأموال؟

– إنها باتت في سفينة تجارية تشتغل بالتهريب منذ عهد بعيد ولها عنبران.

– وهي ستسافر غدًا بالكنز؟

فابتسم نادر وأجاب: نعم، ولكن من اليوم إلى الغد يحدث كثير من الأمور، فاتبعني وسوف ترى.

ثم ذهب الاثنان إلى المدينة السوداء وسارا إلى تلك الخمارة التي يغير فيها نادر أزياءه، ودخلا إليها.

وهناك أصدر نادر بعض أوامر سرية، فأخذ صاحب الخمارة بيد روكامبول وذهب به إلى غرفة مظلمة، فوجد بها ثيابًا خاصة ببحارة أهالي ملقا.

وكان يعلم أن البحارة الملقيين يؤثرون على البحارة الهنديين لاشتهارهم بالقوة والدربة، ولكن لون روكامبول كان ناصع البياض خلافًا لسكان تلك الجزيرة.

غير أن صاحب الخمارة أحضر وعاء من النحاس كان فيه سائل أسود، وأشار إليه أن يخلع ثيابه، ففعل، حتى إذا أصبح عاريًا أخذ إسفنجة وجعل يغمسها بالسائل ويطلي بها جسمه، فأصبحت بشرته لامعة كلون النحاس، بحيث لم يعد يختلف لونه في شيء عن لون أهل ملقا.

وبعد أن جف الطلاء لبس الثياب التي كانت معدة له، فتم الشبه، وذهب مع صاحب الخمارة إلى القاعة الكبرى فوجد فيها نحو ثلاثين بحارًا كان بينهم ستة من الملقيين.

وجعل روكامبول ينظر بين أولئك البحارة باحثًا عن نادر فلم يجده، لكنه سمع أحد الملقيين يضحك ضحكًا عاليًا وهو ينظر إليه، فارتعش وعلم أنه نادر، وأنه تنكر مثل تنكره.

ثم ذهب إليه وجلس بقربه، فهمس نادر في أذنه قائلًا: ألعلك منذهل مما تراه؟

– دون شك؛ فإني لا أعلم سبب هذا التنكر.

– إنك ستعرفه بكلمتين، فإن بحارة السفينة التي يسافر فيها تريبورينو لم يتم عددهم.

– أتظن أنهم يختاروننا؟

– دون شك؛ فإن ربان هذه السفينة إنكليزي قديم العهد في مهنته، ولكنه شديد البخل، فهو يختار البحارة الملقيين لرخص أجورهم، ولإيثارهم على الهنود في مهنة البحار.

– ألعله هو الذي سيختارنا؟

– نعم، سيحضر قريبًا إلى هذه الخمارة، ورجائي أن يختارنا جميعنا.

– من تعني بجميعنا؟

– جميع هؤلاء الملقيين؛ فإنهم من رجالي الأمناء المخلصين، وهم متنكرون مثلنا.

– لقد فهمت كل شيء.

وقبل أن يجيبه نادر فُتح باب الخمارة ودخل منه الربان الإنكليزي فوقف له جميع البحارة.

٣٦

وكان هذا الربان يدعى جون هابر، وهو قصير القامة، ممتلئ الجسم، شديد القوة، وكان عنقه ضخمًا قصيرًا يشبه عنق الثور بغلظته، وله لحية كبيرة حمراء، وجبهة ضيقة، ونظرات حادة تدل على الشراسة.

وكانت جميع ملامحه تدل على الإرادة الثابتة، فلما دخل إلى القاعة وضع يديه وراء ظهره، وجعل يخطر في القاعة ذهابًا وإيابًا وهو يفحص أولئك البحارة كمن يفحص سلعًا يشتريها، فما استوقف بصره غير الملقيين، وجعل يعدهم واحدًا واحدًا على أصابعه.

فهمس نادر في أذن روكامبول قائلًا: إذا أخذنا جميعنا كانت لنا السيادة في السفينة.

غير أن نادرًا أخطأ في حسابه كما سترى.

أما الربان فإن نادرًا كان أول من استلفت نظره من الملقيين، فمشى إليه وسأله بلغة الجزائر الهندية: أأنت حر؟

– نعم.

– كم تطلب أجرة عن خدمة عام؟

– ثمانمائة غرش.

فهزَّ الربان كتفيه ونظر إلى روكامبول فقال له: وأنت؟

فأدركه نادر قبل أن يجيب وقال للربان: إن هذا أخي، وإننا لا نسافر إلا إذا كنا سويةً كما تعودنا.

فسأله الربان: إذن أدفع لكما ألفًا ومائتي غرش.

فرفض نادر لاعتقاده أن رفضه يزيد الربان تمسكًا به.

فأجابه الربان: إذن أعطيكما ألفًا وثلاثمئة وخمسين ولا أزيد على ذلك غرشًا، فأنتما مخيران.

ونظر نادر إلى روكامبول ليوهم الربان أنهما يتشاوران، ثم أجابه: إننا نرضى بألف وأربعمائة، فإن شئت دخلنا في خدمتك، ونحن من خير البحارة.

فشتم الربان شتمًا قبيحًا وقال: إن هؤلاء الكلاب الملقيين يطمعون أن تكون رواتبهم كرواتب السفراء، ثم تنهد تنهدًا طويلًا وقال: لا بأس؛ فقد رضيت بهذه الأجرة.

ثم تركهما وعاد إلى فحص بقية الملقيين وجميعهم هنود متنكرون من أتباع نادر.

وكانوا ستة، لكنه لم ينتخب منهم غير اثنين، ولعله لم يكن محتاجًا إلى أكثر من أربعة.

فقال نادر: إننا سنغدو أربعة، وهو عدد قليل بإزاء بحارة السفينة.

فسأله روكامبول: ألا نسافر الآن؟

– بلى، نسافر دون شك.

– وبعد ذلك؟

– نستولي على السفينة فنلقي تريبورينو في البحر ونذهب بكنز الرجاه وابنه إلى أوروبا.

– نعم، فإني أريد أن أرى البستانية الحسناء، وقد كتبت إليها عن قدومي.

وقد اتقدت عيناه حين ذكر اسم روميا، فلم يعلم روكامبول شيئًا من قصده؛ لأن نادرًا لم يذكر له غير طرف من حكايته مع روميا.

وبعد أن أتم الربان اختياره أمَر صاحب الخمارة أن يحضر له زجاجة من الشراب، ثم دعا بإشارة منه نادرًا وروكامبول والبحريين الآخَرَينِ اللذين اختارهما فشاركهم في شرابه.

ثم أخرج من جيوبه عهودًا مطبوعة، فكتب في كل عهد منها اسم البحري المسافر، ومقدار الأجرة، والمدة المتفق عليها، فكتب كل منهم توقيعه تحت الشروط وتم الاتفاق.

ولما تم التوقيع دفع لكل منهم أجرة ثلاثة أشهر مقدمًا حسب العوائد المألوفة، وأقاموا يشربون حتى فرغت الزجاجة، فقال لهم: لقد آن أوان الرحيل؛ فهلموا بنا إلى السفينة.

وتنغص نادر إذ حسب أنهم سيكونون أربعة في السفينة، وأن بحارتها الآخرين اثنا عشر.

غير أنه لم يقنط وقال لروكامبول: هلم بنا؛ فإن الواحد منا يعادل ستة، ورجائي معقود بالفوز.

ثم قاما فمشيا أمام الربان جون هابر، فكان يسوقهم أمامه سوق المواشي.

وبعد ساعة بلغا السفينة.

•••

كانت الليلة التي أقلعت فيها السفينة الشراعية بالكنز حالكة الظلام.

وكانت هذه السفينة تدعى وست إنديا، وهي لربانها جون هابر، وقد برحت ميناء كلكوتا في الساعة السابعة، أي عند غروب الشمس.

وكان الربان قد أقام نادرًا وروكامبول في محل واحد، ولكنهما لم يتمكنا من المحادثة إلا بعد ست ساعات من سفر السفينة، فكانا يتحدثان باللغة الفرنسية، ولا يوجد من يتكلم بهذه اللغة في السفينة غير ربانها وتريبورينو.

أما تريبورينو فقد كان آخر من صعد إلى السفينة، وقد رآه نادر وروكامبول حين صعوده إليها؛ فإذا به قد عاد إنكليزيًّا فتزيا بأزياء الإنكليز، وقص شعره على الطريقة الإفرنجية، فكان من يراه يحسب أنه من أشراف يورك أو لانكشير.

ولا يخطر لمن يراه أن هذا الرجل الشريف قد أنفق كل ليلته في الأمس على جمع تلك الأموال التي اختلسها ونقلها إلى السفينة.

وكانت السفينة تشحن أرزًا وقهوة، فلم يعلم روكامبول إذا كان ربانها عالمًا بأن تلك الأكياس حشوها من الذهب، أو أنه كان متفقًا مع الوزير على تهريب الكنز.

غير أن هذا الوزير القديم كان يظهر أنه السيد المطلق في السفينة، حتى إن جون هابر نفسه على فرط قحته وغلظته كان يخضع له ويقف أمامه وقفة الاحترام.

ولما خلا روكامبول بنادر قال له: لقد خشيت أن يكون تريبورينو قد عرفني.

– متى؟

– حين استعرض البحارة.

– لا تخش فلا يمكن أن يعرفك وأنت متنكر بهذا الزي الغريب، أما أنا فإنه يستحيل أن يعرفني؛ لأنه لم يرني قبل الآن.

وكانت سكينة نادر واطمئنانه يدهشان روكامبول، فسأله: إننا أربعة فقط في السفينة.

– أعرف ذلك.

– وإن سائر البحارة إنكليز، وهم أشداء يقاتلون جيدًا.

– لا بأس.

– وفوق ذلك فإن الوزير يصحبه خادمان، فإذا أضيفوا إلى البحارة الإنكليز كانوا جميعهم خمسة عشر، وما نحن إلا أربعة.

فابتسم نادر دون أن يجيب.

فتابع: وفوق ذلك أيضًا فإن جون هابر من أهل الثبات في أقواله وأعماله.

– من يعلم؟

فخطر لروكامبول حينئذ أن نادرًا يريد إغواء الربان وحمْله على خيانة الوزير.

وكأنما نادر أدرك فكره فقال: كلا، إني لا أغوي هذا الرجل إلا إذا يئست من جميع الوسائل.

– إذن على أي شيء تعتمد؟

فدنا نادر من جدار السفينة ومد يده إلى الجهة الغربية قائلًا: انظر إلى آخر ما يمتد إليه بصرك من البحر، ألا ترى نورًا يشبه نور النجم يضطرب فوق الأمواج؟

– نعم.

– إنه ينبعث من قارب يسمونه باصطلاحكم: «جنك».

– أهو قارب صيني؟

– نعم، ولكن الصينيين الذين فيه مثل الملقيين الذين في هذه السفينة.

فأشكل فهم قصده عليه، فسأله مستفسرًا: بالله أوضِح لي عن قصدك؛ فإني لم أفهم ماذا تقصد.

– إننا حين خرجنا من الخمارة كتبت بسرعة كتابًا أعطيته إلى أحد الملقيين الذين لم يخترهم الربان.

– لمن أرسلت الكتاب؟

– لنائبي في زعامة أبناء سيوا، فقد أمرته أن يعد قاربًا ويذهب به مع فريق من رجالنا لمطاردة هذه السفينة التي نسافر عليها.

– أيجسر قارب صغير على مهاجمة هذه السفينة الكبيرة؟

– عند أول إشارة تصدر مني إليه.

– ومتى يكون ذلك؟

– لا حاجة إلى العجلة؛ فإننا نستطيع الصبر يومين وثلاثة.

فدهش روكامبول وسأله: كيف يمكن لهذا القارب الصغير أن يدرك السفينة ويسير سيرها ثلاثة أيام؟

– ذلك لأنك تجهل سرعة هذه القوارب؛ فإنها تُبنى بشكل خاص؛ إذ لا غرض منها إلا المطاردة، وهي تسبق أسرع السفن.

وعاد الأمل إلى روكامبول باسترجاع كنز الرجاه عثمان، وحاول أن يتم محادثته مع نادر، غير أن نادرًا قاطعه قائلًا له: كفى؛ فإن الربان قد حضر.

وعاد الاثنان إلى عملهما.

وصعد جون هابر إلى سطح السفينة يراقب سيرها وهو يبتسم ابتسام الرضى والارتياح.

٣٧

ودنا الربان وتوكأ على جدار السفينة وجعل ينظر إلى الأفق قائلًا: إن السماء صافية، والريح موافقة، فإذا استمرت على ما هي عليه الآن نصل إلى لفربول بعد خمسة أشهر.

وفيما هو ينظر إلى السماء بعين الرضى شعر بيد وضعت فوق كتفه، فالتفت ورأى تريبورينو، فأسرع إلى السلام عليه بملء الاحترام.

فسأله تريبورينو: إني أرى عليك علائم الارتياح؛ فهل الطقس موافق لسير السفينة؟

– كل الموافقة.

– وإنك تحب أن تصل لندرا بأسرع ما يمكنك من الوقت، أليس كذلك؟

وتنهد الربان تنهدًا طويلًا وقال: إني بلغت من العمر خمسين عامًا، وأنا أسير في الهند منذ ٢٠ عامًا، حتى مللت السفر.

– أظن أن هذا السفر يكون آخر أسفارك؟

– وهذا الذي أرجوه.

– ستجعل مركز إقامتك في لندرا؛ لأنك تقبض مني مائتي ألف ليرا إنكليزية، وهي ثروة طائلة تستطيع أن تعيش بها كما تريد في العاصمة.

فاحمر وجه القبطان حين سمع بهذه الثروة، وكاد يطيش صوابه حين علم أنه سيقبض ٥ ملايين فرنك أجرة تهريب كنوز الرجاه.

ثم ثاب إلى رشده وتمتم قائلًا: كلا، إني لا أقيم في لندرا.

– إذن أين تقيم؟

– أقيم في بلدي في يونكشير، وأشتري أرضًا متسعة في البلاد التي ولدت فيها، وأتزوج كاتي.

– من هي كاتي؟

– هي فتاة حسناء من أهلي يبلغ عمرها الآن ٢٦ عامًا، فلا أكبر في عينيها ولا تصغر في عيني، ثم إني أبني كنيسة ومستشفى بفضل هذه الثروة؛ فإن صنع الجميل من خير ما تطيب به النفوس.

وكانا يتحدثان باللغة الفرنسية لاعتقادهما أن نادرًا وروكامبول ملقيان، وأن الملقيين لا يعرفون اللغة الفرنسية.

وقد سمع روكامبول حديثهما فهمس في أذن نادر قائلًا: لا تطمع بإغواء الربان.

– لماذا؟

– لأن تريبورينو سيعطيه ثروة لم يحلم بها ولم يطمع أن يدركها بالتصور.

– لقد أصبت، ولكن القارب لا يزال يطارد سفينتنا.

ثم جعل ينظر إلى القارب وهو في آخر ما يمتد إليه النظر إلى البحر.

أما الربان وتريبورينو فقد عادا إلى الحديث، فتابع تريبورينو: أأنت واثق من بحارة السفينة؟

– نعم، كما أثق بنفسي.

– أأنت واثق أيضًا أنه لا يوجد بين بحارتك من يعلم حقيقة ما تشحنه السفينة؟

– إنهم جميعهم يعتقدون أنها تشحن الأرز والقهوة، وفوق ذلك فليس بينهم من يعرف سر العنبر الداخلي غير اثنين لي بهم ملء الثقة، بحيث لا خطر على الكنز إلا من الغرق.

ولكني لا أخشى الغرق أيضًا؛ فقد ألفتُ السير في هذه الطريق، وإن سفينتي من أشد السفن وأقواها على مصادمة الأمواج.

وفيما هو يتكلم نظر إلى النور الذي كان ينبعث من القارب فاضطرب وسأله: ما هذا؟

فنظر تريبورينو النور أيضًا وقال: إنه منبعث من منارة دون شك.

– كلا فلا يوجد منائر في هذه الجهة.

– إذن فهو من سفينة في الطريق التي نسلكها.

– قد يكون ذلك، ولكني أخافها.

فاضطرب الوزير قائلًا: كيف تخافها؟

– لأني أخاف القرصان الصينيين.

ثم تركه مسرعًا ونزل إلى غرفته، وعاد يحمل نظارته المكبرة، فما كاد ينظر بها إلى ذلك النور حتى صاح صيحة غضب: هذا ما كنت أخشاه.

– ما هذا؟

– قارب صيني.

– وكيف تخاف القوارب ولك مثل هذه السفينة الضخمة؟

– لأنها تحمل قرصانًا، وسنضطر إلى استعمال هذين المدفعين الموجودين في سفينتنا.

فقطب الوزير حاجبيه ولم يجب.

فقال نادر لروكامبول: إني لو استطعت إطفاء نور القارب لفعلت؛ فإنهما رأياه قبل الأوان.

أما الوزير والربان فإنهما عادا إلى الحديث يتشاوران، وكان نادر وروكامبول مصغيين إليهما ولم تفتهما كلمة من ذلك الحديث.

٣٨

وكان القارب يبعد نحو ٣ أميال عن السفينة، غير أن الربان كان يرى جميع حركاته بمنظاره الكبير، فرأى أنه يسير في طريق السفينة، ويظهر خوفه للوزير.

أما تريبورينو فإنه أنكر عليه هذا الخوف وقال: كيف يجرؤ هذا القارب على مهاجمتنا؟

– إنك مخطئ يا سيدي؛ فإني لا أزال أذكر قاربًا هاجمنا حين كنت ربانًا ثانيًا في سفينة تدعى ليفربول، وهي أكبر من سفينتنا.

– ماذا جرى؟

– إنه هؤلاء القرصان لا يختلفون عن الأبالسة؛ فإن قاربهم يكون فيه على الغالب كثير من الرجال الأشداء، فإذا وصلوا إلى مرمى مدافع السفينة التي يطاردونها أنزلوا جميع ما لديهم من الفلائك الصغيرة إلى البحر، وينزل إليها ثلاثة أرباع البحارة، فيهربون من قذائف المدافع، ويحيطون بالسفينة من كل جهاتها دون أن تتمكن المدافع من إغراقها لسرعة حركاتها، واستحالة إصابة المرمى.

وإن لدينا الآن نحو عشرين رجلًا، ولكني واثق من أن هذا القارب يحمل ضعف عددنا من القرصان، فإذا وصلوا إلينا تفرقوا بالفلائك الصغيرة.

– إني لم أر إلى الآن موقف الخطر؛ فإن القارب قد يدركنا لأنه يسير بالهواء، فإذا وصل إلينا أطلقنا عليه قنابلنا، وأما إذا نزلوا في الفلائك الصغيرة، فكيف يدركوننا وهم يسيرون بقوة المجاذيف؟!

فهز الربان رأسه وأجاب: إن القرصان موصوفون بالصبر، وإن الأوقيانوس الهندي معروف بسكون رياحه، فلا يسلم من القرصان غير السفن البخارية؛ لأنها تسير سيرًا منتظمًا غير مكترثة بسكون الرياح. أما السفن الشراعية فإن قوارب القرصان تطاردها أيامًا، بل قد تطاردها شهرًا كاملًا حتى تسكن الرياح، وتقف السفينة، وينزل القرصان إلى الفلائك ويدركونها بالمجاذيف.

وقد يتفق أن السفينة تُغرق بعض هذه الفلائك، ولكنَّ ما سلِم منها يُهاجم السفينة، وبقية القرصان يدركونها سباحةً فيصعدون إليها، وتنشب بين الفريقين معركة هائلة بالمسدسات والخناجر والمجاذيف، فتصبغ السفينة بدماء المتقاتلين، وتنجلي المعركة في الغالب عن فوز القرصان.

فاضطرب الوزير اضطرابًا شديدًا حين فكر أن هذا الكنز وهذه الأموال التي جمعها بالخيانات والمآثم ستقع غنيمة باردة بأيدي القرصان.

وعاد الربان إلى تتمة حديثه قائلًا: وإن دوارع جلالة الملكة قد طهرت البحر من هؤلاء القرصان، ولكن يظهر أنه لا يزال يوجد منهم بقية.

وبينما كان الاثنان يتحدثان كان نادر وروكامبول يصغيان إليهما، ويراقبان نور القارب، فرأيا أن النور يبتعد ويصغر، فلم يدركا القصد من هذا الابتعاد.

وقد رأى الربان ما رأياه فاطمأن وقال: أظن أن القرصان لم يرونا؛ فإني أراهم يبتعدون.

وبعد أن أقاما نحو ساعة يراقبان ويتحدثان هبط تريبورينو إلى غرفته، وبقي الربان فوق ظهر السفينة كل ذلك الليل حتى توارى القارب عن نظره، فاطمأن وتمتم في نفسه: إما أن يكون القرصان قد رجعوا عن مطاردتنا، أو أنهم لم يرونا، أو أنهم يطاردون سفينة أخرى، وعلى كلٍّ فقد أمِنَّا الخطر.

وعند الصباح عاد إليه تريبورينو فارتاحت نفسه لبعد القارب وسأله: أرى أننا قد أمِنَّا الخطر لا سيما وأن السفينة تسير سيرًا حسنًا لموافقة الرياح.

– نعم، ولكنها لا تسير هذا السير أمدًا طويلًا؛ فإن الرياح لا تلبث أن تهدأ، ثم مد يده إلى الأفق في الجنوب الغربي قائلًا: انظر، ألا ترى هذه الغمامة الصغيرة التي تشبه طير البحر؟

– نعم.

– إنها مقدمة لعاصفة ستهب علينا فتثور الرياح ثورة عظيمة.

– وبعد ذلك؟

– وبعد ذلك تهدأ الرياح بعدها أتم الهدوء؛ بحيث قد يمر بنا يومان أو ثلاثة دون أن تجتاز السفينة أكثر من ميل واحد، وهنا يجب أن نضرع إلى الله وأن نلتمس حماية القديس جورج، حامي إنكلترا؛ كي يقينا شر القرصان ولا تدركنا فلائكهم.

فقال نادر لروكامبول: لقد أصاب هذا الربان؛ فإن سكون الرياح سوف يعقب العاصفة التي لا بد أن تثور قريبًا.

ولقد كان كلاهما مصيبًا؛ فإنه بعد أن توارت الشمس في حجابها أربد وجه الأفق، وأظلمت السماء بالغيوم الكثيفة، وحجبت النجوم، وهطلت الأمطار كأفواه القرب، وعصفت الرياح، فاضطربت الأمواج فجعلت تهاجم السفينة مهاجمة الجيوش، وترتد عنها ارتداد الجبان.

وعند انتصاف الليل بلغت العاصفة أشد أطوارها، فكانت السفينة ترقص فوق الأمواج وربانها يقودها بملء السكينة والحزم.

أما تريبورينو فقد خاف خوفًا شديدًا على كنوزه؛ إذ لم يمر بخاطره مثل هذه الأخطار، فكان يجيء إلى الربان وعليه علائم الذعر الشديد ويسأله عن حالة السفينة، فيجيبه الربان: إني لا أخشى سكونها، ولا أخاف هجوم القرصان.

وفيما هو يقول ذلك حانت منه التفاتة فصاح صيحة المغضب وصرخ بصوت مضطرب: هو ذا سفينة القرصان قد ظهرت؛ فلا حول ولا قوة إلا بالله.

فالتفت تريبورينو منذعرًا، فرأى سفينة القرصان تضطرب فوق الأمواج اضطراب سفينته، وتلقى من العاصفة ما تلقاه.

أما نادر فإنه التفت إلى قارب رجاله وقال وصدره يخفق: حييتم أيها الشجعان.

٣٩

وكانت أمواج البحر تتعالى علو قمم جبال الألب ثم تهوي إلى الأعماق فتصبح السفينة في وادٍ من المياه.

وفي كل حين تتدفق الأمواج فوق ظهر السفينة فتغسلها.

وكانت الصواري تئن لعوامل الرياح وتوشك أن تتحطم.

كل ذلك وروكامبول واقف يشتغل شغل البحارة ويتذكر تلك الليلة الهائلة التي فر بها من سجن طولون، ولقي فيها من أهوال العاصفة ما يذكره القراء.

ولم يكن يخشى على السفينة من الغرق لما رآه من حزم الربان ومهارته.

أما تريبورينو فقد كان واقفًا بجانب الربان، وكلاهما ينظران إلى سفينة القرصان، فكان الربان يقول كلما رآها: إني لا أخشى ثورة الرياح، بل أخشى ثورة القرصان.

فقال له تريبورينو: إنهم يلقون من العاصفة ما نلقاه.

– هو ما تقوله، غير أني لا أخشاهم الآن، بل حين تسكن الرياح.

ولم يكد يتم قوله حتى هبت ريح عاصفة مالت بالسفينة وأوشكت أن تدفنها باللجج، فانقض الربان انقضاض الصاعقة على الصاري الأكبر وضرب حبله بفأسه فقطعه، ثم نادى البحارة فاشتغلوا جميعهم بكسر الصاري بما كان لديهم من الفئوس.

وبعد عشر دقائق سقط الصاري الأكبر، فكان له دوي شديد، وكسر جدار السفينة، غير أنها ارتفعت وسلمت من الغرق بعد انكساره، فصاح الربان صيحة المنتصر.

وعند ذلك جعل ينظر إلى الجهة التي كانت تسير فيها سفينة القرصان فلم يرها.

فقال له تريبورينو: أظن أن العاصفة أغرقتها.

– كلا، بل إن تيارًا قد جذبها، وفي كل حال فقد أمِنَّا شر هؤلاء القرصان.

وكان نادر وروكامبول يسمعان الحديث، فقال له نادر: إن الربان قد أخطأ هذه المرة؛ إذ لا يوجد تيارات في هذه الجهات، ولا بد لرجالي من إدراكنا.

وكان يتكلم بلهجة الواثق المطمئن بحيث لم يبق شك لدى روكامبول باسترجاع الكنز.

إن العواصف هائلة في بلاد بحر الهند، ولكن أمرها لا يطول، ويعقبها في كل حالة من أحوالها سكون الريح أيامًا.

وقد اتفق مثل ذلك بعد هذه العاصفة، فإن الهواء سكن سكونًا تامًّا عند الفجر، فجعل البحارة يهتمون بإصلاح ما أتلفته العاصفة من السفينة.

وكانت الأمواج حين كانت السفينة تنقلب قد ابتلعت ثلاثة من البحارة، فسقطوا عن ظهر السفينة إلى البحر حين التوائها، وبين هؤلاء واحد من الملقيين، بحيث لم يبق فيها من أعداء تريبورينو غير ثلاثة.

وكان القارب قد توارى عن الأنظار، فقال روكامبول لنادر: إذا كان لا يوجد تيارات في هذه الجهات، فكيف اختفى القارب؟

– إنه قد اختفى لغرض من الأغراض، ولا بد له أن يدركنا.

أما الربان فكان واقفًا مع تريبورينو يراقبان السفينة وقد سكنت الرياح وامتنعت السفينة عن المسير، غير أن الاثنين كانا قد ارتاحا بعض الارتياح لاعتقادهما أن القرصان قد غرقوا بالعاصفة.

ولما طال احتجاب القارب بدأت علائم الاضطراب تظهر على نادر وقال: يستحيل أن يضل كوسلي الطريق.

– من هو كوسلي هذا؟

– هو نائبي الذي يتولى قيادة القارب ومن فيه؛ فإنه يعرف طرق السفن الشراعية إلى أوروبا حق العرفان.

وفيما هو يتحدث وينظر إلى البحر شدَّ على يد روكامبول قائلًا له: انظر. مشيرًا إلى جهة الغرب.

وكان روكامبول حديد البصر غير أنه لم ير شيئًا، ولكنه سمع شتمًا قبيحًا خرج من فم الربان، فعلم أن ما رآه نادر بالعين المجردة قد رآه الربان بالنظارة المكبرة، وهو سفينة القرصان.

وكان الربان يصيح صياح الذعر قائلًا: القرصان.

ثم التفت إلى الوزير وتابع: لم يبق شك في أن القرصان يطاردوننا.

– أتظنهم يهاجموننا؟

– قبل غروب الشمس. وقد وجب علينا الإسراع بالتأهب.

ثم أوقف إصلاح السفينة، وأمر بحشو المدافع، ووزع الأسلحة على البحارة، وأقام الجميع ينتظرون قدوم القارب الذي كان يسير إليهم ببطء، ولكنه كان مستمرًّا في السير خلافًا للسفينة.

وما زال يدنو حتى بات على مسافة مرمى المدافع؛ فأنزل إلى البحر أربع فلائك نزل إلى كل واحدة منها ثمانية رجال.

أما الربان فدمدم قائلًا: إني كنت أحسبهم أكثر عددًا، ولكنه سيكون لنا معهم شأن عظيم.

أما الفلائك فقد تفرقت وذهبت كل واحدة منها في سبيلٍ بغية الإحاطة بالسفينة، ودنت إحداها منها بغية مهاجمتها من الأمام، فقال الربان: لنُغرق هذه في البدء.

ثم أطلق عليها بيده أحد المدفعين.

٤٠

فدوى المدفع دويًّا شديدًا، وخرج دخان البارود منه فكان كالغمام، وقد أطبق نادر وروكامبول عيونهما حين دوى صوت المدفع، ثم فتحاهما، وانجلى الغمام فرأوا أن القنبلة لم تصبها، وأنها هاجمة على السفينة.

فصاح الربان صيحة غضب منكرة، وأطلق على الثانية المدفع الآخر، وكان محشوًّا بقذائف صغيرة، فنام الرجال على بطونهم ولم يُصب أحد منهم بأذًى.

وكانت الفلائك الثلاث الأخرى قد أحدقت بالسفينة من كل جانب وباتت عرضة لنيران البنادق، فأمر الربان بحارته بإطلاق النار فصوبوها على إحدى الفلائك، وأطلقوها عليها دفعة واحدة فانقلبت وغاص رجالها في المياه.

ولكنهم ظهروا بعد هنيهة يسبحون وفي أفواههم الخناجر.

أما الفلائك الأخرى فكانت تتقدم، وكان الربان يصيح: أطلقوا النار!

فصوب كل بحار بندقيته وأطلق ممتثلًا لأوامر الربان، ولكنهم أخطئوا المرمى كأنما يدًا خفية كانت تحيل القذائف عن أغراضها.

ثم وصلت الفلائك إلى السفينة، فتسلقوا عليها من كل جانب، وصعد الذين كانوا يسبحون على الحبال، فلم تمض عشر دقائق حتى أصبحوا جميعهم على ظهر السفينة وقد قُتل بعضهم حينما كانوا يصعدون.

فالتفت روكامبول إلى نادر وقال له: أرى أنه قد آن الأوان. وكان في يده فأس فحاول أن يضرب به رأس الربان، غير أن نادرًا أمسك يده وقال له: لا تفعل أو نفقد كل رجاء.

ذلك أن نادرًا كان قد شاهد عن بُعد دخانًا كثيفًا يتصاعد في الفضاء فقال له: انظر، لقد خسرنا كل شيء حين وثقنا من الفوز.

– كيف ذلك؟

فأجابه نادر بصوت يتهدج من الغضب: إن هذا الدخان خارج من مدرعة إنكليزية.

وكان القتال قد حمي وطيسه بين الفريقين بحيث لم ينتبه أحد منهما لدخان المدرعة ما خلا القارب الذي كان رجال نادر فيه، فإنه رأى المدرعة وأركن إلى الفرار.

وقد صبغ سطح السفينة بدماء المتقاتلين؛ لأن البحارة الإنكليز كانوا يقاتلون قتال اليأس بفئوسهم، ورجال نادر يقاتلون قتال الفائز بخناجرهم، وقد اختلط الفريقان أيما اختلاط بحيث لم ينتبه أحد إلى أن نادرًا وروكامبول لم يشتركا في هذا القتال.

إلى أن بانت الدارعة على قيد من السفينة، فأطلقت مدفعًا كان له دوي قوي، فصاح الربان صيحة الفرح والاستبشار قائلًا: لقد نجونا.

وكان الربان قد أصيب بعشرة جروح، فلما سمع البحارة صياحه ورأوا الدارعة أيقنوا من النجاة وجعلوا يقاتلون بملء البسالة.

أما الهنود فقد هالهم ما رأوه ووقفوا موقف التردد لا يعلمون ما يفعلون، ثم سمعوا صوتًا يناديهم بلغة خفية.

وكان هذا الصوت صوت نادر؛ فإنه أمرهم باللغة المقدسة التي لا يفهمها غير أبناء سيوا أن يهربوا، فامتثلوا وألقوا أنفسهم في البحر، وأسرعوا يسبحون إلى فلائكهم والدماء تسيل من أجسامهم.

وكانت الدارعة لا تزال بعيدة، ولكنها تمكنت من إدراك القارب فأطلقت عليه نيرانها، فغرق بمن كان فيه. أما الفلائك فقد تمكنت من النجاة.

وكان نادر يراقب جميع ذلك، فاستاء لغرق القارب، وفرح لنجاة الفلائك، فقال له روكامبول: إني أخشى أن تُنزِل الدارعة أحد سفنها فتطارد الهاربين.

– كلا، إننا على مسافة قريبة من الشاطئ، وهذه الشواطئ كثيرة الصخور؛ فلا تخاطر الدارعة بنفسها.

ولقد أصاب نادر؛ لأنه حين وصلت الدارعة إلى السفينة كانت الفلائك قد بلغت البر آمنة، فصعد أحد ضباط الدارعة إلى السفينة ففحص ما حدث، وكتب تقريرًا بما جرى.

ولم يكن باقيًا من بحارة السفينة غير عشرة، منهم روكامبول ونادر والهنديان.

وكان الربان مجروحًا بكتفه وذراعه وصدره، وتولى قيادة السفينة الربان الثاني، لكن السفينة نجت بفضل الدارعة.

أما الضابط فإنه أسر اثنين من رجال نادر منعتهما جراحهما عن الهرب، وعاد إلى دارعته فذهب بهما في طريق كلكوتا. أما السفينة فإنها اضطرت إلى الذهاب إلى أقرب ميناء تجاري لتجديد من فقد من بحَّارتها، وإصلاح ما طرأ عليها من الخلل.

وعند ذلك خلا نادر بروكامبول وقال له: لا يجب أن تقنط، ولا يزال لي بقية رجاء.

فأجاب روكامبول: بل إن لي ملء الرجاء إذا تركتني أتولى العمل مكانك، وسوف ترى.

– ما هي خطتك؟

– سأقولها متى أخبرتني عن أمرين.

– ما هما؟

– هل الهندي المتنكر الذي بقي معنا يحسن السباحة؟ وهل يستطيع بلوغ الشاطئ سابحًا؟

– دون شك!

– وهل أنت واثق من أن هذه الشواطئ كثيرة الصخور؟

– كل الثقة.

– حسنًا سوف ترى.

ثم انشغل عن محادثته بمراقبة الربان الثاني الذي صعد إلى سطح السفينة لتولي قيادتها بدلًا من جون هابر الجريح.

٤١

وكان الربان الثاني في السفينة يدعى مرفي، وكان الشبه بعيدًا بينه وبين جون هابر؛ فإن الربان الأول كان ضخم الجثة، بدينًا، قصير القامة، عريض الأكتاف، أحمر الشعر، خلافًا للربان الثاني، فإنه كان فوق الربعة، نحيف الجسم، أشقر الشعر، يشبه بقامته وحركاته روكامبول حين كان يدعى الكونت دي كامبل، أي حين أتم أستاذُه تدريسَه وتدريبه وأرسله خاطبًا للإسبانية، كما يذكر قراءة الغادة الإسبانية.

وكانت عادة هذا الربان الثاني أن يصعد إلى سطح السفينة مكشوف الرأس، لكنه حين يتولى القيادة في الليل يلبس رداءً طويلًا له قبعة واسعة تغطي معظم وجهه.

وكان روكامبول يراقب منه جميع ذلك، فذكر حياته السابقة، وخطر له أن يعود إليها إلى حين.

وذلك أنه جال في فكره أن يمثل دور هذا الربان ويتنكر بزيه، لا سيما لما رآه من الشبه بينهما بالقوام ورقة البدن. ومهارة روكامبول بتقليد الأزياء غير خافية على القراء.

ولما أتى الليل كان الهواء ساكنًا، غير أنه كان يوجد في الأفق قطع متفرقة من الغيم تشير إلى أن الهواء قد يثور بعد بضع ساعات.

فصبر روكامبول إلى أن نزل الربان الثاني إلى غرفته فقال لنادر: متى تولى الثاني قيادة السفينة؟

– عند الظهر، وقد نزل الآن إلى غرفته كي ينام.

– من يخلفه؟

– رئيس البحارة؛ فإنه يتولى القيادة إلى منتصف الليل ثم يعود الربان الثاني ليتولاها.

– حسنًا، وإني أرجو التوفيق.

فنظر إليه نادر منذهلًا وقال: ماذا عزمت أن تفعل؟

– عزمت على أن أتولى القيادة عند منتصف الليل بدلًا من الربان الثاني.

– ومتى توليتها ماذا تفعل؟

– أدفعها إلى الشاطئ فتتحطم على الصخور، وهناك نستعين برجالك على تخليص الكنز؛ إذ لا خطر عليه من الضياع لأنه في العنبر الداخلي السري.

– إنها خطة تدل على الجرأة، لكني لا أرى تنفيذها سهلًا.

– لماذا؟

– لأني لا أعلم كيف تستطيع أن تتولى القيادة مكان الربان، ولا كيف يتخلى لك عنها؟

فابتسم روكامبول وأجاب: هذا سر من أسراري، وسوف ترى.

أما نادر فإنه اطمأن لارتياح روكامبول وقال له: إن مَن ينتصر على علي رمجاه فغير بعيد أن يفوز على مثل هذا الربان؛ فقل بماذا تريد أن أساعدك؟

– أن تأمر الهندي الذي معنا كي يخضع لي أتم الخضوع.

فنادى نادر الهندي المتنكر بأزياء الملقيين وأصدر إليه أوامر بلغة أبناء سيوا السرية، فانحنى الهندي أمام روكامبول قائلًا له: إني مستعد لطاعتك في كل ما تريد.

وكان قد أزِفَ وقت النوم ونام جميع البحارة، فلما أيقن روكامبول أنهم ناموا جميعهم نادى الهندي وقال له: اتبعني.

ثم سار وإياه إلى الغرفة التي ينام فيها الربان الثاني ووقف متنصتًا عند بابها إلى أن سمع غطيطه، ففتح الباب ودخل مع الهندي ثم أقفله من الداخل بالمزلاج.

وعند ذلك أشار إلى الهندي أن يعد الحبل لتقييد الربان، ففك حبلًا كان قد عقده على وسطه، وهو حبل من الحرير الدقيق يشبه حبل الخناقين، ثم أشار إليه إشارة أخرى فهمها فانقض الاثنان على الربان الثاني.

أما الربان فإنه صحا مرعوبًا منذعرًا وحاول أن يصيح مستغيثًا، غير أن روكامبول عالجه بكمامة سد بها فمه فلم يتمكن من الصياح، وعاجله الهندي فأوثقه وثاقًا متينًا عُرف به الهنود.

ولما أتم وثاقه جعل الربان ينظر إليهما نظرات ملؤها الرعب، ثم تبدل فزعه بالانذهال حين سمع روكامبول يكلمه باللغة الفرنسية؛ لأنه لم يسمع أولئك الملقيين يتكلمون بغير لغتهم وباللغة الإنكليزية.

أما روكامبول فإنه قال له بصوت منخفض: يَسوءُني يا سيدي أن أسيء إليك، غير أن ذلك موقوف على إرادتك، وإذا خرجت عن حد السكينة اضطررت مكرهًا إلى إلقائك في البحر؛ لأني محتاج إلى سكوتك.

ولم يكن الربان يستطيع الإجابة؛ لأن الكمامة كانت تمنعه عن الكلام، والوثاق يمنعه عن الحركة، غير أنه أنَّ أنينًا خرج من تحت الكمامة كصوت المختنق.

فالتفت روكامبول إلى الهندي وقال له: إذا أنَّ أيضًا مثل هذا الأنين فاقتله.

فجرد الهندي خنجره ووقف فوق رأس الربان.

عند ذلك دنا روكامبول من المغسلة وأخذ إسفنجة وجعل يبلها بالماء ويدعك بها وجهه، فذهب لونه الأسود وأصبح مثل الربان.

وكان الهندي والربان ينظران إليه بانذهال عظيم؛ لأن كليهما لم يخطر له في بال أن هذا البحار الملقي من الإفرنج.

وبعد أن أتم روكامبول غسْل وجهِهِ خلَع ملابسه وأخذ ملابس الربان المعلقة فلبسها، وأخذ رداءه الكبير واتشح به فوق الملابس، وستر رأسه بالقبعة.

ثم جعل ينظر في المرآة ويصلح تلك الملابس حتى بات الشبه قريبًا بينه وبين الربان لتشابههما بالقوام.

فلما رأى الربان هذا الشبه عاد إلى الأنين، فحاول الهندي أن يقتله، غير أن روكامبول منعه بإشارة، ودنا من الربان فجعل يكلمه، فانذهل الربان انذهالًا عظيمًا لأن روكامبول لم يقتصر على تقليده بزيه وملابسه، بل سمعه يقلد صوته ولهجته أتم التقليد.

٤٢

وكان نادر مضطجعًا فوق ظهر السفينة ينتظر ما يكون من روكامبول بقلق شديد، فقد مر به زمن طويل دون أن يرى روكامبول أو الهندي.

أما روكامبول فإنه بعد أن حادث الربان الثاني مقلدًا صوته، وبعد أن شاهد علائم بين عينيه قال له: إنك لم تعلم من أنا، ولكنك عرفت الآن دون شك ما عزمت على فعله؛ لأني أنا الذي سيتولى قيادة هذه السفينة في هذه الليلة.

ولقد حرمت على نفسي سفك الدماء وقتل أخي الإنسان، وإني أراك بحارًا نشيطًا، وقد تكون رجلًا شريفًا، وإذا كنت حرًّا طليقًا، فإن واجباتك تدعوك إلى الاستغاثة والاستنجاد علينا؛ فيلقونني مع هذا الرفيق في أسفل العنبر.

فأشار الربان برأسه إشارة تدل على أنه لو كان حرًّا لما فعل غير هذا.

فتابع روكامبول: لذلك وجب علي أن أستوثق من سكوتك ومنعك عن الاستغاثة؛ لأني إذا تركتك حرًّا في هذه الغرفة فإنك تستطيع أن تصيح صياحًا يخرج كالأنين من خلال الكمامة، ولا بد أن يسمعوك.

فأشار الربان إشارة مصادقة.

وكان روكامبول يعلم أن البحارة موصوفون بالتدين الشديد لكثرة تعرضهم للأخطار، ونظر إلى المائدة فرأى فوقها من آلات البحارة توراة، فأخذ هذا الكتاب المقدس وعاد إلى الربان فقال له: إني محتاج إلى سكوتك عشر ساعات، وبعد ذلك أطلق سراحك، فإذا أقسمت لي بهذه التوراة أن تلزم السكينة في هذه المدة، فلا تصيح ولا تحاول حل قيودك؛ رضيت بقسمك وعفوت عنك.

فظهرت بين عيني الربان علائم الأنفة من الخيانة، وأجاب بهز رأسه ورفعه إلى العلاء مرات متتالية، إشارةً إلى أنه لا يرضى الخيانة، وأنه غير مكترث بالموت.

فرد روكامبول: لكني أقتلك إذا أبيت الامتثال.

فهز كتفيه؛ يريد أنه يؤثر الموت على العار.

فنظر روكامبول في ساعته، فوجد أن الوقت لا يزال فسيحًا لديه، فجلس عند سرير الربان وخاطبه بصوت يشبه الهمس: إنك متى عرفت قصدي، وعلمت أن غايتي نبيلة ترضى بحلف اليمين.

ثم قصَّ عليه بإيجاز خيانة تريبورينو، وأن استرجاع الكنز منه ورده إلى صاحبه حق لا ينكره شريف.

وكان روكامبول يقص عليه هذه القصص بكلمات مؤثرة راجيًا أن يحمله على الرضى، فيمتنع عن قتله، لكنه أصر على الإباء وأشار بعينيه ورأسه أنه يُؤثِر الموت.

فاضطرب روكامبول في أمره، وأشفق من قتل رجل شريف باسل يستخف الموت في سبيل الواجب، وجعل يفكر بحيلة صالحة؛ لأنه لا يستطيع حراسته بالغرفة، وليس من الحكمة أن يدعه وحده فيها.

وفيما هو يفكر التفت إلى جدار الغرفة، فرأى النافذة المطلة على البحر مفتوحة، فمد رأسه منها وجعل ينظر نظر الفاحص، فرأى أن السفينة قد زادت سرعتها بحيث لا يستطيع السابح إدراكها، وأن الظلام مشتد الحلك بحيث لو سقط رجل في البحر من السفينة لا يراه حراسه، فخطر له خاطر سريع وعاد إلى الهندي فسأله: أخبرني نادر أنك تجيد السباحة، فهل تستطيع بلوغ البر سباحةً؟

– دون شك.

– وإذا ألقيتُ هذا الربان إلى البحر ثم سقطت أنت بعده؛ أيمكنك قطع قيوده بخنجرك قبل أن يغرق؟

– نعم.

فنظر روكامبول إلى الربان الثاني وقال له: يسوءني أن أسيء إليك غير أني مضطر، وأسأل الله أن يصونك ويقيك.

ثم شد وسطه بحبل وهو ينظر إليه نظر الاحتقار غير مكترث للموت، وأنزله من النافذة والحبل بيده حتى بلغ إلى سطح الماء، ونزل بعده الهندي وهو مشهر خنجره، حتى إذا بات الاثنان في الماء أفلت روكامبول الحبل فاختفيا تحت الأمواج.

وكان روكامبول قد أمر الهندي أن يذهب إلى الشاطئ، ويجمع أبناء سيوا الذين سلموا من مطاردة الدارعة في موضع تكثر فيه الصخور، وأمره أن يشعل، متى اجتمعوا، نيرانًا تشير إلى موضعها.

ولبث روكامبول حينًا في النافذة يراقب الاثنين، فرأى الربان قد اختفى بين الأمواج، ثم شاهده بعد دقيقة وقد ظهر فوق سطح الماء لأن الهندي قطع وثاقه.

ثم سمع من سطح السفينة صوتًا يصرخ: شخص في البحر!

فأسرع إلى السطح وهو بملابس الربان، ووجد أن رئيس البحارة الذي كان يتولى قيادة السفينة عازم على إنزال قارب لانتشاله، فاعترضه قائلًا: إننا نخسر القارب ولا نتمكن من إنقاذه، وفوق ذلك إن هذا الرجل من الملقيين.

وقد اشتهر الإنكليز باحتقار أهل تلك الجزر حتى إنهم يحسبونهم من البُّهم، ثم إن روكامبول كان لابسًا ملابس الربان الثاني ساترًا وجهه بالقبعة، وقد قلد صوته أتم تقليد؛ فلم يسع رئيس البحارة مخالفته.

وكان نادر قد شاهد سقوط شخصين فحسب أنهما روكامبول والهندي، واستند إلى حائط السفينة وجعل ينظر إلى البحر نظرات اليأس.

وشاهد روكامبول ذلك منه، فترك القيادة حينًا بيد رئيس البحارة وذهب إلى نادر ووضع يده على كتفه وهو غير منتبه، فالتفت إليه منذعرًا، ولكنه عرفه للحال، فقال له روكامبول: لقد تم كل شيء على ما أبتغي، وأنا الآن أتولى إدارة السفينة، فعد لي بعد هنيهة إلى أن ينام رئيس البحارة.

ثم تركه وعاد إلى رئيس البحارة واستلم منه القيادة وأطلق سبيله، فانصرف إلى قمرته لينام وهو آمن مطمئن غير مكترث لغرق البحار؛ لاعتقاده أنه من الملقيين.

٤٣

بعد ذلك بساعة كان نادر يدير دفة السفينة وروكامبول يتولى القيادة العامة دون أن ينتبه إليه أحد؛ لأنه كان يقلد صوت الربان أتم التقليد، وكان الظلامُ حالكًا وكل بحار منهمك في عمله الخاص.

ولم يكن روكامبول يخشى إلا من رئيس البحارة، ولكنه كان ذهب إلى غرفته، فخلا الجو له ولنادر، ودفع السفينة إلى حيث يريد دون أن ينتبه البحارة إلى جهة سيرها لشدة الظلام.

وكان الهندي قد سقط إلى الماء منذ ثلاث ساعات وروكامبول يعلم أنه يسير إلى جهة الشاطئ، ولم يره أشعل النيران حسب الاتفاق، وبات يخشى أن يطلع الفجر فيفتضح أمره.

وفيما هو مفكر ونظره متجه إلى الشاطئ إذ شاهد نورًا أحمر قد سطع فجأة، وشاهد دخانًا كثيفًا يكتنفه، فما شك أنه نور العصابة وضعه الهندي حسب الاتفاق في موضع تكثر فيه الصخور.

فاطمأن خاطر روكامبول، ولم يعد يشغله غير أمر واحد، وهو ابن الرجاه عثمان، فإنه كان في السفينة مع تريبورينو، فجعل يتداول مع نادر في طريقة إنقاذه من الغرق حين تُكسَر السفينة، فاتفقا أنه حين تلطم السفينة بأول حجر يهجم نادر على الغرفة فيختطف الغلام ويسقط به إلى البحر.

ولم يكن في السفينة غير عشرة بحارة، ولكن رجال نادر أكثر عددًا، ومتى جنحت السفينة وتحطمت فوق الصخور هجم أبناء سيوا على أولئك البحارة المضطربين فكان فوزهم مضمونًا.

وعلى ذلك اطمأن الرجلان ودفعا السفينة، فاندفعت تسابق الرياح إلى جهة النيران.

أما تريبورينو فإنه بعد أن بددت الدارعة شمل القرصان ارتاحت نفسه، وكان يتفقد الربان الجريح من حين إلى آخر إذ لم يكن يستطيع مغادرة الفراش، كما أنه كان يصعد إلى ظهر السفينة كلما خرج من غرفته فيدخن سيكارة ويراقب الجو ثم يعود إلى الغرفة.

وقد اتفق أنه صحا من نومه فسمع أنين الربان وتألمه الشديد من جراحه، فاتشح برداء كبير وذهب لعيادته، فعزاه وآساه ثم صعد إلى ظهر السفينة حسب عادته، فرأى كل شيء سائرًا في مناهجه المألوفة، ولم يستوقف نظره غير ذلك الضوء الذي كان ينبعث من الشاطئ، ولكنه حكم بعد إطالة النظر أنه منارة وضعت لإرشاد المسافرين.

وكان نادر جالسًا عند الدفة يديرها، وفوق الدفة مصباح ضعيف، فرأى تريبورينو وجهه على ضوء ذلك المصباح، واستغرب وجود هذا الملقي؛ إذ إن للدفة عمالًا أخصاء.

فدنا منه وسأله عن السبب في قيادته الدفة.

فأجابه نادر بملء السكينة: إن الربان عينه عليها لأنه يعرف هذه الجهات حق العرفان، ولأن عمال الدفة قُتل معظمهم في المعركة الأخيرة التي حدثت مع القرصان.

فاقتنع من جوابه وعاد إلى قمرته.

وعند نزوله مر بغرفة الربان الجريح وكان لا يزال يئن ويتوجع، فدخل إليه.

أما الربان فإنه انقطع عن الأنين حين شاهده وسأله: كيف البحر؟

– إنه موافق لسير السفينة.

– والطقس؟

– إن الرياح آخذة بالشدة.

– ومن على الدفة؟

– واحد من الملقيين.

فارتعش قائلًا: من الذي عينه عليها؟

– الربان الثاني.

– المسيو مرفي؟

– نعم.

– إن هذا مستحيل.

– بل هذا الذي حدث؛ لأن الملقي يدير الدفة.

فاضطرب الربان وحاول أن ينهض ويصعد إلى ظهر السفينة فلم يستطع، فقال لتريبورينو: أرجوك أن تذهب إلى مرفي وتدعوه إليَّ لأني أحب أن أكلمه.

فامتثل تريبورينو وعاد إلى ظهر السفينة.

وكان روكامبول يمشي ذهابًا وإيابًا فوق السفينة وهو يدخن، وقد باتت السفينة على قيد نصف ميل فقط من الشاطئ.

فتصدى له تريبورينو وقال له باللغة الفرنسية: أشعل لي سيكارتي.

فلم يرد وأعطاه سيكارته.

أما تريبورينو فإنه أشعل سيكارته وأعادها له، فرأى وجهه على ضوئها الضعيف وصاح صيحة منكرة لأنه عرفه.

٤٤

وقد حال هدير الأمواج دون سماع صيحة تريبورينو فلم تصل إلى مسامع البحارة.

أما روكامبول فإنه أيقن أن الوقت أقل من أن يتردد، فهجم عليه فجأة وقبض بإحدى يديه على عنقه ثم جرد خنجره قائلًا: إذا فُهْتَ بكلمة فأنت من الهالكين.

ولم ير أحد من البحارة ما جرى ما خلا نادر، فإنه شاهد الاثنين عن بُعدٍ فعلم أن الأمر خطير، فترك الدفة وهي موجَّهة إلى الشاطئ وأسرع إلى روكامبول، فرآه قابضًا على عنق تريبورينو وعلم كل شيء.

وكان تريبورينو بعد أن نال هذه الثروة العظيمة أصبح جبان النفس، منخلع القلب، ولم يُجب بكلمة، ولكنه كان ينظر إلى روكامبول نظرات ملؤها الرعب.

وعاد روكامبول إلى الوعيد وقال له بصوت منخفض: إذا جاء أحد إلى نجدتك أغمدت خنجري في قلبك فلا يجدك حيًّا.

ثم التفت إلى نادر قائلًا له: أسرع أنت إلى غرفة هذا الخائن وخذ الغلام، واسقط به إلى المياه ولا تَخَفْ عليَّ فسنجتمع في الشاطئ.

– والسفينة؟

إنها سائرة إلى حتفها، ألا تراها دنت من الشاطئ؟ أسرع الآن ولا تُضِع الوقت.

وانطلق نادر إلى غرفة تريبورينو.

وبعد هنيهة سمع روكامبول صوت صياح الغلام، ثم سمع صوت سقوط في المياه فأيقن أن نادرًا قد نجا بالغلام.

وعند ذلك انصرف إلى تريبورينو فألقاه صريعًا إلى الأرض، فصاح عند سقوطه صيحة شديدة خشي روكامبول أن يكون البحارة قد سمعوها، فرفع خنجره وحاول أن يغمده في صدره، ولكنه قبل أن يضربه شعر بيد قوية قد دفعته عن خصمه، وسمع صوتًا يصرخ بلهجة المُلِحِّ المضطرب: أسرعوا. أديروا الدفة. اطْوُوا الشراع.

فعلم أن الصوت صوت الربان الأول، وشاهد أن الذي دفعه عن تريبورينو كان رئيس البحارة.

أما السبب في قدوم الربان، فإنه استبطأ تريبورينو فأيقن أنه لم يتأخر إلا لأمر خطير، فأجهد نفسه وخرج من غرفته، فكان أول ما شاهده أضواء أبناء سيوا، وهو يعلم أنه لا منائر في تلك الجهات، ثم شاهد السفينة تتجه إلى الشاطئ وأنها باتت قريبة جدًّا منه.

وكاد يجن من يأسه وصاح بصوته القوي ينادي رئيس البحارة، فهب الرجل من نومه مرعوبًا، وأسرع إلى تلبية نداء رئيسه، فصعد الاثنان إلى ظهر السفينة وشاهدا ذلك الخطر المحدق بها.

وانصرف الربان إلى ملاقاة الخطر المُحدِق بها، وهجم رئيس البحارة على روكامبول وأنقذ تريبورينو من الموت.

أما الربان فإنه نجَّى السفينة من الخطر بإسراعه في طي القلوع وتحويل الدفة، فأمنت الخطر بعد أن كانت سائرة إلى الهلاك، ولو تأخر هنيهة لقضي عليها ولم تنفعها الوسائل.

وأما روكامبول فإنه نهض مسرعًا، وانقض على رئيس البحارة، وطعنه بخنجره، وركض إلى حائط السفينة بغية الهرب بإلقاء نفسه في المياه، غير أنه وجد ثلاثة من البحارة قد اعترضوا سبيله، فلم يفضل له إلا النزول إلى جوف السفينة والهرب من أحد منافذها.

فأسرع راكضًا إلى النزول حتى إذا وصل إلى غرفة الربان الأول شاهد أن البحارة وتريبورينو كادوا يدركونه، فدخل الغرفة مسرعًا وأقفل الباب من الداخل.

فرفس تريبورينو الباب برجله وجعل يصيح قائلًا: اكسروا الباب واقتلوا الخائن.

وكان لباب هذه الغرفة كوة كان الربان قد فتحها خاصةً لمراقبة العمل، فأطل روكامبول منها فرأى تريبورينو يُزبِدُ كفَحْل الجمل الهائج ومعه خمسة بحارة، فعلم أنهم سوف يكسرون الباب ولا يبقى له مناصٌ منهم.

غير أنه وجد طريقة لحسن حظه تُوقفهم عن كسر الباب إلى أن يأمَن شرهم؛ وذلك أن الربان حينما شاهد سفينة القرصان احتاط لها وأمر بإخراج صناديق البارود من العنبر، ففرقوها في الغرف ووضعوا صندوقًا منها في غرفة الربان قرب سريره.

وقد وجد على مائدة الربان غدارتين، فتسلَّح بهما، وصوَّب إحداهما على البرميل.

وعند ذلك سمع صوت تريبورينو قائلًا: اكسروا الباب واقبضوا على هذا اللص.

فأجابه من الداخل: إنك إذا كسرت الباب أطلقت مسدسي على برميل البارود فنسفت بكم السفينة نسفًا، وبِتُّمْ جميعكم طعامًا لأسماك البحر.

•••

إلى هنا انتهى كتاب روكامبول وقد أقام مرميس في تلاوته ثماني ساعات، فلما وصل إلى آخر صفحة من هذا الكتاب الغريب وقف وقفة الحائر، إذ لم يعلم كيف نجا روكامبول من السفينة، وإذا كان التقى بنادر وابن الرجاه عثمان أم لم يلتق بهما، وماذا جرى بين روميا ونادر؟ كل ذلك بقي لديه لغزًا يعسر حله.

فلما أتم تلاوته إلى ميلون وسأله: إن هذه الحكاية لم تتم بعد.

– ستعرف بقيتها متى التقيت بالرئيس.

– لكن متى نلتقي وأين؟

– ستعلم ذلك غدًا.

– والآن، أنبقى في هذا البيت؟

– كلا، بل نخرج منه متى شئت.

– إذن لنخرج الآن فقد بتُّ محتاجًا إلى الهواء والنور بعد هذا الحبس الطويل في جوف الأرض.

– هلم بنا.

وخرج الاثنان.

٤٥

بعد ذلك بثلاثة أيام كان مرميس وميلون في لندرا، وقد وصلا إليها في الصباح ونزلا في فندق هانوفر.

وكانت هيئة مرميس تظهر على أنه من الأشراف، وهيئة ميلون على أنه وكيله.

أما السبب في قدومهما إلى لندرا، فهو أنه حين خرجا من البيت السري قال له ميلون: إني أخبرك الآن بأوامر الرئيس، فهي أننا نبيت الليلة في باريس وغدًا نذهب إلى لندرا.

– إن روكامبول ينتظرنا فيها دون شك.

– لا أعلم، ولكنه أمر أن نقيم في فندق هانوفر حين نصل إلى لندرا، وهذا كل ما أعلمه.

– إذن لا بد أن نجده أو نجد فاندا.

وباتا تلك الليلة في باريس، وفي اليوم التالي سافرا إلى لندرا ونزلا في الفندق الذي أمر روكامبول أن ينزلا فيه، فلما كتب مرميس اسمه في سجل المسافرين ورأى أن عمال الفندق قرءوه دون اهتمام؛ علم أن روكامبول غير مقيم فيه.

وأقام في ذلك الفندق طول النهار راجيًا أن يحضر روكامبول، ولكنه لم يحضر، فلما حل الليل قال لميلون: ابق أنت في الفندق وأنا ذاهب للطواف في المدينة علِّي أظفر بروكامبول.

ثم لبس وتأنَّق وذهب إلى النادي الهندي، وهو في ذلك العهد من أعظم النوادي، فتعشى فيه وذهب إلى الأوبرا حيث كانوا يحتفلون فيها بتمثيل رواية جديدة، لاعتقاده أنه لا بد أن يجد الرئيس بين المتفرجين.

فلما دخل وجد القاعة غاصَّة بأعيان الإنكليز، ففتش بنظره عن روكامبول تفتيشًا دقيقًا فلم يره.

ولكنه رأى غرفة من غرف الأوبرا لا تزال فارغة، فقال في نفسه: لا بد أن الرئيس قد استأجر هذه الغرفة له ولفاندا وسوف يحضر؛ فإن الممثلين لم يفرغوا بعد من تمثيل الفصل الأول.

وبعد هنيهة رأى أن باب هذه الغرفة قد فتح ودخل منه رجل وامرأة، ولم يكن الداخلان روكامبول وفاندا، غير أن علائم الدهشة ظهرت على وجه مرميس لأن هذه المرأة التي دهش لجمالها جميع الحاضرين إنما كانت روميا، أي البستانية الحسناء.

أما الرجل الذي كان يصحبها فقد كان مربوع القوام، وهو بين العمرين أميل إلى الكهولة، غير أنه كان شديد التأنق بملابسه تدل ملامحه على النبل، فلم يكد يدخل إلى اللوج حتى انصرفت إليه الأنظار وتحولت عن البستانية الحسناء.

فدهش مرميس ولم يدر السبب في اتجاه الأنظار إلى الرجل دون المرأة، وكان إلى جانبه رجل من الإنكليز رآه في النادي، فالتفت إليه وقال له: أتعلم سبب اهتمام الناس بهذا الرجل؟ فهل كان ذلك لجمال امرأته؟

– كلا، بل إنهم قد انصرفوا إليه دونها لاهتمامهم به نفسه.

– ومن عساه يكون هذا الرجل؟

– هو الماجور لنتون.

فارتعش مرميس إذ علم أنه تريبورينو.

أما الإنكليزي فإنه مضى في حديثه فقال: إن هذا الرجل قدم حديثًا من الهند بثروة عظيمة لا يحيط بها وصف، ولا تذكر في جنبها ثروات الإنكليز، حتى لقد قيل عنه إنه جاء من الهند بألوف من الأحجار الكريمة التي لا يوجد مثلها في تيجان الملوك.

– ولكن كيف حصل على هذه الثروة؟

– الشائع أنه جمعها من تجارة الأفيون.

– وهل جعل إقامته في لندرا؟

– يقال إنه سيقيم فيها في الصيف، وأما في الشتاء فسيقيم في قصر فخيم اشتراه في بلاد الغال.

فبدأ مرميس يفتكر أن لروكامبول يدًا في جميع ذلك، وسأله قائلًا: هل امرأته قدمت معه من الهند؟

– ذلك ما لم يعلمه أحد إلى الآن؛ فإن الماجور قد جاء معها، ولكن يظنون أنها فرنسية.

– أتراه تزوج بها في باريس؟

– ربما.

ثم نظر مرميس إلى اللوج فرأى روميا ترمقه بنظرة المحدق، فعلم أنها عرفته، ثم رأى أنها تبتسم له ابتسامة سرية، فقال في نفسه: إنها جرأة نادرة، غير أن تريبورينو لم يرها تبتسم لأنه كان منصرفًا عنها إلى مشاهدة التمثيل، خلافًا لروميا فإنها كانت شاخصة بأبصارها إلى مرميس، وجال في فكره خاطران؛ وهما: إما أن روميا لم تقم مع تريبورينو إلا بأمر روكامبول، وإما أنها تخلصت من روكامبول وكان اجتماعها بالماجور لنتون من قبيل الاتفاق والصدفة.

وأقام ينتظر حتى انتهى التمثيل فكان أول خارج من القاعة، فوقف عند الباب كي يرى البستانية الحسناء عند انصرافها، وفيما هو واقف ينتظر شَعَر بيدٍ وُضعت على كتفه، فالتفت فرأى الرئيس.

٤٦

أما روكامبول فإنه أجابه وهو يبتسم: أراك منذهلًا مما رأيته، ولكنك ستزيد انذهالًا فاصبر.

وما لبث أن أنهى كلامه حتى أفلت منه مسرعًا واختبأ وراء أحد العواميد، فأدركه مرميس قائلًا له: ماذا تفعل؟

– إني أختبئ كما ترى.

وعند ذلك خرجت البستانية الحسناء وهي تتكئ على ذراع تريبورينو وقد احمرت وجنتاه، وبدا على جسمه وبدت في عينيه علائم الرضى والقحة كأنه كان يقول: ما فاز باللذات غير أهل الشر.

أما روكامبول فإنه قال لمرميس: انظر إلى هذا الرجل.

– لقد عرفته فهو تريبورينو، ولكن بقيت أشياء لم أعرفها.

فابتسم روكامبول قائلًا: لم يحن الوقت بعدُ، وستعرف كل شيء.

ومرت البستانية الحسناء فرأت مرميس وابتسمت له، ثم مد روكامبول رأسه فذهب الابتسام عن شفتيها، وبدت على وجهها علائم الخوف والخضوع.

ثم مشت مع الوزير إلى مركبة فخمة كانت تنتظرهما، فركبا فيها وانطلقت بهما مسرعة.

فلما ابتعدت المركبة أخذ روكامبول بيد مرميس قائلًا له: هلم بنا يا بني.

ثم مشى وإياه حتى خرجا من الزحام فقال له: اعلم الآن أن تريبورينو هائم بالبستانية الحسناء هيامًا شديدًا منذ ثمانية أيام.

– إن أهل لندرا يعتقدون أنها امرأته؛ فكيف اتفق ذلك؟

– لأنهم يعلمون أنه جاء بها من باريس، فاعلم الآن، يا بني، أن هذه المرأة التي كانت تكوي الشيخ بالنار حتى تطفئ دماؤُه نارَه، والتي ذهبت بعقل المركيز دي مورفر، وكانت تجلد ولده بالسياط، والتي كادت تقضي عليك بالسهر؛ أن هذه المرأة الهائلة أطوع لي من البنان، وهي تخضع لأمري خضوع العبيد.

– لقد رأيت شيئًا من هذا غير أني لا أعلم غايتك من تسليمها إلى تريبورينو.

– غايتي أن أجعلها آلتي في تنفيذ أغراضي منه.

– وماذا جرى لابن الرجاه؟

– لقد نجا.

– وأين هو الآن؟

– في باريس.

– أتسمح لي، أيها الرئيس، أن أسالك سؤالًا؟

– قل.

– ماذا جرى للدوق فنسترنج والمركيز مورفر وابنه؟

– إن الدوق الشيخ مات، والمركيز في مستشفى المجانين، لكنهم يرجون له الشفاء، وأما ابنه فقد تكفلت به فاندا، ولم أعد أخشى الآن روميا، فمتى فرغت من شأني مع تريبورينو أعدت للمركيز ثروته من ابن عمه؛ فإن الناس يعتقدون إلى الآن أنه ميت.

– وفاندا، أهي في باريس؟

– كلا، بل هي معي في لندرا.

ثم سكت روكامبول هنيهة ونظر إلى مرميس قائلًا: أراك تريد أن تسألني أيضًا سؤالًا آخر يتردد بين شفتيك حتى يكاد يلهبهما.

– هو ما تقوله يا حضرة الرئيس.

– إنك تريد أن تعرف كيف خرجت من السفينة، وكيف اجتمعت بنادر وابن الرجاه. إن الأمر بسيط؛ فإني حين كنت في غرفة الربان جون هابر كنت مُصوِّبًا الغدارة على برميل البارود أُنذِر السفينة بالنسف، فخاف تريبورينو أن أكون صادقًا في وعيدي وجعل يتشاور مع الربان فيما يجب فعله، فاغتنمت فرصة انشغالهم عني وخلعت ملابس بجملتها وخرجت من نافذة غرفة الربان المطلة على البحر وألقيت نفسي.

كان الفجر قد انبثق، فلما شعروا بسقوطي إلى البحر كنت أبتعد عن السفينة نحو مائة متر، فأسرعوا إلى ظهر السفينة وأطلقوا عليَّ بنادقهم، فكان الرصاص يسقط حولي كوابل المطر، ولكني كنت أغوص تحت الماء سابحًا فأمكث دقيقة حتى يحسبوني غرقت، ثم أطفو على وجه الماء مُتنَفِّسًا فيعودون إلى إطلاق الرصاص.

وما زال هذا دأبي ودأبهم حتى بعدت عن مراميهم وأمنت رصاصهم، وكان الشاطئ قريبًا، فلما دنوت من جهة النار رأيت نادرًا مسرعًا إليَّ بقارب صغير، فانتشلني من المياه، وسافرت السفينة آمنة إلى أوروبا تحمل كنوز الرجاه وذلك الوزير الخائن.

فقال مرميس: بقي أمر يا سيدي أود أن أعلمه، وهو بقية حديث نادر مع روميا، والسر في سلطانك عليها.

– أما بقية هذا الحديث فقد أرويه لك في موضع آخر، وأما تسلطي عليها فهو أن هذه المرأة قد أحبت نادرًا حبًّا عظيمًا، وانضمت إلى سلك أبناء سيوا، وقد جعلني نادر رئيسًا لهذه الطائفة في أوروبا، فأنا الآن فيها كما كان جورج ستوي في لندرا؛ لذلك وجب على روميا أن تطيعني لأني بتُّ رئيسها المطلق، وجميع خدامها من أبناء سيوا، وهم يعرفون رئاستي وما لي عليهم من حق السلطة المطلقة؛ فلا سبيل لها إلى عصيان أمري.

والآن فإن لدينا كثيرًا من المهام التي يجب قضاؤها، فاعلم أنه يجب عليك أن تتربص في هذا المكان إلى أن تأتيك امرأة.

– من هي هذه المرأة؟ ألعلها البستانية؟

– كلا، بل تأتيك امرأة أرلندية فتظهر لك قطعة من النقود، فإذا أظهرتها لك فاتبعها.

– إلى أين؟

– إلى البستانية، حيث تمتثل لها في كل ما تريد، وتفعل كل ما تطلب إليك أن تفعله.

وذكر مرميس ما لقيه من العذاب في منزل هذه المرأة الهائلة، وظهرت عليه علائم الاضطراب، فقاله له روكامبول: لا تخف بعد الآن هذه المرأة؛ فقد باتت منا.

ثم تركه وانصرف، وبقي مرميس واقفًا في مكانه ينتظر الأرلندية.

٤٧

وتربص مرميس في مكانه ينتظر وهو يراقب خمارة في الشارع كثر تردد الناس إليها وخروجهم منها، حتى شاهد امرأة متسولة خرجت من تلك الخمارة وقربت منه.

وذكر مرميس أنه شاهد هذه المرأة قبل الآن، ولكنه لم يذكر أين حتى سمع صوتها، وذكر للحال أنها تلك الأرلندية التي ساعدت على اختطاف حبيبته جيبسي الغجرية، وقد اضطرب قلبه وهاج غضبه، وهمَّ أن ينقض عليها وينتقم منها، غير أنه ذكر وصية الرئيس، فعلم أنه لا يحق له أن يعمل غير ما أوصاه به، فسكن ثائره، وكظم غيظه.

ولم يخطر في باله أن هذه الأرلندية قادمة إليه حتى رآها دنت منه فقالت له: هل أنت مستعد؟

فذهل مرميس وسألها: لأي شيء؟

– لتتبعني؟

– إلى أين؟

– إلى حيث أمرك الرئيس؛ أي إلى بيت روميا.

ثم أظهرت له قطعة من النقود فلم يشكك أنها هي التي عينها الرئيس، لكنه لم يتمالك عن إظهار استغرابه واشمئزازه فقال لها: إني سأتبعك، ولكني أعجب من الرئيس كيف يختار عماله من الأشقياء أمثالك.

قالت: ليكن حكمك علي كما تشاء غير أني أخدم من يُحسن إجازتي بملء الإخلاص.

ثم مشت أمامه فتبعها مرميس، وما زالا سائرين حتى وصلا إلى جسر لندرا.

وكان الضباب كثيفًا والظلام مدلهمًّا، فسألهما: إلى أين أنت سائرة بي؟

– إلى النهر، وسنجتازه إلى بيت روميا كما أخبرتك.

فتفقد مرميس خنجره ومسدسه ومشى في أثرها غير هيَّاب لاعتماده على هذين الحليفين، حتى إذا وصلا إلى الشاطئ خلعت الأرلندية ثوبها الأعلى، فظهرت رجلًا بملابس البحارة، ثم أخرجت قبعة من جيبها فلبستها وسترت تحتها شعرها.

وهناك قارب كان قد وُضع خاصة لها، ففكَّت حباله، ونشرت شراعه، ونادت مرميس فوافاها إليه وانطلق يخوض التيمس.

فسألها: ألعل المكان لا يزال بعيدًا؟

– إنه خارج لندرا، وسنصل قريبًا؛ فإن القارب ينطلق انطلاق السهم لموافقة الريح.

فجلس مرميس في مؤخر القارب يفكر بروكامبول ومقدرته على امتلاك القلوب؛ فإنه ما استخدم رجلًا ولو كان من اللصوص الآثمة حتى انقلب إلى الهدى وخدمه بملء الوفاء والإخلاص، كأنما لهذا الرجل قدرة فوق قدرة الإنسان.

وظل القارب يسير في النهر والأنوار تحتجب تباعًا حتى بات في ظلام دامس، فعلم أنه خارج لندرا.

وبعد أن توغلا هنيهة في الظلام ظهر له على الشاطئ الأيسر ضوء ينبعث من أحد المنازل فقال لها: ما هذا الضوء الجديد الذي نراه؟

– هو ضوء المنزل الذاهبين إليه وقد أشرفنا عليه.

ثم قامت إلى الشراع فطوته، ووضعت المجدافين في موضعهما وجعلت تجدف بهما، فما مرت بها بضع دقائق حتى وصلت إلى الشاطئ، فنزلت إليه وربطت القارب.

وعند ذلك نزل مرميس فقالت له: انظر هذا البيت والحديقة التي تكتنفه، ألا ترى باب الحديقة؟

– بلى.

– هو ذا مفتاحه.

ثم أعطته مفتاحًا صغيرًا وقالت له: اذهب وافتح به الباب، وامش في الحديقة حتى تغدو تحت نوافذ المنزل فصفق بيديك ثلاث مرات؛ فإنها العلامة المتفق عليها.

– ألا تأتين معي أنتِ؟

– كلا.

ثم تركته وعادت من حيث أتت.

٤٨

وقد تردد مرميس هنيهة حين رأى الأرلندية تركته وعادت مسرعة، وجال الشك في نفسه؛ إذ خشي أن تكون هذه المرأة رسول تريبورينو.

غير أن هذا الخوف لم يتجسم في قلبه؛ فإنه ذكر أنها أظهرت له الإشارة التي عينها الرئيس، فأخذ المفتاح وتقدم إلى باب الحديقة ففتحه، ودخل ويده قابضة على مسدسه من قبيل الاحتياط.

ولما دخل أقفل الباب، ورأى ضوءًا منبعثًا من نافذة في المنزل فاهتدى به واخترق الحديقة توًّا إليه، حتى إذا بات تحت تلك النافذة صفق بيديه ثلاث مرات، فرأى أن الضوء قد تحول عن مكانه، ثم رأى أن باب الغرفة المشرفة على الحديقة قد فتح.

وهناك سلم من الرخام فصعد درجاته غير هيَّاب حتى انتهى إلى باب، فولج منه إلى فسحة ضيقة لا ضوء فيها، وسمع صوت امرأة تقول له: تعال من هنا، فعلم أن الصوت صوت روميا.

ثم شعر أنها أخذت بيده وقالت: اتبعني.

فتبعها وسارت به إلى أن اجتاز تلك الفسحة وانتهيا إلى سلم فرشت درجاته بالطنافس فقالت له همسًا: اصعد واحذر أن يُسمع حسٌّ لوقع أقدامك.

– ألسنا وحدنا هنا؟

– كلا، فإن لنتون في الغرفة التي فوقنا.

– أفي الغرفة التي رأيت فيها الضوء؟

– نعم.

فصعد مرميس بما أوصته من التأني حتى وصلا إلى آخر السلم، ففتحت البستانية الحسناء بابًا عن يسارها ودخلت منه، فتبعها مرميس فوجد نفسه في قاعة صغيرة تكتنفها الظلمات.

غير أنه رأى في أحد جدران القاعة ثقبًا صغيرًا ينفذ منه النور الذي شاهده وهو في الحديقة.

فقالت له روميا: ضع عينك فوق هذا الثقب وانظر.

ففعل ونظر مقعدًا شرقيًّا كبيرًا، ورأى عليه شخصًا نائمًا بملابسه وقد سقطت فوق صدرته البيضاء بعض نقط من الخمر.

ورأى بجانب المقعد منضدة وضعت فوقها قناني الشراب الفارغة، وصينية عليها بقايا طعام.

فقالت همسًا: إنه نائم.

فوضع مرميس فمه في أذنها وسألها: ألعله نائم نوم تخدير بأدويتك السرية؟

– كلا، بل هو صريع السكر.

– ألعله سكر بالأفيون؟

– بل بالخمر.

فابتسم مرميس وقد عجب كيف أنها أسكرته بالخمر وفي وسعها أن تضله عن الرشد بما لديها من العقاقير المخدرة.

وكأنها قد علمت ما جال في فكره فقالت له: أراك منذهلًا مما تراه، لكن الماجور لنتون هو غير المركيز دي مورفر.

وقد لفظت اسم المركيز بصوت أجش، فعلم مرميس أنها لو لم تصبح عبدة لروكامبول لما سلم قاتل حبيبها برديتو من انتقامها الفظيع.

غير أن مرميس لم يجبها فقالت له: إن لنتون عاش في الهند دهرًا طويلًا، فهو يعلم ما أعلمه من أسرار الأزهار والمخدرات والسموم، ولا أستطيع الوقوف على سره بالمخدرات، بل بالغرام.

– ألعل له سرًّا؟

– دون شك؛ ألم يقل لك الرئيس شيئًا عنه؟

– كلا، فقد قال لي: إنهم سيأتون بي إليك، وإنك ستخبرينني بما يجب أن أعلمه.

– إذن فاعلم أن الماجور لنتون عاد من الهند بثروة عظيمة.

– إني أعلم بهذه الثروة.

– وأن الرئيس يريد سلبه إياها.

– وهذا أعلمه أيضًا.

– غير أننا لا نزال نجهل أين توجد هذه الأموال، فإنه شديد الحذر، كثير الحرص عليها، وقد خبأها في مكان لا يعلم به أحد، وهو على فرط غرامه بي لم أستطع أن أعلم منه شيئًا إلى الآن.

– ولكنه لا بد أن يكون أودع أمواله المصارف، فكيف السبيل إليها؟

– إنه لم يودع شيئًا منها خلافًا لما تتوهم، بل إنه اكتنزها أو خبَّأها في مكان لا يهتدي إليه سواه. وهذا ما نبحث عنه الآن أنا والرئيس.

– ولكنك تقولين: إنه يهواك.

– نعم، لكنه يحبني كما يحب الغني أداة ثمينة، أو حصانًا جميلًا، فهو يحبني بعينيه لجمالي، ولكنه لم يحبني بقلبه بعدُ، على أنه إذا لسَعتْ هذا القلب عقربُ الغيرة بات في قبضة يدي أفعل به ما أشاء.

– ولكني أراه يذهب بك إلى المراسح والمنتديات، فلو كان يخشى الغيرة لما عرضك للعيون.

– إنه يرى الناس يحدقون بي فيُسَرُّ؛ لأنه لا يغار من جميع الناس. وإن الغيرة لا تكون إلا من واحد.

– أتريدين أن تقولي: إنك تستطيعين حمله على الغيرة؟

– دون شك، إذا أردت أن تمثل الدور الذي أسألك تمثيله بأمر روكامبول.

– إني أفعل كل ما يأمرني به الرئيس.

– إذن فاسمع.

ثم جلست وإياه على مقعد كان يبعد خطوتين عن الثقب الذي رأى منه تريبورينو.

٤٩

أما تريبورينو فقد كان صريع سكره وهو نائم بسكينة وارتياح.

وقد كان متعودًا منذ عشرين عامًا أن يسكر عند العشاء وينام، فإذا صحا من رقاده ذهبت السكرة وعاد إلى ما كان عليه من الصحو.

وكان آخر عهد القراء به أننا تركناه في الباخرة العائدة من الهند إلى إنكلترا، لكنه لم يعد إلى بلاده توًّا، بل إنه عاد قبلًا إلى فرنسا وأقام في باريس عدة أيام.

وإنه كان يتجول ليلة في شارع الإيطاليين إذ رأى البستانية الحسناء فدهش لجمالها، ولا نعلم إذا كانت يد الصدفة قد دفعتها إلى لقائه في هذا الشارع أم يد روكامبول، ولكن الرأي الثاني أقرب إلى الصواب.

أما تريبورينو فقد كان واثقًا من نيل كل ما يريد بفضل تلك الثروة الهائلة، فلما رأى روميا وراقه جمالها أرسل من اقتفى أثرها، وحظي منها بموعد لقاء، وبعد ثلاثة أيام جاء بها إلى لندرا.

ولم يكن قلبه خاليًا من الغيرة كما توهمت روميا؛ فإنه إذا كان واثقًا من المستقبل فلم يكن مطمئنًّا للماضي، وكان يقول في نفسه: إن هذه الحسناء مهما بلغ من طمعها فإني أستطيع إرضاءها بجزء من مائة من إيرادي، ولكني أخشى أن يكون قلبُها عالقًا بأحد عشاقها، وأنها تحبني حب مكر ورياء.

أما روميا فإنها لم تكن تجهل مخاوفه، فكانت تزيد هواجسه، ولا تكشف له شيئًا من أسرار ماضيها، بل إنها كانت تبدر منها من حين إلى حين كلمات مبهمة تهيج ثائر هذا العشيق فيبيت منها بليلة الملسوع.

ولقد تقدم لنا القول أن تريبورينو كان يسكر فينام، ثم يستفيق من تلقاء نفسه بعد أن تزول نشوة السكر، غير أنه في هذه الليلة لم يستفق من تلقاء نفسه حسب عادته، بل إنه صحا لسماعه صوت ألم شديد؛ فهب منذعرًا إذ علم أن هذا الصوت صوت عشيقته روميا.

فناداها باسمها فلم تجب، فوثب من مقعده إلى الغرفة المظلمة المجاورة، فعثر بجسم ممدد على الأرض.

وكان ضباب السماء قد انقشع ونفذت أشعة القمر إلى تلك الغرفة، فرأى تريبورينو على نوره روميا ممددة على الأرض لا حراك بها.

فذعر ذعرًا شديدًا وقد حسبها ميتة، فحملها بين ذراعيه وجعل يناديها فلا تجيب.

وفيما هو يجس قلبها شعر أن يده قد لمست مادة لزجة عند كتفها، فصاح صيحة منكرة؛ إذ علم أنها دماء، وأسرع إلى جرس الخدم فقرعه قرعًا شديدًا، فوافاه اثنان منهم وبأيديهما المصابيح، وحملوا البستانية إلى سريرها، وجعل يفحصها فرأى أنها مجروحة في كتفها جرحًا غير خطر، ولكن الدماء كانت تتدفق منه.

وجعل يشممها المنعشات حتى استفاقت، ففتحت عينيها وجعلت تنظر إلى ما حواليها نظرات تشفُّ عما داخل قلبها من الرعب.

وسألها تريبورينو: قولي ماذا جرى؟

– لا شيء.

– كيف لا شيء وهذا الدم؟

– إني عثرت بالمقعد فسقطت.

– بل إنك تكذبين.

– كلا، كلا، لم يحدث شيء.

– إنك أصبت بضربة خنجر.

– لا أعلم.

– من دخل إلى هنا؟

فنظرت روميا إلى ما حولها بذعر وقالت: لم يدخل أحد.

وكانت النافذة مفتوحة، وكانت تقول هذا القول وهي ناظرة إليها نظرة تتنهد؛ كي توهمه أن الرجل دخل إليها من النافذة، وأنها تتنهد لما علق بقلبها من هواه.

وقد رأى تريبورينو منها هذه النظرات، فجُنَّ من غيرته وترك روميا بين أيدي الخدامين يضمدان جرحها، ثم ركض إلى الحديقة وجعل يفحص ترابها، فرأى آثار أقدام على الرمل فاقتفى الأثر حتى انتهى إلى باب الحديقة فوجده مفتوحًا.

ولم يعد يشكك أن البستانية جرحت من أحد عشاقها، وعاد إلى المنزل وهو يُزبِد من الغضب، وأمر الخدامين بالانصراف وجلس بجانبها فقال لها: إن رجلًا قد دخل هذه الليلة إلى هذه الغرفة وطعنك بخنجره، فمن هو هذا الرجل؟

فهزت البستانية الحسناء رأسها وقالت له: لا تسألني فإني لا أستطيع أن أقول شيئًا.

فقال لها بلهجة التهديد: ولكني أريد أن أعرف كل شيء.

– ذلك محال.

فضرب الأرض برجليه وقال: قلت لك أريد أن أعلم.

– ولكني لا أستطيع أن أقول شيئًا، فإذا شئت اقتلني.

ونظر تريبورينو فرأى ذلك الخنجر الذي جرحت به روميا على الأرض، وأسرع إليه فاختطفه وعاد به إلى روميا فقال لها: تكلمي أو لا تلقين مني غير الموت.

٥٠

أما البستانية الحسناء فإنها لبثت ساكنة هادئة كأنما هذا الإنذار غير موجه إليها.

وأما تريبورينو فإن الغيرة قد صعدت من قلبه إلى رأسه فألهبت دماغه، وبات كالمجانين، ولبث يردد هذا القول: تكلمي أو أقتلك.

ولما طال تهديده رفعت روميا رأسها بعد إطراقها، ونظرت إليه بعين كانت تتقد اتقاد السلاح سطعت عليه أشعة الشمس، ثم ابتسمت ابتسام الساخر وقالت له: تريد أن أتكلم، أليس كذلك؟

فضغط تريبورينو على قبضة الخنجر حتى كاد يسحقها وقال: بلى، أريد أن أعلم كل شيء.

فلم يظهر على روميا شيء من الرعب وقالت له: إذا كانت هذه إرادتك؛ فليكن ما تريد وسأتكلم.

– أرأيت كيف انتهى بك التهديد إلى الخوف؟

– كلا، إني لا أخاف هذا الموت الذي تنذرني به، ولكني أريد أن أنهج معك منهج الحرية؛ فقد كفاني ما ألقاه كل يوم من غيرتك.

وكانت تتكلم هذا الكلام بلهجة تظهر التهكم، فاضطرب تريبورينو، ولكنه كظم غيظه وصبر إلى أن تتم حديثها.

وعادت روميا إلى الكلام فقالت: إني سأكون معك حرة الكلام والضمير، فاعلم أني لست امرأة طاهرة نقية، وما أنا من أهل العواطف والأحلام، بل أنا تاجرة جمال، ولكني شديدة الطمع ببضاعتي، فأنا أريد قصرًا لا منزلًا، ولو استطعت لصغتُ النجوم عقودًا وجمَّلتُ بها هذا العنق الذي تهواه.

أما وقد عرفت ذلك مني، فاعلم الآن أني ما أصغيت إلى حديث غرامك إلا بعد أن قيل لي بأنك أعظم مُثرٍ في هذا الوجود.

فأجابها تريبورينو: وأنا أعلم أنك طامعة بمالي، ولو كنت مكانك لما فعلت غير ما تفعلين، ولكن جميع ما قُلتِه لا يُنبئُني عن هذا الرجل الذي دخل إلى غرفتك.

– بل هذا الرجل كاد يقتلني، وطبع فوق كتفي أثرًا من خنجره …

فهاج غضبه وقال: نعم، إني أطلب أن أعرف اسم هذا الرجل.

صبرًا وأصغِ إلى أن أُتم حديثي: إنك حين لقيتني في باريس كان لي خيل ومركبات وجواهر وقصور، ولم يكن علي ديون، فكنت أنفق في العام ثلاثمائة ألف فرنك.

– ماذا تريدين بذلك؟

– أريد أنه قبل أن يعود الماجور لنتون بالكنوز من الهند كان يوجد في باريس من يحبني وينفق علي كما أشتهي.

فوقع هذا الكلام من قلبه وقوع السهم؛ لأنها عرفت منه موضع الضعف؛ إذ علم أن مزاحمه في عشقها لم يكن من عامة الناس وفقرائهم، فهاجت عوامل الغيرة منه وسألها: ومن هو هذا الرجل الذي يستطيع أن ينفق إنفاقي؟

– إنه شخص هواني هوًى عظيمًا، ولم يُسِئ إليَّ بشيء، فلما تركته ولحقتك إلى لندرا كتبت إليه كتاب وداع، ولكني حرصت على إخفاء أثري.

– وهذا الأثر؟

– اقتفاه لفرط عشقه إياي وعرف أين أنا.

– أجسر على القدوم إلى هنا؟

– نعم.

– ولماذا لم توقظيني حين قدومه؟

– لأسباب أولها أنك كنت سكران.

– وثانيها؟

– وثانيها أني لا أستطيع طرد رجل عشقني عشقًا مخلصًا، ونهج معي مناهج الكرام.

فقال لها بلهجة المحتقر: ولكن هذا الكرم دفع به إلى هاوية الإفلاس؟

– إنك منخدع؛ لأن ثروة هذا الرجل الذي أخبرك عنه لا تنضب ولو أنفق على عشر نساء مثلي لما أثَّرنَ عليه.

فهاجت كبرياء هذا السارق، وثارت عوامل الغيرة في قلب هذا العاشق فسألها: من هذا الرجل؟ وماذا يدعى؟

– إنك لا تعرف اسمه.

– لكن من يكون له مثل هذه الثروة يعرفه جميع الناس لاشتهاره؟

– افترض أنه أمير روسي.

– إذا كان هذا الرجل غنيًّا إلى هذا الحد؛ فكيف تركتِه من أجلي؟

– لأنهم قالوا لي إنك أغنى منه.

فسُر تريبورينو من هذا المديح وأجاب: لقد أصابوا؛ لأني أغنى إنسان في هذه البلاد.

– هذا ما يعتقده الناس في لندرا وباريس، بل هذا ما كنت أعتقده أنا، ولكني لا أعتقد بشيء من هذا الآن.

فتراجع منذعرًا وقال: كيف ذلك؟

– إني صدقتك في البدء فلم أسأل عنك ولا عن مقدار ثروتك، على أن هذا الرجل الذي جاءني في هذه الليلة قال لي: إذا كان الماجور أغنى مني تنازلتُ له وتراجعتُ عن غرامك.

– لقد أصبتِ بثقتك بي أولًا، وأخطأت في النهاية، وأنا أقبل بهذا الشرط، فماذا قال لك الرجل أيضًا عني؟

– يقول أيضًا: إن هذا الرجل يُموِّه على الناس تمويهًا، وإنه لم يعد من الهند إلا بمال قليل وبعض الحجارة الكريمة، وإن جميع ثروته لا تقوم بنفقتك شهرين ثم يتخلى عنك لإفلاسه؛ فتخسريه وتخسريني.

فضحك ضحكًا عاليًا وقال: أهو يظن هكذا؟

– بل هو يقين لديه يثبته بالأدلة.

– وما هو برهانه؟

– برهانه أنك لم تستودع مصرفًا من مصارف لندرا وباريس وفرانكفورت وفيينا مليونًا واحدًا من الثروة التي تدعيها.

– هذا أكيد.

– وبرهانه أنك لا تمتلك شبرًا من الأرض في إنكلترا وفرنسا وغيرهما.

– وهذا أكيد أيضًا.

– وآخر براهينه أنهم سألوا عنك حاكم الهند بالتلغراف، فأجاب أنك برحت الهند بثروة قليلة جمعتها من اقتصادك في رواتبك.

– هذا أكيد أيضًا، غير أن لي ألوفًا من الملايين تكدَّس بعضها فوق بعض.

– أين هي هذه الملايين؟

فنظر إليها عند هذا الكلام نظرة البازي إلى فريسته ثم قال لها بعد سكوت قصير: إذا قلت لك أين هذه الملايين كلَّفك هذا السر ثمنًا غاليًا.

فضحكت روميا ضحكًا دلَّت به على عدم تصديقها ثم قالت: رضيت بالثمن، ولكني أريد أن أعرف.

٥١

وساد السكوت بين تريبورينو والبستانية الحسناء، وكان كل منهما يفحص الآخر ويقول في نفسه: ترى مَن يكون الغالب؟

إلى أن بدأ تريبورينو الحديث قائلًا: إذن أنت تعتقدين أيتها الحسناء أني مموه محتال؟

– هذا ما يقوله الناس عنك.

– وترين أني فقير لا تكفيكِ ثروتي شهرين، ولكني كما قلت لك: لا يوجد في جميع أوروبا من يملك ربع ثروتي.

– كل ذلك ممكن، ولكن الكلام وحده لا يكفي.

– أتريدين إذن أن تري ثروتي كي تصدقي؟

– دون شك.

– احذري!

– من أي شيء تريد أن أحذر؟

– من أمر بسيط؛ وهو أني أخاف اللصوص.

– ذلك من حقك؛ لأن من كان مثريًا وجب عليه الحرص على ماله.

– إنه، إلى الآن، لم يعلم الموضع الذي خبأت فيه أموالي غير شخص واحد.

– إذا كنت قد أوقفت على سرك واحدًا، فلا بأس من أن تطلع عليه اثنين.

– لكن هذا الرجل الذي أطلعته على سري بات عبدًا لي، وباتت حياته في قبضة يدي، فهل يروق لك أن تكوني مثله؟

– أقبل إذا أضحت هذه الكنوز تحت أمري.

– ولكن يجب أيتها الحبيبة أن أخبرك قبل كل شيء كيف أصبح هذا الرجل عبدي، وباتت حياته بيدي.

إن هذا الرجل الذي ائتمنته على سري ارتكب جريمة إذا أُذيع سرها حُكم عليه بالإعدام، وإن لدي الأدلة الكافية على ثبوت جريمته، فإذا فشا سر كنوزي أفشيت سر جريمته، فأعدمته بكلمة أرسلها إلى رئيس البوليس، غير أنك لا تقاسين إلى هذا الرجل؛ لأنك لم ترتكبي جرائم فيما أظن.

– مَن يعلم؟

– ولو افترضت أنك مجرمة، فليس لدي برهان يؤيد جريمتك.

فقالت له بلهجة تدل على صدق العزيمة: وإذا أعطيتك هذا البرهان؟

فاضطرب تريبورينو وأتمت هي حديثها فقالت: كلا، إن جميع ذلك لا يفيد، وأنا لا أزال واثقة من أن ما قيل لي عنك حقيقة لا شك فيها، فاسمح لي أن أكلمك بحرية وجلاء.

فقال لها ببرود: تكلمي.

– إن هذا الرجل الذي جاء إلى منزلي وطعنني بالخنجر واسع الثروة، وثروته ظاهرة للعيان، وإن من الحكمة إيثار الجلي على الخفي، والثابت على المجهول.

أما وقد عرفتَ هذا، فاعلم أن هذا الرجل يدعى غاستون، وهو في مقتبل العمر يأخذ جماله وريعان صباه بمجامع القلوب، ولم أكن أحبه قبل هذا العهد، غير أنه حين طعنني الليلة هذه الطعنة بتُّ ميالة إليه؛ لأن المرأة تحب الذي تخشاه، ولذلك قد عزمت عزمًا أكيدًا أن أبيت الليلة في منزلك فأستريح، ثم أفارقك في الغد فراق الأبد.

فلم يضطرب تريبورينو لكلامها، بل قال لها بملء السكينة: وإذا أريتك كنوزي؟

– هذا أمر يصعب عليك فيما أظن.

– وإذا أريتك إياها؟

– أوافق ولكن بغير شرط.

– ذلك مستحيل! ولكني أشترط عليك شرطًا واحدًا يسهل عليك احتماله، إذا كنت صادقة النية؛ وهو أنك لا تفارقيني بعد اطلاعك على هذا السر.

– على شرط أن يحق لي التمتع بالكنز.

– دون شك.

فابتسمت وقالت: رضيتُ، وهلمَّ بنا؛ لأنك ما خبأت كنوزك في هذا المكان دون شك.

– هو ما تقولين، ولكني لا أستطيع الذهاب الآن.

– هو ذا برهان آخر على العجز.

– كلا، ولكن يجب علي قبل ذلك أن أحتاط لنفسي.

– ممن؟

– منك!

ثم قرع الجرس فأسرع إليه أحد الخدم، وهو رجل هندي جاء به من الهند فأخلص في خدمته إخلاصًا أكيدًا، حتى إنه لو أمره بارتكاب الآثام في خدمته لما تردد، وكان هذا الهندي يدعى لبتينو، فناداه وقال له بالهندية: أترى هذه السيدة؟

– نعم.

– إنك ستقيم معها إلى أن أعود، وإذا أرادت الخروج من هذه الغرفة فاقتلها.

ثم أعطاه الخنجر الذي بيده وقال لروميا: أرجوك أن تصبري بضع ساعات فقط إلى أن أعود.

– ومتى تعود؟

– في المساء لأذهب بك إلى المكان المعهود.

– أتذهب في مركبة؟

– كلا، بل في سفينة.

– وماذا يجب أن أصنع حتى تعود؟

– يجب أن تصبري وتحذري؛ أما صبرك فعلى البقاء في هذه الغرفة، وأما حذرك فمن الخروج منها؛ لأن هذا الهندي وحشي الأخلاق، وقد أمرته أن يقتلك إذا حاولت الهرب، وهو سيلازمك ملازمة ظلك.

– ليكن ما تريد، ولكني أسالك أن تأمر الهندي أن يقف في الرواق عند باب الغرفة ليخفرني، كي لا أكون وإياه في غرفة واحدة. ولا سبيل لي إلى الهرب من نافذة هذه الغرفة، لأنها تعلو عشرين مترًا عن الأرض، ثم لا فائدة لي من الهرب بعد أن عزمت عزمًا أكيدًا على أن تريني الكنز.

– لقد أصبت.

ثم أمر الخادم أن يقف عند الباب خارج الغرفة وانصرف.

وبقيت روميا وحدها، وبقي الخادم في الرواق يتمشى ذهابًا وإيابًا مشهرًا الخنجر.

وبعد ذهاب تريبورينو بساعة كانت روميا تلاعب حمامة قالت لتريبورينو إنها اشترتها من أحد بائعي الطيور في لندرا.

وكانت الحمامة تطير في جهات الغرفة، فتنتقل من كتفها إلى كل مكان في الغرفة كما يتنقل الطير على الأغصان.

وبعد أن لاعبتها روميا هنيهة قامت إلى منضدة وكتبت على ورقة صغيرة ما يأتي:

راقبوا البيت؛ سيذهب بي تريبورينو هذا المساء في قارب. اتبعوه لأنه سائر إلى موضع الكنز.

ثم أخذت الورقة فطوتها وربطتها بشريطة في عنق الحمامة، وفتحت النافذة فأطلقتها، وطارت الحمامة وحلقت في الفضاء تشق عباب الريح.

وعند ذلك ابتسمت وقالت: هذه هي حيلة لم يفطن لها هذا الأبله الخائن؛ إذ لم يخطر له أن هذه الحمامة من الحمام الزاجل.

٥٢

مضى النهار كله دون أن يعود تريبورينو، فأقامت روميا في غرفتها لم تبرحها، وأقام الهندي على الباب لم ينصرف عنه.

وبعد أن أطلقت الحمامة بساعة، عادت إليها تلك الحمامة ووقفت على النافذة وجعلت تحرك جناحيها، فأسرعت إليها ووجدت الشريطة معلقة بعنقها وفيها ورقة، ففتحتها وقرأت فيها هاتين الكلمتين: «إننا ساهرون!»

وعندما أقبل الليل عاد تريبورينو، وكان الضباب قد انقشع فرأت روميا من نافذتها القارب الذي جاء به، وشاهدت بحارين.

غير أن هذا القارب لم يكن من القوارب الخاصة بالملاحة في نهر التاميز، بل كان من قوارب السفن التجارية؛ إذ شاهدت على قبعات البحارة اسم السفينة التي يخدمون فيها.

ولما دخل تريبورينو إليها قال لها: ألا تزالين أيتها الحبيبة مصممة على مشاهدة الكنوز؟

– دون شك؛ لأني لا أقيم معك إلا على هذا الشرط كما اتفقنا.

– ليكن ما تريدين.

ثم قام إلى خزانة ففتحها وأخرج منها قطعة من القماش بشكل كيس له ثقب من وسطه.

فسألته: ما هذا الكيس؟ وماذا تريد به؟

– أريد أن أحيط به رأسك، فإذا لبستِه فلا ترين الطريق الذي سرت فيه. وهو احتياط لا بد لي منه.

– افعل ما تشاء؛ فلا يهمني إلا أن أشاهد الكنز وأثق من ثروتك.

– إذن هلمي بنا.

وخرج الاثنان من المنزل إلى الشاطئ، وهناك وضع الكيس في رأسها، وربط أطرافه في عنقها، ولكنها قبل أن تلبسه شاهدت على قيد عشرين مترًا من القارب سفينة ضخمة معدة لنقل الفحم، وشاهدت رجلًا واقفًا عند مقدمتها يدخن.

فقالت في نفسها: إني لم أشاهد هذه السفينة قبل الآن، فإذا كانت هي سفينة روكامبول فلا تستطيع إدراك القارب؛ لأنها بطيئة السير لضخامتها.

ثم أخذ تريبورينو بيدها وصعد بها إلى القارب وقال للبحارة: سيروا بنا.

فسار القارب ومرَّ بسفينة الفحم، فلم يكترث بها تريبورينو، ولم ينتبه إلى كلب أسود من كلاب الأرض الجديدة كان واقفًا قرب الرجل على مقدم السفينة.

فلما ابتعد القارب عن السفينة أشار الرجل إشارة إلى الكلب فألقى نفسه في النهر وجعل يسبح مقتفيًا أثر القارب.

أما البستانية فإنها كادت تختنق من ذلك الكيس، ولكنها عولت على الصبر إلى النهاية، فقد أمرها روكامبول أن تكتشف الكنز، فلم تجد بدًّا من الامتثال.

وكانت المسافة شاسعة بلغت سير ساعة لم تكن البستانية تسمع في خلالها غير وقع المجاذيف بانتظام، وبعد ذلك شعرت أن القارب قد وقف، ثم أحست أن تريبورينو قد أخذها بيدها وصعد سلمًا، فعلمت أن القارب قد توقف قرب سفينة كبيرة.

ثم شعرت أنها بلغت إلى سطح تلك السفينة الكبرى، وسمعت صوتًا يقول: كل شيء قد تهيأ يا مولاي. فأجاب تريبورينو صاحب الصوت قائلًا: أنحن وحدنا؟

– نعم، لقد بعثت جميع البحارة إلى البر.

– والغرفة؟

– إنها مهيأة حسب أوامركم.

– حسنًا.

ثم مشى بضع خطوات مع البستانية ونزل بها سلمًا، حتى إذا انتهيا من نزوله قال لها: إنك تستطيعين الآن أن تنظري؛ ففكي قيود الكيس وانزعيه عن رأسك.

فأزاحت ذلك الكيس الذي كاد يخنقها ونظرت إلى ما حواليها، فرأت ذلك الرجل الذي كان يكلم تريبورينو وهو جون هابر، وشاهدت أن السفينة خالية لا يوجد فيها أحد سوى هذين الرجلين.

وعند ذلك قال لها تريبورينو: سترين أيتها الحبيبة أني غير مموه خدَّاع كما يتوهم عشيقك.

ثم دخل بها إلى غرفة جون هابر، وكان يوجد تحت سريره حصير هندي، فأزاح الحصير فظهر من تحته لولب أداره ففتح باب غرفة سري ينزل إليها بسلم، فأخذ الربان مصباحًا ونزل درجات السلم، فتبعه تريبورينو وروميا حتى انتهيا إلى الغرفة السرية، فرأت أن ضوء المصباح كان ينعكس على أكداس الذهب وأحجار الألماس فتتقد اتقادًا.

فوقفت وقفة المنذهل مما شاهدته من الثروة الهائلة، ووقف تريبورينو أمامها وقال لها بلهجة الساخر: أترينني صادقًا فيما كنت أدعيه أم أنا من المموهين المخرفين؟

٥٣

وكانت البستانية قد عرفت قبلًا من روكامبول مقدار هذه الثروة العظيمة، ولكنها لم يسعها إلا الاندهاش لأنها شاهدت أكثر مما سمعت، غير أنها نظرت إلى تريبورينو وقالت له بعظمة وسكينة: حسنًا، لقد بت معتقدة الآن أنك من الأغنياء العظام.

– أترين أني أعظم ثروة من عشيقك القديم؟

– دون شك، والبرهان أني سأبقى معك.

فابتسم وقال لها: إنك ستبقين معي دون ريب؛ فإن زمن سفرك قد فات.

– كيف ذلك؟

– سوف أخبرك، وهلمي معي.

ثم أشار إلى جون هابر أن يقفل باب الكنز، وقال له: سِرْ بنا إلى غرفة السيدة.

فامتثل الربان ومشى أمامهما وهما يتبعانه حتى وصل إلى غرفة متسعة، فدخلا إليها وقال لها: هو ذا المكان الذي عُيِّن لإقامتك.

فاضطربت لما ظهر عليه من دلائل التهكم وقالت: أهذا مسكني؟

– دون شك.

– لكن أتمنى أن تكون إقامتي فيه إلى الصباح.

– بل إلى شهرين أو ثلاثة أشهر.

– كيف يكون ذلك؟

– لأننا سنسافر. وماذا يهمك ما زلت من الأغنياء؟

– لا أنكر أني عولت على الإقامة معك، ولكني لا أبغي أن أكون سجينة في هذه الغرفة.

– إنك تبقين فيها إلى أن تقلع بنا السفينة، وعند ذلك تصعدين إلى سطحها.

– إلى أين نحن مسافرون؟

– لا أستطيع أن أخبرك اليوم.

– لكن قل لي على الأقل متى نسافر؟

غدًا مساءً قبل غروب الشمس إذا وافقتنا الرياح.

– إذن يمكنني أن أعود صباحًا إلى البر؟

– كلا.

– لماذا؟

– لأنك عرفت الآن سري، ولا أحب أن يذاع السر في أحياء لندرا.

فأذعنت لاعتقادها أن إقناعه محال، وقبلت مُكرهةً بهذا الأسْر، فقال لها: لكن إقامتنا في هذه الغرفة لا تمنعنا عن العشاء.

– من يخدمنا؟

– جون هابر الربان في هذه السفينة؛ فإنه وسفينته ملك لي.

ثم ضرب بيده على منضدة وأسرع إليه الربان فقال: هات العشاء.

وذهب الربان وعاد بعد حين يحمل صينية عليها عشاء فاخر صف من حولها قناني النبيذ، ثم حاول الانصراف فأوقفته بحركة وقالت لتريبورينو: ألا تأذن لي بإحضار حمامتي؛ فإنها تؤانسني بهذا السجن؟

– كيف لا، فإني لا أبغي أن تتضجري، ولا أتمنى لك إلا الخير.

ثم قال للربان: اذهب إلى المنزل وأحضر الحمامة بقفصها من غرفة السيدة.

فامتثل الربان وجلس تريبورينو حول المائدة يأكل ويشرب القدح تلو القدح حسب عادته في كل ليلة، فلم تحن الساعة الثانية بعد انتصاف الليل حتى صرعه الشرب، فانقلب ونام على الأرض.

فقامت روميا عند ذلك إلى الباب، فرأته محكم الإقفال من الخارج، وأنه متين لا سبيل إلى كسره، فضربت الأرض برجلها من القهر وقالت: إني أسيرة، ولكن لا بد للرئيس أن يعلم أننا مسافرون غدًا، وكيف لي بإخباره؟

وبعد ساعة، سمعت صرير المفتاح في القفل، ثم فتح الباب ودخل الربان يحمل قفص الحمامة وهي نائمة فيه.

فأعطاها إياها ونظر إلى تريبورينو نائمًا تحت المنضدة فهز رأسه وقال: إن صوت المدافع لا يوقظه الآن.

– ألعلك محتاج إليه؟

– كل الاحتياج؛ لقد جئته بنبأ خطير، ولكن لا بأس فسأصبر حتى يستفيق.

ثم انصرف وأقفل باب الغرفة من الخارج كما كان.

غير أن هذه الغرفة كان لها نافذة تطل على البحر كأكثر غرف البواخر، ففتحتها وقد خطر لها أن تعود إلى استخدام الحمامة، ثم نظرت نظر الفاحص إلى تريبورينو، فرأت أن السكر أخذ منه، وأنه لا يستفيق قبل ساعتين أو ثلاثة، فأخذت دفترًا صغيرًا من جيبها فانتزعت منه ورقة وكتبت عليها ما يأتي:

أنا في سفينة لا أعرف اسمها، ولكن الربان يدعى جون هابر، والأموال مخبوءة في العنبر. إننا نسافر مساء غدٍ. واللبيب يفهم بالإشارة.

روميا

ثم أيقظت الحمامة، وكان الفجر أوشك أن ينبثق، فعلقت الورقة في عنقها وأطلقتها.

وكان تريبورينو لا يزال نائمًا، غير أن الحمامة لم يطل غيابها؛ فإنها عادت بعد ساعة ووقفت على نافذة الغرفة، ووجدت البستانية في عنقها ورقة، ففتحتها وقرأت هذه الجملة: «نحن على أتم الاستعداد.»

فأعادت الحمامة إلى القفص، وبعد هنيهة صحا تريبورينو من سكرته ووجدها نائمة قربه على مقعد.

٥٤

ولنرجع الآن بالقارئ إلى عهد بضع ساعات مضت، أي حين كان تريبورينو سائرًا بالقارب مع البستانية، وحين سقط الكلب في البحر بإشارة من صاحبه مقتفيًا أثر القارب.

أما صاحب الكلب فإنه لبث بعد سقوطه واقفًا في مقدمة سفينة الفحم، وبعد هنيهة صعد إليه شخص من عنبر السفينة، وكان هذا الشخص مرميس.

وقد عرف القراء دون شك أن صاحب الكلب لم يكن إلا روكامبول، وكان الاثنان بملابس الفحامين، وقد اسودَّ وجهاهما وأيديهما من غبار الفحم الموجود في السفينة.

فلما صعد مرميس قال له روكامبول: لقد مر بنا هذا اللص بقاربه دون أن ينتبه إلينا.

فأجابه مرميس: إنه منشغل عنا بغرامه.

– بل بأمواله، وفي كل حال فإن روميا في أثره كما قالت لنا في الرسالة التي تركتها مع الحمامة.

فابتسم مرميس ابتسام المعجب بأستاذه وقال له: إن هذه الطريقة التي ابتكرتها للمراسلة هي خير الطرق.

– إني لم أبتكرها يا بني؛ فقد كانوا يستعملونها في العصور الوسطى، وهذا الحمام يسمى عندهم الحمام الزاجل.

– والكلب؟

– إنه من خير الكلاب التي تُستخدم للتجسس، فقد أتيت به من الأرض الجديدة حين عودتي من الهند، وهو سيتبع القارب حتى يعرف مقره ولو اجتاز التاميز إلى المانش، وإذا توقف القارب عند السفينة عاد إلينا فقادنا إليها.

وكانت السفينة تسير ببطء في أثر القارب فلا تصل إليه حتى اختفى عن الأنظار، فجعل الاثنان يتحدثان وهما ينتظران عودة الكلب، فقال له مرميس: لقد علمت كيف أن تريبورينو لم يطلع البستانية على سره لشدة إشفاقه على كنزه، ولكني لم أعلم كيف أنك لم تعلم إلى الآن موضع الكنز؟

فأجابه: إني أبحث عنه منذ شهر فلا أهتدي إليه، ولكني وثقت أن تريبورينو لم يضع شيئًا من المال في مصارف باريس ولندرا وأدمبره ودبلين.

– ولماذا؟ أتراه يحاول دفنها في الأرض شأن الأغنياء، وهو على ما عهد به من الذكاء؟

– كلا، ولكنه علم أن الأفكار ثارت عليه، وأن نظرات حكومة الهند قد تحولت إليه؛ فهو ينتظر إلى أن تهدأ ثورة الأفكار بشأن ثروته، وتفرغ الحكومة من البحث في مصادر هذه الثروة؛ ولذلك فهو يخفيها الآن في مكان لا تصل إليه العيون.

وقد كان خطر لي في بدء بحثي أنه يتركها في مكانها في سفينة الربان جون هابر الراسية الآن في الحوض، غير أني رجعت عن هذا الخاطر لما أعلمه عن دهائه وحرصه؛ فإن هذا الربان قد يقلع بسفينته في ليلة مظلمة إلى ميناء مجهول ويستأثر بالمال.

وفيما روكامبول يحادث مرميس سمع نباحًا، فعلم أنه صوت كلبه وقال: هو ذا الكلب قد عاد إلينا بالخبر اليقين، وسوف ترى.

وبعد حين وصل الكلب إلى سفينة روكامبول، فلما شاهد صاحبه نبح نباحًا قويًّا وعاد إلى السباحة أمام السفينة كأنه يريد إرشادها إلى المكان الذي ذهب إليه القارب.

فقال روكامبول: هلم بنا الآن في أثر الكلب. فسار الكلب سابحًا أمامها، والسفينة تتبعه حتى انتهى إلى سفينة جون هابر، فجعل يطوف حولها.

فأيقن روكامبول أن البستانية في تلك السفينة، وأن الكنز لا بد أن يكون فيها، فأخذ مرسى سفينة الفحم وألقاه في البحر.

فقال مرميس: ماذا تصنع أيها الرئيس؟

– إننا سنقف قرب هذه السفينة.

– إلى متى؟

– لا أعلم؛ فإني أراقب الحوادث، ثم اضطجع واضطجع مرميس بقربه، فكان روكامبول شاخصًا ببصره إلى السفينة يراقبها.

وبعد ربع ساعة شاهد روكامبول شخصًا ينزل من السفينة إلى القارب وبيده مصباح، فعرفه روكامبول وقال لمرميس: هو ذا جون هابر قبطان السفينة، وقد شفيت جراحه وعاد إلى ما كان عليه من القوة.

– ألا يجب أن نقتفي أثره؟

– كلا، إنه ذهب إلى البر ولا بد أن يعود.

ولقد أصاب روكامبول، فإن هذا الربان عاد بعد ساعة يحمل بيده قفصًا فيه حمامة، فقال: إن البستانية ساهرة، وسنقف على حقيقة أمرها قبل الفجر.

– ماذا يجب أن نصنع الآن؟

– أنت تبقى هنا تراقب كل ما يحدث في السفينة، أما أنا فعائد إلى المكان الذي تذهب إليه الحمامة عادةً فأقف على أخبار روميا.

ثم تركه وغطس في البحر فعاد سباحةً إلى البر.

٥٥

ووصل روكامبول إلى البر فنفض ثيابه من الماء، وذهب إلى وينغ في خمارة كالكراف التي عرفها القراء باسم خمارة الملك جورج، فلم يندهش كالكراف لمرآه؛ إذ تعود أن يرى منه كل غريبة، ولكنه أدخله إلى غرفة فيها كثير من الملابس المختلفة، فغير روكامبول ملابسه ودخل إلى القاعة العمومية وهو بملابس البحارة.

وكان في هذه القاعة بعض البحارة يشربون، وبينهم شخص منزوٍ حول منضدة يشرب منفردًا ولا يشارك القوم في حديثهم.

فلما شاهده روكامبول ارتعش وقال: إني عرفت هذا الشخص، ولكني لا أذكر أين، غير أنه لم يطل تذكره حتى علم أنه كان رفيقًا له في سجن طولون، فأنكر وجوده في هذا المكان لا سيما وقد شاهده بملابس رؤساء البحارة في السفن الكبرى، فقال في نفسه: كيف تمكن هذا اللص أن يفر من السجن فيغدو بحارًا، ثم يرتقي إلى رئيس؟

فخطر له أن يبحث في شأنه، ففتح ساعته كي يعلم إذا كان لديه من الوقت ما يضيعه في البحث عن أمر هذا الرجل، فرأى أن الساعة الثالثة فقال في نفسه: لا يزال لي فرصة ساعة؛ فإن الحمام لا يرى في الليل.

وكان للمكان الذي ألفت الحمامة أن تحضر إليه برسائل البستانية نافذة في غرفة الأرلندية، وهي الغرفة التي كانت تقيم فيها جيبسي، أي أنها لا تبعد غير بضع خطوات عن خمارة الملك جورج.

وكان الفصل في ذلك العهد خريفًا فلا يشرق النهار قبل الساعة الخامسة، فلما نظر روكامبول في ساعته قال في نفسه: إن روميا لا تطلق الحمامة قبل ساعة، ولا يزال الوقت فسيحًا لدي.

وكان من عادة روكامبول أنه يعتمد على الصدفة والاتفاق، فقد علمته التجارب أن الصدفة خير معين؛ لذلك دنا من هذا الرجل الذي رآه في الخمارة وجلس بقربه وحيَّاه.

فقال له ذلك الرجل اللابس ملابس رؤساء البحارة: لقد أتيت بعد فوات الأوان أيها الرفيق؛ فقد ألَّفت بحارة السفينة ولم أعد محتاجًا إلى أحد.

– ما هي هذه السفينة؟

– هي وست إنديا لربانها جون هابر، وقد عهد إليَّ الربان أن أعدَّ بحارتها لأنها مزمعة على السفر.

فاضطرب روكامبول حين سمع اسم هذا الربان وقال للرجل: إني أُهنِّئك بما بلغتَ إليه.

– بماذا تهنئني أيها الرفيق؟ وما الذي بلغت إليه؟

– ألم تكن هناك؟

– أين هناك؟

فما أحب روكامبول أن يطيل الحديث فقال له باللغة الفرنسية: ألا تذكر أيها الصديق أننا أكلنا أكلًا واحدًا في سجن طولون.

فاصفرَّ وجه الرجل وقال له وهو يتلعثم: إنك مخطئ؛ فما دخلت في حياتي السجون.

فأجابه روكامبول ببرود: بل دخلت إلى سجن طولون وكنت تدعى فيه نمرة ٤، أما اسمك الحقيقي فأذكر أنك تدعى جوزيف كوتيريه أو روديريه. لا أعلم؛ فإن العهد بعيد.

فلما سمع الرجل هذه التفاصيل الصادقة جعل يضطرب وباتت أسنانه تصطك من الخوف، ورأى أنه لا سبيل إلى الإنكار فقال له: رحماك أيها الرفيق ولا تفضح أمري؛ فإني كما تقول قد هربت من السجن وكنت أدعى فيه ٤١، لكن ليس في إنكلترا من يعلم بشيء من أمري. وقد وصلتُ إلى ما تراني فيه بفضل حسن سلوكي، ولو كان لي ثروة لوهبتك إياها، لكني أهبك كل ما أملكه.

فابتسم روكامبول وقال: أمعن النظر بي لعلك تعرفني.

– كلا، بل يلوح لي، ولكن هذا محال.

– أراك عرفتني.

– ١١٧؟

فقال روكامبول وهو يبتسم: نعم هو بعينه سجين طولون القديم.

وكأنما هذا الرجل قد اطمأن لما عرفه؛ فإن ١١٧، أي روكامبول، اشتهر في سجن طولون شهرة فائقة؛ فإنه أنقذ السجين من الموت، ومنع آلة الإعدام أن تسقط، ومن ينقذ إخوانه من السجون؛ فلا يعيدهم إليها ولا تخطر له خيانتهم في بال.

وهذا الذي حمل جوزيف على الاطمئنان حتى إنه جاهر به فقال لروكامبول: نعم، لقد عرفتك ولم أعد أخشى خيانتك؛ لأني عرفتك.

فقال له روكامبول: لا أنكر أني لا أخونك، ولكني أشترط في ذلك أن تطيعني في كل ما أريد.

فعاد الرجل إلى الاضطراب فقال: إني أطيعك في كل شيء ما عدا الإثم؛ فإني تبت توبة صادقة.

– وأنا أيضًا.

– وقد كرهت العيش القديم، وآثرت العيش بعرق الجبين، أما وقد عرفت ذلك مني فقل ما تريد.

– أريد أن أشتري آثامك الماضية بعمل صالح يكون كفارة عما اجترمته من الذنوب.

فبدت على وجه جوزيف علائم السرور والارتياح وقال: أحقًّا ما تقول؟

– إن روكامبول لم يكذب بعد أن تاب، فهل تطيعني متى وثقت من سلامة قصدي؟

– أطيعك طاعة لا حد لها.

– إذن فاسمع.

وخلا روكامبول بهذا الرجل، ولم يعلم أحد ما جرى بينهما حتى كالكراف.

غير أن روكامبول حين بدأ الفجر ينبثق خرج من الخمارة وهو يقول: لقد أصبح تريبورينو في قبضة يدي.

ثم انصرف إلى غرفة الأرلندية لينتظر الحمامة، وفتح النافذة فما طال انتظاره.

ولما أقبلت الحمامة برسالة البستانية التي تقدم نشرها أجابها عليها بقوله:

نحن على أتم الاستعداد.

٥٦

أما تريبورينو فإنه صحا من نومه حسب عادته حين شروق الشمس، فأجال في الغرفة نظر الفاحص فوجد البستانية نائمة، ووجد الحمامة في القفص.

وقد وجد أيضًا نافذة الغرفة مفتوحة، فخطر له في البدء أن البستانية فتحتها بغية الهرب منها، لكنه ابتسم وقال في نفسه: إن هذا محال؛ فإن الأغنياء لا يهرب منهم النساء، وإنما فتحت النافذة التماسًا للهواء.

وفيما هو على ذلك سمع قرع الباب، ثم رآه قد فُتح ودخل منه جون هابر فقال له: إني أتيت في الليل لأراك ولكنك كنت في حالة من السكر يتعذر بها محادثتك.

– ألعلك أتيتني بشأن خطير؟

– دون شك.

– ما هو؟

– أولًا: أنني جددت تأليف طاقم السفينة.

– لماذا؟

– إذ لم أجد من الحكمة استخدام الهنديين وتجديد الاتفاق معهم لا سيما وقد بت مشككًا ببعضهم.

– ألعلك خائف منهم على الكنز؟

– هو ما تقول.

فسُرَّ تريبورينو وقال: الحق أنك رجل شريف أمين.

– لقد خدعتك الظنون بي؛ فما أنا بشريف، بل أنا خائن مثلك، ولكني رأيت أن فائدتي هي في صيانة أموالك، فبتُّ حريصًا عليها هذا الحرص.

ولم يظهر تريبورينو استياء من كلام الربان وقال له: إذن فقد غيَّرت البحارة؟

– نعم، ولم أُبقِ واحدًا من القدماء.

– وهل البحارة الجدد ماهرون؟

– إنهم من البحارة المجربين، وقد كلفت باختيارهم رجلًا فرنسيًّا كان من كبار المجرمين ففرَّ من سجنه وبات من خير البحارة.

– كيف ذلك، أتختار مجرمًا لقيادة السفينة؟

– ألم أقل لك إنه فر من سجنه، فهو سيكون لنا من أوفى الأوفياء؛ إذ يعلم باطلاعي على سره.

– أرى أنك قد تعلمت طريقتي، ونهجت مع هذا الرجل كما نهجت معك، وهي طريقة صالحة في كل حال. والآن قل لي متى نستطيع السفر؟

– إننا سنخرج من الحوض في هذا المساء، ونرسو الليلة في عرض النهر في الجهة المقابلة لمنزلك، وعند الفجر نسافر، فقل لي أنت أيضًا إلى أين أزمعت السفر؟

– إننا سنتجول في إيكوسيا الشرقية؛ فقد اشتريت هناك منزلًا منحوتًا في جوف صخر، وفي نيتي أن أخبئ أموالي فيه؛ إذ تكون هناك في أمان.

– أما وقد ائتمنتني على سرك، فاسمع أخبرك بما لا يخطر لك في بال: أتذكر ذلك الرجل الذي حاول نسف سفينتنا ثم نجا من النافذة وتوارى سابحًا في البحر؟

– أتريد به ذلك الفرنسي صديق الرجاه الذي يدعى أفاتار، ولكنه غرق قبل أن يصل إلى البر؟

– أتظن أنه غرق؟

– بل أؤكد؛ فقد نشرت جرائد الهند بجملتها أنهم عثروا بجثته وجثة نادر.

فقال له الربان ببرود: ولكن الجرائد كلها منخدعة؛ فإن هذا الفرنسي لا يزال حيًّا يرزق، وهو الآن في لندرا.

فاصفر وجه تريبورينو وقال: إن وجوده فيه خطر شديد علينا؛ فلنسرع بالرحيل.

– ولكني كفيتك مئونة هذا الخطر، ألا تذكر أنه بعدما أبداه من الجرأة في محاولة الاستيلاء على السفينة أننا كتبنا تقريرًا عن شرح الواقعة أمضاه جميع البحارة؟

– نعم.

– إن هذا التقرير وحده يكفي للحكم عليه بالإعدام إذا اتصل بنظارة البحرية، وسيقبض عليه اليوم.

– ولكن أين؟

– في فندق بريستول حيث يقيم ويعيش عيش الأشراف.

– أأنت واثق من كل ما قلته لي؟

– كل الثقة.

– أرأيته بعينك؟

– رأيته منذ يومين في تياترو غاردن، فأرسلت أحد بحارتي يقتفي أثره، فاقتفاه وعلم أنه يقيم في هذا الفندق باسم الماجور أفاتار.

وجعل العرق ينصب من جبين تريبورينو وقال: أتظن أن البوليس يصدق ما تقول؟

– دون شك، فسأذهب إلى نظارة البحرية فأطلعها على التقرير وأخبرها باسم الفندق، فترسل من يقبض عليه.

فمسح تريبورينو عرق جبينه وقال: لقد أحسنت، ولكني كنت أؤثر أن يكون هذا الشيطان قد مات غرقًا.

– إنهم سيعدمونه رميًا بالرصاص، فإذا تنوعت أسباب الموت فالموت واحد.

وعند بلوغهما بالحديث إلى هذا الحد تنهدت روميا، وكانا يحسبان أنها نائمة، فقال له تريبورينو: كفى؛ لقد صحت من رقادها ولا أحب أن تسمع هذا الحديث.

أما روميا فإنها فتحت عينيها وفركتهما مرات متتالية وهي تنظر نظرات الانذهال إلى ما حواليها، وتمثل الصحو من الرقاد أتم تمثيل، ولم يشككا أنها كانت نائمة.

٥٧

ولنعد الآن إلى مرميس فإنه بقي مضطجعًا فوق سفينة الفحم يراقب سفينة تريبورينو كما أمره روكامبول، وأقام طول ليله يراقب السفينة دون أن يلوح له شيء جديد.

وعند الفجر رأى الكلب قد التفت، فالتفت إلى الجهة التي التفت إليها فرأى رجلًا واقفًا وهو يشير إليه بالمجيء، فما شكَّ أنه روكامبول بالرغم عن تغيُّر زيه وشكله، فأسرع إلى موافاته.

وكان هذا الرجل روكامبول نفسه، وقد بالغ في التنكر كي لا يعرفه أحد، فلما صعد مرميس إلى قاربه عاد الاثنان إلى الرصيف، وسارا حتى إذا انتهيا إلى شارع مقفر قال له روكامبول: إني لو لم أُشِر إليك لما عرفتني؛ فإني متنكر بزي جون هابر ربان هذه السفينة التي فيها الكنز، وسأتولى قيادة السفينة وأخرج بها من الحوض عند منتصف الليل، فتكون أنت الربان الثاني.

فانذهل مرميس وقال له: ولكن تريبورينو مقيم فيها، وهو يعرف ربانها معرفة جيدة؟

– إني حين أصعد إلى السفينة يكون تريبورينو قد بات أسيرًا فيها.

– من يأسره؟

– أنت.

وزاد انذهال مرميس وقال له: أتم حديثك، فإني لا أفهم كلمة من هذه الألغاز.

– إن الأمر بسيط؛ لأن تريبورينو وجون هابر سيسافران هذه الليلة إلى مكان مجهول، وقد عرفت ذلك من رسالة البستانية، ثم إن جون هابر قد أطلق سراح جميع بحارته وكلف شخصًا أن يجمع له عشرة بحارة أشداء، وعرفت هذا الرجل وبات شبه عبدي، ولو كان الوقت فسيحًا لدينا لأخبرتك بجميع هذه التفاصيل، ولكنك سترى فتعلم كل شيء.

– وإلى أين نحن ذاهبان الآن؟

– إلى خمارة كالكراف حيث نجد فيها هذا الرجل وجون هابر معًا؛ إذ لا بد له من الحضور إلى الخمارة لموافاته.

وظل الأمر مبهمًا ملتبسًا على مرميس، ولكنه لم يجسر على سؤال روكامبول.

وبعد نصف ساعة بلغا الخمارة واجتمعا بجوزيف كرتيريه في غرفة خاصة، وقال روكامبول لجوزيف: أأنت واثق أن جون هابر سيحضر إلى هنا؟

– دون شك؛ فإني متفق معه على أن أريه البحارة الذين جمعتهم، وموعدنا هنا في الساعة العاشرة.

– وهل أنت واثق أيضًا أنه لا يوجد بين البحارة الذين جمعتهم من يعرفه؟

– نعم، فليس بينهم من اشتغل في سفينته.

– إذن ابقوا أنتم هنا، وأنا أنتظر في الغرفة المجاورة؛ فإني أخاف أن يأتي فجأة فيراني.

ثم تركهما ودخل، وبقي مرميس وجوزيف ينتظران.

ولما أذنت الساعة التاسعة أقبل جون هابر ودخل إلى القاعة فقال لجوزيف: لقد تأخرت قليلًا؛ فإني كنت في نظارة البحرية لقضاء بعض المهام، فمن هذا الذي أراه معك؟

– هو أحد البحارة الذين جمعتهم، وسيحضر الآخرون فتراهم.

– إذن نشرب زجاجة خمر إلى أن يحضروا.

ولكنه قبل أن يطلب الزجاجة سمع صوتًا يشبه صفير الهواء، وشعر بحبل التف على عنقه وجذبه فسقط على الأرض.

ذلك أن روكامبول خرج من مخبئه وأطلق الحبل عليه حسب الطريقة التي تعلمها من الخناقين.

وعند ذلك انقض عليه جوزيف ومرميس بأمر روكامبول فقيَّداه، وأشهر روكامبول خنجره وقال له: تخير بين طاعتي فيما أريد، وبين أن تموت على الفور، وأسرع بالجواب فإن الوقت ثمين.

وكان جون هابر حكيمًا، وفوق ذلك فقد رأى من أعمال روكامبول ما يدعوه إلى الحكمة، فلم يستغث ولم يقاوم.

ولما أتم مرميس تقييده نادى روكامبول كالكراف وسأله أن يحضر له أدوات الكتابة، فامتثل وخرج، وجون هابر ينظر إليه نظرات الحقد والتأنيب.

أما روكامبول فإنه قال للربان: إننا سنحل قيد يدك اليمنى كي تكتب ما أمليه عليك.

– وإذا أبيت أن أكتب؟

– تموت في لحظة.

فلم يسعه إلا الامتثال، فأملى عليه روكامبول ما يأتي:

لحضرة الماجور لنتون

أُرسلُ إليك رئيس بحارتي الذي سيتولى قيادة السفينة مع البحارة العشرة الذين اختارهم، ولي فيهم ملء الثقة، وهو سيخرج بالسفينة من الحوض وينتظرني على مسافة مرحلة من لندرا، وعند منتصف الليل أحضر وأكون متأهبًا لتنفيذ أوامرك، أما تأخري في البر فلقضاء بعض المهام.

جون هابر

فلما كتب هذه الرسالة طواها روكامبول ووضعها في جيبه، ثم نادى كالكراف أيضًا وقال له: إنك مسئول عن هذا الرجل مدة عشرة أيام تسجنه في خلالها في قبو الشراب الذي اتفقنا عليه.

ثم أضاف إلى ذلك بلهجة المتهكم قائلًا: وبعد عشرة أيام تطلق سراحه فيذهب للبحث عن سفينته.

٥٨

وحمله كالكراف وذهب به إلى القبو، وأقبل البحارة بعد حين فعرضهم جوزيف على روكامبول وهو متنكر بزي جون هابر وقال لهم: هو ذا الربان الأكبر.

ثم خلا روكامبول بمرميس فقال له: إني لا أحب أن أذهب في النهار إلى السفينة كي لا يعرفني تريبورينو، وسأوافيكم إليها في الليل؛ فإنه يسكر وينام حسب عادته، فاجتهد حين تذهب إلى السفينة أن ترى روميا وتقول لها أن تضع جميع هذا المخدر في كأس شرابه.

فقال مرميس: أهذا كل ما تأمرني بقضائه؟

– نعم، فاذهب الآن مع البحارة إلى السفينة، وخذ المخدر لروميا.

ثم نادى جوزيف وأعطاه خطاب جون هابر إلى تريبورينو، وأمره أن يذهب بالجميع إلى السفينة.

وبعد أن ذهب البحارة دخل روكامبول إلى غرفته، فخلع تنكره وارتدى ملابس النبلاء، ثم خرج من الخمارة وجعل يتجول في شوارع لندرا حتى انتهى إلى مكتب التلغراف، فدخل إليه وأرسل التلغراف الآتي:

فلكستون فندق بلجيكا
إلى مدام فاندا كرايلف

تم العمل. سافري مع الغلام وميلون بقطار الليل.
أفاتار

ولم يعد توًّا إلى فندق بريستول الذي كان مقيمًا فيه، بل إنه ذهب إلى بيكاديللي فتغدى، ثم إلى نادي «بال مال» فأقام فيه يطالع الجرائد إلى وقت العشاء.

وعند الساعة الثامنة، ذهب إلى فندق بريستول كي يأخذ أوراقه، فلما وصل إليه رأى الأرلندية تنتظر جازعة.

فقال لها: ماذا أصابك؟ وماذا تريدين؟

– إني طفت جميع لندرا باحثة عنك، وأنا أنتظرك هنا منذ الظهر؛ فإن الحمامة قد عادت.

فارتعش روكامبول وقال: أهي حاملة رسالة؟

– نعم، وهذه هي.

فأخذ روكامبول الرسالة بيد تضطرب، وأشار إلى الأرلندية أن تتبعه إلى غرفته، وهناك فتح الرسالة وقرأ فيها ما يأتي:

إن جون هابر يعلم أنك في لندرا، وقد شكاك إلى نظارة البحرية؛ فاحذر أن تعود إلى فندق بريستول.

فاصفرَّ وجه روكامبول وقال: يجب أن نبرح هذا الفندق في الحال، فماذا فعلت بالحمامة؟

– أبقيتها عندي.

– حسنًا فعلت.

وبينما هو يجمع أوراقه بسرعة إذ قُرع باب غرفته وسمع صوتًا من الخارج يقول: افتحوا باسم الشرع.

فاضطرب روكامبول وعلم أن البوليس قد ظفر به، ولكنه رأى أنه لا بد من فتح الباب، فقال للأرلندية: إني سأعطيك رسالة؛ فضعيها في عنق الحمامة وأطلقيها عند الفجر.

ثم ذهب ففتح الباب، ودخل رجلان من البوليس فقال له أحدهما: أأنت الماجور أفاتار؟

– نعم.

– لقد صدر إلينا الأمر يا سيدي بالقبض عليك، وهذه صورة الأمر.

– ولكن بأي ذنب أنا متهم؟

– يتَّهمونك أنك حاولت في خليج بنغال نسف سفينة وست إنديا.

فقال روكامبول بسكينة: لا شك أنهم مخطئون، ولكني لا أحاول إقناعكم أنتم؛ إذ ليس ذلك من شأنكم؛ ولذلك سأتبعكم إلى حيث تريدون، إنما أسألكم أن تأذنوا لي بكتابة كلمة إلى صديق لي؛ ليوافيني دون شك إلى محل التوقيف فيخرجني منه.

فأذن له البوليس بالكتابة، فأخذ ورقة وكتب عليها بضعة أسطر بالقلم الرصاص، ثم دفعها إلى الأرلندية وقال لها: أرسليها عند الفجر مع الحمامة.

وعاد إلى البوليس وقال: هلموا بنا.

٥٩

كانت السكينة سائدة في السفينة وست إنديا، وقد وصل إليها جوزيف ومرميس والبحارة عند الظهر، فدفع جوزيف إلى تريبورينو الرسالة التي أملاها روكامبول على جون هابر، فقرأها دون أن يشكك فيها وقال في نفسه: إن الربان لم يبق في البر إلا للقضاء على روكامبول القضاء المبرم.

وقد اغتنمت روميا فرصة وجوده على سطح السفينة فكتبت إلى روكامبول تلك الرسالة التي أعطته إياها الأرلندية بعد فوات الأوان، وأقامت تنتظر عودة الحمامة عدة ساعات فلم تعد.

ثم نزل تريبورينو إلى غرفتها وقال لها: اصعدي إلى سطح السفينة وسرحي الطرف بجمال الميناء؛ فإن الطقس جميل.

فامتثلت روميا وصعدت، وكان أول رجل رأته مرميس؛ فتنهدت تنهد الارتياح وعلمت أن الرئيس قد أدرك المرام.

أما مرميس فإنه اغتنم فرصة انشغال تريبورينو بمحادثة رئيس البحارة، فدنا منها وقال لها: إن الرئيس يحضر عند نصف الليل، فبَكِّري بالعشاء مع تريبورينو، وضَعِي في كأسه هذا المنوم.

فأخذت روميا المخدر وعادت إلى غرفتها تتفقد الحمامة، لكن الحمامة لم تعد، غير أن كلام مرميس طمأنها على روكامبول.

وعند الساعة السادسة دخل تريبورينو وقال لها: إننا سنبرح الحوض هذه الليلة، وعند الصباح نسافر.

وقالت بلهجة تدل على عدم الاكتراث: ليكن ما تريد.

وبعد حين رُفعت المراسي ونُشرت القلوع، فخرجت السفينة تمشي الهوينا من الحوض.

وكانت روميا قد تمكنت خلال النهار من محادثة مرميس وقالت له: إن خوفي شديد؛ فإن جون هابر في البر وسيشكوه إلى نظارة البحرية.

فابتسم مرميس وقال: إن هذا الربان بات سجينًا عندنا فلا نخشاه.

– ولكن الحمامة لم تعُد إلى الآن؟

– إن الرئيس أبقاها عنده دون شك كي لا يحمل تريبورينو على الريب، وسيعود بها إلينا.

وعند الساعة العاشرة، خلا تريبورينو مع البستانية في غرفتها، وبدأ بالسكر والعشاء حسب العادة وقال لها: إن جون هابر قد لا يعود قبل نصف الليل، وإذا عاد في هذا الحين أكون طائرًا في عالم الأحلام بفضل هذه الخمر المعتقة.

– أما أنا فأكون صاحية، وإذا أردت أن تأمره بشيء أنوب عنك في تبليغه أمرك.

– نعم، فإن السفينة سترسو بعد ساعة قرب منزلي الذي كنا فيه، فمتى وافانا إليها مريه باسمي أن لا يرفع المراسي قبل أن أستفيق.

وجلس حول المائدة، وجعل يأكل ويشرب وهي تنادمه وتناغيه حتى أوشك سكر الخمر واللحظ أن يذهب بصوابه، فدست له في كأسه ذلك الرشاش المخدر، فشربه وكان آخر كأس؛ إذ صعق فجأة حين استقر في جوفه، وأطبق عينيه وسقط بين قواعد المائدة.

وقامت روميا عند ذلك فهزته هزًّا عنيفًا فلم يستفق، وأيقنت أن المخدر قد صرعه.

ثم نادت مرميس وقالت له: هو ذا قد بات صريعًا، وهو لا يستفيق قبل يومين كما علمت من المخدر، فكم الساعة الآن؟

– إننا في منتصف الليل. وقد رست السفينة في المكان المعين.

– إذن إن غياب الرئيس لا يطول.

ثم صعدت وإياه إلى سطح السفينة، ولم يطل وقوفهما حتى رأيا قاربًا يدنو فقالت: لا شك أنه قارب الرئيس.

غير أن القارب مر بالسفينة دون أن يقف.

وثارت هواجس روميا ومرميس، وتمكن الخوف منهما على الرئيس، لا سيما وأن مرميس قد ذكر ما قاله جون هابر حين وصوله إلى خمارة كالكراف؛ فقد قال: إنه كان عائدًا من نظارة البحرية.

ومرت الساعات، وكانت القوارب تمر بالسفينة دون أن تقف؛ فأيقن مرميس أن روكامبول قد أصيب بنكبة، وعوَّل على الرجوع إلى البر، وأمر جوزيف أن يُعدَّ له قاربًا.

وكان الفجر قد انبثق، فبينما البحارة ينزلون إلى البحر رأت روميا الحمامة تحوم حول السفينة.

وقالت: هو ذا الحمامة قد عادت.

وأسرعت إلى غرفتها فأخذت الحمامة، ورأت في عنقها رسالة فانتزعتها منه، وقرأت مع مرميس ما يأتي:

أنا الآن سجين، ولكني سأخرج من سجني غدًا أو بعد غد؛ فلا تقلقوا علي، واكتبوا في الحال رسالة إلى مس ألن في لندرا أني سجين.

ثم سافروا عند الصباح إلى الهافر، وأَبْقُوا تريبورينو في العنبر، وكلما استفاق اسقوه المخدر، أما أنا فإني سأوافيكم إلى الهافر أو أكتب إليكم؛ فانتظروني أو انتظروا كتابًا مني فيها.

روكامبول

فوقفت روميا موقف الحائر وقالت: ماذا يجب أن نصنع؟

وقال لها مرميس: يجب أن نصدع بأمر الرئيس؛ فهو سيوافينا دون شك، أو نتلقى أوامره من الهافر متى بلغنا إليها.

– إذن ليكن ما تريد.

وكتب مرميس رسالة إلى مس ألن — وهي تلك الفتاة النبيلة التي أنقذها روكامبول من مخالب السير جورج ستوي، فكانت له خير حليف مع أبيها اللورد — وبعثها إليها مع بحار.

فلما وثق من وصولها أمر بأن تقلع السفينة، فسارت تشق عباب البحر إلى الهافر وفي عنبرها الكنوز وسارقها.

وصلت السفينة إلى الهافر بعد بضعة أيام، فأسرع مرميس بالنزول إلى البر باحثًا عن روكامبول، فكان أول من رآه ميلون، فدهش لمرآه وقال له: كيف أتيت؟ وأين الرئيس؟

– إن الرئيس لا يزال في لندرا، وأنا هنا مع فاندا وسائر رجال العصابة، وقد صدر إلينا أمره أن نوافيك إلى الهافر نعطيك هذا الكتاب.

– وأين هي فاندا الآن؟

– إنها في فندق قريب مع بقية العصابة، ونحن هنا منذ ثلاثة أيام ننتظر وصول السفينة، فكنت أحضر كل يوم إلى الميناء وألبث فيها إلى المساء.

ثم أعطاه كتاب روكامبول وهو معنون باسم مرميس وروميا، فأخذه وعاد به إلى السفينة، ففضَّه وقرأ فيه مع روميا ما يأتي:

أكتب إليكم من لندرا؛ فقد تحتَّم علي البقاء فيها إلى أجل غير محدود لقضاء مهمة خطيرة. أرجو أن أغسل بقضائها ذنوبي السابقة وأنال عفو الله.

وأنا بخير وعافية، وقد خرجت من السجن بمساعي المس ألن وأبيها اللورد، وقد يمر عهد طويل دون أن تقفوا على شيء من أخباري؛ فاحذروا من البحث أو القدوم إلى لندرا إذا لم ترد إليكم أوامري مهما تلبست أحوالي بالخفاء، ومهما انقطعت عنكم أخباري.

والآن، فإني أوصيك يا مرميس أن تدعو إليك جميع رجال العصابة فتنقلوا الأموال تباعًا إلى البر، حتى إذا باتت كلها لديكم ضع النقود في مصرف باريس باسمي، وأبقِ اللآلئ والأحجار الكريمة أمانة في ذلك المصرف.

وبعد فراغك من نقل الأموال ووَضْعِها حيث أمرتك؛ تعود إلى السفينة فتُطلق سراح البحارة، وبعد أن تكافئهم خير مكافأة، وتسقي تريبورينو جرعة من المخدر، ثم تتركه وحده بالسفينة وتعود برفاقك إلى باريس؛ فإن جون هابر سيوافيه إلى الهافر للبحث عن سفينته، فيفعلان ما يشاءان. ومتى فرغت من جميع ذلك فابعثْ إلي برسالةٍ برقيةٍ بعنواني الذي تعرفه؛ كي أُطلق سراح الربان، وأهديه إلى مرسى السفينة.

ثم أريد متى عدت إلى باريس أن تشغل جميع رجال العصابة كلًّا بمهنته، وتعطيهم لهذه الأعمال من أموال جيبسي؛ فإنها لا يجب أن تنفق إلا في سبيل الخير، فاجعل ميلون مقاولًا؛ لأن مهنته بنَّاء، وتجعل جواني تاجر لحوم؛ لأن مهنته جزار، وهلم جرًّا، ثم تجتمعون كل أسبوع للمداولة برئاسة فاندا فيما يجب صنعه من أعمال الخير والبر.

أما روميا فيجب أن تسافر في الحال إلى الهند حيث ينتظرها نادر في كلكوتا.

ويجب على مرميس أن يزور كل يوم ابن المركيز مورفر في مدرسته، ويتفقد أباه في المستشفى، كما يجب على فاندا أن تعتني بابن الرجاه، وفي كل شهر ترسلون إلي تقريرًا وافيًا عن جميع أعمالكم بالعنوان الذي أبعثه إليكم كل شهر.

وفي الختام أعيد عليكم ما بدأت به؛ فاحذروا أن تبحثوا عني مهما انقطعت أخباري.

وهذا كل ما أطلبه إليكم؛ فاعملوا بما علمتكم، واعلموا أن روحي ساهرة عليكم أين كنتم.

روكامبول

فأَسِف مرميس لبُعْد روكامبول أسفًا شديدًا، ولكنه لم يسعه إلا الامتثال، ففعل جميع ما أمره به، وبعد أسبوع سافرت روميا إلى الهند كما أمرها نادر، وأودعت الأموال في مصرف باريس كما أمر روكامبول.

وبات سارق الكنوز وحيدًا فريدًا في تلك السفينة، فلما استفاق من نومه وزال تأثير التخدير وتفقد كنزه وعلم مصيره جُنَّ من يأسه، فأطلق غدارة على صدغه أسالت دماءه، وجاء جون هابر إلى السفينة فوجد ذلك اللص الخائن جثة باردة، فألقاه في البحر غير آسف عليه، وعاد بسفينته إلى بلاده راضيًا من الغنيمة بالإياب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤