الفصل الثاني والثلاثون

الهجوم الألماني الأخير في فرنسا

بعدما عقدتْ ألمانيا الصلح مع حكومة لنين في روسيا، واسترجعتْ معظم جيوشها منها، وغنمتْ ما تخلَّى عنه الروس من المدافع والذخائر التي كان الحلفاء قد أمدُّوهم بها، وأكملتِ استعدادها للهجوم في فرنسا؛ شرعت فيه صباح يوم ٢١ مارس سنة ١٩١٨ على كل الخط بين نهر سكارب ونهر الواز، وباشرتْه بخمسين فرقة وراءها ٢٥ فرقة احتياطية، ومعها ألوف من المدافع الألمانية والبطاريات النمسوية الضخمة البعيدة المرمى، فضلًا عن عشرات الألوف من المدافع السريعة؛ حتى إنهم نصبوا مدفعًا في كل ١٥ يردًا في شقة طولها عشرة آلاف يرد، ما عدا هواوين الخنادق، وفي أثناء هذا الهجوم أخذتْ مدافعُهم الكبيرة تُطلِق على مؤخرة البريطانيين، وعلى ٢٨ ميلًا من خطوطهم، وشرعوا يُطلقون القنابل على باريس من مدفع بعيد المرمى على مسافة نحو ٧٠ ميلًا. وفي هجومهم هذا لم يبالوا بالخسارة الهائلة التي كانوا يكابدونها، ولا حسبوا أقلَّ حساب لحياة الألوف التي كانتْ نيران الحلفاء تتلقَّفها كل يوم، بل وضعوا نصب عيونهم اختراق خطوط المدافعين والوصول إلى باريس بأية خسارة كانت قبلما تتمكن أميركا من إرسال جيش كبير ترجِّح به كفة الحلفاء عليهم.

وما أبطئوا أنْ عبروا نهر السوم، وأكرهوا الحلفاء أن يتقهقروا أمامَهم ويتخلَّوْا لهم عن كثيرٍ من المدن والحصون.

وفي ٣١ مارس وافقتِ الحكومات البريطانية والفرنسوية والأميركية على تعيين المرشال فوش قائدًا عامًّا لجيوش الحلفاء.

وظلَّ الألمان يجدِّدون هجومهم بعد فترات قصيرة، ويتقدَّمون جنوبًا وغربًا، وجيوش الحلفاء يُخلُون المواقع بعدما يتقاضَوْن عنها أغلى ثمن من دماء الرجال ومُهَج الأبطال. ودامت الحال جارية على هذا المنوال، والمرشال فوش باقٍ على ما عُهِد به من رباطة الجأش وثبات الجَنان وصِدْق العزيمة، يكرُّ بجيوشه المدافِعة ويُثخِن في المهاجمين، ثمَّ ينثني متراجعًا موهمًا أعداءه أن احتياطيه فرغ أو كاد، وأن عزيمة جيوشه على الدفاع صائرة إلى النفاد، ومما يُروى عن ثبات عزمه وبُعد نظره وشدة ثقته بصحة تدابيره، أنه لَمَّا دنا الألمان من أميان، وخيف عليها من السقوط في أيديهم، قال: «إن إميان في ضماني.» وهكذا كان؛ لأنها ظلَّتْ في أمان، ولم تطأْها رجلُ أحدٍ من الألمان.

وفي ١٥ يوليو هجم الألمان هجومهم الخامس بستين فرقة على مدى خمسة وخمسين ميلًا، بين ريمس وشاتوتياري، فتقدَّموا جنوب ريمس الغربي، وعبروا نهر المارن، واستولَوْا على عدة قُرًى في جنوبه، فوجفتِ القلوب واضطربت النفوس، واشتدَّ خوف الناس على باريس، ولكن ذلك كان خاتمة التقدُّم ونهاية الهجوم، ولم يَنَلِ الألمان منه سوى امتلاكِ بقاعٍ دفعوا عن كلِّ شبرٍ منها أغلى الأثمان، وتحملُّوا في سبيلها خسارةً تقشعرُّ لها الأبدان، ثمَّ اضطرُّوا أن يُجلُوا عنها وهم يتعثَّرون بذيول الخيبة والخسران.

قُمْ يراعي قُمْ أطِعْني واكتبِ
ما عليك الآن يُمْلِيهِ فَمِي

دور

سِرْ على القرطاس وارقمْ باهتمامْ
وتأنٍّ وانتباهٍ وحذرْ
فلساني مستعدٌّ للكلامْ
ويدي تجري ولا تشكو الخدرْ
وإذ ما وَسَعَ القول المقامْ
وأطلتُ الشرح لا تُبْدِ الضجرْ
واحتمل بالصبر عبءَ التعبِ
وألن بالعزم جنب السأمِ

دور

صرَّ فوق الطِّرْسِ وازمُرْ في يدي
كحسام صلَّ في كفَّيْ بطَلْ
كلما زدُتكَ إرهاقًا زدِ
همةً لا يعتريها من ملَلْ
وعلى الصعب استعن بالجلدِ
وعلى اليأس تغلَّب بالأملْ
من حديدٍ أنت لا من قصبِ
فعلامَ خائفٌ من ثَلَمِ

دور

وصفُ هذي الحرب أعيا البلغا
وسبَتْ أهوالُها منَّا النُّهَى
لا يرى الواصفُ في أغنى اللُّغَى
ما يفي بالوصف طبق المشتهَى
فإلى الآن نرى شرَّ الوغى
مستجدًّا كلما قلنا انتهَى
قلَّ من منَّا بها لم يُنكَبِ
وبحامي جمرها لم يُوسَمِ

دور

نارَها الألمانُ عمدًا أضرموا
واستطابوا لذعها واستعذبوا
وعلى خوض لظاها أرغموا
حُلفا سفكَ الدماءِ اجتنبوا
وأخيرًا حين هِيجوا أقدموا
كأسودٍ تَنْدَرِي١ إذْ تغضبُ
فعرى الدنيا قتامُ٢ النُّوَبِ
والشقاءُ احتفَّ كلَّ الأممِ

دور

كاد يمضي مِن سِنِيها أربعُ
ولظاها لم يزلْ يتَّقدُ
والأُلى في النصر كانوا قطعوا
شعروا بالشكِّ فيما اعتقدوا
عند ما الرُّوس رداها خلعوا
ومع الألمان صلحًا عقدوا
وبه الأعداءُ جلَّ الأربِ
أدركوا والرُّوسُ شرَّ النِّقَمِ

دور

وعن النمسا وعن ألمانيا
خفَّ ضغط الخوف وانزاح الخطرْ
وغرورًا زعمتْ بلغاريا
أنها بالغةٌ منها الوطرْ
وغدا التركيُّ معها شاديًا
لأغانيِّ التهاني بالظفرْ
كلهم يرشفُ راح الطربِ
وهو عمَّا في غدٍ آتٍ عَمِ

دور

وانقضى الثلثان مِن شهر أذارْ
وعلا من جوف باقِيهِ الأنينْ
وجميع الناس باتوا في انتظارْ
ما لهم من غامض الغيب يُبِينْ
وإذا الألمان قد ماطوا الستارْ
في فرنسا حيث كرُّوا هاجِمينْ
علَّلوا النفس بقطف العِنَبِ
قبلما يبلغ طورَ الحصرمِ

دور

تخذوا أهبتهم قبل الهجومْ
وأتمُّوا السعي في هذا الصددْ
وابتغاء الفوز بالنصر المرومْ
قذفوا بالجند واستاقوا العُددْ
واستردُّوا ما لهم عبر التخومْ
في بلاد الروس من باقي المددْ
وإذِ اغترُّوا ببرقٍ خُلَّبِ
بشَّروا الأرض بسحِّ الدِّيَمِ

دور

وعلى الجيش البريطانيِّ ما
عتَّمَ التَّيار منهم أنْ دفقْ
وتلظَّى حوله واضطرما
مارجٌ لو مسَّه البحر احترقْ
لم يُرعهم ما اقتضاه من دِما
فِرَقٍ ضحَّوا بها تلوَ فِرَقْ
واستلانوا كلَّ خشن المركبِ
رغبة في فوزهم بالمغنمِ

دور

لم يبالوا بالضحايا الهائلةْ
طمعًا في فتح حصن أو بلدْ
أمَّلوا أنَّ مناهم حاصلةْ
وبهذا الأمل اشتدَّ الجلدْ
لكنِ الآمالُ خابتْ فائلةْ
زندها لم يورِ والسهمُ صرَدْ
وإذا سهم المنى لم يُصِبِ
طاشَ مرتدًّا إلى حيث رُمي

دور

غرَّهم في البدءِ إحرازُ النجاحْ
عند ما خطَّ الدفاعِ اخترقوا
فتظنَّوْا أنَّ فجر النصر لاحْ
وضحاه٣ عن قريب تشرقُ
فتمادَوْا في اجتياح واكتساحْ
وبتقديم الضحايا أغرقوا
واستهانوا كلَّ صعب المطلبِ
واستخفُّوا بأشد الإزَمِ

دور

وهجومٌ شبَّ عن أن يُوصَفا
واصلوا ومداه وسَّعُوا
وبعزمٍ فالقٍ قلبَ الصَّفا
عنوةً بعضَ الصياصي انتزعوا
فوزُهم أبطَرَهم والحلفا
أوهموهم ضعفَهم فانخدعوا
وإلى لُجِّ الرَّدَى المضطربِ
بسراياهم رَموا عن أَمَمِ

دور

عبروا الأنهُرَ واجتازوا القُنيْ٤
دوَّخوا الآطام واحتلُّوا الحصونْ
وطئوا هامَ القرى والمدنِ
وفَرَوْا٥ عرض الفيافي والحزونْ
جرَّعوا الأهلين صاب المحنِ
وابتلَوْهم بلظى ذلٍّ وهُونْ
عذَّبوا الأسرى ومَن معهم سُبي
وأذاقوهم أمرَّ الألمِ

دور

كلُّ ذا والحلفا لم يُرْهَبوا
واستعدُّوا لاحتمال الشدةِ
واطمأنُّوا حين «فوشَ» انتخبوا
لاتِّقا الغازين أقوى عُدَّةِ
قال عن «أميان» لَمَّا اقتربوا
مِن حِماها إنها في عُهْدتي٦
فعدَدْنا قولَه وَحْيَ نبي
عالمٍ في الغيب ما لم يعلَمِ

دور

بطلٌ لله هذا البطلُ!
ما له في مجمع الأبطال ثانْ
وملايين الجنود امتثلوا
وأطاعوا أمره طوع البنانْ
وإليه الحلفا إذْ وكلوا
أمرَهم صحَّ الخطا والصعبُ هانْ
وله قالوا جميعًا رتِّبِ
خطط الهيجاء فينا وارسمِ

دور

رَبُّ حذقٍ ودهاءٍ حيَّرا
كلَّ أرباب الذكاء والرَّشَدْ
لم نجد أبعد منه نظرَا
لا ولا أبرع في حلِّ العُقَدْ
أوهَم الألمان لَمَّا القهقَرَى
عادَ أنَّ الاحتياطيَّ نَفِدْ
وعلى جيشِ العدوِّ اللجبِ
ليس يقوى ولذا لم يهجمِ

دور

وعلى هذا الطريق الأمثلِ
سارَ في خطته لا ينثني
كلٌّ شبرٍ كان عنه ينجلي
يتقاضى عنه أغلى ثمنِ
يتلقَّى خصمه بالحِيَلِ
وبتدبير المِكرِّ المِطعَنِ٧
يتولَّى رمْيَه عن كثبِ
ثمَّ يلوي عنه كالمنهزمِ

دور

وقضى عشرين يومًا ومائةْ
وهو مُستنُّ على هذا النمطْ
جاعلًا نهك الأعادي توطئةْ
لهجومٍ مثلُهُ لم يُروَ قطّْ
وإذِ استوفى شروط التهيئةْ
وعلى خاطره الله ربطْ٨
أوقع الأعدا بأسوا منشبِ
وافتجاهم كالقضاء المبرمِ

دور

كان هذا عندما اشتدَّ الوجلْ
وعلى باريس قد زاد الخطرْ
وإلى أرباضها٩ الغازي وصلْ
أو تدنَّى بعدما «المارنَ» عبَرْ
فانبرَى الحامي لإحياءِ الأملْ
ولقشع اليأس من جوِّ الفِكَرْ
وعلى الألمان بِيضَ القُضُبِ
سلَّ يغشاهم كسيلٍ عَرِمِ
١  مخفف تندرئ: بمعنى تندفع أو تطلع فجأة.
٢  ظلام.
٣  شمسه.
٤  جمع قناة.
٥  قطعوا.
٦  ضماني.
٧  المكرُّ: الكرَّار. والمِطعن: الكثير الطعن للعدو.
٨  ألهمه الصبر وقوَّاه.
٩  ضواحيها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤