الفصل التاسع

كَنْدِيد يفقِد حُظوته، رِحلاتٌ، مغامراتٌ

لم يكَدْ البريغوري يصل إلى البلاط، حتى استعمل كل ما لديه من حيلة لاستجلاب الوزارة والقضاءِ على المُحْسِن إليه، فأذاع أن كَنْدِيد خائن، وأنه قال سوءًا عن شاربَيْ مَلِك الملوك، وتحكُم الحاشيةُ كلها بأن يُحرَّق شيًّا، غير أن الصفويَّ ظَهَرَ أكثر تسامُحًا، فحُكِم عليه بنفي مؤبَّد، بعد أن يُقبِّل قدمي الواشي به، وفْق عادة الفرس، ويذهب البريغوري لتنفيذ هذا الحُكم، فيجِدُ فيلسوفنا متمتِّعًا بصحة جيدة، مستعدًّا للسعادة، ويقول له سفير إنكلترة: «أيْ صديقي، لقد جِئْتُ آسفًا لأنبِّئك بوجوب الخروج من هذه الدولة مع تقبيل قدميَّ، مكفِّرًا عما اقترفتَ من جنايات كبيرة.»

– «تقبيل قدميك يا سيدي الكاهن، إنك لا تفكِّر في هذا بالحقيقة، لا أفقه شيئًا من هذه الدُّعابة.»

فهنالك دخل بعض الصُّمِّ الذين اتبعوا البريغوري، وخَلَعُوا نَعْلَيْه مِنْ فَوْرهم، ويُخبَر كَنْدِيد بضرورة الخضوع لهذا الخزي، أو أن يوضَع على الخازوق، ويتذرَّع كَنْدِيد بحرِّية إرادته، ويقبِّل قدمَي الكاهن، ويُلبَس ثوبًا رديئًا من بزٍّ، ويطرُده الجلَّاد من البلد صارخًا: «هذا خائن! لقد قال سوءًا عن شاربَيِ الشاه.»

وما يَصْنَع الورِعُ غير الرسمي تجاه ما عُومِل به مَحمِيُّه على هذا الوجه؟ لا أعرف شيئًا من هذا، ويغلب على الظن كَوْنُه تَعِبَ من حمايته كَنْدِيدَ، ومن يستطيع الاعتماد على رعاية الملوك والنُّسَّاك خاصةً؟

ويسير بطلُنا حزينًا في أثناء ذلك، ويقول في نفسه: «لم أقُل قطُّ شيئًا عن شاربَيْ ملك الفُرس، وأهبِطُ في دقيقة من أوْج السعادة إلى حضيض الشقاء؛ لأن لئيمًا خَرَقَ جميعَ القوانين، فاتهمني بجناية مزعومة، لم أقترفها مطلقًا، ثم يغدو هذا الوغد، هذا الغول الباغي على الفضيلة … سعيدًا!»

يصل كَنْدِيد إلى حدود تركية بعد مشي بضعة أيام، ويتوجَّه إلى بحر مرمرة، راجيًا الاستقرار بشاطئه، وقضاء بقية أيامه في زراعة حديقته، ويبصِر وهو يسير في قرية صغيرة جمعًا من الناس في شغب، فيسأل عن العلة والمعلول، فيقول له شيخ: «هذا حادث غريب، وذلك أن الغنيَّ محمدًا طلب الزواج بابنة الأنكشاري زامود، فلم يجِدها عذراء، ويسير على مبدأ طبيعي تجيزه الشرائع، فيعيدها إلى أبيها بعد أن يشوِّه وجهها، ويشتاط زامود غيظًا من هذا العار، فيقطع بالسيف — في سَوْرة غضب طبيعي — رأسَ ابنته المُشوَّهةِ الوجه، ويثِبُ عليه ابنه البِكْر، الذي كان يُحِبُّ أخته حبًّا جمًّا — وهذا ما يقع في الطبيعة — فيطعنه — كما تقضي الطبيعة — بخنجره الحادِّ في بطنه عن غيظ شديد، ثم يبدو زامود الشاب كالأسد الملتهب، إذ يرى سيل دم أبيه، فيطير إلى محمد، ويجندل بعض العبيد اللذين يعترضون في سبيله، ويقتل محمدًا ونساءه وصبيَّيْن في المهد، وهذ أمر طبيعي في الوضع العصيب الذي كان عليه، ثم ينتحر بعين الخنجر الذي يقطر من دم أبيه وأعدائه، وهذا طبيعي أيضًا.»

ويقول كَنْدِيد صارخًا: «ماذا كنتَ تقول أيها الأستاذ بَنْغَلُوس، لو وجدتَ هذه الأعمال الوحشية في الطبيعة؟ ألا تعترف حينئذ بأن الطبيعة فاسدة، وأن كل شيء ليس …»

ويقول الشيخ: «كلَّا؛ لأن النظام المقدَّر …»

ويقول كَنْدِيد: «ربَّاه، هل أنا مخدوع؟ هل بَنْغَلُوس هو الذي أرى؟»

ويجيب الشيخ: «أنا ذاك، لقد عرفتُك، ولكني أردت أن أَنفُذ في مشاعرك قبل أن أكشف عن نفسي، وبعدُ فلْنَتَكَلَّمْ قليلًا حول المعلولات العارضة، ولنَرَ هل تقدَّمْتَ في فن الحكمة؟»

ويقول كَنْدِيد: «آه! إنك تسيء اختيار وقتك، فأخبرني بما حَدَثَ لكُونِيغُونْد، وأين الراهب جيرفله وباكت وبنت البابا أوربان العاشر؟»

ويقول بَنْغَلُوس: «لا أعلم، فقد غادرتُ منزلنا منذ عامين للبحث عنك، وقد طُفتُ في جميع تركية تقريبًا، وقد كنتُ ذاهبًا إلى بلاط فارس، حيث نِلتَ ثراءً كما بلغني، ولم أبْقَ في هذه القرية الصغيرة بين هؤلاء القوم الصالحين إلَّا لأستردَّ شيئًا من قوَّتي، فأداوِمَ على رحلتي.»

ويقول كَنْدِيد دهِشًا: «ما أرى؟ أراك قد خسِرتَ ذراعًا يا أستاذي العزيز.»

ويقول الأستاذ الأعور الأبتر: «ليس هذا أمرًا يُذكَر، فلا شيء أقرب إلى الطبيعة في أحسن العوالم من أن يُرى أُناس عُورٌ بُترٌ، وقد أُصِبتُ بهذا الحادث في رحلة إلى مكة، فقد هَجَمَ على قافلتنا جمعٌ من العرب، ويريد حَرَسُنا المقاومة، ويظهر العرب أشد بأسًا، فيقتلوننا جميعًا بلا رحمة، ويهلِك في هذا القتال نحو خمسمائة نفس، كان بينهم اثنتا عشرة حاملًا، وأما أنا فقد سُلِع رأسي وبُتِرت ذراعي، ولم أمُت من هذا، فوَجَدْتُ أن كل شيء يسير على أحسن ما يكون دائمًا، وأنت يا كَنْدِيدي العزيز، ما دهاك حتى أراك ذا ساق من خشب؟»

وهنالك تناول كَنْدِيد الكلام وروى خبر مغامراته، ويعود فيلسوفانا إلى شاطئ بحر مرمرة معًا، ويسيران على الطريق مسرورَيْن متحاورَيْن حول الشر المادي والشر الأدبي، وحول الإرادة والقدَر، وحول الذرَّات الحية والنظام الأزليِّ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤