الفصل الخامس

حكاية جميلة

لم يَكُن قد مرَّت على عودتنا سوى أيام عندما ظهر كتاب لِيلي Lilly في الأسواق. انتهزتُ فرصة صدور الكتاب كي أسافر إلى فيينا لإجراء حديث صحفي معها. لم يكن سهلًا أن أُبرِّر سبب رحلتي أمام قسم التحرير؛ إذ لم يكن أحد قد سمع حتى باسمها، ولكن في نهاية الأمر كنتُ أجلس في الطائرة وفي يدي الكتاب الذي كدتُ أنتهي منه عند وصولي. لم يكن يزيد عن ثمانين صفحة إلا قليلًا، غير أنها ترسم فيه صورة لألماير لم أكن أريد أن أتخيل أنها صحيحة، إلى هذا الحد تامَّة وكاملة، خيوط النهاية منسوجة منذ البداية، وكأن شيئًا آخَر لم يكن من الممكن أن يحدث في حياته.
تَضمَّن الكتاب وصفًا مُوفَّقًا صائبًا، موفَّقًا في بساطته، مثلًا عندما وصفَتْ رحلتها معه للتزحلق على الجليد، أو قضاءها أمسيات بأكملها معًا يتحدثان عن الكتب. وكانت هذه الجملة مُوفَّقة في تلقائيتها، رغم لهجتها المنبرية المؤثِّرة، الجملة التي وجدتها في رسالة بعث بها الشابُ البالغ العشرين من عمره: «أريد أن أَكتُب وأَدرُس وأكافح من أَجْل عالَم أفضل»؛ أو الفقرات التي كتَبَتْها عن شتاء قضاه في إنسبروك، عن مدينة خَلَت تقريبًا من البشر عندما كانَا يخرجان ليلًا للتمشية، والجليد المتساقط حديثًا على الشوارع يبرق ويلمع كما لم تره منذ طفولتها. كانت تعتبره — أيًّا كان رأيها فيه كإنسان — شخصًا حالمًا، وهذا تحديدًا ما جعلها تواجه صعوبات عندما قامَت الحرب؛ لأن كلامها كان يبدو ضعيفًا وهي تتحدث عن حُبه لبلاد البلقان، ثم تختلق الأساطير حوله قائلة إن الدم السلافي كان في الحقيقة يجري في عروقه. كان، حسبما كتَبَت، مثقفًا، ومن ناحية أخرى ساذجًا على نحو لا يُصدق، وهو قول نمطي شائع ربما يصفها هي أكثر مما ينطبق عليه، أو ما زَعمَته حول تَعلُّقه بالتراجيديا. وإذا لم يكن الأمر بالفعل مصادَفة، فقد سرقَت عنوان كتابها من الكاتب الكرواتي ميروسلاف كرليدجا،١ «ألف موت وموت»، العنوان مع الشعار حدَّد النبرة التي كَتبَتْ بها عنه. والغريب أن الشعار في الكتاب بالإنكليزية، وهو عبارة عن خمسة سطور مأخوذة من أغنية عن أسطورة «حقل الشحارير»:٢
Look upon the clear night sky and tell me/If the silver moon is sinking westward/If the morning star is shining eastward/If the time has come for us to travel/To the fair and level Plain of Blackbirds.٣

وعن هذه القصيدة أيضًا كان سؤالي الأول، غير أنها قالتْ إنَّها لم تَعُد تعرف الكثير عنها، وأنها على كل حال لم تفهم شيئًا من كل هذا الكلام الذي يُكْتَب عن هزيمة الصرب أمام الأتراك قبل ستمائة عام، والتي لا يكفُّون عن نبشها مرة تلو الأخرى لإذكاء الضغائن والكراهية في الحروب الجديدة. وواصلت قائلةً: «لقد أحببتُ الجمال الخافِت الذي ينبعث من الأبيات الشعرية، من دون أن أسأل نفسي من أين ينبع؟ مع أن هذا التَّشوُّق الكئيب إلى الموت فيها كان ينبغي أن يلفت نظري.»

كنا قد التقينا في مقهى بروكل، وفجأة غيَّرت موقفها قائلة إنها تفهم ذلك الكلام؛ لأنها هي أيضًا تعرَّفَت إلى هُوِيَّتها عَبْر الخسائر التي تَكبَّدتْها، فحاولتُ أن أحدد ما إذا كان هذا الحكم مُصيبًا أم أنها استخدمَت صورة بلاغية فحسب، وتريد أن تتطابق حياتها مع تلك الصورة، كنوع من الدَّلَال والمُداعبة مع خيال رومانسي. مظهرها كان يوحي بالهم والحزن، فَم مُحبَط، تَعِبَت في صباغته حتى يبدو على نحو لائق، وكأنه سينساب ويهرب منها إن لم تفعل ذلك، عينان متشوقتان تشوقًا يائسًا، وكأنهما محترقتان من الداخل. وعندما ضَحِكَت وتوارى وجهها خَلْف شعرها مثل فتاة صغيرة، تساءلتُ: هل ثمة ما يمكن أن نطلق عليه «الشعور بالإهانة كموقف في الحياة»، الشعور بالإهانة لأن جسدها — هكذا أظن — يقف عائقًا في طريقها؛ لأن السنوات تنساب من بين أصابعها، لأن كثيرين قالوا لها إنها جميلة من دون أن يحميها ذلك من أي شيء. لم أكَد أجرؤ على التطلع إليها، ففي كل مرة كنتُ أصطدم على الفور بنظرتها المتسائلة. كانت تجلس مستقيمة وتنتظر، ككائن لَيلِي أفزعه ضوء مفاجئ، شاحبة في ثيابها السوداء، ولم أستطع إلا بالكاد أن أتخَيَّل أنها هي التي أَقحمَت نفسها لتحتل صدارة الاهتمام في جنازة ألماير، حسبما حكى باول، وأنهم لم يستطيعوا إبعادها عن قبره إلا بصعوبة، وفي النهاية مَثَّلَت إصابتها بانهيار هستيري.

كانت مُقابلة بلا جدوى؛ لأنها لم تَقُل شيئًا يُذكر عنه، ولأنها أصرَّت على الصورة التي ابتدعَتْها في كتابها. لم تَرْوِ غُلة فضولي، وهو فضول كان بالتأكيد متلصصًا عندما سألتُها أين ومتى تعرَّفت إليه؟ أو كيف افترقَا في النهاية؟ لم تُجِب سوى بقولها إن هذا ليس مهمًّا، وعندما سألتُها ما المهم إذن؟ قالت إن عليَّ أنا أن أستنتج ذلك إذا كنتُ أريد بالفعل أن أتحدث معها. ربما أكون مخطئًا، غير أنها بَدَت وهي تقول ذلك وكأنها تلقي نظرةَ مَن يلتمس الموافَقة من المائدة المُجاوِرة حيث كان يجلس رجل وحيدًا، يبدو أنه كان ينصت إلينا، وبين حين وآخَر كان يشخبط شيئًا في دفتر صغير أمامه؛ لذا لم أستطع أن أتَخلَّص من فكرة أنه صديق لها وأنها أجلسَتْه هناك كرقيب.

وعندما بدأَتْ مرة ثانية تقول إنه لا جدوى من توجيه أسئلة عن تفاصيل حياة ألماير الحميمية، قلتُ لنفسي أيضًا إن ما نطقت به كان بالأحرى موجَّهًا له، لا لي، ثم علا صوتها إلى درجة من المستحيل ألَّا يسمعها الرجل. «هل تريد أن تعرف ما إذا كان يقوم بواجبه في السرير؟»

اختبأ الرجل الآن خلف الصحيفة، وأعتقِد أنني لاحظتُ كيف ارتجَف؛ إذ ظَهرَتْ عيناه فوق الجريدة بينما راحَت هي تعض شفتها السفلى وكأنها نادمة على ما قالت. لم أعرف كيف أرد عليها، وأخذْتُ أصوِّب نظراتٍ لا تتحول تجاه الرجل ذي الستين عامًا تقريبًا والنظارة النيكل، وقد تَطايرَتْ فوق جبهته خصلة شعر مكوية لم تلائمه وقد بدَا في المقهى بكوفيته الحريرية المضحكة وكأنه فيلسوف فرنسي من الذين يظهرون في التلفزيون. كان من الواضح أنه يَخشى أن تتورط في تقديم اعتراف سطحي، ولكن لم يكن هذا هو ما أدهشني، كلَّا، ما أدهشني أنها لم تَنتبِه إلى سخريتي عندما أومأتُ برأسي مُتردِّدًا، وذلك حتى يصدر عني أي رد فعل على هجومها.

«لستُ إذن العنوان المناسب لك»، قالت ذلك في نبرة وكأنني تَسبَّبتُ في إحراجها. «إذا كان هذا هو ما تريد، فلا يمكنني أن أساعدك.»

كان من الواضح تمامًا أنها ظنَّت أنني لا أستطيع سوى طرح أسئلة غبية، ثم قامَت هي بطرح هذه الأسئلة لتتأكد ظنونها، ثم تصرِفني مرةً باحتقار، ومرةً أخرى بعد أن تَتظاهَر أنها أُهينَت. وعندما سألتُها عمَّا إذا كانت في كوسوفو، فقد أشعرَتْني أن كل سؤال لا جدوى منه، وكل كلمة زائدة عن الحاجة، ثم هَزَّت رأسها بعد أن سألتُها هل كانت لديها خطط للسفر إلى هناك، ولم تَزِد ردودها في كل الأحوال عن: نعم، لا، ربما، هزة كتفين؛ إجابات مُقتضَبة ومُبتَسرة. لم أعرف ما انتظرَتْه مني، وهل كان بإمكاني عمومًا أن أرضيها، هل كان السبب فعلًا يرجع إليَّ وإلى سلوكي المباشر ربما للغاية، أم أنني كنتُ سأجني الردود نفسها لو كنتُ التزمتُ الحذر وتعاملتُ معها بتحفُّظ؟ ولكن في نهاية الأمر لم يكن هناك فارق، فلم أَعُد أهتم بها، ولا بتظاهرها بأنها تعاني الصداع المُزمِن، وأن كل شيء مرهِق ومتعِب بالنسبة لها.

وبينما رحتُ أُرسل نظرات جانبية للرجل على المائدة المجاورة الذي كان يَمُرُّ بكلتا يديه على شعره فاردًا إياه، تَذكَّرْت مرة أخرى ما قاله باول عن ألماير الذي اشتكى ذات مرة أن الحرب خلَّفت لديه شعورًا بغرابة الحياة العادية، واستحال عليَّ عندئذٍ أن أتخيل باول جالسًا بجانبها. ألحَّت عليَّ صورة إنسان يعمل في منجم تحت الأرض، ويعود إلى منزله متسخًا، ولأنهم لا يسمحون له بالدخول، فإنه يلقي نظرة من النافذة إلى الداخل، فيراهم يجلسون على أضواء الشموع حول مائدة مغطاة بالمفارش البيضاء، يبعدون عنه أقل من مترين، ومع ذلك لا يمكن الوصول إليهم. كنتُ أودُّ لو قلتُ لها: كيف تسمحين لنفسك بهذا السلوك الفظ، لكنني لزمتُ الصمت. صُورَته التي تراءت لي كان بها شيء لا يُمْحَى، شيء خارجي، مثل علامة قايين في التوراة، وسواء أعجبني الأمر أم لا فإن أول ما فكَّرتُ فيه كان أن أدافع عنه ضد براءتها الاستعراضية، وأن أحميه من لَعْنَتها التي بدَتْ لي رخيصة مُبتذَلة.

ولهذا سألتها عمَّا إذا كانت نصحته بالتَّخلِّي عن مهنته أثناء فترة حياتهما المشتركة، عندما سافَر لأول مرة إلى منطقة من مناطق القتال، غير أنها على ما يبدو لم تفهم ما قصدته، وتصرَّفَت وكأنها فُوجِئت بسؤالي: «ولماذا كان عليَّ أن أفعل ذلك؟»

– لم أفكر كثيرًا: «حتى تنقذيه من نهايته.»

ما زلتُ أتذكَّر كيف قَهقهَت، وكأن ما قلتُه لا يمكن أن يكون سوى نكتة أو سوء تفاهم.

«لم تكن هناك جدوى من وراء ذلك»، ردَّت بعد بُرهة. «إنه لم يبدأ بهذا العبث إلا بعد أن شعر أنه بدون الإثارة سيموت مللًا.»

لم أستطع أن أحدد ما إذا كان كلامها صحيحًا، أم أنها تتملص من الإجابة، وتبحث عن التفسير السهل الذي يهتدي إليه المرء على الفور عندما يتساءل عن سبب اندفاع إنسان بمحض إرادته لملاقاة الأخطار.

«كان يقول دائمًا إن أسوأ ما يتخيله هو أن يُدفن حيًّا في أحد المكاتب»، واصَلَت كلامها. «كان شعاره: سواء اختبأ أم لا، ففي النهاية سوف يقبض الشيطان على روحه.»

لم أكن أتوقع منها أن تقول كلامًا بمثل هذه الجرأة، وعندما عبَّرتُ عن شكوكي من أنها ربما رغم ذلك كانت تستطيع أن تُؤثِّر عليه كي يعيد حساباته، لاحظتُ كيف نفد صبرها. وبالتأكيد كان سؤالي في غير محله عندما قلتُ لها إن الموت قد يكون مُعديًا طوال الوقت الذي يُعَرِّضُ الإنسان نفسه له، رغم ذلك ضايقني أنها راحت تجول ببصرها معبِّرةً عن ضجرها. وعندما قلتُ لها إنه ربما، وتحديدًا بسبب ما رآه، لم يخرج سليمًا بلا ضرر من مغامراته، فإنها تَصرَّفتْ وكأنها لا تريد الإنصات إلى كلامي، ثم عارضَتْنِي معارَضة عنيفة: «إذا صح ما حكاه لي، فهو لم يَرَ طوال هذه السنين إلا ميتًا واحدًا. حسبما زعم، كان يتمكن دائمًا من إغلاق عينيه في الوقت المناسب.»

تركتُها تتحدث، رغم أن كلامها — وفق معلوماتي — لا يمكن أن يكون صحيحًا. أيًّا كانت أسبابها، فإنها اختلقَت هذه الحكاية، ومع ذلك فإنني فيما بَعدُ كنتُ في الغالب أتذكر الحكاية بدقة، كلما وردت هي على ذهني، وكنتُ أتذكر أيضًا حكايتها الساذجة عن الجندي المجهول الذي بدَا أثناء الموت وكأنه نائم فحسب، وعن هذه الحكاية كنت أحب أن أكتب. أثناء جلوسي أمامها قررت ألَّا أكتب أي شيء تحدثنا عنه، ولذلك بقيت تأكيداتي — عندما نهضَتْ وودَّعتُها — بأن أبعث لها بنسخة من المقالة بعد النشر محض وعود فارغة. الشيء الوحيد الذي مرَّ برأسي لحظتها، أنني لم أَحكِ لها شيئًا عن علاقتي بباول، وأنني لن أذكر أمامه حرفًا عن زيارتي هذه، وأنني سأتصرف وكأنني لم أقابلها في حياتي أبدًا، وكأن الصورة التي كوَّنتُها عنها ليست إلا ما أعرفه من باول، أي حصيلة تحفظاته عليها.

بعد أن خرجتُ من المقهى استدرتُ عائدًا كي أتأكد من ظنوني، وطبعًا كان الرجل من المائدة المجاورة يجلس الآن معها ويحاول إقناعها بشيء. ورغم أنني لم أقف بعيدًا عنهما، فإنهما لم يُلاحِظا وجودي؛ ولذا كان لديَّ الوقت كي أتفرس في وجهها، ورأيتُ مرة أخرى البؤس مرسومًا عليه، قِلَّة الحيلة التي جعلتني أفكر في شيء ورَقِي قابِل للكرمشة إذا لم يتناوله المرء بحذر، وأدركتُ أنه — سيان ما يحكيه الرجل — فإن قطارها قد فات. كان لا يني يمسك بيديها، وحتى لو لم أكد أسمع من حديثهما شيئًا، كنتُ أحدس أنهما يتكلمان عني، لكنني لم أفهم سبب انفعالها ولم أُرد أيضًا أن أفهم، كانت تكفيني الكلمات القليلة التي التقطتُها والتي كانت تنطبق عليَّ، ومن بينها بدَت كلمات مثل «الألماني الشمالي المتعجرف» الأكثر لطفًا.

كنتُ لا أزال أفكر في ذلك عندما دخلتُ بعد حوالي ساعة المكتبة الإنكليزية في «شترن-جاسه» وكنت شاهدًا على حديث جعلني أتذكر فالدنر مرة أخرى، إذ إن صاحبة المكتبة كانت تصرخ بالطريقة نفسها في سائحة أمريكية. لم أسمع بداية الحديث، ولم ألتفِتُ إليهما إلا عندما راحت تتكلم عن الفاشيين، رافعةً صوتها ومثبِّتةً نظرتها على المرأة المحملة بأكياس التسوق. فاتني أن أنتبه مَن تقصد بذلك، وبينما حاولتُ أن أستنتج ذلك، إذ كلما كرَّرَت المرأة الكلمة، بدَت أكثر شمولًا، وكأنها — مصحوبة بحركات يديها الكثيرة — تتسع لتحيط بالعالَم كله، وفي النهاية كان يمكن أن تكون كل شيء وكل أحد، أما المرأة المُنصتة فقد بدَت ضائعة في دوامة كلام صاحبة المكتبة، فوقفت أمامها ولم تزد عن أن تقول بلا صوت تقريبًا:

Oh my God, oh my God, I can’t believe it, oh my God.٤

كان لقاء غريبًا بين شخصين، المرأة الرقيقة الحيوية التي رفعت أخيرًا إحدى يديها لتضعها أمام فمها في مزيج من الرعب والافتتان، والسيدة الواقفة خلف طاولة البيع والتي شابَ شَعرُها قبل الأوان والطاعنة في السن كما يبدو، والتي على ما يظهر كانت قد شربت شيئًا، وراحت، في حالة النشوة التي استولت عليها، ترتجف وتهتز شاعرةً بالجرأة والإقدام.

«إنهم عصابة من الصبيان القتلة»، قالت بعد أن بدَا لها أن اقتصارها على كلمة «فاشيين» ليس كافيًا. «إنهم لا يَتورَّعون عن فعل شيء إذا لم يوقفهم المرء عند حدهم.»

في هذه اللحظة أردت أن أنسحب في هدوء، لكنني شعرتُ بنظرتها عليَّ، ثم تَوجَّهتْ إليَّ بالكلام: «ألا ترى ذلك أيضًا؟»

باغتني سؤالها. لم أجد ردًّا، فقلتُ مراوغا: «لا أعرف»؛ لأنني لم أكن متأكدًا من هوية الذين تقصدهم. «لا أستطيع للأسف أن أقول شيئًا في هذا الموضوع.»

لم يكن هناك خطأ يمكنني أن أفعله أكبر من ذلك، ولكن قبل أن أدرك ما فعلت، كانت قد حوَّلت كل انتباهها إليَّ، وحاولَت أن تتأكد من مقصدي. «ولكن ليس من الصعب إلى هذا الحد إبداء رأي في الموضوع.»

عندما سمعت النبرة المُتهِمة التي تَحدَّثَت بها، أدركتُ أنها الفرصة الأخيرة المتاحة لي كي أخرج من الأمر سالمًا، غير أنني تركتُها تمر، وهززتُ كتفي فقط. نظراتها إليَّ لم تدع مجالًا للشك من أن اتهاماتها — التي لا أعرف مَن تقصد بها — تَشملُني أنا أيضًا. شعرتُ باستحالة أن أرد بشيء قد يوضح الحقيقة، ولكن سلوكها أصابني بالشلل، فوقَفتُ هناك محملقًا فيها من دون أن أفتح فمي بكلمة، مثلما فعلَتْ هي تمامًا، إلى أن لاحظتُ أنها تنتظر مني أن أمضي، وأنها كانت عازمة على عدم قول شيء قبل ذلك. لم أعرف: هل ينبغي عليَّ أن أغضب أم أضحك؟ بدَتْ لي الإمكانيتان متساويتين في العبث واللاجدوى، البقاء مثل الانصراف؛ لأنها على أي حال ستشعر بأنها على صواب، وعندما حوَّلْت بصري عنها، ناظرًا إلى الأمريكية التي كانت لا تزال تتأرجَح بين الحماسة والذُّعر، نجحَتْ في كسر جمودي، ووجدتُ نفسي في اللحظة التالية أقف في الشارع، شاعرًا بالارتياح لأنني نفدتُ بجلدي، وإنْ لازمني الإحساس بأنني زوَّدتُ السائحة — التي ربما تكونُ قد قامت برحلة بالحنطور وحضَرت أحد عروض مدرسة الخيول الإسبانية — بمشهد تقليدي آخَر من معالَم مدينة فيينا.

بعد عودتي إلى هامبورج لم أستطِع تَصوُّر كل ما حدث إلا بصعوبة بالغة، إلى هذا الحد كان الموقف عبثيًّا، وشعرتُ أنني أكره فيينا كما لم أفعلْ منذ مدة طويلة؛ أكره اتساعها، وضوءها، وسماءها التي تَتقلَّب بسرعة، والهواء والأنوار التي لا تشبع المدينة منها. وعندما تواعدتُ مع باول بعد عدة أيام من رجوعي، تراءى لي لقائي مع لِيلي غير حقيقي على الإطلاق. شهد المقهى في أوتنسن لقائي مع باول مرة أخرى. كان قد طالَع كتابها، إلا أنه لم يهاجمه كما توقَّعت، بل على العكس، لقد اتَّخذَه مناسَبة كي يتحدث من جديد بحماسة عن الفترة التي قَضَوْها معًا في مدينة إنسبروك. تحدَّث عنها وكأنه لم يَذكُرْها أبدًا بازدراء. ورغم أنني سمعتُ كلامه العاطفي عنها من قبل، فإنني فوجئتُ بابتعاده الكبير عن أقواله السالفة. راح يُتبع النادرة بالأخرى، حكايات لطيفة عادية، لسبب ما يحب إعادة حكايتها، إلى أن قال في النهاية إنه كان يشعر معها ومع ألماير بأنه في بيته، على الأقل طوال شهور في تلك الفترة، ولم يعاود الهجوم عليها بعد ذلك.

ولأن باول ظَلَّ يلحُّ عليَّ لمرافقته إلى مسرح ألتونا لمشاهدة «ثلاثية بلغراد»، وهي مسرحية لكاتبة صربية شابَّة، فقد استجبتُ له وذهبتُ معه إلى المسرح بعد ذلك بقليل، وهناك قابلنا إيزابيلا بالصُّدفة، ولأنني احتفظتُ بتذكرة الدخول أستطيع أن أذكر التاريخ بالضبط، وهو التاسع والعشرون من أكتوبر، بعد ليلة أو ليلتين من عرض الافتتاح. كانت المسرحية تُقدَّم في مدخل المسرح، وقد دخلَتْ إيزابيلا قبل بدء العرض مباشرة، وجلستْ على درجة من الدرجات السفلية لإحدى الدرجين الجانبيين حيث كان الجمهور يجلس، مباشرة عند أقدام الممثلين، وأتذكَّر كيف رُحتُ أراقبها من أعلى، وأنني لم أحوِّل بصري طوال الوقت عن بروفيل وجهها، بينما كانت هي تُتابِع المَشاهد بلا حراك متكئةً على الزجاج المحيط ببئر المصعد. لم تخلع معطفها، وكأنها مُستعِدَّة للنهوض في أي لحظة والخروج بسرعة، بدَتْ شاحبة للغاية، ومستغرِقة تمامًا في الفرجة إلى درجة التَّرقُّب الوَجِل، مستقيمة في جلستها، شَعرُها مرفوع لأعلى تتطاير بعض خصلاته في ضوء الكشافات الذي كوَّن بقعة مضيئة تحت الواجهة التي تخترقها النوافذ فوق المدخل، وفكَّرْت لفوري أنها تنتمي للمشهد، وأنها جزء من الذي يُمثَّل أمام عينيها.

كان ذلك بعد ثلاثة أسابيع من إسقاط النظام في بلغراد، وعندما وقَفْنا نحن الثلاثة في الاستراحة وقال باول إن ما حدث في بلغراد لم يَعُد يفيد الشخصيات على خشبة المسرح، إنهم هاربون أبَدِيُّون من مسقط رأسهم، وفي ليلة رأس السنة وجدوا أنفسهم قد تفرَّقوا عَبْر نصف بلاد العالَم، أي في المنافي، بشكل نهائي، عندئذٍ ظلَّت إيزابيلا تَتطلَّع إليه بدون تَفهُّم.

«بالنسبة لي أيضًا حدث ذلك بعد فوات الأوان»، هكذا قالتْ بعد بُرهة وكأنها تُعيده إلى الواقع. «لو حدَث ذلك قبل عامين، لكانت حياتي تَغيَّرَت تمامًا.»

كان من الواضح أنها تفكر في ألماير، ولذلك لم أندهش أيضًا عندما ذكرَت شريط الكاسيت المُسجَّل عليه المقابلة، ثم تَوجَّهَت إلى باول متسائلة: «هل ما زال يَهمُّك الحصول عليه؟»

على ما يبدو لم يكن يتوقَّع ذلك.

«طبعًا»، أجاب مترددًا وكأنه لا يصدق أنها جادَّة في سؤالها. «أنا أنتظر فقط أن تُسلِّميني إياه أخيرًا.»

كان يَوَد لو استطاع أن يقابلها في اليوم التالي، لكنها قالت إنها ستسافر في الصباح إلى فيينا لقضاء عدة أيام، وإنَّ عليه الصبر طوال هذه المدة. وعندما اتَّضح أن لِيلي قد دَعَتْها لزيارتها، هزَّ باول رأسه قائلًا: «إنني أَتعجَّب من أنك على اتصال بها.»

لم ينطق إلا بهذه الكلمات، ورغم أن معرفته بها سطحية، فإن نبرات صوته وَشَتْ بخيبة أمله. راح ينظر إليها، وقد بدَا عليه التردد: هل عليه أن ينتظر ردًّا على كلامه؟ أم أنه على العكس يخشى أن تبوح بأشياء أكثر إذا بدأتْ في الكلام وأن تفتح مواضيع ربما تكون شائكة بالنسبة له؟ كانت نظرته تنطق بالتحدي، إلا أنه كان ينسحب على ذاته بمجرَّد أن تلتقي عيناه مع عينيها، ولا بُدَّ أنها لاحظَت أن الموضوع غير مريح بالنسبة له، ولهذا جَسَّت النبض بجملة جاءت بين السؤال والتقرير: «أنت لا تحبها.»

هزَّ كتفيه، ولم يستطع هذه المرة أن يسيطر على نفسه، وانطلق يحكي عن جنازة ألماير وكيف تَصرَّفَت في ذلك اليوم.

«لقد حاولَت أن تنتزع منكِ مكانة الأرملة.»

لم يُثِر كلامه إلا ضحكها. «لو كان الأمر كذلك، فأنا سعيدة بما قامت به»، قالت في النهاية. «ما زلتُ لا أستطيع التخيل كيف كنتُ سأتحمل كل ما حدث.»

وبهذا انتهى الحديث، وعندما دخلنا مرة أخرى تَجنَّبتْ — أيًّا كان السبب — أن تجلس بجانبنا، تَريَّثَت حتى جلسنا، ثم اتَّخذَت مكانًا لم أستطع منه أن أراها إلا لو لويتُ عنقي تجاهها، بينما كان بإمكانها أن تراقبنا لو أرادت، غير أنني كلما خاطرْتُ بنظرة كنتُ أجدها تنظر بعيدًا، إما لأن الأحداث على الخشبة حازت انتباهها، أو لأنها كانت تحملق أمامها في جمود، محاصَرة برجلين يجلسان بجانبها، يشير مظهرهما إلى أنهما من الجنوب، وقد أثارت نظراتي انتباههما. لا أعرف ما الخطأ الذي ارتكبناه، ولكن قبل أن ينتهي التصفيق الختامي، كانت قد نهضَتْ وانصرفتْ من دون أن تُودِّعنا. وظللنا نبحث أمام المدخل من دون جدوى؛ لأننا ظنَنَّا أنها ربما تنتظرنا في مكان ما.

قد يبدو هذا غريبًا، ولكن لم يَمضِ شهر حتى كان باول قد حصل على الكاسيت بالرغم من ذلك، وما زلتُ أتذكر أنه اتصل بي تليفونيًّا وسألني عمَّا إذا كنتُ أريد المجيء وسماع الشريط معه ومع هيلينا. كانت ماسورة ماء قد انكسرَت في شقتهم، ولذلك سكنَّا لمدة أسبوع في أتيليه شاغر لصديق رسام في «كارولينن-شتراسه». ولكن عندما أفكر كيف استقبَلاني هناك — هو وقد استولى عليه الانفعال، وهي ربما هادئة للغاية — فقد شعرت أن حكاية الشقة ربما تكون حيلة مسرحية. يقع الأتيليه في الطابق الأخير من بناء كان يُستخدَم سابقًا كمخزن، ومنذ ذلك اليوم فإن وشيش جهاز التسجيل بعد تشغيله ونظرات باول التي تدَّعِي الأهمية يُذكِّراني بنظراتي من النافذة، والسكون المنساب في هَسيس مُتعفِّف قبل بدء الحديث، وضوء برج التلفزيون المنزلق فوق أسطُح المنازل والذي كان يبرق عَبْر آخِر أشعة المساء، وطائرة الشحن المتضخمة الرأس التي كانت تشق طبقة السحاب بلا صوت وتقترب مِنَّا وهي تهتز في طريقها للهبوط. لا هو ولا هي، على ما أتذكَّر، نَطقَا بشيء، والأصوات الوحيدة التي تغلغلَتْ من الخارج كانت الصيحات البعيدة من الملاهي في ساحة «هايليغن-غايست»، وصرير انقطع بعد أن وصل إلى ذُراه، ثم صَمْت تام، لبُرهة، والرُّعب والمُتعة قبل الهبوط مرة أخرى إلى الأرض.

ثم عَلَت أصوات، خليط من الكرواتية والألمانية لا يُفهم منه سوى كلمات منفردة. تَبادُل التحية في البداية على ما يظهر، قبل أن يسود الصَّمت مرة أخرى. الوشيش من جديد. يبدو أنهم في غرفة صغيرة. وفي النهاية اعتقدتُ أنني تعرَّفتُ على صوت سلافكو.

– «ماذا تريد؟»

– استغرق الأمر بُرهة قبل أن نسمع الإجابة: «التحدث معك.»

إنه حتمًا ألماير، ورغم أنني لم أتخيَّل أبدًا صوته، فقد فاجأتْنِي نبرته. لم تكن النبرة الحاسمة التي تحدَّث بها تناسبه، وأعتقد أنه جمع كل شجاعته كي يتحدث هكذا. أتخيله وهو يقفُ هناك، مذعورًا بعض الشيء، متعَبًا من الجهد الذي بذله خلال اليوم، وربما مفعمًا بالشكوك: هل كان مجيئه إلى هنا فكرة صائبة؟ أن يسافر كل هذه المسافة لمقابلة رجل يتركه ينتظر طويلًا، ثم، فوق كل ذلك، يقابله بتحفظ؟

«ليس لديَّ أي فكرة عمَّا أستطيع أن أحكيه لك.»

كان يتحدَّث ببطء، وعلى الفور لفتَ انتباهي أنه على الأرجح سكران؛ إذ إنه بذل جهدًا كبيرًا في فصل كل كلمة عن الأخرى.

«على كل حال، أنتَ تعرف كل شيء عنِّي. سيان ما أقوله: إما أن تعتبره تأكيدًا لرأيك، أو دليلًا على أنني أُخبئ شيئًا.»

لم أتوقَّع أن لديه شكوكًا كهذه، لا سيما عندما أتصور الموقف، وشعوره بالضياع في المنطقة الحرام، في مكان ما من الجبهة الصربية الكرواتية. كان مهتمًّا بمعرفة تأثير ما يفعله، وهو ما يتبين في رغبته في أن يعرف لدى أي جريدة يعمل ألماير. ولم أستطع أن أُصدق أذني عندما سأله فوق ذلك عمَّا إذا كان ينوي أن يلتقط له صورة، وإذا كانت الإجابة بنعم، فعليه أن يُسرع لأن الظلام ينتشر في المنطقة بسرعة. الطريقة التي كان يوجهه بها تدل على أنها لم تكن ربما المرة الأولى التي يقابل فيها مراسلين صحفيين، ولهذا لم أتعجَّب عندما قال بعجرفة: طالما أنه لم يَقُل شيئًا آخَر، فإن كل شيء يجب أن يكون off the record.

هذا يعني أنه لم يكن يعرف أن جهاز التسجيل يدور، ولكن ما تَحدَّثا عنه بدَا غير ذي بال على كل حال، أسئلة ألماير عن سير خط القتال ثم الإجابات التي تميل إلى الحذر، مناوراته وإشاراته المتكررة إلى أنه لا يستطيع الإدلاء بتفاصيل أكثر حول أشياء مُعيَّنة لأنه مُلزَم بعدم إفشاء الأسرار. لم يكن كل ذلك أكثر من مناوَشات إلى أن قدَّم له شرابًا وألحَّ عليه عندما رفض، وعندئذٍ سمعنا نبرة مختلفة، وإصرارًا لا يسمح بأي معارَضة. التفَت على ما يبدو إلى شخص آخَر، ثم تحدَّث فجأة بالكرواتية، وفي الخلفية سمعتُ ضحكات، بينما تَدخَّل صوت قريب تمامًا، ربما مترجِمُه، بصوت خافِت ولكن بإلحاح، وكأنه يتضرَّع إليه.

«لا يمكنك أن ترفض كأسًا من الشنابس.»

عند هذه الجملة أوقف باول الشريط لأول مرة، ثم أرجعه كي نسمع مرة أخرى ما قاله سلافكو، ثم نظر إلى هيلينا متسائلًا.

لست متأكدة، لكني أعتقد أنه وصفه أمام رجاله بأنه «ولد مِدلع تَلفان». ثم أضافت: «إذا كنت فهمت ما قيل، فقد تساءل: هل عليه أن يعلمه الأدب إذا رفض دعوته؟»

بدَتْ جُملتها ملتوية لدرجة أنني فطنتُ — من دون أن تقول هي شيئًا — كيف كان كلامه مليئًا ربما بالبهارات النابية السوقية. من الواضح أنها تشعر بالإحراج، أخَذَت تحملق أمامها باحثة عن نظرتي قبل أن ترسل بصرها إلى النافذة، وكأنها تودُّ لو استطاعت أن تضيع في مكان ما بالخارج. لاحظتُ أن باول لم يَحِد ببصره عنها، وعندما شغل الجهاز مرة أخرى وواصل سلافكو كلامه، لازمني الانطباع بأنها تُحاكي بشفتيها ما يُقال مَقطعًا مَقطعًا، ولكن من دون أن تصدر صوتًا، ودون أن تكون واعية لما تفعله.

واصل الشريط سيره لفترة، وكأن بقيته فارغ، ثم ارتفعت أصوات مُعربِدة عالية، وقالت — من دون داعٍ، لأن الأمر كان واضحًا — إنهم يقرعون الأنخاب في صحته:

Živio

بين حين وآخَر كنتُ أسمع هذه الكلمة، ثم لقب «كابتن» الذي كانت تخاطبه به البنت في سلافونسكي برود أيضًا:

Živio, keptn, živio

ثم علا صوت المترجِم مرة أخرى الذي طلب من ألماير أن يتناول الزجاجة ويشرب، بنفسه، حسبما كرَّر الكلمة التي قيلت له، ثم أعقبت ذلك ضحكة، من سلافكو بالتأكيد، هي بالأحرى سعلة طويلة، وكأنها لُهَاث بلا صوت.

Vidite švabo

كانت نبرته مشجِّعة وساخرة، من الواضح أن كلامه كان موجهًا إلى رجاله. أومأت هيلينا برأسها فحسب ولم تُترجِم لأنه على الفور تحدَّث بالألمانية:

«هكذا الشرب وإلا فلا.»

بدلًا من الإجابة سادت الفوضى، برزت منها بين الحين والآخر عدة مقاطع، وبينما رحت أتنقل ببصري بين باول وهيلينا، ومن خلال قرع الأنخاب فهمتُ أن الزجاجة دارت عليهم الواحد بعد الآخر. كلاهما أنصتَ باهتمام، أقلُّ صوت غير مُتوقَّع كان يكفي لأن يتبادلا نظرات مستفهمة. باستثناء هَسيس الجهاز كان الصمت مُخيِّمًا. لم يَكُفَّ باول عن لمسها، كانت إحدى يديه على زِر تشغيل المسجِّل، والأخرى على ذراعها. كانت تجلس على حافة الفوتيه حيث قعد، متكئةً على كتفه، وظلَّت ساكنة. بدَا مرة أخرى وكأن الشريط انتهى، ثم فجأة سمعنا بوضوح صوت ألماير.

«ما هي المسافة حتى الحدود الصربية؟»

كان سؤالًا شائكًا، ويبدو أن باول أوقف الجهاز من الرعب. أرجع الشريط قليلًا ثم شغَّله مرة أخرى، وكأنه أخطأ السمع، وتوقَّع في المرة الثانية أن يسمع شيئًا مختلفًا. الكلمات نفسها لم تزد في الإعادة إلا بُعدًا عن الواقع. وضع باول إصبعًا على شفتيه حتى لا تتحدث هيلينا بين الكلمات عندما قام سلافكو بالترجمة إلى رجاله.

كنت أنتظر صرخة، ولكن لا شيء، ثم فجأة خامرني شعور أكيد بأن الفرقعات المستمرة إنما هي صادرة عن بندقية آلية. بالطبع ربما أتوهم ذلك، لا سيما وأن نوعية التسجيل سيئة، ولكن الآن لم يعد ثمة شك، كانت طلقات بكل تأكيد، أربع أو خمس، ردًّا على ذلك، بين كل طلقة وأخرى فاصل واضح، صوت جافٌّ بلا صَدًى، وللحظات بدَا وكأن الشريط يدور من دون أن يكون قد سجَّل شيئًا من الأصوات في الخلفية. ظل السكون سائدًا، فأرسلت النظر من النافذة إلى الظلمة الزاحفة ببطء محاولًا أن أتخيل قسوة حلول الليل في مناطق القتال آنذاك، ثم تفجَّرَت ضحكة سلافكو مرة أخرى.

«الحدود الصربية؟»

نبرته مفعمة بالتهكم، ولم ينتظر أن يجيب ألماير بأي شيء، بل واصل بنبرة مَن يوضح بصورة نهائية أنه لا يقبل المزاح.

«أخشى أنني لا أعرف ما تقصد، ولكن لديَّ هنا شخص قد يساعدك»، واصل كلامه، وكأنه يعيد جملًا حوارية التقطها من مكان ما. «اتبعني، سأُعرفك بالسيد.»

سمعنا وقع خطوات، ثم صوته مرة أخرى.

«هذا هو، إنه مِن هناك.»

أعقب ذلك شذرات جُمل باللغة الكرواتية نطق بها، وقالت هيلينا إن من الواضح أن الآخر أسير، زجره سلافكو لكي يغني.

كنت أودُّ أن أسألها عمَّا تقصد، ولكن عندئذٍ سمعتُ صوتًا محشرجًا، خافتًا وواهيًا للغاية في الغرفة هائلة الاتساع التي يبدو أنه كان فيها.

Spremte se, spremte, cetnici

تملَّك الخوفُ الرجل، وعندما صاح فيه سلافكو أن يُعيد ما غنَّاه، ولكن بصوت أعلى، لم يكن باول بحاجة إلى طلب شيء من هيلينا؛ من نفسها تَرجمَتْ ما قيل، وتحدَّثتْ بسرعة لافتة من دون أن تُحرِّك شفتيها تقريبًا.

«كُونُوا مُستعِدِّين، أيها التشتنيك، كونوا مُستعِدِّين.»

لاحظتُ أن باول يريد أن يوقف الشريط مرة أخرى، ولكن في تلك اللحظة سَمعْنَا شيئًا يُشبِه الصَّدَى العالي، ارتجف باول فور سماعه، وإذا كنتُ لم أنتبه للأمر قبلها، فقد فهمتُ على حين غِرَّة أن هذه هي نغمة صلاة الرجل.

Spremte se

ضحكة سلافكو أيضًا بدَتْ فجأة وكأنها تُعبِّر عن بعض الاندهاش، لكن ربما أخطئ؛ لأنه عندما توجَّه إلى ألماير ثانيةً كان يفيض تهكمًا.

«يمكنه أن يجيب على سؤالك.»

وبهذا وجَّه كلامه إلى الرجل مرة أخرى.

Koliko ima do Srbije

كنتُ أتوقَّع أن تقوم هيلينا بالترجمة، لكنها صَمتَتْ، وراحتْ تُنصِت إلى صوته الذي أصبح فجأة عذبًا شجيًّا، أما ملامح وجهها فقد تَقلَّصَت وكأنها تشعر بالقرف. تركَتْ لديَّ الانطباع وكأنها تودُّ أن تقول: ليس معنى أنني الوحيدة التي أفهم لغته، أن ثمة أدني علاقة تربطني بهذا الرجل. ربما لهذا كانت حَذِرة ومُتحفِّظة. رغم ذلك لازمني الانطباع بأنها تشعر أنه يكلمها هي شخصيًّا، وبالفعل بدَا حضور الرجل أقوى أثناء انتظاره وسكونه، وعندما أجاب لم يكد المرء يستطيع سماع ما قاله:

Dvadeset kilometara

قهقه فحسب.

Koliko

رغم أن التردد كاد يشله، فقد تحدَّث بتردُّد أكبر:

Dvadeset

أعقب ذلك تصفيق قوي، ثم تحدَّث وكأنه يتوجه إلى طفل عنيد لا يريد أن يفهم أنه لا يضمر له إلا كل خير:

Koliko

مرة أخرى ترك لحظات تنساب.

Dvadeset kilometara, kažeš

قال ذلك بلين، وكأنه يتحدث أبجدية أخرى.

A šta onda radiš ovdje

نبرة هذه الجملة كانت تُضْمِر برودة شديدة، لدرجة أنني تمنَّيتُ أن ينهال أخيرًا بالسباب واللعنات حتى يفعل ما يمكن أن يتوقعه المرء منه، لكن هدوءه كان يزداد مع كل كلمة، وهو ما اتضح عندما واصل كلامه:

Zašto nisi u Srbiji

كانت هذه هي اللحظة التي تَدخَّل فيها المترجِم أخيرًا، في البداية بحذر، وكأنه يتوقَّع أن يقاطعه أحد، ثم بالنبرة المهنية المعتادة:

«لقد سأله ماذا يفعل هنا. كما أنه يريد أن يعرف سبب عدم وجوده في صربيا، طالما أنها لا تبعد أكثر من بضعة كيلومترات.»

لم يكد يفرغ من جملته حتى خَفَت صوت الرجل وأمسى واهنًا مرة أخرى، هامسًا، وكأنه يستغيث استغاثة مخنوقة.

Srbije nema

اعتقد الرجل الآن — كما هو واضح — أنه توصَّل بذلك إلى حل، ووفقًا للضحكات يبدو أن الإجابة أعجبَتْ سلافكو أيضًا، بينما راح المترجِم ينقل الكلام في مزيج من الموافَقة والذهول.

«صربيا لم تَعُد موجودة.»

كان يمكن أن تكون هذه هي النهاية، ولكنها لم تكن بالطبع، رغم أن باول أوقف الشريط مرة أخرى. وكلما فكَّرتُ في الطريقة التي فعل بها ذلك، ينتابني شعور مؤكَّد بأنه كان يعرف عندئذٍ مدى وحشية ما يسمع. وربما كان هذا هو السبب الذي حمله على كتابة الكلمات الكرواتية كلمة كلمة، وقد ساعدَتْه هيلينا في التصحيح، وها هي أمامي، نسخة منها، مع كل الملاحَظات التفصيلية مكتوبة بخط يده على هامش الصفحات القليلة. ورغم أنني ما زلتُ أتذكر الموقف جيدًا، فإنني سعيد بما قدَّمه لي من عون؛ لأن الدِّقَّة كانت مهمة فيما أعقب ذلك، وأحيانًا أقول لنفسي: من المستحيل أن أكون قد سمعتُ ذلك فعلًا، ولذلك أتناول الأوراق لأتأكد وأقرأ، وفي كل مرة تصيبني الدهشة من الحتمية التي بدَا بها لاحقًا مسار الحديث.

ما زلتُ أتذكر أنه لم يمضِ وقت طويل حتى شغَّل باول الشريط من جديد، دقيقتين ربما ثلاثًا، وخلالها حاول ألماير من دون جدوى أن يتحدَّث مع سلافكو، إلى أن جاء السؤال الذي لم يكن بعده رجعة:

– «ما شعور الإنسان عندما يقتل شخصًا؟»

إجابة السؤال لم تُجِب على شيء.

– «لماذا تعتقد أن بإمكاني أن أجيبك على هذا السؤال؟»

– «لا أعرف»، أجاب مراوغًا، لأنه لاحظ أن سؤاله كان جريئًا أكثر من اللازم. «ربما ظننت أن الموقف يتيح الإجابة ببساطة على السؤال.»

أعقب ذلك مرة أخرى ضحكة غير حقيقية، هي بالأحرى تهتهة مُصطنَعة تبين عبثية الموقف كله.

– «أنت تعتبرني قاتلًا؟»

– أجاب ﺑ «لا».

– «هل أنت متأكد؟»

لم يَرُد أحد، ثم سمعنا أصواتًا لم أستطع أن أميزها، وبعد ذلك تحدث سلافكو — متوجهًا إلى شخص آخر — بالكرواتية مرة أخرى. بدَت الجُمل وكأنها تطايرت مع الرياح، رُحتُ أُنصتُ لَعلِّي أتبين ولو أجزاء مما قيل، ولكن من دون جدوى. هل كرَّر ما قال، وفق عادته المحببة، أم نطق ربما بشذرات ألمانية؟ تَطلَّعتُ إلى هيلينا، غير أنها هزت كتفيها فحسب، على ما يبدو لم تفهم شيئًا، إلى أن التفَتَ وتوجَّه إلى ألماير بسؤال مباشر:

– «هل أمسكتَ يومًا ببندقية في يدك؟»

الصمت الذي أعقب السؤال كان ثقيل الوطأة، لا أعرف المدة التي انقضت، ولكن مع كل إعادة لاحقة لهذا المقطع من الشريط كنتُ أشعر بأن الوقت يمضي أبطأ من ذي قبل، إلى أن واصل كلامه: «إذا أردتَ، يمكنك أن تأخذ بندقيتي»، قال ذلك وكأنه يُسدي إليه معروفًا. «عليك فقط أن تعيدها إليَّ، فربما أحتاج إليها.»

شفَّ صوته عن تلك الوداعة مرة أخرى.

«دعك من هذه الحركات»، أضاف بنبرة أكثر لينًا، نبرة تقترب من الرِّقَّة، مُغوية كما امرأة، وفي اللحظة نفسها تدخَّل المترجِم من جديد.

«أرجوك، افعل ما يطلبه منك»، قال وقد تعثَّرت الكلمات في فمه من الانفعال. «لا بُدَّ أنك ترى أنه جادٌّ فيما يقول.»

بدَا الشريط وكأنه لا يلف إلا بصعوبة بَالِغة، وأتخيل كيف وقف ألماير هناك، كيف ظل ساكنًا، كنت أعرف، لم تكن هناك احتمالية أخرى، لا يستطيع أن يرفض، وبلا شك تناولها منه. ورغم تعدد الطرق، فإنني كنت متأكدًا من أنه أمسك بها بطريقة صحيحة، وإلا كان أحد قد صحح له مسكته، ورأيتُه أمام عيني، مُهانًا ومأخوذًا على حين غرة، نظره مصوَّب إلى اللاشيء، وكأن كل ذلك لا يَعنيه على الإطلاق.

ومرت ثوانٍ بلا صوت إلى أن أصدر سلافكو أمرًا تَوجَّه به مرة أخرى إلى الأسير، شَرْح هيلينا جاء شِبْه متزامن معه: «يريد أن يَعْبُر إلى الناحية الأخرى.»

لم أفهم على الفور ما يعنيه ذلك، ولكن عندما أضافَتْ أنه يطالبه بأن يمشي إلى الحدود الصربية، تراءى لي المشهد، الرَّجُل — من دون تغطية — يمشي وسط الحقل الخالي متلمسًا طريقه بين نقاط الحراسة المتعادية، وفق ما وصف ألماير الحقل في المقابلة، ثم سمعتُ صوتها كأنه تعليق تلفزيوني يمكن الاستغناء عنه: «يقول إن عليه أن يضع قدمًا أمام الأخرى، اليدان فوق الرأس، وألَّا يفكر إطلاقًا في أن يجري»، هكذا شَرحَت بِالْتِواء القواعد. «وهو لا يدع مجالًا للشك فيما سيحدث، لو لم يطع.»

رأيتُها وهي تمنع باول من أن يُعيد توقيف الشريط بينما كانت هي تترجم فوريًّا تعليمات سلافكو القصيرة، وكأنها هي نفسها تمر بموقف توجيه الأوامر كما يحلو لها للأسير، وكأنها هي التي أرسلَتْه إلى العدم، واحتجتُ لمدة إلى أن أدركتُ أن هذا هو رَدُّ فِعْلِها على ما سمعَتْه من عهر وقذارة، أن تجلس هناك وتصغي من دون أن تستطيع التدخل. كانت أثناء ذلك مُقنِعة لدرجة أنني توهَّمتُ أن كل شيء يحدث الآن، في هذه اللحظة، وكلما حاولتُ لاحقًا إقناع ذاتي أنني فوجئتُ بما حدَث له، فإن هذا غير صحيح، أو ليس تمامًا؛ إذ إنني في الحقيقة أميل أكثر فأكثر إلى الاعتقاد أنه كان ينبغي عليَّ توقُّع ذلك خفيةً، والتنبؤ بمصيره.

على الأقل فإن الجملة التالية كان لها منطقها المرعب، ولم يكن المرء بحاجة إلى خيال واسع لتوقعها.

«الآن يمكنك أن تجرِّب ذلك.»

كان هذا سلافكو مرة أخرى. وكان باستطاعة باول فيما بعد أن يُرجع الشريط إلى الوراء كما يحب ليسمع هذه الجملة مرات ومرات، من دون أن يغير ذلك من الأمر شيئًا، لقد قال سلافكو ما قاله.

«الأمر غاية في البساطة، إلا إذا كنت تريد أن تمثل فيلمًا سخيفًا»، واصل كلامه. «لستَ بحاجة سوى إلى الالتزام بما شرحته لك.»

وفجأة اقترب الصوت جدًّا.

«ماذا تنتظر؟»

كان ملفتًا أن ألماير ما زال صامتًا، بينما حاول المترجِم إقناع سلافكو راجيًا إياه بأن يتخلى عن مزاحه. الغريب أنه تحدَّث معه بالألمانية، ورغم أنه كان يُثير انطباعًا بالخوف، فقد بدَا فجأة واثقًا من نفسه، إما ثقة حقيقية أو كاذبة، بل لقد سمح لنفسه بنبرة تشي بالتهكم، عندما ناداه ﺑ «كابتن»، ولم يتوقف عن الإلحاح عليه إلى أن زعق فيه قائلًا: إنْ لم يخرس، فعليه أن يمشي وراء الأسير إلى الناحية الأخرى حيث سيصغون إلى أقواله الغبية بكل صبر.

ما زلتُ أتذكَّر أنني في البداية لم أحسب أن الفرقعة ناجمة عن طلقة، وأنني حملقت في باول الذي أوقف الشريط برد فعل انعكاسي، ثم شغَّله على الفور ثانيةً. ولكن كان يكفيني أن أرى ملامح وجهه حتى تهرب مني كل الشكوك، ورغم ذلك فيبدو أنني حاولتُ أن أُرجئ التيقُّن من ذلك، حاولتُ الهربَ حتى لا أفكر، ألَّا أقيم علاقة بين الفرقعة ومسببها، وبدلًا من ذلك رحتُ أتفرَّج على رد فعله. كانت على العموم لحظات فحسب، راقبت خلالها كيف تَحجَّرَت ملامح وجهه، ورغم أنني أخلط تَتابُع ذكرياتي دومًا ولا أعرف هل سمعتُ أولًا صرخة ألماير أم أن هيلينا هي التي صرخت، فإنني متأكد من شعوري بالارتياح عندئذٍ؟

بعدها تحدث سلافكو مرة أخرى:

Koja budala je pucala

كانت هذه الجملة آخر ما سمعته، السؤال: مَن الغبي الذي أطلق النار؟ ولا أعرف لماذا أعقب السؤال هذا الوشيش الذي اخترق الغرفة اختراقًا، هل توقَّف التسجيل، أم أن ثمة سببًا آخر؟ إنني لا أستطيع حتى أن أقول مِن أين جاء يقيني بأن الرصاصة أُطلقت على الأسير؟ ولا لماذا لم تُساوِرني أي شكوك في أنها أصابته أيضًا؟ لذلك حتمًا علاقة بفزع ألماير وبأن سلافكو كذلك فَقَدَ هدوءه. استغرق الأمر عدة دقائق حتى انتهى الشريط، دقائق كنتُ آمُل فيها أن أسمع تفسيرًا، أو أن أسمع ما يُبدِّد مخاوفي رغم يقيني. انقَضَتْ دقائق ببطء، وما زلتُ أتذكر كيف زاد باول الطين بلة وشرع يُرجع الشريط، ليستمع إلى مقطع هنا أو هناك، ليتوقف دائمًا في النهاية عند الفرقعة التي كانت تبدو في كل مرة أضعف من سابقتها.

لم أَرَه أبدًا هكذا، متراخيًا في جلسته، مستغرقًا تمامًا فيما يقوم به من حركات آلية لتشغيل الجهاز ثم توقيفه، إلى أن وَضعَت هيلينا يدًا على كتفه وكأنها تطالبه بأن يهدأ ويكف عمَّا يفعله. بدَا عليه التَّعَب عندما تَطلَّع إليها، ونظرَتُه التي تَصيَّدتُها كانت توحي باليأس، وكأنَّ أحدًا تخلَّى عن أوهامه بعد أن لاحَظ أن المحاولات التي يبذلها لإعادة شخص إلى الحياة قد أخفقَتْ، وأنه ظَلَّ طوال تلك الفترة يبذل جهدًا بلا طائل مع شخص ميت. كان هذا أيضًا ما لمَحتُه على وجهها، وعندما أشعل لنفسه سيجارة في النهاية، ثم وضعها على الفور مثلما كان يفعل في الأيام الخوالي من دون أن يسحب منها إلا بضعة أنفاس، لم تَتردَّد هي في أن تتناولها وتدخنها إلى النهاية، بينما توجهتُ إليه بالحديث، لا لشيء إلا لأكسر الصمت.

«وبهذا تحصَّل أخيرًا على الحبكة.»

اندفاعي إلى قول ذلك كان طفوليًّا. كنتُ في هذه المرة البادئ بالحديث عن روايته، وهو ما كان يفعله في المعتاد، وربما لذلك تصنَّع عدم فهمي. لم يعد ممكنًا أن أسحب ما قلته، لذا كررت كلامي من دون أن أسأل نفسي كيف فهمه.

«طوال الوقت وأنت تبحث عنها. إذا أردت، يمكنك أن تضيف إليها كل ما تريد. لستَ بحاجة إلى أن تخترع شيئًا آخر.»

ظَلَّ صامتًا، وأرسل نظراته من النافذة إلى الظلام الدامس تمامًا في الخارج، بينما تنبهتُ أنا فجأة إلى الصرخات التي كانت تتسلل من الخارج على فترات بدت منتظمة. تَتبَّعتُ نظراته، وأرسلتُ بصري إلى البيوت مقابلنا التي يمكن بالكاد رؤيتها، والتي حجبتْ جدرانها أشعة النهار الأخيرة، حوافها غير الواضحة تَبْرُز الآن بلون أبيض يميل إلى الزُّرقة من وسط الرمادي السائد. بدَا وكأنه كان ينتظر حتى تتلاشى الخطوط الخارجية للمنازل قبل أن ينطق بشيء. غامَت أخيرًا حدود برج التلفزيون المُزيَّن بحلقات حمراء كانت تشع ضوءًا في الليل، إلا أنه عندما بدأ يتحدث لم يقل شيئًا مثيرًا، مُجرَّد شكوى عاطفية عديمة الجدوى من أنه في الحقيقة لم يكن يعرف ألماير.

«لو كان باح لي بكل هذا، لما صدَّقته. كنت سأعتبره كذابًا يريد أن يبهرني بحكايات وحواديت مرعبة.»

لا أعرف إذا كان متأكدًا من حُكمه، ولا أيضًا ما ادعاه فيما بعد، أن ألماير لا يمكن أن يكون قد أطلق الرصاصة. هل لم يكن يريد أن يدع الفكرة تتسلل إلى عقله؛ لأن الإمكانية في حد ذاتها أفزعته، وإنْ كانت ضئيلة جدًّا؟ لديه حق، وفق كل ما سمعناه من الشريط لم يكن هناك ما يقطع بمسئوليته، لكننا لا نستطيع أن نستبعد الإمكانية كليةً. رغم محاولاته المستميتة للدفاع عنه، لم يستطع أن يفسر لماذا لم يُشِر ألماير أدنى إشارة لهذا الموقف عندما نَشَر نص مقابلة سلافكو — التي ظهرت بعد أيام من ذلك اللقاء الغامض — هكذا كما حدَث في الشريط، ولم يتحدَّث عن التهديد المستمر له، وكيف عامَلوا الأسير، وأنه أمسك بندقية بيده. بقيت هذه نقطة ضعف، لم تزد بسببها الشبهات حوله، لكنها أثارت لغزًا لم يُحلَّ إلا بعد شهور.

حدث ذلك عقب رحيل باول إلى زغرب ليختلي بنفسه من أَجْل الكتابة، وهو ما يتناسب مع الحكاية التي يرويها، ومع غرابة أطواره، لا يتحدث كلمة كرواتية واحدة، ومع ذلك يظن أن إقامته في كرواتيا لمدة ما «ستفيد روايته»، على حد تعبيره. استأجر غرفة في فندق بالاس في ساحة شتروسماير، عازمًا على أن يمكث هناك حتى يبدأ قيظ الصيف الذي ربما يطرده من المدينة قبل أن يَودَّ مغادرتها. وبذلك كان مرة أخرى في موقف يعتقد أن بدونه لا يستطيع أن يفعل شيئًا، وإذا كان قد اتفق مع هيلينا ألَّا تزوره في الفترة الأولى حتى يجد نفسه مجبرًا على أن يُدبِّر أموره بنفسه، وألا تتصل به تلفونيًّا إلا في أضيق نطاق، وألا تستغرب — في حالة كتابة رسائل له — إذا لم يرد، فإن ذلك كله منبعه الجنون فحسب، تخاريف ترغمه على الاعتقاد بأن عليه أن يشق طريقه مستقلًّا في بيئة غريبة، بل وربما التَّعرُّف إلى أناس جدد.

على الأقل هذا ما استشفَفْتُه من تصويرها للأمور، وما زلتُ أتذكَّر كيف تحدَّثَت عنه وهي تهز رأسها عندما التقيتُها لأول مرة بعد حوالي أسبوعين من سفره. تَكلَّمتْ بنبرة مَن يتحدث عن أحد أقربائه البعيدين، نبرة لطيفة ووَدُودة لكنها مُفعَمة بالتهكم الهادئ، نوع من الازدراء يُبيِّن لي بدون شك أنها لن تقبل أن يُصدِر إليها أوامره. لم تستطع أن تفهم سر هذه الضجة التي يفتعلها حول الكتابة، والطريقة التي قالت بها ذلك وحدها — هذا المزيج من السخرية والجدية - فَضحتْ كل شيء. كانت تتصوره شخصًا يرتدي سروالًا يصل إلى ما تحت الرُّكبة، خرج إلى الشارع مع مصيدة فراشات وظَّل يحركها في الهواء إلى أن ينجح ربما في صيد فراشة، أو إلى أن يَتخلَّى عن جهوده بعد أن يفقد أعصابه.

الاتصال الأول قام به هو، وكان مع شرايفوغل، ذلك الصحفي الذي كان من المفروض أن يرافق ألماير في رحلته آنذاك لإجراء الحديث الصحفي، لكنه بقي في النهاية في زغرب، وفي رأي هيلينا فإن أفضل ما خَطَر على بال باول هو أن يعهد بنفسه إليه.

«كان يعلم أنه باعتباره مراسلًا لعدد من الصحف الألمانية عاد ليعيش في المدينة، ولهذا تواعَد معه بعد وصوله بأيام.» ثم أضافت: «ومهما توقَّع باول من وراء لقائه به، ورغم أنه لم ينجح في تفسير كل شيء، فإنه مع هذا أضاء بعض النقاط الغامضة على ما يبدو.»

حسب زعم باول فإنه أراد أن يلقاه في المكان الذي تقابل فيه هو نفسه مع ألماير بعد عودته من الجبهة، وكان ذلك في فندق إسبلانادا، وعندما سمعتُها تتحدث عن ذلك، تَخيَّلتُ ظهوره هناك: رجل قصير ومع ذلك منكمش على ذاته، لا يتوقف عن مضايقة الجرسونات بأقواله وتلاعباته اللفظية التي عفا عليها الزمن، مثل «سأشرب الشاي في القهوة» أو «الحساب يوم الحساب»، ثم ينفجر عقب ذلك في ضحكة هستيرية. إذا صح ما قالته، فقد وضع على الفور شهادة نزع الملكية التي كان يحملها، «قرار مجلس تحرير الشعب اليوغسلافي المناهض للفاشية»، حسبما راحت تُكرر باستمتاع، وبناء عليه تَئُول كافة أملاك أجداده في سلوفينيا إلى الدولة، شهادة مؤرَّخة في صيف أو خريف ١٩٤٥م، ورقة بالية مصفرة تميل إلى اللون البني، راح يعرضها وكأنها بطاقة هوية تمنحه حقوقًا إضافية، وهو ما جعله شخصًا أكثر إثارة للضحك مما هو في نظري، وبعد كل ما سمعته عنه. قبل عشر سنوات، وأثناء الحرب في كرواتيا، كان شرايفوغل يدخل هذا الفندق ويخرج منه كما يحلو له؛ ووجدتُ نفسي مُجبَرًا على التفكير في صور المشاهير المُعلَّقة في بَهْو الفندق عندما سمعتُها تتحدث عن نوادره وهي لا تكاد تصدق حرفًا منها، حكاياته الوحشية عن الأشخاص الذين كان يقابلهم المرء في ممرات الفندق قبل بدء المعارك مباشرة، تجار السلاح وبارونات الحرب الذين كانوا يجلسون هناك تحيط بهم صحبة مشهورة من صور الممثلات والمغنيات المُعلَّقة على مدخل صالة الاحتفالات.

البناية المربعة ذات اللون المائل للخضرة تشبه من الخارج القلعة، وهيلينا كانت مُقتنِعة بأن باول كان بحاجة إلى هذه الخلفية حتى يُصدِّق ما يحكيه شرايفوغل عن وقائع لقائه بألماير.

ما أثار عجبي هو أنها تحدثت عن ذلك وكأنها كانت حاضرة معهما، وكأنها تراهُما أمام عينيها، الأول ما زال مُتعَبًا من رحلته إلى فينكوفيتشي، بينما الثاني ينتظر في انفعال وترقُّب.

«يقول إنه لاحَظ على الفور أن ألماير كان منكسرًا بمجرَّد دخوله. لو لم يكن قد رآه قبلها بيومين، لمَا تعرَّف عليه إلا بصعوبة.»

لم أجد في ذلك ما يخرج عن المألوف.

«على كل حال كان ألماير قبلها بيومين على الجبهة.»

قلتُ ذلك حتى أقول أي شيء، ولكنني كنتُ مخطِئًا عندما ظننتُ أنني سأعرف أخيرًا ما حدث هناك بالضبط.

«يبدو أنه لم يَحكِ له كثيرًا عن المقابَلة»، قالت ردًّا على سؤالي. «من الواضح أنه حذَّره فحسب من القيام بمثل هذه الرحلات، مؤكدًا المرة تلو الأخرى أنه كان محقًّا تمامًا في عدم سفره معه.»

عندئذٍ شرب كأسين من النبيذ، مُتجرِّعًا كل كأس مرة واحدة، وجلس بيدين متشابكتين، ناظرًا إلى شرايفوغل، ومقدِّمًا اعتذاره لأنه لا يميل إلى الكلام. بعد بُرهة شرع من جديد في الثرثرة ليتوقَّف في منتصف الجملة ويسأله عمَّا إذا كان يتكلم أكثر من اللازم. وانتهى اللقاء بأن دعاه ليسافر معه في الصباح التالي إلى جراتس، وهو يكاد ينفجر بالدموع، وانتزع منه عدة مرات الوعد بألَّا يتركه وحيدًا، ولم يتوقَّف عن رجائه واستعطافه إلى أن أُجبِر على التوقف عن كلامه المُمل؛ إذ إن رجلًا اقترب من مائدتهما، وما زلتُ أتذكر أنني اعتبرتُ في البداية وصف هيلينا له مبالَغًا فيه، إلى أن أضحى في رأسي أنا أيضًا رسم كاريكاتوري لذاته، رجل غليظ الأطراف بشعر دهني — إذا صدقتُ وصفها — أتى ووقف سادًّا الطريق على ألماير. وقف أمامه مسترخيًا وكِلَا إبهاميه في حزام البنطلون وقطعة من السواك في فمه. لم يكن المسدس الذي برز من تحت الجاكيت هو مصدر التهديد المنبعث منه، وإنما تصرُّفه على نحو بديهي، سلوكه الذي كان يشبه أبطال الأفلام، على حد قولها، أراه الآن أمام عيني وهو يتحدث إليه باحتقار من أعلى. لم أكن بحاجة إلى وصفها الدقيق، أنا أيضًا أستطيع أن أتخيله وهو يسأله عن المقابَلة الصحفية، وكيف أظهر له بابتسامته المُستفِزَّة التي وضعها طوال الوقت على شفتيه أنه يعرف كل شيء، كيف وضع يده على كتف ألماير تاركًا إياها بُرهة بكل ثقلها، وبصوت أخنف خافِت ينطق الجملة التي كررتها هيلينا الآن بالحرف الواحد، أنه لا يشك أدنى شك في أنه سيصنع حكاية جميلة مما رآه، ثم وكرر مرة أخرى بلا داعٍ، حكاية جميلة، أليس كذلك، حكاية جميلة.

طوال الوقت لم يُنعِم على شرايفوغل بنظرة واحدة، وقبل أن ينصرف أومأ إليه وكأنه يعرفه من زمان. ثم قالت: «على ما يبدو طلب قبلها أغلى أنواع النبيذ ثم قرع معهما الأنخاب. أثناء ذلك، وحسبما روى باول، قال لهما «سادتي!»، ولكنه انصرف كما ظهر فجأة من دون أن يرشف رشفة.»

كان هذا تحذيرًا بما فيه الكفاية. ولكن في اليوم التالي — أثناء رحلتهما المشترَكة إلى جراتس — جاءه اتصال تليفوني، وسمع مَن يقول بخفة إن حالة صديقك ليست على ما يرام، لقد ثرثر، وعَرف ألماير على الفور أن المقصود هو المترجِم. لم يَحتَجْ أكثر من نصف ساعة حتى تأكَّد من أنه قُتِل، أُطلق عليه الرصاص لدى مغادرته المنزل، وإذا لم يكن قد فَهِمَ الرسالة فيما قبل، فقط عرف الآن على أبعد تقدير ما كانوا ينتظرونه منه. كل شيء آخر كان معروفًا، المقابَلة المنشورة في صورتها المخفَّفة، من دون ذكر القتيل بكلمة واحدة، وبقيت الحكاية بائسة، لم يعد بإمكانه أن يُصحِّحَها، فراغ بين الكلمات، الشعور بالنهاية المفاجئة من دون أن تكون هناك بالفعل نهاية.

لم تتحدث هيلينا عن هذه النقطة بعد ذلك، ولم أعرف التكملة إلا بعد أيام عندما اتصل بي باول قائلًا إن ألماير — حسبما زعموا — قد صَعُبَ عليه للغاية أن يتعامل مع الأمر.

«وجَّه لنفسه الاتهامات بأنه المسئول عمَّا وقع. ربما شعر بأن من الجبن الشديد ألَّا يكتب عن الحادثة، ولكن لم يكن لديه خيار آخَر.»

كنتُ أودُّ أن أُذَكِّره أن ذلك لم يمنع ألماير من أن يخطف زوجة باول إلى شلادمينغ، غير أنه نفسه تحدث عن الموضوع، وتكهن مرة أخرى عن سبب تَقرُّبها إليه وتآلفها معه إلى هذا الحد.

«ربما يكون حكى لها كل شيء»، قال ذلك وكأنه في الحقيقة ليس مقتنعًا بذلك. «لعله فضفض لها بما في قلبه خلال موجة الانفعال الأولى.»

ثم تراجع عن كلامه.

«لو أن الأمر هكذا، لكانت أخبرتني.»

مُجرَّد ذكرها كان يكفي حتى تبدو نبراته ضائعة من جديد، ثم خفض صوته للغاية وهو يقول: لو كان قد عرف ما عايشه الرجل قبلها مباشرة، لتقبَّل بسهولة أن يراهما معًا. مرة أخرى بدَا ذلك تجميلًا لما كان، ولكن من الواضح أنه يعتقد ذلك بالفعل، وكان متأكدًا من أنه عندئذٍ كان سيعرف كيف يواسيه، بدلًا من أن يقف هناك صامتًا، ويثير انطباعًا بأنه لا يريد أي علاقة معه بعد اليوم، وأنه لم يجئ سوى لاصطحاب زوجته. ثم ادَّعَى فجأة أن السماء أثلجت، وأنهم تَمشَّوا ثلاثتهم — وهي في المنتصف — في الثلج الذي غاصت فيه أقدامهم، غير أن ذلك بدَا له في اللحظة التالية أكثر من اللازم، وبدَا له هو أيضًا تنميقًا وقحًا لما جرى؛ لذا قاطع نفسه في منتصف الجملة وضحك، وكأن ما حكاه هو قمة الجنون.

عندئذٍ قال إن ألماير سافر بعد يومين إلى جنازة مترجِمِه، ثم أضاع جهده في أتفه التفاصيل.

«أعتقد أنني ما زلتُ أعرف أين أُقيمت»، قال وكأن هذا مهم. «إذا لم أكن أخلط الأمور ببعضها فإن المكان اسمه برزنيك، ويقع بالقرب من برتشكو على الحدود البوسنية الكرواتية.»

لم يكن بإمكاني أن أقول شيئًا بهذا الشأن؛ لذا رُحت أُنصِت إلى رنين الكلمات القاتم، منتظرًا ما إذا كان سيضيف شيئًا، لكنه صمت. وعلى حين غرة سمعتُ في الخلفية ضوضاء المرور بوضوح تام، فسألتُه إذا كان يقف في كابينة تليفون، لكنه نفى، وقال إن نافِذَته مفتوحة لأن الطقس حار. ثم قاطَع نفسه مرة أخرى، وراح على ما يبدو ينصت، وكأنه يَتحرَّق شوقًا إلى أن أطرح سؤالًا حتى يستطيع أن يواصل الحكي، وعندما استفسرتُ عمَّا سيفعله في المساء، قال: لا شيء، الخروج والتمشية؛ فتَخيَّلْت الشوارع وضوء المساء يخبو، ووجدتُ نفسي أقاوم شعورًا فجائيًّا اجتاحني وولَّد عندي شوقًا إلى أن أرجع مائة عام إلى الوراء، وأن أذهب إلى مدينة تهدأ فيها حركة الناس وتنتشر فيها الوداعة التي ربما لم تكن موجودة أبدًا، ولم تكن تنبع إلا من النوستالجيا المُعشِّشة في رأسي.

كان هذا بالتأكيد هو السبب الذي حملني على سؤاله فور اتصاله بي في المرة التالية عن دور شرايفوغل. كنتُ أود أن أعرف ما إذا كان يصدق أنه لم يكن بالفعل يدري شيئًا عمَّا حدَث آنذاك على الجبهة في سلوفينيا، أم أنه يظن أنه يمتنع عن الكلام فحسب. أجاب بأنه لا يعرفه جيدًا حتى يحكم عليه، ولكن في الوقت نفسه ليس ثمة سبب يدعوه إلى أن يجعل من الأمر سرًّا بعد أن تُوفِّي ألماير، لماذا يمثل إذا كان في الحقيقة يعرف تمامًا ما حدث؟ ولهذا ليس هناك، في رأيه، داعٍ للكلام في هذا الموضوع.

لا بُدَّ أنني في هذه المناسبة سألتُه مرة أخرى ماذا سيفعل بالمقابَلة المسجَّلة على الشريط. كنتُ قد سألتُه بعد سماعنا الشريط معًا عن ذلك، لكنه راوغني ولم يُجبْني، والآن أيضًا لم يَبدُ أنه فهم سبب اهتمامي به. من الواضح أنه لم يكن لديه أدنى فكرة عمَّا يفعله بالشريط، غير أنه قال إنه ربما يُرجعه إلى إيزابيلا في يوم ما، وعندما قلتُ إنه شيء لا يُحتمل أن رجلًا مثل سلافكو يسير حُرًّا طليقًا بينما لدينا الإمكانية لإدخاله السجن، ضحك ولم يَقلْ شيئًا.

«أنا لا أعرف ما الذي تريده مني. إذا سألتني عن رأيي، فسأقول لك إن الشريط لا يثبت أي شيء، أي شيء على الإطلاق.» ثم أضاف بعد بُرهة: «هل عليَّ أن أُرسله إلى النائب العام؟»

رغم أنه لم يكن يراني بالطبع، أومأتُ برأسي، وتخيَّلتُ تخيلًا عبثيًّا أنه رد عليَّ بهزة رأس مستنكِرة، قبل أن يواصل: «لا يمكن أن تكون جادًّا فيما تقول.»

لم أحب نبرته التهكمية.

«سيان إلى مَن»، أجبتُه من دون أن أهتم بما قاله، «هناك حتمًا شخص مسئول عن ذلك.»

وبهذا انتهى الموضوع، فلا هو ولا أنا عُدنا للحديث عن ذلك، وعندما أتذكر الأمر أجدني على اعتقادي بأنه كان عليَّ أن أكون أكثر إصرارًا. لا أعرف لماذا صدَّني، بالتأكيد لأنه كان يَتخوَّف تخوفًا مضمرًا لا عقلانيًّا من احتمالية التورط في شيء له صلة، ولو واهية، بالواقع. إذا كنتُ اعتقدتُ في البداية أنه حريص على المعلومات التي حصل عليها ولا يريد التفريط فيها، بل يفكر في كيفية الاستفادة منها، فإنَّنِي أميل الآن إلى الظن بأن ذلك كان يرجع إلى موقفه فحسب، إلى لوثته الجنونية التي جَعلَتْه يتصور أن من التطاول والتَّكبُّر أن يفكر مُجرَّد تفكير في التدخل والإقدام على فعل شيء جدي.

في الأسابيع التالية داوم على الاتصال بي كل عدة أيام، وبالكثرة نفسها تقريبًا كنتُ أقابل هيلينا. كنتُ أتواعد معها لنلتقي بعد العمل، وعندما أصل المنزل كان من الممكن أن أسمع جرس التليفون، ثم أجده على الخط، أو يتصل بي قبل الظهر، بينما كنت ألتقي بهيلينا في الظهيرة. كانت لقاءاتنا شبيهة بتلك بعد الحادثة التي تعرَّض لها، الفارق الوحيد هو أنها لم تَعُد تَذكُره بكلمة إلا نادرًا، وهو أيضًا تَجنَّب أن يذكرها، وإن كان في بعض الأحيان يُهديني تحياتها، وكنتُ أتعجَّب من أنه لا يعرف أنني سألتقي بها بعد قليل، أو أنني رأيتُها لِتوِّي، ولهذا اقتصرتُ على قول «شكرًا.»

رغم أنني غير متأكد على الإطلاق، فإنني أعتقد أن زوجته ربما تكون سافرَت لزيارته في تلك الأثناء. ينبع ذلك من شعور مبهم لدي، فعندما سألتُه: «كيف حال الكتابة؟» ردَّ بالسؤال إذا كنتُ أريد أنا أيضًا أن أجعله يصرف نظره عن ذلك، وأن أنصحه ألَّا يظل مختبئًا طيلة حياته في حفرة ما لأنه يخشى مواجَهة العالَم. جعلني ذلك أظن أنها حاولَتْ قبل قليل أن تنتشله مرة أخرى من مأزقه التعس، لكنه صمد هذه المرة ولم يذهب معها. لن يكون ذلك شيئًا غريبًا، ولكن الخشونة والفظاظة التي يَتَّسم بهما أحيانًا لفَتَا انتباهي، وعندما أفكر لاحقًا في النتيجة التي ربما توصَّلتُ إليها، أشعر بالندم لأنني لم أستجب لرَد فِعْلي الغريزي، ولم أسأله عنها.

بعد عيد القيامة نشرَ في الصحيفة أول ريبورتاج كبير عن إقامته هناك؛ تقرير كئيب عن بلد ما زالت عواقب الحرب فيه حيَّة بعد سنوات على انتهائها. كان واضحًا أنه سمع عن إقامة جنازة في أجواء تبدو شبحية، في قرية صغيرة من أرياف سبليت، فسافَر إلى هناك ليرسم صورة تقشعر لها الأبدان. نُظِّمَت الجنازة لدفن رفات ما يزيد عن المئة من الجنود الكروات الذين اغتالهم — حسبما زعموا — الفدائيون خلال الحرب العالمية الثانية. اسْتَخْرَجوا الرفات قبل تسع سنوات، والآن — وبعد أن تعرَّفوا على هُوِيَّة بعضهم — يريدون إعادة دفنهم. الضجة الكبيرة التي أثاروها، ومجيء أسقف خِصِّيصَى ليتلو صلاة الموتى في حضور ما لا يقل عن ثلاثين قسِّيسًا، كل ذلك ولَّد في قلبه انقباضًا لم يفارقه. حسب تقريره حضر مئات من الأقارب والمُعَزِّين، طابور طويل لا ينتهي من السيارات التي كانت تظهر فجأة لدى اقترابه من القرية، عدد كبير منها يحمل لوحات ألمانية، زحام في المقابر حول باص أبيض بداخله الصناديق المعدنية المرقَّمة، والمُحْكَمة الإغلاق باللحام، التي تحوي الرفات. لم يستطع أن يحوِّل بصره عن العجائز المُتَّشِحات بالسواد اللائي كُنَّ يَقترِبْن من نافذة صغيرة، لتقف الواحدة بعد الأخرى لحظات ملقيةً نظرة إلى الداخل، ثم تبتعد صامتةً أو تُسحَب بعيدًا وهي تَذرِف الدمع. كانوا قد أَخْلَوا الطريق إلى الكنيسة، وعلى جانبيه وقف رجال قصار ممتلئون يحملون شموعًا، يضغطون على ضروسهم لكظم تأثُّرهم، وعلى المدخل وقف اثنان يحملان الرايات، وسقط شيخ مغشيًّا عليه من دون أن يُصدر صوتًا في اللحظة التي بدأ فيها القُدَّاس الذي أُذيع في الخارج عَبْر مكبرات الصوت. وربما أثار رجل أربعيني اهتمام باول على نحو خاص. لم يكن السبب هو حرف اﻟ U على توكة حزامه، بل الطريقة التي وقف بها ناظرًا إلى الجموع، رجل ضخم الجثة، مزيج من الحارس والشمَّاس، تَرَكَ بصره ينساب عَبْر الهضاب وصولًا إلى الجبال، وهو ما أثار قلق باول بشكل واضح. هوس باول بإثبات كل التفاصيل بشأن هذا الرجل توحي بأنه مارس عليه ما يشبه التنويم المغناطيسي الكامل. كتب أن صوت هذا الرجل تحديدًا كان هو الأعلى في الصلاة والتراتيل، وأنه كان أحد القلائل الذين يركعون في المواضع المُحدَّدة، يخلع البيريه ثم بخشوع يقرع صدره، وعندما ينهض يظل عدة لحظات عاري الرأس، ويظهر شعره المقصوص بعناية وفقًا لموضة الخمسينيات، قَفاه محلوق بصرامة، وخصلة شعر تقف في الأمام مثل ولد شقي. حاوَل غير مرة وصف وجهه، لكنه لم يَتعدَّ عبارة: أن ما يميزه هو مزيج عجيب من اللين والصلابة، في عينيه غُربة عن هذا العالَم، وهما تَجْمَعان بين بلادة المُتعصِّب وحماسته النارية في آنٍ واحد، بشرة الوجه الشاحبة محلوقة بعناية فائقة، والفم الصارم مزموم، يُوحِي لونه بأنه يخلو من الدماء.

وصفه له أمام المقابر الضخمة أثار في خيالي أجواء عتيقة، وكأنني أرى أمامي مشهدًا من العهد القديم. حسب زعمه بدَت السُّحب المارَّة في السماء أكبر من البيوت التي كان يمكن رؤيتها من الجَبَّانة، وعندما حكيتُ له فيما بعدُ على التليفون عن الانطباع المتضارب الذي يثيره وصفه للرجل، تردَّد في البداية طويلًا وظل بحذر يَتحسَّس إجابة، إلى أن قال: «لقد أعاد إلى ذاكرتي شيئًا من طفولتي.»

لُذتُ بالصمت، وعندما سألني عمَّا إذا كنت لا أزال على الخط وأجبتُ بنعم، تَمهَّل لحظات قبل أن يواصل كلامه، وبدا أنه ينصت بعد كلمة يقولها ليتأكد من أنني ما زلتُ بالفعل أسمعه ولم أترك السماعة وأنصرف.

«كان الرجال في قريتي يمشون مثله بعد زيارة الكنيسة إلى المقهى للعب الورق قبل ظُهر يوم الأحد. كان لهم نفس الكاريزما. كنتُ أخشاهم دائمًا، ولكنني في هذه الخشية بالذات كنتُ أبحث عن الشعور بالأمان.»

وسرعان ما شعر بأنها مبالغة.

«على الأقل لم يكن لديَّ خيار آخر.»

لم أستطع أن أتخيَّل سوى شيء غائم وضبابي للغاية، وعندما سألتُه عمَّا إذا كان بهذه المقارَنة مع رجل المدافن يَظلِم أهل قريته، لم يُجب على السؤال إجابة حقيقية. قال إن ثمة رائحة مُعيَّنة، لا تختلف عمَّا ذكرَتْه هيلينا ذات مرة. لم أستطع أن أستخرج منه أكثر من ذلك، محاولات مُتكرِّرة لشرح ما كان يُميِّز مظهر هؤلاء الرجال، حتى قبل أن يفتحوا أفواههم بكلمة، محاولات كانت تنتهي بالعِبارة البائسة، أنني لن أفهم ذلك طالما أنني لم أمُرَّ بمثل هذه المواقف. الشيء الوحيد الحاسم الذي انتزعتُه منه — وإن كان نمطيًّا شائعًا — أنهم رجال يُعامِلون حيواناتهم أفضل من نسائهم وأطفالهم، ومع ذلك، وإذا تطلَّب الأمر، فإن الواحد منهم يأمر كلبه بأن يمشي خمسين خطوةً ثم يقف، وبسلاح الصيد يطلق عليه الرصاص بدم بارد.

ثم حكى لي أنه سافر إلى الهرسك، إلى شيروكي برييك، كي يزور هناك دير الفرنسيسكان حيث تم تجنيد العديد من قادة الأوستاشا خلال الحرب العالمية الثانية، وبدَا صوته مهزوزًا وهو يقول إن الدير ذكَّره بالمدرسة الداخلية والسنوات التي قضاها في «الكونفيكت» الكاثوليكي للصبيان. وصل إلى المكان في الظهيرة. كان اليوم الدراسي قد انتهى لتوه، ثم هجم سِرْبٌ من البنات على الكنيسة، في الرابعة عشرة أو الخامسة عشرة من العمر، ورُحْن يَتصرَّفْن على نحو طفولي للغاية مقارَنة بأعمارهن. شاهَد باول البنات وهُنَّ يركعن على كراسي الصلاة بجفون منسدلة وأيد منبسطة. كل شيء أثار لديه الألفة على نحو مريع، على حد قوله؛ الضوء الواهن، رغم أشعة الشمس النافذة عَبْر الشبابيك الجانبية، رائحة الهواء الرطب المكتوم التي تُذكِّر برائحة الأقبية، وَقْع الخطوات من دون أن يرى المرء أحدًا، حفيف الأوراق، الظلال التي تمر سريعًا على الحائط. بأنفاس مكتومة ظلَّ واقفًا هناك. شعر بالغموض نفسه والسكون ذاته الذي كان يشعر بهما آنذاك، هكذا تراءى له، أحسَّ بالدُّوار نفسه الذي كان يصيبه من رائحة البخور عندما رأى راهبة تعزف على البيانو عند الهيكل، ورغم أنه حاول جاهدًا أن يستحضر الأجواء هناك، فإنه قاطَع نفسه في النهاية قائلًا: «هذه للأسف نصف الحكاية فقط.»

ثم سألني ما إذا كنتُ أريد أن أسمع بقيتها، وعندما لزمتُ الصمت راح يتحدَّث عن الجنرال الذي كان باول يلحُّ طيلة الوقت في الصيف الماضي على إحدى جارات والِدَي هيلينا كي تحكي المزيد عنه، ثم ذكر أن أمرًا باعتقاله صَدَرَ منذ شهور قليلة، وأن الشائعات المنتشرة تقول إن الرهبان خبَّئُوه في الدير. ثم أضاف: «بالنظر إلى تاريخهم المُظلِم لن يثير التعجب أن يكون قد وجد عندهم هم بالذات الملجأ الآمن، فهو لم يكن بالنسبة لهم بالتأكيد شخصًا يثير الريبة، خاصَّة إذا أخَذْنا في الحسبان أنهم كانوا في الماضي يعشقون الظهور بالصليب في يد وبالمسدس في اليد الأخرى.»

وهنا ناسَبه على خير وجه أن ميدشوجوريه — المكان الذي ظهرت فيه العذراء مريم، ومنذ ذلك الحين يتوافُد عليه أفواج من الحُجَّاج — يقع قريبًا من الدير، غير أنني لم أَعُد أُعِيره إلا نصف أُذن عندما ذكَر أنه في اليوم نفسه ذهب إلى هناك أيضًا. لم يكن ثَمَّة جديد بالنسبة لي فيما أسهب فيه عن أكشاك التذكارات الدينية الرخيصة، وكيف سخر من الناس الذين يَحجُّون من كل ربوع الأرض إلى هناك؛ بدَا لي ذلك أمرًا لا طائل منه، أو أنه استمع لحظات إلى قس ألماني راح يُخرف ويُثَرثر كلامًا أجوف قائلًا إن في هذا المكان بالضبط كانت الحدود الرومانية تمتد بين الراين والدانوب، ومنذ قرون فإن حدود العالَم الذي يرضى الرب عنه تنتهي هنا. وافقتُه على كل ما قاله من دون تَحفُّظات، وربما ضايقني هذا، ضايقتني نبرة اليقين الذاتي التي هاجَم بها ذلك السحر الخائب، ضايقني أن ما يفعله ويقوله مجاني، بلا مخاطَرة، هذا الأمان النهائي، أنه مُحقٌّ ولا يمكن سوى أن يكون محقًّا، وهو ما كان يُنفِّره في المعتاد من الآخَرِين دائمًا، وهو أيضًا السبب في تردُّده، سبب إصراره على الشك حتى النهاية، اعتراضه المبدئي على الأشياء التي تبدو واضحة بشكل حاسم ونهائي.

ورغم أنني أتذكر بالضبط أشياء كثيرة، فإنني لم أَعُد أعرف ما إذا كان شَرَعَ عندئذٍ يَتحدَّث من جديد عن عزمه السفر إلى كوسوفو حتى يرى أخيرًا المكان الذي قُتل فيه ألماير؛ لأنه سيعرف المزيد إذا تعرَّف إلى الطبيعة هناك، أم أنه تحدَّث عن ذلك بعد الريبورتاج الثاني والذي وصف فيه رحلة إلى المكان الذي مَثَّلوا فيه إحدى روايات كارل ماي، وتحديدًا مشهد موت البطل فينيتو Winnetou. وما زلتُ مندهشًا من قدرته على خلط المستويات المختلفة، وربط الحادثة الحقيقية في الحرب بالموت في الفيلم، وكأن ثَمَّة علاقة حقيقية، وليس مُجرَّد تخاريف أفرزها عقله. وفق عادته راح ينفعل ويبالغ، وأنا لا أستطيع قراءة رحلته إلى مكان تصوير الفيلم سوى أنها رحلة على طريق الآلام، الطريق من أوبروفاتس صعودًا إلى المضيق الجبلي مالي آلان، ما يزيد عن ألف متر فوق سطح البحر، الدَّرْب الوعر المليء بالحصى والزلط، المُنحنَيات الكثيرة تحت الكُتل الصخرية البارزة والمائلة، منظر الخليج من بعيد في الأسفل، وديان زرمانيا العميقة، ثم الأرض المنبسطة وبها الشريط الفيروزي الذي يبدو غير حقيقي، ثم البحر الرَّحب والجزر.

كنت أتخيل انفعاله جيدًا عندما عرف أن هناك بالضبط، على المرتفَعات، كان مسار إحدى الجبهات أيام الحرب. ورغم أن هذه الحقيقة لم تكن ذات أهمية كبيرة، إلا أنه أولاها اهتمامًا خاصًّا، وكان فخورًا بأن الجبهة كانت عند المضيق الجبلي، تمامًا كما في حالة ألماير، وأن المكان ما زال موجودًا خلف أسلاك حقل الألغام ولذا لا يمكن الوصول إليه، وهو عبارة عن منخفَض لا يبعد كثيرًا عن قمة الجبل. ثمة دبابة صدئة ظلَّت هامدة على الطريق، برجُها قد انزاح قليلًا عن مكانه، ينقصها بعض الأجزاء في الجنزير وكذلك العجلات، ربما يكون العابرون قد انتزعوها وأخذوها معهم تذكارًا، وهو ما أكمل الصورة الموحِشة، وعلى حافة الطريق شواهد القبور الحجرية للجنود الصرعى، عليها تاريخ عام ١٩٩٣م أو ١٩٩٥م، ثم على غير توقُّع أطلال منزل خلف أحد المُنحنَيات، وأكياس الرمل على ارتفاع كبير، مرصوصة فوق بعضها البعض، وكأن نقطة الحراسة لم تُهجر إلا قبل فترة قصيرة، وكأنها ليست موجودة في عبثيتها وخوائها هكذا منذ أمد طويل.

بالتأكيد كانت رحلته غريبة وعبثية. أخَذ يَتخبَّط في أرجاء المكان مع مُرافِقه، رجل عجوز بلا أسنان هو الذي أدخل فكرة السَّفر إلى رأسه عندما ادَّعى أنه عمل آنذاك في الفيلم «كومبارسًا»، وعندما أتخيل الاثنين، باول برغبته الضبابية في أن يجد شيئًا لا يعرف هو نفسه كنهه، والرجل الذي كان يومًا هنديًّا أحمر، وهو يقف في الريح بأعين مُغرَورِقة بالدموع، فإن البؤس يجتاحني. اصطاده الرجل حسب زعمه في أحد البارات، والطريقة التي تحدَّث بها فيما بعد عنه — أنه قبل أن ينطق بكلمة راح يُريه صورًا له ولأبطال الفيلم، صورًا قديمة، ضاعت ملامحها ولذا لم تُتِح له أن يتعرف عليه، وكيف وضع الصور أمامه منتظرًا، كل ذلك جعلني أفكر أنه في النهاية لم يَبقَ من الموتى الحقيقيين أكثر من موتى الفيلم. وإذا لم أكن مخطئًا فقد كان هذا بالضبط ما قصده عندما تكلَّم عن شعوره بالوحدة القاسية معه، كيف شعر أنه ضائع في مكان ما بين السماء والأرض، وطبعًا كان لا بُدَّ أن يقول إنه لم يَتذكَّر كل ذلك فحسب، بل شعر فجأة شعورًا مؤلِمًا بمدى البؤس الذي أحس به طفلًا لدى موت فينيتو.

كنت أعرف ذلك، بل ولعلي كنتُ أنتظر هذا التحول عنده. لم يكن هو أول من يحكي لي أنه بكى في أحد مشاهد فيلم ما، ولكنني كنتُ أنجح دومًا في أن أَتجنَّب مثل هذه الأحاديث؛ لأنني لا أعرف لها جدوى. ولذلك زاد تَعجُّبي عندما سمعتُ نفسي أُوافقه على ما يقول، ليس هذا فحسب، بل من دون أن أَنتَبِه كنتُ قد شططتُ قائلًا إن ترنيمة «آفه ماريا» كانت تجعل الدموع على الفور تنهمر من عيني.

«أنت قرأتَ الكتاب إذن»، قال وكأن الفارق مهم جدًّا. «لقد قرأتُ المشهد بالتأكيد في الكتاب لأن الترنيمة لا تَرِدُ في الفيلم.»

كان قد سافر قبلها مباشرة من زغرب إلى جراتس لقضاء عدة أيام، وتَفرَّج على المشهد مرة أخرى عند بعض الأصدقاء، وكان استمتاعه واضحًا برواية التفاصيل على التليفون، ورغم أنه حاول جاهدًا أن يُظهر سخريته المرة تلو الأخرى، فقد كنتُ أعرف أنه يفكر في ألماير، وشيء ما في صوته لم يطاوعه عندما سألني عمَّا إذا كنتُ أريد أن أسمع الكلمات الأخيرة التي نطق بها المحتضر.

«فينيتو يسمع من بعيد الأجراس تناديه»، هكذا بدأ من دون أن ينتظر ردًّا مني، وربما بصوت أكثر جدية مما كان يريد. «أليس كذلك يا أخي؟»

وضحك، لكن رنين الضحكة كان متكلفًا للغاية.

«أخي، على روح فينيتو أن تصعد.»

وفجأة تَذكَّرتُ أنا أيضًا المشهد، وأكملتُ الجملة التالية كأنني مُعلِّق في إحدى تمثيليات الراديو: «فينيتو مستعد.»

ضحك، وأضاف في صوت شبه هامس: «وداعًا.»

لم أستطع سماع شيء آخَر، إلى أن ضحك ثانيةً، وما زلتُ أتذكَّر الموضوعات الأخرى التي تحدَّثْنا عنها في هذه المناسبة. وكأن الموقف لم يكن جنونيًّا وعبثيًّا بما فيه الكفاية، فإذا به يُقحم هيلينا في اللعبة بعد عدة أيام، متحدثًا للمرة العشرين عن ألماير ومكان الحادث في كوسوفو. كانت الطريقة التي فعل بها ذلك تكفيني لكي أنظر إليه، بصورة نهائية، باعتباره مخبولًا. كان لديه دوما أكثر الأفكار تطرفًا ومغالاةً إذا تعلق الأمر بروايته، وكان دومًا يسألني عن رأيي، ولكن ما فعله بي الآن فاقَ كل ما سبق، وما زلتُ أتعجَّب من أنني سايرته من الأساس، وأنني احتجتُ إلى كل هذا الوقت حتى أطلب منه أن يتوقف عن إشراكي في تخاريفه وأن يتركني في سلام. لعله لم يكن يعرف إطلاقًا أنه تجاوز هذه المرة كافة الحدود، كان ينبغي عليَّ أن أشرح له ذلك، ولعله كان سيسأل في براءة تامَّة لماذا أتصرَّف هكذا، وعمَّا حدث لي، وهل وقعتُ في حبها، أو أن عليَّ أن أذكر له سببًا واحدًا لحساسيتي المفرِطة وانفعالي الفجائي هكذا.

كنتُ معها طيلة العصر، ودعوتُها أيضًا أن تأتي معي إلى البيت، وفي اللحظة التي فتحتُ فيها الباب رن التليفون، وشرع على الفور في الحديث حتى قبل أن يذكر اسمه. كنتُ قد تمشَّيتُ معها على نهر الإلبة، ثم جَلسْنا في مقهى في شارع الميناء كنتُ قد جلستُ فيه معه ذات مرة. بدَا أنها تتصرف بخفة أكثر من المعتاد، وكأن ماضيها بكل ثقله قد انزاح عنها، كانت تكثر من الضحك، وأمسكَت عدة مرات بذراعي، وعندما حاولتُ مرارًا أن أدير رأسها، قالت بصوت حلْقي إنني لن أتغير أبدًا. لذا فإن آخر ما كنتُ أتصوره أن أتحدث معه الآن. سمعتُها تقول لي إن عليَّ أن أتوقَّف عن حماقاتي، وتناهَت إلى أذني كركرتُها عندما واصلت معابثتها، ولم أكن أريد على الإطلاق الاستماع إلى هذيانه. ولكن كلمة جرَّت الأخرى، ولم أستطع التخلص منه.

كلَّا، لم تكن هي المرة الأولى التي يتحدث فيها عن دورها في الرواية، وربما يرجع السبب في نفوري الحادِّ هذه المرة إلى حضورها، أو لعله يرجع إلى صفاقة خياله، أو إلى أنه لم يَعُد يبذل أي جهد في التفرقة بينها وبين الشخصية في الرواية التي من الواضح أنه رسمها على نمط هيلينا.

«يمكنني أن أصحبها معي في الرحلة إلى مكان الحادث»، قال مباشرة، بعد أن ظَلَّ لحظات مترددًا يلف ويدور. «أرى أنه سيكون من الشَّيِّق أن يحدث لها هناك مكروه.»

هذه الجملة وحدها كان عليها أن تحذرني، غير أنني لم أكن حاضر البديهة بما يكفي حتى أوقفه. حاولتُ أن أتهرَّب منه، بينما سألتني هيلينا همسًا إذا كان هو على الخط، وعندما أومأتُ واصل قائلًا: «من الممكن أن نتورط في كمين.»

كان هذا من العبث بحيث إنني لم أَقُل شيئًا، بل حوَّلتْ بصري عنها، وراح هو يرسم تفاصيل ما يمكن أن يحدث، بصوت يخلو من الانفعال، صوت رتيب مبحوح.

«المشهد مثير إلى حد كبير عندما أتخيل أن تقع في يد زعيم إحدى العصابات»، واصل كلامه من دون أن يبدو عليه أي درجة من القلق. «ليس ضروريًّا أن يحدث لها شيء فظيع، ولكنني سأجد بالتأكيد شيئًا يناسبها.»

لم أعرفه هكذا أبدًا في كل المواقف التي عشناها معًا، وعندما رَجوتُه أن يكبح خياله الجامح، تجاهَل ما قلتُ، وواصل ببساطة كلامه وكأنني لم أقل شيئًا. «من الممكن أن تخطو فوق لغم»، أضاف، «بل ربما تكون حاملًا.» حاولتُ أن أنظر في عينيها. كان يَتصرَّف وكأنه يعرف أنها موجودة عندي، مُصرًّا على الحديث عنها، ثم أطلق تَكهُّناته عنها، وهل يجعلها تُواصِل الحياة أم لا؟ ووجدْتُني عاجزًا مرة أخرى عن النطق بحرف واحد. رحتُ أشاهدها فحسب وهي تزداد حيرةً إلى أن لمع في النهاية شيء من الفزع في عينيها. ذهبَت إلى النافذة حيث وقفَت مرتكزة على مرفقيها، ونظرَت إليَّ وكأنها تستطيع من ملامح وجهي قراءة التخاريف التي يُطلِقها، وفي الوقت نفسه راحتْ تسخر منه، مقلِّصةً عضلات وجهها وكأنها تقلده، فنظرتُ إليها مبتسمًا، وفي اللحظة نفسها قاطعته أخيرًا، فحاول أن يبرر موقفه: «هذا هو ما يريد الناس قراءته.»

لم أكن أحب أن يرى فيَّ حليفًا، وكأن ذلك من بديهيات الأمور. عارضته قائلًا: «أنت نفسك لا تصدق ذلك.» ثم علا صوتي: «ولماذا تحكي لي كل هذا؟»

لم يُجِب، وانتظرتُ لحظات اعتقدتُ خلالها سماع أبواب تُصفق في الخلفية، وكنتُ أريد أن أسأله عمَّن عنده، لمُجرَّد مواصلة الحديث، غير أنني غيرتُ رأيي، وبكل بساطة أهَنْتُه قائلًا: «لا تتصل بي إذا كان هذا هو كل ما يدور في رأسك.» ولم أكن مطلقًا بحاجة لبذل جهد كي أتحدث بصوت خافِت؛ إذ إن صوتي تهدَّج وانخفض وأنا أقول ذلك. «لا أريد أن تكون لي أي علاقة بأوهامك وتخاريفك.»

وقبل أن يستطيع التعقيب بشيء، كانت هيلينا قد وضعَت يدها على التليفون وقطعت الخط. أحببتُ البديهية والتلقائية التي فعلَتْ بها ذلك. لم ألحظ اقترابها مني، وأنها ظلَّت قريبة مني للغاية. وعندما حاول الاتصال بعد ذلك مباشرة، لم أرفع سماعة التليفون، وتركتُ الجرس يرن، ثم بعد فترة قصيرة حاول من جديد، ثم تخلَّى عن محاولاته. فجأة خيَّم الصمت، ومن الخارج أيضًا لم ينفذ صوت. احتضَنتُها عندما سألتني عمَّا كان يقوله، ورحتُ أتلمَّس بوجهي شعرها من دون أن أجيب، أخذتُ أشُمُّ شعرها من دون أن أشبع من شذَا قربها. لبُرهة ظللتُ واقفًا هناك معها، ألاحظ الإظلام التدريجي في الخارج، متمنيًا ألَّا أكون قد سمعتُ حرفًا مما حكاه عنها وعن مصيرها، مستقبلها كما رسَمَه لها، أو غياب المستقبل بالنسبة لها، ووجدتُ نفسي أكافح حتى أتغلب على مخاوفي، التي ربما كانت محض خزعبلات، مخاوفي من أن كل شيء تم النطق به يومًا سيبقى على الدوام ولن يختفي من هذا العالم.

لكن مبالغاته هذه المرة بدت لي عبثية، وبرأيي لم يكن ذلك يتناسب معه، فهو دائمًا يفيض تهكمًا تجاه كل الذين يملَئُون الدنيا صياحًا قبل الحرب وبعدها، أولئك الذين لا يشبعون — على حد قوله — من التغنِّي والتفاخر بما عايشوه. كان بإمكانه أن يكون حسَّاسًا سريع التأثر، مثلما وصفَت إيزابيلا ألماير ذات يوم، وكأن وَصْف كارثة أمرٌ أشد هولًا من الكارثة نفسها، ولم أَشُك في أنه كان أحيانًا يعاني جسديًّا من وراء ذلك عندما يرى شيئًا لا يستطيع أن يتقبله.

وتذكَّرتُ من جديد كيف تحدَّث مرة عن صحفية الْتُقِطَت لها صورة في مكان ما بالبوسنة، وهي ترفع رأسها مستطلعةً من كوة دبابة سائرة وكأنها شخصيًّا ستصدر أمرًا جديدًا بإخضاع البلاد المُنهَكة تحت إمرتها، ثم قال لي إنه — بخططه عن الرواية — ليس لديه الحق في أن يتعالى عليها أو ينتقد سلوكها. ولكنه سرعان ما راح يلعنها، رغم أنه لا يعرف الرحمة إذا تعلق الأمر بحكايته هو، أو إذا انتقده أحد بسبب سماحه لنفسه بفعل كل شيء. وبقدر ما نَفَرَ هو من سلوك الصحفية، كرهتُ أنا تعجرفه، وعندما تَذكَّرتُ الوقت الذي قضيناه معًا في مناقشة العنوان المحتمَل للرواية بدَا لي كل شيء لا طائل منه، بدَا لي وكأن اختياره يُوضِّح تناقُض وعبثية أي جهد يُبذل في هذا الشأن، لقد كان بالفعل وصفًا لما «بعد المعركة» — حسب عنوانه — ولكن الوصف لن يصحح أي شيء؛ لأن الوقت، منذ البداية، قد فات، ولأن الكتابة لن توقظ أي ميت من مرقده.

كنت تحدَّثت مع هيلينا حول ذلك في العصر، وعندما شرعتُ أتكلم ثانية عن الموضوع نفسه وقلت إن العكس هو الذي يحدث بالأحرى، إن الكتابة قد تقتل، وإذا لم ينتبه باول فإنه في طريقه لأن يصبح أستاذًا حقيقيًّا، فإن ردة فعلها لم تزد عن توجيه نظرة متسائلة نحوي. لحسن الحظ لم تُخمِّن أنها هي المقصودة بذلك، وقلتُ لنفسي، أيُّ حياة هذه؟ أيُّ أدب يجعل شيئًا كهذا ممكنًا على الإطلاق؟ بينما رُحتُ أتشبَّث بها وكأنني بذلك أحميها من نواياه الشريرة. كنتُ أعرف أنها تنتظر تفسيرًا، ولكن بدلًا من أن أقول أي شيء، شرعتُ أتحدَّث عن جنون التسمية التي كان هو — وتحديدًا هو — يطلقها عليها: «ملاك الموت».

«ما زلتُ لا أعرف قصده من وراء ذلك»، قلتُ لها. «ولكن التسمية تبدو متناسبة تمامًا مع تعلقه بالدراماتيكية.»

ورغم أنني كنتُ أنتظر ضحكتها، فإنها لم تضحك، بل سألتني عن سبب تفكيري في هذا الموضوع من الأساس.

«هذه تخاريف.»

وفجأة قبَّلتني.

«ألا تظن ذلك؟»

بالكاد لامسَتْ شفتاها شفتي، غير أنني أُخذتُ على غِرَّة، ولذلك كان إصغائي لها شبه معدوم عندما واصلَتْ قائلة إن عليَّ أن أتركه في حاله إذا كان بحاجه إلى خياله الملتوي كي يكتب. ثم أضافت: «كان دائمًا يقول لي: إن الآخَرِين لديهم الإلهام، وبالنسبة لي يكفيني أنكِ أنتِ معي. إذا كان ذلك هو خطؤه الوحيد، فإن ما حدث يناسبني تمامًا.»

تطلعتُ إليها، ولكن بدَا أن نظراتي لم تلاقِ نظرتها. وعندما أُفكِّر في تحمُّسه البالغ لها في البداية، فإنني لم أَعُد أفهم أي شيء. أراحت رأسها على كتفي، وعندئذٍ تَذكَّرت أنه قال ذات مرة إنه لا يَوَد الاستمرار في الحياة بدونها، ولكنه ما لبث أن صحَّح نفسه في اللحظة التالية وكما هي عادته. لم أنطق بحرف؛ لأنني لم أستطع أن أطرد من رأسي فكرة أنه ربما قال لها يومًا كل ما يُمكِن أن أقوله، وهكذا ظللتُ واقفًا أتفرج عليها كأنني لا أشارك في الحدث، بينما راحت يدي تمرُّ على شَعرها، الحركة نفسها المرة بعد الأخرى، من مِفرق الشَّعر حتى أطرافه، وكأنه تحتَّم عليَّ أن أُهدئ من روعها، ومن روعي أيضًا.

قَضَت تلك الليلة عندي، ولكنني لن أخطئ وأبوح بأكثر من ذلك، سآخذ حذري حتى لا أحكي كما في روايات الحب، كل ما سأقوله هو أنني طلبتُ منها أن تنطق بعض الكلمات الكرواتية من أَجْلي. وأتذكَّر أنها في البداية تَردَّدتْ، إلى أن استجابَت لإلحاحي، وشرعَت في منولوغ لين وداكن. وعندما سألتُها عمَّا قالت، أجابتْ أنها قَلَّدَت مذيعة في برنامج «ما يطلبه البحَّارة»، الذي تُبَث حلقاته بالتناوب من سبليت والمدن الساحلية الأخرى، صوت يُهدي تحياته إلى سفينة مُبحِرة، عدة جُمل كان وَقْعُها رقيقًا وبلا معنًى، كان هدفها أن تُهَدهِدني وتُهدِّئني، وبالفعل، نَسيت باول، ولم أَعُد أفكر فيما سيقوله عن كل هذا، إلى أن سألتني هي في مطلع الفجر: «هل تفكر فيه؟»

كنتُ أظن أنها مستغرِقة في النوم، ومن ناحية أخرى لم أكن أعرف لماذا هي متأكِّدة إلى هذا الحد من أنني مستيقظ، فأنا مُغلِق العينين أرقد هادئًا تمامًا، ولكن لم يكن ثَمَّة شك في صوتها: «ماذا بك؟»

لُذتُ بالصمت، فكرَّرَت السؤال.

«لا شيء»، قلت في النهاية، «لماذا؟»

– «أنت تفكر فيه.»

فتحتُ عيني، فوجدتُ وجهها قريبًا للغاية مني. أمسكَتْ عن التنفس، فانتظرتُ حتى زفرت الهواء بلا صوت تقريبًا.

– «ألا يخطر على بالك أي شيء آخر؟»

بعد أسبوعين ونصف كان قد مات، من دون أن يَتحدَّث معه أيٌّ منا مرة أخرى. وَجَدُوا جُثَّته في غرفة الفندق بزغرب، أقراص مُنوِّمة، لا رسالة وداعٍ، لا أوراق غير ورقة واحدة عليها الجملة التالية: «سأكفُّ عن الكتابة»، وتحتها اسم الكاتب الإيطالي شيزاره بافيزيه وعنوان كتابه «حرفة الحياة»، من دون أي أثر لروايته. وعندما طلبتُ منها أن تبحث في منزله، لم تَجِد كذلك شيئًا. لم يكن الأمر مُصادَفة بالطبع، ولكنني كنتُ متأكدًا من أنه كتب أكثر من تلك الفوضى التي رأيتُها مرةً عنده، على الأقل، وكما أكَّدَت لي، فصلًا كاملًا محترم الطول. الأرجح أنها مُحقَّة في ظنها أنه دمر كل شيء، وعندما سمعتُ ذلك لم يَعُد يهمني في شيء أنني أصبحتُ بعيدًا جدًّا عن الفكرة التي خامرتني يومًا، أن أكتب شيئًا عن ألماير، وقلت لنفسي إنه ينبغي عليَّ أن أحاول بدلًا منه، إنني أَدين له بذلك، أن أبدأ أخيرًا بداية صحيحة، مَدِينٌ له ولنهايته.

١  الكاتب الكرواتي Mirsolav Krleža (١٨٩٣–١٩٨١م) من أهم كُتَّاب كرواتيا وأغزرهم إنتاجًا. وُلِدَ وعاش طيلة حياته في مدينة زغرب. (م)
٢  في القرن الرابع عشر وقَعَت صربيا الجنوبية ومقدونيا تحت الحكم التركي. وفي الربع الأخير من القرن الرابع عشر دعَا الأمير الصربي لازار قومه إلى مُقاوَمة الأتراك، وكوَّن جيشًا قاده نحو بريشتينا حيث جرت معركة أُطلق عليها فيما بعد «معركة حقل الشحارير». هناك تَجمَّع حوالي ثلاثين ألف صربي لمقاتلة ضِعف هذا العدد من الأتراك. كانت معركة قاسية تكبد فيها الطرفان عددًا ضخمًا من الضحايا، إلى أن اضطرت القوات الصربية إلى الانسحاب عام ١٣٨٩م بعد أن مُنوا بالهزيمة. ومع ذلك كانت معركة «حقل الشحارير» أصل أسطورة ذاعت في كوسوفو عن شدة بأس المُقاوَمة الصربية ضد العثمانيين. وقد أُجبر الصرب في القرون التالية من الحكم العثماني على هجر كوسوفو مرتين، في عام ١٦٩٠م و١٧٣٧م، ثم سمحَ الأتراك للألبان بالاستيلاء على القرى والمدن الصربية المهجورة؛ ومن هنا تنبع العداوة التاريخية بين الصرب المسيحيين الأرثوذكس والألبان المسلمين. وقد استخدم سلوبودان ميلوسيفتش أسطورة «حقل الشحارير» بعد ستمائة عام أثناء حرب البلقان الأخيرة، لاستنهاض همَّة شعبه للدفاع عن كوسوفو «التي ارتوت بدماء الشهداء الصرب»، على حد زعمه. (المترجم)
٣  الترجمة: انظر إلى سماء الليل الصافية، وأَخبِرْني/عندما يهبط القمر الفِضِّي ناحية الغرب/عندما يظهر نجم الصباح في الشرق/عندما يحين الوقت بالنسبة إلينا للسفر/إلى سهل الشحارير الجميل والمنبسط.
٤  أي: يا إلهي، يا إلهي، لا أُصدِّق ذلك، يا إلهي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤