المدخل
ما الذي حدث للعالم الذي نعيش فيه والذي أصبح يغلي كالمِرجَل تتصاعد منه الأبخرة في كل مكان؟ إن أزيز الغليان يصل إلى آذاننا من جنوب شرقي آسيا ومن أمريكا اللاتينية ومن أوروبا، بينما ترى وميض النار «خلال الرماد» في أماكن أخرى، وهو يوشك أن يكون له ضرام! إن التحولات الهائلة التي شهدتها بداية التسعينيات قد غيرت من صورة العالم السياسية (والاقتصادية)، وبدأت تؤثر في الثقافة العالمية المعاصرة تأثيرات منوعة، تتسم بالتناقض والسرعة اللاهثة، وتتطلَّب من الدارس أن يضع يده على الأسس الثابتة أولًا لهذه الثقافة التي أصبحت تواجهنا بها أجهزة الإعلام العالمية ليل نهار، وهي أسس ذات جذور في ثقافة القرن العشرين الذي يوشك أن يطوي صفحته؛ ومن ثم فلا يمكن لدارس الأدب أو الفنون أو الفكرة — مطلقًا كان أم نسبيًّا — أن يلمَّ بما حدث وما يحدث (ناهيك باستيعابه) دون التعرف على هذه الجذور؛ ومن ثم أدرك أصول التيارات الثقافية التي تتحول يومًا بعد يوم.
وأول ما يلمحه المرء في هذه الساحة هو التناقض الشديد بين ما يبدو من «صغر العالم» أو انكماشه؛ بسبب التقدم الهائل في وسائل المواصلات والاتصالات، والتقدم المذهل في قدرة أجهزة الإعلام على ربط أجزائه بعضها بالبعض، وبين إحساس الفرد في العالم المتقدم بالعزلة أو الوحشية (الوحدة) لعدة أسباب نذكر منها أولًا عجزه عن التواصل الحميم مع غيره من البشر لافتقاره إلى الإيقاع الهادئ الذي يمكنه من ذلك، وثانيًا فقدانه معنى الحياة الذي كان يستمدُّه في الماضي من الارتباط بقوى الروح وعالم المعنى (الدين)، وثالثًا حيرته بين المذاهب التي من المحال أن توفر له اليقين؛ فهي من وضع الإنسان وكلٌّ منها نسبي موقوت مرتبط بالظروف التي ولدته، وقد يثبت خطؤه بعد أن كان يتمتَّع برسوخ يرتفع به إلى مصاف العقيدة، مثلما حدث للاشتراكية في أوروبا.
لقد أصبح الفرد في الأدب الحديث وخارجه — ذلك الفرد الذي كان مركز الكون في عصر النهضة، سيد الكائنات وخليفة الله في الأرض — كائنًا ضعيفًا محدود الطاقات، وهو قطعًا عاجز عن مجالدة القوى الاجتماعية والاقتصادية الجبارة التي يجدها جاثمة فوق صدره دون رحمة، فيحس بضعفه وبتأخره على سلم الموجودات، وقد يستسلم لهذا القدر والمصير وينجرف في التيار، أو يعارضه ويناوئه فينهزم ويسقط، بل وقد يكفر بالعلم والمدنية ويرمي نفسه في أحضان القوى المضادة، فيتحول هو نفسه إلى طاقة مدمرة في المجتمع.
والفرد الذي يفقد منابع ريِّه الروحاني يفتح الباب أمام الحيوان الجاثم في أعماقه، والذي هو وراء هذه الطاقة المدمرة التي تتخذ أولًا صورة الانحلال الفكري أي انعدام القيم، والثورة على كل ما من شأنه تقييد حريته الحيوانية؛ فالشاب الذي أوتي كل شيء في بعض الدول المنعمة — من المأكل والملبس والمأوى والعلاج إلى مظاهر الترف والبذخ — ما يزال يتساءل لماذا يعيش؛ فهو إما يبحث عن مصادر جديدة للذة (فيسلك طريق الشذوذ) وقد يفضل الغياب عن الوعي فيتعاطى المخدرات، أو ينتحر، أو — على النقيض من كل ذلك — ينضم لجماعة دينية تدين المجتمع لانحلاله وفساده، بينما يتصوَّر هو أنه مرسل من عند الله لإصلاح هذا الكون وهداية البشرية بالقوة! ومن ثم تكاثرت الجماعات الدينية التي تستند إلى إحدى تفسيرات آية أو آيات من أسفار العهد القديم (الكتاب المقدس)، وطفقت تقيم المذاهب التي ينجذب إليها الشباب، وصرنا نسمع من وقت لآخر أخبار تبادل إطلاق النار، وسقوط القتلى، أو الانتحار الجماعي لأفراد طائفةٍ من الطوائف.
وقد يهرب الفرد من كل ذلك — مدفوعًا بنفس القوى الفكرية التي وصفتها بالقوى الثقافية — إلى المال، ينشد فيه القوة وتحقيق الذات؛ ومن ثَم وجدنا تيار تقديس المال والانشغال المحموم بما يسمَّى بالنمو والتنمية الاقتصادية (وهما مفهومان مختلفان) سعيًا وراء معبود جديد هو مستوى المعيشة، ومحاولة رفعه بأي شكل من الأشكال، حتى ولو كان مرتفعًا إلى أقصى حد بمقاييسنا نحن في الدول النامية! وأيضًا هنا نجد من ينبذ المال تمامًا ليس زهدًا في الدنيا وطلبًا للآخرة، ولكن هربًا من ضغط الحياة التي يقاس فيها كل شيء بالمال؛ فهو يسعى نحو شيء لا يُشترَى ولا يباع، وهو يعرف أنه سوف يحقق ذاته إذا حققه؛ ألا وهو العلاقة مع الجنس الآخر التي تتخذ في بعض الأعمال الأدبية صور الرومانسية المتطرفة! والغريب أن هذه الفئة من الناس (ومعظمهم من النساء) لا يحقِّقنَ ذواتهن في الحياة الواقعية المادية، بل في خيالات المؤلفين من كبار الروائيين الذين اكتشفوا هذا المدخل إلى قلوب أبناء وبنات القرن العشرين! ولذلك تجد أن الانحلال الجنسي أيضًا تقابله رومانسية مفرطة واستغراق في خيالات الشعراء والأدباء، بل إن ظهور البلاء الجديد أي مرض نقص المناعة المكتسب (الإيدز) قد شجع الكثيرين على الهرب من ممارسة الجنس بالصورة التقليدية، واستحداث صور جديدة، فوجدنا من يكتب رواية كاملة تتكون من أحاديث تليفونية بين رجل وامرأة لم يرَ أحدهما الآخر، وهما يصلان إلى ذروة علاقتهما في آخر المحادثة، ثم يضعان السماعة ولا يلتقي أحدهما بالآخر أبدًا.
وإلى جانب الصور الجديدة من هذه الرومانسية المفرطة، وجدنا ازدهار لون جديد من المسرح لم يكن له وجودٌ يُذكر في الستينيات هو الكوميديا الموسيقية؛ إذ تسابق المخرجون والمؤلفون إلى تقديم التسرية إلى جمهور يعاني من عذاب الوحشة والعزلة، ويريد أن يحس بالانتماء ولو إلى جمهور صاخب يصفق ويردد مقاطع الأغاني مع المطربين والممثلين.
ولم تنجُ من هذه الضغوط الفئات الاجتماعية التي شعرت بأنها مطحونة مثل الأقليات (وخصوصًا الملونين في أمريكا) ثم انتقلت الشكوى وانتقل الضجيج إلى الحركة النسائية الجديدة التي اكتسبت أبعادًا أدبية وفلسفية. وغدت حركة أكاديمية غير مقصورة على المطالبة بتحرير المرأة، أو بالمساواة الكاملة مع الرجل وما إلى ذلك، ولكنها أصبحت تتضمَّن المطالبة بإعادة كتابة التاريخ من وجهة نظر المرأة، ووضع قانون نسائي، وما إلى ذلك من مطالب لم تجد استجابة سريعة من جميع الفئات — ومنها كثيرات من النساء — فشب صراع غير مسبوق حول «حقوق» المرأة، وما إلى ذلك من موضوعات ما تزال تشغل بال المهتمين بدراسة الأدب، باعتباره ظاهرة اجتماعية وقوة فاعلة في تشكيل صورة المجتمع الجديد.
والدارس لكل هذه الظواهر والتيارات، لا بد أن يضع يده على اتجاهات لا يمكن إغفالها في الفكر الإنساني الذي نعتبره الشريان الذي يغذي ثقافة الإنسان في كل مكان. وأول هذه الاتجاهات هو تقديس العلم الطبيعي الذي ولد في القرن التاسع عشر، وما زال يتشبَّث به كثيرون، وهو العلم الذي لا يعترف إلا بوجود المحسوسات، ويعتبر المجردات ضربًا من الفروض التي تُستخدم فحسب للمساعدة في التعامل مع عالم المادَّة. وفي هذا الصدد نرى التناقض الذي يفسر لنا البلبلة التي نلاحظها في كل مجال؛ ألا وهي تقديس الآلات الحاسبة التي اخترعها الإنسان لتساعده في تجارب العلوم الطبيعية، فإذا بها تستعبده وإذا هو ينسى أنها آلات حاسبة أو حواسيب (جمع حاسوب)؛ فهي قادرة على العد والإحصاء وإجراء العمليات التي يعلمها إياها الإنسان فقط، وما أصعب أن تقنع مستخدم الكمبيوتر أنه آلة!
والولع بما يسمَّى بالمنهج العلمي يؤدي هو الآخر إلى إخضاع الأعمال الأدبية لقوانين ونماذج شكلية، تبهر القارئ بدقتها وإحكام صنعتها؛ ومن ثم توحي بالدقة العلمية والبعد عن الخطأ. وهذا هو الدافع الذي جعل لفيفًا من كبار النقاد ينشئون ما أسموه المنهج البنائي أو البنيوي، والذي يرجع كل عمل فني إلى أشكال محددة سلفًا، وتتميز بعدم التفاوت من عمل إلى عمل، وكذلك فعل أنصار ما يسمَّى بالتفكيك، أي اعتبار أن العمل الفني عمل غير نهائي؛ فمعناه يتوقف على القارئ وعلى الواقع الذي ينتسب إليه، و«ألوان» اللغة التي يستخدمها وما إلى ذلك، مما أتاح فرصة كبيرة لإبداع النقاد أنفسهم، خصوصًا مع ازدهار تيار التفسير والتأويل الذي خرج بالعمل عن سياق الأدب المكتوب، إلى شبكات العلاقات الفلسفية مع غيره من ميادين المعرفة البشرية.
وقد استعنت في كتابة هذه المقالات بالمعلومات المستقاة من الكتب الجديدة، والصحف والدوريات المعاصرة، في محاولة لربط ما أسميته بجذور ثقافة القرن العشرين، بما آل إليه الحال في الواقع الذي تعكسه الكلمة المكتوبة، سواء في الكتاب أو الصحيفة. وربما ساعدتنا النظرية الشاملة أول الأمر على الغوص والتدقيق فيما بعد، ثم المقارنة بين ما يحدث في بلادنا وما يحدث خارجها.