الفصل الثامن

اشمئزاز كَنْدِيد، لقاءٌ غير مُنتظَر

كان فيلسوفنا في سواء سَرَايه يَقسِم ألطافه بالتساوي، فيتمتع بملاذِّ التقلُّب، ويعود دائمًا إلى «بنت القدرة الربَّانية» مع حرارة جديدة، ولم يدُم هذا، فهو لم يلبث أن شعر بأوجاعٍ شديدة في الخَصر وبمَغْصٍ أليم، فكان يَنحَلُ إذ يصير سعيدًا، وهنالك لم يَبدُ له جِيد زيرزا أبيض حَسَن الوَضع، ولم تبدُ ألْياها له جاسِئتَيْن ولا سمينتَيْن، وتَفقِد عيناها كل لمعان في نظر كَنْدِيد، وتظهر ملامحها له أقل جمالًا، وتظهر له شفتاها القانيتان الفاتنتان ذاويتَيْن، ويُحِسُّ أنها لا تمشي جيِّدًا، وأنها سيئة الرائحة، ويُبصِر مُشمَئزًّا، أنها ذات شامةٍ على جبل زُهْرةٍ لم يرها من قبل، وتُصبح صولاتُ هواها مُزعِجةً، ويلاحظ ببرودةٍ معايِبَ في النساء الأخرى كانت قد فاتته في صولات هواه الأولى، فلا يرى فيهن غير دعارة شائنة، ويستحي من سيْره على غرار أحكم الناس، «فيجدُه أشدَّ مرارة من موت الزوجة.»

وكان كَنْدِيد — المحافظ على المشاعر النصرانية دائمًا — يتنزَّه في شوارع سوس حين فراغه، وإليك فارسًا لابسًا ثيابًا فاخرة يعانقه معانقة حارِّة، وهو يناديه باسمه، فيقول كَنْدِيد بصوت عالٍ: «أهذا ممكِن؟ أأنت سيدي؟ … هذا غير ممكِن، ومع ذلك فإنك تُشابه — مشابهةً قوية — الكاهن البريغوري.»

ويجيب البريغوري: «أجلْ، أنا بعيني.»

وهنالك يتأخر كَنْدِيد ثلاث خطوات، ويقول بسذاجة: «أأنت سعيد يا سيدي الكاهن؟»

ويجيب البريغوري: «سؤالٌ جميل، إن الخداع القليل الذي صنعتُه مَعَكَ لم يؤدِّ إلى غير جعْلي محلَّ اعتماد، فقد استخدمَتْني الشرطة بعض الزمن، ولكن بما أنني اختلفتُ معها، فقد خلعتُ الثوب الإكليريكي، الذي عاد غير نافع لي، وقد مررتُ بإنكلترة، حيث يُجزَل عطاء رجال حرفتي، وقد حدَّثتُ عن كل ما أعرف وما لا أعرف، وتكلَّمتُ عن قوة البلد الذي هجرتُ وضَعفِه، وقد قلتُ موكِّدًا على الخصوص: إن الفرنسيين حُثالة الأُمم، وإن العقل الرشيد لا يتجلَّى في غير لندن، وأخيرًا نِلتُ ثَراءً، وأتيت هنا لعقد معاهدة في بلاط فارس تهدف إلى استئصال جميع الأوروبيين، الذين يجيئون للبحث عن القطن والحرير في ممالك الصفويِّ إضرارًا بإنكلترة.»

ويقول فيلسوفنا: «إن غرض بعثتك محمود جدًّا، غير أنك محتال يا سيدي الكاهن، ولا أحب المحتالين مطلقًا، وأتمتَّع بثقة في البلاط، فارْتَجِف، فقد بلغَتْ سعادتُك نهايتَها، وستُجازَى بما تستحق.»

ويصرخ البريغوري قائلًا راكعًا: «ارحمني يا سيدي كَنْدِيد، لقد سُيِّرتُ إلى السوء بقوة لا تُقاوَم، كما سُيِّرتَ إلى الفضيلة، وقد شعرتُ بهذا الميل المقدَّر مذ عرفت مسيو والب، وعملتُ في الأوراق.»

ويقول كَنْدِيد: «وما الأوراق؟»

ويقول البريغوري: «هي كراريس ذات اثنتين وستين صفحةً مطبوعة، يخاطَب الجمهور فيها بالافتراء والهَجْو والجَلَف، وهو رجُل صالح، يعرف القراءة والكتابة، وهو إذ لم يستطع أن يبقى يسوعيًّا مدة ما يريد أَخذ يقوم بذلك العمل الظريف الخفيف لينال ما يدفع به ثمن مُخَرَّمات زوجته، وينشِّئ أولاده على خشية الله، ويُعدُّ من الصالحين مَنْ يساعدون ذلك الرجل الصالح على القيام بمشروعه في مقابلِ دراهِمَ قليلة وبضع قوارير من خَمْرٍ بري، وكذلك ينتسب مسيو والب إلى نادٍ لذيذ، يُتلهَّى فيه بجعل بعض السُّكارى يُنكِرون الله، أو باختلاسِ مسكينٍ عن جَعْله يحطِّم أثاثه ودعوته إلى المبارزة بدلًا، ويُؤتى فيه من النُّكت الطفيفة ما يدعوه أولئك السادةُ خدائعَ، فيستحقون بها انتباه الشرطه، ثم إن مسيو والب — البالِغَ الصلاح، والقائل إنه لم يُحكَم عليه بالأشغال الشاقة — غارقٌ في سُبات عميق، لا يشعر معه بأقسى الحقائق، ولا يمكن انتشاله منه إلا ببعض الوسائل العنيفة التي يحتملها مُسَلِّمًا، وببسالة تفُوق كلَّ ما قد يقال، وقد عملتُ حينًا من الزمن تحت إدارة صاحب هذا القلم المشهور، فأصبحتُ صاحِبَ قلم مشهور بدوري، فتركتُ مسيو والب لأقوم بالأمر بنفسي، حينما شُرِّفتُ بزيارتك في باريس.»

ويقول كَنْدِيد: «إنك محتالٌ كبير يا سيدي الكاهن، ولكن إخلاصك ذو تأثير في نفسي، فاذهب إلى البلاط، وتوسَّل إلى صدر الديوان الأكرم، فسأكتب إليه نفعًا لك، على أن تَعِدَني بأن تكون رجُلًا صالحًا، وبألَّا تسعى في ذَبْح ألوف الناس من أجل الحرير والقطن»، ويَعِدُ البريغوري بكل ما يطلب كَنْدِيد، ويفترقان صديقَيْن.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤