مقدمة

في ٢٨ يونيو سنة ١٩١٤ أطلق تلميذ سربي اسمه «برنسيب» الرَّصاص في سراجيفو من ولاية البوسنة على الأرشيدوق فرنز فردينند وليِّ عهد النمسا وزوجته فقتَلَهما، وكانتْ هذه الجناية الفظيعة أشبهَ شيء بجذوة نارٍ كبيرة أُلْقِيتْ في مخزن بارود العالم فانفجر، وشبَّت هذه الحرب الكبرى، وطما سيلُها الجارف فطمَّ على ألمانيا والنمسا من جانب وروسيا وبريطانيا العظمى وفرنسا والبلجيك والسرب والجبل الأسود من جانبٍ آخَر. ثمَّ تناولَ الدولَ الأخرى فانضمَّتِ اليابان وإيطاليا والبرتغال ورومانيا والولايات المتحدة الأميركية والصين والبرازيل والحجاز واليونان وغيرها١ إلى الحلفاء، وانحازتْ تركيا وبلغاريا إلى ألمانيا والنمسا، وأصبح معظم أوروبا وجانب كبير من آسيا وأفريقيا وجزائر البحار في مارجٍ من نارٍ تلْتَهم الملايين من الرِّجال، وعشرات ألوف الملايين من المال، وتمدُّ على البلدان مطمار الخراب والدمار، وتُورِد السكان مواردَ الهلاك والبوار. وتُجرِّع الأحياءَ غُصَص الثُّكْل والتَّرمُّل واليُتْم، وتُذيقهم أمرَّ كئوس البؤس والشقاء، وتَكْتَنِف العالمَ كلَّه بشدائدَ تُشيب الوليد، وتُذيب الحديد، وترتعد من شدة هولها الأرض والسماء.

وكنتُ منذ يوم شُبوبها قد وجهتُ إليها ما استطعتُه من العناية والاهتمام، فواظبتُ على مُطالَعة أنبائها البرقيَّة، وتصفُّح أخبارها في أكثر الجرائد العربية وبعض الصحف الإنكليزية، وراجعتُ كلَّ ما جاء عنها في المفاوضات الرسمية التي سبقتْ نشوبَها، واستقْرَيْتُ جميع الأسباب التي أفضَتْ إلى وقوعها، وتحرَّيْتُ البحثَ المدقَّق عن اليد التي أدارتْ رحاها، وأَحْضأَتْ لَظاها، وأغرقتِ الدنيا بطوفان رزاياها.

وفي أثناء مطالعتي لأنبائها، ووقوفي على تفاصيل معاركها، لم أفتُر عن التأمُّل في اتِّساع ساحاتها وميادينها، وتنوُّع عُدَدها وأسلحتها، وتقلُّب أطوارها، وتغيُّر أشكالها، والتفكير فيما اقتضتْه كلَّ يوم من النفقات الكبيرة والضحايا الكثيرة، وتصوُّر ما ستجلبه على العالَم من الوَيْلات والمِحَن.

ولم يَزَلْ ذلك دأبي منذ وقود نارها إلى يوم خمود أُوارها، وكان أهم ما رسخ منها في ذهني وأثَّر في نفسي ثلاثة أمور:
  • الأمر الأول: امتيازها عمَّا سبَقَها من الحروب بأشياء كثيرة، أهمُّها كثرة المتحاربين واتِّساع الميادين، وتنوُّع المعارك والأسلحة؛ فإنَّ الجيوش التي خاضتْ غِمارَها لم يَقِلَّ عددُها عن خمسين مليونًا،٢ إن لم يزدْ، وقد تعدَّدتْ ساحاتُها في جهاتٍ مختلِفة من أوروبا وآسيا وأفريقيا، ولم تنحصر معاركُها فيما نشب منها في البرِّ، بل تعدَّتْه إلى مواقع الأساطيل الكبرى في عرض البحار، ومكافحات أسراب الطيارات في أعالي الجوِّ، وغارات الغواصات في أعماق اللُّجَج؛ أي إنها ثارتْ في الأرض والهواء وعلى الماء وتحت الماء، واستُخدم فيها من العُدد والأسلحة كلُّ ما استنبَطَه العلم واخترعَه العقل البشري للتعجيل في الفتْك والإزهاق وتعميم التدمير والتخريب، كالمدافع السريعة الرشَّاشة التي كانتْ تحصد صفوف الجحافل حصْدَ المناجل للسنابل، والمدافع الضخمة التي كثيرًا ما كانتْ مقذوفاتها تدكُّ الجبال وتقوِّض أمنع الحصون وأمتن المعاقل، أضِفْ إليها السوائل المُحْرِقة، والغازات الخانقة، والأرواح السامَّة، والألغام على اختلاف أنواعها، والدبَّابات (التانكس) وغيرها من عُدد قتْل النفوس وآلات اجتياح الأرواح. ولا تنسَ الخنادِقَ التي احتُفرتْ وأُنشئتْ في أكثر الميادين وأُودِعتْ أقوى ما استطاع العقل اختراعه من ذرائع الدفاع ووسائط التحصين؛ ولذلك سُمِّيتْ حرب الخنادق.

    ومما امتازتْ به العناية الفائقة التي بذَلَها الأطباء والجراحيون، وأعضاء جمعيات الصليب الأحمر، للمُحافَظة على صحة الجيوش ومُعالَجة مرضاهم وجرحاهم، ووقايتهم من الأوبئة التي كانتْ تنتشر في الحروب الماضية بين المتحارِبين، وتفتك بهم أشدَّ من فتْك السيوف والبندقيات والمدافع، وشدة إتقان وسائل المنابأة والاستشراف، والإسراع في التعبئة والنقل والتسليح والتموين، وقطع الأشجار، وتمهيد الأرض، وإنشاء الجسور، ومدِّ سِكَك الحديد، وخطوط التلغراف والتلفون، ونصب الأسلاك الشائكة، وغير ذلك من الأعمال الشاقَّة التي قامتْ بها فِرَق العُمَّال في جميع الميادين وراء خطوط النار. وكان لفِرَق العمال المصريين أكبر نصيب منها في معارك سيناء وفلسطين وسورية والبلقان وفرنسا وغيرها من الميادين.

  • والأمر الثاني: تلك المعايِر الفظيعة والمعايِب الشنيعة، التي شاع — لسوء الحظ — ارتكابُها في هذه الحرب، كإرسال الطيارات لتشنَّ الغارات على المدن غير الحصينة، وتُلْقِي قنابِلَها على النساء والشيوخ والأولاد، وتُودي بحياة كثيرين منهم بلا إثمٍ ولا حَرج.٣ وإطلاق الغوَّاصات لنسْف سفن الاستشفاء الحامِلة المرضى والجرحى، وإغراق البواخِر التجارية الغاصَّة بالركاب والمسافرين من غير المحاربين، ومعاملة الأسرى٤ بما لا مَزِيد عليه من العنف والقساوة، وتكليفهم القيام بأشقِّ الأعمال، والإسراف في إهانتهم وتعذيبهم وتعريضهم للجوع والعُرْي والبرد، وغير ذلك؛ ممَّا أعان على تفشِّي الأمراض الوَبِيلة بينهم وكثرة الوَفَيات منهم.

    فإنَّ هذه المعرَّات وأشباهها أُضِيفتْ إلى ما نتج عن الحرب نفسها من الضحايا بين المتحاربين، وما تركتْه في الأرض من آثار الخراب والدمار، فأوجبتْ شدة استفظاع الناس لها، وشغَلَتْهم عن الإعجاب بما أتاه أبطالها من آيات البأس والبسالة والتفاني في حب الأوطان والذَّوْد عن ذِمارها، وكادتْ تُنسيهم ذكر الذين اشتُهِروا فيها بالمروءة والعطف والحنان والرفق بالإنسان أيًّا كان، وتأمين غير المحاربين، ومداواة مرضى الأسرى وجرحاهم، والعناية بأصحَّائهم، وعمل كلِّ ما تتمجَّد به الإنسانية حتى في الحرب التي ليستْ من الإنسانية في شيء.

  • والأمر الثالث: أنَّ هذه الحرب مع كلِّ ما جنَتْه من المصائب التي يصعب وصف مقدارها، بل قد يتعذَّر تصوُّر هولها؛ لم تخلُ من ظواهر تؤذِن منذ الآن بتوقُّع أفضل النتائج وأكبر المنافع لجميع الشعوب والأمم، وتُبشِّر بنَشْر خير النِّعَم مِن طيِّ شرِّ النِّقَم.

    فقد رأَيْناها انجلَتْ عن ثَلِّ عروش الاستبداد وخلع أنيار الاستعباد عن رقاب العباد، وهدم صروح الاستئثار بالسلطة الفردية، وتوسيع نطاق الحكومات النيابية، وأسفرتْ عن مشروع جمعية الأمم لواضِع أساسِه ورافع نبراسِه الدكتور ولسن رئيس جمهورية الولايات المتحدة الأميركية.

    فهو بإجماع الناس كافَّةً أعظم مشروع وُضِع لخير الإنسان وصلاح العمران، وقطع دابر الشرِّ والعدوانِ. وإذا قُدِّر له ما يستحقُّه من النجاح، وعمَّ الجري على قواعده، والعمل بموجب مبادئه؛ قضى على سياسة الفتح والتدويخ، وأخْمد أنفاس الرُّوح العسكرية من الأرض، واستأصل شأفة الطموح إلى الغزوات وشنِّ الغارات، ووقى العالم شرور الحروب، وأفاد في تحسين أحوال العمال بزيادة أجورهم وتقليل ساعات عملهم، وأنال الشعوب الصغيرة حقوقها المهضومة، بحيث يستقِلُّ القادرُ منها بإدارة شئونه، ويُعطَى القاصرُ حقَّ اختيار الدولة التي يُريدها لتُعنى به وتُشرِف عليه حتى يبلغ أشدَّه ويصير قادرًا على تولِّي أمره بنفسه.

    ومِن نتائجها التي لا يصحُّ السكوت عنها أنَّ فنَّ الطيران بلغ فيها من التقدُّم والارتقاء مبلغًا أدْهش العالمَ، فقد كان قبل نشوبِها ضعيف النشأة، صغير الشأن، قليل الشيوع، ضيِّق المجال، ولكنَّه ما لبِثَ أن أخذَ يكبُر فيها، وينمو ويَقْوَى ويشتدُّ ويتَّسع ويمتدُّ، حتى صار له أكبر شأن في المنابأة والاستطلاع، والمهاجمة والمطاردة، وكان مِن أمضى الأسلحة التي استَظْهَر بها الحُلفاء على الأَلْمان، واضطروهم إلى الإذعان والتسليم، ثمَّ انصرف رجالُه إلى إعداد المركبات الهوائية الكبيرة لحمل البريد ونقْل الركاب، وقطع آلاف الأميال في بضعة أيام، والأمل أنه عمَّا قليلٍ يُعِين على تقصير المسافات المترامية، وتذليل المسالك المتعادية، فيسهل وصْل الشرق بالغرب والشمال بالجنوب، ولا يبقى من هذا القَبِيل حاجة في نفس يعقوب.٥

    فإذا صحَّتْ هذه الأحلام — والأمل كلُّ الأمل أنها تصحُّ وتَصدُق — كانتْ أكبر عوض عن خسارةٍ لا تُعوَّض، وجاز القول إنَّ الحرب كفَّرتْ عن بعض ما جنَتْ، وإنَّ الدماء الغزيرة التي أُهرِقتْ، والأموال الكثيرة التي أُنفقتْ، والخراب الذي عمَّ، والشقاء الذي طمَا سيلُه وطمَّ؛ إنَّ هذه كلَّها بُذلتْ فِدًى، ولم تذهب سُدًى.

هذه الأمور على الخصوص هاجتْ بي الشعر، فنظمتُ القصائد الآتية في نشوب الحرب ووصْف أشهر معاركها، وصدَّرتُ وصْفَ كل معركة منها بذكر تاريخ حدوثها وخلاصة ما يهمُّ القارئ أن يعرفه عنها. وفي أول الأمر جرَيْتُ في حَلَبة النظْم شوطًا بعيدًا في قصيدةٍ على بحر واحد، بلغتْ أبياتها ٢٢١، أتيتُ فيها على وصْف بضع عشرة معركةً، ثمَّ عدَلتُ عن هذا الالتزام، وتنقَّلتُ في النظْم من قصيدة إلى تخميس إلى موشَّح على أبحُرٍ مختلفة، وقوافٍ متنوِّعة؛ توسعةً لي في النظم، ووقايةً للقارئ من مَلَل مطالعة شعر طويل على وتيرة واحدة.

وقد نظمتُ في سلك هذه القصائد موشَّحين وقصيدة في مناجاة لبنان وتحيته والحنين إليه، ووصفتُ فيها ما عاناه أهلُه من المصائب التي صبَّها الأتْراك على سورية عمومًا ولبنان خصوصًا.

وأدمجتُ فيها قصيدة «مصر والمصريون»؛ لأنَّ مصر العزيزة اشتركتْ في هذه الحرب اشتراكًا فعليًّا بمالِها ورجالِها، وكانتْ منذ نشوبها إلى الآن — كما كانتْ لِمَن أَمَّها من الضِّيفان في سالِف الأزمان — ملجأً أمينًا لمنكوبي الحرب عمومًا والسوريين منهم خصوصًا، فإليها رحلوا من كلِّ صوبٍ وحدبٍ، وعند حكومتها السلطانية وأهلها الأجواد نزلوا على السَّعة والرحب؛ ولذلك وجب أن يَقتَرِن ذكر هذه الحرب بذكرهم. ويُختَم الخلاص منها بعدَ حمد الله بشكرهم، وعرفان الجميل أجمل عرفان، وذكر اليد فرضٌ على لسان كلِّ إنسان.

ولا أكتم القارئ أني كنتُ منذ نشوب الحرب واثِقًا كلَّ الثقة بفوز الحلفاء، على رغم ظواهر تقدُّم الألمان واحتمال انتصارهم، حتى إني في هجومهم الأخير وعبورهم لنهر المارن صرَّحتُ بثِقَتي هذه في قصيدةٍ نظمْتُها في ١٣ يوليو سنة ١٩١٨ لتُدْرَج في مجلة المرآة المصورة في اليوم التالي؛ أي يوم عيد الجمهورية الفرنسوية، فقلتُ مخاطِبًا الحلفاء:

ما دامتِ الحريةُ الغرضَ الذي
ترمون وهي المطلبُ المنشودُ
فالله ناصرُكم على أعدائكم
ومُزِيل دولة ظلْمهم ومُبِيدُ
عمَّا قليلٍ تَضْرِبون صفوفهم
ضربًا لشِدَّته الجبال تَمِيدُ
فيُشمِّرون ذيولهم وعيونهم
بيضٌ تناوحها وجوهٌ سودُ
ويَرَوْن أنَّ الكيد في نَحْر الأُلى
كادوا وإنْ طال المدى مردودُ

وفي ١٨ منه؛ أي بعد أربعة أيام من تاريخ نشرها، شرع الحلفاء يضربون تلك الضربة القاضية، وما لبثَ أن صار فَوْزُهم عامًّا شاملًا، وبات هلال انتصارهم بدرًا كاملًا.

أسعد خليل داغر
القاهرة، في ١٤ يناير سنة ١٩١٩
١  من الحكومات التي شهرتِ الحرب على ألمانيا وحليفاتها كوبا وغواتيمالا وهندوراس وليبيريا ونيكارغوى وبناما وسيام، أمَّا التي اقتصرتْ على قطْع العلاقات السياسية فهي بوليفيا وإكوادور وبيرو وأرغواي.
٢  في بعض الإحصاءات الأخيرة أنَّ مجموع المجنَّدين من جميع الدول التي اشتركتْ في هذه الحرب بلغ ستِّين مليونًا، والقتلى عشرة ملايين، والجرحى والمشوَّهين ثلاثين مليونًا.
٣  ولقد شاهدْنا بعيوننا أثرَ هذه المُخْزِيات في القاهرة يوم ١٣ نوفمبر سنة ١٩١٦، حين حلَّقتْ في جوِّها طيَّارة ألمانية، وألْقَتْ على سكَّانها عِدة قنابل، فقتلتْ منهم ٢١ وجرحتْ ٢٤.
٤  كان في ألمانيا والنمسا مليونا أسيرٍ رُوسي مات نصفهم، أي مليون أسير، وفي تقرير مندوبي جمعية الصليب الأحمر الدولية عن أولئك الأسرى أنهم عُومِلوا شرَّ معاملة.
٥  وقُبَيْل الشُّروع في طبع هذا التاريخ بشَّرتْنا الأنباء البرقية في ١٥ يونيو سنة ١٩١٩ بأنَّ الكبتن ألكوك والملازم برون قطعا الأتلنتك من أميركا إلى إرلندا على طيَّارة إنكليزية في مرحلة واحدة، وقد جازا هذه المسافة التي تبلغ نحو ألفَيْ ميل في ١٥ ساعة و٥٧ دقيقة، ونالا جائزة جريدة الديلي ميل وقدرها عشرة آلاف جنيه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤