الفصل الخامس

(١) عَوْدَةُ «آرْيِلَ»

وَفِي مِثْلِ لَمْحِ الْبَصَرِ اسْتَخْفَى الْجِنِّيُّ «آرْيِلُ» عَنِ الْأَنْظارِ؛ وَطارَ فِي الْجَوِّ. وَوَقَفَ «بُرُسْبِيرُو» يَرْتَقِبُ عَوْدَتَهُ بِفارِغِ الصَّبْرِ، وَقَدِ اشْتَدَّ شَوْقُهُ إِلَى رُؤْيَةِ رُفَقائِهِ الْقُدَماءِ.

وَبَعْدَ قَلِيلٍ سَمِعَ صَوْتَ مُوسِيقَى مُطْرِبَةٍ؛ فَعَلِمَ أَنَّ صَفِيَّهُ «آرْيِلَ» عَلَى مَقْرَبَةٍ مِنْهُ. فَناداهُ وَطَلَبَ إِلَيْهِ أَنْ يُعَجِّلَ بِإِحْضارِ ثَوْبِهِ وَسَيْفِهِ، لِيَبْدُوَ أَمامَ رُفَقائِهِ فِي زِيِّهِ الَّذِي أَلِفُوهُ مِنْهُ.

وَما فَعَلَ حَتَّى أَصْبَحَ «بُرُسْبِيرُو» فِي ثِيابِ الْإِمارَةِ الَّتِي كانَ يَرْتَدِيها أَيَّامَ كانَ أَمِيرَ مِيلانَ.

(٢) بُشْرَى الْخَلاصِ

ثُمَّ الْتَفَتَ «بُرُسْبِيرُو» إِلَى «آرْيِلَ» وَقالَ لَهُ: «أَبْشِرْ، فَقَدْ دَنَتْ ساعَةُ الْخَلاصِ مِنَ الْأَسْرِ، وَبَعْدَ وَقْتٍ قَصِيرٍ سَأَمْنَحُكَ حُرِّيَّتَكَ كامِلَةً، وَأُطْلِقُكَ مِنْ إِسارِكَ، أَيُّها الرَّفِيقُ الْعَزِيزُ».

وَما سَمِعَ «آرْيِلُ» مِنْ سَيِّدِهِ أَنَّهُ قَدْ أَصْبَحَ عَلَى وَشْكِ الْخَلاصِ مِنْ عُبُودِيَّتِهِ، وَقَدِ اقْتَرَبَ مَوْعِدُ الظَّفَرِ بِحُرِّيَّتِهِ، وَالِانْطِلاقِ مِنْ إِسارِهِ، حَتَّى امْتَلَأَتْ نَفْسُهُ غِبْطَةً وَسُرُورًا وَانْشِراحًا؛ فَظَلَّ يُغَنِّي مُبْتَهِجًا بِحُرِّيَّتِهِ الْقَرِيبَةِ.

(٣) بَيْنَ «بُرُسْبِيرُو» وَأَصْحابِهِ

وَبَعْدَ قَلِيلٍ وَصَلَ أَصْحابُهُ إِلَيْهِ، فَكانَتْ مُفاجَأَةً عَجِيبَةً، وَمُباغَتَةً غَيْرَ مُنْتَظَرَةٍ. وَكانَ مِنْ بَيْنِهِمْ «جُنْزالُو» صَدِيقُهُ الْحَمِيمُ، وَصَفِيُّهُ الْحَبِيبُ (الْمَتِينُ الْوِدادِ)، الَّذِي عُنِيَ بِأَمْرِ «بُرُسْبِيرُو» وَأَحْضَرَ إِلَيْهِ كُتُبَ السِّحْرِ، وَوَضَعَ فِي سَفِينَتِهِ — إِلَى ذَلِكَ — كَثِيرًا مِنَ الثِّيابِ وَالزَّادِ وَالْماءِ الْعَذْبِ، كَما عَلِمْتَ — أَيُّها الْقارِئُ الصَّغِيرُ فِي أَوَّلِ هذِهِ الْقِصَّةِ.

وَقَدْ فَرِحَ «بُرُسْبِيرُو» بِرُؤْيَةِ الصَّدِيقِ الْوَفِيِّ الْكَرِيمِ، وَرَأَى شَقِيقَهُ الْغادِرَ «أَنْطُنْيُو» الَّذِي سَلَبَهُ مُلْكَهُ، وَكانَ سَبَبَ شَقائِهِ وَتَغْرِيبِهِ (تَشْتِيتِهِ وَإِبْعادِهِ). كَما رَأَى «أَلُنْزُو» مَلِكَ «ناپُولِي» و«سِبِسْتِيانَ» شَقِيقَ مَلِكِ «ناپُولِي»، وَرَأَى مَعَهُمُ اثْنَيْنِ مِنْ سَراةِ «ناپُولِي» (سادَتِها وَأَشْرافِها)، وَهُما «أَدْرِيانُ» و«فَرنْسِسْكُو».

وَما أَبْصَرَ هؤُلاءِ «بُرُسْبِيرُو» أَمامَهُمْ حَتَّى تَمَلَّكَهُمُ الرُّعْبُ وَالْفَزَعُ وَاسْتَوْلَى عَلَى نُفُوسِهِمُ الْخَوْفُ وَالْهَلَعُ.

وَحارُوا فِي أَمْرِهِمْ وَحَسِبُوا أَنَّهُمْ حالِمُونَ (ظَنُّوا أَنَّهُمْ فِي عالَمِ الْأَحْلامِ)؛ فَقَدْ كانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ «بُرُسْبِيرُو» هَلَكَ مُنْذُ زَمَنٍ طَوِيلٍ. فَلَمَّا رَأَوْهُ أَمامَهُمْ غَلَبَتْهُمُ الْحَيْرَةُ، وَتَمَكَّنَ مِنْهُمُ الذُّهُولُ.

(٤) حِوارُ «بُرُسْبِيرُو» وَ«أَلُنْزُو»

وَالْتَفَتَ «بُرُسْبِيرُو» إِلَى «أَلُنْزُو» مَلِكِ «ناپُولِي» وَقالَ لَهُ: «إِيهِ يا «أَلُنْزُو»! أَتَذْكُرُ صاحِبَكَ «بُرُسْبِيرُو» أَمِيرَ مِيلانَ الَّذِي ائْتَمَرْتَ بِهِ — مَعَ «أَنْطُنْيُو» — لِتَغْتَصِبَ مُلْكَهُ؟ إِنَّكَ تَشُكُّ فِي أَنَّنِي لا أَزالُ حَيًّا أُرْزَقُ. وَلَعَلَّكَ تَحْسَبُنِي طَيْفَ «بُرُسْبِيرُو» (تَظُنُّنِي شَبَحَهُ وَخَيالَهُ). وَلَكِنَّنِي أُزِيلُ ما عَلِقَ بِنَفْسِكَ مِنَ الْوَهْمِ، فَأُعانِقُكَ لِتَكُونَ عَلَى ثِقَةٍ مِنْ أَنَّ «بُرُسْبِيرُو» لا يَزالُ عَلَى قَيْدِ الْحَياةِ، بَعْدَ أَنْ أَسْلَمَتْهُ الْمَقادِيرُ إِلَى هذِهِ الْجَزِيرَةِ النَّائِيَةِ (الْبَعِيدَةِ)».

figure

وَمَدَّ «بُرُسْبِيرُو» ذِراعَيْهِ إِلَى صَدِيقِهِ «أَلُنْزُو» لِيُعانِقَهُ، فَذَهِلَ وَتَفَوَّهَ (نَطَقَ) بِكَلامٍ مُتَقَطِّعٍ، وَقَدْ أَفْحَمَتْهُ الْحَيْرَةُ فَأَسْكَتَتْهُ (مَنَعَتْ صَوْتَهُ مِنَ الظُّهُورِ) وَقالَ: «أَأَنْتَ «بُرُسْبِيرُو» حَقًّا؟ وَكَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ «بُرُسْبِيرُو» عَلَى قَيْدِ الْحَياةِ، وَأَنْ يَكُونَ فِي هذِهِ الْجَزِيرَةِ الْقَصِيَّةِ (الْبَعِيدَةِ)؟»

(٥) بَيْنَ «بُرُسْبِيرُو» و«جُنْزالُو»

وَثَمَّةَ الْتَفَتَ «بُرُسْبِيرُو» إِلَى صَدِيقِهِ «جُنْزالُو» وَمَدَّ إِلَيْهِ ذِراعَيْهِ وَقالَ لَهُ: «اسْمَحْ لِي — أَيُّها الصَّدِيقُ الْكَرِيمُ — أَنْ أُعانِقَكَ وَأُقَبِّلَكَ».

وَكانَ «جُنْزالُو» — صَدِيقُهُ الْحَمِيمُ — لا يَزالُ مُتَرَدِّدًا فِي مَعْرِفَتِهِ، فَقالَ لَهُ: «بِرَبِّكَ: أَصادِقٌ أَنْتَ فِيما تَقُولُ؟ أَأَنْتَ صَدِيقِي «بُرُسْبِيرُو»؟ أَلَسْتُ مَخْدُوعًا فِي ذَلِكَ؟»

وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنَ الْحاضِرِينَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَتَحَقَّقَ صِدْقَ ما رَأَى أَمامَ عَيْنَيْهِ،لِما اسْتَوْلَى عَلَى نُفُوسِهِمْ مِنَ الِاضْطِرابِ وَالِارْتِباكِ. فَقَدِ اجْتَمَعَ الْخَوْفُ وَالْحَيْرَةُ وَالذُّهُولُ عَلَيْهِمْ، وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ أَصْبَحُوا الْآنَ رَهْنَ رَحْمَةِ «بُرُسْبِيرُو» سَيِّدِ الْجَزِيرَةِ، وَأَنَّ كَلِمَةً واحِدَةً مِنْهُ كافِيَةً أَنْ تُورِدَهُمْ مَوارِدَ التَّهْلُكَةِ. وَشَعَرُوا بِالنَّدَمِ وَوَخْزِ الضَّمِيرِ، وَهُمْ تَحْتَ تَأْثِيرِ الْخَوْفِ الشَّدِيدِ.

(٦) بَينَ «بُرُسْبِيرُو» و«أَنْطُنْيُو»

وَالْتَفَتَ «بُرُسْبِيرُو» إِلَى شَقِيقِهِ «أَنْطُنْيُو» وَقالَ: «إِلَيَّ أَيُّها الْغادِرُ! تَعالَ، أَيُّها الْأَثِيمُ؛ فَلَيْسَ فِي قُدْرَتِي أَنْ أُدَنِّسَ فَمِي فَأَدْعُوَكَ شَقِيقِي. عَلَى أَنَّنِي سَأَصْفَحُ عَنْ أَعْمالِكَ السُّودِ، بَعْدَ أَنْ تَرُدَّ إِلَيَّ إِمارَتِي».

(٧) دُعاءُ «أَلُنْزُو»

وَهُنا انْبَرَى «أَلُنْزُو» لِلْكَلامِ، فَقالَ لِصاحِبِهِ «بُرُسْبِيرُو»: «لَقَدْ حَلَلْتُ هذِهِ الْجَزِيرَةِ مُنْذُ بِضْعِ ساعاتٍ، فَخَبِّرْنِي: مَتَى حَلَلْتَها أَنْتَ؟ فَإِنِّي فَقَدْتُ فِيها وَلَدِي الْعَزِيزَ «فِرْدِنَنْدَ»، وَأَرْجُو أَنْ تَكُونَ عارِفًا بِمَناحِيها (خَبِيرًا بِأَنْحائِها وَجِهاتِها)، لِتَبْحَثَ مَعِي عَنْ وَلَدِي الضَّائِعِ».

فَقالَ «بُرُسْبِيرُو» بِصَوْتٍ خافِتٍ (مُنْخَفِضٍ): «وَأَنا أَيْضًا فَقَدْتُ ابْنَتِي مُنْذُ زَمَنٍ وَجِيزٍ».

فَصاحَ «أَلُنْزُو» مُتَأَلِّمًا: «يا لَلسَّماءِ! إِنِّي لَأَدْعُو اللهَ أَنْ يَكُونَ وَلَدِي وَابْنَتُكَ مُقِيمِينَ فِي «ناپُولِي»، وَأَنْ يُصْبِحا مَلِكَيْنِ عَلَيْها، إِذا كُتِبَتْ لَهُما السَّلامَةُ مِنَ الْهَلاكِ».

وَما أَتَمَّ قَوْلَهُ حَتَّى أَشارَ «بُرُسْبِيرُو» إِلَى الصَّخْرَةِ فانْفَتَحَتْ؛ وَبَدا خَلْفَها «فِرْدِنَنْدُ» و«مِيرَنْدا»!

(٨) عَقْدُ الزَّواجِ

وَلَيْسَ فِي قُدْرَةِ إِنْسانٍ أَنْ يَصِفَ لِلْقارِئِ ما مَلَأَ قَلْبَ «أَلُنْزُو» مِنَ السُّرُورِ وَالْفَرَحِ حِينَ وَجَدَ وَلَدَهُ، بَعْدَ أَنْ ظَنَّ أَنَّ الْبَحْرَ قَدْ طَواهُ، وَأَنَّهُ قَدْ أَصْبَحَ فِي عِدادِ الْمُغْرَقِينَ. فَأَقْبَلَ عَلَى وَلَدِهِ يَضُمُّهُ فِي حُنُوٍّ وَشَوْقٍ. وَقَدْ أُعْجِبَ بِجَمالِ «مِيرَنْدا»، وَامْتَلَأَتْ نَفْسُهُ خَجَلًا مِنْ كَرَمِ «بُرُسْبِيرُو» وَصَفْحِهِ؛ فَعاوَدَهُ إِحْساسُهُ الْكَرِيمُ وَشُعُورُهُ النَّبِيلُ. وَزالَ الْفَزَعُ مِنْ قُلُوبِ الْحاضِرِينَ؛ فَأَقْبَلَ «أَلُنْزُو» عَلَى «فِرْدِنَنْدَ» و«مِيرَنْدا» وَأَمْسَكَ بِيَدَيْهِما مُهَنِّئًا إِيَّاهُما بِالسَّلامَةِ وَصاحَ قائِلًا: «لِتَمْلَأِ الْأَحْزانُ وَالْيَأْسُ — فِي كُلِّ وَقْتٍ — قَلْبَ مَنْ لا يُبارِكُ لَكُما، وَلا يَغْتَبِطُ بِزَواجِكُما السَّعِيدِ».

(٩) صَفْحُ «بُرُسْبِيرُو»

وَهَمَّ «أَنْطُنْيُو» أَنْ يُظْهِرَ أَلَمَهُ وَحُزْنَهُ لِما وَقَعَ لِأَخِيهِ «بُرُسْبِيرُو» فَقاطَعَهُ «بُرُسْبِيرُو» وَقالَ لَهُ فِي نُبْلٍ وَشَمَمٍ (إِباءٍ وَشَرَفٍ): «دَعْنا مِنَ الْخَوْضِ فِي ذَلِكَ التَّارِيخِ الْقَدِيمِ؛ فَقَدْ عَفَوْتُ عَمَّا مَضَى كُلِّهِ!»

فَبَكَى «أَنْطُنْيُو» بُكاءً شَدِيدًا، وَقَدْ كادَ النَّدَمُ يَسْحَقُ فُؤادَهُ، وَالْأَسَى يَمْحَقُهُ وَيُفَتِّتُ قَلْبَهُ، بَعْدَ ما سَمِعَهُ وَرَآهُ مِنْ كَرَمِ شَقِيقِهِ «بُرُسْبِيرُو».

أَمَّا «أَلُنْزُو» فَقَدْ جَفَّفَ دُمُوعَ عَيْنَيْهِ خُفْيَةً، وَقَدْ أَيْقَنَ (عَلِمَ عِلْمَ الْيَقِينِ) — مِمَّا حَدَثَ — أَنَّ مَمْلَكَةَ «ناپُولِي» سَيَسْتَوْلِي عَلَى عَرْشِها الْعَرُوسانِ.

وَقَدْ شَكَرُوا جَمِيعًا لِتِلْكَ الْعِنايَةِ الْإِلَهِيَّةِ ما قَيَّضَتْهُ لَهُمْ مِنْ سُرُورٍ وَابْتِهاجٍ، وَما هَيَّأَتْهُ مِنْ تَوْفِيقٍ فِي عَقْدِ زَواجِ الْعَرُوسَيْنِ السَّعِيدَيْنِ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤