الفصل التاسع عشر

مُصادَفاتٌ جديدة

لم يكُن كَنْدِيد شقيًّا ما وجد صديقًا حقيقيًّا، وقد وجد في الخادم الخلاسيِّ ما يُبحَث عنه في أوروبا حقًّا، ومن المحتمل أن الطبيعة التي أنْمَت في أمريكة المفردات١ الصالحة لأمراض قارَّتنا البدنية جَعَلَتْ فيها دواءً لأمراضنا القلبية والروحية، ومن المحتمَل وجود أناسٍ في العالم الجديد على غير جِبِلَّتِنَا، فلا يُعدُّون عبيدًا للمآرب الشخصية، ويُعدُّون أهلًا للصداقة الحقيقية، ويا ليته يُؤتى لنا ببعض هؤلاء الناس، بدلًا من رِزَم النِّيلَج والقِرمز الملطَّخة بالدم، فتجارةٌ من هذا الطراز تكون ذات نفعٍ عميم للإنسانية، وقد كان كَكَنْبُو أثمن لكَنْدِيد من اثني عشر كبشًا أحمر حاملةً حصًى من إلدورادو؛ وذلك لأن فيلسوفنا صار يذوق لذة العيش؛ وذلك لأن من عوامل سُلْوانِه سهَرُه على حِفْظ النوع البشري، وظهورُه عضوًا نافعًا للمجتمع، فكافأه الله على نيَّاته الخالصة بنعمة العافية، كما كافأ كَكَنْبُو، فقد زال عنهما الجَرَب، وكانا يقومان بشئون حرفتهما الشاقة فرِحين، غير أن القدَر لم يلبث أن نزع منهما ما كانا يتمتَّعان به من أمان.

غادرتْ كُونِيغُونْد — التي وطَّنت نفسها على إزعاج زوجها — كوبنهاغ لتتعقَّبه، وأتتِ الملجأ اتفاقًا، وكان يُرافقها رجُلٌ عَرَفَ كَنْدِيد أنه السيد البارون ثَنْدِر تِنْ ترُنك، ومن السهل أن يُتمثَّل مقدار ما اعتراه من دهَشٍ بسبب هذا، وقد أبصر البارون هذا، فقال له ما يأتي:

لم أُجدِّف في المراكب العثمانية طويلًا، فقد أُنبئ اليسوعيون بمصيبتي، وفَدَوْني حفظًا لكرامة الجمعية، وسافرتُ إلى ألمانية، حيث نِلتُ معروفًا من ورثة أبي، ولم آلُ جُهدًا في العثور على أختي، فلما علمتُ من الآستانة أنها سافرت على سفينةٍ غرقتْ في شواطئ الدنمارك، تنكَّرتُ وأخَذْتُ كتُبَ توصيةٍ إلى تُجَّار من هذا البلد ذوي صلةٍ بالجمعية، وأخيرًا لقيتُ أختي التي تُحِبُّك مع أنك غيرُ أهلٍ لها، وبما أنك كنت من الوقاحة ما ضاجعْتَها معه، فإنني أوافق على الزواج، وذلك على ألَّا تُناوِلك أختي غير يدها اليسرى، كما يقضي الإنصاف، ما دامت تنتسب إلى أكثر من واحد وسبعين جيلًا من أجيال الشرف، وما دمتَ لا تنتسب إلى أي جيل من أجيال الشرف.

ويقول كَنْدِيد: «آه! إن جميع أجيال الشرف في العالم بلا جمالٍ … لقد كانت الآنسة كُونِيغُونْد دميمةً إلى الغاية، عندما كنتُ من القِحَة ما تزوَّجْتُها معه، فلما أصْبَحَتْ جميلةً تمتَّع بألطافها رجُلٌ آخر، ثم تريد أن أمُدَّ إليها يدي بعد أن عادت دميمة؟ كلَّا، يا أبتِ المحترم! أعِدْها إلى سرايها بالآستانة، وقد لاقيْتُ منها سوءًا كبيرًا في هذا البلد»، وتقول كُونِيغُونْد وهي تُبدي كثير تشنُّجٍ: «كيف بدَوْتَ غليظ القلب، أيها الكَنود؟ لا تدَع السيد البارون الذي هو قِسِّيسٌ يقتُل الاثنين ليغسِل العار بالدم، أتظُنُّ أنني نقضتُ وفائي الواجب لك طيبة الخاطر؟ وما كنتَ تريد أن أصنع أمام رُبَّانٍ وجَدَني جميلةً؟ لم تُثْنه عن بَهيميَّته الجارفة دموعي ولا صيحاتي، ولما رَأَيْتُ أن ذلك لا يُجدي نفعًا، كان لي أن أُغتصَب بأسهل ما يمكِن، وهذا ما تصنعه كل امرأة، وهذه هي جنايتي، وهي لا تستحق غضبك، وأعظم جريمةً من هذه — في نظرك — كَوني نَزعتُ خليلتك، مع أن هذا الجُرم يُثبِتُ لك حُبِّي، تعالَ يا رُوَيْحي العزيز، تعالَ! إذا ما عُدتُ جميلةً، إذا ما عاد نَهدايَ الأهدلان مُدوَّريْن مَرِنيْن، إذا ما … لم يكُن ذلك إلَّا من أجلك يا كَنْدِيدي العزيز! لسنا الآن في تركية، وأُقسِم لك إنني لن أترُك نفسي تُغتَصَب.»

لم يكُن لهذا القول وقعٌ بليغ في نفس كَنْدِيد، فطلَبَ إمهالَه بضع ساعات لتعيين السبيل الذي يسلُكه، فمنحه السيد البارون ساعتين، استشار في أثنائهما صديقَه كَكَنْبُو، ويزِنان ما للأمر وما عليه، فيَعزِمان على اتِّباع اليسوعي وأخته إلى ألمانية، ويغادرون الملجأ ويسافرون معًا، لا سيرًا على الأقدام، بل على خيلٍ أصيلة، أتى بها البارون اليسوعي، ويصلون إلى حدود المملكة، ويُحدِّق رجُلٌ طويل عابس إلى بطلنا، ويقول ناظرًا إلى وُريقةٍ: «ها هو ذا، فأسألك أيها السيد، من غير كثير فضولٍ: ألا تُسمِّى كَنْدِيد؟»

– «أجلْ أيها السيد، إنني أُدعى كَنْدِيد دائمًا.»

– «يَسرُّني ذلك أيها السيد، والواقع أن لك حاجبين أسودين وعينين عسليتين وأُذنين معتدلتين ووجهًا ورديًّا مستديرًا، ويظهر أنك بالِغٌ من الطول خمس أقدام وخمسة قراريط.»

– «أجلْ، إن هذا هو طولي أيها السيد، ولكن ما أرَبُك بأُذنيَّ وقامتي؟»

– «لا نستطيع أن نكون كثيري التحفُّظ في القيام بواجبتنا، فاسمح لي أيها السيد، بأن أضع لك سؤالًا صغيرًا آخر: «ألم تَخدِم السنيور فُلهُل؟»

ويجيب كَنْدِيد مرتبكًا: «حقًّا، لَمْ أفهم أيها السيد …»

– «وأما أنا فإنني أُدرِك تمامًا، أنك أنت الذي أُرسلَتْ لي إشارة عنه، تفضَّل بالدخول بين فَوج الشرطة، أيها الجنود، سوقوا هذا السيد، وأعِدُّوا الغرفة السفلى، ونادوا الحدَّاد؛ ليصنع للسيد سلسلة تزن ثلاثين رطلًا أو أربعين رطلًا، وأنت يا سيدي كَنْدِيد، أراك صاحبًا لحصانٍ أصيل، وأراني محتاجًا إلى حصان بلونه، فسنتَّفق عليه.»

ولم يجرؤ البارون على المطالبة بالحصان، وسيق كَنْدِيد وبكت كُونِيغُونْد ربع ساعة، ولم يُبدِ اليسوعيُّ أيَّ حُزنٍ بسبب هذه المصيبة، وقد قال لأخته: «كنتُ أُضطرُّ إلى قتله، أو إلى تزويجه بك ثانيةً، وإذا نُظر إلى الأمر من جميع وجوهه، وُجِدَ أن ما حدث أحسن بمراحل لِشَرَفِ آلِنَا.»

ذهبت كُونِيغُونْد مع أخيها، والوفيُّ كَكَنْبُو وحْده هو الذي لم يشأ أن يترُك صديقه.

١  المفردات: نباتات أو عقاقير طبية يعالِجون بها الأمراض.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤