الباب الخامس عشر

الانحراف في وظائف العقل

إن الصورة التي رسمها فرويد لعقل الإنسان والتي شرحناها بما سمحت به الظروف في الصفحات السابقة، هذه الصورة تمتاز عن الصورة التقليدية في علم النفس بأنها تُفسِّر السلوك العادي للإنسان، وتفسر فوق ذلك ما يبدو في سلوك الأطفال من الخصائص التي تميِّز هذه الفترة من حياة الإنسان، كما أنها تبين لنا كيف تحدث الهفوات في تأدية العقل لوظيفته وتفسر لنا حدوث أحلام النوم وأحلام اليقظة، تفسر جميع هذه بنظرية واحدة بسيطة نسبيًّا.

ففي كل هذه الحالات تجد أن اللاشعور هو العامل الأساسي في تكييف سلوك الإنسان، وقد شرحنا القواعد التي يعمل اللاشعور طبقًا لها، وهذه القواعد هي هي، لا تتغير سواء في الأحلام أو سقطات اللسان أو في غيرها. وهناك تفاعل دائم بين قوى العقل: النزعات من جهة، والأنا العليا من جهة أخرى، وبينهما الذات الشعورية «الأنا» التي تمثِّل العالم الواقع. وعلى قدر ما في هذا التفاعل من سلاسة ومرونة، على قدر ما يكون العقل سليمًا؛ أي إن العقل السليم هو الذي تستطيع أناه أن تُوفِّق توفيقًا سليمًا بين النزعات «الهي» وبين مطالب الأنا العليا ومطالب البيئة الخارجية. وتمتاز الحياة العقلية السليمة بالخلو من التوتر والشد والجذب القويَّين، وغير ذلك من مظاهر الصراع النفسي؛ فإذا وُجدت هذه المظاهر فالنتيجة هي أن يَنحرف العقل عن تأدية وظيفته انحرافًا بينًا، ويقال في هذه الحالة إن الشخص مصاب باضطراب عصبي أو «عصاب».

ولكن هل يخلو شخصٌ ما من مظاهر الصراع؟ الواقع أن لكل شخص نصيبًا من هذه المظاهر، غير أن الفرق بين السليم والعصابي١ فرق في الدرجة.

فمن كانت صبغة حياته الغالبة هي الهدوء والاستقرار والسلاسة، وكانت مظاهر الصراع طوارئ تزول ولا تترك أثرًا واضحًا أو دائمًا في حياة الشخص، فهو سليم.

وأما من كانت صبغة حياته الغالبة هي الصراع: يبدو في قلقه واضطرابه وما ينتابه من الوساوس والهواجس، يبدو في أفكار تقتحم عليه شعوره وتنتزعه من حياة المنطق والواقع، وفي أعمال يجد نفسه مقسورًا على إتيانها لا يستطيع منها فكاكًا، يجد نفسه ثائرة حائرة يتناوبها الشدُّ والجذب، وليس لها من الاستقرار والسلاسة إلا النزر اليسير، من كانت هذه صبغة حياته اعتُبر مصابًا بالاضطراب العصبي «عصابيًّا». والمصابون بهذا النوع من الانحراف العقلي يَعيشون بين سائر الناس ويعملون معهم ولكنهم يكونون في غالب الأمر تُعساء يشعرون تمام الشعور بما هم فيه، ويُحاولون بمختلف الطرق أن يملكوا زمام أنفسهم فلا يستطيعون، فمنهم من يشكو من مخاوف أو شكوك عنيفة من غير مبرِّر حقيقي ويعيش عبدًا لهواجسه، ومنهم من يصيبه الخجل والارتباك الشديدان في حضرة الآخرين حتى إنه لينزوي عن الناس أكثر الوقت ويبقى وحيدًا منفردًا، ومنهم من تسود عقله أفكار ثابتة تنغِّص عليه عيشه، ومنهم من يجد نفسه ملزمًا بالقيام بحركات أو أعمال لا مبرر لها، بل ومنهم من يصيبه عجز جثماني فتقف بعض أعضائه أو حواسه عن تأدية وظائفها بغير علة عضوية، إلى غير ذلك.

ويأتي بعد ذلك طائفة المصابين بأمراض «عقلية» «ذهانيين»٢ وهم أولئك الذين يبلغ من انحرافهم أنهم لا يستطيعون أن يُماشوا الناس في حياتهم، ويبلغ من شذوذهم أن يصبحوا في بعض الحالات خطرًا على الناس أو على أنفسهم، فيُحجَزون في مستشفيات الأمراض العقلية. وهم في الغالب لا يشعرون ولا يعترفون بما عندهم من شذوذ متنوع الأشكال، فمنهم من يبقى وحيدًا منفصلًا عما حوالَيه وقد تدلَّت رأسه بين كتفيه يعيش نهبًا لأفكاره السوداء كأنما هو موكَّل بتعذيب نفسه إلى آخر حياته، ومنهم من تأتي عليه فترات يهتاج فيها ويبدو عليه العنف والوحشية فيعتدي ويهشم ويضرب ويؤذي غيره ونفسه أبلغ الأذى، ويستمر على هذا الهياج ساعات بل أيامًا وهو يبذل جهدًا لا يقدر عليه السليم مهما حاول.
وهكذا نرى أن الشذوذ على درجات؛ منها ما يمكن احتماله بشيء من السهولة والبساطة، ومنها ما لا يُحتمل إلا بالجهد وشق النفس، ومنها ما يَخرج عن الطوق خروجًا تامًّا. والفرق بين السليم والشاذ هو إذن فرق في الدرجة لا في النوع، فالمجانين أو مُضطربو الأعصاب لا يكوِّنون جنسًا قائمًا بذاته يَختلف عن غيرهم من الناس، وإنما هم أناس قد بولغ في بعض نواحي الضعف عندهم المبالغة التي أخرجتهم عن نطاق العاديِّين من الناس، حتى لا تكاد تجد بينهم شبهًا ظاهرًا في بعض الأحيان، وبعبارة أخرى فإن الشخص العادي السليم العقل في نفسه جميع البذور التي إذا نمَتْ وتفرَّعت وامتدت أغصانها وجذورها وتشعَّبت أدت إلى الاضطراب أو الجنون. أليس الطفل في سلوكه وفي نزواته أشبه بمرضى الأعصاب منه بالأصحاء من الناس؟ أليس مريض الأعصاب شخصًا قد نما جسمه وجاوز سنه عهد الطفولة ولكنَّ نواحيَ من عقله لا تزال في طفولتها عن طريق التثبيت أو النكوص؟٣ أوَليس المرض العقلي أو الجنون نكوصًا إلى دور بدائي جدًّا في حياة الطفل قبل أن يدخل على نزعاته تهذيب أو تعديل من أي نوع؟ أليس الشخص العاقل في أحلامه «مجنونًا» تمر به الأفكار والصور ملتوية، ناشزة، مُضطربة؟ أليس هو طفلًا تأتيه المخاوف المتناهية في الشدة لأتفه الأسباب؟

لعل التحليل النفسي لم يَنجح إلا لأنه قد وحَّد ما بين الحياة العقلية للإنسان في مختلف أدوار نموه، وفي متنوع حالاته العقلية. فهو في ذلك قد عمل ما عمله الطب الحديث في نظرته إلى المرض باعتبار أنه نوع من الاضطراب في تأدية وظيفة طبيعية عادية، فمريض القلب لا يختلف عن السليم إلا أن قلبه يبالغ أو يقصِّر في تأدية وظيفته، والخلايا المصابة بالسرطان خلايا تبالغ في سرعة النمو والانقسام والتكاثر، والحمى تنشأ عن «تحمية» عامة في وظائف الجسم الحيوية، والحموضة مبالغة في إفراز أحماض المعدة … إلخ. وكل هذه إنما هي مظاهر لاختلالٍ عميق في توافق الكائن الحي مع بيئته في النواحي السلبية والإيجابية، وهي نتيجة محاولات يبذلها الجسم لكي يعيد هذا التوافق إلى حاله، أو لكي يبذل الجهد المطلوب في الظروف الشاذة التي فُرضت عليه، والانحراف العقلي مثل ذلك تمامًا؛ فهو ينشأ من فشل التوافق بين العقل والبيئة، وهذا الفشل يبدو في مظاهر «تعويضية» مختلفة للشذوذ العقلي. والمبدأ الأساسي الذي تنبني عليه كل هذه الأعراض هو الصراع اللاشعوري بين دوافع الغريزة «الهي» ومطالب البيئة ممثلة في الذات «الأنا» ثم الأنا العليا.

ونتائج الصراع متنوِّعة متفاوتة ولكنها لا تخرج عما يلي:
  • (١)

    الإعلاء: حيث يطرأ على الدوافع الجنسية تغيير يؤدي إلى أن تَفقد خاصة «الجنس»، وتحيد فتتجه إلى أهداف غير جنسية، وقد سبق أن شرحناه بالتفصيل.

  • (٢)
    رد الفعل:٤ حيث يحدث عكس الإعلاء من حيث اتجاه الطاقة؛ ففي الإعلاء تُشتق الطاقة من الدوافع الغريزية نفسها، وتندفع في اتجاه مغاير ولو أنه موازٍ بعض الشيء لاتجاهها الأصلي لكي تتحاشى القوة المضادة أو «القوى الكابتة»، فيكون سلوك الشخص معبِّرًا عن هذه النزعات الغريزية تعبيرًا غير مباشر. أما في رد الفعل فإن سلوك الشخص يكون تعبيرًا عن القوى الكابتة نفسها فيُصبح الشخص كارهًا للجنس «الآخر» أو مبتعدًا عن حب الظهور، وعلى العموم يصطبغ سلوكه بالمبالغة في كظم الدوافع الغريزية والابتعاد عن كل ما يُشتَّم منه ولو من بعيد رائحة هذه الدوافع.
  • (٣)
    تكوين الخُلق:٥ إن الكيفية التي يعالج بها الصراع تؤدي إلى صبغ الخُلق بصبغات دائمة مدى الحياة. فهناك صفات خُلقية كقوة العزيمة، أو اشتداد المطامع، أو الجبن، أو الاندفاع … إلخ تتكون كنتيجة لهذه المعالجة.
    وكثيرًا ما يكون التكوين الخُلقي مشتملًا على بعض الخصائص اللاشعورية كالإلزام٦ أو الحصار،٧ ويُطلق على هذه الحالات اسم «الخُلق العصابي»،٨ وهو الخُلق الذي تنقصه المرونة، وتقل فيه الواقعية، ويَبرز فيه الشذوذ. وحالات الانحراف التي من هذا النوع أصعب علاجًا من غيرها؛ لأن الشذوذ يُصبح داخلًا في بناء الخُلق ومكوِّنًا لجزء من الشخصية، بينما يسهل علاج غيرها نسبيًّا لأن الأعراض تكون منفصلة وغريبة عن الشخصية الأساسية وتبدو كأنما هي نتيجة إصابة سطحية.
  • (٤)

    الاضطراب العصابي: رأينا في الحالات السابقة كيف أن نتيجة الصراع كانت تعبيرًا في «اتجاه واحد» عن «إحدى» القوى المتصارعة. أما في الاضطراب العصابي فالأمر ليس كذلك لأنه يتضمَّن تعبيرًا ناقصًا عن كليهما أو «حلًّا وسطًا» للصراع لا يُشبع أيًّا من الطرفين. وعلاوة على ذلك فإن النزعات المكبوتة تحتفظ بطابعها الجنسي ولا تُغيِّره كما هو الحال في الإعلاء، وتعبِّر القوى المتصارعة عن نفسها تعبيرًا ملتويًا هو عبارة عن «الأعراض» العصابية. وبالاختصار فإن الأعراض هي تعبير مقنَّع عن الحياة الجنسية للطفولة، ويشمل الدوافع الغريزية والقوى الكابتة معًا.

وهناك نوعان أساسيان من الاضطراب العصابي: اضطراب هستيري واضطراب حصاري.٩

والأعراض قد تكون إيجابية كالألم أو الانقباض، أو سلبية كانعدام إحساسٍ ما أو تعطيل قوةٍ ما.

وقد تكون الأعراض جثمانية كالقيء المستمر أو فقد الإبصار، أو عقلية صرفة كالخوف الشديد أو الميل إلى تعذيب الغير.

وأخيرًا قد لا تكون الأعراض محدودة كل هذا التحديد، بل تكون مائعة من وجهة التشخيص كالشكوى من الشعور بالتعاسة الشديدة، أو عدم المقدرة على معالجة المشاكل العائلية أو مشاكل الزوجية، أو الفشل في الحياة الاجتماعية أو المهنية.

ويرجع الاضطراب إلى الظروف المصاحبة لتطور الغريزة في عهد الطفولة؛ إذ تُكسِب الشخص بناءً عقليًّا خاصًّا يجعله قابلًا للتأثر بصفة خاصة عندما تواجهه ظروف معينة، وقد تكون هذه الظروف تافهة في نظر «الشخص العادي»، وقد تكون مما يعتبره الشخص العادي ظروفًا صعبة، كالحزن أو الإفلاس أو التعرض للأخطار إلى آخر ذلك، وقد تكون متسعة بحيث تشمَل الحياة بأكملها، ومن هذا القبيل الحالات التي تنهار فيها الشخصية في أعمار معينة عندما يواجَه المرء بمشكلات الحياة. ففي أمثال هذه المواقف نجد أن الشخص المهيأ للاضطراب قد انطوى على نفسه هروبًا من مواجهة المشكل، فيَحدث عنده ما يُسمى بالقبض؛ إذ يتحلل من مواجهة الحياة ومعالجة مشاكلها بأن يخلق لنفسه جوًّا وهميًّا يخدعه عن حقيقة الأمر، ولا تلبث العناصر الخيالية أن تندمج مع عناصر لا شعورية قديمة من نوعها، فيتسبب عن ذلك نكوص إلى مستوى طفلي، وبذلك يتشعع الاضطراب في طبقاتٍ أعمق فأعمق من اللاشعور، وتكون النتيجة أن النزعات القديمة المكبوتة تتحرك ويزداد إلحاحها في سبيل الإشباع، وتكون الأعراض معبِّرة عن هذه النزعات.

وعلى ذلك فكل اضطراب عصبي عبارة عن نتيجة لصراع لا شعوري بين العناصر الأساسية في الشخصية.

وكل مُصاب بالاضطراب هو شخص «موثق» إلى فترة معينة من حياته الماضية تثيرها مواجهة مواقف تُعتبر من وجهة نظر اللاشعور تكرارًا لأحداث هذه الفترة الماضية، ويُمكن توضيح ذلك بمعادلة كالآتية:١٠

وعلى ذلك فأساس الاضطراب يوضع في الطفولة، ويبقى كامنًا، حتى يأتي من المواقف الانفعالية فيما بعد ما «يُطابق» الأساس، فيتصل به، فتتكون الأعراض التي تعبِّر عن هذا الحلف بين الماضي والحاضر نتيجة لهذا الاتصال.

وعلى ذلك فالأعراض العصابية نكوص إلى جنسية الطفل، مبني على تثبيت حدث في عهد الطفولة، والعلاقة بين النكوص والتثبيت علاقة وثيقة.

فمعنى التثبيت كما قلنا أن بعض مكوِّنات الغريزة لا تصل إلى نهاية المرحلة المعدَّة لها، بل تقف في وسط الطريق فيقال إنها «ثبتت»، بينما تستمر المكوِّنات الأخرى في سبيل تطورها الطبيعي، كالقافلة التي يتخلَّف بعض أفرادها، أو كالجيش الذي يتقدم مسافة بعيدة ويترك في طريقه بعض المتخلفين، وكلما كثُر عدد المتخلفين قل عدد الجيش المتقدم، وقد يصل من القلة إلى درجة تجعله عاجزًا عن التقدم عند أول صدمة «فينكص» على عقبَيه. فالتثبيت في عهد الطفولة إذن هو الذي يمهد الطريق للنكوص في عهد «النضج». والوصف الصحيح للحالة هو أن العقل يجد نفسه أمام مشكل يتعذر عليه مواجهته لأسباب لا شعورية، فينكص إلى عهد الطفولة في بعض نواحيه، وليس ذلك بمستغرب لأن العقل يقول بلسان الحال: «إني لا أزال طفلًا، فلا قِبَل لي بمجابهة الموقف.» وهو طبعًا لا يقول ذلك صراحةً وإنما تترجمه عنه الأعراض. فالأعراض كما قلنا ذات معنًى وذات وظيفة معينة، ويُمكن تلخيص هذه الوظيفة في أنها تحقِّق ما تعذَّر تحقيقه في عالم الواقع عن طريق الوهم أو الخداع. فكأن العقل إذ لا يجد الإشباع في حاضره ينتقل إلى ماضيه، ويبحث عن فترة كان يحصل فيها على إشباعٍ خيالي مما هو طبيعي في الطفولة فيُكرر هذا الإشباع الخيالي بصورة مقنعة، وقد يكون هذا الإشباع لا بأس به في نظر اللاشعور الذي يتجاهل الزمان ولكنه يُقابل بالذعر والتقزز من الشعور، ولعلنا ندرك ذلك إذا تصوَّرنا رجلًا وجد نفسه مرغمًا لا شعوريًّا على أن يَرضع من الثدي أو يجلس على «قصرية». وعلى ذلك فهذا الإشباع الخيالي لا يقوم بالنسبة للشعور مقام الإشباع الحقيقي، وهذا التفاوت بين قيمة الإشباع في نظر الشعور واللاشعور من أهم مظاهر الاضطراب العصابي.

والصراع الداخلي في حالة المصاب بالاضطراب العصابي يختلف تمامًا عن الصراع العادي بين نزعتين متضادتين في الشعور؛ لأن الصراع في الحالة الأخيرة هو بين نزعتين تتبعان نفس المستوى من العقل، بينما في الحالة المرَضية يكون الصراع بين مستويين مختلفين. فإحدى النزعتين شعورية، والأخرى لا شعورية، وهذا هو السبب في أنه لا يُمكن أن يُحلَّ الصراع بينهما؛ لأن النزعتين المتعارضتين لا تتقابلان وجهًا لوجه، ولا يمكن الوصول إلى قرار حاسم إلا إذا تقابلتا في نفس المستوى. ووظيفة العلاج التحليلي هي انتشال النزعة اللاشعورية إلى مستوى الشعور؛ وبذلك فقط يُمكن حل الصراع الذي يصبح في هذه الحالة بين متكافئين.

ويظن البعض خطأً أن العلاج التحليلي يوعز إلى المريض أن يطلق العنان لشهواته الجنسية وألا يقيد نفسه بالقيود الخُلقية المألوفة. وليس ذلك صحيحًا بالمرة لأن وظيفة التحليل أن يُعنى بالكبت الذي انصبَّ على مكونات الغريزة في الطفولة باعتبار أنه السبب الأساسي لِما قد ينشأ بعد البلوغ من متاعب جنسية أو غيرها. ومن الأخطاء الشائعة أن الامتناع الجنسي سبب من أسباب الاضطراب العصبي. كما أن من الأخطاء الشائعة اعتبار الحرية الجنسية علاجًا للحالات العصبية. وكلا الأمرين يصح أن يكون مظهرًا من مظاهر الحياة السليمة أو شبهها، كما يصح أن يكون مظهرًا من مظاهر الانحراف أو عرَضًا من الأعراض المرَضية. ويتوقف على ذلك مقدار تلونه بلون الصراع وأثره في السلوك العام للشخص، وعلى الصلة بينه وبين باقي نواحي شخصيته، وكلاهما في الواقع نتيجة لا سبب؛ هو نتيجة لما مرَّ بالفرد في طفولته، ولكنه ليس العلاج لأن العلاج ينصب على الماضي ويجعل الشخص أقدر على مواجهة الحاضر وما فيه من أزمات ومصاعب.

(١) أمثلة لبعض أنواع الاضطراب العصابي١١

(١-١) القلق العصابي١٢

ويظهر في حالة من القلق العام تنتاب المريض، يصحبها ارتعاش وينصبُّ العرق بغزارة من جسمه في هذه الأحوال، وتنتابه الأحلام المفزعة وينوء تحت شعور بالهم والتوجس. وعناصر الصراع في هذه الحالة تكون متقاربة بمعنى أن العناصر المكبوتة تكون قريبة من الشعور، فتكون الأنا مهدَّدة تهديدًا مباشرًا؛ وذلك هو سر الشعور بالقلق والوهم والتوجس.

(١-٢) النوراستينيا١٣

وتظهر في شعورٍ بالتعب والإنهاك العام، ينام المريض نومًا عميقًا ولكنه يَستيقظ متعبًا أكثر مما كان، وهنا تكون عناصر الصراع بعيدةً عن الشعور وعميقة لدرجة تجعل الشخص لا يشعر بمخاوف أو رغبات أو قلق، بل بالعكس كثيرًا ما يكون المريض هادئًا بليدًا لا يبدو عليه أثر الرغبة أو العاطفة المشبوبة.

ولكنه دائمًا متعب، وهو متعب لأنه يصرف طاقته في كبْت النزعات وإبقائها بعيدةً عن الشعور، فكأن هذه المعركة اللاشعورية الدائمة تُنهك قواه إنهاكًا دائمًا بغير أن يَشعر. وهو يَنجح في محاولته، ولكن القوى التي يَستخدمها لا تترك له بقية تكفي لشئون حياته العادية فيشعر بالتعب الجثماني والانحطاط العقلي الدائم.

وكثيرًا ما تبدو أمثال هذه الأعراض على بعض ذوي الخُلق الجامد الذين يَصرفون طاقتهم في كبح نزعاتهم ولا يَسمحون لأنفسهم بأن يتمتعوا بما يعتبره الآخرون مشروعًا؛ وأمثال هؤلاء قد يُعتبَرون في نظر الناس «طيبين» ولكن يَندر أن يكونوا سعداء.

(١-٣) الهستريا التحولية١٤

هنا تظهر أعراض الصراع على شكل نقص أو عجز جثماني محدَّد، كفقد الإبصار أو الإحساس، أو فقد القدرة على تحريك بعض الأعضاء، أو على شكل آلام تُصيب أجزاءً معينة من الجسم، أو قيء مستمر، إلى غير هذه من الأعراض الجسمية التي ليس لها ما يُبرِّرها من الوجهة الفسيولوجية. وتطلق على هذه الأنواع الهستريا التحولية؛ لأن العرَض الجسمي يُستبدل بالعرض النفسي؛ أي إن الصراع النفسي يتبلور ويتخذ مظهرًا جسميًّا يتعلق به، وهذا المظهر يؤدي في الغالب إلى نقص في التوتر النفسي، فكثيرًا ما تتحسن حالة المريض النفسية كثيرًا بعد ظهور العرَض الجسمي.

وهناك حالات لا يتحوَّل فيها الصراع إلى عرَض جثماني، بل يظهر على شكل عرض عقلي محدد، كفكرة ثابتة، أو انفعال عنيف، ومثل ذلك أنواع المخاوف.١٥

(١-٤) الحُصار١٦ والإِلزام١٧

وفيهما يجد المريض أن هناك أفكارًا تُطارده وتضطره إلى أنواع من السلوك الشاذ كأن يَغسل يديه باستمرار. ومن هذا القبيل سيدة كانت تمر على البيوت وتطلب من الناس أن يقفلوا صنابيرهم ولا يدعوها تسح الماء. وأخرى كانت لا تتناول من أحد شيئًا إلا إذا غُسل مرارًا وتكرارًا. وثالثة تقوم من نومها مرارًا لتتأكَّد من أن الأبواب مقفلة. والحُصار والإلزام متشابهان، وإنما يُطلق الحصار على الحالات التي يغلب فيها تسلط الفكرة، بينما يطلق الإلزام على الحالات التي يغلب فيها أن يجد المريض نفسه ملزمًا بالقيام بأعمال معينة.

(١-٥) ازدواج الشخصية١٨

وقد اشتهر أمره لِما يثيره من الغرابة إذ يكون للشخص الواحد جانبان أو شخصيتان منفصلتان تجهَل كلٌّ منهما كل شيء عن الأخرى. والواقع أن هذه حالة مُتطرِّفة مما يحدث لكل فرد من انقسامٍ في شخصيته يتجلى في أحلامه مثلًا، فلا شك أن الأحلام تُمثِّل وجهة نظر تختلف تمامًا عن وجهة نظر الشعور، ويمكن النظر إليها على أنها تعبير عن شخصية ثانية للإنسان.

(١-٦) الاضطراب العقلي (الجنون أو الذُّهان)١٩

وهي حالات متطرِّفة يصل فيها الشعور إلى أن يُصبح خاضعًا خضوعًا تامًّا للعوامل اللاشعورية، وتُصبح الذات عبارة عن بوق لهذه العوامل، وتَفقد كل مميزاتها باعتبارها إحدى القوى الفعالة في الشخصية.

(١-٧) أمثلة لبعض الحالات

ليس شيء أكثر تشويقًا من الدراسة التفصيلية لحالات الاضطراب العصبي ومُتابعة الأثر الذي يُحدثه العلاج التحليلي فيها. ولكن حجم مثل هذا الكتاب لا يُتيح لنا أن نفعل ذلك؛ لأن دراسة تفصيلية لحالة واحدة قد تَستغرق كل صفحاته أو أكثر. ولكن ذلك لا يَمنع أن نورد تلخيصًا لبعض حالات نموذجية. ولا يقلُّ تشويقًا عن ذلك تحليل بعض الأعمال الفنية الكبرى أو دراسة طرُز معينة من الشخصيات، وفيما يلي بعض الحالات مأخوذة عن فرويد من «مجموعة بحوث، المجلد ٣، ٤»:٢٠
  • (١)

    رجل في سنِّ السابعة والعشرين موهوب متعلِّم تعليمًا راقيًا، كان يشكو من أن حياته مملوءة بصراع مع والدته أثَّر تأثيرًا سيئًا في حياته الخاصة والعامة.

    وهذا الصراع يَرجع إلى عهد الطفولة؛ فقد كان إلى سن الرابعة وحيد أمه، ولم يكن يشاركه أحد في حبها وحنانها، وفي حوالي هذه السن وُلِد له أخ، وكانت نتيجة ذلك أن أصبح عنيدًا صعب القياد، وأصبح يستجلب سخط أمه دائمًا، بعد أن كان طفلًا هادئًا سهل القياد، وعندما أتى للعلاج كانت غيرته من أخيه قد اختفَت تمامًا، وكان يعامل أخاه هذا بمنتهى العناية، ولكنه كان يشكو من نزوات طارئة تتملَّكه أحيانًا، فيشعر بدافع فجائي لأن يُعذِّب حيوانًا أليفًا له، ومن تلك كلابه وطيوره التي يُعنى بها عادةً كل العناية. ويُفهم من هذا أن رغبته في إنزال الأذى بأخيه قد تحولت إلى هذه النَّزوات نحو حيواناته الأليفة، بينما أصبحت معاملته لأخيه معاملة مودة عادية.

    وقد ظهَر أنه في طفولته قد هاجم أخاه وهو في مهده، كما ظهَر أنه في حوالي ذلك الوقت حدث أن أمسك بجميع ما استطاع أن يَحصل عليه من أواني البيت وألقى بها خارجًا من النافذة، وهذا عمل رمزيٌّ يرمي إلى التخلص من هذا الضيف الثقيل وهو الأخ بإلقائه من النافذة؛ وبما أنه لا يستطيع٢١ أن يُلقي الطفل بنفسه فهو يُلقي الآنية بدلًا منه. وهو لم يَغفِر لأمه إشراكها لأخيه في محبته، وذلك سر معاملته لها في كِبَره.
  • (٢)

    حالة فتاة في سن السابعة عشرة «دورا» كانت دائمة الاتهام لوالدها بأن له علاقات مريبة بمدام «س»، وهي زوجة صديق له، وكانت تتَّهم «س» نفسه وهو زوج هذه السيدة وصديق والدها بأنه يحاول أن يكوِّن معها هي «دورا» علاقات من نفس النوع، وقد كانت تنتابها أعراض هستيرية، هي عبارة عن نوع من السعال والألم في الحلق مع فقدان الصوت يتردد عليها بين حين وآخر.

    وكانت العلاقة بين العائلتين علاقة مُتشابكة الأطراف، والغريب أن والدة دورا كانت امرأة هادئة لا يُهمها من أمر علاقة زوجها شيء، وكانت الابنة تَحتقر أمها وتعاملها معاملة شخص في مستوى أقل من مستواها، ولكنها كانت تقوم «بدلها» بدور الغيرة على الأب من علاقاته مع مدام «س»، وكانت دائمًا تحتجُّ على أبيها وتستاء من سلوكه، وتشك في كل علاقة له مع مدام «س»، وقد كان الأصل في علاقة الأب بمدام «س» أنها كانت تُمرِّضه عندما كان مريضًا بالسل الذي شُفي منه بعد ذلك بفضلها كما يقول، ولكن هذه الحالة جعلته غير قادر على أن يكون له اتصال جنسي حقيقي مع أيَّة امرأة. ويبدو من هذا الشرح كيف أن الفتاة كانت «مندمجة» في شخصية الأم رغم كراهتها الظاهرة لها، وكيف أنها كانت «تحب» والدها وتغار عليه من مدام «س». ولكن التحليل أظهر أكثر من ذلك؛ وهو أنها في الواقع كانت تحب مدام «س» وتغار عليها من والدها، وهذا هو تفسير الأعراض التي كانت تنتابها وهي «السعال»؛ حيث إن سر اهتمام مدام «س» بوالدها كان مرضه الصدري، فكأنها اصطنعت «لا شعوريًّا» مرضًا مشابهًا له لكي تفوز بعنايتها. كما أن شعورها نحو زوج مدام «س» كان شعورًا مزدوجًا من حب وكراهية؛ فقد كانت تُعنى في مبدأ الأمر بأبناء مدام «س» وتعلِّمهم، وكانت الأعراض تنتابها في فترات غياب «س»، وقد كانت مقابلتهم الأولى في أحد المصايف، ولكن «س» على ما يظهر حاول أن يُقبِّلها في يوم من الأيام فانتزعت نفسها منه وأصبحت تعمل على ألا تبقى معه وحيدة في مكانٍ ما، والغريب أنها لم تذكر هذه القصة لوالدها إلا بعد مضيِّ مدة، ولما سُئلت أثناء التحليل عن سبب ذلك ذكرت أنها كانت «تتوقع» أن يعيد الكرَّة.

    ومن الحالات الطريفة تلك التي يظهر فيها أن الشخص يُجاهد في حياته ويُكافح للوصول إلى غرض يَعتبره غاية حياته، حتى إذا نجَح ووصل إلى هذا الغرض انهارت قواه، أو أصبح في حالة لا يستطيع معها أن يقطف ثمرة متاعبه، وإليك أمثلة من هذه الحالات:

  • (٣)

    فالحالة الأولى: فتاة في مُقتبل العمر لم يستطع المنزل أن يُشبع رغباتها الجامحة لأنها لم تجد من يقدِّر جمالها وذكاءها، فهرَبت وظلَّت تحيا حياة شاردة حتى التقتْ بفنان موهوب استطاع أن يقدِّر ميزاتها، فعاشرته وعاشت سعيدة معه لا يَنقصها إلا أن يعترف المجتمع بعلاقتها به فتحصل على السعادة الكاملة. وبعد بضع سنين استطاع هذا الفنان أن يَحصل على موافقة عائلته على الزواج منها. وما أن وصل ذلك إلى سمعها حتى انهارت انهيارًا، فأهملت المنزل الذي كانت تصبو إلى أن تكون سيدته المُعتبَرة، وطافت بنفسها أوهامٌ غريبة، فكانت تتخيل أقارب زوجها يتآمرون عليها ويظلمونها، وظهرت عليها علامات جديدة للغيرة الشديدة، فحرَّمت على رجلها كل اتصال اجتماعي، وتدخَّلت في عمله وأربكته، وسرعان ما أصيبت بمرض عقلي غير قابل للشفاء.

  • (٤)

    والحالة الثانية: حالة مدرِّس في الجامعة كان أمله بعد سنوات طويلة أن يحلَّ محلَّ الأستاذ الذي تتلمذ على يديه وزامله سنين طويلة، وعندما تقاعد هذا الأستاذ المُسنُّ واتفق جميع زملائه على أن صاحبنا هذا هو الوحيد الذي يَصلُح لأن يأخذ مكانه، بدأ يتردَّد، بدأ يتحدث عن ضعف مواهبه وعدم أهليته لملء الفراغ الذي طُلِب منه أن يملأه، وما لبث أن أصيب بحالة من الوجوم والانقباض أوقفت كل نشاطه سنين طويلة.

ويظهر أن هذه الحالات راجعة إلى أنه كثيرًا ما يُسمح بظهور الرغبة وترددها في الشعور طالما كانت بعيدة التحقيق؛ إذ يكون خطرها في هذه الحالة ضئيلًا، فإذا تغيرت الأمور وأصبح الخيال حقيقةً تُوشك أن تصبح واقعةً ثارت الأنا ضدها وعملت على منع تحقيقها بمختلف الوسائل. ويظهر من التحليل أن الدافع الذي يؤدِّي إلى هذا الحال هو قوة مشتقة من «الأنا العليا» تحرِّم على الشخص اجتناء الثمرة التي جاهَد في سبيلها عقابًا له على خطيئة لا شعورية.

فالنزعات الغريزية التي تَرمي إلى الإشباع تروم تدمير كل عقبة في سبيل هذا الإشباع فتتمنى الموت لمن يَقفون في سبيلها، والقُوى المشتقة من الأنا العليا تُعارض في هذه النزعات المدمرة وتطلب إلى الأنا إيقافها، ولكن هذه لا ترى خطرًا منها ما دامت بعيدةً عن التحقيق، فإذا تحقَّقت فإنها تنزل على إرادة الأنا العليا وتُنزل العقوبة التي تؤدِّي إلى الحرمان من اجتناء ثمرة النجاح.

ولعلَّ من خير الأمثلة على ذلك مثال «ليدي مكبث»٢٢ من شخصيات شكسبير وهي التي دفعَت زوجها دفعًا لتحقيق النبوءة التي تنبَّأت له بها الساحرات، فقتَل الملِك «دنكان» وعملت بنفسها على إبعاد الشُّبهة عنه. فلما تمَّ النجاح ونالت أمنيتها، فأصبح زوجها ملِكًا وهي بالتالي ملكة، لم تستطع تحمُّل النجاح فانهارت وأصاب عقلها الخبل وما لبثت أن ماتت. ومن الغريب أن شكسبير قد أوضح الحالة بما لا يترك مجالًا للشك في فهمه لها، فعندما دخلتْ لترى الملك وهو مقتول، وتأخذ من دمه وتُلطِّخ به أيدي الحارسَين اللذَين دست لهما المخدِّر في الخمر حتى تقع عليهما تبعة القتل، خرجت وهي تقول: «إن الرجل العجوز كان يُشبه والدي وهو مُلقًى على سريره.» فكأن الجريمة من الوِجهة اللاشعورية جريمة ضد والدها، وذلك يُظهر لنا صدى «عقدة أوديب» التي تكونت في الصغر، والأنا العليا كما عرفنا من ثمرات هذه العقدة.
١  Neurotic.
٢  Psychotics.
٣  Regression.
٤  Reaction Formation.
٥  Character Formation.
٦  Compulsion.
٧  Obsession.
٨  Neurotic Character.
٩  Ernst Jones: Psycho Analysis, p. 47.
١٠  Freud: Introd. Lect. to Psycho-Analysis.
١١  Hadfield: Psychology and Morals.
١٢  Anxiety Neurosis.
١٣  Neurasthenia.
١٤  Conversion Hysteria.
١٥  Phobias.
١٦  Obsession.
١٧  Compulsion.
١٨  Dual Personality.
١٩  Psychosis.
٢٠  Freud: Collected Papers.
٢١  الاستطاعة هنا نفسية أكثر منها مادية.
٢٢  Lady Macbeth.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤