الفصل الرابع
كرومر والكلاسيكيات
التوظيف الأيديولوجي للتاريخ اليوناني-الروماني
يبدأ هذا الكتاب بمشهد احتلال نابليون بونابرت مصر، وقد تجسدت في وعيه صورة
الإسكندرية وقيصر، ويختتم الكتاب باللورد كرومر متقاعدًا يتحدث عن حكمه لمصر، مقارنًا
بحكم نائب القنصل (الحاكم العسكري) في روما القديمة، وجاء — بين المشهدين — القنصل هنري
سولت الذي وزع وقت فراغه بين قراءة المخطوطات اليونانية والآثار المصرية، وكان فلوبير
يقرأ الأوديسة باليونانية بينما كان مسترخيًا على صفحة النيل في طريقه من الصعيد إلى
القاهرة، ووقف الموظفون الإنجليز الذين تخرجوا لتوهم من أكسفورد وكامبردج على ضفاف
النيل يسترجعون هيرودوت.
١ وأسس الأوروبيون المتحف اليوناني الروماني والجمعية الأثرية عام ١٨٩٢م،
ونظموا الاجتماع الثاني للمؤتمر الدولي للآثار الكلاسيكية بالقاهرة عام ١٩٠٩م.
وعنوان هذا الفصل غربي الميل؛ لأن أحدًا من المصريين لم يحاول — حتى ١٩١٤م — أن يجعل
التراث اليوناني-الروماني أساسيًّا في تكوين الهوية القومية المصرية. وأعار المصريون،
الذين عاشوا في مطلع القرن، آذانًا صماء للجدل الأوروبي حول الكلاسيكيات، تمامًا كما
فعل الأوروبيون بالنسبة لاعتبار عمرو بن العاص فاتحًا عظيمًا أو أبي نواس شاعرًا
خالدًا. فقد صاغ المسلمون المتدينون أفكارهم في إطار النبي محمد والخلفاء الراشدين،
بينما كان العالم يبدي اندهاشه لعظمة بغداد أيام هارون الرشيد، والقاهرة زمن المماليك.
ولم تكن المسحة الكلاسيكية عند بونابرت تعني شيئًا عند الجبرتي. وفي الثمانيات كان هناك
حديثان ذاتيان على طرفي نقيض، فقد لعب كرومر دور نائب القنصل في القاهرة، واستدعى محمد
أحمد المهدي سيرة النبي محمد في الخرطوم. ولعل شارلز جوردون — الذي كان يفضل استخدام
الشواهد الإنجيلية وليس الكلاسيكية — كان أقدر على فهم المهدي من كرومر.
٢
ولم تخرج الدراسات الكلاسيكية (اليونانية-اللاتينية القديمة) مصريًّا يتطلع لأن يكون
أمينًا للمتحف اليوناني-الروماني بالإسكندرية حتى العام ١٩١٤م، فلم يكن هناك — في هذا
المجال — أي مصري يناظر أحمد كمال، أو علي بهجت أو مرقص سميكة، غير أن بعض كبار
الموظفين، والكتاب والسياسيين الذين لهم شهرة وتنوع اهتمامات الطهطاوي، قدموا إشارات
عن
التراث اليوناني الروماني منهم الطهطاوي ذاته، ومحمود الفلكي، وعلي مبارك، وجرجي زيدان،
وقاسم أمين، وأحمد لطفي السيد، ومصطفى كامل، ومحمد فريد، ومهد ذلك الطريق لما شهدته
العشرينيات من القرن العشرين عندما أضاف طه حسين وأحمد لطفي السيد الدراسات
اليونانية-اللاتينية القديمة باعتبارها أحد المكونات الحيوية للهوية القومية
المصرية.
ومع استثناء المغرب — جزئيًّا — لم يدرك أهل الشرق الأوسط في القرن التاسع عشر
التعبير المجازي الكلاسيكي الذي استخدمه الأوروبيون عند الحديث عن الشرق الأوسط، إلا
إدراكًا محدودًا، ونادرًا ما تذكر كتب التاريخ العامة عن مصر الأفكار المصرية الحديثة
عن التراث اليوناني-الروماني الذي كان أقل جاذبية من الحديث عن التراث الإسلامي أو
العربي أو الفرعوني.
الخطاب الكلاسيكي في الهوية الغربية
منذ أيام بترارك حتى سارتر، نافست الكلاسيكيات حتى الإنجيل من حيث الانتشار،
باعتبارها أداة مرنة للفكر الغربي.
٣ كانت تقرأ أعمال اليونان باعتبارها محافظة وليبرالية، راديكالية
ورجعية، متدينة وملحدة، عقلانية ورومانسية. ودخلت الجمهورية الرومانية في مواجهة مع
الإمبراطورية، كذلك اليونان مع الرومان، وأثينا مع إسبرطة، أفلاطون مع أرسطو، وحتى
الأرسطيين ضد بعضهم البعض.
٤ واتخذت الثورتان الفرنسية والأمريكية رموزًا رومانية، وامتدح ماركس
إنكار بروميثيوس للآلهة حتى إنه أعاد قراءة إيخليوس كل عام باليونانية.
٥
غير أن بقاء الكلاسيكيات كمحور للتعليم الليبرالي الغربي في مطلع القرن التاسع
عشر، يعود إلى الاتجاه المحافظ وليس الراديكالي. ففي مواجهة التحديات الديمقراطية
والاستحقاقية التي جاءت من الطبقة الوسطى، رفعت المدارس البريطانية العامة من
مستويات التدريس بها، ووضعت وزارتا الداخلية، والهند، أسسًا للامتحانات.
٦ وفي إطار الحصار الذي ضرب حول المحسوبية والامتياز الطبقي، أصبحت
اليونانية واللاتينية بمثابة مفتاح الوصول إلى مستوى الطبقة العليا.
ولم تكن الكلاسيكيات موضع تقدير كل المتعلمين في بريطانيا، فقد شعر تشرشل بالأسى
عندما حال جهله باليونانية بينه وبين الالتحاق بأكسفورد. وكان تعلُّم الكلاسيكيات عند
ثاكيراي يذكره بزيت الخروع، وسبق ذلك سياحة مارك توين المبتذلة في اليونان، عندما
قال ساخرًا في أثينا: «إنني أفضل أن أكسب مائتي جنيه في السنة في فليت ستريت، على
أن أصبح ملكًا لليونانيين، تسبق اسمي كلمة باسيليوس حول عملتهم التعسة … إن رثاثة
هذا المكان غلبت أيرلندا، وكلمة (رثاثة) أقوى من الواقع.»
٧
ومنذ العصور الوسطى حتى الثورة الفرنسية، حدد الغربيون هويتهم في إطار روما وليس
اليونان، وقد أطلق الآثاري البروسي يوهان فنكلمان حركة جمالية ثقافية عظمت من شأن
المجتمع اليوناني باعتباره مجتمعًا حيويًّا وشابًّا، على نقيض روما التي أضناها
التمزق والإرهاق. وأصدر فنكلمان كتابًا عام ١٧٦٤م بعنوان «تاريخ الفن القديم» جعل
منه مؤسسًا لتاريخ الفن الحديث، ورائدًا لعلم الآثار الكلاسيكية، وغالبًا ما خدم
اتخاذ اليونان مثالًا، أهداف دعاة القضايا البورجوازية والليبرالية.
وفعل كل من جوته، ووزير التعليم البروسي المصلح ألكسندر فون همبولد الكثير لنشر
هذا التحمس لليونان القديمة في ألمانيا.
٨ ووعى الفرنسيون عظمة اليونان القديمة، ولكن لغتهم ذات الأصل اللاتيني
وإحساسهم بأنهم ورثة التاريخ الروماني، أبقاهم بعيدًا عن طريق التحمس لليونان
القديمة الذي اتجه إليه الألمان.
٩
وأصيب البريطانيون أيضًا بحمَّى اليونان القديمة، يندفعون لمشاهدة مجموعة إيلجن
بالمتحف البريطاني، ويقيمون مباني تبعث الطراز اليوناني من جديد، وتسعدهم أشعار
بايرون في عشق اليونان، وكتب جون ستيورات مل «إن معركة الماراثون كحدث في التاريخ
الإنجليزي تفوق معركة هاستنجز أهمية.»
١٠ واعتبر البريطانيون الإمبراطور أغسطس مستبدًا مولعًا بالمكائد، وفيرجيل
مجرد أحد أفراد حاشية الإمبراطور. وجاء هوميروس وأفلاطون في بؤرة الضوء، ورفع أصحاب
الفكر الإصلاحي ديمقراطية أثينا إلى مرتبة أعلى من سلطوية إسبرطة. وعلى كلٍّ، أظهرت
دراسة حديثة تأثير روما القديمة في مختلف دوائر الثقافة البريطانية حتى القرن
التاسع عشر.
١١ وإن كانت الإمبراطورية الرومانية قد استعادت رونقها في أعين الكثير من
البريطانيين مع تصاعد «الإمبريالية الجديدة» في الثمانينيات والتسعينيات من القرن
التاسع عشر.
مصر من خلال عدسات الأوروبيين الكلاسيكية
تعكس صفحة العنوان في «وصف مصر» صورًا كلاسيكية قوية، فنابليون في عربته الحربية
مثل أبولُّو والإسكندر؛ فالإلهام والفنون والعلوم عائدة إلى مصر، والنسر على رايات
المعركة. وفي إشارة حافلة بالرموز، يحمل سقف قسم المصريات باللوفر اللوحة التي
رسمها فرانسوا-إدوارد بيكو تحت اسم «دراسة وإلهامات الفنون تكشف أسرار مصر
القديمة لأثينا» (انظر الشكل
٢٧).
١٢ حيث تبدو أثينا امرأة ترتدي ثوبًا ملكيًّا كلاسيكيًّا، ومصر امرأة
ترتدي ثوبًا مثيرًا يكاد ينزلق من على جسدها، وهي تشم باسترخاء زهرة اللوتس.
وحمل نابليون معه في حملته إلى مصر نسخة من الإلياذة (تمامًا كما فعل الإسكندر)،
ونسخة من أناباسس (حكاية الأبطال الإغريق الذين شقوا طريقهم بالقوة وسط حشود
الآسيويين للعودة إلى بلادهم)، كما حمل معه نسخة من كتاب بلوتارخ «حياة متوازية».
١٣ وقال بونابرت لجنوده: «إن المدينة الأولى التي سوف نراها بناها
الإسكندر، وسنرى في كل خطوة نخطوها آثار أعمال علينا نحن الفرنسيين أن نحذو حذوها.»
١٤ ولما كانت الهيروغليفية لا تزال مجهولة، فقد رأى علماء مصر بعيون
هيرودوت، وإسترابو، وديودور الصقلي، وبليني العجوز، فاقتبسوا منهم على التوازي بين
اليونانية واللاتينية التي ترد نصوصها في «وصف مصر». وحتى الفنانون الذين رسموا
الآثار الفرعونية كان اتجاههم كلاسيكيًّا. فالميدالية التي سُكّت عام ١٨٢٦م بمناسبة
صدور الطبعة الثانية من «وصف مصر» تصور محاربًا غاليًا — رومانيًّا يعري امرأة
مغرية تمثل مصر (انظر الشكل
٢٨).
وبعد استكمال نشر «وصف مصر» عام ١٨٢٨م بعامين، غزت فرنسا الجزائر. وقيل إن ورثة
روما القديمة عادوا إلى شمال أفريقيا لنشر الحضارة فيها، يعد «فترة عربية» مدمرة.
وقيل للضباط الفرنسيين في مراكش (المغرب) «دعوا السكان المحليين يعلمون أننا
الرومان كنا هنا قبل العرب.»
١٥ وعلى مدى ما يزيد على القرن من الوجود الفرنسي في الجزائر، عكست
التماثيل، والعمارة، والمتاحف، وأسماء الشوارع، والأدب، وطوابع البريد، وبطاقات
البريد؛ تلك النظرة.
١٦
وبعد أن فتح شامبليون الطريق المباشر للتعرف على الفراعنة من النصوص
الهيروغليفية، بوقت طويل، كان الأوروبيون المشتغلون بالمصريات ما زالوا يتمسكون
بالكلاسيكيات. ففي برلين، درجت مجموعة ليبسيوس على قراءة الأعمال اليونانية المهمة
في لغتها الأصلية في مساء كل جمعة. وكان من بين من يداومون على الحضور: تيودور
مومسن المتخصص في اللاتينية، واللورد راسل السفير البريطاني، ورانجاب السفير
اليوناني. وفي عام ١٩٠٣م حصل ألكسندر موريه على الدكتوراه في المصريات وكانت تلك آخر
رسالة قدمت في فرنسا مكتوبة باللاتينية.
١٧
ولا يستطيع المرء أن يقرر — أحيانًا — ما إذا كانت الكلاسيكيات قد وضعت رؤية
الأوروبيين لمصر الحديثة في إطار مشوه، أم أن الأمر كان عكس ذلك تمامًا؟ يقول القس
سايس:
«يتم تدريس جميع العلوم المحمدية بالأزهر على أساس القرآن، تمامًا كما يحدث في
القاهرة الحالية، وكذلك كانت الحال في عين شمس عندما زارها هيرودوت، فكانت كل ألوان
المعرفة المصرية تدرس هناك … ولا شك أن نظرة الرحالة اليوناني إلى الأساتذة
وتلاميذهم تماثل نفس النظرة عند السائح الإنجليزي الذي يمر عبر الجامع الأزهر.»
١٨ وهكذا تتداخل المرايا، مع تداخل الخطابين الاستشرافي
والكلاسيكي.
ولم يكن جميع المتخصصين في المصريات يتأثرون فكريًّا بالكلاسيكيات، فقد كان
اهتمام مارييت بالمواقع الأثرية اليونانية والرومانية محدودًا، وقد استنكر مقولات
هيرودوت:
«عجبًا لذلك الرحالة الذي جاء إلى مصر في زمن كان الناس فيه يتحدثون اللغة
المصرية، ورأى بعينيه كل المعابد قائمة في أماكنها، وكان باستطاعته أن يسأل أول من
يقابله عن اسم الملك الذي يحكم البلاد، واسم الملك الذي سبقه، والذي كان عليه أن
يشير إلى أول معبد من أجل التاريخ والدين، وكل ما هو مهم في ذلك البلد المبهر
للعالم. ولكنه بدلًا من ذلك كله يخبرنا — بكل أسف — أن خوفو بنى الهرم من ثمار الدعارة.»
١٩
ولم يتقن بتري الكلاسيكيات مطلقًا. ويقول إن أمه ظنت أن «من الطبيعي أن تحشو ذهنه
بقواعد اللغات الإنجليزية والفرنسية واللاتينية واليونانية معًا، وهو في سن الثامنة
من عمره»، وبلغت محاولاته في اللاتينية عشر محاولات، وفي اليونانية ست محاولات،
باءت جميعًا بالفشل عندما بلغ العاشرة من عمره، فترك الدراسة ليتولى أمر تعليم نفسه.
٢٠
وكان ماسبيرو عكس ذلك تمامًا، فبعد بونابرت بقرن من الزمان، أعطاه العثور على
لوحة لاتينية في فيله دفعة من الحماس الوطني، ويذكر النص كيف أن كورنيليوس حاكم مصر
في عهد أغسطس، أخضع وادي النيل للحكم الروماني حتى جزيرة فيله — وعندما لاحظ
ماسبيرو أن كورنيليوس وُلد على أرض غالية:
«تذكر على الفور النصوص الأخرى الأحدث التي نجدها على الجهة الداخلية من بوابة
فيله الكبيرة، فبعد مرور ١٨ قرنًا على الغالي كورنيليوس، جاء غاليون آخرون إلى
النوبة صدفة، وحاولوا أن يتركوا تذكارًا لوجودهم هناك، فنقشوا على الصخر كيف أنه في
العام السادس للجمهورية يوم ١٢ ميسيدور، نزل الجيش الفرنسي إلى الإسكندرية بقيادة
بونابرت، وبعد ذلك بعشرين يومًا حارب المماليك عند الأهرام، وقام ديزيه — قائد
الفيلق الأول — بدفعهم جنوبًا إلى ما وراء الشلال الذي بلغه في ١٨ من نيفوس، العام
السابع للجمهورية.
ويجب أن يرى المرء في رحلة دينون، ومجلدات وصف مصر كيف أكسبتهم ذكريات الماضي
القديم حيوية وقوة، والاعتزاز والفخر الذي شعروا به وهم يرفعون أعلامهم فوق الصخور
التي قامت عندها الفرق الرومانية بإنجاز ما كان من قبيل المستحيلات …»
٢١
آراء المسلمين عن الإغريق والرومان قبل الطهطاوي
لم يكن الأدب اليوناني واللاتيني القديم يمثل «الكلاسيكيات» عند مسلمي العصور
الوسطى، وكان بونابرت يعلم جيدًا أكثر من علمه عن الظهور أمام المصريين بمظهر
الإسكندر أو قيصر، فبدلًا من ذلك جعلته دعايته العربية — دون نجاح — يبدو كمسلم
معاد للكهنوت، هاجم البابا العدو اللدود للإسلام، وأنه صديق للسلطان العثماني، وأن
هدفه الوحيد تحرير مصر من طغيان المماليك.
ولم يكن ذلك يرجع إلى جهل الجبرتي ورفاقه من علماء الأزهر بالحضارة
اليونانية-الرومانية. فقد كانت الترجمات العربية الأولى من الفلسفة اليونانية،
والعلوم، والرياضيات أساسية في تحقيق التقدم الإسلامي في تلك الميادين، وأصبح
المنطق الأرسطي أداة ضرورية للفقه الإسلامي.
٢٢ ونسج الأدب الإسلامي روايته الخاصة لأسطورة الإسكندر. ولكن مسلمي
العصور الوسطى لم يرثوا الدراما أو الأساطير اليونانية (الميثولوجيا)، كما لم
يهتموا بالتاريخ الباكر لليونان، فقبل الفتوح الإسلامية كانت المدارس المسيحية قد
أهملت هذه الجوانب باعتبارها وثنية. وعلى أي حال، جلب العرب معهم من الجزيرة
العربية تراثهم الشعبي وأشعارهم، والدين الجديد. ولذلك لم تظهر ترجمة الإلياذة إلى
العربية في بغداد على عهد هارون الرشيد عام ٨٠٤، ولكنها ظهرت في القاهرة أيام كرومر
عام ١٩٠٤م.
٢٣
ولم يشعر المسلمون الأوائل بتهديد من جانب الوثنية اليونانية-الرومانية، فقد
انقضى أجلها قبل زمانهم. وفي القرن الحادي عشر، ذكر البيروني في كتابه عن الهند
آلهة اليونان والهنود. وهكذا استطاع المسلمون أن يرشدوا ما أخذوه عن اليونان
الوثنية، فأهملوا الفكر الديني المشرك لعدم قدرة الناس على التفكير فيه بشكل مجرد
بحيث يضمون اليونان إلى فئة الصابئة التي ورد نص قرآني بشأنها وضعها في عداد
المؤمنين بالله، أو النظر إلى الأفلاطونيين الجدد على أنهم موحدون على نمط التراث اليهودي.
٢٤
ويعد مؤرخو العصور الوسطى من المسلمين بتواريخهم عن عصور ما قبل الإسلام عن
اليهود، والنصارى، والوثنيين العرب والتراث الفارسي. ولم يكن الطبري يعرف شيئًا عن
تاريخ اليونان قبل فيليب ملك مقدونيا، واكتفى بذكر البطالمة في قائمته، وبدأت
معرفته بالتاريخ الروماني بيوليوس قيصر الذي جاء بالرومان إلى مصر. وقطع استرسال
الطبري في سرد قائمة الملوك من هرقل؛ فالمسيح وُلد في عهد أغسطس، ونيرون قام بذبح
بطرس وبولس، وقام تيتيوس بسحق ثورة اليهود وتحطيم بيت المقدس.
٢٥
ولم يكن للاتينية جذور — على الإطلاق — في شرق البحر المتوسط الذي صارع المسلمون
البيزنطيين للسيطرة عليه، وليس ثمة استثناء واحد لنصوص لاتينية تمت ترجمتها إلى
العربية في العصور الوسطى.
٢٦ وعند معظم المسلمين كانت «الروم» و«قيصر» ترتبط بالبيزنطيين، وليس
بالرومان الذين اختفوا من الوجود في الغرب.
اليونان وروما القديمة عند الطهطاوي
أبدى الجبرتي إعجابه بمكتبة «المجمع العلمي المصري»، ولكن مر جيل قبل أن يصبح شيخ
أزهري آخر في وضع يمكنه من أن يقدم لأبناء بلاده اللمحات الأولى عما كان يعنيه
اليونان والرومان عند الأوروبيين، ونتيجة انكبابه على الكتب التي أوصاه معلمه
الفرنسي بقراءتها في العشرينيات من القرن التاسع عشر، التقى رفاعة الطهطاوي
باليونان والرومان عند كل منعطف. فقرأ كتابًا عن فلاسفة الإغريق، وتاريخًا يتضمن
فصولًا عن الأساطير اليونانية «زمن جاهليتهم»، وكتاب مونتسكيو «ملاحظات حول أسباب
عظمة الرومان وانحطاطهم»، وكتاب فينلون «مغامرات تليما خوس»، وكانت الكتب التي
اختار الطهطاوي قراءتها: راسيين، وروح القوانين لمونتسكيو، والقاموس الفلسفي
لفولتير، والعقد الاجتماعي لروسو، كانت جميعًا تتناول تلميحات كلاسيكية.
٢٧
وقدم العلماء الفرنسيون هدية لتلميذهم اللامع، كتاب جان جاك بارثلمي «رحلات الشاب
أناخارسيس في بلاد اليونان في منتصف القرن الرابع قبل العصر المسيحي» ويقع في خمسة
مجلدات (باريس ١٧٨٨م)، وكان هذا الكتاب المعبِّر عن الميل إلى اليونان، والذي طواه
النسيان رغم أنه كان واسع الانتشار في زمانه، كان يروي قصة خيالية لرحلة في بلاد
اليونان قام بها شاب من ثسيا (عند بحر الأدرياتيك)، يلتقي خلالها أفلاطون وأرسطو
وغيرهما من حكماء اليونان، وقام الطهطاوي — فيما بعد — بتوزيع الكتاب على تلاميذه
لترجمته إلى العربية، ولكن المشروع لم يقدر له التنفيذ.
٢٨
وعندما تولَّى الطهطاوي نظارة قلم الترجمة في عهد محمد علي، ثم في عهد إسماعيل،
اختار من الكتب التي تترجم إلى العربية تاريخ الفلسفة اليونانية، وكتاب مونتسكيو عن
أسباب عظمة الرومان وانحطاطهم، وكتاب في تاريخ الشرق الأدنى القديم، واليونان والرومان.
٢٩
لقد لفت كتاب الطهطاوي «أنوار توفيق الجليل» الذي نشر عام ١٨٦٨م، الأنظار إلى مصر
الفرعونية.
٣٠ ولكنه خصص للعصور اليونانية والرومانية والبيزنطية ضعف ما خصصه للعصر
الفرعوني من صفحات الكتاب. واتخذ الطهطاوي موقفًا متعاطفًا مع اليونان منذ أيام
الأسرة السادسة والعشرين، عندما جاءوا إلى مصر كجند مرتزقة. ورأى أن بلاد اليونان
تعكس كل الحضارات القديمة — بابل، وآشور، وفينيقيا، وفارس، والهند — ما عدا الحضارة
المصرية. واتخذ موقفًا مماثلًا للكتاب الأوروبيين في القرن التاسع عشر عندما نقل
حكاية هيرودوت عن سيزوستريس (رمسيس الثاني) وغزواته الواسعة في أوروبا وآسيا، كذلك
الحكايات الإغريقية عن وجود جاليات مصرية في عصر ما قبل التاريخ ببلاد اليونان،
وأعلن الطهطاوي — ببساطة– «إن اليونان شقيقة لمصر».
٣١
وسار الطهطاوي على نهج الإغريق في الهجوم على فرس الأسرة السابعة والعشرين
باعتبارهم طغاة، هاجموا الكهنة والمعابد المصرية. ذكر أن الأسرات من الثامنة
والعشرين حتى الثلاثين حكمت «الوطن» المصري مستقلة، ثم ما لبثت مصر أن وقعت — مرة
أخرى — في يد الفرس، ومهد ذلك السبيل للإسكندر والبطالمة ليلعبوا دور المحررين،
واستقبل كهنة سيوة الإسكندر باعتباره ابنًا لآمون رع. وامتدح الطهطاوي الإسكندر
والبطالمة لبنائهم المعابد للمصريين ولآلهة اليونان، وبنائهم الإسكندرية كمركز
اتصال يربط أفريقيا وآسيا وأوروبا. وذكر أنه خلال عصر الإسكندر الأكبر والبطالمة
وأيام الحكم الروماني السوداء، كانت مصر تحظى بالاحترام لتأثيرها المعنوي والثقافي.
وكانت الإسكندرية مقرًّا للكثير من العلماء والأدباء والفلاسفة الذين برعوا في
مختلف العلوم. وخاصة في دراسة العادات والتقاليد، ونشرت ثقافتها بين جميع الأمم،
وكانت معارفها نافعة للمقيمين فيها والوافدين إليها.
٣٢
ويشير الطهطاوي إلى أن مصر ازدهرت — خاصة — في عهد أول ملكين من ملوك البطالمة.
وقد كتب مانيتو تاريخ مصر القديم باليونانية، وترجم اليهود التوراة إلى اليونانية،
وأعيد شق القناة التي ربطت النيل بالبحر الأحمر، وأقيمت المنارات والمدارس ومكتبة
الإسكندرية. وعندما ذكر حجر رشيد الذي يحمل أمرًا أصدره بطليموس الرابع، عرج
الطهطاوي على شامبليون وفك رموز الهيروغليفية، وعندما تناول فكرة كلوديوس بطليموس
عن مركزية الأرض للكون، أرجع الطهطاوي مركزية الشمس إلى فيثاغورس وكوبرنيكس
والأوروبيين المحدثين، ولكن حذر من أن ذلك يتناقض مع ما جاء بالقرآن.
٣٣ وذكر أن صراعات البطالمة المتأخرين أضرت بمصر، وإن كانت نخبة من
الإغريق كانت تفرض حكمها على المصريين.
ومر الطهطاوي على التاريخ الروماني من رومولوس وريموس إلى يوليوس قيصر في صفحة
واحدة، ولا يكاد يذكر الحروب البونية. ولم يبدِ الطهطاوي أي عطف على آخر ملوك
البطالمة، على عكس الشاعر أحمد شوقي الذي صور كليوباترا في روايته الشعرية «مصرع
كليوباترا» (عام ١٩٢٨م) على أنها كانت وطنية مصرية تعمل على تخليص بلادها من السيطرة
الرومانية. وبذل جهدًا في تبرئة الخليفة عمر بن الخطاب من تهمة حرق مكتبة
الإسكندرية، فذكر أنها أحرقت فعلًا عند حصار يوليوس قيصر للثغر.
٣٤ ورغم التسامح الديني الذي اتبعه الرومان وبنائهم المعابد حتى النوبة
جنوبًا، اعتبرهم الطهطاوي مستغلين ينشدون الاستيلاء على ثروة مصر. وعلى كلٍّ، لم
يسر الطهطاوي على نهج الغرب — بشكل نمطي — في تقدير الأباطرة؛ فالإمبراطور هادريان
— مثلًا — كان جيدًا، وشهدت مصر الرخاء في عهده.
٣٥
ويذكر الطهطاوي مولد عيسى بن مريم في عهد الإمبراطور أغسطس، ولجوء العائلة
المقدسة إلى مصر، ونفي القرآن لما يعتقده المسيحيون من موت المسيح وقيامته، وبين
كيف أن المسيحية حلت تدريجيًّا محل ديانة «الصابئة» المصرية القديمة. ويشير إلى
اضطهاد الرومان للمسيحيين، وتحول الإمبراطور قسطنطين إلى المسيحية، وبداية الأسرة
الخامسة والثلاثين التي حكمت الإمبراطورية من القسطنطينية حتى الفتح الإسلامي، مع
تولي ثيودوسيوس الحكم وتحريمه عبادة الآلهة القديمة.
٣٦
كان كتاب «أنوار توفيق» وكتاب «نهاية الإيجاز» الذي أعقبه يغطيان مقرر التاريخ في
السبعينيات من القرن التاسع عشر الذي كان يتعلمه طلاب المدرستين التحضيريتين — رأس
التين بالإسكندرية، ودرب الجماميز بالقاهرة — بالفرقة الثالثة. وكان مقرر الفرقة
الأولى يغطي تاريخ مصر والشرق الأدنى القديم، والفرقة الثانية يغطي تاريخ اليونان
والعصر الهلِّينستي وعصر الجمهورية الرومانية ثم أوائل عصر الإمبراطورية الرومانية.
وكان مقرر الفرقة الثالثة يتناول تاريخ الإمبراطورية الرومانية حتى اعتلاء
ثيودوسيوس العرش، وغزو البرابرة، وتاريخ ما قبل الإسلام، وتاريخ أوائل العصر
الإسلامي، كذلك يتضمن تاريخ الأندلس وصقلية الإسلامية. أما الفرقة الرابعة فكانت
تدرس التاريخ الإسلامي في العصور الوسطى والحروب الصليبية، والدولة العباسية،
والمماليك حتى الغزو العثماني.
٣٧ ورغم أن مقررات التاريخ أسقطت مصر بعد عام ١٥١٧م، ومعظم آسيا، والتاريخ
الأفريقي والأمريكي، فقد فتح مجالًا واسعًا للرؤية أمام المصريين المحدثين.
وكان مقرر التاريخ في السنوات الأربع بدار العلوم يعطي اهتمامًا بعصر ما قبل
الإسلام، واهتمامًا أكبر بالتاريخ العثماني بعد عام ١٥١٧م، وتاريخ أوروبا الحديث.
وفي تقرير عن عام ١٩١١م، وجه اللوم إلى دار العلوم لتركيزها على التاريخ الأوروبي
على حساب التاريخ الإسلامي.
٣٨
وقد تناول الطهطاوي اليونان وروما القديمة في أعمال أخرى غير كتابه «أنوار توفيق
الجليل»؛ ففي مقال نشر في «روضة المدارس» عن عادات اليونان والرومان، قرر الطهطاوي
أن معاملة النساء هي معيار تقدم المجتمع.
٣٩ وفي عام ١٨٦٩م كلف الخديو إسماعيل الطهطاوي بالإشراف على ترجمة رواية
أوفنباخ «هيلانة الجميلة» ليتم تمثيلها على المسرح الكوميدي بالقاهرة.
٤٠
وفي كتابه «مناهج الألباب المصرية في مباهج الآداب العصرية» مزج الطهطاوي بين
معرفته باليونان والرومان والفراعنة، بما استمده من القرآن والحديث والمصادر
الإسلامية الأخرى، فأشار إلى سولون والإسكندر والبطالمة، وامتدح وطنية البطالمة،
والرومان، وأبطال الإسلام، وذكر الحديث القائل: «حب الوطن من الإيمان» ليربط بين
الإسلام والوطنية عند مواطنيه، كما أورد المثل القائل: «مصر أم الدنيا.»
٤١
ورغم تبريره لإقدام محمد علي على سحق ثورة اليونان من أجل الاستقلال، على أساس أن
اليونانيين هاجموا المسلمين والمساجد، اعتقد أن هجرة اليونانيين إلى مصر سوف تؤدي
إلى رخائها كما حدث في الماضي، وربط بين محمد علي والإسكندر، فكلاهما وُلد خارج مصر،
وجاء إليها ليحكمها حكمًا يقوم على التسامح والعدل.
٤٢ وبعد أن تناول حكم أسرة الإسكندر الثانية والثلاثين، أو «الأسرة
المقدونية الأولى» قال إن الله أكرم مصر بفاتح مقدوني آخر هو محمد علي باشا.
٤٣ وربما كان عليه أن يذكر أن (بلَّا) — بلدة الإسكندر — كانت تقع على بعد
مائة ميل فقط من قولة التي جاء منها محمد علي.
اليونان والإيطاليون ونهضة الإسكندرية في القرن التاسع عشر
كانت الخبرة المقدونية — العثمانية التي اكتسبها محمد علي في شبابه — في بلاده
الأصلية — قد جعلته على دراية بعالم التجارة والسياسة في البحر المتوسط. لقد نقل
البطالمة والرومان عاصمة مصر نحو ساحل البحر إلى ثغر الإسكندرية، ولكن الحكام العرب
أعادوها إلى الداخل في الفسطاط (قرب القاهرة)، التي وقعت فيما بين منف وعين شمس.
وعندما وصلت حملة بونابرت إلى الإسكندرية كانت قد اضمحلت، وهبط سكانها إلى ٨٠٠٠
نسمة. وعمل محمد علي على إحياء الثغر باعتباره بوابة مصر إلى الاقتصاد العالمي الذي
تتحكم فيه أوروبا، وذلك مع الإبقاء على القاهرة عاصمة للبلاد. وبنى «المقدوني
الثاني» قصرًا في رأس التين، كان يقضي فيه جانبًا من وقته، وسخَّر الفلاحين في حفر
ترعة المحمودية لمد الإسكندرية بالماء العذب من النيل، وإقامة خط اتصال نهري يربطها
بالنيل، كما بنى أسطولًا بحريًّا في الترسانة التي أقامها هناك، وأرسل منها قواته
لإخماد الثورة في بلاد اليونان التي قامت ضد الحكم العثماني، وبدأ الاهتمام بزراعة
القطن باعتباره محصولًا نقديًّا يمكن استخدامه في سداد قيمة الواردات
الأوروبية.
وفي العام ١٨٢١م، كانت الإسكندرية لا تزال مدينة صغيرة، يتراوح تعداد سكانها بين
١٢ و١٣ ألف نسمة، وعند نهاية حكم محمد علي — عام ١٨٤٨م — وصل تعدادها إلى ١٠٤ ألف
نسمة، وعند وقوع الاحتلال البريطاني — عام ١٨٨٢م — كان قد بلغ ٢٣١ ألف نسمة، وعند
استقالة كرومر عام ١٩٠٧م، كان التعداد قد وصل إلى ٤٠٣ ألف نسمة. وتغيرت تبعًا لذلك
نسبة الأوروبيين والمتمتعين بحمايتهم بين سكان المدينة، من أقل من ٥٪ عام ١٨٤٨م إلى
٢٥٪ عام ١٨٨٢م.
٤٤ واستمدت النخبة التجارية، التي اجتذبها الاقتصاد المزدهر، شرعيتها
بالإسكندرية من الماضي اليوناني-الروماني، تمامًا كما حدث في إيطاليا عصر النهضة،
وعلى كلٍّ، كانت غالبية ملوك التجارة بالإسكندرية من الأجانب تقريبًا، وكان هؤلاء
هم الذين يعتبرون أنفسهم استمرارًا للماضي القديم للإسكندرية، وليس
المصريين.
وكان اسم الإسكندرية ذاته يبقي على ذكرى مؤسسها حية في الأذهان، ومع وجود الآثار
اليونانية-الرومانية مطمورة هناك، كان التراث الكلاسيكي أكبر حجمًا منه بالقاهرة.
وعلى كل فقد كانت الفسطاط والقاهرة الفاطمية إسلاميتين من حيث النشأة، وكان
الأوروبيون يمثلون ٥٪ من سكانها عام ١٨٩٧م،
٤٥ وهي نسبة لا تقارن بالوجود الأوروبي بالإسكندرية. وحجبت الآثار
الإسلامية بالقاهرة، والآثار الفرعونية بالجيزة على مقربة منها، الأثر الروماني
المتمثل في حصن بابليون بمصر القديمة.
وكان اليونانيون يمثلون أكبر الجاليات الأوروبية بالإسكندرية، فبلغت نسبتهم إلى
الرقم الإجمالي للأجانب ٣٣٪ عام ١٨٩٧م، و٤١٪ عام ١٩٠٧م.
٤٦ وفي الإسكندرية — كما في غيرها من المدن المصرية — أصبح اليونانيون
منتشرين في تجارة البقالة، والحانات، وعملوا كمرابين يقرضون الأموال للفلاحين،
ووسطاء في تجارة القطن. وجاء نمو الوجود اليوناني وانتعاش أحوال الجالية اليونانية
تحت مظلة الحماية التي وفرتها لهم أسرة محمد علي، والقناصل الأوروبيين، ثم الاحتلال
البريطاني، في حين كانت اليونان المستقلة تعاني الضعف والانقسام، مشغولة بالبلقان
وبحر إيجة والأناضول، عن التفكير في إحياء ادعاءاتها الإمبريالية في مصر، مكتفية
بالحصول على حقوق الامتيازات الأجنبية عام ١٨٥٤م، وعلى مقعد بمحكمة الاستئناف
المختلطة عام ١٨٨٩م.
ووجد اليونانيون في مصر أنه من الصعوبة بمكان تخليص تراثهم القومي من
الأرثوذكسية، وتراثهم الكلاسيكي من الحنين إلى بيزنطة، تمامًا كما حدث لمواطنيهم في
اليونان المستقلة حتى القرن العشرين.
٤٧ فقد كان اليونانيون المقيمون بمصر في القرن الثامن عشر يرون أنفسهم —
ببساطة — كأفراد ينتمون إلى «الملة» الأرثوذكسية اليونانية، التي كان لها
بالإسكندرية بطريركية، وكنيسة، ودير، وتكية، وخان للمسافرين.
وأصبحت الهوية اليونانية أكثر تعقيدًا مع استقلال اليونان عام ١٨٣٠م، وفتحت
اليونان قنصلية لها بالإسكندرية عام ١٨٣٣م. وبعد ذلك بعشر سنوات تكونت الجالية
اليونانية الأرثوذكسية بصفة رسمية، وتم انتخاب مسئوليها، وإقامة مدرسة، ومستشفى.
وعبثًا حاول البطريرك اليوناني الاحتجاج خشية أن يؤدي ذلك إلى تناقص سلطته. وجاء
اختيار الطراز القوطي الحديث — وليس البيزنطي — لكنيسة إيفانجليموس التي بدأ العمل
بها عام ١٨٤٤م بالإسكندرية وتم عام ١٨٥٦م، جاء ذلك الاختيار ليعكس الاتجاه نحو الغرب.
وفي العام ١٨٨٧م، غيرت الجالية اسمها إلى «الجالية الهلِّينية» لتميز نفسها عن غيرها
من رعايا الكنيسة الأرثوذكسية اليونانية من العرب. وسارت الجالية اليونانية
بالقاهرة على نفس الدرب، ولكن بخطى أبطأ فكونوا الجالية الأرثوذكسية اليونانية عام
١٨٥٦م ثم أعادوا تسميتها بالجالية «الهلِّينية» عام ١٩٠٤م.
وحتى قيام الأتراك بطرد اليونانيين من الأناضول عام ١٩٢٣م، كان اليونانيون
السكندريون — مثلهم في ذلك مثل مواطنيهم ببحر إيجة — تداعبهم أحلام إقامة (إيديا
الكبرى) أي إعادة تكوين الإمبراطورية البيزنطية بشرق البحر المتوسط والبلقان. أما
سكان بلاد اليونان أنفسهم، فكانوا منقسمين من بين من أضناهم الحنين إلى الماضي
البيزنطي، ومن يحلمون بالعصر الذهبي لليونان القديمة في القرن الخامس قبل الميلاد
الذي خلب لب أهل الغرب. ولكن اليونان السكندريون — مثل الشاعر قسطنطين كفافي —
كانوا يحنون إلى العصر البطلمي الهلِّينستي
٤٨
وكان من بين اليونان السكندريين المهتمين بالآثار الطبيب تاسوس ديمتريوس نيروتسوس
(١٨٢٦–١٨٩٢م)، والتاجران الكبيران الكونت إستيفان زيزنيا (١٧٩٤–١٨٦٨م)، والسير جون
أنطونيادس (١٨١٨–١٨٩٥م). درس نيروتسوس الطب بجامعة ميونخ، ولكنه — أيضًا — أعد رسالة
عن أسماء آلهة الرومان، وألقى أوراقًا بحثية عن الإسكندرية القديمة أمام «المجمع
العلمي المصري»، وأهدى إلى المجمع مجموعة الآثار الخاصة به. ولكن انتقال المجمع إلى
القاهرة أدى إلى ضعف مشاركة اليونانيين فيه بعد وفاة نيروتسوس.
٤٩ وتمثلت في زيزنيا الهوية القومية المركبة عند بعض السكندريين المنفحتين
على العالم. وُلد زيزنيا بجزيرة خيوس، وحصل على الجنسية الفرنسية أثناء عمله في
مارسيليا، ولكنه أصبح رئيسًا للجالية اليونانية بالإسكندرية، وقنصلًا عامًّا
لبلجيكا. ومنحت الملكة فيكتوريا وسام الفارس لأنطونيادس — الراعي الرئيسي للمتحف
اليوناني-الروماني — الذي ترك قصره وحديقته لبلدية الإسكندرية.
٥٠
وكانت الإسكندرية قد فقدت بعض المجموعات الرائعة من آثارها اليونانية-الرومانية
التي ذهبت إلى أثينا وإلى غيرها من البلاد، ولكن جليمونوبولو أعلن عام ١٩٠٧م أن
مجموعته «تخص — من ناحية الحق — متحف الإسكندرية؛ لأنه تم العثور عليها في مصر، وتم
الحصول عليها لأغراض علمية بأموال اكتسبت من نفس البلد الكريم المضياف، ولهذا السبب
أرسلها إلى مستقرها، ولا أعد ذلك هبة مني، ولكنه ببساطة ردها لأصلها.»
٥١
وأسست بالإسكندرية عام ١٩٠٩م «جمعية رجال علم الهلِّينية بالإسكندرية بطليموس
الأول»، لتخليد ذكرى مؤسس الأسرة البطلمية، كان أعضاؤها من الأطباء. وفي القاهرة
أُسِّست «جمعية هللنيون» — التي لم تعمر طويلًا — وحملت اسم معبد قديم أقيم في
نوكراتيس بالدلتا حيث جاء مستوطنوها من ست مدن يونانية جمعتهم أرومة واحدة.
٥٢
واتجه نستور جناكليس — ملك تجارة وصناعة التبغ — إلى محاولة استرجاع حضارة شمال
أفريقيا اليونانية التي قرأ عنها في النصوص القديمة. وما زالت مزرعة كروم جناكليس
قرب الإسكندرية — التي أممها عبد الناصر وتم تخصيصها أخيرًا — تنتج نوعان من النبيذ
أحدهما: فيض البطالمة، والآخر الملكة كليوباترا. وقد أنقذ غياب الزراعة المعتمدة
على المطر مصر من التعرض للخسارة الفادحة — مثلما فعل الفرنسيون — جريًا وراء وهم
أن شمال أفريقيا كان مصدر إمداد روما بالغلال، فقد فشل الفرنسيون في تحويل المغرب
إلى مصدر رئيسي للغلال.
٥٣
وكان للإيطاليين حضور قوي في المركز الثاني بعد اليونانيين بين المقيمين الأجانب
بالإسكندرية (إذ بلغت نسبتهم ٢٥٪ من إجمالي المقيمين الأجانب عام ١٨٩٧م).
٥٤ وكان الإيطاليون يعملون بالبناء، والحرف اليدوية، وإصلاح الآلات
الميكانيكية، وكانت الأسرة الحاكمة — من إسماعيل حتى فؤاد — تتخذ مستشاريها من
الإيطاليين الذين كانوا يحتلون مكانهم بين رجال الحاشية. ولما كانت إيطاليا ضعيفة،
تحتل المركز السادس بين دول أوروبا فلم يكن لديها أمل في التطلع لإشباع ميولها
الإمبريالية في مصر. وبعد أن أزاحتها فرنسا من تونس، ولحقت بها هزيمة منكرة في عدوا
بالحبشة عام ١٨٩٦م، لم يبق أمام إمبراطورية روما الجديدة التي تحلم بها إيطاليا سوى
ليبيا وإرتريا — التي قامت بإحياء أسماءها القديمة — وكذلك جزء من الصومال. وقام
موسوليني وحده بإرساء نظامه الفاشي على رموز رومانية، وحلم — فيما بعد — بغزو مصر.
٥٥
وأكدت إدارة المتحف اليوناني-الروماني — التي ظلت بيد الإيطاليين لمدة نصف قرن —
الادعاءات الإيطالية الحديثة بنسبة تراث الإسكندرية القديم إليها. فقام عدد من
أعيان الجالية الإيطالية السكندرية بجمع الآثار اليونانية-الرومانية والفرعونية،
تداعب أحلامهم ذكريات يوليوس قيصر، ومارك أنطونيو، وأغسطس، وهادريان. وعلى سبيل
المثال، قام بيترو يوجيولي (١٨٣١–١٩٠٢م) بتكوين مجموعة، بعثرت فيما بعد بين متاحف
القاهرة، وبولونا، وفيينا، ونيويورك.
٥٦
وجاءت الجاليتان البريطانية والفرنسية في المركزين الثالث والرابع — بعد اليونان
والإيطاليين بفارق كبير — بالإسكندرية عند نهاية القرن.
٥٧ (وكان الكثير ممن ذكروا بالتعداد كبريطانيين في حقيقة الأمر مالطيين،
كما كان الكثير ممن ذكروا كفرنسيين من التوانسة والجزائريين). ولكن الاحتلال
البريطاني لمصر، والمكانة الثقافية لفرنسا، وهيمنة الفرنسيين على مصلحة الآثار،
أعطى لآراء رعاياهما في مجال الآثار وزنًا لا يستهان به.
محمود الفلكي، حفائر وخرائط الإسكندرية القديمة
كان محمود الفلكي (١٨١٥–١٨٨٥م) المصري الوحيد الذي حظي باعتراف الأوروبيين بعلمه —
قبل الحرب العالمية الأولى — في مجال الكلاسيكيات، رغم أنه لم يتخصص — مثلهم — في
اليونانية واللاتينية. وكان محمود الفلكي عالمًا تتسع دائرة اهتمامه اتساعًا
كبيرًا، شأنه في ذلك شأن الطهطاوي وعلي مبارك.
لقد كان محمود أحمد حمدي الفلكي مصريًّا كعلي مبارك، صعد من أصوله الريفية عن
طريق المدارس الحديثة التي أقامتها الدولة حتى وصل إلى الوزارة، في وقت كانت فيه
النخبة التركية — الشركسية تحتكر السلطة. ترك قريته بالدقهلية ليلتحق بالمدرسة
البحرية التي أقامها محمد علي بالإسكندرية، ثم بمدرسة المهندسخانة بالقاهرة، وبدأ
عمله بالتدريس بالمدرسة الأخيرة عام ١٨٣٩م، الذي شهد التحاق علي مبارك بها طالبًا،
فتعلم الأخير على يديه (ولم يكن قد أضيفت صفة الفلكي إلى اسمه بعد)، وذهب علي مبارك
إلى فرنسا ليكمل دراسته هناك، وعاد ليكسب ثقة عباس الأول. ويعزي إلى مبارك فضل
إقناع عباس بإيفاد معلمه السابق محمود أحمد حمدي إلى فرنسا لدراسة الفلك، وكان —
عندئذٍ — في الخامسة والثلاثين من عمره، وكان إسماعيل مصطفى — واحد من اثنين أوفدا
معه في هذه البعثة — حريصًا على إضافة صفة «الفلكي» مثله بعد العودة من فرنسا، وقد
قضى محمود أحمد حمدي أربع سنوات بمرصد باريس، وخمسًا أخرى تنقل فيها بين مراصد
أدنبره، وبرلين، وفيينا، ودابلن، وبروكسل، قبل أن يعود إلى مصر، وهو في منتصف
الأربعينيات من عمره ليصبح مسئولًا عن مرصد العباسية.
٥٨
وانفرد محمود الفلكي بين العلماء المصريين في عصره بنشر بحوثه في مجموعة متنوعة
من المجلات العلمية الأوروبية، ومثل مصر في المؤتمر الجغرافي الدولي المنعقد بباريس
عام ١٨٧٥م، وفي البندقية (فينسيا) عام ١٨٨١م. ويبدو أن محمود الفلكي قُبل بالإجماع
الأوروبي الواضح الذي يذهب إلى أن أوروبا كانت المركز العالمي «للعلوم البحتة»، وأن
على علماء بلاد الأطراف أن يركزوا جهودهم على الأعمال الثانوية مثل جمع المادة، وحل
المسائل التطبيقية. فكانت مساهماته لا تتصل بالفلك تحديدًا، ولكنها تتعلق بمجالات
عملية مثل: الطقس، الجيوديسيا (دراسة شكل وسطح الأرض)، المغناطيسية الأرضية،
الكرونولوجيا (التحقيب الزمني)، وعلم الخرائط، والآثار. وناقش تثليث الهرم مع فلندر
بتري، ونشر بحثًا حول الموضوع. وقام بإجراء حفائر بالإسكندرية، ورسم خريطة للمدينة
في العصور القديمة، واهتم المستشرقون بدراسته للتقويم الإسلامي.
ولم ينافسه أحد من معاصريه المصريين في الأنشطة التي قام بها في «المجمع العلمي
المصري» الذي يهيمن عليه الأوروبيون، أو في «الجمعية الجغرافية الخديوية»، أو «لجنة
حفظ آثار الفن العربي»، فكان نائبًا للرئيس في المجمع، ورئيسًا للجمعية الجغرافية،
التي ألقى بها محاضرات، على عكس غيره من قيادات الجمعية. وعكف محمود الفلكي على رسم
خريطة للدلتا لمدة عشر سنوات، طبعت بمطبعة بولاق عام ١٨٧١م.
وأجرى حفائر بالإسكندرية في موسم ١٨٦٥–١٨٦٦م في محاولة للكشف وإيضاح نقاط لتحديد
خريطة المدينة في العصور القديمة، ونشر النتائج التي توصل إليها بمجلة المجمع
العلمي المصري، وفي كوبنهاجن.
٥٩ ولم يهتم بذلك إلا القليل من المصريين، ولكن المشتغلين بالآثار
الكلاسيكية استخدموا عمله — منذئذٍ — كأساس لمعرفة الطبوغرافية القديمة للمدينة.
٦٠
جلادستون وكرومر والإمبريالية قديمًا وحديثًا
لولا الكلاسيكيات لكان رئيس الوزراء البريطاني الذي أمر باحتلال مصر عام ١٨٨٢م،
والقنصل البريطاني العام بالقاهرة، يفتقران إلى الفصاحة، فقد ألف وليم جلادستون
سبعة مجلدات عن هوميروس، وكان يلقي محاضرات عنه كلما التمس إلى ذلك سبيلًا.
٦١ وانتخبه مؤتمر المستشرقين الدولي التاسع، المنعقد بلندن عام ١٨٩٢م،
رئيسًا لقسم العلاقات بين الشرق والأرخبيل اليوناني.
٦٢ وكان سبعة من بين أعضاء أول وزارة شكلها جلادستون من البارزين في دراسة
الكلاسيكيات بأكسفورد وكامبردج، وكانت الاقتباسات من اللاتينية شائعة في مجلس
العموم في زمانه. وكان جلادستون، وسولسبري، ووزير الخارجية جرانفيل قد تلقوا الدرس
الأولى في الكلاسيكيات بمدرسة إيتون ثم في كريست تشيرش كولدج بأكسفورد. وفي الجيل
الثاني تأكدت سمعة أوكسفورد كمهد للإمبراطورية على يد رئيس الوزراء أسكوبث، وحاكم
جنوب أفريقيا ألفرد ملنر، ونائب الملك في الهند جورج كيرزون.
٦٣
ويذكر جلادستون الآن كمؤمن بالهيمنة الإمبريالية غير الرسمية، بسبب حديثه المضاد
للإمبريالية. فقد كان نموذجًا لرجال منتصف العصر الفيكتوري في تعظيمه لهوميروس
وتحقيره من شأن فرجيل — شاعر الإمبراطورية الرومانية — ومن شأن سيده أغسطس. ولكن
فرجيل، وأغسطس، والإمبراطورية الرسمية عادت من جديد مع «الإمبريالية الجديدة» في
أواخر القرن التاسع عشر، وبدا جلادستون العجوز بعيدًا عن الإدراك. فقد لمست نبوءة
أنخيسس بأن العظمة الثقافية من نصيب اليونان والإمبراطورية من نصيب روما، لمست
وترًا حساسًا: «فعندما كان يقرأ ذلك رجل إنجليزي ممن عاشوا في القرن الماضي، فكيف
لا ينصرف تفكيره إلى بلده؟ إلى حظ بريطانيا، أو كما اعتقد الفيكتوريون المتأخرون —
على نحو متزايد — أن القدر قد خص بريطانيا بعظمة وأعباء الإمبراطورية.»
٦٤
وكتب جون سيلي الأستاذ بجامعة كامبردج: «لا شك أنه كان ينظر في وقت ما بعدم
اكتراث إلى الإمبراطورية الرومانية لاتسامها بالطغيان، ولأنها كانت — أحيانًا —
كئيبة ونصف بربرية … (ولكن) هناك أشياء أخرى في السياسة إلى جانب الحرية، فهناك
مثلًا الجنسية، وهناك الحضارة.»
٦٥ وكلمات مثل: مستعمرة
Colony واستعمار
Colonialism وسيادة
Dominion وإمبراطورية
Empire وإمبريالية
Imperialism كلها مشتقة من جذور لاتينية.
٦٦
وبدت بريطانيا مرتدية رداءها الكلاسيكي، مدعمة بالمعرفة والقوة، تستعرض
إمبراطوريتها من فوق وزارة المستعمرات في هوايتهول.
٦٧ ولم يكن باستطاعة فوكو أن يشرح ذلك بصورة أوضح مما فعلته مجلة بانش
عندما رسمت بريطانيا في صورة أثينا وقد ارتدت خوذة مقاتل — التي أصبحت صورة نمطية لبريطانيا
٦٨ — في (كارتون) بمناسبة تكريم كتشنر كغازٍ للخرطوم عام ١٨٩٨م (انظر الشكل
٢٩).
أصاب جلادستون الإجهاد من صقور الحرب — داخل وخارج وزارته — خلال الأزمة المصرية
عام ١٨٨٢م، ولعله أقنع نفسه بأن الاحتلال المؤقت ممكن، ولكنه عندما أرسل القوات
البريطانية إلى مصر، كان يقرأ كتاب توماس ماكولاي «خطط روما القديمة» (نشر عام ١٨٤٢م).
٦٩ واستعاد كرومر معارضة سكبيو وكاتو للغزو التوسعي خشية أن يؤدي ذلك إلى
إفساد المجتمع «ولذلك ناضل الرومان، أو ناضل بعض عقلائهم بشرف ورجولة لضبط شهوة
تعظيم الذات، كما فعل السيد جلادستون، واللورد جرانفيل اللذان كافحا من أجل إزاحة
العبء المصري عام ١٨٨٢م.»
٧٠وقبل ذلك بعام واحد، اتهم صحافي بريطاني فرنسا بشن «آخر الحروب البونية»
باحتلالها لتونس.
٧١ والآن وقد أصبحت هناك حامية بريطانية على ضفاف النيل، تتحدى بريطانيا
ادعاء فرنسا أنها الوريث الوحيد للإمبراطورية الرومانية في شمال أفريقيا. وبأسلوب
مجلة «بانش» المعهود، قدمت رسمًا لكليوباترا تقف أمام قيصر الذي يحمل ملامح
جلادستون يتحير عما يفعل، بينما الجنرال ولسلي يقدم له مصر عارية الصدر. (انظر
الشكل
٣٠).
كان من الممكن أن تنسب إلى كرومر مقولة سيسل رودس المفضلة «تذكر دائمًا أنك روماني».
٧٢ وُلد كرومر في عائلة تشتغل بالمصارف — هي عائلة بيرنج — باسم إيفلن
بيرنج، وتلقى تعليمًا عسكريًّا في مدرسة وولوتيش. ومن بين خلفاء كرومر في مصر لورد
كيتشنر وريجنالد ونجت تخرجا أيضًا في وولوتيش (وكذلك شارلز جوردون)، بينما درس كل
من هنري ماكماهون والفيلد مارشال اللنبي في سائد هيرست. وقد أحس كرومر دائمًا
بالأسى لعدم تلقيه تعليمًا كلاسيكيًّا، فعلم نفسه بنفسه اليونانية واللاتينية،
وتشهد اليونانية واللاتينية التي أوردها — دون ترجمة — بكتابه «مصر الحديثة»
بانضمامه إلى زمرة من يتقنون الكلاسيكيات، وقد انتقد الرق في الإسلام بنص يوناني،
واستنكر معاملة المسلمين للنساء بنص لاتيني، وأبدى اشمئزازه من تيجران باشا — ناظر
الخارجية المصري — لأن عقليته «فرانكو — بيزنطية»، ولأنه محدود الثقافة.
٧٣
تلقَّى كرومر تدريبه الإمبريالي بالهند في الأطراف البعيدة عن العالم الكلاسيكي،
وحتى هناك كان البريطانيون يلجئون إلى التراث الكلاسيكي ليعينهم على فهم كيفية حكم الهند.
٧٤ وبعد ذلك بسنوات «في الجو الحار ولياليه الخانقة في صيف مصر، عندما كان
كل فرد يبذل ما في وسعه لالتماس نسمات الهواء البارد في أي مكان، كان كرومر وهاري
بويل (السكرتير الشرقي) يجلسان بعد تناول العشاء في شرفة القنصلية البريطانية
بالقاهرة، يقرآن بصوت عال — بالتناوب — فقرات من الإلياذة.»
٧٥
وتولى كرومر — بعد تقاعده — رئاسة الجمعية الكلاسيكية بلندن، حيث امتدح بأنه «شخص
تجمعت فيه صفات الذكاء اليوناني ممتزجًا بالقدرة الرومانية على الإدارة البناءة.»
٧٦ والكتيب الذي نشره بعنوان «الإمبريالية قديمًا وحديثًا»، يمثل نص
الخطاب الذي ألقاه بالجمعية عند توليه رئاستها. وكتب اثنان من معاصري كرومر — أيضًا
— كتبًا قارنوا فيها بين الإمبراطورية البريطانية والإمبراطورية الرومانية، وكان
ناقده في البرلمان — النائب جون روبرتسون — يصر على أن الإمبراطورية أفسدت بريطانيا
تمامًا كما فعلت في روما.
٧٧
ورفض كرومر كل موازنات غير سوية بين اليونان والإمبريالية البريطانية، ونفر من
الإسكندر لأنه «لم يكن يونانيًّا حقيقيًّا … وكان غازيًا أكثر منه مؤسسًا
للإمبراطورية»، ورأى أن «الإمبرياليين البريطانيين يجدون نوعًا من السلوى في أن ما
تعكسه تجربة أثينا لا يمكن استخدامه في الجدل الذي يهدف إلى تأكيد أن المؤسَّسات
الديموقراطية لا تتوافق بالضرورة مع أي سياسة إمبريالية عاقلة، ولكنها تبين الآثار
الفادحة التي تترتب على ديمقراطية أصابها الجنون.»
٧٨ وقد رجع إلى الكلاسيكيات ليؤكد الفكرة الشائعة عن فقدان الشرق الإحساس
بالزمن، وتقديم دروس أخلاقية عامة: «يؤكد لنا الرومان أن المصريين يفخرون بالعلامات
الغامضة التي ساعدتهم على التدليس في الضرائب. وكما كانت الحال في زمن أغسطس كانت
كذلك في عهد إسماعيل، وقد وقع إسماعيل ضحية الغش والرعونة في استخدام القوة، فحاقت
اللعنة بالطاغوت المصري.»
٧٩
ولعب ألفرد ملنر — الذي خدم مع كرومر — بالعبارات الكلاسيكية عند وصفه لظاهرة
التناقض في مصر: «ما زالت مصر كما هي، مصر التي عرفها هيرودوت، المواطن المختار لكل
ما هو غريب، غير قابل للتفسير، ومتناقض.» وبعد بضع سنوات يسأل القارئ أن «يتخيل
شعبًا من أكثر الشعوب في العالم رقة وطيبة في قبضة أكثر الأديان عزوفًا عن التسامح وتعصبًا.»
٨٠
ولاحظ كرومر أن كلًا من بريطانيا وروما توسعتا بحثًا عن حدود طبيعية، وحققتا
الانتصار على صعاب كبيرة، وجندتا قوات من الشعوب المغلوبة، وأسبغتا السلام على
رعاياهما. وسار على نهج توماس أرنولد في القول بأن ما كان يعيب الرومان هو كونهم
غير مسيحيين، فقد كانت بيزنطة خارجة عن نطاق اهتمامه. ولذلك رأى الرومان أقل منزلة
من بريطانيا الحديثة في مسألة الرق والنزعة الإنسانية، ولم يشارك كرومر إدوارد
جيبون انبهاره بالموضوع الممل الخاص بسقوط الإمبراطورية الرومانية.
وذهب كرومر إلى أن روما استوعبت رعاياها شرق اليونان، بينما عجزت بريطانيا عن
استيعاب رعاياها الآسيويين والأفارقة، ورأى أن مرد ذلك أن روما واجهت قبائل، ولم
تواجه أممًا لديها وعي ذاتي، وأن الديانة الرومانية أفسحت مكانًا لمعبودات الشعوب
المغلوبة، بينما عجزت المسيحية عن تحقيق ذلك، كما أن الرومان واليونان لم يعرفوا
أبدًا مشكلة التحيز للون (التمييز العرقي)، وطمأن نفسه بالقول أن أيًّا من الدول
الأوروبية لم تنجح فيما فشلت فيه بريطانيا، وأنه حتى اليونانيين المحدثين لم
يتزاوجوا مع المصريين إلا نادرًا.
٨١
وأشار إلى أن «العالم لم يتغير كثيرًا في ألفي عام، … وعندما أقرأ في تاريخ
الدكتور أدولف هولم الشهير أن اليونانيين بالإسكندرية حصلوا في العهد البطلمي على
امتياز الضرب بالعصى بدلًا من الضرب بالسياط، ذكرني ذلك بأن أحفادهم، شأنهم شأن
غيرهم من الرعايا الأجانب، يتمتعون بامتيازات ذات أهمية بالغة.»
٨٢
وعندما بدأ رونالد ستورس العمل في دار المقيم البريطاني قبيل نهاية عهد كرومر،
كان يستيقظ في السادسة والنصف صباحًا ليقرأ هوميروس قبل الإفطار، ويذكر أن «الليدي
كرومر سلمتني دعوة باللاتينية تلقاها اللورد من جامعة أبردين … وطلب مني أن أعد
ردًّا على الدعوة بنفس اللغة، وتعهدت بإنجازها وأنا أشعر بالغبطة، ولم يكن لدي كتب
من أي نوع، ولكني أعددت ردًّا رومانيًّا جيدًا، وسلمته لها عندما حان وقت تناولها
الشاي. ولم تغب سوى أقل من ساعة بعد تسلمها الرد، وجاءت لتدعوني لتناول الغداء
وأخبرتني أن اللورد رأى الرد بالغ الجودة، وقد وجدت الرجل العجوز بالغ السرور بها،
وقال إنه أحس بشعور المنافق عند توقيعه لها … وقدم لي ترجمة مختارات يونانية، وتمنى
الإبقاء على اليونانية.»
٨٣
وعندما استقال كرومر أمام الضغوط الهائلة، وعاد إلى بلاده، رد على منتقديه بمقولة
يوريبيدس: «ألا ترى كيف أن البلاد، عندما تلام على رغبتها في التروي، تنظر بحدَّة إلى
من يهاجمها؟ لأنها تحقق العظمة من خلال الكدح» وحتى لا تغيب وجهة نظره عن أحد، أضاف
ترجمة إنجليزية إلى النص اليوناني الأصلي.
٨٤
وكان كرومر فخورًا كأي روماني عندما يتفوق على قصيدة يونانية، ولكن منطلقاته
الكلاسيكية ضيقت مجال الرؤية عنده. ولم يحاول الرومان تعلُّم لغات الشعوب المغلوبة
فيما عدا اليونانية، وكذلك فعل كرومر الذي كان يفخر دائمًا بأنه يعرف عن مصر كل
صغيرة وكبيرة، ولكنه لم يحاول أن يتعلم العربية.
وكغيره من الكثيرين الذين عشقوا اليونان القديمة، وجد كرومر أنه من الصعب التسامح
مع اليونانيين المعاصرين، فبعد أن أكد مرارًا أن «الكثيرين من اليونانيين ذوي
النفوذ والاعتبار» جلبوا لمصر منافع عدة، ألقى خطبة عصماء ضد: «الطبقة الدنيا من
اليونانيين التي تمارس الربا، وبيع الخمور … فاليوناني من هذه الطبقة يضحي بحياته
من أجل كسب ضئيل، فلا ينتشر المرابون والبقالون اليونان في كل قرية مصرية تقريبًا
فحسب، بل يشقُّون طريقهم في مناطق نائية كالسودان والحبشة … لقد زرت سراس جنوب وادي
حلفا عام ١٨٨٩م، وكانت عندئذٍ آخر نقاط تواجد الجيش المصري، وتقع وسط منطقة واسعة
قفرة، ولم يكن قد مضى أكثر من بضعة أيام على إقامة تلك النقطة، ورغم ذلك وجدت هناك
يونانيًّا يبيع السردين والبقسماط … في حفرة داخل الصخور اتخذ منها محلًا مؤقتًا.»
٨٥
وأعلن أن أولئك المرابين اليونانيين الذين ينتمون إلى الطبقة الدنيا «يغرون
الفلاح المصري حتى يقترض منهم بفائدة باهظة، ثم يحكمون — بعدئذٍ — قبضة القانون
عليه، ويحولونه من مالك إلى وضع القن … وبسبب أعمال اليونانيين وبتأثيرهم أقبل
الفلاحون المصريون على شرب الخمر … لقد قال السيد جلادستون ذات مرة أنه من الأفضل
للترك أن يجمعوا أغراضهم ويغادروا أوروبا … ولكنه قد يكون من الأفضل لتركيا
والولايات التابعة لها لو جمع بعض من ينتسبون إلى الطبقة الدنيا من اليونان أغراضهم
وغادروا الأراضي التركية (العثمانية).»
المتحف اليوناني-الروماني وجمعية آثار الإسكندرية
كتب فورستر: «الإسكندرية الحديثة تكاد تكون مدينة بلا روح، فهي تعتمد على القطن
والبصل والبيض.»
٨٦ فليس بالإسكندرية جامع له مكانة الأزهر، ولم تنشأ بها جامعة إلا عام
١٩٤٠م، كما أن جريدة «الأهرام» تركتها إلى القاهرة عام ١٨٩٨م.
وفيما بين ١٨٥٩ و١٨٨٠م قدم «المجمع العلمي المصري» للسكندريين — وخاصة الأوروبيين
—
منبرًا جاهزًا للحوار في الكلاسيكيات. وغالبًا ما كان المتحدثون يقدمون أوراقًا في
موضوعات يونانية-رومانية، ينشرها المجمع في مجلته، وفي الستينيات أشار المجمع إلى
حاجة الإسكندرية إلى متحف، وأسس «اللجنة الدائمة للآثار» لحماية الآثار من الدمار
الذي تتعرض له، ومن نهب الرحالة والسياح (ولكن ما لبثت اللجنة أن أثبتت أنها أقل من
أن تكون دائمة). وحصل المجمع على مجموعة متواضعة من الآثار. ورغم أن المجمع لم يحتك
إلا بقطاع صغير من النخبة الأوروبية وبعض المصريين، فإن انتقاله للقاهرة مع مكتبته
ومجموعة الآثار ترك فراغًا في الحياة الثقافية السكندرية.
٨٧
وعندما كان القس سايس في زيارة للقنصل البريطاني السير شارلز كوكسن عام ١٨٨٩م،
التقى جيسب بوتِّي مدير المدرسة الإيطالية بالإسكندرية. وكان بوتِّي منذ وصوله قبل
خمس سنوات، يقضي وقت فراغه في مطابقة الأوصاف الواردة بالمصادر الكلاسيكية على ما
بقي من آثار المدينة القديمة. وتحدث ثلاثتهم حول حاجة الإسكندرية إلى متحف. وبعد
ذلك اللقاء بعامين، أسس كوكسون — عام ١٨٩١م — بالاشتراك مع مجموعة من الأفراد
«الجمعية الأثينية» التي نجحت في حشد مجموعة من المجلس البلدي وراء فكرة إقامة متحف
يوناني روماني.
٨٨
وفي عام ١٨٩٢م عملت مجموعة من أعيان الأوروبيين والمهنيين من خلال البلدية الجديدة
لإقامة المتحف اليوناني-الروماني، ومكتبة بلدية الإسكندرية. واعترضت الحكومة على
فكرة إقامة متحف بديره «هواه»، وربما كان يوجين جريبو ومصلحة الآثار وراء ذلك
الاعتراض، ولكن الحكومة تراجعت عن موقفها في إطار تعويض الإسكندرية عن الأضرار التي
لحقت بالمدينة نتيجة مد الخط الحديدي، الإسماعيلية-بورسعيد الذي أدى إلى تحول جانب
من التجارة عن ميناء الإسكندرية، وأصدرت قرارها بالموافقة على المتحف،
٨٩ على أن تتولى مصلحة الآثار الإشراف على المتحف، وتتحمل بلدية
الإسكندرية جميع تكاليفه. وأصبح بوتِّي أول مدير للمتحف.
وكانت البلدية — التي تأسست عام ١٨٩٠م — تقع تحت سيطرة النخبة التجارية الأوروبية،
وكان نصف أعضاء المجلس الذي كان يتكون من ٢٨ عضوًا يحتلون مقاعدهم بصفتهم الرسمية
أو بالتعيين من الحكومة. وتولى التجار وأصحاب الأملاك من الأجانب انتخاب النصف
الآخر وكان ثلاثة أرباع الناخبين من الأوروبيين، وقامت البلدية بفرض رسوم أنفقتها
على البنية الأساسية للمدينة.
٩٠
وكان من الطبيعي أن يلعب مؤسسو مكتبة البلدية والمتحف اليوناني-الروماني بمشاعر
الحنين إلى الماضي القديم للإسكندرية ومكتبتها. وقام كل من المتحف الحديث وجمعية
الآثار ببناء مكتبتها العلمية الخاصة، وتركوا لمكتبة البلدية مهمة خدمة القراء
العاديين للكتب بمختلف اللغات الأوروبية. إضافة إلى اللغة العربية. وتعاقب المديرون
السويسريون على إدارة القسم الإفرنجي من المكتبة الذي كان يفوق القسم العربي من حيث
الأهمية مدة خمسين عامًا (١٨٩٢–١٩٤٣م).
٩١
وكان لأعضاء «الجمعية الأثينية» دور بارز إلى جانب اثني عشر متحمسًا، في إنشاء
«جمعية آثار الإسكندرية» عام ١٨٩٣م لتوفير الدعم للمتحف الجديد. وكانت عضوية الجمعية
تعبر عن الطابع المختلط للمدينة (الكوزموبوليتانى) وإن خلت الجمعية من المصريين،
أقباطًا كانوا أم مسلمين. وكان البريطانيون يمثلون الجانب الأكبر من
الأعضاء:
القنصل كوكسون، والأميرال بلومفيلد (مأمور الميناء)، وموظفان بريطانيان آخران،
والمصرفي جون ريفز. ومن الإيطاليين بوتِّي والمعماري مانوساردي، والسويسري نوريسون،
والمصرفي اليوناني جورج جوسيو، وجاك دي منشه اليهودي المصري الذي يحمل جنسية النمسا
والمجر، وعالم المصريات ألبرت دانينوس الذي كان يونانيًّا ذا خلقية جزائرية-فرنسية.
٩٢ وفي العام ١٨٩٧م أقامت الجمعية حفل تأبين لرئيسها جوسيو الذي مات في
الحرب العثمانية-اليونانية، ولكن عزاءهم أنه عاش ليرى «حلمًا يتحقق، فقد اتصلت
إسكندرية الخديويين الجديدة بإسكندرية البطالمة، وقد شعر بالسعادة لتحقيق هذا الحلم.»
٩٣
كان المتحف اليوناني-الروماني فريدًا في نوعه بين متاحف الآثار المصرية الأخرى من
حيث تمتعه بدعم جماعة منظمة، فقد رعت «جمعية الآثار» المحاضرات والرحلات، وبدأت عام
١٨٩٨م نشر مجلتها العلمية التي احتوت على مقالات بالفرنسية والإيطالية والإنجليزية
والألمانية، ولكن العربية واليونانية لم تلقيا قبولًا عند الأوروبيين كلغتين للبحوث
العلمية، كذلك كانت رئاسة الجمعية للأوروبيين وحدهم: بريطاني، وفرنسي، وإيطالي،
ويوناني، وإسباني، وأمريكي، وذلك من تأسسها حتى ١٩٥٢م، فلم يُنتخب أي مصري رئيسًا
لها، وإن كان الأمير عمر طوسون قد اختير رئيسًا فخريًّا للجمعية.
واتخذ المتحف اليوناني-الروماني لنفسه مقرًّا له في أحد أركان مبنى البلدية الذي
كان يقع شرقي وسط القسم الحديث من المدينة. وافتتح الخديو عباس حلمي الثاني المتحف
في ١٧ أكتوبر ١٨٩٢م، وعاد بعد ثلاث سنوات ليفتتح مبناه الجديد. وجاءت واجهة المبنى
الجديد على الطراز الدوري (الإغريقي) الكلاسيكي الحديث لتلائم الفكرة الغربية
الخاصة بالطراز المعماري الملائم للمتحف، والوسط السكندري، والآثار المحفوظة
بالمتحف (انظر الشكل ٣١)،
٩٤ وامتلأ المتحف الجديد تدريجيًّا بالآثار التي جاءت من الحفائر التي قام
بها المتحف بالإسكندرية الكبرى، والهبات التي قدمها المواطنون ذوو العقلية
الحضارية، وما تم نقله من المتحف المصري من الآثار اليونانية-الرومانية.
وتولى بوتِّي إدارة المتحف حتى وفاته عام ١٩٠٣م، قام خلالها بحفائر حول الإسكندرية
الكبرى، ونشر العديد من المطبوعات. وجاء اختيار إيفاريستو بريشيا (١٨٧٦–١٩٦٧م) خلفًا
له ليجعل من المتحف جيبًا ثقافيًّا لإيطاليا في مصر الخاضعة للاستعمار. وقد درس
بريشيا التاريخ القديم بجامعة روما، وعاون عالم المصريات إرنستو شياياريللي في
حفائره بالأشمونيين (عين شمس الكبرى)، وسار في إدارته للمتحف (١٩٠٤–١٩٣١م) على نهج
بوتِّي في القيام بحفائر من حين لآخر، وفي إصدار المطبوعات. وعندما انتقل بريشيا
أستاذًا لكرسي الآثار الكلاسيكية بجامعة بيزا عام ١٩٣١م، أبقى اختيار أخيل أدرياني
(١٩٨٢–١٩٠٥م) مديرًا للمتحف، إدارته في أيدي الإيطاليين.
٩٥
ولم تكن الخبرة بالآثار الكلاسيكية قاصرة على المتحف اليوناني-الروماني وحده، فقد
كان هناك متخصصون بهذا المجال في كل من المتحف المصري، والمعهد الفرنسي للآثار
الشرقية بالقاهرة، وفي العام ١٨٩٤م، بدأ عالم الهلِّينيات بيير جوجيه العمل على
البرديات اليونانية، واستمر ناشطًا في هذا الحقل لنصف قرن من الزمان.
٩٦
وكان «صندوق الكشوف المصري
Egypt Exploration
Fund» يتزعم العمل في استكشاف كنوز البرديات اليونانية التي
حفظتها رمال مصر الجافة من عاديات الزمان، ووضعت لائحة الصندوق الآثار اليونانية في
المرتبة التالية للعبرانية فيما يتم البحث عنه من أغراض. فقد بدأ الصندوق حفائره في
«أرض جوشن» شرق الدلتا، اهتداء بالكتاب المقدس، ولكن العثور على المدينة اليونانية
نوكراتيس — التي تلقي الضوء على فترة غامضة من تاريخ الفن اليوناني — جاء في
المرتبة الثانية من حيث الأهمية.
٩٧ وقام بتري باكتشاف نوكراتيس لحساب «صندوق الكشوف المصرية» عام
١٨٨٤–١٨٨٥م، وتابع حفائره — مستقلًّا — على مدى عقد من الزمان، فاستخرج لفافة بردية
هوميروس في هوارة، وصناديق مومياوات بطلمية مصنوعة من البردي المغطى بالنقوش في
جروب. ودخل إرنست بادج السباق للحصول على البرديات للمتحف البريطاني، فاشترى برديات
تحتوي على دستور أثينا المفقود.
٩٨
وأصبح كل من برنارد جرينفل وآرثر هانت — اللذان درسا الكلاسيكيات في كوينز كوليدج
بأكسفورد — من أبرز صيادي البرديات لحساب «صندوق الآثار المصرية»؛ ففي ١٨٩٥–١٨٩٦م
عثرا في البهنسا بالفيوم على ما يزيد على ثلاثة آلاف بردية كان أغلبها برديات
يونانية متنوعة، وكان القليل منها برديات لاتينية، وقبطية، وعربية، واستجاب الصندوق
لهذا النشاط فخصص له «حساب البحوث اليونانية-الرومانية» (الفرع اليوناني-الروماني
الآن) الذي ساند حفائرها ماليًّا لما يزيد على اثني عشر عامًا، ورتب أمر نشر ما تم
العثور عليه.
وخلال فترة الحرب العالمية الأولى التي توقفت خلالها الحفائر، نشر جرينفل وهانت
اكتشافاتهما الغنية. وما زال «مشروع نشر برديات أوكسيرنخوس» (البهنسا) — الذي قاده
إدجار لوبل — مستمرًّا حتى اليوم.
واتهم جرينفل وهانت بأن همهما الأول كان اصطياد البرديات على حساب أي شيء آخر،
فلم ينشرا خرائط المواقع التي تم العثور فيها على البرديات. ويشير من تصدوا للدفاع
عنهما أن البرديات في البهنسا كانت في أكوام من القمامة لم يبقَ فيها حجر في موضعه،
وأنه كانت لهما أولوياتهما في وقت كان فيه الحفر العشوائي يلتهم المواقع
بسرعة.
المهاجرون الشوام المسيحيون والكلاسيكيات اليونانية-الرومانية
في العام ١٩٠٢م، كان هناك أربعة مصريين فقط من بين أعضاء «جمعية الآثار»
بالإسكندرية البالغ عددهم ١٠٢ عضوًا، وكان بعض أولئك المصريين (مثل إسماعيل صدقي
باشا رئيس الوزراء فيما بعد) أعضاء بحكم وظائفهم. وكان الأمير عمر طوسون المصري
الوحيد من تسعة من أعضاء الشرف.
٩٩ ولم تكن اللاتينية أو اليونانية تدرس بأي مدرسة مصرية حكومية،
١٠٠ كما أن المصريين وجدوا صعوبة في الانتساب إلى الحقبة
اليونانية-الرومانية من تاريخهم قياسًا إلى العصور التاريخية الأخرى.
وساعد الشوام المسيحيون — حينًا من الزمان — على تقديم التراث اليوناني الروماني
للمصريين، فقد عمل هؤلاء في مجالات الترجمة، والمسرح، والصحافة، والتجارة منذ
السبعينيات من القرن التاسع عشر حتى الحرب العالمية الأولى، كانت الفرص في مصر
متاحة، كما أن صرامة الرقابة في بلاد الشام في عهد السلطان عبد الحميد الثاني أجبرت
بعضهم على الرحيل إلى مصر، وكان الشوام محل ترحيب إسماعيل ثم الاحتلال البريطاني،
فراحت أحوالهم في مصر، سواء من كان منهم مدافعًا عن الاحتلال مثل فارس نمر وجريدته
«المقطم»، أو كان معارضًا له مثل أصحاب «الأهرام» أو من كان ميالًا لفرنسا، أو من
وقف بحذر على الحياد مثل جرجي زيدان صاحب «الهلال»، وبلغ صعود نجم الشوام المسيحيين
مداه حتى العام ١٩٠٠م عندما دخل الكثير من المصريين الميادين التي كانت مرتعًا لهم.
١٠١
قام الشوام المسيحيون بترجمة، وتعريب وإخراج المسرحيات الفرنسية التي تتناول
موضوعات يونانية-رومانية. فقد جاء سليم النقاش وأديب إسحاق من لبنان منتصف
السبعينيات، وكوَّنا فرقة مسرحية بدعم من إسماعيل، وارتبطا بمجموعة جمال الدين
الأفغاني، واتجها لإصدار صحف عربية. وقام سليم النقاش بتعريب رواية لكورنيل بعنوان
«مي وهراس» تضمنت إيحاءات عن آلهة الرومان، وعندما ترجم إلى العربية الأغنية التي
كتبها أنطونيو جيلا نزوى لأوبرا عايدة لفردي، أخذ النقاش حذره بإسقاط الإشارة إلى
إيزيس وأوزيريس من الترجمة العربية، وأعلن النقاش في إهدائه العمل أن أعمال الخديو
إسماعيل فاقت أعمال الإسكندر، وخسرو، وقيصر، كما قدم شكره لأنطونيادس الثري
اليوناني على رعايته.
١٠٢
وقبل قدوم أديب إسحاق من بيروت إلى القاهرة، قام بترجمة «أندروماك» لراسين إلى
العربية في نثر مسجوع بتكليف من القنصل الفرنسي، وتعالج قصة أندروماك أرملة هيكتور
الذي قُتل أثناء دفاعه عن طروادة، ووقعت في يد بيروس ضمن سبي الحرب، ثم قتل بيروس
فيما بعد على يد أورستس. كما قام أديب إسحاق بتعريب رواية راسين «الطيبي أو الإخوة
الأعداء» لإخراجها كمسرحية عربية تم عرضها بالإسكندرية والقاهرة عام ١٨٧٨م، وفيها
يلقى أبناء أورستس حتفهم أثناء الصراع على عرش طيبة اليونانية.
وأخذ آل البستاني — البيروتيون — على عاتقهم مشروعين طموحين يتصلان بالتراث
اليوناني-الروماني هما: دائرة المعارف (ونشرت في ١١ مجلدًا بين عامَي ١٨٧٦–١٩٠٠م)،
وترجمة الإلياذة إلى اللغة العربية، وكانت مصر حاضرة في المشروعين.
١٠٣
كان بطرس البستاني (١٨١٩–١٨٨٣م) من الجيل الذي انتمى إليه علي مبارك، وكتب — مثله
— دائرة معارف تكشف عن اتساع نطاق المعرفة عنده، وقد وُلد بطرس البستاني لأسرة
مارونية لبنانية، وتعلَّم في معهد لاهوتي ماروني في عين ورقة، وتميز عن معاصره
مبارك بدراسته للاتينية، وعمل بالقنصليتين البريطانية والأمريكية في بيروت ثم تحول
إلى البروتستانتية، وقام بالتدريس في مدارس الإرسالية التبشيرية الأمريكية، وساعد
المبشرين في ترجمة الإنجيل إلى اللغة العربية، وتولى — أيضًا — تحرير مجلات عربية،
ثم أسس مدرسة خاصة به في بيروت سماها «المدرسة الوطنية»، ووضع قاموسًا
عربيًّا.
عاش بطرس البستاني حياته كلها في لبنان، ولكن مشروع دائرة المعارف الذي بدأه، كان
من بدايته حتى نهايته مشمولًا بالرعاية المصرية. فقد اعتذر اثنان من أعيان
العثمانيين عن دعم المشروع مقدمًا، ولكن الخديو إسماعيل وعد بشراء ألف نسخة من
دائرة المعارف، وأضاف ولي عهده توفيق، والوزير المصري مصطفى رياض باشا دعمهما
للمشروع. وجاء العنوان الفرنسي للموسوعة تاليًا للعنوان العربي «دائرة المعارف» على
صفحة الغلاف ليكشف عن المصادر الغربية التي استلهمها محرر هذا العمل، وقد أصدر
البستاني ستة مجلدات ببيروت، ولكنه مات عام ١٨٨٣م، فتولى ابنه سليم تحرير مجلدين
آخرين، ثم أدركته الوفاة في العام التالي، فتولى متابعة العمل اثنان من إخوة سليم
هما نجيب وأمين البستاني، وعاونهما قريبهما سليمان البستاني. وظهر المجلد التاسع
عام ١٨٩٨م، والحادي عشر عام ١٩٠٠م، وقام جرجي زيدان بطباعة المجلدين الأخيرين بمطبعة
«الهلال» بالقاهرة. وهنا توقف المشروع بعد أن غطى ثلثي حروف الأبجدية
العربية.
وركزت «دائرة المعارف» على العلوم الحديثة، والتكنولوجيا والتاريخ الأوروبي
والتاريخ العربي، وتبدأ مادة «التاريخ» بهيرودوت واليونانيين، وبذلك نقلت التاريخ
الإسلامي من مركز التميز، لتجعل منه أحد مكونات تاريخ العالم. وكان البستاني
مشايعًا للمركزية الأوروبية، فوصف أوروبا بأنها: «من أصغر القارات، ولكنها أكثرها
أهمية في تاريخ الحضارة.»
١٠٤
وكما قال ألبرت حوراني، ربما كان كاتبًا مسلمًا ممن عاشوا في العصور الوسطى يعيد
ترتيب ثيودوسيوس بين ستة مداخل وثيقة الصلة ببعضها البعض من العالم الكلاسيكي في
مجلد واحد، ويجعل المداخل الخمسة الأخرى لكلٍّ من ثيمستوكليس، وثوكيديدس، وثسييوس،
وثيوفراستوس، وثيوكريتوس.
ودعا بطرس البستاني إلى ترجمة هوميروس وفرجيل إلى العربية في وقت مبكر (عام
١٨٥٩م)، وقدم في مادة «هوميروس» بدائرة المعارف الجدل الذي دار بين الأوروبيين حول
أصالة الشاعر وتاريخيته. واستجاب سليمان البستاني (١٨٥٦–١٩٢٥م) — قريب بطرس — للدعوة
عام ١٨٨٦م، وخلال السنوات الثماني عشر التالية أنجز ترجمة الإلياذة إلى العربية
شعرًا.
وفي جولات جديرة بالأوديسة، بدأ سليمان البستاني في مدرسة البستاني «المدرسة
الوطنية» ببيروت، وعمل ترجمانًا بالقنصلية الأمريكية، وطوف بالعراق وإيران والهند
مشتغلًا بالتجارة، وألقى عصا الترحال في التسعينيات في إستانبول. وفي عام ١٨٩٣م أصبح
مفوضًا عثمانيًّا لمعرض كولومبيا بشيكاجو، وقضى بالقاهرة السنوات العشر السابقة على
الانقلاب العثماني عام ١٩٠٨م، وعاد إلى بلاده ليتم انتخابه ممثلًا لبيروت في مجلس
المبعوثين العثماني. وفي إستانبول أصبح عضوًا بمجلس النواب ثم بمجلس الشيوخ،
فوزيرًا للتجارة والغابات، قبل أن يستقبل احتجاجًا على الانقلاب المشئوم الذي وضع
العثمانيين في جانب الألمان في الحرب العالمية الأولى، وفضل سليمان أن يقضي فترة
الحرب في سويسرا، ثم عاد إلى مصر، وأخيرًا ذهب إلى الولايات المتحدة
الأمريكية.
وبالإضافة إلى نشر المجلدين الأخيرين من دائرة المعارف قام جرجي زيدان بنشر
الترجمة العربية للإلياذة في مطبعة «الهلال» بالقاهرة، وكان زيدان شاميًّا مسيحيًّا
آخر له اهتمامات موسوعية، وأسس مجلة «الهلال» الأدبية الرصينة بالقاهرة وفي عام
١٨٩٩م نشر كتابه «تاريخ اليونان والرومان» بالعربية.
١٠٥
وتعرض المقدمة التي تقع في ٢٠٠ صفحة من مجلد «الإلياذة» ترجمة البستاني الذي يقع
في ١٢٦٠ صفحة، والجدل الأوروبي حول «المسألة الهوميرية»، وانتهى إلى تغليب الرأي
القائل بأن هوميروس كان شاعرًا فردًا، وقال إن الإلياذة عند الإغريق لها ما للشعر
الجاهلي من مكانة عند العرب، وذكر أنه بدأ الترجمة من الطبعتين الإنجليزية
والفرنسية قبل أن يقرر العودة إلى الأصل اليوناني.
شارك المسلمون المصريون إخوانهم الشوام في الاحتفال الذي أقيم بفندق شيبرد
بمناسبة الترجمة العربية للإلياذة وكان من بين الحضور من الشوام: زيدان، وفارس نمر،
ويعقوب صروف (محرر المقتطف)، وجبرائيل تقلا (محرر الأهرام)، والشاعر خليل مطران،
وإبراهيم اليازجي. أما المصريون المسلمون فكانوا: الشاعرين أحمد شوقي وحافظ
إبراهيم، ورئيسَي الوزراء — فيما بعد — سعد زغلول وعبد الخالق ثروت، واعتذر محمد
عبده عن عدم الحضور، ولكن تلميذه رشيد رضا — وهو مسلم شامي — ألقى كلمة احتفالية
طويلة.
التجريب المصري للكلاسيكيات اليونانية الرومانية
أدرك الطهطاوي ورفاقه ما تعلقه أوروبا على الكلاسيكيات من أهمية، وجاء هذا
الإدراك مستقلًّا عن الشوام، وكان باستطاعة المصريين المضي قدمًا في استكشافهم
للكلاسيكيات — ربما بإيقاع أبطأ — دون حاجة إلى وساطة الشوام. فبالإضافة إلى ما سبق
ذكره من أعمال مدرسة الطهطاوي، قام تلميذه عثمان جلال بترجمة عمل عن الإسكندر
الأكبر لراسين إلى العربية، نشره في كتاب من تحريره عام ١٨٩٣–١٨٩٤م.
١٠٦
وأورد علي مبارك معلومات عن العصر اليوناني-الروماني جاءت مبعثرة في الخطط
التوفيقية. فعند حديثه عن «أخميم» مثلًا، يعرف المدينة بأنها «بانوبولس» الإغريقية،
ويسير على نهج تقي الدين المقريزي فيما ذكره عن المعبد الذي كان قائمًا هناك في
العهد اليوناني الروماني حتى القرن الرابع عشر، وهنا يقحم أسطورة كادموس — الفينيقي
— الذي جلب الحضارة إلى اليونان عصر ما قبل التاريخ، ويذكر مبارك الزيارات التي قام
بها لمصر هوميروس، وهيرودوت، وأفلاطون، وليكورجوس، وقد جره ذلك إلى الخوض في مناقشة
حول سقراط وأفلاطون ومدرسته، وحول فيثاغورث وأناكساغورث.
١٠٧
وقدم مبارك أكثر معلوماته عن العصر اليوناني تفصيلًا في المجلد السابع من الخطط
التوفيقية الخاص بالإسكندرية، وأورد تاريخ مصر منذ الإسكندر حتى الفتح العربي في
عشر صفحات، تناول فيها حكم كل ملك بطلمي انتهاءً بكليوباترا، ثم الغزو الروماني،
وبواكير العصر المسيحي. وفي القسم الطبوغرافي الذي تلاه، اعتمد علي مبارك على
المقريزي، والمصادر الفرنسية، ومحمود الفلكي في معالجة الشكل القديم للمدينة،
والمواقع المميزة لها مثل: الميناء، والمنارة، والمسلات، وقبر الإسكندر، والمتحف، والمكتبات.
١٠٨
كذلك تعرف المصريون على التراث الكلاسيكي الغربي من خلال القانون الروماني الذي
جاء من خلال قوانين نابليون، والذي كان يدرس بمدرسة الحقوق المصرية الحكومية،
وبمدرسة الحقوق الفرنسية بالقاهرة، ومن خلال ممارسة العمل القانوني بالمحاكم
المختلطة والقضاء الأهلي؛ فالقاضي قاسم أمين — تلميذ محمد عبده الذي اشتهر عند مطلع
القرن العشرين بكتابيه عن تحرير المرأة — ضمن في دفاعه عن الإسلام في مواجهة
منتقديه الإشارة إلى الكلاسيكيات. وقد رفض قاسم أمين القصة القائلة بأن الخليفة عمر
بن الخطاب أمر بحرق مكتبة الإسكندرية،
١٠٩ تمامًا كما فعل الطهطاوي من قبل.
ومثلما فعل الأوروبيون منذ عصر النهضة، لعب الزعماء السياسيون المصريون بفكرة
الماضي اليوناني-الروماني كوسيلة لتأصيل تراثهم وسندًا للشرعية. فنجد صورة
فوتوغرافية لمحمد شريف باشا وخلفه تمثال نصفي من العصر الكلاسيكي، ولعله من ترتيب
المصور ذاته، ولكنه لا يخلو من دلالة (انظر الشكل
٣١).
وجرب المحامون الذين تزعموا الحزب الوطني استخدام الخطاب الكلاسيكي في مواجهة
الغرب، فقد قام مصطفى كامل — الذي أصدر «اللواء» عام ١٩٠٠م، وأسس الحزب الوطني عام
١٩٠٨م — بعقد مقارنة بين الرق في الإسلام، والرق عند الرومان. وألف محمد فريد —
خليفة مصطفى كامل — كتابًا بالعربية عن «تاريخ الرومانيين» استخدم فيه تاريخ الغرب
القديم سلاحًا ضد المحتل البريطاني، ومن اللافت للنظر أن محمد فريد قام بتغطية
تاريخ الجمهورية بالكتاب حتى نهاية الحرب اليونانية، مسقطًا بذلك عهد الجمهورية
المتأخرة وعهد الإمبراطورية (وهي الفترة التي وقعت فيها مصر تحت نير الحكم
الروماني) التي يراها كرومر غنية بالدروس. ودعا محمد فريد قراءه إلى الاقتداء بما
تميز به الرومان من «حب الوطن» والاتحاد ضد الغزاة الأجانب.
١١٠
وفي عرضه الساخر لكتاب محمد فريد «تاريخ الرومان» على صفحات جريدة «المقطم»
المؤيدة للإنجليز، ذكر فارس نمر أن الكتاب يوضح السبب الذي جعل رجال الحزب الوطني
يهاجمون في مصر المسيحيين الشوام باعتبارهم «دخلاء». ترى من هم المعتدون الأجانب
المعاصرون الذين يعنيهم محمد فريد؟ — كتب نمو متسائلًا — هل هم العائلة الخديوية؟
أم العثمانيون؟ أم الأمة العربية التي غزت بلاد الأقباط؟ أم أنه — ببساطة — كل
أجنبي اتخذ من مصر موطنًا له؟
وكما ذكرنا من قبل، شهد عام ١٩٠٢م حدثًا يسجل الاختلاف بين الأوروبيين والمصريين
من حيث علاقة كل منهم بالتراث اليوناني-الروماني. فقد افتتح الخديو عباس حلمي
الثاني المتحف المصري بحضور كرومر وماسبيرو. ولم يشغل بال كل من كرومر وماسبيرو تلك
الكتابات التي جاءت على واجهة المتحف؛ لأنهما لم يشعرا بغربة وهم يشاهدون الكتابة
اللاتينية التي درج الغرب على أن يستخدمها في العمائر ذات الدلالة التاريخية، وربما
استطاع عباس الثاني أن يقرأ اسمه مكتوبًا باللاتينية، فقد درس بمدرسة تريزيانم
بفيينا حيث لم يكن التلاميذ يتعلمون الكتابة والقراءة باللاتينية وحسب، بل كان
عليهم الحديث بها (انظر الشكل
٥).
١١١ ولكن نفرًا قليلًا من المثقفين المصريين قد عرفوها، فلم تكن تدرس بأي
مدرسة حكومية مصرية.
المؤتمر الدولي للآثار الكلاسيكية في القاهرة
وجاء انعقاد «المؤتمر الدولي الثاني للآثار الكلاسيكية» بالقاهرة عام ١٩٠٩م
اعترافًا ببروز مصر في الخطاب الكلاسيكي الغربي. واحتلت مصر مكانًا رمزيًّا شرفيًّا
بين اليونان وروما كبلد قديم، فقد عقد المؤتمر الأول في أثينا عام ١٩٠٥م، ثم عقد
المؤتمر الثالث بروما عام ١٩١١م. ولكن أعمال المؤتمر بالقاهرة عكست هامشية المصريين
بالنسبة للدراسات القديمة اليونانية-الرومانية عند الغرب.
وعند انعقاد المؤتمر الأول، قامت «المدارس الأثرية» الألمانية والنمساوية،
والبريطانية، والفرنسية، والأمريكية في أثينا بمعاونة الحكومة اليونانية على
استضافة المؤتمر، وتولى ماسبيرو رئاسة قسم عن آثار ما قبل التاريخ والآثار الشرقية.
وكان من علماء المصريات الآخرين بين الحضور بتري ولودفيج بوركارد. كما حضر المؤتمر
كل من بيير جوجيه وألان ويس، عالما الكلاسيكيات اللذان عملا طويلًا في مصر. ومثلت
بالمؤتمر مؤسَّسات علمية من ١٦ دولة أوروبية، والولايات المتحدة، وتركيا. وكان السفير
العثماني بأثينا وقرينته هما التركيان الوحيدان بين الحضور بينما لم يكن هناك
مصريٌّ واحد.
١١٢
تولَّى ماسبيرو رئاسة اللجنة التنفيذية للمؤتمر التي خططت لعقد المؤتمر الثاني
بالقاهرة. وكان معه باللجنة بيير لاكاو من مصلحة الآثار المصرية، ومديرو المعهد
الفرنسي للآثار الشرقية بالقاهرة (إميل شاسينا)، والمعهد الألماني للآثار الذي أنشئ
حديثًا بالقاهرة (بوركارد)، وكذلك إيفارستو بريشيا مدير المتحف اليوناني-الروماني،
وموظف بريطاني. وبذلك كانت اللجنة تتكون من ثلاثة فرنسيين، وبريطاني، وألماني،
وإيطالي. وقدمت بلدية الإسكندرية وجمعية الآثار بالإسكندرية مساعدتهما للجنة. وتضمن
جدول المؤتمر ثلاثة أيام لجلسات العمل ألقيت فيها الأوراق البحثية، وجولة
بالإسكندرية، وستة أيام بالقاهرة، ثم أربعة أيام في زيارة للأقصر، ووعدت الحكومة
المصرية بدعم المؤتمر بمبلغ يتراوح بين ألف وألفي جنيه مصري، وقدمت شركة كوك باخرة
لرحلة الأعضاء بالصعيد وتخفيضات بالفنادق.
١١٣
وشكل قسم الآثار السابقة على العصر الكلاسيكي نوعًا من الالتفات نحو الآثار
الفرعونية، وجاءت الآثار البيزنطية لتمثل ما بعد العصر الكلاسيكي، أما الأقسام
الأخرى فكانت: الآثار الكلاسيكية، وعلم البرديات، والنقوش، الآثار الدينية،
والنميات (العملة)، والجغرافيا. وقدمت الأوراق البحثية بالفرنسية والإنجليزية
والألمانية والإيطالية، ولم تكن اليونانية أو العربية من بين لغات المؤتمر.
وقد ترأس عباس حلمي الثاني لجنة التنظيم، وألقى خطاب الافتتاح بدار الأوبرا
الخديوية. وكان من بين أعضاء اللجنة رئيس النظار (الوزراء) بطرس غالي باشا، ورئيس
النظار الأسبق مصطفى فهمي باشا، والناظران سعد زغلول وإسماعيل سري، وأحمد زكي
(سكرتير مجلس النظار)، ويعقوب أرتين الذي تولَّى الترحيب بالضيوف بحكم موقعه كنائب
لرئيس «المجمع العلمي المصري». وكان من بين أعضاء لجنة التنظيم أيضًا المستشارون
الإنجليز الأربعة بالوزارات المصرية، وماكس هرتز ممثلًا للجنة حفظ الآثار ومتحف
الفن العربي، وبرنارد مورتز مدير الكتبخانة الخديوية.
١١٤
ولم يكن لدى مصر متخصصون من أبنائها في الكلاسيكيات، ولم يتقدم بورقة إلى المؤتمر
سوى مصري واحد هو عطية وهبي الذي قدم تفسيرًا وطنيًّا للفن القبطي، مؤكدًا على عمق
جذوره في الفن الفرعوني وليس البيزنطي،
١١٥ وكان من بين من سجلوا من حضور المؤتمر البالغ عددهم ٩٠٦ شخصًا، كان
هناك ٢١ مصريًّا فقط، كان من بينهم علي بهجت من متحف الفن العربي، وخمسة من
المتخصصين في المصريات منهم أحمد كمال ومحمد شعبان. وكان الأرمني البارز بوغوص
نوبار (نجل رئيس الوزراء الأسبق) حاضرًا، كما حضر ثلاثة من الأقباط على الأقل هم:
عطية وهبي، وكلوديوس لبيب، ومرقص حنا المحامي الوطني الذي أصبح وزيرًا فيما بعد.
واستضافت الجامعة المصرية الجديدة بعض الجلسات وترأس مديرها الأمير أحمد فؤاد
(الملك فيما بعد) حفل الختام.
١١٦ وبعد الحرب العالمية الأولى، سيعمل فؤاد على تلميع صورته باستضافة
العديد من المؤتمرات الدولية في مصر.
التراث اليوناني-الروماني عشية الحرب العالمية الأولى
بعد المؤتمر الدولي الثاني للآثار الكلاسيكية، نشر محمود فهمي — خريج المدرسة
التوفيقية للمعلمين، والمدرس بمدرسة القضاء الشرعي — كتابه «تاريخ اليونان». وسوف
يتولى تدريس تاريخ الشرق القديم بالجامعة المصرية من ١٩١٣م حتى وفاته عام ١٩١٦م. وكان
الغرض الذي دفع محمود فهمي لتأليف الكتاب هو تعريف القارئ العربي بتاريخ البلاد
التي بدأت فيها الحضارة الغربية والأدب الغربي. وقال: إننا أخذنا عنهم الكثير زمن
هارون الرشيد والمأمون، ولكننا لا نعرف إلا القليل عن تاريخهم. وقد اعتمد فهمي على
الكتب المدرسية التي ألفها مدير المدرسة اليونانية بالقاهرة ومدرسو التاريخ
بالمدرسة، وقد بدأ الكتاب بالجغرافيا، وتحدث عن هوميروس، ثم تتبع تاريخ اليونان حتى
هيرودوت «أبو التاريخ» وسقراط «سيد الفلسفة»، وختم الكتاب بتقسيم إمبراطورية
الإسكندر بين ورثته من قادة جيوشه.
١١٧
ومن بين المقررات الأخرى بالجامعة المصرية، قدم طه حسين للطلاب لمحات من تاريخ
العالم الكلاسيكي، وقام بيرس وايت بتدريس مسرحية شكسبير «أنطونيو وكليوباترا» في
إطار دراسة الأدب الإنجليزي، ومن المفترض أن تكون دروس الأدب الفرنسي قد أسهمت
أيضًا في إبراز الأدب الكلاسيكي.
١١٨
وكان أحمد لطفي السيد — محرر «الجريدة» وعضو مجلس الجامعة عام ١٩١٥م والذي تولَّى
إدارة الجامعة بعد تحولها لجامعة حكومية عام ١٩٢٥م، كان يرتاد — بدوره — التراث
اليوناني؛ ففي مقال نشره بالجريدة عام ١٩١٣م، دعا إلى الاقتداء باليونانيين الذين لم
ينسوا هويتهم القومية خلال القرون التي خضعوا فيها للحكم العثماني، وقادهم ذلك إلى
تحقيق الاستقلال الوطني. وكانت ملاحظته جديرة بالنظر في وقت كانت فيه مصر خاضعة
اسميًّا للسيادة العثمانية. فقد رأى معظم المصريين والعثمانيين في ثورة اليونان في
العشرينيات من القرن التاسع عشر ضربة للدولة العثمانية وللدولة الإسلامية.
١١٩ وفي العشرينيات من القرن العشرين ركز أحمد لطفي السيد جهوده على ترجمة
أرسطو.
وفي عام ١٩١٢م، نشر محمد لطفي جمعة ترجمة عربية لكتاب مكيافلِّي «الأمير» الذي
يتضمن الكثير من الإشارات الكلاسيكية. بعدما أوقف محمد علي ترجمته ببضعة عقود على
أساس أن أهل فلورنسا ليس لديهم ما يمكن أن يتعلمه منهم.
١٢٠
ومع وجود السكرتير الشرقي لدار المعتمد البريطاني رونالد ستورس في هذا الموقع عام
١٩١٤م بما عرف عنه من اهتمام بالكلاسيكيات، أصبح استخدام التراث اليوناني-الروماني
لإضفاء الشرعية على سيطرة الغرب على مصر منذ بونابرت إلى كرومر في أيدٍ أمينة. تُرى،
من كان يتخيل ما حدث في أعقاب الحرب العالمية الأولى، عندما قامت أوكسفورد وكامبردج
بإسقاط اليونانية كمتطلب أساسي للدراسة، أو يصدِّق أن اثنين من علماء الكلاسيكيات
مثل فورستر وروبرت جريفز يدعوان إلى إرخاء بريطانيا لقبضتها الإمبريالية فيما وراء
البحار؟ تُرى، من كان يتوقع أن يتجه طه حسين النجم الصاعد في سماء الأدب العربي، بعد
عودته من باريس عام ١٩١٩م، إلى إدخال الدراسات اليونانية-اللاتينية القديمة في
التعليم المصري، وأن الجامعة المصرية الحكومية عام ١٩٢٥م سوف تفتح قسمًا للدراسات الكلاسيكية؟
١٢١