الفصل الحادي والثلاثون

مصر والمصريون

مقدمة

خيرُ ما يُحسن انطلاقُ لساني
حمدُ ربي المهيمِن المنَّانِ
وابتهالي له بحفظ «فؤاد»
وبتأييد عرشه السلطاني
«أحمد» الأول الذي ما له في الـ
ـفضل والنَّيْل والنَّدى مِن ثانِ
والتغنِّي بمصر إذْ إن مصرًا
لَعَروسُ الأمصار والبلدانِ

مصر أم الدنيا

مصر أمُّ الدنيا كما لقَّبوها
ليس في الكون مثلها من مكانِ
سبكتْها يد الطبيعة منذ الـ
ـبدءِ سبكًا في قالب الإتقانِ
وكسَتْها يدُ المحاسن ثوبًا
ليس يُبْلِي جديدَه الْمَلَوانِ
وإذا الأرض كان فيها جنان
فاعلموا أن مصر أبهى الجنانِ
جنَّةٌ فيها من فواكه رمَّا
نٍ ونخلٍ وغيرها زوجانِ
كلُّ هذي قطوفها يانعات
وجنَى الجنتين من مصر دانِ
وهْي أمُّ الأهرام أقدم ما في الـ
أرض شادتْه باقيًا يدُ بانِ
مَن بنَوْها فَنُوا ليصدق فيهم
قوله: «كُلُّ مَن عَلَيْهَا فَانِ»

وصف جوِّها

مصر أمُّ الدنيا كما لقَّبوها
ليس في الكون مثلها من مكانِ
أيُّ جوٍّ كجوِّها متحلٍّ
بصفاءِ الأديم واللَّمَعانِ
صفوُه يشرح الصدور وينفي الـ
ـغمَّ عن مقلةِ الشجيِّ العاني
تتملَّى منه النسيم عليلًا
وكفيلًا بصحة الأبدان
وله في نفوسنا في ليالي الصـ
ـيف ما بالنُّهَى لبنت الحانِ
فيه عن ثغرها الغزالة تفترُّ
عزاءً لمهجة الأسوانِ
ويليها ليلًا أخوها سميرًا
لفؤاد المسهَّد الولهانِ
وإذا غاب فالسماءُ تجلَّى
بالدراري كالروض في نيسانِ
قاشعاتٍ عنها الدُّجى واشياتٍ
وجنتَيْها بأبدع الألوانِ

وصف واديها

مصر أمُّ الدنيا كما لقَّبوها
ليس في الخصب مثلها من مكانِ
أيُّ وادٍ تحت السماء كواديـ
ـها النضير الوفرِ الجني الرَّيانِ
تُربُه التِّبْر بل من التِّبْر أغلى
وحصاه أنقى من المرجانِ
كان مستودع الغِنى وهو باقٍ
مثلما كان من قديم الزمان
ومجانيه وهي تجتاز حدَّ الـ
ـحصر معدودة ألذَّ المجاني
ونراه في الصيف والقطن فيه
أبيضُ الزهرِ فوق أخضرَ حانِ
كبساط من الزُّمرُّد مجمو
عًا عليه منثورُ حبِّ جمان
هو سِرُّ الإثراء في مِصرَ لكن
ليس فيه داعٍ إلى الكتمانِ

وصف نيلها

مصر أمُّ الدنيا كما لقَّبوها
ليس في الخصب مثلها من مكانِ
حسبها نيلها المبارك يحكي
جريه النيِّرين في الحسبانِ
ذلك النيلُ وهو والدُ مصرٍ
حافظٌ بِرَّ أُمِّهِ السودانِ
كان معبودَ الأقدمين ولا ينـ
ـفكُّ معشوق أهل هذا الأوانِ
أي شيءٍ في النيل غيرُ شهيٍّ
ليس يدعو للعشق والافتتانِ
كلُّ ما فيه يَعشَق العقلُ معنا
هُ وتهوى جمالَه العينانِ
فإذا شحَّ فهو ذوبُ لُجينٍ
وإذا فاض فهو من عِقيانِ
وهو في الحالتين حاجاتنا كا
فٍ وشاف لغلة الظمآنِ
وكفاه وفاؤه فهو فيه
مثَلٌ دائرٌ بكل لسان
كلَّ عامٍ يُهدي إلى مصرَ أغلى
ما لديه بصورةِ الفيضان
ذاك وعدٌ عدَّانُه الصيف والنيـ
ـل ضمينُ الوفاء في العدَّان
كلما أضرم الهجيرُ لظاه
لافحًا للنبات والحيوان
أخمد النيل نارَه بمفيضٍ
غامرٍ للبقاع والغيطانِ
وحباها بعد الأُوام ارتواءً
وجلاها في حلَّة العمرانِ
وسقاها ما دونه كوثرُ الكر
خ وصهبا معرَّة النعمانِ

وصف الأمن ورغد العيش فيها

مصر أُمُّ الدنيا كما لقَّبوها
ليس في الأمن مثلها من مكانِ
أي قطر كقطر مصرَ صفاءُ الـ
ـعيش والرغدُ فيه مضمونانِ
كل مَن فيها في نعيمٍ مقيمٍ
وهناءٍ موطَّد الأركانِ
كل مَن فيها طيَّب النفس مستذ
رٍ١ بحصنَيْ حريةٍ وأمانِ
يتفيَّا ما شاءَ دوحَ سلامٍ
وارفَ الظلَ باسقَ الأغصانِ
إنها مَرْبعُ الرخاء ومجلى الـ
ـبشرِ والأنس مغنى الاطمئنانِ
ومُراحُ المُعْيِي المعنَّى ومنجا
ةُ المضيم المروَّع اللهفانِ
وهي ليستْ حديثة العهد في إحـ
ـراز هذا الفضل العظيم الشان
من قديم الزمان جلَّت وحازت
قَصَب السَّبْق في قِرَى الضيفانِ
اذكُروا إبراهيم لَمَّا أتاها
جاليًا عن حماه في كنعانِ
فأجارتْه ثمَّ أوْلتْه إكرا
مًا جديرًا بأكرم الضيفانِ
وتلاه أعقابه قوم موسى
إذ لهم طابَ المكثُ في جاسان
وأصابوا من ساكني مصر أُنسًا
نافيًا عنهم وحشةَ الهجرانِ
ثمَّ عادوا منها وظلُّوا إليها
في أشدِّ النزوع والتوقانِ

هجرة المسيح والسوريين إليها

واذكروا هجرةَ المسيح صبيًّا
هاربًا من مقتَل الصبيانِ٢
يومَ وافي جبريلُ مريمَ ليلًا
مُرْسَلًا من مدبِّر الأكوانِ
قائلًا قومي غادِري بيت لحمٍ
واحذري بالصبي غبَّ٣ التواني
حملَتهُ العذراء والنفس منها
في اضطراب والقلب في خفقانِ
وانبرَت تقطع القِفارَ به والـ
ـجوعَ والخوفَ والعناءَ تُعاني
واصلت بابنها المسير وعنهُ
ما ثناها في ذلك التيهِ ثانِ
وعليها من السماء مدلَّا
ةٌ حواشي عناية الرحمن
وعلى مصر أقبلت واستضافتـ
ـها فحلَّت منها سويدا الجنانِ
وأقامت حتى دعاها ملاك الر
ب فاستقبلتْه بالإذعانِ
ورأت أن روح هيرودس السفَّا
ح صارت في قبضة الشيطان
وعلى أثرها كثيرٌ أتوا مِصـ
ـر من الشام بغية استيطانِ
وإليها نرى من الشام حتى الـ
ـيوم تُزجَى أيانقُ الركبانِ

هجرة السلام إليها

وانظروا هجرة السلام إليها الـ
ـآن لَمَّا نبا به الخافقانِ
هجَرَ الأرضَ كلها هاربًا من
وجه حربٍ مشبوبة النيرانِ
لم يجد ملجأً له غير مِصرٍ
وإلى مصرَ جدَّ في الإتيانِ
وبها حلَّ حيثُ لم يرَ فيها
أثرًا للحرب الزَّبون العوانِ
ومحلُّ السلام أضحى لمصر
لقبًا أو يُضاف كالعنوانِ
إننا منه في هناءٍ وأهل الـ
أرض من هول الحرب في أحزانِ
غير أنَّا لهم مؤاسون فيما
هم يُقاسُون من سعير الطِّعانِ
هل يسوغُ الهنا لنا وحلوقُ النـ
ـاس طرًّا في غصة الأشجانِ
لا ولا نطمئنُّ إلَّا إذا ما الـ
ـحرب لُفَّت كالميت في الأكفانِ
هي حربٌ ثارتْ فعمَّت رزايا
ها وليست تنفكُّ في ثورانِ
وطغى شرُّها فغشَّى البرايا
وهو باقٍ يشتدُّ في الطغيانِ
فأذابت من الحديد قلوبًا
وأشابت مفارق الولدانِ
وألوفَ الألوف أردَتْ وهم يا
لهف قلبي من نخبة الشبَّانِ!
وأحلَّت دماءهم فجرَتْ في الـ
أرض هدرًا تسيل كالطوفانِ

وصف سجايا أهلها

مصر أمُّ الدنيا كما لقَّبوها
ليس في الحسن مثلها من مكانِ
وبنوها هم منشأ الحُسْن فيها
وجمال المكان بالسكَّانِ
فالسماء الحسناءُ أعطل ما في الـ
ـكون لو لم يحلَّها القمرانِ
هكذا مصر إنَّ أحسن ما فيـ
ـها بنوها أولو السجايا الحسانِ
وسجاياهم كلها ساحراتٌ
وبياني لها بديع المعاني
انظروا لطفهم فهل من مبارٍ
لهمُ في ميدانِه أو مُدانِ
وامتيازُ المصريِّ باللطف أمرٌ
ليس في حاجة إلى برهانِ
وهو ذيَّالك المشارُ إليه
أنه ألطف الوَرى بالبنانِ
ولقد قال للصَّبا حين رامتْ
أن تحدَّاه لستِ من أقراني
إن تحدِّثه تُلفِه لك يُلقي
سمعه بالرضى والاستحسانِ
وإذا ما انتهى الحديث إليه
صاغَ منه الشنوف للآذانِ
وأتاه مستعذبًا مستطابًا
غاية في الإبداع والإتقانِ
لفظه معدنُ الرشاقة والر
قة أمَّا المعنى فسحر البيانِ
وهو فيه حلو الفكاهة والجدِّ
لعوب كالراح بالأذهانِ
وكأن الألفاظ مِن فيهِ لحنٌ
أوقعته الأيدي على العيدانِ
وإذا ما اصطفيته لك خِلًّا
كان أوفى وأصدق الخِلَّانِ
يحفظ الغيب يُخلِص الوُدَّ يَرْعى الـ
ـعهد يُغضي عن زَلَّة الأخدانِ
وله بالغريب رفقٌ يفوق الـ
ـوصف عنه تحدَّث المشرقانِ
يتلقَّاه إذ يراه بلقبٍ
وامقٍ عاطفٍ عليه وحانِ
وبه يحتفي احتفاء صديقٍ
بتلاقي صديقه جذلانِ

شكر السوريين لمصر والمصريين

ذلكم بعض ما لأبناءِ مصر
من مزايا التفوُّق الإنساني
وبيان الباقي الكثير أراه
فوق طوقي وليس في إمكاني
فافخري يا مصرُ العزيزة واسمَيْ
ببنيك الأماجد الأعيانِ
واقبلي من أبناء أختكِ شكرًا
لك نُهدِي جميلَه كلَّ آنِ
فضلكِ الجمُّ يا خُويلةُ إنَّا
ذاكروه بألْسُنِ الشكرانِ
كلُّ سوريٍّ في ربوعك إذْ ما
تسأليه يُجِبْ بأجلى بيانِ
مصرُ عندي عزيزة كبلادي
وبنو مصر كلهم إخواني
وثنائي عليكِ فرضي ونفلي
وحنيني إليكِ من إيماني

الخاتمة

إنَّ عرفاننا جميلَ بني مصـ
ـرَ الأعزَّاءِ أجملُ العرفانِ
وإلينا إحسانهم بالتصافي
والمؤاخاة أعظمُ الإحسانِ
ذكرهُ خالدٌ وفضلٌ كهذا
ما عليه خوفٌ من النسيانِ
١  مستظل.
٢  يراد بمقتل الصبيان هيردوس.
٣  عاقبة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤