الفصل السابع

قصة زِيرْزا

«كان أبي نصرانيًّا، وكنت نصرانيةً كما قال لي، وكان صاحبًا لصومعة بالقرب من كوتاتيس، وكان يتمتع فيها باحترام المؤمنين لِما عليه من ورَعٍ شديد، وتقشُّفٍ تفزع منه الطبيعة، وكان النساء يأتين إليه جماعات لتكريمه، ويتلذَّذن تلذُّذًا عجيبًا بتبخير خَلْفِه، الذي يُبرَّح به كل يوم بضرباتِ ترويض واسعة، ولا ريب في أنني مَدِينةٌ بحياتي لواحدة من أتقى هؤلاء، وأُنشَّأ في سردابٍ قريب من حجرة والدي، وأبلُغ الثانية عشرة من سِنِيَّ قبل أن أخرج من هذا القبر، أي: قبل أن تُزلزَل الأرض مع دوِيٍّ هائل، وتهبط قباب السرادب، وأُنتشَل من تحت الأنقاض، وأكون نصف ميتةٍ، حينما رأت عيناي النور للمرة الأولى، ويُؤْويني والدي إلى صومعته كولد مُقدَّرٍ عليه، ويبدو هذا الحادث للناس أمرًا عجيبًا، ويعتمد أبي إلى المُعجِز، وكذلك الناس.»

«ويُطلَق عليَّ اسمُ زيرزا، ومعنى هذا الاسم في الفارسية «بنت القُدرة الربَّانية»، ولم يلبث الناس أن تحدَّثوا عن مُغرِياتي الغالبة، وكان قد قلَّ تردُّد النساء إلى الصومعة، وكان قد كثُر مجيء الرجال إليها، ويقول لي أحد الرجال إنه يحبُّني، ويقول له أبي: «هل أنت أهْلٌ لأن تحبَّها أيها الفاجر؟ هي وديعةٌ عندي من الرب، والرب قد ظهر لي هذه الليلة في صورة ناسكٍ جليل، ونهاني عن التخلِّي عنها بأقلَّ من ألفي دينار، فاخرج أيها السائل البائس، لكيلا يُفسِد نَفَسُك الدَّنِسُ فُتُونَها»، ويجيب بقوله: «ليس عندي غير قلب، ولكن ألَا تخجل أيها الغُول من اتخاذ اسم الرب وسيلةً لإشباع طمعك؟ وبأي وجهٍ تجرؤ أيها اللئيم، على قولك: إن الرب كلَّمك؟ إن من إهانة خالق الناس أن يُزعَم تكليمه لأناس مثلك»، ويصرُخ أبي قائلًا عن غضبٍ: «يا للتجديف! أمَر الرب برجم المُجدِّفين»، ويقتُل أبي عاشقي التَّعِس، وهو يقول هذا فيتفجَّر دمه على وجهي، ومع أنني كنت لا أعرف الغرام، فإن أمر هذا الرجُل أهمَّني، فألقاني قتلُه في غمٍّ، بلغ من العِظَم ما جعلني لا أُطِيق النظر إلى أبي، فعزمت على تَرْكه، فأدرَكَ ذلك، وقال لي: «أيتها الكَنُود، أنتِ مدينةٌ لي بوجودك، أنت ابنتي … ثم تكرهينني، ولكني سأستحقُّ حِقدَك بأشدِّ ما تُعامَلين به»، ويَعمَل الظالم بقوله عملًا وثيقًا! وما كانت السِّنون الخمس التي قضيتُها باكيةً نائحةً، وما كان شبابي وجمالي الكابي لِتُذهِب غضبَه، فتارةً كان يَغرُز ألوف الدبابيس في جميع أجزاء بدني، وتارةً كان يغمر ألْيَيَّ بالدم وَفْقَ نظامه.»

ويقول كَنْدِيد: «كان هذا أقل إيلامًا من الدبابيس.»

وتقول زيرزا: «حقًّا يا سيدي، وأخيرًا هربتُ من منزل أبي، وإذ لم أُبِح لنفسي الاعتماد على أحد، فقد أوغلتُ في الغاب، حيث قضيتُ ثلاثة أيام بلا طعام، وكنتُ أموت جوعًا، لولا مُتنَمِّر كان لي شرف نَيْل حُظوةٍ لديه، فيقاسمني صيده، ولكنني كنتُ شديدة الخوف من هذا الوحش الهائل، الذي كاد ذات مرةٍ أن يَسلُبني الزهرة التي اغتصبها مولاي بمشقة كثيرة ولذةٍ كبيرة، وأُصابُ بداء الحَفَر عن سوء تغذية، ولم أكَدْ أُشفَى منه، حتى اتَّبعتُ نخَّاسًا مسافرًا إلى تَفلِيسَ، حيث كان يوجد طاعون فأُصاب به، وما كانت هذه المصائب الكثيرة لتُؤَثِّر في ملامحي مطلقًا، وما كانت لِتَمنَع خَوليَّ الصفويِّ من شرائي؛ لتَتَمتَّع بي، وقد ضَنِيتُ في الدموع منذ ثلاثة أشهر، أي: منذ غدوتُ في عِداد نسائك، وكان يُخيَّل إليَّ وإلى رفيقاتي أننا محلُّ ازدرائك. آه! لو كنتَ تعرف يا سيدي، مقدار ما عليه الخِصيان من إغاظةٍ وعدم صلاحٍ لتسلية من يُزدرَى من الفتيات …»

«والخلاصة هي: أنني لمَّا أبلُغِ الثامنة عشرة من سِنِيَّ، وأنني قضيتُ اثنتي عشرة سنةً منها في سجن كريهٍ مُظلِم، وأنني عانيتُ زلزلةً، وأنني غُمرتُ بدم أول رجُل محبوب لاقيْتُه، وأنني كابدت أقسى العذاب في أربع سنين، وأنني أُصبتُ بداء الحَفَر وبالطاعون، وقد ضَنِيتُ بالأماني بين كتيبةٍ من الغيلان السُّود والبيض، محافِظةً — دائمًا — على ما كنتُ قد أنْقَذْتُ من صولات مُتنَمِّرٍ غير ماهر، لاعِنةً مصيري، وقد قضيتُ في هذا القصر ثلاثة أشهر، وكِدتُ أموت من اليرقان لو لم تُشرِّفني — يا صاحب السعادة — بعِناقِك.»

ويقول كَنْدِيد: «ربَّاه! أمِنَ المُمكِن أن تكوني قد لاقيْتِ مصائب هائلةً كهذه في مثل عمرك الناضر؟ وماذا كان يقول بَنْغَلُوس لو استطاع أن يسمعك؟ غير أن مصائبك قد انقَضَتْ كمصائبي، ولا تسير الأمور سيئة الآن، أليس هذا صحيحًا؟» يقول كَنْدِيد هذا، مستأنِفًا ملامساته، مستمسكًا بمذهب بَنْغَلُوس مقدارًا فمقدارًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤